سُورَة الصَّفّ مَدَنِيَّة فِي قَوْل الْجَمِيع , فِيمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ . وَقِيلَ : إِنَّهَا مَكِّيَّة , ذَكَرَهُ النَّحَّاس عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَهِيَ أَرْبَع عَشْرَة آيَة .
أَيْ مَجِّدْ اللَّه وَنَزِّهْهُ عَنْ السُّوء . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : صَلَّى لِلَّهِ " مَا فِي السَّمَاوَات " مِمَّنْ خَلَقَ مِنْ الْمَلَائِكَة " وَالْأَرْض " مِنْ شَيْء فِيهِ رُوح أَوْ لَا رُوح فِيهِ . وَقِيلَ : هُوَ تَسْبِيح الدَّلَالَة . وَأَنْكَرَ الزَّجَّاج هَذَا وَقَالَ : لَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيح الدَّلَالَة وَظُهُور آثَار الصَّنْعَة لَكَانَتْ مَفْهُومَة , فَلِمَ قَالَ : " وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحهمْ " [ الْإِسْرَاء : 44 ] وَإِنَّمَا هُوَ تَسْبِيح مَقَال . وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَال يُسَبِّحْنَ " [ الْأَنْبِيَاء : 79 ] فَلَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيح دَلَالَة فَأَيّ تَخْصِيص لِدَاوُدَ ؟ !
وَقِيلَ الْمُرَاد بِهِ تَسْبِيح الدَّلَالَة , وَكُلّ مُحْدَث يَشْهَد عَلَى نَفْسه بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَالِق قَادِر . وَقَالَتْ طَائِفَة : هَذَا التَّسْبِيح حَقِيقَة , وَكُلّ شَيْء عَلَى الْعُمُوم يُسَبِّح تَسْبِيحًا لَا يَسْمَعهُ الْبَشَر وَلَا يَفْقَههُ , وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ أَنَّهُ أَثَر الصَّنْعَة وَالدَّلَالَة لَكَانَ أَمْرًا مَفْهُومًا , وَالْآيَة تَنْطِق بِأَنَّ هَذَا التَّسْبِيح لَا يُفْقَه . وَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " لَا تَفْقَهُونَ " الْكُفَّار الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ الِاعْتِبَار فَلَا يَفْقَهُونَ حِكْمَة اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي الْأَشْيَاء . وَقَالَتْ فِرْقَة : قَوْله " مِنْ شَيْء " عُمُوم , وَمَعْنَاهُ الْخُصُوص فِي كُلّ حَيّ وَنَامٍ , وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْجَمَادَات . وَمِنْ هَذَا قَوْل عِكْرِمَة : الشَّجَرَة تُسَبِّح وَالْأُسْطُوَان لَا يُسَبِّح . وَقَالَ يَزِيد الرَّقَاشِيّ لِلْحَسَنِ وَهُمَا فِي طَعَام وَقَدْ قُدِّمَ الْخِوَان : أَيُسَبِّحُ هَذَا الْخِوَان يَا أَبَا سَعِيد ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ يُسَبِّح مَرَّة ; يُرِيد أَنَّ الشَّجَرَة فِي زَمَن ثَمَرهَا وَاعْتِدَالهَا كَانَتْ تُسَبِّح , وَأَمَّا الْآن فَقَدْ صَارَ خِوَانًا مَدْهُونًا .
قُلْت : وَيُسْتَدَلّ لِهَذَا الْقَوْل مِنْ السُّنَّة بِمَا ثَبَتَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ : ( إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير أَمَّا أَحَدهمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الْآخَر فَكَانَ لَا يَسْتَبْرِئ مِنْ الْبَوْل ) قَالَ : فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْب فَشَقَّهُ اِثْنَيْنِ , ثُمَّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا ثُمَّ قَالَ : ( لَعَلَّهُ يُخَفِّف عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا ) . فَقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام . ( مَا لَمْ يَيْبَسَا ) إِشَارَة إِلَى أَنَّهُمَا مَا دَامَا رَطْبَيْنِ يُسَبِّحَانِ , فَإِذَا يَبِسَا صَارَا جَمَادًا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي مُسْنَد أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ : فَتُوضَع عَلَى أَحَدهمَا نِصْفًا وَعَلَى الْآخَر نِصْفًا وَقَالَ : ( لَعَلَّهُ أَنْ يُهَوِّن عَلَيْهِمَا الْعَذَاب مَا دَامَ فِيهِمَا مِنْ بُلُولَتهِمَا شَيْء ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا غَرْس الْأَشْجَار وَقِرَاءَة الْقُرْآن عَلَى الْقُبُور , وَإِذَا خُفِّفَ عَنْهُمْ بِالْأَشْجَارِ فَكَيْفَ بِقِرَاءَةِ الرَّجُل الْمُؤْمِن الْقُرْآن . وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَاب التَّذْكِرَة بَيَانًا شَافِيًا , وَأَنَّهُ يَصِل إِلَى الْمَيِّت ثَوَاب مَا يُهْدَى إِلَيْهِ . وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ . وَعَلَى التَّأْوِيل الثَّانِي لَا يَحْتَاج إِلَى ذَلِكَ ; فَإِنَّ كُلّ شَيْء مِنْ الْجَمَاد وَغَيْره يُسَبِّح .
قُلْت : وَيُسْتَدَلّ لِهَذَا التَّأْوِيل وَهَذَا الْقَوْل مِنْ الْكِتَاب بِقَوْلِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى : " وَاذْكُرْ عَبْدنَا دَاوُد ذَا الْأَيْد إِنَّهُ أَوَّاب . إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاق " [ ص : 17 - 18 ] , وَقَوْله : " وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط مِنْ خَشْيَة اللَّه " [ الْبَقَرَة : 74 ] - عَلَى قَوْل مُجَاهِد - , وَقَوْله : " وَتَخِرّ الْجِبَال هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا " [ مَرْيَم : 90 - 91 ] . وَذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك فِي ( دَقَائِقه ) أَخْبَرَنَا مِسْعَر عَنْ عَبْد اللَّه بْن وَاصِل عَنْ عَوْف بْن عَبْد اللَّه قَالَ قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ الْجَبَل يَقُول لِلْجَبَلِ : يَا فُلَان , هَلْ مَرَّ بِك الْيَوْم ذَاكِر لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ سُرَّ بِهِ . ثُمَّ قَرَأَ عَبْد اللَّه " وَقَالُوا اِتَّخَذَ الرَّحْمَن وَلَدًا " الْآيَة . قَالَ : أَفَتَرَاهُنَّ يَسْمَعْنَ الزُّور وَلَا يَسْمَعْنَ الْخَيْر . وَفِيهِ عَنْ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : مَا مِنْ صَبَاح وَلَا رَوَاح إِلَّا تُنَادِي بِقَاع الْأَرْض بَعْضهَا بَعْضًا . يَا جَارَاهُ ; هَلْ مَرَّ بِك الْيَوْم عَبْد فَصَلَّى لِلَّهِ أَوْ ذَكَرَ اللَّه عَلَيْك ؟ فَمِنْ قَائِلَة لَا , وَمِنْ قَائِلَة نَعَمْ , فَإِذَا قَالَتْ نَعَمْ رَأَتْ لَهَا بِذَلِكَ فَضْلًا عَلَيْهَا . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَسْمَع صَوْتَ الْمُؤَذِّن جِنٌّ وَلَا إِنْس وَلَا شَجَر وَلَا حَجَر وَلَا مَدَر وَلَا شَيْء إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة ) . رَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه , وَمَالِك فِي مُوَطَّئِهِ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَخَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَقَدْ كُنَّا نَسْمَع تَسْبِيح الطَّعَام وَهُوَ يُؤْكَل . فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ : كُنَّا نَأْكُل مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَام وَنَحْنُ نَسْمَع تَسْبِيحه . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن سَمُرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي لَأَعْرِف حَجَرًا بِمَكَّة كَانَ يُسَلِّم عَلَيَّ قَبْل أَنْ أُبْعَث إِنِّي لَأَعْرِفهُ الْآن ) . قِيلَ : إِنَّهُ الْحَجَر الْأَسْوَد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَالْأَخْبَار فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة ; وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى جُمْلَة مِنْهَا فِي اللُّمَع اللُّؤْلُئِيَّة فِي شَرْح الْعِشْرِينِيَّات النَّبَوِيَّة لِلْفَادَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّه , وَخَبَر الْجِذْع أَيْضًا مَشْهُور فِي هَذَا الْبَاب خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ فِي مَوْضِع مِنْ كِتَابه . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي جَمَاد وَاحِد جَازَ فِي جَمِيع الْجَمَادَات , وَلَا اِسْتِحَالَة فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ ; فَكُلّ شَيْء يُسَبِّح لِلْعُمُومِ . وَكَذَا قَالَ النَّخَعِيّ وَغَيْره : هُوَ عَامّ فِيمَا فِيهِ رُوح وَفِيمَا لَا رُوح فِيهِ حَتَّى صَرِير الْبَاب . وَاحْتَجُّوا بِالْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا . وَقِيلَ : تَسْبِيح الْجَمَادَات أَنَّهَا تَدْعُو النَّاظِر إِلَيْهَا إِلَى أَنْ يَقُول : سُبْحَان اللَّه ! لِعَدَمِ الْإِدْرَاك مِنْهَا . وَقَالَ الشَّاعِر : تُلْقَى بِتَسْبِيحَةٍ مِنْ حَيْثُ مَا اِنْصَرَفَتْ وَتَسْتَقِرّ حَشَا الرَّائِي بِتَرْعَادِ أَيْ يَقُول مَنْ رَآهَا : سُبْحَان خَالِقهَا . فَالصَّحِيح أَنَّ الْكُلّ يُسَبِّح لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّة عَلَى ذَلِكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّسْبِيح تَسْبِيح دَلَالَة فَأَيّ تَخْصِيص لِدَاوُدَ , وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَسْبِيح الْمَقَال بِخَلْقِ الْحَيَاة وَالْإِنْطَاق بِالتَّسْبِيحِ كَمَا ذَكَرْنَا . وَقَدْ نَصَّتْ السُّنَّة عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِر الْقُرْآن مِنْ تَسْبِيح كُلّ شَيْء فَالْقَوْل بِهِ أَوْلَى . وَاَللَّه أَعْلَم .
" الْعَزِيز " مَعْنَاهُ الْمَنِيع الَّذِي لَا يُنَال وَلَا يُغَالَب . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء ; دَلِيله : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْجِزهُ مِنْ شَيْء فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الْأَرْض " . [ فَاطِر : 44 ] . الْكِسَائِيّ : " الْعَزِيز " الْغَالِب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] وَفِي الْمَثَل : " مَنْ عَزَّ بَزَّ " أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ . وَقِيلَ : " الْعَزِيز " الَّذِي لَا مِثْل لَهُ ; بَيَانه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء " [ الشُّورَى : 11 ] .
" الْحَكِيم " مَعْنَاهُ الْحَاكِم , وَبَيْنهمَا مَزِيد الْمُبَالَغَة . وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُحْكِم وَيَجِيء الْحَكِيم عَلَى هَذَا مِنْ صِفَات الْفِعْل , صُرِفَ عَنْ مُفْعِل إِلَى فَعِيل , كَمَا صُرِفَ عَنْ مُسْمِع إِلَى سَمِيع وَمُؤْلِم إِلَى أَلِيم , قَالَهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ . وَقَالَ قَوْم : الْمَانِع مِنْ الْفَسَاد , وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَة اللِّجَام , لِأَنَّهَا تَمْنَع الْفَرَس مِنْ الْجَرْي وَالذَّهَاب فِي غَيْر قَصْد . قَالَ جَرِير : أَبَنِي حَنِيفَة أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا أَيْ اِمْنَعُوهُمْ مِنْ الْفَسَاد . وَقَالَ زُهَيْر : الْقَائِد الْخَيْل مَنْكُوبًا دَوَابِرهَا قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَات الْقِدّ وَالْأَبَقَا الْقِدّ : الْجِلْد . وَالْأَبَق : الْقِنَّب . وَالْعَرَب تَقُول : أُحْكِمَ الْيَتِيم عَنْ كَذَا وَكَذَا , يُرِيدُونَ مَنْعه . وَالسُّورَة الْمُحْكَمَة : الْمَمْنُوعَة مِنْ التَّغْيِير وَكُلّ التَّبْدِيل , وَأَنْ يَلْحَق بِهَا مَا يَخْرُج عَنْهَا , وَيُزَاد عَلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا , وَالْحِكْمَة مِنْ هَذَا , لِأَنَّهَا تَمْنَع صَاحِبهَا مِنْ الْجَهْل . وَيُقَال : أَحْكَمَ الشَّيْء إِذَا أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ الْخُرُوج عَمَّا يُرِيد . فَهُوَ مُحْكَم وَحَكِيم عَلَى التَّكْثِير .
