أَيْ بِالْجَزَاءِ وَالْحِسَاب فِي الْآخِرَة ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْفَاتِحَة " . و " أَرَأَيْت " بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَة الثَّانِيَة ; إِذْ لَا يُقَال فِي أَرَأَيْت : رَيْت , وَلَكِنْ أَلِف الِاسْتِفْهَام سَهَّلَتْ الْهَمْزَة أَلِفًا ; ذَكَرَهُ الزَّجَّاج . وَفِي الْكَلَام حَذْف ; وَالْمَعْنَى : أَرَأَيْت الَّذِي يُكَذِّب بِالدِّينِ : أَمُصِيب هُوَ أَمْ مُخْطِئ . وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ نَزَلَ هَذَا فِيهِ ; فَذَكَرَ أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَتْ فِي الْعَاص بْن وَائِل السَّهْمِيّ ; وَقَالَهُ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْهُ قَالَ : نَزَلَتْ فِي رَجُل مِنْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة . وَقِيلَ فِي أَبِي جَهْل . الضَّحَّاك : فِي عَمْرو بْن عَائِذ . قَالَ اِبْن جُرَيْج : نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَان , وَكَانَ يَنْحَر فِي كُلّ أُسْبُوع جَزُورًا , فَطَلَبَ مِنْهُ يَتِيم شَيْئًا , فَقَرَعَهُ بِعَصَاهُ ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ السُّورَة .
" يَدُعّ " أَيْ يَدْفَع , كَمَا قَالَ : " يُدَعُّونَ إِلَى نَار جَهَنَّم دَعًّا " [ الطُّور : 13 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : " فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعّ الْيَتِيم " أَيْ يَدْفَعهُ عَنْ حَقّه . قَتَادَة : يَقْهَرهُ وَيَظْلِمهُ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " النِّسَاء " أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاء وَلَا الصِّغَار , وَيَقُولُونَ : إِنَّمَا يَحُوز الْمَال مَنْ يَطْعَن بِالسِّنَانِ , وَيَضْرِب بِالْحُسَامِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : [ مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَسْتَغْنِي فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة ] . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع .
أَيْ لَا يَأْمُر بِهِ , مِنْ أَجْل بُخْله وَتَكْذِيبه بِالْجَزَاءِ . وَهُوَ مِثْل قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْحَاقَّة : " وَلَا يَحُضّ عَلَى طَعَام الْمِسْكِين " [ الْحَاقَّة : 34 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَلَيْسَ الذَّمّ عَامًّا حَتَّى يَتَنَاوَل مَنْ تَرَكَهُ عَجْزًا , وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَبْخَلُونَ وَيَعْتَذِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ , وَيَقُولُونَ : " أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاء اللَّه أَطْعَمَهُ " [ يس : 47 ] , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِيهِمْ , وَتَوَجَّهَ الذَّمّ إِلَيْهِمْ . فَيَكُون مَعْنَى الْكَلَام : لَا يَفْعَلُونَهُ إِنْ قَدَرُوا , وَلَا يَحُثُّونَ عَلَيْهِ إِنْ عَسِرُوا .
أَيْ عَذَاب لَهُمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْر مَوْضِع .
فَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ هُوَ الْمُصَلِّي الَّذِي إِنْ صَلَّى لَمْ يَرْجُ لَهَا ثَوَابًا , وَإِنْ تَرَكَهَا لَمْ يَخْشَ عَلَيْهَا عِقَابًا . وَعَنْهُ أَيْضًا : الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ أَوْقَاتهَا . وَكَذَا رَوَى الْمُغِيرَة عَنْ إِبْرَاهِيم , قَالَ : سَاهُونَ بِإِضَاعَةِ الْوَقْت . وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَة : لَا يُصَلُّونَهَا لِمَوَاقِيتِهَا , وَلَا يُتِمُّونَ رُكُوعهَا وَلَا سُجُودهَا .
