الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5
فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىسورة طه الآية رقم 121
وَقَالَ الْفَرَّاء : " وَطَفِقَا " فِي الْعَرَبِيَّة أَقْبَلَا ; قَالَ وَقِيلَ : جَعَلَ يُلْصِقَانِ عَلَيْهِمَا وَرَق التِّين . " وَطَفِقَا " وَيَجُوز إِسْكَان الْفَاء . وَحَكَى الْأَخْفَش طَفَقَ يَطْفِق ; مِثْل ضَرَبَ يَضْرِب . يُقَال : طَفِقَ , أَيْ أَخَذَ فِي الْفِعْل . " يَخْصِفَانِ " وَقَرَأَ الْحَسَن بِكَسْرِ الْخَاء وَشَدّ الصَّاد . وَالْأَصْل " يَخْتَصِفَانِ " فَأُدْغِمَ , وَكُسِرَ الْخَاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . وَقَرَأَ اِبْن بُرَيْدَة وَيَعْقُوب بِفَتْحِ الْخَاء , أَلْقَيَا حَرَكَة التَّاء عَلَيْهَا . وَيَجُوز " يُخَصِّفَانِ " بِضَمِّ الْيَاء , مِنْ خَصَّفَ يُخَصِّف . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ " يُخْصِفَانِ " مِنْ أَخْصَفَ . وَكِلَاهُمَا مَنْقُول بِالْهَمْزَةِ أَوْ التَّضْعِيف وَالْمَعْنَى : يَقْطَعَانِ الْوَرَق وَيُلْزِقَانِهِ لِيَسْتَتِرَا بِهِ , وَمِنْهُ خَصَفَ النَّعْل . وَالْخَصَّاف الَّذِي يُرَقِّعهَا . وَالْمِخْصَف الْمِثْقَب . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ وَرَق التِّين . وَيُرْوَى أَنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا بَدَتْ سَوْأَته وَظَهَرَتْ عَوْرَته طَافَ عَلَى أَشْجَار الْجَنَّة يَسُلّ مِنْهَا وَرَقَة يُغَطِّي بِهَا عَوْرَته ; فَزَجَرَتْهُ أَشْجَار الْجَنَّة حَتَّى رَحِمَتْهُ شَجَرَة التِّين فَأَعْطَتْهُ وَرَقَة . " فَطَفِقَا " يَعْنِي آدَم وَحَوَّاء " يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَق الْجَنَّة " فَكَافَأَ اللَّه التِّين بِأَنْ سَوَّى ظَاهِره وَبَاطِنه فِي الْحَلَاوَة وَالْمَنْفَعَة وَأَعْطَاهُ ثَمَرَتَيْنِ فِي عَام وَاحِد مَرَّتَيْنِ .

وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى قُبْح كَشْف الْعَوْرَة , وَأَنَّ اللَّه أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا السَّتْر ; وَلِذَلِكَ اِبْتَدَرَا إِلَى سَتْرهَا , وَلَا يَمْتَنِع أَنْ يُؤْمَرَا بِذَلِكَ فِي الْجَنَّة ; كَمَا قِيلَ لَهُمَا : " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة " . وَقَدْ حَكَى صَاحِب الْبَيَان عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِد مَا يَسْتُر بِهِ عَوْرَته إِلَّا وَرَق الشَّجَر لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَتِر بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ سُتْرَة ظَاهِرَة يُمْكِنهُ التَّسَتُّر بِهَا ; كَمَا فَعَلَ آدَم فِي الْجَنَّة . وَاَللَّه أَعْلَم .


" وَعَصَى " تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِي ذُنُوب الْأَنْبِيَاء قَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَال : إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِوُقُوعِ ذُنُوب مِنْ بَعْضهمْ , وَنَسَبَهَا إِلَيْهِمْ , وَعَاتَبَهُمْ عَلَيْهَا , وَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ عَنْ نُفُوسهمْ وَتَنَصَّلُوا مِنْهَا , وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهَا وَتَابُوا , وَكُلّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة لَا يَقْبَل التَّأْوِيل جُمْلَتهَا , وَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ آحَادهَا , وَكُلّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ , وَإِنَّمَا تِلْكَ الْأُمُور الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُمْ عَلَى جِهَة النُّدُور , وَعَلَى جِهَة الْخَطَأ وَالنِّسْيَان , أَوْ تَأْوِيل دَعَا إِلَى ذَلِكَ , فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرهمْ حَسَنَات , وَفَى حَقّهمْ سَيِّئَات بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنَاصِبهمْ , وَعُلُوّ أَقْدَارهمْ ; إِذْ قَدْ يُؤَاخَذ الْوَزِير بِمَا يُثَاب عَلَيْهِ السَّائِس ; فَأَشْفَقُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْقِف الْقِيَامَة , مَعَ عِلْمهمْ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَان وَالسَّلَامَة . قَالَ : وَهَذَا هُوَ الْحَقّ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْجُنَيْد حَيْثُ قَالَ : حَسَنَات الْأَبْرَار سَيِّئَات الْمُقَرَّبِينَ ; فَهُمْ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ - وَإِنْ كَانُوا قَدْ شَهِدَتْ النُّصُوص بِوُقُوعِ ذُنُوب مِنْهُمْ , فَلَمْ يُخِلّ ذَلِكَ بِمَنَاصِبِهِمْ , وَلَا قَدَحَ فِي رُتْبَتهمْ , بَلْ قَدْ تَلَافَاهُمْ , وَاجْتَبَاهُمْ وَهَدَاهُمْ , وَمَدَحَهُمْ وَزَكَّاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ ; صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ وَسَلَامه .

