الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ↓
سُورَة الْأَنْعَام قَالَ الْعَوْفِيّ وَعِكْرِمَة وَعَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس أُنْزِلَتْ سُورَة الْأَنْعَام بِمَكَّة . وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الْعَزِيز حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن مِنْهَال حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد عَنْ يُوسُف بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَتْ الْأَنْعَام بِمَكَّة لَيْلًا جُمْلَة وَاحِدَة حَوْلهَا سَبْعُونَ أَلْف مَلَك يَجْأَرُونَ حَوْلهَا بِالتَّسْبِيحِ وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ لَيْث عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ أَسْمَاء بِنْت يَزِيد قَالَتْ : نَزَلَتْ سُورَة الْأَنْعَام عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمْلَة وَأَنَا آخِذَة بِزِمَامِ نَاقَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَادَتْ مِنْ ثِقَلهَا لَتَكْسِر عِظَام النَّاقَة . وَقَالَ شَرِيك عَنْ لَيْث عَنْ شَهْر عَنْ أَسْمَاء قَالَتْ : نَزَلَتْ سُورَة الْأَنْعَام عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَسِير فِي زَجَل مِنْ الْمَلَائِكَة وَقَدْ طَبَّقُوا مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض . وَقَالَ السُّدِّيّ عَنْ مُرَّة عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : نَزَلَتْ سُورَة الْأَنْعَام يُشَيِّعهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَة وَرُوِيَ نَحْوه مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَقَالَ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْرَكه : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن يَعْقُوب الْحَافِظ وَأَبُو الْفَضْل الْحَسَن بْن يَعْقُوب الْعَدْل قَالَا : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَهَّاب الْعَبْدِيّ أَخْبَرَنَا جَعْفَر بْن عَوْن حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَبْد الرَّحْمَن السُّدِّيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ سُورَة الْأَنْعَام سَبَّحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ " لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَة مِنْ الْمَلَائِكَة مَا سَدَّ الْأُفُق " ثُمَّ قَالَ صَحِيح عَلَى شَرْط مُسْلِم . وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن مَرْدُوَيْهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُمَر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن دُرُسْتَوَيْهِ الْفَارِسِيّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَالِم حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي فُدَيْك حَدَّثَنِي عُمَر بْن طَلْحَة الرَّقَاشِيّ عَنْ نَافِع بْن مَالِك بْن أَبِي سُهَيْل عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَزَلَتْ سُورَة الْأَنْعَام مَعَهَا مَوْكِب مِنْ الْمَلَائِكَة سَدَّ مَا بَيْن الْخَافِقَيْنِ لَهُمْ زَجَل بِالتَّسْبِيحِ , وَالْأَرْض بِهِمْ تَرْتَجّ " وَرَسُول اللَّه يَقُول " سُبْحَان اللَّه الْعَظِيم سُبْحَان اللَّه الْعَظِيم " ثُمَّ رَوَى اِبْن مَرْدُوَيْهِ عَنْ الطَّبَرَانِيّ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن نَائِلَة عَنْ إِسْمَاعِيل بْن عُمَر عَنْ يُوسُف بْن عَطِيَّة عَنْ اِبْن عَوْن عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَة الْأَنْعَام جُمْلَة وَاحِدَة وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَة لَهُمْ زَجَل بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيد" . يَقُول اللَّه تَعَالَى مَادِحًا نَفْسه الْكَرِيمَة وَحَامِدًا لَهَا عَلَى خَلْقه السَّمَوَات وَالْأَرْض قَرَارًا لِعِبَادِهِ . وَجَعَلَ الظُّلُمَات وَالنُّور مَنْفَعَة لِعِبَادِهِ فِي لَيْلهمْ وَنَهَارهمْ فَجَمَعَ لَفْظ الظُّلُمَات وَوَحَّدَ لَفْظ النُّور لِكَوْنِهِ أَشْرَف كَقَوْلِهِ تَعَالَى " عَنْ الْيَمِين وَالشَّمَائِل " وَكَمَا قَالَ فِي آخِر هَذِهِ السُّورَة " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيله " ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ" أَيْ وَمَعَ هَذَا كُلّه كَفَرَ بِهِ بَعْض عِبَاده وَجَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا وَعَدْلًا وَاِتَّخَذُوا لَهُ صَاحِبَة وَوَلَدًا تَعَالَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ↓
وَقَوْله تَعَالَى " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين " يَعْنِي أَبَاهُمْ آدَم الَّذِي هُوَ أَصْلهمْ وَمِنْهُ خَرَجُوا فَانْتَشَرُوا فِي الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب وَقَوْله" ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَل مُسَمًّى عِنْده " قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " يَعْنِي الْمَوْت " وَأَجَل مُسَمًّى عِنْده " يَعْنِي الْآخِرَة وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَزَيْد بْن أَسْلَمَ وَعَطِيَّة وَالسُّدِّيّ وَمُقَاتِل بْن حَيَّان وَغَيْرهمْ وَقَوْل الْحَسَن فِي رِوَايَة عَنْهُ " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا" وَهُوَ مَا بَيْن أَنْ يُخْلَق إِلَى أَنْ يَمُوت " وَأَجَل مُسَمًّى عِنْده " وَهُوَ مَا بَيْن أَنْ يَمُوت إِلَى أَنْ يُبْعَث هُوَ يَرْجِع إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ تَقْدِير الْأَجَل الْخَاصّ وَهُوَ عُمْر كُلّ إِنْسَان وَتَقْدِير الْأَجَل الْعَامّ وَهُوَ عُمْر الدُّنْيَا بِكَمَالِهَا ثُمَّ اِنْتِهَائِهَا وَانْقِضَائِهَا وَزَوَالهَا وَانْتِقَالهَا وَالْمَصِير إِلَى الدَّار الْآخِرَة وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد" ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " يَعْنِي مُدَّة الدُّنْيَا " وَأَجَل مُسَمًّى عِنْده " يَعْنِي عُمْر الْإِنْسَان إِلَى حِين مَوْته وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ قَوْله تَعَالَى بَعْد هَذَا " وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَم مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ " الْآيَة وَقَالَ عَطِيَّة عَنْ اِبْن عَبَّاس " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " يَعْنِي النَّوْم يَقْبِض فِيهِ الرُّوح ثُمَّ يَرْجِع إِلَى صَاحِبه عِنْد الْيَقَظَة " وَأَجَل مُسَمًّى عِنْده " يَعْنِي أَجَل مَوْت الْإِنْسَان وَهَذَا قَوْل غَرِيب وَمَعْنَى قَوْله " عِنْده " أَيْ لَا يَعْلَمهُ إِلَّا هُوَ كَقَوْلِهِ " إِنَّمَا عِلْمهَا عِنْد رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ " وَكَقَوْلِهِ" يَسْأَلُونَك عَنْ السَّاعَة أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبّك مُنْتَهَاهَا " وَقَوْله تَعَالَى " ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ " قَالَ السُّدِّيّ وَغَيْره : يَعْنِي تَشُكُّونَ فِي أَمْر السَّاعَة .
