يَجُوز أَنْ تَكُون " لَا " زَائِدَة , كَمَا تَقَدَّمَ فِي " لَا أُقْسِم بِيَوْمِ الْقِيَامَة " [ الْقِيَامَة : 1 ] قَالَهُ الْأَخْفَش . أَيْ أُقْسِم ; لِأَنَّهُ قَالَ : " بِهَذَا الْبَلَد " وَقَدْ أَقْسَمَ بِهِ فِي قَوْله : " وَهَذَا الْبَلَد الْأَمِين " [ التِّين : 3 ] فَكَيْف يُجْحَد الْقَسَم بِهِ وَقَدْ أَقْسَمَ بِهِ . قَالَ الشَّاعِر : تَذَكَّرْت لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ أَيْ يَتَقَطَّعُ , وَدَخَلَ حَرْف " لَا " صِلَة وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد إِذْ أَمَرْتُكَ " [ الْأَعْرَاف : 12 ] بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي [ ص ] : " مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد " . [ ص : 75 ] . وَقَرَأَ الْحَسَن وَالْأَعْمَش وَابْن كَثِير " لَأُقْسِم " مِنْ غَيْر أَلِف بَعْد اللَّام إِثْبَاتًا . وَأَجَازَ الْأَخْفَش أَيْضًا أَنْ تَكُون بِمَعْنَى " أَلَا " . وَقِيلَ : لَيْسَتْ بِنَفْيِ الْقَسَم , وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَب : لَا وَاَللَّهِ لَا فَعَلْت كَذَا , وَلَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ كَذَا , وَلَا وَاَللَّه لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . وَقِيلَ : هِيَ نَفْي صَحِيح وَالْمَعْنَى : لَا أُقْسِم بِهَذَا الْبَلَد إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ , بَعْد خُرُوجك مِنْهُ . حَكَاهُ مَكِّيّ . وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد قَالَ : " لَا " رَدّ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا اِخْتِيَار اِبْن الْعَرَبِيّ ; لِأَنَّهُ قَالَ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا رَدّ , فَهُوَ قَوْل لَيْسَ لَهُ رَدّ ; لِأَنَّهُ يَصِحّ بِهِ الْمَعْنَى , وَيَتَمَكَّن اللَّفْظ وَالْمُرَاد . فَهُوَ رَدّ لِكَلَامِ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْث ثُمَّ اِبْتَدَأَ الْقَسَم . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : قَوْله " لَا " رَدّ لِمَا تَوَهَّمَ الْإِنْسَان الْمَذْكُور فِي هَذِهِ السُّورَة , الْمَغْرُور بِالدُّنْيَا . أَيْ لَيْسَ الْأَمْر كَمَا يَحْسَبُهُ , مِنْ أَنَّهُ لَنْ يَقْدِر عَلَيْهِ أَحَد , ثُمَّ اِبْتَدَأَ الْقَسَم . و " الْبَلَد " : هِيَ مَكَّة , أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . أَيْ أُقْسِمَ بِالْبَلَدِ الْحَرَام الَّذِي أَنْتَ فِيهِ , لِكَرَامَتِك عَلَيَّ وَحُبِّي لَك . وَقَالَ الْوَاسِطِيّ أَيْ نَحْلِف لَك بِهَذَا الْبَلَد الَّذِي شَرَّفْته بِمَكَانِك فِيهِ حَيًّا , وَبَرَكَتك مَيِّتًا , يَعْنِي الْمَدِينَة . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; لِأَنَّ السُّورَة نَزَلَتْ بِمَكَّة بِاتِّفَاقٍ .
يَعْنِي فِي الْمُسْتَقْبَل مِثْل قَوْله تَعَالَى : " إِنَّك مَيِّت وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ " . وَمِثْله وَاسِع فِي كَلَام الْعَرَب . تَقُول لِمَنْ تَعِدُهُ الْإِكْرَام وَالْحِبَاء : أَنْتَ مُكْرَم مَحْبُوّ . وَهُوَ فِي كَلَام اللَّه وَاسِع ; لِأَنَّ الْأَحْوَال الْمُسْتَقْبَلَة عِنْده كَالْحَاضِرَةِ الْمُشَاهَدَة وَكَفَاك دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِقْبَالِ , وَأَنَّ تَفْسِيره بِالْحَالِ مُحَال : أَنَّ السُّورَة بِاتِّفَاقٍ مَكِّيَّةٌ قَبْلَ الْفَتْحِ . فَرَوَى مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد : " وَأَنْتَ حِلّ " قَالَ : مَا صَنَعْت فِيهِ مِنْ شَيْء فَأَنْتَ فِي حِلّ . وَكَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : أُحِلَّ لَهُ يَوْم دَخَلَ مَكَّة أَنْ يَقْتُل مَنْ شَاءَ , فَقَتَلَ اِبْن خَطَل وَمِقْيَس بْن صُبَابَة وَغَيْرهمَا . وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاس أَنْ يَقْتُل بِهَا أَحَدًا بَعْد رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى السُّدِّيّ قَالَ : أَنْتَ فِي حِلّ مِمَّنْ قَاتَلَك أَنْ تَقْتُلهُ . وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَة مِنْ نَهَار , ثُمَّ أُطْبِقَتْ وَحُرِّمَتْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَذَلِكَ يَوْم فَتْح مَكَّة . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : [ إِنَّ اللَّه حَرَّمَ مَكَّة يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض , فَهِيَ حَرَام إِلَى أَنْ تَقُوم السَّاعَة , فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي , وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي , وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ] الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " الْمَائِدَة " اِبْن زَيْد : لَمْ يَكُنْ بِهَا أَحَد حَلَالًا غَيْر النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَقِيلَ : وَأَنْتَ مُقِيم فِيهِ وَهُوَ مَحِلّك . وَقِيلَ : وَأَنْتَ فِيهِ مُحْسِن , وَأَنَا عَنْك فِيهِ رَاضٍ . وَذَكَرَ أَهْل اللُّغَة أَنَّهُ يُقَال : رَجُل حِلّ وَحَلَال وَمُحِلّ , وَرَجُل حَرَام وَمُحِلّ , وَرَجُل حَرَام وَمُحْرِم . وَقَالَ قَتَادَة : أَنْتَ حِلّ بِهِ : لَسْت بِآثِمٍ . وَقِيلَ : هُوَ ثَنَاء عَلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ إِنَّك غَيْر مُرْتَكِب فِي هَذَا الْبَلَد مَا يَحْرُم عَلَيْك اِرْتِكَابه , مَعْرِفَة مِنْك بِحَقِّ هَذَا الْبَيْت لَا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الْكُفْر بِاَللَّهِ فِيهِ . أَيْ أُقْسِم بِهَذَا الْبَيْت الْمُعَظَّم الَّذِي قَدْ عَرَفْت حُرْمَته , فَأَنْتَ مُقِيم فِيهِ مُعَظِّم لَهُ , غَيْر مُرْتَكِب فِيهِ مَا يَحْرُم عَلَيْك . وَقَالَ شُرَحْبِيل بْن سَعْد : " وَأَنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَد " أَيْ حَلَال أَيْ هُمْ يُحَرِّمُونَ مَكَّة أَنْ يَقْتُلُوا بِهَا صَيْدًا أَوْ يَعْضُدُوا بِهَا شَجَرَة , ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا يَسْتَحِلُّونَ إِخْرَاجَك وَقَتْلَك .
قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن وَأَبُو صَالِح : " وَوَالِد " آدَم : عَلَيْهِ السَّلَام . " وَمَا وَلَدَ " أَيْ وَمَا نُسِلَ مِنْ وَلَده . أَقْسَمَ بِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَعْجَبُ مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى عَلَى وَجْه الْأَرْض لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبَيَان وَالنُّطْق وَالتَّدْبِير , وَفِيهِمْ الْأَنْبِيَاء وَالدُّعَاة إِلَى اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : هُوَ إِقْسَام بِآدَم وَالصَّالِحِينَ مِنْ ذُرِّيَّته , وَأَمَّا غَيْر الصَّالِحِينَ فَكَأَنَّهُمْ بَهَائِم . وَقِيلَ : الْوَالِد إِبْرَاهِيم . وَمَا وَلَد : ذُرِّيَّته قَالَ أَبُو عِمْرَان الْجَوْنِيّ . ثُمَّ يَحْتَمِل أَنَّهُ يُرِيد جَمِيع ذُرِّيَّته . وَيَحْتَمِل أَنَّهُ يُرِيد الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّته . قَالَ الْفَرَّاء : وَصَلَحَتْ " مَا " لِلنَّاسِ كَقَوْلِهِ : " مَا طَابَ لَكُمْ " [ النِّسَاء : 3 ] وَكَقَوْلِهِ : " وَمَا خَلَقَ الذَّكَر وَالْأُنْثَى " [ اللَّيْل : 3 ] وَهُوَ الْخَالِق لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى , وَقِيلَ : " مَا " مَعَ مَا بَعْدهَا فِي مَوْضِع الْمَصْدَر أَيْ وَوَالِد وَوِلَادَته كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا " . وَقَالَ عِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر : " وَوَالِد " يَعْنِي الَّذِي يُولَد لَهُ , " وَمَا وَلَدَ " يَعْنِي الْعَاقِر الَّذِي لَا يُولَد لَهُ وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس . و " مَا " عَلَى هَذَا نَفْي . وَهُوَ بَعِيد وَلَا يَصِحّ إِلَّا بِإِضْمَارِ الْمَوْصُول أَيْ وَوَالِد وَاَلَّذِي مَا وَلَدَ , وَذَلِكَ لَا يَجُوز عِنْد الْبَصْرِيِّينَ . وَقِيلَ : هُوَ عُمُوم فِي كُلّ وَالِد وَكُلّ مَوْلُود قَالَهُ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ . وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَيَحْتَمِل أَنَّ الْوَالِد النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَقَدُّمِ ذِكْره , وَمَا وَلَدَ أُمَّته : لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : [ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِد أُعَلِّمُكُمْ ] . فَأَقْسَمَ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ بَعْد أَنْ أَقْسَمَ بِبَلَدِهِ مُبَالَغَة فِي تَشْرِيفه عَلَيْهِ السَّلَام .
إِلَى هُنَا اِنْتَهَى الْقَسَم وَهَذَا جَوَابه . وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِم بِمَا يَشَاء مِنْ مَخْلُوقَاته لِتَعْظِيمِهَا , كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْإِنْسَان هُنَا اِبْن آدَم . " فِي كَبَد " أَيْ فِي شِدَّة وَعَنَاء مِنْ مُكَابَدَة الدُّنْيَا . وَأَصْل الْكَبَد الشِّدَّة . وَمِنْهُ تَكَبَّدَ اللَّبَن : غَلُظَ وَخَثَرَ وَاشْتَدَّ . وَمِنْهُ الْكَبِد ; لِأَنَّهُ دَم تَغَلَّظَ وَاشْتَدَّ . وَيُقَال : كَابَدْت هَذَا الْأَمْر : قَاسَيْت شِدَّته : قَالَ لَبِيد : يَا عَيْن هَلَّا بَكَيْت أَرْبَدَ إِذْ قُمْنَا وَقَامَ الْخُصُومُ فِي كَبَد قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن : " فِي كَبَد " أَيْ فِي شِدَّة وَنَصَب . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : فِي شِدَّة مِنْ حَمَلَهُ وَوِلَادَته وَرَضَاعه وَنَبْت أَسْنَانه , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْوَاله . وَرَوَى عِكْرِمَة عَنْهُ قَالَ : مُنْتَصِبًا فِي بَطْن أُمّه . وَالْكَبَد : الِاسْتِوَاء وَالِاسْتِقَامَة . فَهَذَا اِمْتِنَان عَلَيْهِ فِي الْخِلْقَة . وَلَمْ يَخْلُق اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ دَابَّة فِي بَطْن أُمّهَا إِلَّا مُنْكَبَّةً عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا اِبْن آدَم , فَإِنَّهُ مُنْتَصِبٌ اِنْتِصَابًا وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيّ وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . اِبْن كَيْسَان : مُنْتَصِبًا رَأْسه فِي بَطْن أُمّه فَإِذَا أَذِنَ اللَّه أَنْ يَخْرُج مِنْ بَطْن أُمّه قَلَبَ رَأْسَهُ إِلَى رِجْلَيْ أُمّه . وَقَالَ الْحَسَن : يُكَابِد مَصَائِب الدُّنْيَا وَشَدَائِد الْآخِرَة . وَعَنْهُ أَيْضًا : يُكَابِد الشُّكْر عَلَى السَّرَّاء وَيُكَابِد الصَّبْر عَلَى الضَّرَّاء ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدهمَا . وَرَوَاهُ اِبْن عُمَر . وَقَالَ يَمَان : لَمْ يَخْلُق اللَّه خَلْقًا يُكَابِد مَا يُكَابِد اِبْن آدَم وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَضْعَف الْخَلْق . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَوَّل مَا يُكَابِد قَطْع سُرَّتِهِ , ثُمَّ إِذَا قُمِطَ قِمَاطًا , وَشَدَّ رِبَاطًا , يُكَابِد الضِّيق وَالتَّعَب , ثُمَّ يُكَابِد الِارْتِضَاع , وَلَوْ فَاتَهُ لَضَاعَ , ثُمَّ يُكَابِد نَبْت أَسْنَانِهِ , وَتَحَرُّك لِسَانه , ثُمَّ يُكَابِد الْفِطَام , الَّذِي هُوَ أَشَدّ مِنْ اللِّطَام , ثُمَّ يُكَابِد الْخِتَان , وَالْأَوْجَاع وَالْأَحْزَان , ثُمَّ يُكَابِد الْمُعَلِّمَ وَصَوْلَتَهُ , وَالْمُؤَدِّبَ وَسِيَاسَتَهُ , وَالْأُسْتَاذَ وَهَيْبَتَهُ , ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْل التَّزْوِيج وَالتَّعْجِيل فِيهِ , ثُمَّ يُكَابِد شُغْل الْأَوْلَاد , وَالْخَدَم وَالْأَجْنَاد , ثُمَّ يُكَابِد شُغْل الدُّور , وَبِنَاء الْقُصُور , ثُمَّ الْكِبَر وَالْهَرَم , وَضَعْف الرُّكْبَة وَالْقَدَم , فِي مَصَائِبَ يَكْثُر تَعْدَادهَا , وَنَوَائِبَ يَطُولُ إِيرَادهَا , مِنْ صُدَاع الرَّأْس , وَوَجَع الْأَضْرَاس , وَرَمَد الْعَيْن , وَغَمّ الدَّيْن , وَوَجَع السِّنّ , وَأَلَم الْأُذُن . وَيُكَابِد مِحَنًا فِي الْمَال وَالنَّفْس , مِثْل الضَّرْب وَالْحَبْس , وَلَا يَمْضِي عَلَيْهِ يَوْم إِلَّا يُقَاسِي فِيهِ شِدَّة , وَلَا يُكَابِد إِلَّا مَشَقَّة , ثُمَّ الْمَوْت بَعْد ذَلِكَ كُلّه , ثُمَّ مُسَاءَلَة الْمَلَك , وَضَغْطَة الْقَبْر وَظُلْمَته ثُمَّ الْبَعْث وَالْعَرْض عَلَى اللَّه , إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ الْقَرَار , إِمَّا فِي الْجَنَّة وَإِمَّا فِي النَّار قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان فِي كَبَد " , فَلَوْ كَانَ الْأَمْر إِلَيْهِ لَمَّا اِخْتَارَ هَذِهِ الشَّدَائِد . وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا دَبَّرَهُ , وَقَضَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَحْوَال فَلْيَمْتَثِلْ أَمْره . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْإِنْسَان هُنَا آدَم . وَقَوْله : " فِي كَبَد " أَيْ فِي وَسَط السَّمَاء . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَجُل مِنْ بَنِي جُمَح كَانَ يُقَال لَهُ أَبُو الْأَشَدَّيْنِ , وَكَانَ يَأْخُذ الْأَدِيم الْعُكَاظِيّ فَيَجْعَلهُ تَحْت قَدَمَيْهِ , فَيَقُول : مَنْ أَزَالَنِي عَنْهُ فَلَهُ كَذَا . فَيَجْذِبُهُ عَشْرَة حَتَّى يَتَمَزَّق وَلَا تَزُول قَدَمَاهُ وَكَانَ مِنْ أَعْدَاء النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ نَزَلَ " أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِر عَلَيْهِ أَحَد " [ الْبَلَد : 5 ] يَعْنِي : لِقُوَّتِهِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس . " فِي كَبَد " أَيْ شَدِيدًا , يَعْنِي شَدِيد الْخَلْق وَكَانَ مِنْ أَشَدّ رِجَال قُرَيْش . وَكَذَلِكَ رُكَانَة اِبْن هِشَام بْن عَبْد الْمُطَّلِب , وَكَانَ مَثَلًا فِي الْبَأْس وَالشِّدَّة . وَقِيلَ : " فِي كَبَد " أَيْ جَرِيء الْقَلْب , غَلِيظ الْكَبِد , مَعَ ضَعْف خِلْقَته , وَمُهَانَة مَادَّته . اِبْن عَطَاء : فِي ظُلْمَة وَجَهْل . التِّرْمِذِيّ : مُضَيِّعًا مَا يَعْنِيه , مُشْتَغِلًا بِمَا لَا يَعْنِيه .
أَيْ أَيَظُنُّ اِبْن آدَم أَنْ لَنْ يُعَاقِبَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ
أَيْ أَنْفَقْت .
أَيْ كَثِيرًا مُجْتَمِعًا . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " مَالًا لُبَّدًا " بِتَشْدِيدِ الْبَاء مَفْتُوحَة , عَلَى جَمْع لَا بُدّ مِثْل رَاكِع وَرُكَّع , وَسَاجِد وَسُجَّد , وَشَاهِد وَشُهَّد , وَنَحْوه . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَحُمَيْد بِضَمِّ الْبَاء وَاللَّام مُخَفَّفًا , جَمْع لُبُود . الْبَاقُونَ بِضَمِّ اللَّام وَكَسْرهَا وَفَتْح الْبَاء مُخَفَّفًا , جَمْع لُبْدَة وَلِبْدَة , وَهُوَ مَا تَلَبَّدَ يُرِيد الْكَثْرَة . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْجِنّ " الْقَوْل فِيهِ .
أَيْ كَثِيرًا مُجْتَمِعًا . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " مَالًا لُبَّدًا " بِتَشْدِيدِ الْبَاء مَفْتُوحَة , عَلَى جَمْع لَا بُدّ مِثْل رَاكِع وَرُكَّع , وَسَاجِد وَسُجَّد , وَشَاهِد وَشُهَّد , وَنَحْوه . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَحُمَيْد بِضَمِّ الْبَاء وَاللَّام مُخَفَّفًا , جَمْع لُبُود . الْبَاقُونَ بِضَمِّ اللَّام وَكَسْرهَا وَفَتْح الْبَاء مُخَفَّفًا , جَمْع لُبْدَة وَلِبْدَة , وَهُوَ مَا تَلَبَّدَ يُرِيد الْكَثْرَة . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْجِنّ " الْقَوْل فِيهِ .
