قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى " وَإِنَّهُ لَعِلْم لِلسَّاعَةِ " تَقَدَّمَ تَفْسِير اِبْن إِسْحَاق أَنَّ الْمُرَاد مِنْ ذَلِكَ مَا بُعِثَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مِنْ إِحْيَاء الْمَوْتَى وَإِبْرَاء الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَسْقَام وَفِي هَذَا نَظَر وَأَبْعَد مِنْهُ مَا حَكَاهُ قَتَادَة عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّ الضَّمِير فِي وَإِنَّهُ عَائِد عَلَى الْقُرْآن بَلْ الصَّحِيح أَنَّهُ عَائِد عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَإِنَّ السِّيَاق فِي ذِكْره ثُمَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ نُزُوله قَبْل يَوْم الْقِيَامَة كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى " وَإِنَّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْل مَوْته " أَيْ قَبْل مَوْت عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام " ثُمَّ يَوْم الْقِيَامَة يَكُون عَلَيْهِمْ شَهِيدًا " وَيُؤَيِّد هَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَة الْأُخْرَى " وَإِنَّهُ لَعِلْم لِلسَّاعَةِ " أَيْ أَمَارَة وَدَلِيل عَلَى وُقُوع السَّاعَة قَالَ مُجَاهِد " وَإِنَّهُ لَعِلْم لِلسَّاعَةِ " أَيْ آيَة لِلسَّاعَةِ خُرُوج عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام قَبْل يَوْم الْقِيَامَة وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَأَبِي الْعَالِيَة وَأَبِي مَالِك وَعِكْرِمَة وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَغَيْرهمْ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَبْل يَوْم الْقِيَامَة إِمَامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا . وَقَوْله تَعَالَى " فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا " أَيْ لَا تَشُكُّوا فِيهَا إِنَّهَا وَاقِعَة وَكَائِنَة لَا مَحَالَة " وَاتَّبِعُونِ " أَيْ فِيمَا أُخْبِركُمْ بِهِ .
أَيْ عَنْ اِتِّبَاع الْحَقّ .
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ↓
" وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ " أَيْ بِالنُّبُوَّةِ " وَلِأُبَيِّن لَكُمْ بَعْض الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ " قَالَ اِبْن جَرِير يَعْنِي مِنْ الْأُمُور الدِّينِيَّة لَا الدُّنْيَوِيَّة وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَن جَيِّد ثُمَّ رَدَّ قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَعْض هَهُنَا بِمَعْنَى كُلّ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ لَبِيد الشَّاعِر حَيْثُ قَالَ : تُزَال أَمْكِنَة إِذَا لَمْ أَرْضهَا أَوْ يَتَعَلَّق بَعْض النُّفُوس حِمَامهَا وَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيع النُّفُوس ; قَالَ اِبْن جَرِير وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْسه فَقَطْ وَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنْهَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَل . وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ " فَاتَّقُوا اللَّه " أَيْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ " وَأَطِيعُونِ " فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ .
أَيْ أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيد لَهُ فُقَرَاء إِلَيْهِ مُشْتَرِكُونَ فِي عِبَادَته وَحْده لَا شَرِيك لَهُ " هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم " أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ هُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم وَهُوَ عِبَادَة الرَّبّ جَلَّ وَعَلَا وَحْده .
أَيْ اِخْتَلَفَتْ الْفِرَق وَصَارُوا شِيَعًا فِيهِ مِنْهُمْ مَنْ يُقِرّ بِأَنَّهُ عَبْد اللَّه وَرَسُوله وَهُوَ الْحَقّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وَلَد اللَّه وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول إِنَّهُ اللَّه تَعَالَى اللَّه عَنْ قَوْلهمْ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " فَوَيْل لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَاب يَوْم أَلِيم " .
يَقُول تَعَالَى هَلْ يَنْتَظِر هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ " إِلَّا السَّاعَة أَنْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَة وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " أَيْ فَإِنَّهَا كَائِنَة لَا مَحَالَة وَوَاقِعَة وَهَؤُلَاءِ غَافِلُونَ عَنْهَا غَيْر مُسْتَعِدِّينَ فَإِذَا جَاءَتْ إِنَّمَا تَجِيء وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا فَحِينَئِذٍ يَنْدَمُونَ كُلّ النَّدَم حَيْثُ لَا يَنْفَعهُمْ وَلَا يَدْفَع عَنْهُمْ .