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : لَا يَجُوز لِأَحَدٍ مِنَّا الْيَوْم أَنْ يُخْبِر بِذَلِكَ عَنْ آدَم إِلَّا إِذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاء قَوْله تَعَالَى عَنْهُ , أَوْ قَوْل نَبِيّه , فَأَمَّا أَنْ يَبْتَدِئ ذَلِكَ مِنْ قِبَل نَفْسه فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنِينَ إِلَيْنَا , الْمُمَاثِلِينَ لَنَا , فَكَيْفَ فِي أَبِينَا الْأَقْدَم الْأَعْظَم الْأَكْرَم النَّبِيّ الْمُقَدَّم , الَّذِي عَذَرَهُ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى وَتَابَ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ . قُلْت : وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَخْلُوق لَا يَجُوز , فَالْإِخْبَار عَنْ صِفَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَالْإِصْبَع وَالْجَنْب وَالنُّزُول إِلَى غَيْر ذَلِكَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ , وَأَنَّهُ لَا يَجُوز الِابْتِدَاء بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَثْنَاء قِرَاءَة كِتَابه أَوْ سُنَّة رَسُوله , وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَام مَالِك بْن أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِثْل قَوْله : " وَقَالَتْ الْيَهُود يَد اللَّه مَغْلُولَة " [ الْمَائِدَة 64 ] فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عُنُقه قُطِعَتْ يَده , وَكَذَلِكَ فِي السَّمْع وَالْبَصَر يُقْطَع ذَلِكَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ شَبَّهَ اللَّه تَعَالَى بِنَفْسِهِ .

رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ [ لِمُسْلِم ] عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " اِحْتَجَّ آدَم وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى يَا آدَم أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتنَا وَأَخْرَجْتنَا مِنْ الْجَنَّة فَقَالَ آدَم يَا مُوسَى اِصْطَفَاك اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك بِيَدِهِ يَا مُوسَى : أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْر قَدَّرَهُ اللَّه عَلَيَّ قَبْل أَنْ يَخْلُقنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَة فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا " قَالَ الْمُهَلِّب قَوْله : " فَحَجَّ آدَم مُوسَى " أَيْ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ . قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد إِنَّمَا صَحَّتْ الْحُجَّة فِي هَذِهِ الْقِصَّة لِآدَم عَلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام مِنْ أَجْل أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِآدَم خَطِيئَته وَتَابَ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَكُنْ لِمُوسَى أَنْ يُعَيِّرهُ بِخَطِيئَةٍ قَدْ غَفَرَهَا اللَّه تَعَالَى لَهُ , وَلِذَلِكَ قَالَ آدَم : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَتَاك اللَّه التَّوْرَاة , وَفِيهَا عِلْم كُلّ شَيْء , فَوَجَدْت فِيهَا أَنَّ اللَّه قَدْ قَدَّرَ عَلَيَّ الْمَعْصِيَة , وَقَدَّرَ عَلَيَّ التَّوْبَة مِنْهَا , وَأَسْقَطَ بِذَلِكَ اللَّوْم عَنِّي أَفَتَلُومنِي أَنْتَ وَاَللَّه لَا يَلُومنِي وَبِمِثْلِ هَذَا اِحْتَجَّ اِبْن عُمَر عَلَى الَّذِي قَالَ لَهُ : إِنَّ عُثْمَان فَرَّ يَوْم أُحُد ; فَقَالَ اِبْن عُمَر : مَا عَلَى عُثْمَان ذَنْب لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ عَفَا عَنْهُ بِقَوْلِهِ : " وَلَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهُمْ " [ آل عِمْرَان 155 ] وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام أَب وَلَيْسَ تَعْيِيره مِنْ بِرّه أَنْ لَوْ كَانَ مِمَّا يُعَيَّر بِهِ غَيْره ; فَإِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُول فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ : " وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا " [ لُقْمَان 15 ] وَلِهَذَا إِنَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُوهُ وَهُوَ كَافِر : " لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّك وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَام عَلَيْك " [ مَرْيَم 46 ] فَكَيْفَ بِأَبٍ هُوَ نَبِيّ قَدْ اجْتَبَاهُ رَبّه وَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى .

وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ الْخَطَايَا وَلَمْ تَأْتِهِ الْمَغْفِرَة ; فَإِنَّ الْعُلَمَاء مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَحْتَجّ بِمِثْلِ حُجَّة آدَم , فَيَقُول تَلُومنِي عَلَى أَنْ قَتَلْت أَوْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت وَقَدْ قَدَّرَ اللَّه عَلَيَّ ذَلِكَ ; وَالْأُمَّة مُجْمِعَة عَلَى جَوَاز حَمْد الْمُحْسِن عَلَى إِحْسَانه , وَلَوْم الْمُسِيء عَلَى إِسَاءَته , وَتَعْدِيد ذُنُوبه عَلَيْهِ .