أَيْ مَجِّدْ اللَّه وَنَزِّهْهُ عَنْ السُّوء . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : صَلَّى لِلَّهِ " مَا فِي السَّمَاوَات " مِمَّنْ خَلَقَ مِنْ الْمَلَائِكَة " وَالْأَرْض " مِنْ شَيْء فِيهِ رُوح أَوْ لَا رُوح فِيهِ . وَقِيلَ : هُوَ تَسْبِيح الدَّلَالَة . وَأَنْكَرَ الزَّجَّاج هَذَا وَقَالَ : لَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيح الدَّلَالَة وَظُهُور آثَار الصَّنْعَة لَكَانَتْ مَفْهُومَة , فَلِمَ قَالَ : " وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحهمْ " [ الْإِسْرَاء : 44 ] وَإِنَّمَا هُوَ تَسْبِيح مَقَال . وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَال يُسَبِّحْنَ " [ الْأَنْبِيَاء : 79 ] فَلَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيح دَلَالَة فَأَيّ تَخْصِيص لِدَاوُدَ ؟ !
وَقِيلَ الْمُرَاد بِهِ تَسْبِيح الدَّلَالَة , وَكُلّ مُحْدَث يَشْهَد عَلَى نَفْسه بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَالِق قَادِر . وَقَالَتْ طَائِفَة : هَذَا التَّسْبِيح حَقِيقَة , وَكُلّ شَيْء عَلَى الْعُمُوم يُسَبِّح تَسْبِيحًا لَا يَسْمَعهُ الْبَشَر وَلَا يَفْقَههُ , وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ أَنَّهُ أَثَر الصَّنْعَة وَالدَّلَالَة لَكَانَ أَمْرًا مَفْهُومًا , وَالْآيَة تَنْطِق بِأَنَّ هَذَا التَّسْبِيح لَا يُفْقَه . وَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " لَا تَفْقَهُونَ " الْكُفَّار الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ الِاعْتِبَار فَلَا يَفْقَهُونَ حِكْمَة اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي الْأَشْيَاء . وَقَالَتْ فِرْقَة : قَوْله " مِنْ شَيْء " عُمُوم , وَمَعْنَاهُ الْخُصُوص فِي كُلّ حَيّ وَنَامٍ , وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْجَمَادَات . وَمِنْ هَذَا قَوْل عِكْرِمَة : الشَّجَرَة تُسَبِّح وَالْأُسْطُوَان لَا يُسَبِّح . وَقَالَ يَزِيد الرَّقَاشِيّ لِلْحَسَنِ وَهُمَا فِي طَعَام وَقَدْ قُدِّمَ الْخِوَان : أَيُسَبِّحُ هَذَا الْخِوَان يَا أَبَا سَعِيد ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ يُسَبِّح مَرَّة ; يُرِيد أَنَّ الشَّجَرَة فِي زَمَن ثَمَرهَا وَاعْتِدَالهَا كَانَتْ تُسَبِّح , وَأَمَّا الْآن فَقَدْ صَارَ خِوَانًا مَدْهُونًا .
قُلْت : وَيُسْتَدَلّ لِهَذَا الْقَوْل مِنْ السُّنَّة بِمَا ثَبَتَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ : ( إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير أَمَّا أَحَدهمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الْآخَر فَكَانَ لَا يَسْتَبْرِئ مِنْ الْبَوْل ) قَالَ : فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْب فَشَقَّهُ اِثْنَيْنِ , ثُمَّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا ثُمَّ قَالَ : ( لَعَلَّهُ يُخَفِّف عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا ) . فَقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام . ( مَا لَمْ يَيْبَسَا ) إِشَارَة إِلَى أَنَّهُمَا مَا دَامَا رَطْبَيْنِ يُسَبِّحَانِ , فَإِذَا يَبِسَا صَارَا جَمَادًا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي مُسْنَد أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ : فَتُوضَع عَلَى أَحَدهمَا نِصْفًا وَعَلَى الْآخَر نِصْفًا وَقَالَ : ( لَعَلَّهُ أَنْ يُهَوِّن عَلَيْهِمَا الْعَذَاب مَا دَامَ فِيهِمَا مِنْ بُلُولَتهِمَا شَيْء ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا غَرْس الْأَشْجَار وَقِرَاءَة الْقُرْآن عَلَى الْقُبُور , وَإِذَا خُفِّفَ عَنْهُمْ بِالْأَشْجَارِ فَكَيْفَ بِقِرَاءَةِ الرَّجُل الْمُؤْمِن الْقُرْآن . وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَاب التَّذْكِرَة بَيَانًا شَافِيًا , وَأَنَّهُ يَصِل إِلَى الْمَيِّت ثَوَاب مَا يُهْدَى إِلَيْهِ . وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ . وَعَلَى التَّأْوِيل الثَّانِي لَا يَحْتَاج إِلَى ذَلِكَ ; فَإِنَّ كُلّ شَيْء مِنْ الْجَمَاد وَغَيْره يُسَبِّح .
قُلْت : وَيُسْتَدَلّ لِهَذَا التَّأْوِيل وَهَذَا الْقَوْل مِنْ الْكِتَاب بِقَوْلِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى : " وَاذْكُرْ عَبْدنَا دَاوُد ذَا الْأَيْد إِنَّهُ أَوَّاب . إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاق " [ ص : 17 - 18 ] , وَقَوْله : " وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط مِنْ خَشْيَة اللَّه " [ الْبَقَرَة : 74 ] - عَلَى قَوْل مُجَاهِد - , وَقَوْله : " وَتَخِرّ الْجِبَال هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا " [ مَرْيَم : 90 - 91 ] . وَذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك فِي ( دَقَائِقه ) أَخْبَرَنَا مِسْعَر عَنْ عَبْد اللَّه بْن وَاصِل عَنْ عَوْف بْن عَبْد اللَّه قَالَ قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ الْجَبَل يَقُول لِلْجَبَلِ : يَا فُلَان , هَلْ مَرَّ بِك الْيَوْم ذَاكِر لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ سُرَّ بِهِ . ثُمَّ قَرَأَ عَبْد اللَّه " وَقَالُوا اِتَّخَذَ الرَّحْمَن وَلَدًا " الْآيَة . قَالَ : أَفَتَرَاهُنَّ يَسْمَعْنَ الزُّور وَلَا يَسْمَعْنَ الْخَيْر . وَفِيهِ عَنْ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : مَا مِنْ صَبَاح وَلَا رَوَاح إِلَّا تُنَادِي بِقَاع الْأَرْض بَعْضهَا بَعْضًا . يَا جَارَاهُ ; هَلْ مَرَّ بِك الْيَوْم عَبْد فَصَلَّى لِلَّهِ أَوْ ذَكَرَ اللَّه عَلَيْك ؟ فَمِنْ قَائِلَة لَا , وَمِنْ قَائِلَة نَعَمْ , فَإِذَا قَالَتْ نَعَمْ رَأَتْ لَهَا بِذَلِكَ فَضْلًا عَلَيْهَا . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَسْمَع صَوْتَ الْمُؤَذِّن جِنٌّ وَلَا إِنْس وَلَا شَجَر وَلَا حَجَر وَلَا مَدَر وَلَا شَيْء إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة ) . رَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه , وَمَالِك فِي مُوَطَّئِهِ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَخَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَقَدْ كُنَّا نَسْمَع تَسْبِيح الطَّعَام وَهُوَ يُؤْكَل . فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ : كُنَّا نَأْكُل مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَام وَنَحْنُ نَسْمَع تَسْبِيحه . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن سَمُرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي لَأَعْرِف حَجَرًا بِمَكَّة كَانَ يُسَلِّم عَلَيَّ قَبْل أَنْ أُبْعَث إِنِّي لَأَعْرِفهُ الْآن ) . قِيلَ : إِنَّهُ الْحَجَر الْأَسْوَد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَالْأَخْبَار فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة ; وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى جُمْلَة مِنْهَا فِي اللُّمَع اللُّؤْلُئِيَّة فِي شَرْح الْعِشْرِينِيَّات النَّبَوِيَّة لِلْفَادَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّه , وَخَبَر الْجِذْع أَيْضًا مَشْهُور فِي هَذَا الْبَاب خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ فِي مَوْضِع مِنْ كِتَابه . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي جَمَاد وَاحِد جَازَ فِي جَمِيع الْجَمَادَات , وَلَا اِسْتِحَالَة فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ ; فَكُلّ شَيْء يُسَبِّح لِلْعُمُومِ . وَكَذَا قَالَ النَّخَعِيّ وَغَيْره : هُوَ عَامّ فِيمَا فِيهِ رُوح وَفِيمَا لَا رُوح فِيهِ حَتَّى صَرِير الْبَاب . وَاحْتَجُّوا بِالْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا . وَقِيلَ : تَسْبِيح الْجَمَادَات أَنَّهَا تَدْعُو النَّاظِر إِلَيْهَا إِلَى أَنْ يَقُول : سُبْحَان اللَّه ! لِعَدَمِ الْإِدْرَاك مِنْهَا . وَقَالَ الشَّاعِر : تُلْقَى بِتَسْبِيحَةٍ مِنْ حَيْثُ مَا اِنْصَرَفَتْ وَتَسْتَقِرّ حَشَا الرَّائِي بِتَرْعَادِ أَيْ يَقُول مَنْ رَآهَا : سُبْحَان خَالِقهَا . فَالصَّحِيح أَنَّ الْكُلّ يُسَبِّح لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّة عَلَى ذَلِكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّسْبِيح تَسْبِيح دَلَالَة فَأَيّ تَخْصِيص لِدَاوُدَ , وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَسْبِيح الْمَقَال بِخَلْقِ الْحَيَاة وَالْإِنْطَاق بِالتَّسْبِيحِ كَمَا ذَكَرْنَا . وَقَدْ نَصَّتْ السُّنَّة عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِر الْقُرْآن مِنْ تَسْبِيح كُلّ شَيْء فَالْقَوْل بِهِ أَوْلَى . وَاَللَّه أَعْلَم .
" الْعَزِيز " مَعْنَاهُ الْمَنِيع الَّذِي لَا يُنَال وَلَا يُغَالَب . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء ; دَلِيله : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْجِزهُ مِنْ شَيْء فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الْأَرْض " . [ فَاطِر : 44 ] . الْكِسَائِيّ : " الْعَزِيز " الْغَالِب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] وَفِي الْمَثَل : " مَنْ عَزَّ بَزَّ " أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ . وَقِيلَ : " الْعَزِيز " الَّذِي لَا مِثْل لَهُ ; بَيَانه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء " [ الشُّورَى : 11 ] .