" أَيَحْسَبُ " أَيْ أَيَظُنُّ . " أَنْ لَمْ يَرَهُ " أَيْ أَنْ لَمْ يُعَايِنْهُ " أَحَد " بَلْ عَلِمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ , فَكَانَ كَاذِبًا فِي قَوْله : أَهْلَكْت وَلَمْ يَكُنْ أَنْفَقَهُ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ : يُوقَف الْعَبْد , فَيُقَال مَاذَا عَمِلْت فِي الْمَال الَّذِي رَزَقْتُك ؟ فَيَقُول : أَنْفَقْته وَزَكَّيْته . فَيُقَال : كَأَنَّك إِنَّمَا فَعَلْت ذَلِكَ لِيُقَالَ سَخِيّ , فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ . ثُمَّ يُؤْمَر بِهِ إِلَى النَّار . وَعَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَة : إِنَّك مَسْئُول عَنْ مَالِك مِنْ أَيْنَ جَمَعْت ؟ وَكَيْف أَنْفَقْت ؟ وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ أَبُو الْأَشَدَّيْنِ يَقُول : أَنْفَقْت فِي عَدَاوَة مُحَمَّد مَالًا كَثِيرًا وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَاذِب . وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي الْحَارِث بْن عَامِر بْن نَوْفَل , أَذْنَبَ فَاسْتَفْتَى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفُر . فَقَالَ : لَقَدْ ذَهَبَ مَالِي فِي الْكَفَّارَات وَالنَّفَقَات , مُنْذُ دَخَلْت فِي دِين مُحَمَّد . وَهَذَا الْقَوْل مِنْهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِسْتِطَالَة بِمَا أَنْفَقَ , فَيَكُون طُغْيَانًا مِنْهُ , أَوْ أَسَفًا عَلَيْهِ , فَيَكُون نَدَمًا مِنْهُ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأ " أَيَحْسُبُ " بِضَمِّ السِّين فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَقَالَ الْحَسَن : يَقُول أَتْلَفْت مَالًا كَثِيرًا , فَمَنْ يُحَاسِبُنِي بِهِ , دَعْنِي أَحْسِبهُ . أَلَمْ يَعْلَم أَنَّ اللَّه قَادِر عَلَى مُحَاسَبَته , وَأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَرَى صَنِيعَهُ .
ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ فَقَالَ : " أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ " يُبْصِر بِهِمَا .
" وَلِسَانًا " يَنْطِق بِهِ . " وَشَفَتَيْنِ " يَسْتُر بِهِمَا ثَغْره . وَالْمَعْنَى : نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ , وَنَحْنُ نَقْدِر عَلَى أَنْ نَبْعَثَهُ وَنُحْصِيَ عَلَيْهِ مَا عَمِلَهُ . وَقَالَ أَبُو حَازِم : قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : يَا اِبْن آدَم , إِنْ نَازَعَك لِسَانك فِيمَا حَرَّمْت عَلَيْك , فَقَدْ أَعَنْتُك عَلَيْهِ بِطَبَقَيْنِ , فَأَطْبِقْ وَإِنْ نَازَعَك بَصَرك فِيمَا حَرَّمْت عَلَيْك , فَقَدْ أَعَنْتُك عَلَيْهِ بِطَبَقَيْنِ , فَأَطْبِقْ وَإِنَّ نَازَعَك فَرْجُك إِلَى مَا حَرَّمْت عَلَيْك , فَقَدْ أَعَنْتُك عَلَيْهِ بِطَبَقَيْنِ , فَأَطْبِقْ ) . وَالشَّفَة : أَصْلهَا شَفَهَة , حُذِفَتْ مِنْهَا الْهَاء , وَتَصْغِيرهَا : شُفَيْهَة , وَالْجَمْع : شِفَاه . وَيُقَال : شَفَهَات وَشَفَوات , وَالْهَاء أَقْيَس , وَالْوَاو أَعَمُّ , تَشْبِيهًا بِالسَّنَوَاتِ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : يُقَال هَذِهِ شَفَة فِي الْوَصْل وَشَفَه , بِالتَّاءِ وَالْهَاء . وَقَالَ قَتَادَة : نِعَم اللَّه ظَاهِرَة , يُقَرِّرُك بِهَا حَتَّى تَشْكُر .
يَعْنِي الطَّرِيقَيْنِ : طَرِيق الْخَيْر وَطَرِيق الشَّرّ . أَيْ بَيَّنَّاهُمَا لَهُ بِمَا أَرْسَلْنَاهُ مِنْ الرُّسُل . وَالنَّجْد . الطَّرِيق فِي اِرْتِفَاع . وَهَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَغَيْرهمَا . وَرَوَى قَتَادَة قَالَ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُول : ( يَا أَيّهَا النَّاس , إِنَّمَا هُمَا النَّجْدَانِ : نَجْد الْخَيْر , وَنَجْد الشَّرّ , فَلِمَ تَجْعَل نَجْد الشَّرّ أَحَبَّ إِلَيْك مِنْ نَجْد الْخَيْر ) . وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : النَّجْدَانِ : الثَّدْيَانِ . وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالضَّحَّاك , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَلِيّ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ; لِأَنَّهُمَا كَالطَّرِيقَيْنِ لِحَيَاةِ الْوَلَد وَرِزْقه . فَالنَّجْد : الْعُلُوّ , وَجَمْعه نُجُود وَمِنْهُ سُمِّيَتْ " نَجْد " , لِارْتِفَاعِهَا عَنْ اِنْخِفَاض تِهَامَة . فَالنَّجْدَانِ : الطَّرِيقَانِ الْعَالِيَانِ . قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : فَرِيقَانِ مِنْهُمْ جَازِعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ وَآخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
أَيْ فَهَلَّا أَنْفَقَ مَاله الَّذِي يَزْعُم أَنَّهُ أَنْفَقَهُ فِي عَدَاوَة مُحَمَّد , هَلَّا أَنْفَقَهُ لِاقْتِحَامِ الْعَقَبَة فَيَأْمَن وَالِاقْتِحَام : الرَّمْي بِالنَّفْسِ فِي شَيْء مِنْ غَيْر رَوِيَّة يُقَال مِنْهُ : قَحَمَ فِي الْأَمْر قُحُومًا : أَيْ رَمَى بِنَفْسِهِ فِيهِ مِنْ غَيْر رَوِيَّة . وَقَحَمَ الْفَرَس فَارِسَهُ . تَقْحِيمًا عَلَى وَجْهِهِ : إِذَا رَمَاهُ . وَتَقْحِيم النَّفْس فِي الشَّيْء : إِدْخَالُهَا فِيهِ مِنْ غَيْر رَوِيَّة . وَالْقُحْمَة بِالضَّمِّ الْمُهْلِكَة , وَالسَّنَة الشَّدِيدَة . يُقَال : أَصَابَتْ الْأَعْرَاب الْقُحْمَة : إِذَا أَصَابَهُمْ قَحْط , فَدَخَلُوا الرِّيف . وَالْقُحَم : صِعَاب الطَّرِيق . وَقَالَ الْفَرَّاء وَالزَّجَّاج : وَذُكِرَ " لَا " مَرَّة وَاحِدَة , وَالْعَرَب لَا تَكَاد تُفْرِد " لَا " مَعَ الْفِعْل الْمَاضِي فِي مِثْل هَذَا الْمَوْضِع , حَتَّى يُعِيدُوهَا فِي كَلَام آخَر كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَا صَدَقَ وَلَا صَلَّى " [ الْقِيَامَة : 31 ] " وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " . وَإِنَّمَا أَفْرَدُوهَا