قَولُه تَعَالَى : " فَغَوَى " أَيْ فَفَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشه , حَكَاهُ النَّقَّاش وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيّ . وَسَمِعْت شَيْخنَا الْأُسْتَاذ الْمُقْرِئ أَبَا جَعْفَر الْقُرْطُبِيّ يَقُول " فَغَوَى " فَفَسَدَ عَيْشه بِنُزُولِهِ إِلَى الدُّنْيَا , وَالْغَيّ الْفَسَاد ; وَهُوَ تَأْوِيل حَسَن وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيل مَنْ يَقُول : " فَغَوَى " مَعْنَاهُ ضَلَّ ; مِنْ الْغَيّ الَّذِي هُوَ ضِدّ الرُّشْد . وَقِيلَ مَعْنَاهُ جَهِلَ مَوْضِع رُشْده ; أَيْ جَهِلَ أَنَّ تِلْكَ الشَّجَرَة هِيَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا ; وَالْغَيّ الْجَهْل . وَعَنْ بَعْضهمْ " فَغَوَى " فَبَشِمَ مِنْ كَثْرَة الْأَكْل ; الزَّمَخْشَرِيّ وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ عَلَى لُغَة مَنْ يَقْلِب الْيَاء الْمَكْسُورَة مَا قَبْلهَا أَلِفًا ; فَيَقُول فِي فَنِيَ وَبَقِيَ فَنَى وَبَقَى وَهُمْ بَنُو طَيّ تَفْسِير خَبِيث .

قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر قَالَ قَوْم يُقَال : عَصَى آدَم وَغَوَى وَلَا يُقَال لَهُ عَاصٍ وَلَا غَاوٍ , كَمَا أَنَّ مَنْ خَاطَ مَرَّة يُقَال لَهُ : خَاطٍ وَلَا يُقَال لَهُ خَيَّاط مَا لَمْ يَتَكَرَّر مِنْهُ الْخِيَاطَة . وَقِيلَ يَجُوز لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطْلِق فِي عَبْده عِنْد مَعْصِيَته مَا لَا يَجُوز لِغَيْرِهِ أَنْ يُطْلِقهُ , وَهَذَا تَكَلُّف ; وَمَا أُضِيفَ مِنْ هَذَا إِلَى الْأَنْبِيَاء فَإِمَّا أَنْ تَكُون صَغَائِر , أَوْ تَرْك الْأَوْلَى , أَوْ قَبْل النُّبُوَّة . قُلْت : هَذَا حَسَن .
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىسورة طه الآية رقم 122
قَالَ الْإِمَام أَبُو بَكْر بْن فَوْرَك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى : كَانَ هَذَا مِنْ آدَم قَبْل النُّبُوَّة , " ثُمَّ اِجْتَبَاهُ رَبّه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى " فَذَكَرَ أَنَّ الِاجْتِبَاء وَالْهِدَايَة كَانَا بَعْد الْعِصْيَان , وَإِذَا كَانَ هَذَا قَبْل النُّبُوَّة فَجَائِز عَلَيْهِمْ الذُّنُوب وَجْهًا وَاحِدًا ; لِأَنَّ قَبْل النُّبُوَّة لَا شَرْع عَلَيْنَا تَصْدِيقهمْ , فَإِذَا بَعَثَهُمْ اللَّه تَعَالَى إِلَى خَلْقه وَكَانُوا مَأْمُونِينَ فِي الْأَدَاء مَعْصُومِينَ لَمْ يَضُرّ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ الذُّنُوب . وَهَذَا نَفِيس وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَىسورة طه الآية رقم 123
خِطَاب آدَم وَإِبْلِيس . " مِنْهَا " أَيْ مِنْ الْجَنَّة . وَقَدْ قَالَ لِإِبْلِيس : " اُخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا " [ الْأَعْرَاف 18 ] فَلَعَلَّهُ أُخْرِجَ مِنْ الْجَنَّة إِلَى مَوْضِع مِنْ السَّمَاء , ثُمَّ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْض .


تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " أَيْ أَنْتَ عَدُوّ لِلْحَيَّةِ وَلِإِبْلِيس وَهُمَا عَدُوَّانِ لَك . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ قَوْله " اِهْبِطَا " لَيْسَ خِطَابًا لِآدَم وَحَوَّاء ; لِأَنَّهُمَا مَا كَانَا مُتَعَادِيَيْنِ ; وَتَضَمَّنَ هُبُوط آدَم هُبُوط حَوَّاء .


أَيْ رُشْدًا وَقَوْلًا حَقًّا . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " .


يَعْنِي الرُّسُل وَالْكُتُب .


قَالَ اِبْن عَبَّاس : ضَمِنَ اللَّه تَعَالَى لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآن وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلَّا يَضِلّ فِي الدُّنْيَا , وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَة , وَتَلَا الْآيَة . مَنْ قَرَأَ الْقُرْآن وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّه مِنْ الضَّلَالَة , وَوَقَاهُ يَوْم الْقِيَامَة سُوء الْحِسَاب , ثُمَّ تَلَا الْآيَة .
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىسورة طه الآية رقم 124
أَيْ دِينِي , وَتِلَاوَة كِتَابِي , وَالْعَمَل بِمَا فِيهِ . وَقِيلَ : عَمَّا أَنْزَلْت مِنْ الدَّلَائِل . وَيَحْتَمِل أَنْ يُحْمَل الذِّكْر عَلَى الرَّسُول ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُ الذِّكْر .


أَيْ عَيْشًا ضَيِّقًا ; يُقَال مَنْزِل ضَنْك وَعَيْش ضَنْك يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالِاثْنَانِ وَالْمُؤَنَّث وَالْجَمْع ; قَالَ عَنْتَرَة : إِنْ يُلْحِقُوا أَكْرُرْ وَإِنْ يَسْتَلْحِمُوا أَشْدُدْ وَإِنْ يُلْفَوْا بِضَنْكٍ أَنْزِل وَقَالَ أَيْضًا : إِنَّ الْمَنِيَّة لَوْ تُمَثَّل مُثِّلَتْ مِثْلِي إِذَا نَزَلُوا بِضَنْكِ الْمَنْزِل وَقُرِئَ " ضَنْكَى " عَلَى وَزْن فَعْلَى : وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ مَعَ الدِّين التَّسْلِيم وَالْقَنَاعَة وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ وَعَلَى قِسْمَته , فَصَاحِبه يُنْفِق مِمَّا رَزَقَهُ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بِسَمَاحٍ وَسُهُولَة وَيَعِيش عَيْشًا رَافِعًا ; كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاة طَيِّبَة " [ النَّحْل 97 ] . وَالْمُعْرِض عَنْ الدِّين مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ الْحِرْص الَّذِي لَا يَزَال يَطْمَح بِهِ إِلَى الِازْدِيَاد مِنْ الدُّنْيَا , مُسَلَّط عَلَيْهِ الشُّحّ , الَّذِي يَقْبِض يَده عَنْ الْإِنْفَاق , فَعَيْشه ضَنْك , وَحَاله مُظْلِمَة , كَمَا قَالَ بَعْضهمْ : لَا يُعْرِض أَحَد عَنْ ذِكْر رَبّه إِلَّا أَظْلَمَ عَلَيْهِ وَقْته وَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ رِزْقه , وَكَانَ فِي عِيشَة ضَنْك . وَقَالَ عِكْرِمَة : " ضَنْكًا " كَسْبًا حَرَامًا . الْحَسَن : طَعَام الضَّرِيع وَالزَّقُّوم . وَقَوْل رَابِع وَهُوَ الصَّحِيح أَنَّهُ عَذَاب الْقَبْر ; قَالَهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود , وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعًا عَنْ النَّبِيّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " ; قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : يُضَيَّق عَلَى الْكَافِر قَبْره حَتَّى تَخْتَلِف فِيهِ أَضْلَاعه , وَهُوَ الْمَعِيشَة الضَّنْك .


قِيلَ أَعْمَى فِي حَال وَبَصِيرًا فِي حَال ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر " سُبْحَان " [ الْإِسْرَاء 1 ] وَقِيلَ : أَعْمَى عَنْ الْحُجَّة ; قَالَهُ مُجَاهِد . وَقِيلَ : أَعْمَى عَنْ جِهَات الْخَيْر , لَا يَهْتَدِي لِشَيْءٍ مِنْهَا . وَقِيلَ : عَنْ الْحِيلَة فِي دَفْع الْعَذَاب عَنْ نَفْسه , كَالْأَعْمَى الَّذِي لَا حِيلَة لَهُ فِيمَا لَا يَرَاهُ .
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًاسورة طه الآية رقم 125
أَيْ بِأَيِّ ذَنْب عَاقَبْتنِي بِالْعَمَى .


أَيْ فِي الدُّنْيَا , وَكَأَنَّهُ يَظُنّ أَنَّهُ لَا ذَنْب لَهُ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : أَيْ " لِمَ حَشَرْتنِي أَعْمَى " عَنْ حُجَّتِي " وَقَدْ كُنْت بَصِيرًا " أَيْ عَالِمًا بِحُجَّتِي ; الْقُشَيْرِيّ : وَهُوَ بَعِيد إِذْ مَا كَانَ لِلْكَافِرِ حُجَّة فِي الدُّنْيَا .
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىسورة طه الآية رقم 126
أَيْ قَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ " كَذَلِكَ أَتَتْك آيَاتنَا " أَيْ دَلَالَاتنَا عَلَى وَحْدَانِيّتنَا وَقُدْرَتنَا .


أَيْ تَرَكْتهَا وَلَمْ تَنْظُر فِيهَا , وَأَعْرَضْت عَنْهَا .


أَيْ تُتْرَك فِي الْعَذَاب ; يُرِيد جَهَنَّم .
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىسورة طه الآية رقم 127
أَيْ وَكَمَا جَزَيْنَا مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْقُرْآن , وَعَنْ النَّظَر فِي الْمَصْنُوعَات , وَالتَّفْكِير فِيهَا , وَجَاوَزَ الْحَدّ فِي الْمَعْصِيَة .



أَيْ لَمْ يُصَدِّق بِهَا .


أَيْ أَفْظَع مِنْ الْمَعِيشَة الضَّنْك , وَعَذَاب الْقَبْر .


أَيْ أَدْوَم وَأَثْبَت ; لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِع وَلَا يَنْقَضِي .
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىسورة طه الآية رقم 128
يُرِيد أَهْل مَكَّة ; أَيْ أَفَلَمْ يَتَبَيَّن لَهُمْ خَبَر مَنْ أَهْلَكْنَا قَبْلهمْ مِنْ الْقُرُون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنهمْ إِذَا سَافَرُوا وَخَرَجُوا فِي التِّجَارَة طَلَب الْمَعِيشَة , فَيَرَوْنَ بِلَاد الْأُمَم الْمَاضِيَة , وَالْقُرُون الْخَالِيَة خَاوِيَة ; أَيْ أَفَلَا يَخَافُونَ أَنْ يَحِلّ بِهِمْ مِثْل مَا حَلَّ بِالْكُفَّارِ قَبْلهمْ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّلَمِيّ وَغَيْرهمَا " نَهْدِ لَهُمْ " بِالنُّونِ وَهِيَ أَبْيَن . و " يَهْدِ " بِالْيَاءِ مُشْكِل لِأَجْلِ الْفَاعِل ; فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ " كَمْ " الْفَاعِل ; النَّحَّاس : وَهَذَا خَطَأ لِأَنَّ " كَمْ " اِسْتِفْهَام فَلَا يَعْمَل فِيهَا مَا قَبْلهَا . وَقَالَ الزَّجَّاج الْمَعْنَى أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الْأَمْر بِإِهْلَاكِنَا مَنْ أَهْلَكْنَا . وَحَقِيقَة " يَهْدِ " عَلَى الْهُدَى ; فَالْفَاعِل هُوَ الْهُدَى تَقْدِيره أَفَلَمْ يَهْدِ الْهُدَى لَهُمْ . قَالَ الزَّجَّاج : " كَمْ " فِي مَوْضِع نَصْب ب " أَهْلَكْنَا " .
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّىسورة طه الآية رقم 129
فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير ; أَيْ وَلَوْلَا كَلِمَة سَبَقَتْ مِنْ رَبّك وَأَجَل مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا ; قَالَهُ قَتَادَة . وَاللِّزَام الْمُلَازَمَة ; أَيْ لَكَانَ الْعَذَاب لَازِمًا لَهُمْ . وَأُضْمِرَ اِسْم كَانَ .