" الْحَكِيم " مَعْنَاهُ الْحَاكِم , وَبَيْنهمَا مَزِيد الْمُبَالَغَة . وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُحْكِم وَيَجِيء الْحَكِيم عَلَى هَذَا مِنْ صِفَات الْفِعْل , صُرِفَ عَنْ مُفْعِل إِلَى فَعِيل , كَمَا صُرِفَ عَنْ مُسْمِع إِلَى سَمِيع وَمُؤْلِم إِلَى أَلِيم , قَالَهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ . وَقَالَ قَوْم : الْمَانِع مِنْ الْفَسَاد , وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَة اللِّجَام , لِأَنَّهَا تَمْنَع الْفَرَس مِنْ الْجَرْي وَالذَّهَاب فِي غَيْر قَصْد . قَالَ جَرِير : أَبَنِي حَنِيفَة أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا أَيْ اِمْنَعُوهُمْ مِنْ الْفَسَاد . وَقَالَ زُهَيْر : الْقَائِد الْخَيْل مَنْكُوبًا دَوَابِرهَا قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَات الْقِدّ وَالْأَبَقَا الْقِدّ : الْجِلْد . وَالْأَبَق : الْقِنَّب . وَالْعَرَب تَقُول : أُحْكِمَ الْيَتِيم عَنْ كَذَا وَكَذَا , يُرِيدُونَ مَنْعه . وَالسُّورَة الْمُحْكَمَة : الْمَمْنُوعَة مِنْ التَّغْيِير وَكُلّ التَّبْدِيل , وَأَنْ يَلْحَق بِهَا مَا يَخْرُج عَنْهَا , وَيُزَاد عَلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا , وَالْحِكْمَة مِنْ هَذَا , لِأَنَّهَا تَمْنَع صَاحِبهَا مِنْ الْجَهْل . وَيُقَال : أَحْكَمَ الشَّيْء إِذَا أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ الْخُرُوج عَمَّا يُرِيد . فَهُوَ مُحْكَم وَحَكِيم عَلَى التَّكْثِير .
رَوَى الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن كَثِير عَنْ الْأَوْزَاعِيّ عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَلَام قَالَ : قَعَدْنَا نَفَر مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَذَاكَرْنَا فَقُلْنَا : لَوْ نَعْلَم أَيّ الْأَعْمَال أَحَبّ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَعَمِلْنَاهُ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " حَتَّى خَتَمَهَا . قَالَ عَبْد اللَّه : فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَتَمَهَا . قَالَ أَبُو سَلَمَة : فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا اِبْن سَلَام . قَالَ يَحْيَى : فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا أَبُو سَلَمَة وَقَرَأَهَا عَلَيْنَا يَحْيَى وَقَرَأَهَا عَلَيْنَا الْأَوْزَاعِيّ وَقَرَأَهَا عَلَيْنَا مُحَمَّد . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة : لَوْ عَلِمْنَا أَحَبّ الْأَعْمَال إِلَى اللَّه لَعَمِلْنَاهُ ; فَلَمَّا نَزَلَ الْجِهَاد كَرِهُوهُ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : قَالَ الْمُؤْمِنُونَ يَا رَسُول اللَّه , لَوْ نَعْلَم أَحَبّ الْأَعْمَال إِلَى اللَّه لَسَارَعْنَا إِلَيْهَا ; فَنَزَلَتْ " هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم " [ الصَّفّ : 10 ] فَمَكَثُوا زَمَانًا يَقُولُونَ : لَوْ نَعْلَم مَا هِيَ لَاشْتَرَيْنَاهَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُس وَالْأَهْلِينَ ; فَدَلَّهُمْ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ : " تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُوله وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّه بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسكُمْ " [ الصَّفّ : 11 ] الْآيَة . فَابْتُلُوا يَوْم أُحُد فَفَرُّوا ; فَنَزَلَتْ تُعَيِّرهُمْ بِتَرْكِ الْوَفَاء . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : لَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوَابِ شُهَدَاء بَدْر قَالَتْ الصَّحَابَة : اللَّهُمَّ اِشْهَدْ ! لَئِنْ لَقِينَا قِتَالًا لَنُفْرِغَنَّ فِيهِ وُسْعنَا ; فَفَرُّوا يَوْم أُحُد فَعَيَّرَهُمْ اللَّه بِذَلِكَ . وَقَالَ مِهْرَان وَالضَّحَّاك : نَزَلَتْ فِي قَوْم كَانُوا يَقُولُونَ : نَحْنُ جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا وَلَمْ يَفْعَلُوا . وَقَالَ وَاعَجَبًا : كَانَ رَجُل قَدْ آذَى الْمُسْلِمِينَ يَوْم بَدْر وَأَنْكَاهُمْ فَقَتَلْته . فَقَالَ رَجُل يَا نَبِيّ اللَّه , إِنِّي قَتَلْت فُلَانًا , فَفَرِحَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ . فَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف : يَا صُهَيْب , أَمَا أَخْبَرْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّك قَتَلْت فُلَانًا ! فَإِنَّ فُلَانًا اِنْتَحَلَ قَتْله ; فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : ( أَكَذَلِكَ يَا أَبَا يَحْيَى ) ؟ قَالَ نَعَمْ , وَاَللَّه يَا رَسُول اللَّه ; فَنَزَلَتْ الْآيَة فِي الْمُنْتَحِل . وَقَالَ اِبْن زَيْد : نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ ; كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه : إِنْ خَرَجْتُمْ وَقَاتَلْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ وَقَاتَلْنَا ; فَلَمَّا خَرَجُوا نَكَصُوا عَنْهُمْ وَتَخَلَّفُوا .
هَذِهِ الْآيَة تُوجِب عَلَى كُلّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسه عَمَلًا فِيهِ طَاعَة أَنْ يَفِيَ بِهَا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى قُرَّاء أَهْل الْبَصْرَة فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثمِائَةِ رَجُل قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآن ; فَقَالَ : أَنْتُمْ خِيَار أَهْل الْبَصْرَة وَقُرَّاؤُهُمْ , فَاتْلُوهُ وَلَا يَطُولَن عَلَيْكُمْ الْأَمَد فَتَقْسُو قُلُوبكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوب مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ . وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأ سُورَة كُنَّا نُشَبِّههَا فِي الطُّول وَالشِّدَّة ب " بَرَاءَة " فَأُنْسِيتهَا ; غَيْر أَنِّي قَدْ حَفِظْت مِنْهَا " لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَم وَادِيَانِ مِنْ مَال لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأ جَوْف اِبْن آدَم إِلَّا التُّرَاب " . وَكُنَّا نَقْرَأ سُورَة كُنَّا نُشَبِّههَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَات فَأُنْسِيتهَا ; غَيْر أَنِّي حَفِظْت مِنْهَا : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " فَتُكْتَب شَهَادَة فِي أَعْنَاقكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا كُلّه ثَابِت فِي الدِّين . أَمَّا قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " فَثَابِت فِي الدِّين لَفْظًا وَمَعْنًى فِي هَذِهِ السُّورَة . وَأَمَّا قَوْله : " شَهَادَة فِي أَعْنَاقكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْم الْقِيَامَة " فَمَعْنًى ثَابِت فِي الدِّين ; فَإِنَّ مَنْ اِلْتَزَمَ شَيْئًا لَزِمَهُ شَرْعًا . وَالْمُلْتَزَم عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدهمَا : النَّذْر , وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ , نَذْر تَقَرُّب مُبْتَدَأ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاة وَصَوْم وَصَدَقَة , وَنَحْوه مِنْ الْقُرَب . فَهَذَا يَلْزَم الْوَفَاء بِهِ إِجْمَاعًا . وَنَذْر مُبَاح وَهُوَ مَا عُلِّقَ بِشَرْطِ رَغْبَة , كَقَوْلِهِ : إِنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ صَدَقَة , أَوْ عُلِّقَ بِشَرْطِ رَهْبَة , كَقَوْلِهِ : إِنْ كَفَانِي اللَّه شَرّ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَة . فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهِ , فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة , يَلْزَمهُ الْوَفَاء بِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد أَقْوَاله : إِنَّهُ لَا يَلْزَمهُ الْوَفَاء بِهِ . وَعُمُوم الْآيَة حُجَّة لَنَا , لِأَنَّهَا بِمُطْلَقِهَا تَتَنَاوَل ذَمّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلهُ عَلَى أَيّ وَجْه كَانَ مِنْ مُطْلَق أَوْ مُقَيَّد بِشَرْطٍ . وَقَدْ قَالَ أَصْحَابه : إِنَّ النَّذْر إِنَّمَا يَكُون بِمَا الْقَصْد مِنْهُ الْقُرْبَة مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْس الْقُرْبَة . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْس الْقُرْبَة لَكِنَّهُ لَمْ يُقْصَد بِهِ الْقُرْبَة , وَإِنَّمَا قُصِدَ مَنْع نَفْسه عَنْ فِعْل أَوْ الْإِقْدَام عَلَى فِعْل . قُلْنَا : الْقُرَب الشَّرْعِيَّة مَشَقَّات وَكُلَف وَإِنْ كَانَتْ قُرُبَات . وَهَذَا تَكَلُّف اِلْتِزَام هَذِهِ الْقُرْبَة بِمَشَقَّةٍ لِجَلْبِ نَفْع أَوْ دَفْع ضُرّ , فَلَمْ يَخْرُج عَنْ سَنَن التَّكْلِيف وَلَا زَالَ عَنْ قَصْد التَّقَرُّب . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ كَانَ الْمَقُول مِنْهُ وَعْدًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُون مَنُوطًا بِسَبَبٍ كَقَوْلِهِ : إِنْ تَزَوَّجْت أَعَنْتُك بِدِينَارٍ , أَوْ اِبْتَعْت حَاجَة كَذَا أَعْطَيْتُك كَذَا . فَهَذَا لَازِم إِجْمَاعًا مِنْ الْفُقَهَاء . وَإِنْ كَانَ وَعْدًا مُجَرَّدًا فَقِيلَ يَلْزَم بِتَعَلُّقِهِ . وَتَعَلَّقُوا بِسَبَبِ الْآيَة , فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : لَوْ نَعْلَم أَيّ الْأَعْمَال أَفْضَل أَوْ أَحَبّ إِلَى اللَّه لَعَمِلْنَاهُ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة . وَهُوَ حَدِيث لَا بَأْس بِهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة لَمَّا سَمِعَهَا قَالَ : لَا أَزَال حَبِيسًا فِي سَبِيل اللَّه حَتَّى أُقْتَل . وَالصَّحِيح عِنْدِي أَنَّ الْوَعْد يَجِب الْوَفَاء بِهِ عَلَى كُلّ حَال إِلَّا لِعُذْرٍ . قُلْت : قَالَ مَالِك : فَأَمَّا الْعِدَّة مِثْل أَنْ يَسْأَل الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يَهَب لَهُ الْهِبَة فَيَقُول لَهُ نَعَمْ ; ثُمَّ يَبْدُو لَهُ أَلَّا يَفْعَل فَمَا أَرَى ذَلِكَ يَلْزَمهُ . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِذَا وَعَدَ الْغُرَمَاء فَقَالَ : أُشْهِدكُمْ أَنِّي قَدْ وَهَبْت لَهُ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْكُمْ ; فَإِنَّ هَذَا يَلْزَمهُ . وَأَمَّا أَنْ يَقُول نَعَمْ أَنَا أَفْعَل ; ثُمَّ يَبْدُو لَهُ , فَلَا أَرَى عَلَيْهِ ذَلِكَ .
قُلْت : أَيْ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ ; فَأَمَّا فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق وَحُسْن الْمُرُوءَة فَنَعَمْ . وَقَدْ أَثْنَى اللَّه تَعَالَى عَلَى مَنْ صَدَقَ وَعْده وَوَفَى بِنَذْرِهِ فَقَالَ : " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا " [ الْبَقَرَة : 177 ] , وَقَالَ تَعَالَى : " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَاب إِسْمَاعِيل إِنَّهُ كَانَ صَادِق الْوَعْد " [ مَرْيَم : 54 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه . قَالَ الْمُثَنَّى : ثَلَاث آيَات مَنَعَتْنِي أَنْ أَقُصّ عَلَى النَّاس " أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ " [ الْبَقَرَة : 44 ] , " وَمَا أُرِيد أَنْ أُخَالِفكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ " [ هُود : 88 ] , " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " . وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ مِنْ حَدِيث مَالِك بْن دِينَار عَنْ ثُمَامَة أَنَّ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَيْت لَيْلَة أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْم تُقْرَض شِفَاههمْ بِمَقَارِيض مِنْ نَار كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ ) قُلْت : ( مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل ) ؟ قَالَ : ( هَؤُلَاءِ خُطَبَاء أُمَّتك الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَيَقْرَءُونَ كِتَاب اللَّه وَلَا يَعْمَلُونَ ) . وَعَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : حَدِّثْنَا ; فَسَكَتَ . ثُمَّ قِيلَ لَهُ : حَدِّثْنَا . فَقَالَ : أَتَرَوْنَنِي أَنْ أَقُول مَا لَا أَفْعَل فَأَسْتَعْجِل مَقْت اللَّه ! .
" لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " اِسْتِفْهَام عَلَى جِهَة الْإِنْكَار وَالتَّوْبِيخ , عَلَى أَنْ يَقُول الْإِنْسَان عَنْ نَفْسه مِنْ الْخَيْر مَا لَا يَفْعَلهُ . أَمَّا فِي الْمَاضِي فَيَكُون كَذِبًا , وَأَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَل فَيَكُون خُلْفًا , وَكِلَاهُمَا مَذْمُوم . وَتَأَوَّلَ سُفْيَان بْن وَجِبْرَائِيل قَوْله تَعَالَى : " لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " أَيْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَيْسَ الْأَمْر فِيهِ إِلَيْكُمْ , فَلَا تَدْرُونَ هَلْ تَفْعَلُونَ أَوْ لَا تَفْعَلُونَ . فَعَلَى هَذَا يَكُون الْكَلَام مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِره فِي إِنْكَار الْقَوْل .
هَذِهِ الْآيَة تُوجِب عَلَى كُلّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسه عَمَلًا فِيهِ طَاعَة أَنْ يَفِيَ بِهَا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى قُرَّاء أَهْل الْبَصْرَة فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثمِائَةِ رَجُل قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآن ; فَقَالَ : أَنْتُمْ خِيَار أَهْل الْبَصْرَة وَقُرَّاؤُهُمْ , فَاتْلُوهُ وَلَا يَطُولَن عَلَيْكُمْ الْأَمَد فَتَقْسُو قُلُوبكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوب مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ . وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأ سُورَة كُنَّا نُشَبِّههَا فِي الطُّول وَالشِّدَّة ب " بَرَاءَة " فَأُنْسِيتهَا ; غَيْر أَنِّي قَدْ حَفِظْت مِنْهَا " لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَم وَادِيَانِ مِنْ مَال لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأ جَوْف اِبْن آدَم إِلَّا التُّرَاب " . وَكُنَّا نَقْرَأ سُورَة كُنَّا نُشَبِّههَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَات فَأُنْسِيتهَا ; غَيْر أَنِّي حَفِظْت مِنْهَا : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " فَتُكْتَب شَهَادَة فِي أَعْنَاقكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا كُلّه ثَابِت فِي الدِّين . أَمَّا قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " فَثَابِت فِي الدِّين لَفْظًا وَمَعْنًى فِي هَذِهِ السُّورَة . وَأَمَّا قَوْله : " شَهَادَة فِي أَعْنَاقكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْم الْقِيَامَة " فَمَعْنًى ثَابِت فِي الدِّين ; فَإِنَّ مَنْ اِلْتَزَمَ شَيْئًا لَزِمَهُ شَرْعًا . وَالْمُلْتَزَم عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدهمَا : النَّذْر , وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ , نَذْر تَقَرُّب مُبْتَدَأ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاة وَصَوْم وَصَدَقَة , وَنَحْوه مِنْ الْقُرَب . فَهَذَا يَلْزَم الْوَفَاء بِهِ إِجْمَاعًا . وَنَذْر مُبَاح وَهُوَ مَا عُلِّقَ بِشَرْطِ رَغْبَة , كَقَوْلِهِ : إِنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ صَدَقَة , أَوْ عُلِّقَ بِشَرْطِ رَهْبَة , كَقَوْلِهِ : إِنْ كَفَانِي اللَّه شَرّ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَة . فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهِ , فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة , يَلْزَمهُ الْوَفَاء بِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد أَقْوَاله : إِنَّهُ لَا يَلْزَمهُ الْوَفَاء بِهِ . وَعُمُوم الْآيَة حُجَّة لَنَا , لِأَنَّهَا بِمُطْلَقِهَا تَتَنَاوَل ذَمّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلهُ عَلَى أَيّ وَجْه كَانَ مِنْ مُطْلَق أَوْ مُقَيَّد بِشَرْطٍ . وَقَدْ قَالَ أَصْحَابه : إِنَّ النَّذْر إِنَّمَا يَكُون بِمَا الْقَصْد مِنْهُ الْقُرْبَة مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْس الْقُرْبَة . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْس الْقُرْبَة لَكِنَّهُ لَمْ يُقْصَد بِهِ الْقُرْبَة , وَإِنَّمَا قُصِدَ مَنْع نَفْسه عَنْ فِعْل أَوْ الْإِقْدَام عَلَى فِعْل . قُلْنَا : الْقُرَب الشَّرْعِيَّة مَشَقَّات وَكُلَف وَإِنْ كَانَتْ قُرُبَات . وَهَذَا تَكَلُّف اِلْتِزَام هَذِهِ الْقُرْبَة بِمَشَقَّةٍ لِجَلْبِ نَفْع أَوْ دَفْع ضُرّ , فَلَمْ يَخْرُج عَنْ سَنَن التَّكْلِيف وَلَا زَالَ عَنْ قَصْد التَّقَرُّب . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ كَانَ الْمَقُول مِنْهُ وَعْدًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُون مَنُوطًا بِسَبَبٍ كَقَوْلِهِ : إِنْ تَزَوَّجْت أَعَنْتُك بِدِينَارٍ , أَوْ اِبْتَعْت حَاجَة كَذَا أَعْطَيْتُك كَذَا . فَهَذَا لَازِم إِجْمَاعًا مِنْ الْفُقَهَاء . وَإِنْ كَانَ وَعْدًا مُجَرَّدًا فَقِيلَ يَلْزَم بِتَعَلُّقِهِ . وَتَعَلَّقُوا بِسَبَبِ الْآيَة , فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : لَوْ نَعْلَم أَيّ الْأَعْمَال أَفْضَل أَوْ أَحَبّ إِلَى اللَّه لَعَمِلْنَاهُ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة . وَهُوَ حَدِيث لَا بَأْس بِهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة لَمَّا سَمِعَهَا قَالَ : لَا أَزَال حَبِيسًا فِي سَبِيل اللَّه حَتَّى أُقْتَل . وَالصَّحِيح عِنْدِي أَنَّ الْوَعْد يَجِب الْوَفَاء بِهِ عَلَى كُلّ حَال إِلَّا لِعُذْرٍ . قُلْت : قَالَ مَالِك : فَأَمَّا الْعِدَّة مِثْل أَنْ يَسْأَل الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يَهَب لَهُ الْهِبَة فَيَقُول لَهُ نَعَمْ ; ثُمَّ يَبْدُو لَهُ أَلَّا يَفْعَل فَمَا أَرَى ذَلِكَ يَلْزَمهُ . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِذَا وَعَدَ الْغُرَمَاء فَقَالَ : أُشْهِدكُمْ أَنِّي قَدْ وَهَبْت لَهُ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْكُمْ ; فَإِنَّ هَذَا يَلْزَمهُ . وَأَمَّا أَنْ يَقُول نَعَمْ أَنَا أَفْعَل ; ثُمَّ يَبْدُو لَهُ , فَلَا أَرَى عَلَيْهِ ذَلِكَ .
قُلْت : أَيْ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ ; فَأَمَّا فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق وَحُسْن الْمُرُوءَة فَنَعَمْ . وَقَدْ أَثْنَى اللَّه تَعَالَى عَلَى مَنْ صَدَقَ وَعْده وَوَفَى بِنَذْرِهِ فَقَالَ : " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا " [ الْبَقَرَة : 177 ] , وَقَالَ تَعَالَى : " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَاب إِسْمَاعِيل إِنَّهُ كَانَ صَادِق الْوَعْد " [ مَرْيَم : 54 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه . قَالَ الْمُثَنَّى : ثَلَاث آيَات مَنَعَتْنِي أَنْ أَقُصّ عَلَى النَّاس " أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ " [ الْبَقَرَة : 44 ] , " وَمَا أُرِيد أَنْ أُخَالِفكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ " [ هُود : 88 ] , " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " . وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ مِنْ حَدِيث مَالِك بْن دِينَار عَنْ ثُمَامَة أَنَّ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَيْت لَيْلَة أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْم تُقْرَض شِفَاههمْ بِمَقَارِيض مِنْ نَار كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ ) قُلْت : ( مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل ) ؟ قَالَ : ( هَؤُلَاءِ خُطَبَاء أُمَّتك الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَيَقْرَءُونَ كِتَاب اللَّه وَلَا يَعْمَلُونَ ) . وَعَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : حَدِّثْنَا ; فَسَكَتَ . ثُمَّ قِيلَ لَهُ : حَدِّثْنَا . فَقَالَ : أَتَرَوْنَنِي أَنْ أَقُول مَا لَا أَفْعَل فَأَسْتَعْجِل مَقْت اللَّه ! .
" لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " اِسْتِفْهَام عَلَى جِهَة الْإِنْكَار وَالتَّوْبِيخ , عَلَى أَنْ يَقُول الْإِنْسَان عَنْ نَفْسه مِنْ الْخَيْر مَا لَا يَفْعَلهُ . أَمَّا فِي الْمَاضِي فَيَكُون كَذِبًا , وَأَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَل فَيَكُون خُلْفًا , وَكِلَاهُمَا مَذْمُوم . وَتَأَوَّلَ سُفْيَان بْن وَجِبْرَائِيل قَوْله تَعَالَى : " لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " أَيْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَيْسَ الْأَمْر فِيهِ إِلَيْكُمْ , فَلَا تَدْرُونَ هَلْ تَفْعَلُونَ أَوْ لَا تَفْعَلُونَ . فَعَلَى هَذَا يَكُون الْكَلَام مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِره فِي إِنْكَار الْقَوْل .
قَدْ يُحْتَجّ بِهِ فِي وُجُوب الْوَفَاء فِي اللِّجَاج وَالْغَضَب عَلَى أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ . و " أَنْ " وَقَعَ بِالِابْتِدَاءِ وَمَا قَبْلهَا الْخَبَر ; وَكَأَنَّهُ قَالَ : قَوْلكُمْ مَا لَا تَفْعَلُونَ مَذْمُوم , وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف . الْكِسَائِيّ : " أَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع ; لِأَنَّ " كَبُرَ " فِعْل بِمَنْزِلَةِ بِئْسَ رَجُلًا أَخُوك . و " مَقْتًا " نَصْب بِالتَّمْيِيزِ ; الْمَعْنَى كَبُرَ قَوْلهمْ مَا لَا يَفْعَلُونَ مَقْتًا . وَقِيلَ : هُوَ حَال . وَالْمَقْت وَالْمَقَاتَة مَصْدَرَانِ ; يُقَال : رَجُل مَقِيت وَمَمْقُوت إِذَا لَمْ يُحِبّهُ النَّاس .
أَيْ يَصُفُّونَ صَفًّا : وَالْمَفْعُول مُضْمَر ; أَيْ يَصُفُّونَ أَنْفُسهمْ صَفًّا .
