الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌسورة يوسف الآية رقم 31
" فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ " تدعوهن إلى منزلها للضيافة.
" وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً " أي: محلا مهيأ بأنواع الفرش والوسائد, وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة, وكان في جملة ما أتت به وأحضرته, في تلك الضيافة, طعام يحتاج إلى سكين, إما أترج, أو غيره.
" وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا " ليقطعن بها ذلك الطعام " وَقَالَتِ " ليوسف: " اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ " في حالة جماله وبهائه.
" فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ " أي: أعظمنه في صدورهن, ورأين منظرا فائقا, لم يشاهدن مثله.
" وَقَطَّعْنَ " من الدهش " أَيْدِيَهُنَّ " بتلك السكاكين, اللاتي معهن.
" وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ " أي تنزيها لله " مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ " .
وذلك أن يوسف, أعطي من الجمال الفائق, والنور, والبهاء, ما كان به آية للناظرين, وعبرة للمتأملين.
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَسورة يوسف الآية رقم 32
فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر, وأعجبهن غاية العجب, وظهر منهن من العذر لامرأة العزيز, شيء كثير - أرادت أن تريهن جماله الباطن, بالعفة التامة - فقالت - معلنة لذلك, ومبينة لحبه الشديد, غير مبالية, ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة: " فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ " أي: امتنع وهي مقيمة على مراودته, لم تزدها مرور الأوقات, إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا.
ولهذا قالت له بحضرتهن: " وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ " .
لتلجئه بهذا الوعيد, إلى حصول مقصودها منه.
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَسورة يوسف الآية رقم 33
فعند ذلك, اعتصم يوسف بربه, واستعان به على كيدهن و " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ " وهذا يدل, أن النسوة, جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته, وجعلن يكدنه في ذلك.
فاستحب السجن والعذاب الدنيوي, على لذة حاضرة, توجب العذاب الشديد.
" وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ " أي: أمل إليهن, فإني ضعيف عاجز.
إن لم تدفع عني السوء, صبوت إليهن " وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ " فإن هذا جهل.
لأنه آثر لذة قليلة منغصة, على لذات متتابعات, وشهوات متنوعات, في جنات النعيم.
ومن آثر هذا, على هذا, فمن أجهل منه؟!! فإن العلم والعقل, يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين, وأعظم اللذتين, ويؤثر, ما كان محمود العاقبة.
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُسورة يوسف الآية رقم 34
" فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ " حين دعاه " فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ " فلم تزل تراوده وتستعين عليه, بما تقدر عليه من الوسائل, حتى آيسها, وصرف الله عنه كيدها.
" إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ " لدعاء الداعي " الْعَلِيمُ " بنيته الصالحة, وبنيته الضعيفة المقتضية لإمداده بمعونته ولطفه.
فهذا ما نجى الله به يوسف من هذه الفتنة الملمة, والمحنة الشديدة.
وأما أسياده, فإنه لما اشتهر الخبر وبان, وصار الناس فيها, بين عاذر, ولائم, وقادح.
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍسورة يوسف الآية رقم 35
" بَدَا لَهُمْ " أي: ظهر لهم " مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ " الدالة على براءته.
" لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ " أي: لينقطع بذلك, الخبر, ويتناساه الناس.
فإن الشيء إذا شاع, لم يزل يذكر, ويشيع, مع وجود أسبابه, فإذا عدمت أسبابه نسي.
فرأوا أن هذا مصلحة لهم, فأدخلوه في السجن.
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَسورة يوسف الآية رقم 36
أي ولما دخل يوسف السجن, كان من جملة من " وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ " أي: شابان, فرأى كل واحد منهما رؤيا, فقصها على يوسف ليعبرها.
" قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا " وذلك الخبز " تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ " .
" نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ " أي: بتفسيره, وما يئول إليه أمره.
وقولهما: " إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " أي: من أهل الإحسان إلى الخلق فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا, كما أحسنت إلى غيرنا, فتوسلا ليوسف بإحسانه.
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَسورة يوسف الآية رقم 37
" قَالَ " لهما مجيبا لطلبهما: " لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا " أي: فلتطمئن قلوبكما, فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما, فلا يأتيكما غداؤكما, أو عشاؤكما, أول ما يجيء إليكما, إلا نبأتكما بتأويله, قبل أن يأتيكما.