قَالَ الزَّجَّاج : عَطْف عَلَى " كَلِمَة " . قَتَادَة : وَالْمُرَاد الْقِيَامَة ; وَقَالَهُ الْقُتَبِيّ . وَقِيلَ تَأْخِيرهمْ إِلَى يَوْم بَدْر .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىسورة طه الآية رقم 130
أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى أَقْوَالهمْ : إِنَّهُ سَاحِر ; إِنَّهُ كَاهِن ; إِنَّهُ كَذَّاب ; إِلَى غَيْر ذَلِكَ . وَالْمَعْنَى لَا تَحْفِل بِهِمْ ; فَإِنَّ لِعَذَابِهِمْ وَقْتًا مَضْرُوبًا لَا يَتَقَدَّم وَلَا يَتَأَخَّر . ثُمَّ قِيلَ هَذَا مَنْسُوخ بِآيَةِ الْقِتَال . وَقِيلَ : لَيْسَ مَنْسُوخًا ; إِذْ لَمْ يُسْتَأْصَل الْكُفَّار بَعْد آيَة الْقِتَال بَلْ بَقِيَ الْمُعْظَم مِنْهُمْ .


قَالَ أَكْثَر الْمُتَأَوِّلِينَ : هَذَا إِشَارَة إِلَى الصَّلَوَات الْخَمْس


صَلَاة الصُّبْح


صَلَاة الْعَصْر


الْعَتَمَة


الْمَغْرِب وَالظُّهْر ; لِأَنَّ الظُّهْر فِي آخِر طَرَف النَّهَار الْأَوَّل , وَأَوَّل طَرَف النَّهَار الْآخِر ; فَهِيَ فِي طَرَفَيْنِ مِنْهُ ; وَالطَّرَف الثَّالِث غُرُوب الشَّمْس وَهُوَ وَقْت الْمَغْرِب . وَقِيلَ : النَّهَار يَنْقَسِم قِسْمَيْنِ فَصَلَهُمَا الزَّوَال , وَلِكُلِّ قِسْم طَرَفَانِ ; فَعِنْد الزَّوَال طَرَفَانِ ; الْآخِر مِنْ الْقِسْم الْأَوَّل وَالْأَوَّل مِنْ الْقِسْم الْآخِر ; فَقَالَ عَنْ الطَّرَفَيْنِ أَطْرَافًا عَلَى نَحْو " فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا " [ التَّحْرِيم : 4 ] وَأَشَارَ إِلَى هَذَا النَّظَر اِبْن فَوْرَك فِي الْمُشْكِل . وَقِيلَ : النَّهَار لِلْجِنْسِ فَلِكُلِّ يَوْم طَرَف , وَهُوَ إِلَى جَمْع لِأَنَّهُ يَعُود فِي كُلّ نَهَار . و " آنَاء اللَّيْل " سَاعَاته وَوَاحِد الْآنَاء إِنْيٌ وَإِنًى وَأَنًى . وَقَالَتْ فِرْقَة : الْمُرَاد بِالْآيَةِ صَلَاة التَّطَوُّع ; قَالَهُ الْحَسَن .