قَالَ الْفَرَّاء : مَرْصُوص بِالرَّصَاصِ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : هُوَ مِنْ رَصَصْت الْبِنَاء إِذَا لَاءَمْت بَيْنه وَقَارَبْت حَتَّى يَصِير كَقِطْعَةٍ وَاحِدَة . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الرَّصِيص وَهُوَ اِنْضِمَام الْأَسْنَان بَعْضهَا إِلَى بَعْض . وَالتَّرَاصّ التَّلَاصُق ; وَمِنْهُ وَتَرَاصُّوا فِي الصَّفّ . وَمَعْنَى الْآيَة : يُحِبّ مَنْ يَثْبُت فِي الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه وَيَلْزَم مَكَانه كَثُبُوتِ الْبِنَاء . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : هَذَا تَعْلِيم مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يَكُونُونَ عِنْد قِتَال عَدُوّهُمْ . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض أَهْل التَّأْوِيل بِهَذَا عَلَى أَنَّ قِتَال الرَّاجِل أَفْضَل مِنْ قِتَال الْفَارِس , لِأَنَّ الْفُرْسَان لَا يَصْطَفُّونَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَة . الْمَهْدَوِيّ : وَذَلِكَ غَيْر مُسْتَقِيم , لِمَا جَاءَ فِي فَضْل الْفَارِس فِي الْأَجْر وَالْغَنِيمَة . وَلَا يَخْرُج الْفُرْسَان مِنْ مَعْنَى الْآيَة ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الثَّبَات . لَا يَجُوز الْخُرُوج عَنْ الصَّفّ إِلَّا لِحَاجَةٍ تَعْرِض لِلْإِنْسَانِ , أَوْ فِي رِسَالَة يُرْسِلهَا الْإِمَام , أَوْ فِي مَنْفَعَة تَظْهَر فِي الْمَقَام , كَفُرْصَةٍ تُنْتَهَز وَلَا خِلَاف فِيهَا . وَفِي الْخُرُوج عَنْ الصَّفّ لِلْمُبَارَزَةِ خِلَاف عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّهُ لَا بَأْس بِذَلِكَ إِرْهَابًا لِلْعَدُوِّ , وَطَلَبًا لِلشَّهَادَةِ وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَال . وَقَالَ أَصْحَابنَا : لَا يَبْرُز أَحَد طَالِبًا لِذَلِكَ , لِأَنَّ فِيهِ رِيَاء وَخُرُوجًا إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ مِنْ لِقَاء الْعَدُوّ . وَإِنَّمَا تَكُون الْمُبَارَزَة إِذَا طَلَبَهَا الْكَافِر ; كَمَا كَانَتْ فِي حُرُوب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم بَدْر وَفِي غَزْوَة خَيْبَر , وَعَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَف . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل مُسْتَوْفًى فِي هَذَا فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " [ الْبَقَرَة : 195 ] .
قَالَ الْفَرَّاء : مَرْصُوص بِالرَّصَاصِ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : هُوَ مِنْ رَصَصْت الْبِنَاء إِذَا لَاءَمْت بَيْنه وَقَارَبْت حَتَّى يَصِير كَقِطْعَةٍ وَاحِدَة . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الرَّصِيص وَهُوَ اِنْضِمَام الْأَسْنَان بَعْضهَا إِلَى بَعْض . وَالتَّرَاصّ التَّلَاصُق ; وَمِنْهُ وَتَرَاصُّوا فِي الصَّفّ . وَمَعْنَى الْآيَة : يُحِبّ مَنْ يَثْبُت فِي الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه وَيَلْزَم مَكَانه كَثُبُوتِ الْبِنَاء . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : هَذَا تَعْلِيم مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يَكُونُونَ عِنْد قِتَال عَدُوّهُمْ . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض أَهْل التَّأْوِيل بِهَذَا عَلَى أَنَّ قِتَال الرَّاجِل أَفْضَل مِنْ قِتَال الْفَارِس , لِأَنَّ الْفُرْسَان لَا يَصْطَفُّونَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَة . الْمَهْدَوِيّ : وَذَلِكَ غَيْر مُسْتَقِيم , لِمَا جَاءَ فِي فَضْل الْفَارِس فِي الْأَجْر وَالْغَنِيمَة . وَلَا يَخْرُج الْفُرْسَان مِنْ مَعْنَى الْآيَة ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الثَّبَات . لَا يَجُوز الْخُرُوج عَنْ الصَّفّ إِلَّا لِحَاجَةٍ تَعْرِض لِلْإِنْسَانِ , أَوْ فِي رِسَالَة يُرْسِلهَا الْإِمَام , أَوْ فِي مَنْفَعَة تَظْهَر فِي الْمَقَام , كَفُرْصَةٍ تُنْتَهَز وَلَا خِلَاف فِيهَا . وَفِي الْخُرُوج عَنْ الصَّفّ لِلْمُبَارَزَةِ خِلَاف عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّهُ لَا بَأْس بِذَلِكَ إِرْهَابًا لِلْعَدُوِّ , وَطَلَبًا لِلشَّهَادَةِ وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَال . وَقَالَ أَصْحَابنَا : لَا يَبْرُز أَحَد طَالِبًا لِذَلِكَ , لِأَنَّ فِيهِ رِيَاء وَخُرُوجًا إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ مِنْ لِقَاء الْعَدُوّ . وَإِنَّمَا تَكُون الْمُبَارَزَة إِذَا طَلَبَهَا الْكَافِر ; كَمَا كَانَتْ فِي حُرُوب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم بَدْر وَفِي غَزْوَة خَيْبَر , وَعَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَف . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل مُسْتَوْفًى فِي هَذَا فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " [ الْبَقَرَة : 195 ] .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ↓
لَمَّا ذَكَرَ أَمْر الْجِهَاد بَيَّنَ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى أَمَرَا بِالتَّوْحِيدِ وَجَاهَدَا فِي سَبِيل اللَّه ; وَحَلَّ الْعِقَاب بِمَنْ خَالَفَهُمَا ; أَيْ وَاذْكُرْ لِقَوْمِك يَا مُحَمَّد هَذِهِ الْقِصَّة .
وَذَلِكَ حِين رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ ; حَسْب مَا تَقَدَّمَ فِي آخِر سُورَة " الْأَحْزَاب " . وَمِنْ الْأَذَى مَا ذُكِرَ فِي قِصَّة قَارُون : إِنَّهُ دَسَّ إِلَى اِمْرَأَة تَدَّعِي عَلَى مُوسَى الْفُجُور . وَمِنْ الْأَذَى قَوْلهمْ : " اِجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة " [ الْأَعْرَاف : 138 ] . وَقَوْلهمْ : " فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا " [ الْمَائِدَة : 24 ] . وَقَوْلهمْ : إِنَّك قَتَلْت هَارُون . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا .
وَالرَّسُول يُحْتَرَم وَيُعَظَّم . وَدَخَلَتْ " قَدْ " عَلَى " تَعْلَمُونَ " لِلتَّأْكِيدِ ; كَأَنَّهُ قَالَ : وَتَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا لَا شُبْهَة لَكُمْ فِيهِ .
أَيْ مَالُوا عَنْ الْحَقّ
أَيْ أَمَالَهَا عَنْ الْهُدَى . وَقِيلَ : " فَلَمَّا زَاغُوا " عَنْ الطَّاعَة " أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ " عَنْ الْهِدَايَة . وَقِيلَ : " فَلَمَّا زَاغُوا " عَنْ الْإِيمَان " أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ " عَنْ الثَّوَاب . وَقِيلَ : أَيْ لَمَّا تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ اِحْتِرَام الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وَطَاعَة الرَّبّ , خَلَقَ اللَّه الضَّلَالَة فِي قُلُوبهمْ عُقُوبَة لَهُمْ عَلَى فِعْلهمْ .
أَيْ مَنْ كَانَ فِي حُكْمه أَنَّهُ يُخْتَم لَهُ بِالْفِسْقِ
وَذَلِكَ حِين رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ ; حَسْب مَا تَقَدَّمَ فِي آخِر سُورَة " الْأَحْزَاب " . وَمِنْ الْأَذَى مَا ذُكِرَ فِي قِصَّة قَارُون : إِنَّهُ دَسَّ إِلَى اِمْرَأَة تَدَّعِي عَلَى مُوسَى الْفُجُور . وَمِنْ الْأَذَى قَوْلهمْ : " اِجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة " [ الْأَعْرَاف : 138 ] . وَقَوْلهمْ : " فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا " [ الْمَائِدَة : 24 ] . وَقَوْلهمْ : إِنَّك قَتَلْت هَارُون . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا .
وَالرَّسُول يُحْتَرَم وَيُعَظَّم . وَدَخَلَتْ " قَدْ " عَلَى " تَعْلَمُونَ " لِلتَّأْكِيدِ ; كَأَنَّهُ قَالَ : وَتَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا لَا شُبْهَة لَكُمْ فِيهِ .
أَيْ مَالُوا عَنْ الْحَقّ
أَيْ أَمَالَهَا عَنْ الْهُدَى . وَقِيلَ : " فَلَمَّا زَاغُوا " عَنْ الطَّاعَة " أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ " عَنْ الْهِدَايَة . وَقِيلَ : " فَلَمَّا زَاغُوا " عَنْ الْإِيمَان " أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ " عَنْ الثَّوَاب . وَقِيلَ : أَيْ لَمَّا تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ اِحْتِرَام الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وَطَاعَة الرَّبّ , خَلَقَ اللَّه الضَّلَالَة فِي قُلُوبهمْ عُقُوبَة لَهُمْ عَلَى فِعْلهمْ .
أَيْ مَنْ كَانَ فِي حُكْمه أَنَّهُ يُخْتَم لَهُ بِالْفِسْقِ
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ↓
أَيْ وَاذْكُرْ لَهُمْ هَذِهِ الْقِصَّة أَيْضًا . وَقَالَ : " يَا بَنِي إِسْرَائِيل " وَلَمْ يَقُلْ " يَا قَوْم " كَمَا قَالَ مُوسَى ; لِأَنَّهُ لَا نَسَب لَهُ فِيهِمْ فَيَكُونُونَ قَوْمه .
أَيْ بِالْإِنْجِيلِ .
لِأَنَّ فِي التَّوْرَاة صِفَتِي , وَأَنِّي لَمْ آتِكُمْ بِشَيْءٍ يُخَالِف التَّوْرَاة فَتَنْفِرُوا عَنِّي .
مُصَدِّقًا . " وَمُبَشِّرًا " نَصْب عَلَى الْحَال ; وَالْعَامِل فِيهَا مَعْنَى الْإِرْسَال . و " إِلَيْكُمْ " صِلَة الرَّسُول .
قَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو " مِنْ بَعْدِيَ " بِفَتْحِ الْيَاء . وَهِيَ قِرَاءَة الْأَزْدِيّ وَزِرّ بْن السِّينَانِيّ وَأَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم . وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم لِأَنَّهُ اِسْم ; مِثْل الْكَاف مِنْ بَعْدك , وَالتَّاء مِنْ قُمْت . الْبَاقُونَ بِالْإِسْكَانِ . وَقُرِئَ " مِنْ بَعْدِي اِسْمه أَحْمَد " بِحَذْفِ الْيَاء مِنْ اللَّفْظ . و " أَحْمَد " اِسْم نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ اِسْم عَلَم مَنْقُول مِنْ صِفَة لَا مِنْ فِعْل ; فَتِلْكَ الصِّفَة أَفْعَل الَّتِي يُرَاد بِهَا التَّفْضِيل . فَمَعْنَى " أَحْمَد " أَيْ أَحْمَد الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ . وَالْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ كُلّهمْ حَامِدُونَ اللَّه , وَنَبِيّنَا أَحْمَد أَكْثَرهمْ حَمْدًا . وَأَمَّا مُحَمَّد فَمَنْقُول مِنْ صِفَة أَيْضًا , وَهِيَ فِي مَعْنَى مَحْمُود ; وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَة وَالتَّكْرَار . فَالْمُحَمَّد هُوَ الَّذِي حُمِدَ مَرَّة بَعْد مَرَّة . كَمَا أَنَّ الْمُكَرَّم مِنْ الْكَرَم مَرَّة بَعْد مَرَّة . وَكَذَلِكَ الْمُمَدَّح وَنَحْو ذَلِكَ . فَاسْم مُحَمَّد مُطَابِق لِمَعْنَاهُ , وَاَللَّه سُبْحَانه سَمَّاهُ قَبْل أَنْ يُسَمِّيَ بِهِ نَفْسه . فَهَذَا عَلَم مِنْ أَعْلَام نُبُوَّته , إِذْ كَانَ اِسْمه صَادِقًا عَلَيْهِ ; فَهُوَ مَحْمُود فِي الدُّنْيَا لِمَا هُدِيَ إِلَيْهِ وَنَفَعَ بِهِ مِنْ الْعِلْم وَالْحِكْمَة . وَهُوَ مَحْمُود فِي الْآخِرَة بِالشَّفَاعَةِ . فَقَدْ تَكَرَّرَ مَعْنَى الْحَمْد كَمَا يَقْتَضِي اللَّفْظ . ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا حَتَّى كَانَ أَحْمَد , حَمِدَ رَبّه فَنَبَّأَهُ وَشَرَّفَهُ ; فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَ اِسْم أَحْمَد عَلَى الِاسْم الَّذِي هُوَ مُحَمَّد فَذَكَرَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : " اِسْمه أَحْمَد " . وَذَكَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِين قَالَ لَهُ رَبّه : تِلْكَ أُمَّة أَحْمَد , فَقَالَ : اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِنْ أُمَّة أَحْمَد . فَبِأَحْمَد ذَكَرَهُ قَبْل أَنْ يَذْكُرهُ بِمُحَمَّدٍ , لِأَنَّ حَمْده لِرَبِّهِ كَانَ قَبْل حَمْد النَّاس لَهُ . فَلَمَّا وُجِدَ وَبُعِثَ كَانَ مُحَمَّدًا بِالْفِعْلِ . وَكَذَلِكَ فِي الشَّفَاعَة يَحْمَد رَبّه بِالْمَحَامِدِ الَّتِي يَفْتَحهَا عَلَيْهِ , فَيَكُون أَحْمَد النَّاس لِرَبِّهِ ثُمَّ يَشْفَع فَيُحْمَد عَلَى شَفَاعَته . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اِسْمِي فِي التَّوْرَاة أَحْيَد لِأَنِّي أُحِيد أُمَّتِي عَنْ النَّار وَاسْمِي فِي الزَّبُور الْمَاحِي مَحَا اللَّه بِي عَبَدَة الْأَوْثَان وَاسْمِي فِي الْإِنْجِيل أَحْمَد وَاسْمِي فِي الْقُرْآن مُحَمَّد لِأَنِّي مَحْمُود فِي أَهْل السَّمَاء وَالْأَرْض ) . وَفِي الصَّحِيح ( لِي خَمْسَة أَسْمَاء أَنَا مُحَمَّد وَأَحْمَد وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّه بِي الْكُفْر وَأَنَا الْحَاشِر الَّذِي تُحْشَر النَّاس عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِب ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
قِيلَ عِيسَى . وَقِيلَ : مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَرَأَ الْكِسَائِيّ وَحَمْزَة " سَاحِر " نَعْتًا لِلرَّجُلِ . وَرُوِيَ أَنَّهَا قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود . الْبَاقُونَ " سِحْر " نَعْتًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول .
أَيْ بِالْإِنْجِيلِ .
لِأَنَّ فِي التَّوْرَاة صِفَتِي , وَأَنِّي لَمْ آتِكُمْ بِشَيْءٍ يُخَالِف التَّوْرَاة فَتَنْفِرُوا عَنِّي .
مُصَدِّقًا . " وَمُبَشِّرًا " نَصْب عَلَى الْحَال ; وَالْعَامِل فِيهَا مَعْنَى الْإِرْسَال . و " إِلَيْكُمْ " صِلَة الرَّسُول .
قَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو " مِنْ بَعْدِيَ " بِفَتْحِ الْيَاء . وَهِيَ قِرَاءَة الْأَزْدِيّ وَزِرّ بْن السِّينَانِيّ وَأَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم . وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم لِأَنَّهُ اِسْم ; مِثْل الْكَاف مِنْ بَعْدك , وَالتَّاء مِنْ قُمْت . الْبَاقُونَ بِالْإِسْكَانِ . وَقُرِئَ " مِنْ بَعْدِي اِسْمه أَحْمَد " بِحَذْفِ الْيَاء مِنْ اللَّفْظ . و " أَحْمَد " اِسْم نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ اِسْم عَلَم مَنْقُول مِنْ صِفَة لَا مِنْ فِعْل ; فَتِلْكَ الصِّفَة أَفْعَل الَّتِي يُرَاد بِهَا التَّفْضِيل . فَمَعْنَى " أَحْمَد " أَيْ أَحْمَد الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ . وَالْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ كُلّهمْ حَامِدُونَ اللَّه , وَنَبِيّنَا أَحْمَد أَكْثَرهمْ حَمْدًا . وَأَمَّا مُحَمَّد فَمَنْقُول مِنْ صِفَة أَيْضًا , وَهِيَ فِي مَعْنَى مَحْمُود ; وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَة وَالتَّكْرَار . فَالْمُحَمَّد هُوَ الَّذِي حُمِدَ مَرَّة بَعْد مَرَّة . كَمَا أَنَّ الْمُكَرَّم مِنْ الْكَرَم مَرَّة بَعْد مَرَّة . وَكَذَلِكَ الْمُمَدَّح وَنَحْو ذَلِكَ . فَاسْم مُحَمَّد مُطَابِق لِمَعْنَاهُ , وَاَللَّه سُبْحَانه سَمَّاهُ قَبْل أَنْ يُسَمِّيَ بِهِ نَفْسه . فَهَذَا عَلَم مِنْ أَعْلَام نُبُوَّته , إِذْ كَانَ اِسْمه صَادِقًا عَلَيْهِ ; فَهُوَ مَحْمُود فِي الدُّنْيَا لِمَا هُدِيَ إِلَيْهِ وَنَفَعَ بِهِ مِنْ الْعِلْم وَالْحِكْمَة . وَهُوَ مَحْمُود فِي الْآخِرَة بِالشَّفَاعَةِ . فَقَدْ تَكَرَّرَ مَعْنَى الْحَمْد كَمَا يَقْتَضِي اللَّفْظ . ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا حَتَّى كَانَ أَحْمَد , حَمِدَ رَبّه فَنَبَّأَهُ وَشَرَّفَهُ ; فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَ اِسْم أَحْمَد عَلَى الِاسْم الَّذِي هُوَ مُحَمَّد فَذَكَرَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : " اِسْمه أَحْمَد " . وَذَكَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِين قَالَ لَهُ رَبّه : تِلْكَ أُمَّة أَحْمَد , فَقَالَ : اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِنْ أُمَّة أَحْمَد . فَبِأَحْمَد ذَكَرَهُ قَبْل أَنْ يَذْكُرهُ بِمُحَمَّدٍ , لِأَنَّ حَمْده لِرَبِّهِ كَانَ قَبْل حَمْد النَّاس لَهُ . فَلَمَّا وُجِدَ وَبُعِثَ كَانَ مُحَمَّدًا بِالْفِعْلِ . وَكَذَلِكَ فِي الشَّفَاعَة يَحْمَد رَبّه بِالْمَحَامِدِ الَّتِي يَفْتَحهَا عَلَيْهِ , فَيَكُون أَحْمَد النَّاس لِرَبِّهِ ثُمَّ يَشْفَع فَيُحْمَد عَلَى شَفَاعَته . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اِسْمِي فِي التَّوْرَاة أَحْيَد لِأَنِّي أُحِيد أُمَّتِي عَنْ النَّار وَاسْمِي فِي الزَّبُور الْمَاحِي مَحَا اللَّه بِي عَبَدَة الْأَوْثَان وَاسْمِي فِي الْإِنْجِيل أَحْمَد وَاسْمِي فِي الْقُرْآن مُحَمَّد لِأَنِّي مَحْمُود فِي أَهْل السَّمَاء وَالْأَرْض ) . وَفِي الصَّحِيح ( لِي خَمْسَة أَسْمَاء أَنَا مُحَمَّد وَأَحْمَد وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّه بِي الْكُفْر وَأَنَا الْحَاشِر الَّذِي تُحْشَر النَّاس عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِب ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
قِيلَ عِيسَى . وَقِيلَ : مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَرَأَ الْكِسَائِيّ وَحَمْزَة " سَاحِر " نَعْتًا لِلرَّجُلِ . وَرُوِيَ أَنَّهَا قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود . الْبَاقُونَ " سِحْر " نَعْتًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ↓
الْمَعْنَى أَيْ ظُلْم أَشْنَع مِنْ الِافْتِرَاء عَلَى اللَّه تَعَالَى وَالتَّكْذِيب بِآيَاتِهِ . وَهَذَا اِسْتِفْهَام بِمَعْنَى الْجَحْد ; أَيْ لَا أَحَد أَظْلَم مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه الْكَذِب , وَبَدَّلَ كَلَامه وَأَضَافَ شَيْئًا إِلَيْهِ مِمَّا لَمْ يُنَزِّلهُ . وَكَذَلِكَ لَا أَحَد أَظْلَم مِنْكُمْ إِذَا أَنْكَرْتُمْ الْقُرْآن وَافْتَرَيْتُمْ عَلَى اللَّه الْكَذِب , وَهَذَا مِمَّا أُمِرَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولهُ لَهُمْ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل اللَّه اِبْتِدَاء . وَقِيلَ : الْمُفْتَرِي الْمُشْرِك , وَالْمُكَذِّب بِالْآيَاتِ أَهْل الْكِتَاب .
هَذَا تَعَجُّب مِمَّنْ كَفَرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّد بَعْد الْمُعْجِزَات الَّتِي ظَهَرَتْ لَهُمَا . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " وَهُوَ يَدَّعِي " بِفَتْحِ الْيَاء وَالدَّال وَشَدّهَا وَكَسْر الْعَيْن , أَيْ يَنْتَسِب . وَيَدَّعِي وَيَنْتَسِب سَوَاء .
أَيْ مَنْ كَانَ فِي حُكْمه أَنَّهُ يُخْتَم لَهُ بِالضَّلَالَةِ .
هَذَا تَعَجُّب مِمَّنْ كَفَرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّد بَعْد الْمُعْجِزَات الَّتِي ظَهَرَتْ لَهُمَا . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " وَهُوَ يَدَّعِي " بِفَتْحِ الْيَاء وَالدَّال وَشَدّهَا وَكَسْر الْعَيْن , أَيْ يَنْتَسِب . وَيَدَّعِي وَيَنْتَسِب سَوَاء .
أَيْ مَنْ كَانَ فِي حُكْمه أَنَّهُ يُخْتَم لَهُ بِالضَّلَالَةِ .
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ↓
الْإِطْفَاء هُوَ الْإِخْمَاد , يُسْتَعْمَلَانِ فِي النَّار , وَيُسْتَعْمَلَانِ فِيمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الضِّيَاء وَالظُّهُور . وَيَفْتَرِق الْإِطْفَاء وَالْإِخْمَاد مِنْ وَجْه ; وَهُوَ أَنَّ الْإِطْفَاء يُسْتَعْمَل فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير , وَالْإِخْمَاد إِنَّمَا يُسْتَعْمَل فِي الْكَثِير دُون الْقَلِيل ; فَيُقَال : أَطْفَأْت السِّرَاج ; وَلَا يُقَال أَخْمَدْت السِّرَاج . وَفِي " نُور اللَّه " هُنَا خَمْسَة أَقَاوِيل : أَحَدهَا : أَنَّهُ الْقُرْآن ; يُرِيدُونَ إِبْطَاله وَتَكْذِيبه بِالْقَوْلِ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَابْن زَيْد . وَالثَّانِي : إِنَّهُ الْإِسْلَام ; يُرِيدُونَ دَفْعه بِالْكَلَامِ ; قَالَهُ السُّدِّيّ . الثَّالِث : أَنَّهُ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; يُرِيدُونَ هَلَاكه بِالْأَرَاجِيفِ ; قَالَهُ الضَّحَّاك . الرَّابِع : حُجَج اللَّه وَدَلَائِله ; يُرِيدُونَ إِبْطَالهَا بِإِنْكَارِهِمْ وَتَكْذِيبهمْ ; قَالَهُ اِبْن بَحْر . الْخَامِس : أَنَّهُ مَثَل مَضْرُوب ; أَيْ مَنْ أَرَادَ إِطْفَاء نُور الشَّمْس بِفِيهِ فَوَجَدَهُ مُسْتَحِيلًا مُمْتَنِعًا فَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ إِبْطَال الْحَقّ ; حَكَاهُ اِبْن عِيسَى . وَسَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة مَا حَكَاهُ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْوَحْي أَرْبَعِينَ يَوْمًا ; فَقَالَ كَعْب بْن الْأَشْرَف : يَا مَعْشَر الْيَهُود , أَبْشِرُوا ! فَقَدْ أَطْفَأَ اللَّه نُور مُحَمَّد فِيمَا كَانَ يُنْزِل عَلَيْهِ , وَمَا كَانَ لِيُتِمّ أَمْره ; فَحَزِنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة وَاتَّصَلَ الْوَحْي بَعْدهَا ; حَكَى جَمِيعه الْمَاوَرْدِيّ رَحِمَهُ اللَّه .