لِدَلَالَةِ آخِر الْكَلَام عَلَى مَعْنَاهُ فَيَجُوز أَنْ يَكُون قَوْله : " ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا " [ الْبَلَد : 17 ] قَائِمًا مَقَام التَّكْرِير كَأَنَّهُ قَالَ : فَلَا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة وَلَا آمَنَ . وَقِيلَ : هُوَ جَارٍ مَجْرَى الدُّعَاء كَقَوْلِهِ : لَا نَجَا وَلَا سَلِمَ . وَقَالَ : مَعْنَى " فَلَا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة " أَيْ فَلَمْ يَقْتَحِم الْعَقَبَة , كَقَوْلِ زُهَيْر : وَكَانَ طَوَى كَشْحًا عَلَى مُسْتَكِنَّةٍ فَلَا هُوَ أَبَدَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمِ أَيْ فَلَمْ يُبِدْهَا وَلَمْ يَتَقَدَّم . وَكَذَا قَالَ الْمُبَرِّد وَأَبُو عَلِيّ : " لَا " : بِمَعْنَى لَمْ . وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ مُجَاهِد . أَيْ فَلَمْ يَقْتَحِمْ الْعَقَبَة فِي الدُّنْيَا , فَلَا يَحْتَاج إِلَى التَّكْرِير . ثُمَّ فَسَّرَ الْعَقَبَة وَرُكُوبهَا فَقَالَ " فَكّ رَقَبَة " وَكَذَا وَكَذَا فَبَيَّنَ وُجُوهًا مِنْ الْقُرَب الْمَالِيَّة . وَقَالَ اِبْن زَيْد وَجَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : مَعْنَى الْكَلَام الِاسْتِفْهَام الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَار تَقْدِيره : أَفَلَا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة أَوْ هَلَّا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة . يَقُول : هَلَّا أَنْفَقَ مَاله فِي فَكّ الرِّقَاب , وَإِطْعَام السَّغْبَان , لِيُجَاوِز بِهِ الْعَقَبَة , فَيَكُون خَيْرًا لَهُ مِنْ إِنْفَاقه فِي عَدَاوَة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قِيلَ : اِقْتِحَام الْعَقَبَة هَاهُنَا ضَرْب مَثَلٍ , أَيْ هَلْ تَحَمَّلَ عِظَامَ الْأُمُور فِي إِنْفَاق مَاله فِي طَاعَة رَبّه , وَالْإِيمَان بِهِ . وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيق بِقَوْلِ مَنْ حَمَلَ " فَلَا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة " عَلَى الدُّعَاء أَيْ فَلَا نَجَا وَلَا سَلِمَ مَنْ لَمْ يُنْفِق مَاله فِي كَذَا وَكَذَا . وَقِيلَ : شَبَّهَ عِظَم الذُّنُوب وَثِقَلهَا وَشِدَّتهَا بِعَقَبَةٍ , فَإِذَا أَعْتَقَ رَقَبَة وَعَمِلَ صَالِحًا , كَانَ مَثَله كَمِثْلِ مَنْ اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة , وَهِيَ الذُّنُوب الَّتِي تَضُرّهُ وَتُؤْذِيهِ وَتُثْقِلُهُ . قَالَ اِبْن عُمَر : هَذِهِ الْعَقَبَة جَبَل فِي جَهَنَّم . وَعَنْ أَبِي رَجَاء قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ الْعَقَبَة مِصْعَدهَا سَبْعَة آلَاف سَنَة , وَمَهْبِطهَا سَبْعَة آلَاف سَنَة . وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : هِيَ عَقَبَة شَدِيدَة فِي النَّار دُون الْجِسْر , فَاقْتَحِمُوهَا بِطَاعَةِ اللَّه . وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَالْكَلْبِيّ : هِيَ الصِّرَاط يُضْرَب عَلَى جَهَنَّم كَحَدِّ السَّيْف , مَسِيرَة ثَلَاثَة آلَاف سَنَة , سَهْلًا وَصُعُودًا وَهُبُوطًا . وَاقْتِحَامُهُ عَلَى الْمُؤْمِن كَمَا بَيْنَ صَلَاة الْعَصْر إِلَى الْعِشَاء . وَقِيلَ : اِقْتِحَامه عَلَيْهِ قَدْر مَا يُصَلِّي صَلَاة الْمَكْتُوبَة . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ وَرَاءَنَا عَقَبَةً , أَنْجَى النَّاس مِنْهَا أَخَفُّهُمْ حِمْلًا . وَقِيلَ : النَّار نَفْسهَا هِيَ الْعَقَبَة . فَرَوَى أَبُو رَجَاء عَنْ الْحَسَن قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّهُ مَا مِنْ مُسْلِم يُعْتِق رَقَبَة إِلَّا كَانَتْ فِدَاءَهُ مِنْ النَّار . وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة أَعْتَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , عَنْ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : [ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة أَعْتَقَ اللَّه بِكُلِّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنْ النَّار , حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ ] . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَغَيْره مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : [ أَيُّمَا اِمْرِئٍ مُسْلِم أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِمًا , كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّار , يُجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ , وَأَيّمَا اِمْرَأَة مُسْلِمَة أَعْتَقَتْ اِمْرَأَة مُسْلِمَة , كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ النَّار , يُجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْهَا ] . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب . وَقِيلَ : الْعَقَبَة خَلَاصه مِنْ هَوْل الْعَرْض . وَقَالَ قَتَادَة وَكَعْب : هِيَ نَار دُون الْجِسْر . وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ وَاَللَّه عَقَبَة شَدِيدَة : مُجَاهَدَة الْإِنْسَان نَفْسه وَهَوَاهُ وَعَدُوّهُ الشَّيْطَان . وَأَنْشَدَ بَعْضهمْ : إِنِّي بُلِيت بِأَرْبَعٍ يَرْمِينَنِي بِالنَّبْلِ قَدْ نَصَبُوا عَلَيَّ شِرَاكَا إِبْلِيس وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى مِنْ أَيْنَ أَرْجُو بَيْنَهُنَّ فِكَاكَا يَا رَبّ سَاعِدْنِي بِعَفْوٍ إِنَّنِي أَصْبَحْت لَا أَرْجُو لَهُنَّ سِوَاكَا
فِيهِ حَذْف , أَيْ وَمَا أَدْرَاك مَا اِقْتِحَام الْعَقَبَة . وَهَذَا تَعْظِيم لِالْتِزَامِ أَمْر الدِّين وَقَالَ سُفْيَان اِبْن عُيَيْنَة : كُلّ شَيْء قَالَ فِيهِ " وَمَا أَدْرَاك " ؟ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ , وَكُلّ شَيْء قَالَ فِيهِ " وَمَا يُدْرِيك " ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْبِر بِهِ .