بِفَتْحِ التَّاء ; أَيْ لَعَلَّك تُثَاب عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَال بِمَا تَرْضَى بِهِ . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَأَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم " تُرْضَى " بِضَمِّ التَّاء ; أَيْ لَعَلَّك تُعْطَى مَا يُرْضِيك .
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىسورة طه الآية رقم 131
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي " الْحِجْر " " أَزْوَاجًا " مَفْعُول ب " مَتَّعْنَا " . و " زَهْرَة " نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَقَالَ الزَّجَّاج : " زَهْرَة " مَنْصُوبَة بِمَعْنَى " مَتَّعْنَا " لِأَنَّ مَعْنَاهُ جَعَلْنَا لَهُمْ الْحَيَاة الدُّنْيَا زَهْرَة ; أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَر وَهُوَ " جَعَلْنَا " أَيْ جَعَلْنَا لَهُمْ زَهْرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا ; عَنْ الزَّجَّاج أَيْضًا . وَقِيلَ : هِيَ بَدَل مِنْ الْهَاء فِي " بِهِ " عَلَى الْمَوْضِع كَمَا تَقُول : مَرَرْت بِهِ أَخَاك . وَأَشَارَ الْفَرَّاء إِلَى نَصْبه عَلَى الْحَال ; وَالْعَامِل فِيهِ " مَتَّعْنَا " قَالَ : كَمَا تَقُول مَرَرْت بِهِ الْمِسْكِين ; وَقَدَّرَهُ : مَتَّعْنَاهُمْ بِهِ زَهْرَة الْحَيَاة فِي الدُّنْيَا وَزِينَة فِيهَا . وَيَجُوز أَنَّ عَلَى الْمَصْدَر مِثْل " صُنْع اللَّه " و " وَعْد اللَّه " وَفِيهِ نَظَر . وَالْأَحْسَن أَنْ يَنْتَصِب عَلَى الْحَال وَيُحْذَف التَّنْوِين لِسُكُونِهِ وَسُكُون اللَّام مِنْ الْحَيَاة ; كَمَا قُرِئَ " وَلَا اللَّيْل سَابِق النَّهَار " بِنَصْبِ النَّهَار بِسَابِقٍ عَلَى تَقْدِير حَذْف التَّنْوِين لِسُكُونِهِ وَسُكُون اللَّام , وَتَكُون " الْحَيَاة " مَخْفُوضَة عَلَى الْبَدَل مِنْ " مَا " فِي قَوْله : " إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ " فَيَكُون التَّقْدِير : وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَى الْحَيَاة الدُّنْيَا زَهْرَة أَيْ فِي حَال زَهْرَتهَا . وَلَا يَحْسُن أَنْ يَكُون " زَهْرَة " بَدَلًا مِنْ " مَا " عَلَى الْمَوْضِع فِي قَوْله : " إِلَى مَا مَتَّعْنَا " لِأَنَّ " لِنَفْتِنهُمْ " مُتَعَلِّق ب " مَتَّعْنَا " و " زَهْرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا " يَعْنِي زِينَتهَا بِالنَّبَاتِ . وَالزَّهْرَة , بِالْفَتْحِ فِي الزَّاي وَالْهَاء نَوْر النَّبَات . وَالزُّهَرَة بِضَمِّ الزَّاي وَفَتْح الْهَاء النَّجْم . وَبَنُو زُهْرَة بِسُكُونِ الْهَاء ; قَالَهُ اِبْن عَزِيز . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " زَهَرَة " بِفَتْحِ الْهَاء مِثْل نَهْر وَنَهَر . وَيُقَال : سِرَاج زَاهِر أَيْ لَهُ بَرِيق . وَزَهْر الْأَشْجَار مَا يَرُوق مِنْ أَلْوَانهَا . وَفِي الْحَدِيث : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَر اللَّوْن أَيْ نَيِّر اللَّوْن ; يُقَال لِكُلِّ شَيْء مُسْتَنِير زَاهِر , وَهُوَ أَحْسَن الْأَلْوَان .



أَيْ لِنَبْتَلِيَهُمْ . وَقِيلَ : لِنَجْعَل ذَلِكَ فِتْنَة لَهُمْ وَضَلَالًا , وَمَعْنَى الْآيَة : لَا تَجْعَل يَا مُحَمَّد لِزَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزْنًا , فَإِنَّهُ لَا بَقَاء لَهَا . " وَلَا تَمُدَّنَّ " أَبْلَغ مِنْ لَا تَنْظُرَنَّ , لِأَنَّ الَّذِي يَمُدّ بَصَره , إِنَّمَا يَحْمِلهُ عَلَى ذَلِكَ حِرْص مُقْتَرِن , وَاَلَّذِي يَنْظُر قَدْ لَا يَكُون ذَلِكَ مَعَهُ .

مَسْأَلَة : قَالَ بَعْض النَّاس سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة مَا رَوَاهُ أَبُو رَافِع مَوْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ نَزَلَ ضَيْف بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَرْسَلَنِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى رَجُل مِنْ الْيَهُود , وَقَالَ قُلْ لَهُ يَقُول لَك مُحَمَّد : نَزَلَ بِنَا ضَيْف وَلَمْ يُلْفَ عِنْدنَا بَعْض الَّذِي يُصْلِحهُ ; فَبِعْنِي كَذَا وَكَذَا مِنْ الدَّقِيق , أَوْ أَسْلِفْنِي إِلَى هِلَال رَجَب فَقَالَ : لَا , إِلَّا بِرَهْنٍ . قَالَ : فَرَجَعْت إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ : " وَاَللَّه إِنِّي لَأَمِين فِي السَّمَاء أَمِين فِي الْأَرْض وَلَوْ أَسْلِفْنِي أَوْ بَاعَنِي لَأَدَّيْت إِلَيْهِ اِذْهَبْ بِدِرْعِي إِلَيْهِ " وَنَزَلَتْ الْآيَة تَعْزِيَة لَهُ عَنْ الدُّنْيَا .

قَالَ اِبْن عَطِيَّة وَهَذَا مُعْتَرَض أَنْ يَكُون سَبَبًا ; لِأَنَّ السُّورَة مَكِّيَّة وَالْقِصَّة الْمَذْكُورَة مَدَنِيَّة فِي آخِر عُمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ مَاتَ وَدِرْعه مَرْهُونَة عِنْد يَهُودِيّ بِهَذِهِ الْقِصَّة الَّتِي ذُكِرَتْ ; وَإِنَّمَا الظَّاهِر أَنَّ الْآيَة مُتَنَاسِقَة مَعَ مَا قَبْلهَا , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَبَّخَهُمْ عَلَى تَرْك الِاعْتِبَار بِالْأُمَمِ السَّالِفَة ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْمُؤَجَّل , ثُمَّ أَمَرَ نَبِيّه بِالِاحْتِقَارِ لِشَأْنِهِمْ , وَالصَّبْر عَلَى أَقْوَالهمْ , وَالْإِعْرَاض عَنْ أَمْوَالهمْ وَمَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ الدُّنْيَا ; إِذْ ذَلِكَ مُنْصَرِم عَنْهُمْ صَائِر إِلَى خِزْي . قُلْت : وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ مَرَّ بِإِبِلِ بَنِي الْمُصْطَلِق وَقَدْ عَبِسَتْ فِي أَبْوَالهَا [ وَأَبْعَارِهَا ] مِنْ السِّمَن فَتَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ ثُمَّ مَضَى , لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ " الْآيَة .