أَيْ كُلّ صَدَاقَة وَصَحَابَة لِغَيْرِ اللَّه فَإِنَّهَا تَنْقَلِب يَوْم الْقِيَامَة عَدَاوَة إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ دَائِم بِدَوَامِهِ وَهَذَا كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِقَوْمِهِ " إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُون اللَّه أَوْثَانًا مَوَدَّة بَيْنكُمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْم الْقِيَامَة يَكْفُر بَعْضكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَن بَعْضكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّار وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ " . وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ الْحَارِث عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ " الْأَخِلَّاء يَوْمئِذٍ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ " قَالَ خَلِيلَانِ مُؤْمِنَانِ وَخَلِيلَانِ كَافِرَانِ فَتُوُفِّيَ أَحَد الْمُؤْمِنَيْنِ وَبُشِّرَ بِالْجَنَّةِ فَذَكَرَ خَلِيله فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا خَلِيلِي كَانَ يَأْمُرنِي بِطَاعَتِك وَطَاعَة رَسُولك وَيَأْمُرنِي بِالْخَيْرِ وَيَنْهَانِي عَنْ الشَّرّ وَيُنَبِّئنِي أَنِّي مُلَاقِيك اللَّهُمَّ فَلَا تُضِلّهُ بَعْدِي حَتَّى تُرِيه مِثْل مَا أَرَيْتنِي وَتَرْضَى عَنْهُ كَمَا رَضِيت عَنِّي فَيُقَال لَهُ اِذْهَبْ فَلَوْ تَعْلَم مَا لَهُ عِنْدِي لَضَحِكْت كَثِيرًا وَبَكَيْت قَلِيلًا قَالَ ثُمَّ يَمُوت الْآخَر فَتَجْتَمِع أَرْوَاحهمَا فَيُقَال لِيُثْنِ أَحَدكُمَا عَلَى صَاحِبه فَيَقُول كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ نِعْمَ الْأَخ وَنِعْمَ الصَّاحِب وَنِعْمَ الْخَلِيل وَإِذَا مَاتَ أَحَد الْكَافِرَيْنِ وَبُشِّرَ بِالنَّارِ ذَكَرَ خَلِيله فَيَقُول اللَّهُمَّ إِنَّ خَلِيلِي فُلَانًا كَانَ يَأْمُرنِي بِمَعْصِيَتِك وَمَعْصِيَة رَسُولك وَيَأْمُرنِي بِالشَّرِّ وَيَنْهَانِي عَنْ الْخَيْر وَيُخْبِرنِي أَنِّي غَيْر مُلَاقِيك اللَّهُمَّ فَلَا تَهْدِهِ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَه مِثْل مَا أَرَيْتنِي وَتَسْخَط عَلَيْهِ كَمَا سَخِطْت عَلَيَّ قَالَ فَيَمُوت الْكَافِر الْآخَر فَيُجْمَع بَيْن أَرْوَاحهمَا فَيُقَال لِيُثْنِ كُلّ وَاحِد مِنْكُمَا عَلَى صَاحِبه فَيَقُول كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِئْسَ الْأَخ وَبِئْسَ الصَّاحِب وَبِئْسَ الْخَلِيل . رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَمُجَاهِد وَقَتَادَة صَارَتْ كُلّ خُلَّة عَدَاوَة يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا الْمُتَّقِينَ وَرَوَى الْحَافِظ اِبْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمَة هِشَام بْن أَحْمَد عَنْ هِشَام بْن عَبْد اللَّه بْن كَثِير حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن الْخَضِر بِالرَّقَّةِ عَنْ مُعَافَى حَدَّثَنَا حَكِيم بْن نَافِع عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّه أَحَدهمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَر بِالْمَغْرِبِ لَجَمَعَ اللَّه تَعَالَى بَيْنهمَا يَوْم الْقِيَامَة يَقُول هَذَا الَّذِي أَحْبَبْته فِيَّ " .
أَيْ بَشَّرَهُمْ .