ولعل يوسف, عليه الصلاة والسلام, قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال, التي بدت حاجتهما إليه, ليكون أنجع لدعوته, وأقبل لهما.
ثم قال: " ذَلِكُمَا " التعبير الذي سأعبره لكما " مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي " .
أي: هذا من علم الله علمنيه, وأحسن إلي به, وذلك " إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ " .
والترك, كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه, يكون لمن لم يدخل فيه أصلا.
فلا يقال: إن يوسف, كان من قبل, على غير ملة إبراهيم.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَسورة يوسف الآية رقم 38
" وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " ثم فسر تلك الملة بقوله: " مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ " بل نفرد الله بالتوحيد, ونخلص له الدين والعبادة.
" ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ " أي: هذا من أفضل منته وإحسانه وفضله علينا, وعلى من هداه الله كما هدانا, فإنه لا أفضل من منة الله على العباد بالإسلام, والدين القويم.
فمن قبله وانقاد له, فهو حظه, وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل.
" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ " فلذلك تأتيهم المنة والإحسان, فلا يقبلونها, ولا يقومون لله بحق.
وفي هذا, من الترغيب للطريق, التي هو عليها, ما لا يخفى.
فإن الفتيين - لما تقرر عنده, أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال, وأنه محسن معلم - ذكر لهما أن هذه الحالة, التي أنا عليها, كلها من فضل الله وإحسانه, حيث من علي بترك الشرك, وباتباع ملة آبائي, فبهذا وصلت إلى ما رأيتما, فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت.
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُسورة يوسف الآية رقم 39
ثم صرح لهما بالدعوة فقال: " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ " أي: أرباب عاجزة ضعيفة, لا تنفع ولا تضر, ولا تعطي ولا تمنع, وهي متفرقة, ما بين أشجار, وأحجار, وملائكة, وأموات, وغير ذلك من أنواع المعبودات, التي يتخذها المشركون.
أذلك " خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ " الذي له صفات الكمال, " الْوَاحِدُ " في ذاته, وصفاته, وأفعاله فلا شريك له في شيء من ذلك.
" الْقَهَّارُ " الذي انقادت الأشياء لقهره وسلطانه, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن " ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها " .
ومن المعلوم, أن هذا شأنه ووصفه, خير من الآلهة المتفرقة, التي هي مجرد أسماء, لا كمال لها, ولا فعال لديها.
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَسورة يوسف الآية رقم 40
ولهذا قال: " مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ " أي: كسوتموها أسماء, سميتموها آلهة, وهي لا شيء, ولا فيها من صفات الألوهية شيء.
" مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ " بل أنزل الله السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلانها.
وإذا لم ينزل الله بها سلطانا, لم يكن طريق, ولا وسيلة, ولا دليل لها.
" إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ " وحده, فهو الذي يأمر وينهى, ويشرع الشرائع, ويسن الأحكام.
وهو الذي " أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ " أي: المستقيم الموصل إلى كل خير, وما سواه من الأديان, فإنها غير مستقيمة, بل معوجة, توصل إلى كل شر.
" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " حقائق الأشياء.
وإلا فإن الفرق بين عبادة الله, وحده لا شريك له, وبين الشرك به, من أظهر الأشياء وأبينها.
ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك, حصل منهم ما حصل, من الشرك.
فيوسف عليه السلام, دعا صاحبي السجن لعبادة الله وحده, وإخلاص الدين له.
فيحتمل أنهما استجابا وانقادا, فتمت عليهما النعمة.
ويحتمل أنهما, لم يزالا على شركهما, فقامت عليهما - بذلك - الحجة.
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِسورة يوسف الآية رقم 41
ثم إنه, عليه السلام, شرع يعبر رؤياهما, بعد ما وعدهما ذلك.
فقال: " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ " إلى " الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ " .
" يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا " وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا, فإنه يخرج من السجن " فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا " أي: يسقى سيده, الذي كان يخدمه خمرا, وذلك مستلزم لخروجه من السجن " وَأَمَّا الْآخَرُ " وهو: الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا, تأكل الطير منه.
" فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ " , فإنه عبر عن الخبز, الذي تأكله الطير, بلحم رأسه وشحمه, وما فيه من المخ, وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور, بل يصلب, ويجعل في محل, تتمكن الطيور من أكله.
ثم أخبرهما بأن هذا التأويل, الذي تأوله لهما, أنه لا بد من وقوعه فقال: " قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ " أي: تسألان عن تعبيره وتفسيره.