ثُمَّ سَلَّاهُ فَقَالَ : " وَرِزْق رَبّك خَيْر وَأَبْقَى " أَيْ ثَوَاب اللَّه عَلَى الصَّبْر وَقِلَّة الْمُبَالَاة بِالدُّنْيَا أَوْلَى ; لِأَنَّهُ يَبْقَى وَالدُّنْيَا تَفْنَى . وَقِيلَ يَعْنِي بِهَذَا الرِّزْق مَا يَفْتَح اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْبِلَاد وَالْغَنَائِم .
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىسورة طه الآية رقم 132
أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَأْمُر أَهْله بِالصَّلَاةِ وَيَمْتَثِلهَا مَعَهُمْ , وَيَصْطَبِر عَلَيْهَا وَيُلَازِمهَا . وَهَذَا خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْخُل فِي عُمُومه جَمِيع أُمَّته ; وَأَهْل بَيْته عَلَى التَّخْصِيص . وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام بَعْد نُزُول هَذِهِ الْآيَة يَذْهَب كُلّ صَبَاح إِلَى بَيْت فَاطِمَة وَعَلِيّ رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمَا فَيَقُول " الصَّلَاة " . وَيُرْوَى أَنَّ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ أَخْبَار السَّلَاطِين وَأَحْوَالهمْ بَادَرَ إِلَى مَنْزِله فَدَخَلَهُ , وَهُوَ يَقْرَأ " وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك " الْآيَة إِلَى قَوْله : " وَأَبْقَى " ثُمَّ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ الصَّلَاة يَرْحَمكُمْ اللَّه ; وَيُصَلِّي . وَكَانَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُوقِظ أَهْل دَاره لِصَلَاةِ اللَّيْل وَيُصَلِّي وَهُوَ يَتَمَثَّل بِالْآيَةِ .


أَيْ لَا نَسْأَلك أَنْ تَرْزُق نَفْسك وَإِيَّاهُمْ , وَتَشْتَغِل عَنْ الصَّلَاة بِسَبَبِ الرِّزْق , بَلْ نَحْنُ نَتَكَفَّل بِرِزْقِك وَإِيَّاهُمْ , فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا نَزَلَ بِأَهْلِهِ ضِيق أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ . وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى " وَمَا خَلَقْت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيد مِنْهُمْ مِنْ رِزْق وَمَا أُرِيد أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّه هُوَ الرَّزَّاق " [ الذَّارِيَات 56 ] .



أَيْ الْجَنَّة لِأَهْلِ التَّقْوَى ; يَعْنِي الْعَاقِبَة الْمَحْمُودَة . وَقَدْ تَكُون لِغَيْرِ التَّقْوَى عَاقِبَة وَلَكِنَّهَا مَذْمُومَة فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ .
وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَىسورة طه الآية رقم 133
يُرِيد كُفَّار مَكَّة ; أَيْ لَوْلَا يَأْتِينَا مُحَمَّد بِآيَةٍ تُوجِب الْعِلْم الضَّرُورِيّ . أَوْ بِآيَةٍ ظَاهِرَة كَالنَّاقَةِ وَالْعَصَا . أَوْ هَلَّا يَأْتِينَا بِالْآيَاتِ الَّتِي نَقْتَرِحهَا نَحْنُ كَمَا أَتَى الْأَنْبِيَاء مِنْ قَبْله .


يُرِيد التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْكُتُب الْمُتَقَدِّمَة , وَذَلِكَ أَعْظَم آيَة إِذْ أَخْبَرَ بِمَا فِيهَا . وَقُرِئَ " الصُّحْف " بِالتَّخْفِيفِ . وَقِيلَ أَوَلَمْ تَأْتِيهِمْ الْآيَة الدَّالَّة عَلَى نُبُوَّته بِمَا وَجَدُوهُ فِي الْكُتُب الْمُتَقَدِّمَة مِنْ الْبِشَارَة . وَقِيلَ : أَوَلَمْ يَأْتِهِمْ إِهْلَاكنَا الْأُمَم الَّذِينَ كَفَرُوا وَاقْتَرَحُوا الْآيَات , فَمَا يُؤَمِّنهُمْ إِنْ أَتَتْهُمْ الْآيَات أَنْ يَكُون حَالهمْ حَال أُولَئِكَ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَحَفْص " أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ " بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْبَيِّنَة . الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْل وَلِأَنَّ الْبَيِّنَة هِيَ الْبَيَان وَالْبُرْهَان فَرَدُّوهُ إِلَى الْمَعْنَى , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم . وَحَكَى الْكِسَائِيّ " أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَة مَا فِي الصُّحُف الْأُولَى " قَالَ : وَيَجُوز عَلَى هَذَا " بَيِّنَة مَا فِي الصُّحُف الْأُولَى " . قَالَ النَّحَّاس إِذَا نَوَّنْت " بَيِّنَة " وَرَفَعْت جَعَلْت " مَا " بَدَلًا مِنْهَا وَإِذَا نَصَبْتهَا فَعَلَى الْحَال ; وَالْمَعْنَى أَوَلَمْ يَأْتِهِمْ مَا فِي الصُّحُف الْأُولَى مُبَيَّنًا .
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىسورة طه الآية رقم 134
أَيْ مِنْ قَبْل بَعْثَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُول الْقُرْآن