قُلْت : وَيَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى : " فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهمْ خَلْف أَضَاعُوا الصَّلَاة " [ مَرْيَم : 59 ] حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة " مَرْيَم " عَلَيْهَا السَّلَام . وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيم أَيْضًا : أَنَّهُ الَّذِي إِذَا سَجَدَ قَامَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا مُلْتَفِتًا . وَقَالَ قُطْرُب : هُوَ أَلَّا يَقْرَأ وَلَا يَذْكُر اللَّه . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه " الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتهمْ لَاهُونَ " . وَقَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله : " فَوَيْل لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتهمْ سَاهُونَ " - قَالَ - : [ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاة عَنْ وَقْتهَا , تَهَاوُنًا بِهَا ] . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : هُمْ الْمُنَافِقُونَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاة سِرًّا , يُصَلُّونَهَا عَلَانِيَة " وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى " [ النِّسَاء : 142 ] 000 الْآيَة . وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ قَوْله : " الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ " , وَقَالَ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَلَوْ قَالَ فِي صَلَاتهمْ سَاهُونَ لَكَانَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ عَطَاء : الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي قَالَ " عَنْ صَلَاتهمْ " وَلَمْ يَقُلْ فِي صَلَاتهمْ . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : فَإِنْ قُلْت : أَيّ فَرْق بَيْن قَوْله : " عَنْ صَلَاتهمْ " , وَبَيْن قَوْلك : فِي صَلَاتهمْ ؟ قُلْت : مَعْنَى " عَنْ " أَنَّهُمْ سَاهُونَ عَنْهَا سَهْو تَرْك لَهَا , وَقِلَّة اِلْتِفَات إِلَيْهَا , وَذَلِكَ فِعْل الْمُنَافِقِينَ , أَوْ الْفَسَقَة الشُّطَّار مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَعْنَى " فِي " أَنَّ السَّهْو يَعْتَرِيهِمْ فِيهَا , بِوَسْوَسَةِ شَيْطَان , أَوْ حَدِيث نَفْس , وَذَلِكَ لَا يَكَاد يَخْلُو مِنْهُ مُسْلِم . وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَع لَهُ السَّهْو فِي صَلَاته , فَضْلًا عَنْ غَيْره ; وَمِنْ ثَمَّ أَثْبَتَ الْفُقَهَاء بَاب سُجُود السَّهْو فِي كُتُبهمْ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لِأَنَّ السَّلَامَة مِنْ السَّهْو مُحَال , وَقَدْ سَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاته وَالصَّحَابَة : وَكُلّ مَنْ لَا يَسْهُو فِي صَلَاته , فَذَلِكَ رَجُل لَا يَتَدَبَّرهَا , وَلَا يَعْقِل قِرَاءَتهَا , وَإِنَّمَا هَمّه فِي أَعْدَادهَا ; وَهَذَا رَجُل يَأْكُل الْقُشُور , وَيَرْمِي اللُّبّ . وَمَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي صَلَاته إِلَّا لِفِكْرَتِهِ فِي أَعْظَم مِنْهَا ; اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاته مَنْ يُقْبِل عَلَى وَسْوَاس الشَّيْطَان إِذَا قَالَ لَهُ : اُذْكُرْ كَذَا , اُذْكُرْ كَذَا ; لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَذْكُر , حَتَّى يَضِلّ الرَّجُل أَنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى .
قُلْت : وَيَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى : " فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهمْ خَلْف أَضَاعُوا الصَّلَاة " [ مَرْيَم : 59 ] حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة " مَرْيَم " عَلَيْهَا السَّلَام . وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيم أَيْضًا : أَنَّهُ الَّذِي إِذَا سَجَدَ قَامَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا مُلْتَفِتًا . وَقَالَ قُطْرُب : هُوَ أَلَّا يَقْرَأ وَلَا يَذْكُر اللَّه . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه " الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتهمْ لَاهُونَ " . وَقَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله : " فَوَيْل لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتهمْ سَاهُونَ " - قَالَ - : [ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاة عَنْ وَقْتهَا , تَهَاوُنًا بِهَا ] . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : هُمْ الْمُنَافِقُونَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاة سِرًّا , يُصَلُّونَهَا عَلَانِيَة " وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى " [ النِّسَاء : 142 ] 000 الْآيَة . وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ قَوْله : " الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ " , وَقَالَ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَلَوْ قَالَ فِي صَلَاتهمْ سَاهُونَ لَكَانَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ عَطَاء : الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي قَالَ " عَنْ صَلَاتهمْ " وَلَمْ يَقُلْ فِي صَلَاتهمْ . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : فَإِنْ قُلْت : أَيّ فَرْق بَيْن قَوْله : " عَنْ صَلَاتهمْ " , وَبَيْن قَوْلك : فِي صَلَاتهمْ ؟ قُلْت : مَعْنَى " عَنْ " أَنَّهُمْ سَاهُونَ عَنْهَا سَهْو تَرْك لَهَا , وَقِلَّة اِلْتِفَات إِلَيْهَا , وَذَلِكَ فِعْل الْمُنَافِقِينَ , أَوْ الْفَسَقَة الشُّطَّار مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَعْنَى " فِي " أَنَّ السَّهْو يَعْتَرِيهِمْ فِيهَا , بِوَسْوَسَةِ شَيْطَان , أَوْ حَدِيث نَفْس , وَذَلِكَ لَا يَكَاد يَخْلُو مِنْهُ مُسْلِم . وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَع لَهُ السَّهْو فِي صَلَاته , فَضْلًا عَنْ غَيْره ; وَمِنْ ثَمَّ أَثْبَتَ الْفُقَهَاء بَاب سُجُود السَّهْو فِي كُتُبهمْ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لِأَنَّ السَّلَامَة مِنْ السَّهْو مُحَال , وَقَدْ سَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاته وَالصَّحَابَة : وَكُلّ مَنْ لَا يَسْهُو فِي صَلَاته , فَذَلِكَ رَجُل لَا يَتَدَبَّرهَا , وَلَا يَعْقِل قِرَاءَتهَا , وَإِنَّمَا هَمّه فِي أَعْدَادهَا ; وَهَذَا رَجُل يَأْكُل الْقُشُور , وَيَرْمِي اللُّبّ . وَمَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي صَلَاته إِلَّا لِفِكْرَتِهِ فِي أَعْظَم مِنْهَا ; اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاته مَنْ يُقْبِل عَلَى وَسْوَاس الشَّيْطَان إِذَا قَالَ لَهُ : اُذْكُرْ كَذَا , اُذْكُرْ كَذَا ; لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَذْكُر , حَتَّى يَضِلّ الرَّجُل أَنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى .
أَيْ يُرِي النَّاس أَنَّهُ يُصَلِّي طَاعَة وَهُوَ يُصَلِّي تَقِيَّة ; كَالْفَاسِقِ , يُرِي أَنَّهُ يُصَلِّي عِبَادَة وَهُوَ يُصَلِّي لِيُقَالَ : إِنَّهُ يُصَلِّي . وَحَقِيقَة الرِّيَاء طَلَب مَا فِي الدُّنْيَا بِالْعِبَادَةِ , وَأَصْله طَلَب الْمَنْزِلَة فِي قُلُوب النَّاس . وَأَوَّلهَا تَحْسِين السَّمْت ; وَهُوَ مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة , وَيُرِيد بِذَلِكَ الْجَاه وَالثَّنَاء . وَثَانِيهَا : الرِّيَاء بِالثِّيَابِ الْقِصَار وَالْخَشِنَة ; لِيَأْخُذ بِذَلِكَ هَيْئَة الزُّهْد فِي الدُّنْيَا . وَثَالِثهَا : الرِّيَاء بِالْقَوْلِ , بِإِظْهَارِ التَّسَخُّط عَلَى أَهْل الدُّنْيَا ; وَإِظْهَار الْوَعْظ وَالتَّأَسُّف عَلَى مَا يَفُوت مِنْ الْخَيْر وَالطَّاعَة . وَرَابِعهَا : الرِّيَاء بِإِظْهَارِ الصَّلَاة وَالصَّدَقَة , أَوْ بِتَحْسِينِ الصَّلَاة لِأَجْلِ رُؤْيَة النَّاس ; وَذَلِكَ يَطُول , وَهَذَا دَلِيله ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .
قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " النِّسَاء وَهُود وَآخِر الْكَهْف " الْقَوْل فِي الرِّيَاء وَأَحْكَامه وَحَقِيقَته بِمَا فِيهِ كِفَايَة . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَلَا يَكُون الرَّجُل مُرَائِيًا بِإِظْهَارِ الْعَمَل الصَّالِح إِنْ كَانَ فَرِيضَة ; فَمِنْ حَقّ الْفَرَائِض الْإِعْلَان بِهَا وَتَشْهِيرهَا , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : [ وَلَا غُمَّة فِي فَرَائِض اللَّه ] لِأَنَّهَا أَعْلَام الْإِسْلَام , وَشَعَائِر الدِّين , وَلِأَنَّ تَارِكهَا يَسْتَحِقّ الذَّمّ وَالْمَقْت ; فَوَجَبَ إِمَاطَة التُّهْمَة بِالْإِظْهَارِ , وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَحَقّه أَنْ يَخْفَى ; لِأَنَّهُ لَا يُلَام بِتَرْكِهِ وَلَا تُهْمَة فِيهِ , فَإِنْ أَظْهَرَهُ قَاصِدًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ كَانَ جَمِيلًا . وَإِنَّمَا الرِّيَاء أَنْ يَقْصِد بِالْإِظْهَارِ أَنْ تَرَاهُ الْأَعْيُن , فَتُثْنِي عَلَيْهِ بِالصَّلَاحِ . وَعَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي الْمَسْجِد قَدْ سَجَدَ سَجْدَة الشُّكْر فَأَطَالَهَا ; فَقَالَ : مَا أَحْسَن هَذَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتك . وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ تَوَسَّمَ فِيهِ الرِّيَاء وَالسُّمْعَة . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَة " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَات " [ الْبَقَرَة : 271 ] , وَفِي غَيْر مَوْضِع . وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ .
قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " النِّسَاء وَهُود وَآخِر الْكَهْف " الْقَوْل فِي الرِّيَاء وَأَحْكَامه وَحَقِيقَته بِمَا فِيهِ كِفَايَة . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَلَا يَكُون الرَّجُل مُرَائِيًا بِإِظْهَارِ الْعَمَل الصَّالِح إِنْ كَانَ فَرِيضَة ; فَمِنْ حَقّ الْفَرَائِض الْإِعْلَان بِهَا وَتَشْهِيرهَا , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : [ وَلَا غُمَّة فِي فَرَائِض اللَّه ] لِأَنَّهَا أَعْلَام الْإِسْلَام , وَشَعَائِر الدِّين , وَلِأَنَّ تَارِكهَا يَسْتَحِقّ الذَّمّ وَالْمَقْت ; فَوَجَبَ إِمَاطَة التُّهْمَة بِالْإِظْهَارِ , وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَحَقّه أَنْ يَخْفَى ; لِأَنَّهُ لَا يُلَام بِتَرْكِهِ وَلَا تُهْمَة فِيهِ , فَإِنْ أَظْهَرَهُ قَاصِدًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ كَانَ جَمِيلًا . وَإِنَّمَا الرِّيَاء أَنْ يَقْصِد بِالْإِظْهَارِ أَنْ تَرَاهُ الْأَعْيُن , فَتُثْنِي عَلَيْهِ بِالصَّلَاحِ . وَعَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي الْمَسْجِد قَدْ سَجَدَ سَجْدَة الشُّكْر فَأَطَالَهَا ; فَقَالَ : مَا أَحْسَن هَذَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتك . وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ تَوَسَّمَ فِيهِ الرِّيَاء وَالسُّمْعَة . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَة " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَات " [ الْبَقَرَة : 271 ] , وَفِي غَيْر مَوْضِع . وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ .
فِيهِ اِثْنَا عَشَرَ قَوْلًا :
الْأَوَّل : أَنَّهُ زَكَاة أَمْوَالهمْ . كَذَا رَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِثْل ذَلِكَ , وَقَالَهُ مَالِك . وَالْمُرَاد بِهِ الْمُنَافِق يَمْنَعهَا . وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْر بْن عَبْد الْعَزِيز عَنْ مَالِك قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " فَوَيْل لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتهمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون " قَالَ : إِنَّ الْمُنَافِق إِذَا صَلَّى صَلَّى رِيَاءً , وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَم عَلَيْهَا , " وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون " الزَّكَاة الَّتِي فَرَضَ اللَّه عَلَيْهِمْ . قَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : لَوْ خَفِيَتْ لَهُمْ الصَّلَاة كَمَا خَفِيَتْ لَهُمْ الزَّكَاة مَا صَلُّوا .
الْقَوْل الثَّانِي : أَنَّ " الْمَاعُون " الْمَال , بِلِسَانِ قُرَيْش ; قَالَهُ اِبْن شِهَاب وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب .
وَقَوْل ثَالِث : أَنَّهُ اِسْم جَامِع لِمَنَافِع الْبَيْت كَالْفَأْسِ وَالْقِدْر وَالنَّار وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . قَالَ الْأَعْشَى : بِأَجْوَد مِنْهُ بِمَاعُونِهِ إِذَا مَا سَمَاؤُهُمْ لَمْ تَغِم
الرَّابِع : ذَكَرَ الزَّجَّاج وَأَبُو عُبَيْد وَالْمُبَرِّد أَنَّ الْمَاعُون فِي الْجَاهِلِيَّة كُلّ مَا فِيهِ مَنْفَعَة , حَتَّى الْفَأْس وَالْقِدْر وَالدَّلْو وَالْقَدَّاحَة , وَكُلّ مَا فِيهِ مَنْفَعَة مِنْ قَلِيل وَكَثِير ; وَأَنْشَدُوا بَيْت الْأَعْشَى . قَالُوا : وَالْمَاعُون فِي الْإِسْلَام : الطَّاعَة وَالزَّكَاة ; وَأَنْشَدُوا قَوْل الرَّاعِي : أَخَلِيفَة الرَّحْمَن إِنَّا مَعْشَر حُنَفَاء نَسْجُد بُكْرَة وَأَصِيلَا عَرَب نَرَى لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالنَا حَقّ الزَّكَاة مُنَزَّلًا تَنْزِيلَا قَوْم عَلَى الْإِسْلَام لَمَّا يَمْنَعُوا مَاعُونهمْ وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا يَعْنِي الزَّكَاة .
الْخَامِس : أَنَّهُ الْعَارِيَّة ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا .
السَّادِس : أَنَّهُ الْمَعْرُوف كُلّه الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّاس فِيمَا بَيْنهمْ ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب وَالْكَلْبِيّ .
السَّابِع : أَنَّهُ الْمَاء وَالْكَلَأ
الثَّامِن : الْمَاء وَحْده . قَالَ الْفَرَّاء : سَمِعْت بَعْض الْعَرَب يَقُول : الْمَاعُون : الْمَاء ; وَأَنْشَدَنِي فِيهِ : يَمَجّ صَبِيره الْمَاعُون صَبًّا الصَّبِير : السَّحَاب .
التَّاسِع : أَنَّهُ مَنْع الْحَقّ ; قَالَهُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر .
الْعَاشِر : أَنَّهُ الْمُسْتَغَلّ مِنْ مَنَافِع الْأَمْوَال ; مَأْخُوذ مِنْ الْمَعْن وَهُوَ الْقَلِيل ; حَكَاهُ الطَّبَرِيّ وَابْن عَبَّاس . قَالَ قُطْرُب : أَصْل الْمَاعُون مِنْ الْقِلَّة . وَالْمَعْن : الشَّيْء الْقَلِيل ; تَقُول الْعَرَب : مَا لَهُ سَعْنَة وَلَا مَعْنَة ; أَيْ شَيْء قَلِيل . فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى الزَّكَاة وَالصَّدَقَة وَنَحْوهمَا مِنْ الْمَعْرُوف مَاعُونًا ; لِأَنَّهُ قَلِيل مِنْ كَثِير . وَمِنْ النَّاس مَنْ قَالَ : الْمَاعُون : أَصْله مَعُونَة , وَالْأَلِف عِوَض مِنْ الْهَاء ; حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ . اِبْن الْعَرَبِيّ : الْمَاعُون : مَفْعُول مِنْ أَعَانَ يُعِين , وَالْعَوْن : هُوَ الْإِمْدَاد بِالْقُوَّةِ وَالْآلَات وَالْأَسْبَاب الْمُيَسِّرَة لِلْأَمْرِ .