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ↓
وَقَوْله تَعَالَى " وَهُوَ اللَّه فِي السَّمَوَات وَفِي الْأَرْض يَعْلَم سِرّكُمْ وَجَهْركُمْ " اِخْتَلَفَ مُفَسِّرُو هَذِهِ الْآيَة عَلَى أَقْوَال بَعْد اِتِّفَاقهمْ عَلَى إِنْكَار قَوْل الْجَهْمِيَّة الْأُوَل الْقَائِلِينَ تَعَالَى عَنْ قَوْلهمْ عُلُوًّا كَبِيرًا بِأَنَّهُ فِي كُلّ مَكَان حَيْثُ حَمَلُوا الْآيَة عَلَى ذَلِكَ فَالْأَصَحّ مِنْ الْأَقْوَال أَنَّهُ الْمَدْعُوّ اللَّه فِي السَّمَوَات وَفِي الْأَرْض أَيْ يَعْبُدهُ وَيُوَحِّدهُ وَيُقِرّ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض وَيُسَمُّونَهُ اللَّه وَيَدْعُونَهُ رَغَبًا وَرَهَبًا إِلَّا مَنْ كَفَرَ مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس وَهَذِهِ الْآيَة عَلَى هَذَا الْقَوْل كَقَوْلِهِ تَعَالَى " وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الْأَرْض إِلَه " أَيْ هُوَ إِلَه مَنْ فِي السَّمَاء وَإِلَه مَنْ فِي الْأَرْض وَعَلَى هَذَا فَيَكُون قَوْله " يَعْلَم سِرّكُمْ وَجَهْركُمْ " خَبَرًا أَوْ حَالًا . " وَالْقَوْل الثَّانِي " أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ اللَّه الَّذِي يَعْلَم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض مِنْ سِرّ وَجَهْر فَيَكُون قَوْله يَعْلَم مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ " فِي السَّمَوَات وَفِي الْأَرْض " تَقْدِيره وَهُوَ اللَّه يَعْلَم سِرّكُمْ وَجَهْركُمْ فِي السَّمَوَات وَفِي الْأَرْض وَيَعْلَم مَا تَكْسِبُونَ وَالْقَوْل الثَّالِث أَنَّ قَوْله " وَهُوَ اللَّه فِي السَّمَوَات " وَقْف تَامّ ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ الْخَبَر فَقَالَ " وَفِي الْأَرْض يَعْلَم سِرّكُمْ وَجَهْركُمْ " وَهَذَا اِخْتِيَار اِبْن جَرِير وَقَوْله " وَيَعْلَم مَا تَكْسِبُونَ " أَيْ جَمِيع أَعْمَالكُمْ خَيْرهَا وَشَرّهَا .
يَقُول تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا أَتَتْهُمْ آيَة أَيْ دَلَالَة وَمُعْجِزَة وَحُجَّة مِنْ الدَّلَالَات عَلَى وَحْدَانِيَّة اللَّه وَصِدْق رُسُله الْكِرَام فَإِنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَلَا يُبَالُونَ بِهَا .
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ↓
وَهَذَا تَهْدِيد لَهُمْ وَوَعِيد شَدِيد عَلَى تَكْذِيبهمْ بِالْحَقِّ بِأَنَّهُ لَا بُدّ أَنْ يَأْتِيهِمْ خَبَر مَا هُمْ فِيهِ مِنْ التَّكْذِيب وَلَيَجِدُنَّ غِبّه وَلَيَذُوقُنَّ وَبَاله . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَاعِظًا لَهُمْ أَنْ يُصِيبهُمْ مِنْ الْعَذَاب وَالنَّكَال الدُّنْيَوِيّ مَا حَلَّ بِأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ الْقُرُون السَّالِفَة الَّذِينَ كَانُوا أَشَدّ مِنْهُمْ قُوَّة وَأَكْثَر جَمْعًا وَأَكْثَر أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَاسْتِعْلَاء فِي الْأَرْض وَعِمَارَة لَهَا .
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ↓
فَقَالَ" أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلهمْ مِنْ قَرْن مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْض مَا لَمْ نُمَكِّن لَكُمْ " أَيْ مِنْ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد وَالْأَعْمَار وَالْجَاه الْعَرِيض وَالسَّعَة وَالْجُنُود وَلِهَذَا قَالَ " وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا " أَيْ شَيْئًا بَعْد شَيْء " وَجَعَلْنَا الْأَنْهَار تَجْرِي مِنْ تَحْتهمْ " أَيْ كَثَّرْنَا عَلَيْهِمْ أَمْطَار السَّمَاء وَيَنَابِيع الْأَرْض أَيْ اِسْتِدْرَاجًا وَإِمْلَاء لَهُمْ " فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ" أَيْ بِخَطَايَاهُمْ وَسَيِّئَاتهمْ الَّتِي اجْتَرَمُوهَا " وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدهمْ قَرْنًا آخَرِينَ " أَيْ فَذَهَبَ الْأَوَّلُونَ كَأَمْسِ الذَّاهِب وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيث " وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدهمْ قَرْنًا آخَرِينَ " أَيْ جِيلًا آخَر لِنَخْتَبِرهُمْ فَعَمِلُوا مِثْل أَعْمَالهمْ فَأُهْلِكُوا كَإِهْلَاكِهِمْ فَاحْذَرُوا أَيّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَنْ يُصِيبكُمْ مِثْل مَا أَصَابَهُمْ فَمَا أَنْتُمْ بِأَعَزّ عَلَى اللَّه مِنْهُمْ وَالرَّسُول الَّذِي كَذَّبْتُمُوهُ أَكْرَم عَلَى اللَّه مِنْ رَسُولهمْ فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْعَذَابِ وَمُعَاجَلَة الْعُقُوبَة مِنْهُمْ لَوْلَا لُطْفه وَإِحْسَانه .