أَيْ يَوْم الْقِيَامَة


أَيْ هَلَّا أَرْسَلْت إِلَيْنَا رَسُولًا


وَقُرِئَ " نُذَلَّ وَنُخْزَى " عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . وَرَوَى أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهَالِك فِي الْفَتْرَة وَالْمَعْتُوه وَالْمَوْلُود قَالَ : ( يَقُول الْهَالِك فِي الْفَتْرَة لَمْ يَأْتِنِي كِتَاب وَلَا رَسُول ثُمَّ تَلَا " وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْله لَقَالُوا رَبّنَا لَوْلَا أَرْسَلْت إِلَيْنَا رَسُولًا " الْآيَة وَيَقُول الْمَعْتُوه رَبّ لَمْ تَجْعَل لِي عَقْلًا أَعْقِل بِهِ خَيْرًا وَلَا شَرًّا وَيَقُول الْمَوْلُود رَبّ لَمْ أُدْرِك الْعَمَل فَتُرْفَع لَهُمْ نَار فَيَقُول لَهُمْ رِدُوهَا وَادْخُلُوهَا قَالَ فَيَرِدهَا أَوْ يَدْخُلهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْم اللَّه سَعِيدًا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَل وَيُمْسِك عَنْهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْم اللَّه شَقِيًّا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَل فَيَقُول اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِيَّايَ عَصَيْتُمْ فَكَيْفَ رُسُلِي لَوْ أَتَتْكُمْ ) . وَيُرْوَى مَوْقُوفًا عَنْ أَبِي سَعِيد قَوْله فِيهِ نَظَر وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " وَبِهِ اِحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَطْفَال وَغَيْرهمْ يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَة . " فَنَتَّبِعَ " نُصِبَ بِجَوَابِ التَّخْصِيص . " آيَاتك " يُرِيد مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مِنْ قَبْل أَنْ نَذِلّ " أَيْ فِي الْعَذَاب " وَنَخْزَى " فِي جَهَنَّم ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : " مِنْ قَبْل أَنْ نَذِلّ " فِي الدُّنْيَا بِالْعَذَابِ " وَنَخْزَى " فِي الْآخِرَة بِعَذَابِهَا .
قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىسورة طه الآية رقم 135
أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد كُلّ مُتَرَبِّص ; أَيْ كُلّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مُنْتَظِر دَوَائِر الزَّمَان وَلِمَنْ يَكُون النَّصْر .


يُرِيد الدِّين الْمُسْتَقِيم وَالْهُدَى وَالْمَعْنَى فَسَتَعْلَمُونَ بِالنَّصْرِ مَنْ اِهْتَدَى إِلَى دِين الْحَقّ . وَقِيلَ : فَسَتَعْلَمُونَ يَوْم الْقِيَامَة مَنْ اِهْتَدَى إِلَى طَرِيق الْجَنَّة . وَفِي هَذَا ضَرْب مِنْ الْوَعِيد وَالتَّخْوِيف وَالتَّهْدِيد خَتَمَ بِهِ السُّورَة . وَقُرِئَ " فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ " . قَالَ أَبُو رَافِع : حَفِظْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ . و " مَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع عِنْد الزَّجَّاج . وَقَالَ الْفَرَّاء يَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب مِثْل " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : هَذَا خَطَأ , لِأَنَّ الِاسْتِفْهَام لَا يَعْمَل فِيهِ مَا قَبْله , و " مَنْ " هَاهُنَا اِسْتِفْهَام فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ ; وَالْمَعْنَى : فَسَتَعْلَمُونَ أَصْحَاب الصِّرَاط السَّوِيّ نَحْنُ أَمْ أَنْتُمْ ؟ . قَالَ النَّحَّاس وَالْفَرَّاء يَذْهَب إِلَى أَنَّ مَعْنَى " مَنْ أَصْحَاب الصِّرَاط السَّوِيّ " مَنْ لَمْ يَضِلّ وَإِلَى أَنَّ مَعْنَى " وَمَنْ اِهْتَدَى " مَنْ ضَلَّ ثُمَّ اِهْتَدَى . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمَر وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ " فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَاب الصِّرَاط السُّوَّى " بِتَشْدِيدِ الْوَاو بَعْدهَا أَلِف التَّأْنِيث عَلَى فُعْلَى بِغَيْرِ هَمْزَة ; وَتَأْنِيث الصِّرَاط شَاذّ قَلِيل , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم " [ الْفَاتِحَة : 6 ] فَجَاءَ مُذَكَّرًا فِي هَذَا وَفِي غَيْره , وَقَدْ رَدَّ هَذَا أَبُو حَاتِم قَالَ : إِنْ كَانَ مِنْ السُّوء وَجَبَ أَنْ يُقَال السُّوءَى وَإِنْ كَانَ مِنْ السَّوَاء وَجَبَ أَنْ يُقَال : السِّيَّا بِكَسْرِ السِّين وَالْأَصْل السِّوْيَا . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : وَقُرِئَ " السَّوَاء " بِمَعْنَى الْوَسَط وَالْعَدْل ; أَوْ الْمُسْتَوِي . النَّحَّاس وَجَوَاز قِرَاءَة يَحْيَى بْن يَعْمَر وَالْجَحْدَرِيّ أَنْ يَكُون الْأَصْل " السُّوءَى " وَالسَّاكِن لَيْسَ بِحَاجِزٍ حَصِين , فَكَأَنَّهُ قَلَبَ الْهَمْزَة ضَمَّة فَأَبْدَلَ مِنْهَا وَاوًا كَمَا يُبْدَل مِنْهَا أَلِف إِذَا اِنْفَتَحَ مَا قَبْلهَا . تَمَّتْ وَالْحَمْد لِلَّهِ وَحْده .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5