الْحَادِي عَشَرَ : أَنَّهُ الطَّاعَة وَالِانْقِيَاد . حَكَى الْأَخْفَش عَنْ أَعْرَابِيّ فَصِيح : لَوْ قَدْ نَزَلْنَا لَصَنَعْت بِنَاقَتِك صَنِيعًا تُعْطِيك الْمَاعُون ; أَيْ تَنْقَاد لَك وَتُعْطِيك . قَالَ الرَّاجِز : مَتَى تُصَادِفْهُنَّ فِي الْبَرِين يَخْضَعْنَ أَوْ يُعْطِينَ بِالْمَاعُونِ وَقِيلَ : هُوَ مَا لَا يَحِلّ مَنْعه , كَالْمَاءِ وَالْمِلْح وَالنَّار ; لِأَنَّ عَائِشَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهَا قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , مَا الشَّيْء الَّذِي لَا يَحِلّ مَنْعه ؟ قَالَ : [ الْمَاء وَالنَّار وَالْمِلْح ] قُلْت : يَا رَسُول اللَّه هَذَا الْمَاء , فَمَا بَال النَّار وَالْمِلْح ؟ فَقَالَ : [ يَا عَائِشَة مَنْ أَعْطَى نَارًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طُبِخَ بِتِلْكَ النَّار , وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَ بِهِ ذَلِكَ الْمِلْح , وَمَنْ سَقَى شَرْبَة مِنْ الْمَاء حَيْثُ يُوجَد الْمَاء , فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ سِتِّينَ نَسَمَة . وَمَنْ سَقَى شَرْبَة مِنْ الْمَاء حَيْثُ لَا يُوجَد , فَكَأَنَّمَا أَحْيَا نَفْسًا , وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا ] . ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره , وَخَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه . وَفِي إِسْنَاده لِين ; وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي عَشَرَ . الْمَاوَرْدِيّ : وَيَحْتَمِل أَنَّهُ الْمَعُونَة بِمَا خَفَّ فِعْله وَقَدْ ثَقَّلَهُ اللَّه . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَقِيلَ لِعِكْرِمَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس : مَنْ مَنَعَ شَيْئًا مِنْ الْمَتَاع كَانَ لَهُ الْوَيْل ؟ فَقَالَ : لَا , وَلَكِنْ مَنْ جَمَعَ ثَلَاثهنَّ فَلَهُ الْوَيْل ; يَعْنِي : تَرْك الصَّلَاة , وَالرِّيَاء , وَالْبُخْل بِالْمَاعُونِ .
قُلْت : كَوْنهَا فِي الْمُنَافِقِينَ أَشْبَه , وَبِهِمْ أَخْلَق ; لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة : تَرْك الصَّلَاة , وَالرِّيَاء , وَالْبُخْل بِالْمَالِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاس وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّه إِلَّا قَلِيلًا " [ النِّسَاء : 142 ] , وَقَالَ : " وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ " . [ التَّوْبَة : 54 ] . وَهَذِهِ أَحْوَالهمْ وَيَبْعُد أَنْ تُوجَد مِنْ مُسْلِم مُحَقِّق , وَإِنْ وُجِدَ بَعْضهَا فَيَلْحَقهُ جُزْء مِنْ التَّوْبِيخ , وَذَلِكَ فِي مَنْع الْمَاعُون إِذَا تَعَيَّنَ ; كَالصَّلَاةِ إِذَا تَرَكَهَا . وَاَللَّه أَعْلَم . إِنَّمَا يَكُون مَنْعًا قَبِيحًا فِي الْمُرُوءَة فِي غَيْر حَال الضَّرُورَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
الْأَوَّل : أَنَّهُ زَكَاة أَمْوَالهمْ . كَذَا رَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِثْل ذَلِكَ , وَقَالَهُ مَالِك . وَالْمُرَاد بِهِ الْمُنَافِق يَمْنَعهَا . وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْر بْن عَبْد الْعَزِيز عَنْ مَالِك قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " فَوَيْل لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتهمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون " قَالَ : إِنَّ الْمُنَافِق إِذَا صَلَّى صَلَّى رِيَاءً , وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَم عَلَيْهَا , " وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون " الزَّكَاة الَّتِي فَرَضَ اللَّه عَلَيْهِمْ . قَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : لَوْ خَفِيَتْ لَهُمْ الصَّلَاة كَمَا خَفِيَتْ لَهُمْ الزَّكَاة مَا صَلُّوا .