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ↓
يَقُول تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَعِنَادهمْ وَمُكَابَرَتهمْ لِلْحَقِّ وَمُبَاهَتَتهمْ وَمُنَازَعَتهمْ فِيهِ " وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْك كِتَابًا فِي قِرْطَاس فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ " أَيْ عَايَنُوهُ وَرَأَوْا نُزُوله وَبَاشَرُوا ذَلِكَ لَقَالَ " الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْر مُبِين " وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُكَابَرَتهمْ لِلْمَحْسُوسَاتِ " وَلَوْ فَتْحنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ السَّمَاء فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارنَا بَلْ نَحْنُ قَوْم مَسْحُورُونَ " وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى" وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنْ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَاب مَرْكُوم " .
وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ↓
" وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَك " أَيْ لِيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا قَالَ اللَّه تَعَالَى" وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْر ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ" أَيْ لَوْ نُزِّلَتْ الْمَلَائِكَة عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ لَجَاءَهُمْ مِنْ اللَّه الْعَذَاب . كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى " مَا نُنَزِّل الْمَلَائِكَة إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ " وَقَوْله " يَوْم يَرَوْنَ الْمَلَائِكَة لَا بُشْرَى يَوْمئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ" الْآيَة .
أَيْ لَوْ أَنْزَلْنَا مَعَ الرَّسُول الْبَشَرِيّ مَلَكًا أَيْ لَوْ بَعَثْنَا إِلَى الْبَشَر رَسُولًا مَلَكِيًّا لَكَانَ عَلَى هَيْئَة الرَّجُل لِيُمْكِنهُمْ مُخَاطَبَته وَالِانْتِفَاع بِالْأَخْذِ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَالْتَبَسَ عَلَيْهِمْ الْأَمْر كَمَا هُمْ يُلَبِّسُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ فِي قَبُول رِسَالَة الْبَشَرِيّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى " قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْض مَلَائِكَة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاء مَلَكًا رَسُولًا" فَمِنْ رَحْمَته تَعَالَى بِخَلْقِهِ أَنَّهُ يُرْسِل إِلَى كُلّ صِنْف مِنْ الْخَلَائِق رُسُلًا مِنْهُ لِيَدْعُوَ بَعْضهمْ بَعْضًا وَلِيُمَكِّن بَعْضهمْ أَنْ يَنْتَفِع بِبَعْضٍ فِي الْمُخَاطَبَة وَالسُّؤَال كَمَا قَالَ تَعَالَى " لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاته وَيُزَكِّيهِمْ" الْآيَة قَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي الْآيَة : يَقُول لَوْ أَتَاهُمْ مَلَك مَا أَتَاهُمْ إِلَّا فِي صُورَة رَجُل لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَر إِلَى الْمَلَائِكَة مِنْ النُّور " وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ " أَيْ وَلَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ وَقَالَ الْوَالِبِيّ عَنْهُ : وَلَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ .
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ↓
هَذِهِ تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيب مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمه وَوَعْد لَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِالنُّصْرَةِ وَالْعَاقِبَة الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
أَيْ فَكَّرُوا فِي أَنْفُسكُمْ وَانْظُرُوا مَا أَحَلَّ اللَّه بِالْقُرُونِ الْمَاضِيَة الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُله وَعَانَدُوهُمْ مِنْ الْعَذَاب وَالنَّكَال وَالْعُقُوبَة فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا ادَّخَرَ لَهُمْ مِنْ الْعَذَاب الْأَلِيم فِي الْآخِرَة وَكَيْفَ نَجَّى رُسُله وَعِبَاده الْمُؤْمِنِينَ .
قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ↓
يُخْبِر تَعَالَى أَنَّهُ مَالِك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَنْ فِيهِمَا وَأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسه الْمُقَدَّسَة الرَّحْمَة كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيق الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللَّه لَمَّا خَلَقَ الْخَلْق كَتَبَ كِتَابًا عِنْده فَوْق الْعَرْش إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِب غَضَبِي وَقَوْله " لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا رَيْب فِيهِ" هَذِهِ اللَّام هِيَ الْمُوَطِّئَة لِلْقَسَمِ فَأَقْسَمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَة لَيَجْمَعَنَّ عِبَاده " إِلَى مِيقَات يَوْم مَعْلُوم " وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة الَّذِي لَا رَيْب فِيهِ أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْد عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَّا الْجَاحِدُونَ الْمُكَذِّبُونَ فَهُمْ فِي رَيْبهمْ يَتَرَدَّدُونَ وَقَالَ اِبْن مَرْدُوَيْهِ عَنْ تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن عُقْبَة حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا حُسَيْن بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا مُحْصَن بْن عُتْبَة الْيَمَانِيّ عَنْ الزُّبَيْر بْن شُبَيْب عَنْ عُثْمَان بْن حَاضِر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوُقُوف بَيْن يَدَيْ رَبّ الْعَالَمِينَ هَلْ فِيهِ مَاء قَالَ " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ فِيهِ لَمَاء إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّه لَيَرِدُونَ حِيَاض الْأَنْبِيَاء وَيَبْعَث اللَّه تَعَالَى سَبْعِينَ أَلْف مَلَك فِي أَيْدِيهمْ عِصِيّ مِنْ نَار يَذُودُونَ الْكُفَّار عَنْ حِيَاض الْأَنْبِيَاء " هَذَا حَدِيث غَرِيب. وَفِي التِّرْمِذِيّ " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيّ حَوْضًا وَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَكْثَرهمْ وَارِدًا " وَقَوْله " الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسهمْ" أَيْ يَوْم الْقِيَامَة " فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْمَعَادِ وَلَا يَخَافُونَ شَرّ ذَلِكَ الْيَوْم .
وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم " أَيْ السَّمِيع لِأَقْوَالِ عِبَاده الْعَلِيم بِحَرَكَاتِهِمْ وَضَمَائِرهمْ وَسَرَائِرهمْ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالتَّوْحِيدِ الْعَظِيم وَبِالشَّرْعِ الْقَوِيم وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُو النَّاس إِلَى صِرَاط اللَّه الْمُسْتَقِيم .
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ↓
" قُلْ أَغْيَر اللَّه أَتَّخِذ وَلِيًّا فَاطِر السَّمَوَات وَالْأَرْض " كَقَوْلِهِ" قُلْ أَفَغَيْر اللَّه تَأْمُرُونِّي أَعْبُد أَيّهَا الْجَاهِلُونَ" وَالْمَعْنَى : لَا أَتَّخِذ وَلِيًّا إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ فَإِنَّهُ فَاطِر السَّمَوَات وَالْأَرْض أَيْ خَالِقهمَا وَمُبْدِعهمَا عَلَى غَيْر مِثَال سَبَقَ " وَهُوَ يُطْعِم وَلَا يُطْعَم " أَيْ وَهُوَ الرَّزَّاق لِخَلْقِهِ مِنْ غَيْر اِحْتِيَاج إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَمَا خَلَقْت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا لَيَعْبُدُونَ " الْآيَة وَأَقَرَّ بَعْضهمْ هَهُنَا " وَهُوَ يُطْعِم وَلَا يُطْعَم" أَيْ لَا يَأْكُل وَفِي حَدِيث سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : دَعَا رَجُل مِنْ الْأَنْصَار مِنْ أَهْل قُبَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَعَام فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ فَلَمَّا طَعِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَسَلَ يَدَيْهِ قَالَ " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي يُطْعِم وَلَا يُطْعَم وَمَنَّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا مِنْ الشَّرَاب وَكَسَانَا مِنْ الْعُرْي وَكُلّ بَلَاء حَسَن أَبْلَانَا الْحَمْد لِلَّهِ غَيْر مُوَدَّع رَبِّي وَلَا مَكْفِيّ وَلَا مَكْفُور وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا مِنْ الطَّعَام وَسَقَانَا مِنْ الشَّرَاب وَكَسَانَا مِنْ الْعُرْي وَهَدَانَا مِنْ الضَّلَال وَبَصَّرَنَا مِنْ الْعَمَى وَفَضَّلَنَا عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ" " قُلْ إِنِّي أُمِرْت أَنْ أَكُون أَوَّل مَنْ أَسْلَمَ " أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة .
يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة .
" مَنْ يُصْرَف عَنْهُ " أَيْ الْعَذَاب " يَوْمئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ " يَعْنِي فَقَدْ رَحِمَهُ اللَّه " وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْمُبِين " كَقَوْلِهِ " فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّار وَأُدْخِلَ الْجَنَّة فَقَدْ فَازَ " وَالْفَوْز حُصُول الرِّبْح وَنَفْي الْخَسَارَة .
وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ↓
يَقُول تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّهُ مَالِك الضُّرّ وَالنَّفْع وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّف فِي خَلْقه بِمَا يَشَاء لَا مُعَقِّب لِحُكْمِهِ وَلَا رَادّ لِقَضَائِهِ" وَإِنْ يَمْسَسْك اللَّه بِضُرٍّ فَلَا كَاشِف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْك بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " كَقَوْلِهِ تَعَالَى" مَا يَفْتَح اللَّه لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَة فَلَا مُمْسِك لَهَا وَمَا يُمْسِك فَلَا مُرْسِل لَهُ مِنْ بَعْده " وَفِي الصَّحِيح أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول " لَا مَانِع لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَع ذَا الْجَدّ مِنْك الْجَدّ " .
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَهُوَ الْقَاهِر فَوْق عِبَاده " أَيْ هُوَ الَّذِي خَضَعَتْ لَهُ الرِّقَاب وَذَلَّتْ لَهُ الْجَبَابِرَة وَعَنَتْ لَهُ الْوُجُوه وَقَهَرَ كُلّ شَيْء وَدَانَتْ لَهُ الْخَلَائِق وَتَوَاضَعَتْ لِعَظَمَةِ جَلَاله وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَته وَعُلُوّهُ وَقُدْرَته عَلَى الْأَشْيَاء وَاسْتَكَانَتْ وَتَضَاءَلَتْ بَيْن يَدَيْهِ وَتَحْت قَهْره وَحُكْمه " وَهُوَ الْحَكِيم " أَيْ فِي جَمِيع أَفْعَاله " الْخَبِير" بِمَوَاضِع الْأَشْيَاء وَمَحَالّهَا فَلَا يُعْطِي إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقّ وَلَا يَمْنَع إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقّ .
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ↓
ثُمَّ قَالَ " قُلْ أَيّ شَيْء أَكْبَر شَهَادَة " أَيْ مَنْ أَعْظَم الْأَشْيَاء شَهَادَة " قُلْ اللَّه شَهِيد بَيْنِي وَبَيْنكُمْ " أَيْ هُوَ الْعَالِم بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ وَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ لِي" وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآن لِأُنْذِركُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ" أَيْ هُوَ نَذِير لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى " وَمَنْ يَكْفُر بِهِ مِنْ الْأَحْزَاب فَالنَّار مَوْعِده " قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الْأَشَجّ حَدَّثَنَا وَكِيع وَأَبُو أُسَامَة وَأَبُو خَالِد عَنْ مُوسَى بْن عُبَيْدَة عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب فِي قَوْله " وَمَنْ بَلَغَ " مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآن فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَادَ أَبُو خَالِد وَكَلَّمَهُ . وَرَوَاهُ اِبْن جَرِير مِنْ طَرِيق أَبِي مَعْشَر عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب قَالَ : مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآن فَقَدْ أَبْلَغَهُ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى " لِأُنْذِركُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ " إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " بَلِّغُوا عَنْ اللَّه فَمَنْ بَلَغَتْهُ آيَة مِنْ كِتَاب اللَّه فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْر اللَّه " وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس حَقّ عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُو كَاَلَّذِي دَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُنْذِر بِاَلَّذِي أَنْذَرَ وَقَوْله " أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ" أَيّهَا الْمُشْرِكُونَ أَيْ " أَنَّ مَعَ اللَّه آلِهَة أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَد " كَقَوْلِهِ " فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَد مَعَهُمْ" " قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد وَإِنَّنِي بَرِيء مِمَّا تُشْرِكُونَ" .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ↓