وَالْخِطَاب لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعْلِمَهُ اِقْتِحَام الْعَقَبَة . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَحَمَلَ الْعَقَبَة عَلَى عَقَبَة جَهَنَّم بَعِيد إِذْ أَحَد فِي الدُّنْيَا لَمْ يَقْتَحِم عَقَبَة جَهَنَّم إِلَّا أَنْ يُحْمَل عَلَى أَنَّ الْمُرَاد فَهَلَّا صَيَّرَ نَفْسه بِحَيْثُ يُمْكِنهُ اِقْتِحَام عَقَبَة جَهَنَّم غَدًا . وَاخْتَارَ الْبُخَارِيّ قَوْل مُجَاهِد : إِنَّهُ لَمْ يَقْتَحِم الْعَقَبَة فِي الدُّنْيَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَإِنَّمَا اِخْتَارَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَالَ بَعْد ذَلِكَ فِي الْآيَة الثَّانِيَة : " وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَة " ؟ ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَة الثَّالِثَة : " فَكّ رَقَبَة " , وَفِي الْآيَة الرَّابِعَة " أَوْ إِطْعَام فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة " , ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَة الْخَامِسَة : " يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَة " , ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَة السَّادِسَة : " أَوْ مِسْكَيْنَا ذَا مَتْرَبَة " فَهَذِهِ الْأَعْمَال إِنَّمَا تَكُون فِي الدُّنْيَا . الْمَعْنَى : فَلَمْ يَأْتِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُسَهِّل عَلَيْهِ سُلُوك الْعَقَبَة فِي الْآخِرَة .
وَالْخِطَاب لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعْلِمَهُ اِقْتِحَام الْعَقَبَة . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَحَمَلَ الْعَقَبَة عَلَى عَقَبَة جَهَنَّم بَعِيد إِذْ أَحَد فِي الدُّنْيَا لَمْ يَقْتَحِم عَقَبَة جَهَنَّم إِلَّا أَنْ يُحْمَل عَلَى أَنَّ الْمُرَاد فَهَلَّا صَيَّرَ نَفْسه بِحَيْثُ يُمْكِنهُ اِقْتِحَام عَقَبَة جَهَنَّم غَدًا . وَاخْتَارَ الْبُخَارِيّ قَوْل مُجَاهِد : إِنَّهُ لَمْ يَقْتَحِم الْعَقَبَة فِي الدُّنْيَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَإِنَّمَا اِخْتَارَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَالَ بَعْد ذَلِكَ فِي الْآيَة الثَّانِيَة : " وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَة " ؟ ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَة الثَّالِثَة : " فَكّ رَقَبَة " , وَفِي الْآيَة الرَّابِعَة " أَوْ إِطْعَام فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة " , ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَة الْخَامِسَة : " يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَة " , ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَة السَّادِسَة : " أَوْ مِسْكَيْنَا ذَا مَتْرَبَة " فَهَذِهِ الْأَعْمَال إِنَّمَا تَكُون فِي الدُّنْيَا . الْمَعْنَى : فَلَمْ يَأْتِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُسَهِّل عَلَيْهِ سُلُوك الْعَقَبَة فِي الْآخِرَة .
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " فَكّ رَقَبَة " فَكّهَا : خَلَاصهَا مِنْ الْأَسْر . وَقِيلَ : مِنْ الرِّقّ . وَفِي الْحَدِيث : [ وَفَكّ الرَّقَبَة أَنْ تُعِين فِي ثَمَنهَا ] . مِنْ حَدِيث الْبَرَاء , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " التَّوْبَة " . وَالْفَكّ : هُوَ حَلّ الْقَيْد وَالرِّقّ قَيْد . وَسُمِّيَ الْمَرْقُوق رَقَبَة ; لِأَنَّهُ بِالرِّقِّ كَالْأَسِيرِ الْمَرْبُوط فِي رَقَبَته . وَسُمِّيَ عُنُقهَا فَكًّا كَفَكِّ الْأَسِير مِنْ الْأَسْر . قَالَ حَسَّان : كَمْ مِنْ أَسِير فَكَكْنَاهُ بِلَا ثَمَن وَجَزّ نَاصِيَة كُنَّا مَوَالِيهَا وَرَوَى عُقْبَة بْن عَامِر الْجُهَنِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : [ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة مُؤْمِنَة كَانَتْ فِدَاءَهُ مِنْ النَّار ] قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَيَحْتَمِل ثَانِيًا أَنَّهُ أَرَادَ فَكَّ رَقَبَته وَخَلَاص نَفْسه , بِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي , وَفِعْل الطَّاعَات وَلَا يَمْتَنِع الْخَبَر مِنْ هَذَا التَّأْوِيل , وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " رَقَبَة " قَالَ أَصْبَغ : الرَّقَبَة الْكَافِرَة ذَات الثَّمَن أَفْضَل فِي الْعِتْق مِنْ الرَّقَبَة الْمُؤْمِنَة الْقَلِيلَة الثَّمَن لِقَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ أَيّ الرِّقَاب أَفْضَل ؟ قَالَ : [ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسهَا عِنْد أَهْلهَا ] . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْمُرَاد فِي هَذَا الْحَدِيث : مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَلِيلِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : [ مَنْ أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِمًا ] وَ [ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة مُؤْمِنَة ] . وَمَا ذَكَرَهُ أَصْبَغ وَهْلَة وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى تَنْقِيص الْمَال , وَالنَّظَر إِلَى تَجْرِيد الْمُعْتَق لِلْعِبَادَةِ , وَتَفْرِيغه لِلتَّوْحِيدِ , أَوْلَى .
الثَّالِثَة : الْعِتْق وَالصَّدَقَة مِنْ أَفْضَل الْأَعْمَال . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة : أَنَّ الْعِتْق أَفْضَل مِنْ الصَّدَقَة . وَعِنْد صَاحِبَيْهِ الصَّدَقَة أَفْضَل . وَالْآيَة أَدَلُّ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَة لِتَقْدِيمِ الْعِتْق عَلَى الصَّدَقَة . وَعَنْ الشَّعْبِيّ فِي رَجُل عِنْده فَضْل نَفَقَة : أَيَضَعُهُ فِي ذِي قَرَابَة أَوْ يُعْتِق رَقَبَة ؟ قَالَ : الرَّقَبَة أَفْضَل ; لِأَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : [ مَنْ فَكَّ رَقَبَة فَكَّ اللَّه بِكُلِّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْ النَّار ] .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " رَقَبَة " قَالَ أَصْبَغ : الرَّقَبَة الْكَافِرَة ذَات الثَّمَن أَفْضَل فِي الْعِتْق مِنْ الرَّقَبَة الْمُؤْمِنَة الْقَلِيلَة الثَّمَن لِقَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ أَيّ الرِّقَاب أَفْضَل ؟ قَالَ : [ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسهَا عِنْد أَهْلهَا ] . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْمُرَاد فِي هَذَا الْحَدِيث : مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَلِيلِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : [ مَنْ أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِمًا ] وَ [ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة مُؤْمِنَة ] . وَمَا ذَكَرَهُ أَصْبَغ وَهْلَة وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى تَنْقِيص الْمَال , وَالنَّظَر إِلَى تَجْرِيد الْمُعْتَق لِلْعِبَادَةِ , وَتَفْرِيغه لِلتَّوْحِيدِ , أَوْلَى .