أَيْ بِإِظْهَارِهِ فِي الْآفَاق . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَحَفْص عَنْ عَاصِم " وَاَللَّه مُتُّمْ نُوره " بِالْإِضَافَةِ عَلَى نِيَّة الِانْفِصَال ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " كُلّ نَفْس ذَائِقَة الْمَوْت " [ آل عِمْرَان : 185 ] وَشَبَهه , حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " آل عِمْرَان " . الْبَاقُونَ " مُتُّمْ نُوره " لِأَنَّهُ فِيمَا يُسْتَقْبَل ; فَعَمِلَ .
مِنْ سَائِر الْأَصْنَاف .
أَيْ بِإِظْهَارِهِ فِي الْآفَاق . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَحَفْص عَنْ عَاصِم " وَاَللَّه مُتُّمْ نُوره " بِالْإِضَافَةِ عَلَى نِيَّة الِانْفِصَال ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " كُلّ نَفْس ذَائِقَة الْمَوْت " [ آل عِمْرَان : 185 ] وَشَبَهه , حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " آل عِمْرَان " . الْبَاقُونَ " مُتُّمْ نُوره " لِأَنَّهُ فِيمَا يُسْتَقْبَل ; فَعَمِلَ .
مِنْ سَائِر الْأَصْنَاف .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ↓
أَيْ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَالرَّشَاد .
أَيْ بِالْحُجَجِ . وَمِنْ الظُّهُور الْغَلَبَة بِالْيَدِ فِي الْقِتَال ; وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالظُّهُورِ أَلَّا يَبْقَى دِين آخَر مِنْ الْأَدْيَان , بَلْ الْمُرَاد يَكُون أَهْل الْإِسْلَام عَالِينَ غَالِبِينَ . وَمِنْ الْإِظْهَار أَلَّا يَبْقَى دِين سِوَى الْإِسْلَام فِي آخِر الزَّمَان . قَالَ مُجَاهِد : وَذَلِكَ إِذَا نَزَلَ عِيسَى لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْض دِين إِلَّا دِين الْإِسْلَام . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : " لِيُظْهِرهُ عَلَى الدِّين كُلّه " بِخُرُوجِ عِيسَى . وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى كَافِر إِلَّا أَسْلَمَ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِيَنْزِلَن اِبْن مَرْيَم حَكَمًا عَادِلًا فَلْيَكْسِرَن الصَّلِيب وَلْيَقْتُلَن الْخِنْزِير وَلَيَضَعَن الْجِزْيَة وَلَتُتْرَكَن الْقِلَاص فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا وَلَتَذْهَبَن الشَّحْنَاء وَالتَّبَاغُض وَالتَّحَاسُد وَلَيَدْعُوَن إِلَى الْمَال فَلَا يَقْبَلهُ أَحَد ) . وَقِيلَ : " لِيُظْهِرهُ " أَيْ لِيُطْلِع مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِر الْأَدْيَان ; حَتَّى يَكُون عَالِمًا بِهَا عَارِفًا بِوُجُوهِ بُطْلَانهَا , وَبِمَا حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا مِنْهَا . " عَلَى الدِّين " أَيْ الْأَدْيَان ; لِأَنَّ الدِّين مَصْدَر يُعَبَّر بِهِ عَنْ جَمْع .
أَيْ بِالْحُجَجِ . وَمِنْ الظُّهُور الْغَلَبَة بِالْيَدِ فِي الْقِتَال ; وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالظُّهُورِ أَلَّا يَبْقَى دِين آخَر مِنْ الْأَدْيَان , بَلْ الْمُرَاد يَكُون أَهْل الْإِسْلَام عَالِينَ غَالِبِينَ . وَمِنْ الْإِظْهَار أَلَّا يَبْقَى دِين سِوَى الْإِسْلَام فِي آخِر الزَّمَان . قَالَ مُجَاهِد : وَذَلِكَ إِذَا نَزَلَ عِيسَى لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْض دِين إِلَّا دِين الْإِسْلَام . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : " لِيُظْهِرهُ عَلَى الدِّين كُلّه " بِخُرُوجِ عِيسَى . وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى كَافِر إِلَّا أَسْلَمَ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِيَنْزِلَن اِبْن مَرْيَم حَكَمًا عَادِلًا فَلْيَكْسِرَن الصَّلِيب وَلْيَقْتُلَن الْخِنْزِير وَلَيَضَعَن الْجِزْيَة وَلَتُتْرَكَن الْقِلَاص فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا وَلَتَذْهَبَن الشَّحْنَاء وَالتَّبَاغُض وَالتَّحَاسُد وَلَيَدْعُوَن إِلَى الْمَال فَلَا يَقْبَلهُ أَحَد ) . وَقِيلَ : " لِيُظْهِرهُ " أَيْ لِيُطْلِع مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِر الْأَدْيَان ; حَتَّى يَكُون عَالِمًا بِهَا عَارِفًا بِوُجُوهِ بُطْلَانهَا , وَبِمَا حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا مِنْهَا . " عَلَى الدِّين " أَيْ الْأَدْيَان ; لِأَنَّ الدِّين مَصْدَر يُعَبَّر بِهِ عَنْ جَمْع .
قَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي عُثْمَان بْن مَظْعُون ; وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَذِنْت لِي فَطَلَّقْت خَوْلَة , وَتَرَهَّبْت وَاخْتَصَيْت وَحَرَّمْت اللَّحْم , وَلَا أَنَام بِلَيْلٍ أَبَدًا , وَلَا أُفْطِر بِنَهَارٍ أَبَدًا ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ سُنَّتِي النِّكَاح وَلَا رَهْبَانِيَّة فِي الْإِسْلَام إِنَّمَا رَهْبَانِيَّة أُمَّتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه وَخِصَاء أُمَّتِي الصَّوْم وَلَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ . وَمِنْ سُنَّتِي أَنَام وَأَقُوم وَأُفْطِر وَأَصُوم فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) . فَقَالَ عُثْمَان : وَاَللَّه لَوَدِدْت يَا نَبِيّ اللَّه أَيّ التِّجَارَات أَحَبّ إِلَى اللَّه فَأَتَّجِر فِيهَا ; فَنَزَلَتْ . وَقِيلَ : " أَدُلّكُمْ " أَيْ سَأَدُلُّكُمْ . وَالتِّجَارَة الْجِهَاد ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ " [ التَّوْبَة : 111 ] الْآيَة . وَهَذَا خِطَاب لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ . وَقِيلَ : لِأَهْلِ الْكِتَاب .
أَيْ تُخَلِّصكُمْ وَقِرَاءَة الْعَامَّة " تُنْجِيكُمْ " بِإِسْكَانِ النُّون مِنْ الْإِنْجَاء . وَقَرَأَ الْحَسَن وَابْن عَامِر وَأَبُو حَيْوَة " تُنَجِّيكُمْ " مُشَدَّدًا مِنْ التَّنْجِيَة .
أَيْ مُؤْلِم .
أَيْ تُخَلِّصكُمْ وَقِرَاءَة الْعَامَّة " تُنْجِيكُمْ " بِإِسْكَانِ النُّون مِنْ الْإِنْجَاء . وَقَرَأَ الْحَسَن وَابْن عَامِر وَأَبُو حَيْوَة " تُنَجِّيكُمْ " مُشَدَّدًا مِنْ التَّنْجِيَة .
أَيْ مُؤْلِم .
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ↓
ذَكَرَ الْأَمْوَال أَوَّلًا لِأَنَّهَا الَّتِي يُبْدَأ بِهَا فِي الْإِنْفَاق . و " تُؤْمِنُونَ " عِنْد الْمُبَرِّد وَالزَّجَّاج فِي مَعْنَى آمَنُوا , وَلِذَلِكَ جَاءَ " يَغْفِر لَكُمْ " مَجْزُومًا عَلَى أَنَّهُ جَوَاب الْأَمْر . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه " آمَنُوا بِاَللَّهِ " وَقَالَ الْفَرَّاء " يَغْفِر لَكُمْ " جَوَاب الِاسْتِفْهَام ; وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحّ عَلَى الْحَمْل عَلَى الْمَعْنَى ; وَذَلِكَ أَنْ يَكُون " تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ , وَتُجَاهِدُونَ " عَطْف بَيَان عَلَى قَوْله : " هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم " كَأَنَّ التِّجَارَة لَمْ يُدْرَ مَا هِيَ ; فَبُيِّنَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَاد ; فَهِيَ هُمَا فِي الْمَعْنَى . فَكَأَنَّهُ قَالَ : هَلْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَتُجَاهِدُونَ يَغْفِر لَكُمْ . الزَّمَخْشَرِيّ : وَجْه قَوْل الْفَرَّاء أَنَّ مُتَعَلِّق الدَّلَالَة هُوَ التِّجَارَة وَالتِّجَارَة مُفَسَّرَة بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَاد . كَأَنَّهُ قِيلَ : هَلْ تَتَّجِرُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَاد يَغْفِر لَكُمْ . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : فَإِنْ لَمْ تُقَدَّر هَذَا التَّقْدِير لَمْ تَصِحّ الْمَسْأَلَة ; لِأَنَّ التَّقْدِير يَصِير إِنْ دَلَلْتُمْ يَغْفِر لَكُمْ ; وَالْغُفْرَان إِنَّمَا نَعْت بِالْقَبُولِ وَالْإِيمَان لَا بِالدَّلَالَةِ . قَالَ الزَّجَّاج : لَيْسَ إِذَا دَلَّهُمْ عَلَى مَا يَنْفَعهُمْ يَغْفِر لَهُمْ ; إِنَّمَا يَغْفِر لَهُمْ إِذَا آمَنُوا وَجَاهَدُوا . وَقَرَأَ زَيْد بْن عَلِيّ " تُؤْمِنُوا " , و " تُجَاهِدُوا " عَلَى إِضْمَار لَام الْأَمْر ; كَقَوْلِهِ : مُحَمَّد تَفْدِ نَفْسك كُلّ نَفْس إِذَا مَا خِفْت مِنْ شَيْء تَبَالًا أَرَادَ لِتَفْدِ . وَأَدْغَمَ بَعْضهمْ فَقَالَ : " يَغْفِر لَكُمْ " وَالْأَحْسَن تَرْك الْإِدْغَام ; لِأَنَّ الرَّاء حَرْف مُتَكَرِّر قَوِيّ فَلَا يَحْسُن إِدْغَامه فِي اللَّام ; لِأَنَّ الْأَقْوَى لَا يُدْغَم فِي الْأَضْعَف .
أَيْ هَذَا الْفِعْل
خَيْر لَكُمْ مِنْ أَمْوَالكُمْ وَأَنْفُسكُمْ " إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ "
أَيْ هَذَا الْفِعْل
خَيْر لَكُمْ مِنْ أَمْوَالكُمْ وَأَنْفُسكُمْ " إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ "
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ↓
خَرَّجَ أَبُو الْحُسَيْن الْآجُرِّيّ عَنْ الْحَسَن قَالَ : سَأَلْت عِمْرَان بْن الْحُصَيْن وَأَبَا هُرَيْرَة عَنْ تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة " وَمَسَاكِن طَيِّبَة " فَقَالَا : عَلَى الْخَبِير سَقَطْت , سَأَلْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ : ( قَصْر مِنْ لُؤْلُؤَة فِي الْجَنَّة فِيهِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَة حَمْرَاء فِي كُلّ دَار سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زَبَرْجَدَة خَضْرَاء فِي كُلّ بَيْت سَبْعُونَ سَرِيرًا عَلَى كُلّ سَرِير سَبْعُونَ فِرَاشًا مِنْ كُلّ لَوْن عَلَى كُلّ فِرَاش سَبْعُونَ اِمْرَأَة مِنْ الْحُور الْعِين فِي كُلّ بَيْت سَبْعُونَ مَائِدَة عَلَى كُلّ مَائِدَة سَبْعُونَ لَوْنًا مِنْ الطَّعَام فِي كُلّ بَيْت سَبْعُونَ وَصِيفًا وَوَصِيفَة فَيُعْطِي اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمُؤْمِن مِنْ الْقُوَّة فِي غَدَاة وَاحِدَة مَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلّه ) . " فِي جَنَّات عَدْن " أَيْ إِقَامَة .