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَسورة يوسف الآية رقم 42
أي: " وَقَالَ " يوسف عليه السلام " لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا " , وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا: " اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ " أي: اذكر له شأني وقصتي, لعله يرق لي, فيخرجني مما أنا فيه.
" فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ " أي: فأنسى الشيطان ذلك الناجي, ذكر الله تعالى, وذكر ما يقرب إليه, ومن جملة ذلك نسيانه, ذكر يوسف, الذي يستحق أن يجازى بأتم الإحسان, وذلك ليتم الله أمره وقضاءه.
" فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ " والبضع: من الثلاث إلى التسع, ولهذا قيل: إنه لبث سبع سنين.
ولما أراد الله أن يتم أمره, ويأذن لإخراج يوسف من السجن, قدر لذلك سببا لإخراج يوسف, وارتفاع شأنه, وإعلاء قدره, وهو رؤيا الملك.
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَسورة يوسف الآية رقم 43
لما أراد الله تعالى أن يخرج يوسف من السجن, أرى الله الملك هذه الرؤيا العجيبة, التي تأويلها, يتناول جميع الأمة, ليكون تأويلها على يد يوسف, فيظهر من فضله, ويبين من علمه, ما يكون له رفعة في الدارين.
ومن التقادير المناسبة, أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها, لارتباط مصالحها به.
وذلك أنه رأى رؤيا, هالته, فجمع علماء قومه, وذوي الرأي منهم وقال: " إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ " أي: سبع من البقرات " عِجَافٌ " .
وهذا من العجب, أن السبع العجاف الهزبلات, اللاتي سقطت قوتهن, يأكلن السبع السمان, التي كن نهاية في القوة.
ورأيت " وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ " أي: يأكلهن سبع سنبلات أخر " يَابِسَاتٍ " .
" يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ " لأن تعبير الجميع واحد, وتأويلهن شيء واحد.
" إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ " فتحيروا, ولم يعرفوا لها وجها.
قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَسورة يوسف الآية رقم 44
" قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ " أي أحلام لا حاصل لها, ولا لها تأويل.
وهذا جزم منهم, بما لا يعلمون, وتعذر منهم, بما ليس بعذر.
ثم قالوا: " وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ " أي: لا نعبر إلا الرؤيا.
وأما الأحلام, التي هي من الشيطان, أو من حديث النفس, فإنا لا نعبرها.
فجمعوا بين الجهل والجزم, بأنها أضغات أحلام, والإعجاب بالنفس, بحيث إنهم لم يقولوا: لا نعلم تأويلها, وهذا من الأمور, التي لا تنبغي لأهل الدين والحجا.
وهذا أيضا, من لطف الله, بيوسف عليه السلام.
فإنه لو عبرها ابتداء - قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم, فيعجزوا عنها - لم يكن لها ذلك الموقع.
ولكن لما عرضها عليهم, فعجزوا عن الجواب, وكان الملك مهتما لها, غاية الاهتمام, فعبرها يوسف - وقعت عندهم موقعا عظيما.
وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة, بالعلم, بعد أن سألهم, فلم يعلموا.
ثم سأل آدم, فعلمهم أسماء كل شيء, فحصل بذلك, زيادة فضله.
وكما يظهر فضل, أفضل خلقه, محمد صلى الله عليه وسلم في القيامة, أن يلهم الله الخلق, أن يتشفعوا بآدم, ثم بنوح, ثم إبراهيم, ثم موسى, ثم عيسى عليهم السلام, فيعتذرون عنها.
ثم يأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول " أنا لها أنا لها " , فيشفع في جميع الخلق, وينال ذلك المقام المحمود, الذي يغبطه به, الأولون والآخرون.
فسبحان من خفيت ألطافه, ودقت في إيصاله البر والإحسان, إلى خواص أصفيائه, وأوليائه.
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِسورة يوسف الآية رقم 45
" وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا " أي: من الفتيين, وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا, وهو الذي أوصاه يوسف, أن يذكره عند ربه " وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ " أي: وتذكر يوسف, وما جرى له في تعبيره لرؤياهما, وما وصاه به, وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة, من السنين فقال: " أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي " إلى يوسف لأسأله عنها.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَسورة يوسف الآية رقم 46
فأرسلوه, فجاء إليه, ولم يعنفه يوسف على نسيانه, بل استمع ما يسأله عنه, وأجابه عن ذلك فقال: " يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ " أي: كثير الصدق في أقواله وأفعاله.
" أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ " فإنهم متشوقون لتعبيرها, وقد أهمتهم.
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَسورة يوسف الآية رقم 47
فعبر يوسف, السبع البقرات السمان, والسبع السنبلات الخضر, بأنهن سبع سنين مخصبات, والسبع البقرات العجاف, والسبع السنبلات اليابسات, بأنهن سنين مجدبات.
ولعل وجه ذلك - والله أعلم - أن الخصب والجدب - لما كان الحرث مبنيا عليه, وأنه إذا حصل الخصب, قويت الزروع والحروث, وحسن منظرها, وكثرت غلالها, والجدب بالعكس من ذلك.
وكانت البقر, هي التي تحرث عليها الأرض, وتسقى عليها الحروث في الغالب.
والسنبلات, هي أعظم الأقوات وأفضلها, عبرها بذلك, وجود المناسبة.
فجمع لهم في تأويلها, بين التعبير, والإشارة لما يفعلونه, ويستعدون به, من التدابير في سني الخصب, إلى سني الجدب فقال: " تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا " أي: متتابعات.
" فَمَا حَصَدْتُمْ " من تلك الزروع " فَذَرُوهُ " أي: اتركوه " فِي سُنْبُلِهِ " لأنه أبقى له وأبعد من الالتفات إليه " إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ " أي: دبروا أكلكم في هذه السنين الخصبة, وليكن قليلا, ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه.
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَسورة يوسف الآية رقم 48
" ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ " أي: بعد تلك السنين السبع الخصبات.
" سَبْعٌ شِدَادٌ " أي: مجدبات " يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ " أي: يأكلن جميع ما ادخرتموه, ولو كان كثيرا.
" إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ " أي: تمنعونه من التقديم لهن.
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَسورة يوسف الآية رقم 49
" ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ " أي: السبع الشداد " عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ " أي: فيه تكثر الأمطار والسيول, وتكثر الغلات, وتزيد على أقواتهم, حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه, زيادة على أكلهم.
ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب, مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك.
لأنه فهم من التعبير, بالسبع الشداد, أن العام الذي يليها, تزول به شدتها.
ومن المعلوم, أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات, إلا بعام مخصب جدا, وإلا لما كان للتقدير فائدة.
فلما رجع الرسول إلى الملك والناس, وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا, عجبوا من ذلك, وفرحوا بها أشد الفرح.
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌسورة يوسف الآية رقم 50
يقول تعالى: " وَقَالَ الْمَلِكُ " لمن عنده " ائْتُونِي بِهِ " أي: بيوسف عليه السلام, بأن يخرجوه من السجن, ويحضروه إليه.
" فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ " وأمره بالحضور عند الملك, امتنع عن المبادرة إلى الخروج, حتى تتبين براءته التامة, وهذا من صبره, وعقله ورأيه التام.
وحينئذ " قَالَ " للرسول: " ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ " يعني به الملك.
" فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ " أي: اسأله, ما شأنهن وقصتهن, فإن أمرهن ظاهر متضح " إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ " .
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَسورة يوسف الآية رقم 51
فأحضرهن الملك, وقال: " مَا خَطْبُكُنَّ " أي: شأنكن " إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ " فهل رأيتن منه ما يريب؟.
فبرأنه و " قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ " أي: لا قليل ولا كثير.
فحينئذ زال السبب, الذي تبني عليه التهمة, ولم يبق إلا ما عند امرأة العزيز.
" قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ " أي: تمحص وتبين, بعد ما كنا ندخل عليه من السوء والتهمة, ما أوجب له السجن.
" أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ " في أقواله وبراءته.
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَسورة يوسف الآية رقم 52
" ذَلِكَ " الإقرار, الذي أقررت, أني راودت يوسف " لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ " .
يحتمل أن مرادها بذلك, زوجها أي: ليعلم أني حين أقررت, أني راودت يوسف, أني لم أخنه بالغيب, أي: لم يجر مني إلا مجرد المراودة, ولم أفسد عليه فراشه.
ويحتمل أن المراد بذلك, ليعلم يوسف, حين أقررت أني, أنا الذي راودته, وأنه صادق, أني لم أخنه في حال غيبته, عني.
" وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ " فإن كل خائن, لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه, ولا بد أن يتبين أمره.