الثَّالِثَة : الْعِتْق وَالصَّدَقَة مِنْ أَفْضَل الْأَعْمَال . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة : أَنَّ الْعِتْق أَفْضَل مِنْ الصَّدَقَة . وَعِنْد صَاحِبَيْهِ الصَّدَقَة أَفْضَل . وَالْآيَة أَدَلُّ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَة لِتَقْدِيمِ الْعِتْق عَلَى الصَّدَقَة . وَعَنْ الشَّعْبِيّ فِي رَجُل عِنْده فَضْل نَفَقَة : أَيَضَعُهُ فِي ذِي قَرَابَة أَوْ يُعْتِق رَقَبَة ؟ قَالَ : الرَّقَبَة أَفْضَل ; لِأَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : [ مَنْ فَكَّ رَقَبَة فَكَّ اللَّه بِكُلِّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْ النَّار ] .
أَيْ مَجَاعَة . وَالسَّغَب : الْجُوع . وَالسَّاغِب الْجَائِع . وَقَرَأَ الْحَسَن " أَوْ إِطْعَام فِي يَوْم ذَا مَسْغَبَة " بِالْأَلِفِ فِي " ذَا " - وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة : فَلَوْ كُنْت جَارًا يَا اِبْن قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ لَمَا بِتَّ شَبْعَانًا وَجَارُك سَاغِبًا وَإِطْعَام الطَّعَام فَضِيلَة , وَهُوَ مَعَ السَّغَب الَّذِي هُوَ الْجُوع أَفْضَل . وَقَالَ النَّخَعِيّ فِي قَوْله تَعَالَى : " أَوْ إِطْعَام فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة " قَالَ : فِي يَوْم عَزِيز فِيهِ الطَّعَام . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : [ مِنْ مُوجِبَات الرَّحْمَة إِطْعَام الْمُسْلِم السَّغْبَان ] .
أَيْ قَرَابَة . يُقَال : فُلَان ذُو قَرَابَتِي وَذُو مَقْرَبَتِي . يُعْلِمك أَنَّ الصَّدَقَة عَلَى الْقَرَابَة أَفْضَل مِنْهَا عَلَى غَيْر الْقَرَابَة , كَمَا أَنَّ الصَّدَقَة عَلَى الْيَتِيم الَّذِي لَا كَافِل لَهُ أَفْضَل مِنْ الصَّدَقَة عَلَى الْيَتِيم الَّذِي يَجِد مَنْ يَكْفُلهُ . وَأَهْل اللُّغَة يَقُولُونَ : سُمِّيَ يَتِيمًا لِضَعْفِهِ . يُقَال : يَتِمَ الرَّجُل يُتْمًا : إِذَا ضَعُفَ . وَذَكَرُوا أَنَّ الْيَتِيم فِي النَّاس مِنْ قِبَل الْأَب . وَفِي الْبَهَائِم مِنْ قِبَل الْأُمَّهَات . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى , وَقَالَ بَعْض أَهْل اللُّغَة : الْيَتِيم الَّذِي يَمُوت أَبَوَاهُ . وَقَالَ قَيْس بْن الْمُلَوَّح : إِلَى اللَّهِ أَشْكُو فَقْدَ لَيْلَى كَمَا شَكَا إِلَى اللَّهِ فَقْدَ الْوَالِدَيْنِ يَتِيمُ
أَيْ لَا شَيْء لَهُ , حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ لَصِقَ بِالتُّرَابِ مِنْ الْفَقْر , لَيْسَ لَهُ مَأْوًى إِلَّا التُّرَاب . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الْمَطْرُوح عَلَى الطَّرِيق , الَّذِي لَا بَيْت لَهُ . مُجَاهِد : هُوَ الَّذِي لَا يَقِيهِ مِنْ التُّرَاب لِبَاس وَلَا غَيْره . وَقَالَ قَتَادَة : إِنَّهُ ذُو الْعِيَال . عِكْرِمَة : الْمَدْيُون . أَبُو سِنَان : ذُو الزَّمَانَة . اِبْن جُبَيْر : الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَحَد . وَرَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : ذُو الْمَتْرَبَة الْبَعِيد التُّرْبَة يَعْنِي الْغَرِيب الْبَعِيد عَنْ وَطَنه . وَقَالَ أَبُو حَامِد الْخَارْزَنْجِيّ : الْمَتْرَبَة هُنَا : مِنْ التَّرَيُّب وَهِيَ شِدَّة الْحَال . يُقَال تَرِبَ : إِذَا اِفْتَقَرَ . قَالَ الْهُذَلِيّ : وَكُنَّا إِذَا مَا الضَّيْف حَلَّ بِأَرْضِنَا سَفَكْنَا دِمَاءَ الْبُدْنِ فِي تُرْبَةِ الْحَالِ وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَالْكِسَائِيّ : " فَكَّ " بِفَتْحِ الْكَاف , عَلَى الْفِعْل الْمَاضِي . " رَقَبَةً " نَصَبًا لِكَوْنِهَا مَفْعُولًا " أَوْ أَطْعَمَ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة و نَصْب الْمِيم , مِنْ غَيْر أَلِف , عَلَى الْفِعْل الْمَاضِي أَيْضًا لِقَوْلِهِ : " ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا " فَهَذَا أَشْكَلَ ب " فَكّ أَوْ إِطْعَام " . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ : " فَكّ " رَفْعًا , عَلَى أَنَّهُ مَصْدَر فَكَكْت . " رَقَبَة " خَفْض بِالْإِضَافَةِ . " أَوْ إِطْعَام " بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَأَلِف وَرَفْع الْمِيم وَتَنْوِينِهَا عَلَى الْمَصْدَر أَيْضًا . وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم ; لِأَنَّهُ تَفْسِير لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَة " ؟ ثُمَّ أَخْبَرَهُ فَقَالَ : " فَكّ رَقَبَة أَوْ إِطْعَام " . الْمَعْنَى : اِقْتِحَام الْعَقَبَة : فَكّ رَقَبَة أَوْ إِطْعَام . وَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى أَيْ وَلَا فَكَّ رَقَبَةً , وَلَا أَطْعَمَ فِي يَوْم ذَا مَسْغَبَة فَكَيْف يُجَاوِز الْعَقَبَة . وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو رَجَاء : " ذَا مَسْغَبَة " بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول " إِطْعَام " أَيْ يُطْعِمُونَ ذَا مَسْغَبَة و " يَتِيمًا " بَدَل مِنْهُ . الْبَاقُونَ " ذِي مَسْغَبَة " فَهُوَ صِفَة لِ " يَوْم " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون قِرَاءَة النَّصْب صِفَة لِمَوْضِعِ الْجَارّ وَالْمَجْرُور ; لِأَنَّ قَوْله : " فِي يَوْم " ظَرْف مَنْصُوب الْمَوْضِع , فَيَكُون وَصْفًا لَهُ عَلَى الْمَعْنَى دُون اللَّفْظ .