أَيْ السَّعَادَة الدَّائِمَة الْكَبِيرَة . وَأَصْل الْفَوْز الظَّفَر بِالْمَطْلُوبِ .
أَيْ السَّعَادَة الدَّائِمَة الْكَبِيرَة . وَأَصْل الْفَوْز الظَّفَر بِالْمَطْلُوبِ .
قَالَ الْفَرَّاء وَالْأَخْفَش : " أُخْرَى " مَعْطُوفَة عَلَى " تِجَارَة " فَهِيَ فِي مَحَلّ خَفْض . وَقِيلَ : مَحَلّهَا رَفْع أَيْ وَلَكُمْ خَصْلَة أُخْرَى وَتِجَارَة أُخْرَى تُحِبُّونَهَا
أَيْ هُوَ نَصْر مِنْ اللَّه ; ف " نَصْر " عَلَى هَذَا تَفْسِير " وَأُخْرَى " . وَقِيلَ : رَفْع عَلَى الْبَدَل مِنْ " أُخْرَى " أَيْ وَلَكُمْ نَصْر مِنْ اللَّه .
أَيْ غَنِيمَة فِي عَاجِل الدُّنْيَا ; وَقِيلَ فَتْح مَكَّة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد فَتْح فَارِس وَالرُّوم .
بِرِضَا اللَّه عَنْهُمْ .
أَيْ هُوَ نَصْر مِنْ اللَّه ; ف " نَصْر " عَلَى هَذَا تَفْسِير " وَأُخْرَى " . وَقِيلَ : رَفْع عَلَى الْبَدَل مِنْ " أُخْرَى " أَيْ وَلَكُمْ نَصْر مِنْ اللَّه .
أَيْ غَنِيمَة فِي عَاجِل الدُّنْيَا ; وَقِيلَ فَتْح مَكَّة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد فَتْح فَارِس وَالرُّوم .
بِرِضَا اللَّه عَنْهُمْ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ↑
أَكَّدَ أَمْر الْجِهَاد ; أَيْ كُونُوا حَوَارِيِّي نَبِيّكُمْ لِيُظْهِركُمْ اللَّه عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ كَمَا أَظْهَرَ حَوَارِيِّي عِيسَى عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَنَافِع " أَنْصَارًا لِلَّهِ " بِالتَّنْوِينِ . قَالُوا : لِأَنَّ مَعْنَاهُ اُثْبُتُوا وَكُونُوا أَعْوَانًا لِلَّهِ بِالسَّيْفِ عَلَى أَعْدَائِهِ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنْ أَهْل الْبَصْرَة وَالْكُوفَة وَالشَّام " أَنْصَار اللَّه " بِلَا تَنْوِين ; وَحَذَفُوا لَام الْإِضَافَة مِنْ اِسْم اللَّه تَعَالَى . وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَة لِقَوْلِهِ : " نَحْنُ أَنْصَار اللَّه " وَلَمْ يُنَوَّن ; وَمَعْنَاهُ كُونُوا أَنْصَارًا لِدِينِ اللَّه . ثُمَّ قِيلَ : فِي الْكَلَام إِضْمَار ; أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد كُونُوا أَنْصَار اللَّه . وَقِيلَ : هُوَ اِبْتِدَاء خِطَاب مِنْ اللَّه ; أَيْ كُونُوا أَنْصَارًا كَمَا فَعَلَ أَصْحَاب عِيسَى فَكَانُوا بِحَمْدِ اللَّه أَنْصَارًا وَكَانُوا حَوَارِيِّينَ . وَالْحَوَارِيُّونَ خَوَاصّ الرُّسُل . قَالَ مَعْمَر : كَانَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّه ; أَيْ نَصَرُوهُ وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا , وَهُمْ الَّذِينَ بَايَعُوهُ لَيْلَة الْعَقَبَة . وَقِيلَ : هُمْ مِنْ قُرَيْش . وَسَمَّاهُمْ قَتَادَة : أَبَا بَكْر وَعُمَر وَعَلِيّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسَعْد بْن مَالِك وَأَبَا عُبَيْدَة - وَاسْمه عَامِر - وَعُثْمَان بْن مَظْعُون وَحَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب ; وَلَمْ يَذْكُر سَعِيدًا فِيهِمْ , وَذَكَرَ جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَهُمْ أَصْفِيَاؤُهُ اِثْنَا عَشَر رَجُلًا , وَقَدْ مَضَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي " آل عِمْرَان " , وَهُمْ أَوَّل مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ مُقَاتِل : قَالَ اللَّه لِعِيسَى إِذَا دَخَلْت الْقَرْيَة فَأْتِ النَّهْر الَّذِي عَلَيْهِ الْقَصَّارُونَ فَاسْأَلْهُمْ النُّصْرَة , فَأَتَاهُمْ عِيسَى وَقَالَ : مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه ؟ قَالُوا : نَحْنُ نَنْصُرك . فَصَدَّقُوهُ وَنَصَرُوهُ .
أَيْ مَنْ أَنْصَارِي مَعَ اللَّه , كَمَا تَقُول : الذَّوْد إِلَى الذَّوْد إِبِل , أَيْ مَعَ الذَّوْد . وَقِيلَ : أَيْ مَنْ أَنْصَارِي فِيمَا يُقَرِّب إِلَى اللَّه . " قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه " وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي آل عِمْرَان "
وَالطَّائِفَتَانِ فِي زَمَن عِيسَى اِفْتَرَقُوا بَعْد رَفْعه إِلَى السَّمَاء , عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " آل عِمْرَان " بَيَانه .
" فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوّهُمْ " الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى . " فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ " أَيْ غَالِبِينَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيَّدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا فِي زَمَن عِيسَى بِإِظْهَارِ مُحَمَّد عَلَى دِين الْكُفَّار . وَقَالَ مُجَاهِد : أُيِّدُوا فِي زَمَانهمْ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِعِيسَى . وَقِيلَ أَيَّدْنَا الْآن الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفِرْقَتَيْنِ الضَّالَّتَيْنِ , مَنْ قَالَ كَانَ اللَّه فَارْتَفَعَ , وَمَنْ قَالَ كَانَ اِبْن اللَّه فَرَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ ; لِأَنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم لَمْ يُقَاتِل أَحَدًا وَلَمْ يَكُنْ فِي دِين أَصْحَابه بَعْده قِتَال . وَقَالَ زَيْد بْن عَلِيّ وَقَتَادَة : " فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ " غَالِبِينَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَان ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَا رُوِيَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَنَام وَاَللَّه لَا يَنَام , وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يَأْكُل وَاَللَّه تَعَالَى لَا يَأْكُل ! . وَقِيلَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي رُسُل عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : وَكَانَ الَّذِي بَعَثَهُمْ عِيسَى مِنْ الْحَوَارِيِّينَ وَالْأَتْبَاع بُطْرُس وبولس إِلَى رُومِيَّة , واندراييس وَمَشَى إِلَى الْأَرْض الَّتِي يَأْكُل أَهْلهَا النَّاس . وتوماس إِلَى أَرْض بَابِل مِنْ أَرْض الْمَشْرِق . وفيلبس إِلَى قَرْطَاجَنَّة وَهِيَ أَفْرِيقِيَّة . وَيُحَنَّس إِلَى دقسوس قَرْيَة أَهْل الْكَهْف . ويعقوبس إِلَى أُورْشَلِيم وَهِيَ بَيْت الْمَقْدِس , . وَابْن تلما إِلَى العرابية وَهِيَ أَرْض الْحِجَاز . وسيمن إِلَى أَرْض الْبَرْبَر . وَيَهُودَا وبردس إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَمَا حَوْلهَا . فَأَيَّدَهُمْ اللَّه بِالْحُجَّةِ . " فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ " أَيْ عَالِينَ ; مِنْ قَوْلك : ظَهَرْت عَلَى الْحَائِط أَيْ عَلَوْت عَلَيْهِ . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ , وَإِلَيْهِ الْمَرْجِع وَالْمَآب .
وَهُمْ أَصْفِيَاؤُهُ اِثْنَا عَشَر رَجُلًا , وَقَدْ مَضَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي " آل عِمْرَان " , وَهُمْ أَوَّل مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ مُقَاتِل : قَالَ اللَّه لِعِيسَى إِذَا دَخَلْت الْقَرْيَة فَأْتِ النَّهْر الَّذِي عَلَيْهِ الْقَصَّارُونَ فَاسْأَلْهُمْ النُّصْرَة , فَأَتَاهُمْ عِيسَى وَقَالَ : مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه ؟ قَالُوا : نَحْنُ نَنْصُرك . فَصَدَّقُوهُ وَنَصَرُوهُ .
أَيْ مَنْ أَنْصَارِي مَعَ اللَّه , كَمَا تَقُول : الذَّوْد إِلَى الذَّوْد إِبِل , أَيْ مَعَ الذَّوْد . وَقِيلَ : أَيْ مَنْ أَنْصَارِي فِيمَا يُقَرِّب إِلَى اللَّه . " قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه " وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي آل عِمْرَان "
وَالطَّائِفَتَانِ فِي زَمَن عِيسَى اِفْتَرَقُوا بَعْد رَفْعه إِلَى السَّمَاء , عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " آل عِمْرَان " بَيَانه .
" فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوّهُمْ " الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى . " فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ " أَيْ غَالِبِينَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيَّدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا فِي زَمَن عِيسَى بِإِظْهَارِ مُحَمَّد عَلَى دِين الْكُفَّار . وَقَالَ مُجَاهِد : أُيِّدُوا فِي زَمَانهمْ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِعِيسَى . وَقِيلَ أَيَّدْنَا الْآن الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفِرْقَتَيْنِ الضَّالَّتَيْنِ , مَنْ قَالَ كَانَ اللَّه فَارْتَفَعَ , وَمَنْ قَالَ كَانَ اِبْن اللَّه فَرَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ ; لِأَنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم لَمْ يُقَاتِل أَحَدًا وَلَمْ يَكُنْ فِي دِين أَصْحَابه بَعْده قِتَال . وَقَالَ زَيْد بْن عَلِيّ وَقَتَادَة : " فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ " غَالِبِينَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَان ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَا رُوِيَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَنَام وَاَللَّه لَا يَنَام , وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يَأْكُل وَاَللَّه تَعَالَى لَا يَأْكُل ! . وَقِيلَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي رُسُل عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : وَكَانَ الَّذِي بَعَثَهُمْ عِيسَى مِنْ الْحَوَارِيِّينَ وَالْأَتْبَاع بُطْرُس وبولس إِلَى رُومِيَّة , واندراييس وَمَشَى إِلَى الْأَرْض الَّتِي يَأْكُل أَهْلهَا النَّاس . وتوماس إِلَى أَرْض بَابِل مِنْ أَرْض الْمَشْرِق . وفيلبس إِلَى قَرْطَاجَنَّة وَهِيَ أَفْرِيقِيَّة . وَيُحَنَّس إِلَى دقسوس قَرْيَة أَهْل الْكَهْف . ويعقوبس إِلَى أُورْشَلِيم وَهِيَ بَيْت الْمَقْدِس , . وَابْن تلما إِلَى العرابية وَهِيَ أَرْض الْحِجَاز . وسيمن إِلَى أَرْض الْبَرْبَر . وَيَهُودَا وبردس إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَمَا حَوْلهَا . فَأَيَّدَهُمْ اللَّه بِالْحُجَّةِ . " فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ " أَيْ عَالِينَ ; مِنْ قَوْلك : ظَهَرْت عَلَى الْحَائِط أَيْ عَلَوْت عَلَيْهِ . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ , وَإِلَيْهِ الْمَرْجِع وَالْمَآب .