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة يوسف الآية رقم 53
ثم لما كان في هذا الكلام, نوع تزكية لنفسها, وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف, استدركت فقالت: " وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي " أي: من المراودة والهم, والحرص الشديد, والكيد في ذلك.
" إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ " أي: لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء, أي: الفاحشة, وسائرالذنوب, فإنها مركب الشيطان, ومنها يدخل على الإنسان " إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي " فنجاه من نفسه الأمارة, حتى صارت نفسه, مطمئنة إلى ربها, منقادة لداعي الهدى, متعاصية عن داعي الردى, فذلك ليس من النفس, بل من فضل الله ورحمته بعبده.
" إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ " أي: هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي, إذا تاب وأناب.
" رَحِيمٌ " بقبول توبته, وتوفيقه للأعمال الصالحة.
وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز, لا من قول يوسف.
فإن السياق في كلامها, ويوسف إذ ذاك في السجن, لم يحضر.
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌسورة يوسف الآية رقم 54
فلما تحقق الملك والناس, براءة يوسف التامة, أرسل إليه الملك وقال: " ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي " أي: أجعله من خلصائي, ومقربا لدي فأتوه به مكرما محترما.
" فَلَمَّا كَلَّمَهُ " أعجبه كلامه, وزاد موقعه عنده فقال له: " إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا " أي: عندنا " مَكِينٌ أَمِينٌ " أي: متمكن, أمين على الأسرار.
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌسورة يوسف الآية رقم 55
" قَالَ " يوسف طلبا للمصلحة العامة: " اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ " أي: على خزائن جبايات الأرض وغلالها, وكيلا, حافظا, مدبرا.
" إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ " أي: حفيظ للذي أتولاه, فلا يضيع منه شيء في غير محله, وضابط للداخل والخارج, عليم بكيفية التدبير, والإعطاء, والمنع, والتصرف في جميع أنواع التصرفات.
وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية, وإنما هو رغبة منه, في النفع العام.
وقد عرف من نفسه من الكفاية, والأمانة, والحفظ, ما لم يكونوا يعرفونه.
فلذلك طلب من الملك, أن يجعله على خزائن الأرض فجعله الملك على خزائن الأرض, وولاه إياها.
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَسورة يوسف الآية رقم 56
قال تعالى: " وَكَذَلِكَ " أي بهذه الأسباب والمقدمات المذكورة.
" مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ " في عيش رغد, ونعمة واسعة, وجاه عريض.
" نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ " أي: هذا عن رحمة الله بيوسف, التي أصابه بها, وقدرها له, وليست مقصورة على نعمة الدنيا.
" وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " ويوسف عليه السلام من سادات المحسنين فله في الدنيا حسنة, وفي الآخرة حسنة, ولهذا قال:
وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَسورة يوسف الآية رقم 57
" وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ " من أجر الدنيا " لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ " أي: لمن جمع بين التقوى والإيمان.
فبالتقوى, تترك الأمور المحرمة, من كبائر الذنوب وصغائرها.
وبالإيمان التام, يحصل تصديق القلب, بما أمر الله بالتصديق به, وتتبعه أعمال القلوب, وأعمال الجوارح, من الواجبات والمستحبات.
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَسورة يوسف الآية رقم 58
أي: لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض, دبرها أحسن تدبير.
فزرع في أرض مصر جميعها, في السنين الخصبة, زروعا هائلة, واتخذ لها المحلات الكبار, وجبا من الأطعمة, شيئا كثيرا, وحفظه, وضبطه ضبطا تاما.
فلما دخلت السنون المجدبة, وسرى الجدب, حتى وصل إلى فلسطين, التي يقيم فيها يعقوب وبنوه.
فأرسل يعقوب بنيه, لأجل الميرة إلى مصر.
" وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ " أي: لم يعرفوه.
وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَسورة يوسف الآية رقم 59
" وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ " أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم.
وكان من تدبيره الحسن, أنه لا يكيل لكل واحد, أكثر من حمل بعير.
وكان قد سألهم عن حالهم, فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه, وهو بنيامين.
" قَالَ " لهم: " ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ " ثم رغبهم في الإتيان به فقال: " أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ " في الضيافة والإكرام.
فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِسورة يوسف الآية رقم 60
ثم رهبهم بعدم الإتيان به, فقال: " فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ " .
وذلك, لعلمه باضطرارهم, إلى الإتيان إليه, وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4