يَعْنِي : أَنَّهُ لَا يَقْتَحِم الْعَقَبَة مِنْ فَكّ رَقَبَة , أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْم ذَا مَسْغَبَة , حَتِّي يَكُون مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ صَدَقُوا , فَإِنَّ شَرْط قَبُول الطَّاعَات الْإِيمَان بِاَللَّهِ . فَالْإِيمَان بِاَللَّهِ بَعْد الْإِنْفَاق لَا يَنْفَع , بَلْ يَجِب أَنْ تَكُون الطَّاعَة مَصْحُوبَة بِالْإِيمَانِ , قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ : " وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَل مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ " . [ التَّوْبَة : 54 ] . وَقَالَتْ عَائِشَة : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ اِبْن جُدْعَان كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يَصِل الرَّحِم , وَيُطْعِم الطَّعَام , وَيَفُكّ الْعَانِي , وَيُعْتِق الرِّقَاب , وَيَحْمِل عَلَى إِبِلِهِ لِلَّهِ , فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا ؟ قَالَ : [ لَا , إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين ] . وَقِيلَ : " ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا " أَيْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاء وَهُوَ مُؤْمِن , ثُمَّ بَقِيَ عَلَى إِيمَانه حَتَّى الْوَفَاة نَظِيره قَوْله تَعَالَى : " وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اِهْتَدَى " [ طه : 82 ] . وَقِيلَ : الْمَعْنَى ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ هَذَا نَافِع لَهُمْ عِنْد اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : أَتَى بِهَذِهِ الْقُرَب لِوَجْهِ اللَّه , ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ حَكِيم بْن حِزَام بَعْدَمَا أَسْلَمَ , يَا رَسُول اللَّه , إِنَّا كُنَّا نَتَحَنَّثُ بِأَعْمَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّة , فَهَلْ لَنَا مِنْهَا شَيْء ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : [ أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ الْخَيْر ] . وَقِيلَ : إِنَّ " ثُمَّ " بِمَعْنَى الْوَاو أَيْ وَكَانَ هَذَا الْمُعْتِق الرَّقَبَةِ , وَالْمُطْعِم فِي الْمَسْغَبَة , مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا .
أَيْ أَوْصَى بَعْضهمْ بَعْضًا .
أَيْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَة اللَّه , وَعَنْ مَعَاصِيهِ وَعَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْبَلَاء وَالْمَصَائِب .
بِالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْق فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَحِمُوا الْيَتِيم وَالْمِسْكِين .
أَيْ أَوْصَى بَعْضهمْ بَعْضًا .
أَيْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَة اللَّه , وَعَنْ مَعَاصِيهِ وَعَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْبَلَاء وَالْمَصَائِب .
بِالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْق فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَحِمُوا الْيَتِيم وَالْمِسْكِين .
أَيْ الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ وَغَيْره . وَقَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام : لِأَنَّهُمْ مَيَامِين عَلَى أَنْفُسهمْ . اِبْن زَيْد : لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ شِقّ آدَم الْأَيْمَن . وَقِيلَ : لِأَنَّ مَنْزِلَتهمْ عَنْ الْيَمِين قَالَهُ مَيْمُون بْن مِهْرَان .
أَيْ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ .
أَيْ يَأْخُذُونَ كُتُبهمْ بِشَمَائِلِهِمْ قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب . يَحْيَى بْن سَلَّام : لِأَنَّهُمْ مَشَائِيم عَلَى أَنْفُسهمْ . اِبْن زَيْد : لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ شِقّ آدَم الْأَيْسَر . مَيْمُون : لِأَنَّ مَنْزِلَتَهُمْ عَنْ الْيَسَار .
قُلْت : وَيَجْمَع هَذِهِ الْأَقْوَال أَنْ يُقَال : إِنَّ أَصْحَاب الْمَيْمَنَة أَصْحَاب الْجَنَّة , وَأَصْحَاب الْمَشْأَمَة أَصْحَاب النَّار قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَأَصْحَاب الْيَمِين مَا أَصْحَاب الْيَمِين , فِي سِدْر مَخْضُود " , وَقَالَ : " وَأَصْحَاب الشِّمَال مَا أَصْحَاب الشِّمَال . فِي سَمُوم وَحَمِيم " [ الْوَاقِعَة : 41 - 42 ] . وَمَا كَانَ مِثْله .
أَيْ يَأْخُذُونَ كُتُبهمْ بِشَمَائِلِهِمْ قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب . يَحْيَى بْن سَلَّام : لِأَنَّهُمْ مَشَائِيم عَلَى أَنْفُسهمْ . اِبْن زَيْد : لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ شِقّ آدَم الْأَيْسَر . مَيْمُون : لِأَنَّ مَنْزِلَتَهُمْ عَنْ الْيَسَار .
قُلْت : وَيَجْمَع هَذِهِ الْأَقْوَال أَنْ يُقَال : إِنَّ أَصْحَاب الْمَيْمَنَة أَصْحَاب الْجَنَّة , وَأَصْحَاب الْمَشْأَمَة أَصْحَاب النَّار قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَأَصْحَاب الْيَمِين مَا أَصْحَاب الْيَمِين , فِي سِدْر مَخْضُود " , وَقَالَ : " وَأَصْحَاب الشِّمَال مَا أَصْحَاب الشِّمَال . فِي سَمُوم وَحَمِيم " [ الْوَاقِعَة : 41 - 42 ] . وَمَا كَانَ مِثْله .
وَمَعْنَى " مُؤْصَدَة " أَيْ مُطْبَقَة مُغْلَقَة . قَالَ : تَحِنّ إِلَى جِبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي وَمِنْ دُونِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَهْ وَقِيلَ : مُبْهَمَة , لَا يُدْرَى مَا دَاخِلهَا . وَأَهْل اللُّغَة يَقُولُونَ : أَوْصَدْت الْبَاب وَآصَدْتُهُ أَيْ أَغْلَقْته . فَمَنْ قَالَ أَوْصَدْت , فَالِاسْم الْوِصَاد , وَمِنْ قَالَ آصَدْتُهُ , فَالِاسْم الْإِصَاد . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَفْص وَحَمْزَة وَيَعْقُوب وَالشَّيْزَرِيّ عَنْ الْكِسَائِيّ " مُؤْصَدَة " بِالْهَمْزِ هُنَا , وَفِي " الْهَمْزَة " . الْبَاقُونَ بِلَا هَمْز . وَهُمَا لُغَتَانِ . وَعَنْ أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش قَالَ : لَنَا إِمَامٌ يَهْمِزُ " مُؤْصَدَة "