أَيْ آمَنَتْ قُلُوبهمْ وَبَوَاطِنهمْ وَانْقَادَتْ لِشَرْعِ اللَّه جَوَارِحهمْ وَظَوَاهِرهمْ قَالَ الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان عَنْ أَبِيهِ إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة فَإِنَّ النَّاس حِين يُبْعَثُونَ لَا يَبْقَى أَحَد مِنْهُمْ إِلَّا فَزِعَ فَنَادَى مُنَادٍ " يَا عِبَاد لَا خَوْف عَلَيْكُمْ الْيَوْم وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ " فَيَرْجُوهَا النَّاس كُلّهمْ قَالَ فَيَتَّبِعهَا " الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ " قَالَ فَيَيْأَس النَّاس مِنْهَا غَيْر الْمُؤْمِنِينَ.
أَيْ يُقَال لَهُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّة " أَنْتُمْ وَأَزْوَاجكُمْ " أَيْ نُظَرَاؤُكُمْ " تُحْبَرُونَ " أَيْ تَتَنَعَّمُونَ وَتَسْعَدُونَ قَالَ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير يَعْنِي سَمَاع الْغِنَاء . وَالْحَبَرَة أَعَمّ مِنْ هَذَا كُلّه قَالَ الْعَجَّاج : فَالْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَعْطَى الْحَبَرْ مَوَالِي الْحَقّ إِنْ الْمَوْلَى شَكَرْ .
يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ↓
أَيْ زَبَادِي آنِيَة الطَّعَام " وَأَكْوَاب " وَهِيَ آنِيَة الشَّرَاب أَيْ مِنْ ذَهَب لَا خَرَاطِيم لَهَا وَلَا عُرَى " وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُس " وَقَرَأَ بَعْضهمْ تَشْتَهِيه الْأَنْفُس " وَتَلَذّ الْأَعْيُن" أَيْ طِيب الطَّعْم وَالرِّيح وَحَسِن الْمَنْظَر قَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا مَعْمَر أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيل بْن أَبِي سَعِيد قَالَ : إِنَّ عِكْرِمَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِنَّ أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة مَنْزِلَة وَأَسْفَلهمْ دَرَجَة لَرَجُلٌ لَا يَدْخُل الْجَنَّة بَعْده أَحَد يُفْسَح لَهُ فِي بَصَره مَسِيرَة مِائَة عَام فِي قُصُور مِنْ ذَهَب وَخِيَام مِنْ لُؤْلُؤ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِع شِبْر إِلَّا مَعْمُور يُغَدَّى عَلَيْهِ وَيُرَاح بِسَبْعِينَ أَلْف صَحْفَة مِنْ ذَهَب لَيْسَ فِيهَا صَحْفَة إِلَّا فِيهَا لَوْن لَيْسَ فِي الْأُخْرَى مِثْله شَهْوَته فِي آخِرهَا كَشَهْوَتِهِ فِي أَوَّلهَا لَوْ نَزَلَ بِهِ جَمِيع أَهْل الْأَرْض لَوَسِعَ عَلَيْهِمْ مِمَّا أُعْطِيَ لَا يَنْقُص ذَلِكَ مِمَّا أُوتِيَ شَيْئًا " وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن الْجُنَيْد حَدَّثَنَا عَمْرو بْن سَوَّاد السَّرَحِيّ حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن وَهْب عَنْ اِبْن لَهِيعَة عَنْ عُقَيْل بْن خَالِد عَنْ الْحَسَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَدَّثَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ وَذَكَرَ الْجَنَّة فَقَالَ " وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَيَأْخُذَن أَحَدكُمْ اللُّقْمَة فَيَجْعَلهَا فِي فِيهِ ثُمَّ يَخْطِر عَلَى بَاله طَعَام آخَر فَيَتَحَوَّل الطَّعَام الَّذِي فِي فِيهِ عَلَى الَّذِي اِشْتَهَى " ثُمَّ قَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيه الْأَنْفُس وَتَلَذّ الْأَعْيُن وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا حَسَن هُوَ اِبْن مُوسَى حَدَّثَنَا مِسْكِين بْن عَبْد الْعَزِيز حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَث الضَّرِير عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة مَنْزِلَة مَنْ لَهُ لَسَبْعُ دَرَجَات وَهُوَ عَلَى السَّادِسَة وَفَوْقه السَّابِعَة وَإِنَّ لَهُ ثَلَثمِائَةِ خَادِم وَيُغَدَّى عَلَيْهِ وَيُرَاح كُلّ يَوْم بِثَلَثِمِائَةِ صَحْفَة - وَلَا أَعْلَمهُ إِلَّا قَالَ مِنْ ذَهَب - فِي كُلّ صَحْفَة لَوْن لَيْسَ فِي الْأُخْرَى وَإِنَّهُ لَيَلَذّ أَوَّله كَمَا يَلَذّ آخِره وَمِنْ الْأَشْرِبَة ثَلَثمِائَةِ إِنَاء فِي كُلّ إِنَاء لَوْن لَيْسَ فِي الْآخَر وَإِنَّهُ لَيَلَذّ أَوَّله كَمَا يَلَذّ آخِره وَإِنَّهُ لَيَقُولُ يَا رَبّ لَوْ أَذِنْت لِي لَأَطْعَمْت أَهْل الْجَنَّة وَسَقَيْتهمْ لَمْ يَنْقُص مِمَّا عِنْدِي شَيْء وَإِنَّ لَهُ مِنْ الْحُور الْعِين لِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَة سِوَى أَزْوَاجه مِنْ الدُّنْيَا وَإِنَّ الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ لَتَأْخُذ مَقْعَدهَا قَدْر مِيل مِنْ الْأَرْض " . وَقَوْله تَعَالَى " وَأَنْتُمْ فِيهَا " أَيْ فِي الْجَنَّة " خَالِدُونَ " أَيْ لَا تَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا تَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا .
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ عَلَى وَجْه التَّفَضُّل وَالِامْتِنَان " وَتِلْكَ الْجَنَّة الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " أَيْ أَعْمَالكُمْ الصَّالِحَة كَانَتْ سَبَبًا لِشُمُولِ رَحْمَة اللَّه إِيَّاكُمْ فَإِنَّهُ لَا يُدْخِل أَحَدًا عَمَله الْجَنَّة وَلَكِنْ بِرَحْمَةِ اللَّه وَفَضْله وَإِنَّمَا الدَّرَجَات يُنَال تَفَاوُتهَا بِحَسَبِ الْأَعْمَال الصَّالِحَات قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا الْفَضْل بْن شَاذَانَ الْمُقْرِي حَدَّثَنَا يُوسُف بْن يَعْقُوب يَعْنِي الصَّفَّار حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلّ أَهْل النَّار يَرَى مَنْزِله مِنْ الْجَنَّة حَسْرَة فَيَكُون لَهُ فَيَقُول " لَوْ أَنَّ اللَّه هَدَانِي لَكُنْت مِنْ الْمُتَّقِينَ " وَكُلّ أَهْل الْجَنَّة يَرَى مَنْزِله مِنْ النَّار فَيَقُول " وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّه " فَيَكُون لَهُ شُكْرًا " قَالَ : وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا مِنْ أَحَد إِلَّا وَلَهُ مَنْزِل فِي الْجَنَّة وَمَنْزِل فِي النَّار فَالْكَافِر يَرِث الْمُؤْمِن مَنْزِله مِنْ النَّار وَالْمُؤْمِن يَرِث الْكَافِر مَنْزِله مِنْ الْجَنَّة " وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى " وَتِلْكَ الْجَنَّة الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " .
قَوْله تَعَالَى" لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَة كَثِيرَة " أَيْ مِنْ جَمِيع الْأَنْوَاع " مِنْهَا تَأْكُلُونَ " أَيْ مَهْمَا اِخْتَرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ وَلَمَّا ذَكَرَ الطَّعَام وَالشَّرَاب ذَكَرَ بَعْده الْفَاكِهَة لِتَتِمّ النِّعْمَة وَالْغِبْطَة وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَال السُّعَدَاء ثَنَّى بِذِكْرِ الْأَشْقِيَاء فَقَالَ " إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَاب جَهَنَّم خَالِدُونَ " .
أَيْ سَاعَة وَاحِدَة" وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ " أَيْ آيِسُونَ مِنْ كُلّ خَيْر .
أَيْ بِأَعْمَالِهِمْ السَّيِّئَة بَعْد قِيَام الْحُجَّة عَلَيْهِمْ وَإِرْسَال الرُّسُل إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوا وَعَصَوْا فَجُوزُوا بِذَلِكَ جَزَاء وِفَاقًا وَمَا رَبّك بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ .
" وَنَادَوْا يَا مَالِك " وَهُوَ خَازِن النَّار قَالَ الْبُخَارِيّ حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن مِنْهَال حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو بْن عَطَاء عَنْ صَفْوَان بْن يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأ عَلَى الْمِنْبَر " وَنَادَوْا يَا مَالِك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّك " أَيْ يَقْبِض أَرْوَاحنَا فَيُرِيحنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى " لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّف عَنْهُمْ مِنْ عَذَابهَا " وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ " وَيَتَجَنَّبهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّار الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يَحْيَا " فَلَمَّا سَأَلُوا أَنْ يَمُوتُوا أَجَابَهُمْ مَالِك" قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ " قَالَ اِبْن عَبَّاس مَكَثَ أَلْف سَنَة ثُمَّ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم أَيْ لَا خُرُوج لَكُمْ مِنْهَا وَلَا مَحِيد لَكُمْ عَنْهَا ثُمَّ ذَكَرَ سَبَب شِقْوَتهمْ وَهُوَ مُخَالَفَتهمْ لِلْحَقِّ وَمُعَانَدَتهمْ لَهُ .
قَالَ " لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ " أَيْ بَيَّنَّاهُ لَكُمْ وَوَضَّحْنَاهُ وَفَسَّرْنَاهُ " وَلَكِنَّ أَكْثَركُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ" أَيْ وَلَكِنْ كَانَتْ سَجَايَاكُمْ لَا تَقْبَلهُ وَلَا تُقْبِل عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَنْقَاد لِلْبَاطِلِ وَتُعَظِّمهُ وَتَصُدّ عَنْ الْحَقّ وَتَأْبَاهُ وَتُبْغِض أَهْله فَعُودُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ بِالْمَلَامَةِ وَانْدَمُوا حَيْثُ لَا تَنْفَعكُمْ النَّدَامَة .
قَالَ مُجَاهِد أَرَادُوا كَيْد شَرّ فَكِدْنَاهُمْ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِد كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَحَيَّلُونَ فِي رَدّ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ بِحِيَلٍ وَمَكْر يَسْلُكُونَهُ فَكَادَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَرَدَّ وَبَال ذَلِكَ عَلَيْهِمْ .
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ↓
قَالَ " أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَع سِرّهمْ وَنَجْوَاهُمْ " أَيْ سِرّهمْ وَعَلَانِيَتهمْ " بَلَى وَرُسُلنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ " أَيْ نَحْنُ نَعْلَم مَا هُمْ عَلَيْهِ وَالْمَلَائِكَة أَيْضًا يَكْتُبُونَ أَعْمَالهمْ صَغِيرهَا وَكَبِيرهَا .
يَقُول تَعَالَى " قُلْ " يَا مُحَمَّد " إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَد فَأَنَا أَوَّل الْعَابِدِينَ " أَيْ لَوْ فُرِضَ هَذَا لَعَبَدْتُهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنِّي عَبْد مِنْ عَبِيده مُطِيع لِجَمِيعِ مَا يَأْمُرنِي بِهِ لَيْسَ عِنْدِي اِسْتِكْبَار وَلَا إِبَاء عَنْ عِبَادَته فَلَوْ فُرِضَ هَذَا لَكَانَ هَذَا وَلَكِنَّ هَذَا مُمْتَنِع فِي حَقّه تَعَالَى وَالشَّرْط لَا يَلْزَم مِنْهُ الْوُقُوع وَلَا الْجَوَاز أَيْضًا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ " لَوْ أَرَادَ اللَّه أَنْ يَتَّخِذ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُق مَا يَشَاء سُبْحَانه هُوَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار" وَقَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى " فَأَنَا أَوَّل الْعَابِدِينَ " أَيْ الْآنِفِينَ وَمِنْهُمْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالْبُخَارِيّ حَكَاهُ فَقَالَ وَيُقَال أَوَّل الْعَابِدِينَ الْجَاحِدِينَ مِنْ عَبَدَ يَعْبُد وَذَكَرَ اِبْن جَرِير لِهَذَا الْقَوْل مِنْ الشَّوَاهِد مَا رَوَاهُ عَنْ يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى عَنْ اِبْن وَهْب حَدَّثَنِي اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ أَبِي قُسَيْطٍ عَنْ بَعْجَة بْن بَدْر الْجُهَنِيّ أَنَّ اِمْرَأَة مِنْهُمْ دَخَلَتْ عَلَى زَوْجهَا وَهُوَ رَجُل مِنْهُمْ أَيْضًا فَوَلَدَتْ لَهُ فِي سِتَّة أَشْهُر فَذَكَرَ ذَلِكَ زَوْجهَا لِعُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَم فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه " وَحَمْله وَفِصَاله ثَلَاثُونَ شَهْرًا " وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ " وَفِصَاله فِي عَامَيْنِ " قَالَ فَوَاَللَّهِ مَا عَبَدَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ بَعَثَ إِلَيْهَا تُرَدّ قَالَ يُونُس قَالَ اِبْن وَهْب عَبْد اِسْتَنْكَفَ وَقَالَ الشَّاعِر : مَتَى مَا يَشَأْ ذُو الْوُدّ يَصْرُم خَلِيله وَيَعْبُد عَلَيْهِ لَا مَحَالَة ظَالِمَا وَهَذَا الْقَوْل فِيهِ نَظَر لِأَنَّهُ كَيْف يَلْتَئِم مَعَ الشَّرْط فَيَكُون تَقْدِيره إِنْ كَانَ هَذَا فَأَنَا مُمْتَنِع مِنْهُ ؟ هَذَا فِيهِ نَظَر فَلْيُتَأَمَّلْ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَال إِنَّ إِنْ لَيْسَتْ شَرْطًا وَإِنَّمَا هِيَ نَافِيَة كَمَا قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى " قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَد " يَقُول لَمْ يَكُنْ لِلرَّحْمَنِ وَلَد فَأَنَا أَوَّل الشَّاهِدِينَ وَقَالَ قَتَادَة هِيَ كَلِمَة مِنْ كَلَام الْعَرَب " إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَد فَأَنَا أَوَّل الْعَابِدِينَ " أَيْ إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَنْبَغِي وَقَالَ أَبُو صَخْر " قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَد فَأَنَا أَوَّل الْعَابِدِينَ " أَيْ فَأَنَا أَوَّل مَنْ عَبَدَهُ بِأَنْ لَا وَلَد لَهُ وَأَوَّل مَنْ وَحَّدَهُ وَكَذَا قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ وَقَالَ مُجَاهِد " فَأَنَا أَوَّل الْعَابِدِينَ " أَيْ أَوَّل مَنْ عَبَدَهُ وَوَحَّدَهُ وَكَذَّبَكُمْ وَقَالَ الْبُخَارِيّ " فَأَنَا أَوَّل الْعَابِدِينَ " الْآنِفِينَ وَهُمَا لُغَتَانِ رَجُل عَابِد وَعُبَّد وَالْأَوَّل أَقْرَب عَلَى أَنَّهُ شَرْط وَجَزَاء وَلَكِنْ هُوَ مُمْتَنِع وَقَالَ السُّدِّيّ" قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَد فَأَنَا أَوَّل الْعَابِدِينَ" يَقُول لَوْ كَانَ لَهُ وَلَد كُنْت أَوَّل مَنْ عَبَدَهُ بِأَنَّ لَهُ وَلَد وَلَكِنْ لَا وَلَد لَهُ وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن جَرِير وَرَدَّ قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِنْ نَافِيَة .
أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ خَالِق الْأَشْيَاء عَنْ أَنْ يَكُون لَهُ وَلَد فَإِنَّهُ فَرْد أَحَد لَا نَظِير لَهُ وَلَا كُفْء لَهُ فَلَا وَلَد لَهُ .
" فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا " أَيْ فِي جَهْلهمْ وَضَلَالهمْ" وَيَلْعَبُونَ " فِي دُنْيَاهُمْ " حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمهمْ الَّذِي يُوعَدُونَ " وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة أَيْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ كَيْف يَكُون مَصِيرهمْ وَمَآلهمْ وَحَالهمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْم .
أَيْ هُوَ إِلَه مَنْ فِي السَّمَاء وَإِلَه مَنْ فِي الْأَرْض يَعْبُدهُ أَهْلهمَا وَكُلّهمْ خَاضِعُونَ لَهُ أَذِلَّاء بَيْن يَدَيْهِ" هُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم " وَهَذِهِ الْآيَة كَقَوْلِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى " وَهُوَ اللَّه فِي السَّمَوَات وَفِي الْأَرْض يَعْلَم سِرّكُمْ وَجَهْركُمْ وَيَعْلَم مَا تَكْسِبُونَ " أَيْ هُوَ الْمَدْعُوّ اللَّه فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض .
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ↑
أَيْ هُوَ خَالِقهمَا وَمَالِكهمَا وَالْمُتَصَرِّف فِيهِمَا بِلَا مُدَافَعَة وَلَا مُمَانَعَة فَسُبْحَانه وَتَعَالَى عَنْ الْوَلَد وَتَبَارَكَ أَيْ اِسْتَقَرَّ لَهُ السَّلَامَة مِنْ الْعُيُوب وَالنَّقَائِص لِأَنَّهُ الرَّبّ الْعَلِيّ الْعَظِيم الْمَالِك لِلْأَشْيَاءِ الَّذِي بِيَدِهِ أَزِمَّة الْأُمُور نَقْضًا وَإِبْرَامًا " وَعِنْده عِلْم السَّاعَة " أَيْ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ " وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " أَيْ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْر وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ .
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ↓
" وَلَا يَمْلِك الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونه " أَيْ مِنْ الْأَصْنَام وَالْأَوْثَان " الشَّفَاعَة" أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الشَّفَاعَة لَهُمْ " إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " هَذَا اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع أَيْ لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ عَلَى بَصِيرَة وَعِلْم فَإِنَّهُ تَنْفَع شَفَاعَته عِنْده بِإِذْنِهِ لَهُ .
أَيْ وَلَئِنْ سَأَلْت هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْره " مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه" أَيْ هُمْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ الْخَالِق لِلْأَشْيَاءِ جَمِيعهَا وَحْده لَا شَرِيك لَهُ فِي ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْره مِمَّنْ لَا يَمْلِك شَيْئًا وَلَا يَقْدِر عَلَى شَيْء فَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي غَايَة الْجَهْل وَالسَّفَاهَة وَسَخَافَة الْعَقْل وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ " .
أَيْ وَقَالَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيله أَيْ شَكَا إِلَى رَبّه شَكْوَاهُ مِنْ قَوْمه الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَقَالَ يَا رَبّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْم لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى " وَقَالَ الرَّسُول يَا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا " وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَعَلَيْهِ فَسَّرَ اِبْن جَرِير قَالَ الْبُخَارِيّ وَقَرَأَ عَبْد اللَّه يَعْنِي اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ " وَقَالَ الرَّسُول يَا رَبّ " وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله " وَقِيله يَا رَبّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْم لَا يُؤْمِنُونَ " قَالَ يُؤْثِر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَوْل مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ قَتَادَة هُوَ قَوْل نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو قَوْمه إِلَى رَبّه عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ حَكَى اِبْن جَرِير فِي قَوْله تَعَالَى " وَقِيله يَا رَبّ " قِرَاءَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا النَّصْب وَلَهَا تَوْجِيهَانِ أَحَدهمَا أَنَّهُ مَعْطُوف عَلَى قَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى " نَسْمَع سِرّهمْ وَنَجْوَاهُمْ " وَالثَّانِي أَنْ يُقَدَّر فِعْل وَقَالَ قِيله وَالثَّانِيَة الْخَفْض وَقِيله عَطْفًا عَلَى قَوْله " وَعِنْده عِلْم السَّاعَة " وَتَقْدِيره وَعِلْم قِيله .
أَيْ الْمُشْرِكِينَ" وَقُلْ سَلَام " أَيْ لَا تُجَاوِبهُمْ بِمِثْلِ مَا يُخَاطِبُونَك بِهِ مِنْ الْكَلَام السَّيِّئ وَلَكِنْ تَأَلَّفْهُمْ وَاصْفَحْ عَنْهُمْ فِعْلًا وَقَوْلًا " فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ " هَذَا تَهْدِيد مِنْ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ وَلِهَذَا أَحَلَّ بِهِمْ بَأْسه الَّذِي لَا يُرَدّ وَأَعْلَى دِينه وَكَلِمَته وَشَرَعَ بَعْد ذَلِكَ الْجِهَاد وَالْجِلَاد حَتَّى دَخَلَ النَّاس فِي دِين اللَّه أَفْوَاجًا وَانْتَشَرَ الْإِسْلَام فِي الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب وَاَللَّه أَعْلَم . آخِر تَفْسِير سُورَة الزُّخْرُف .