الْقَوْل الثَّانِي : أَنَّ " الْمَاعُون " الْمَال , بِلِسَانِ قُرَيْش ; قَالَهُ اِبْن شِهَاب وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب .
وَقَوْل ثَالِث : أَنَّهُ اِسْم جَامِع لِمَنَافِع الْبَيْت كَالْفَأْسِ وَالْقِدْر وَالنَّار وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . قَالَ الْأَعْشَى : بِأَجْوَد مِنْهُ بِمَاعُونِهِ إِذَا مَا سَمَاؤُهُمْ لَمْ تَغِم
الرَّابِع : ذَكَرَ الزَّجَّاج وَأَبُو عُبَيْد وَالْمُبَرِّد أَنَّ الْمَاعُون فِي الْجَاهِلِيَّة كُلّ مَا فِيهِ مَنْفَعَة , حَتَّى الْفَأْس وَالْقِدْر وَالدَّلْو وَالْقَدَّاحَة , وَكُلّ مَا فِيهِ مَنْفَعَة مِنْ قَلِيل وَكَثِير ; وَأَنْشَدُوا بَيْت الْأَعْشَى . قَالُوا : وَالْمَاعُون فِي الْإِسْلَام : الطَّاعَة وَالزَّكَاة ; وَأَنْشَدُوا قَوْل الرَّاعِي : أَخَلِيفَة الرَّحْمَن إِنَّا مَعْشَر حُنَفَاء نَسْجُد بُكْرَة وَأَصِيلَا عَرَب نَرَى لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالنَا حَقّ الزَّكَاة مُنَزَّلًا تَنْزِيلَا قَوْم عَلَى الْإِسْلَام لَمَّا يَمْنَعُوا مَاعُونهمْ وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا يَعْنِي الزَّكَاة .
الْخَامِس : أَنَّهُ الْعَارِيَّة ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا .
السَّادِس : أَنَّهُ الْمَعْرُوف كُلّه الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّاس فِيمَا بَيْنهمْ ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب وَالْكَلْبِيّ .
السَّابِع : أَنَّهُ الْمَاء وَالْكَلَأ
الثَّامِن : الْمَاء وَحْده . قَالَ الْفَرَّاء : سَمِعْت بَعْض الْعَرَب يَقُول : الْمَاعُون : الْمَاء ; وَأَنْشَدَنِي فِيهِ : يَمَجّ صَبِيره الْمَاعُون صَبًّا الصَّبِير : السَّحَاب .
التَّاسِع : أَنَّهُ مَنْع الْحَقّ ; قَالَهُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر .
الْعَاشِر : أَنَّهُ الْمُسْتَغَلّ مِنْ مَنَافِع الْأَمْوَال ; مَأْخُوذ مِنْ الْمَعْن وَهُوَ الْقَلِيل ; حَكَاهُ الطَّبَرِيّ وَابْن عَبَّاس . قَالَ قُطْرُب : أَصْل الْمَاعُون مِنْ الْقِلَّة . وَالْمَعْن : الشَّيْء الْقَلِيل ; تَقُول الْعَرَب : مَا لَهُ سَعْنَة وَلَا مَعْنَة ; أَيْ شَيْء قَلِيل . فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى الزَّكَاة وَالصَّدَقَة وَنَحْوهمَا مِنْ الْمَعْرُوف مَاعُونًا ; لِأَنَّهُ قَلِيل مِنْ كَثِير . وَمِنْ النَّاس مَنْ قَالَ : الْمَاعُون : أَصْله مَعُونَة , وَالْأَلِف عِوَض مِنْ الْهَاء ; حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ . اِبْن الْعَرَبِيّ : الْمَاعُون : مَفْعُول مِنْ أَعَانَ يُعِين , وَالْعَوْن : هُوَ الْإِمْدَاد بِالْقُوَّةِ وَالْآلَات وَالْأَسْبَاب الْمُيَسِّرَة لِلْأَمْرِ .
الْحَادِي عَشَرَ : أَنَّهُ الطَّاعَة وَالِانْقِيَاد . حَكَى الْأَخْفَش عَنْ أَعْرَابِيّ فَصِيح : لَوْ قَدْ نَزَلْنَا لَصَنَعْت بِنَاقَتِك صَنِيعًا تُعْطِيك الْمَاعُون ; أَيْ تَنْقَاد لَك وَتُعْطِيك . قَالَ الرَّاجِز : مَتَى تُصَادِفْهُنَّ فِي الْبَرِين يَخْضَعْنَ أَوْ يُعْطِينَ بِالْمَاعُونِ وَقِيلَ : هُوَ مَا لَا يَحِلّ مَنْعه , كَالْمَاءِ وَالْمِلْح وَالنَّار ; لِأَنَّ عَائِشَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهَا قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , مَا الشَّيْء الَّذِي لَا يَحِلّ مَنْعه ؟ قَالَ : [ الْمَاء وَالنَّار وَالْمِلْح ] قُلْت : يَا رَسُول اللَّه هَذَا الْمَاء , فَمَا بَال النَّار وَالْمِلْح ؟ فَقَالَ : [ يَا عَائِشَة مَنْ أَعْطَى نَارًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طُبِخَ بِتِلْكَ النَّار , وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَ بِهِ ذَلِكَ الْمِلْح , وَمَنْ سَقَى شَرْبَة مِنْ الْمَاء حَيْثُ يُوجَد الْمَاء , فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ سِتِّينَ نَسَمَة . وَمَنْ سَقَى شَرْبَة مِنْ الْمَاء حَيْثُ لَا يُوجَد , فَكَأَنَّمَا أَحْيَا نَفْسًا , وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا ] . ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره , وَخَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه . وَفِي إِسْنَاده لِين ; وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي عَشَرَ . الْمَاوَرْدِيّ : وَيَحْتَمِل أَنَّهُ الْمَعُونَة بِمَا خَفَّ فِعْله وَقَدْ ثَقَّلَهُ اللَّه . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَقِيلَ لِعِكْرِمَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس : مَنْ مَنَعَ شَيْئًا مِنْ الْمَتَاع كَانَ لَهُ الْوَيْل ؟ فَقَالَ : لَا , وَلَكِنْ مَنْ جَمَعَ ثَلَاثهنَّ فَلَهُ الْوَيْل ; يَعْنِي : تَرْك الصَّلَاة , وَالرِّيَاء , وَالْبُخْل بِالْمَاعُونِ .
قُلْت : كَوْنهَا فِي الْمُنَافِقِينَ أَشْبَه , وَبِهِمْ أَخْلَق ; لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة : تَرْك الصَّلَاة , وَالرِّيَاء , وَالْبُخْل بِالْمَالِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاس وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّه إِلَّا قَلِيلًا " [ النِّسَاء : 142 ] , وَقَالَ : " وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ " . [ التَّوْبَة : 54 ] . وَهَذِهِ أَحْوَالهمْ وَيَبْعُد أَنْ تُوجَد مِنْ مُسْلِم مُحَقِّق , وَإِنْ وُجِدَ بَعْضهَا فَيَلْحَقهُ جُزْء مِنْ التَّوْبِيخ , وَذَلِكَ فِي مَنْع الْمَاعُون إِذَا تَعَيَّنَ ; كَالصَّلَاةِ إِذَا تَرَكَهَا . وَاَللَّه أَعْلَم . إِنَّمَا يَكُون مَنْعًا قَبِيحًا فِي الْمُرُوءَة فِي غَيْر حَال الضَّرُورَة . وَاَللَّه أَعْلَم .