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَهْل الْكِتَاب أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذَا الَّذِي جِئْتهمْ بِهِ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ بِمَا عِنْدهمْ مِنْ الْأَخْبَار وَالْأَنْبَاء عَنْ الْمُرْسَلِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْأَنْبِيَاء فَإِنَّ الرُّسُل كُلّهمْ بَشَّرُوا بِوُجُودِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْته وَصِفَتة وَبَلَده وَمُهَاجِره وَصِفَة أُمَّته وَلِهَذَا قَالَ بَعْده " الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسهمْ" أَيْ خَسِرُوا كُلّ الْخَسَارَة " فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " بِهَذَا الْأَمْر الْجَلِيّ الظَّاهِر الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاء وَنَوَّهَتْ بِهِ فِي قَدِيم الزَّمَان وَحَدِيثه .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ↓
ثُمَّ قَالَ " وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ" أَيْ لَا أَظْلَم مِمَّنْ تَقَوَّلَ عَلَى اللَّه فَادَّعَى أَنَّ اللَّه أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَكُنْ أَرْسَلَهُ ثُمَّ لَا أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّه وَحُجَجه وَبَرَاهِينه وَدَلَالَاته " إِنَّهُ لَا يُفْلِح الظَّالِمُونَ " أَيْ لَا يُفْلِح هَذَا وَلَا هَذَا لَا الْمُفْتَرِي وَلَا الْمُكَذِّب .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ↓
يَقُول تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْمُشْرِكِينَ " يَوْم نَحْشُرهُمْ جَمِيعًا " يَوْم الْقِيَامَة فَيَسْأَلهُمْ عَنْ الْأَصْنَام وَالْأَنْدَاد الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا قَائِلًا لَهُمْ " أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَة الْقَصَص " وَيَوْم يُنَادِيهِمْ فَيَقُول أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ " .
وَقَوْله تَعَالَى " ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتهمْ" أَيْ حُجَّتهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا " وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " قَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس " ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتهمْ " أَيْ حُجَّتهمْ . وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ عَنْهُ أَيْ مَعْذِرَتهمْ . وَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَقَالَ اِبْن جُرَيْج عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْ قِيلهمْ وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاك وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ " ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتهمْ " بَلِيَّتهمْ حِين اُبْتُلُوا " إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ" وَقَالَ اِبْن جَرِير : وَالصَّوَاب ثُمَّ لَمْ يَكُنْ قِيلهمْ عِنْد فِتْنَتنَا إِيَّاهُمْ اِعْتِذَارًا عَمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ الشِّرْك بِاَللَّهِ " إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ" وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الْأَشَجّ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيّ عَنْ عَمْرو بْن أَبِي قَيْس عَنْ مُطَرِّف عَنْ الْمِنْهَال عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَتَاهُ رَجُل فَقَالَ يَا اِبْن عَبَّاس سَمِعْت اللَّه يَقُول " وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " قَالَ : أَمَّا قَوْله " وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا أَهْل الصَّلَاة فَقَالُوا تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ فَيَجْحَدُونَ فَيَخْتِم اللَّه عَلَى أَفْوَاههمْ وَتَشْهَد أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلهمْ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا فَهَلْ فِي قَلْبك الْآن شَيْء ؟ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقُرْآن شَيْء إِلَّا وَنَزَلَ فِيهِ شَيْء وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَجْهه . وَقَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ وَفِيهِ نَظَر فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَة مَكِّيَّة وَالْمُنَافِقُونَ إِنَّمَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَاَلَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ آيَة الْمُجَادَلَة " يَوْم يَبْعَثهُمْ اللَّه جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ " الْآيَة .
وَكَذَا قَالَ فِي حَقّ هَؤُلَاءِ " اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسهمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ " كَقَوْلِهِ" ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُون اللَّه قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا " الْآيَة .
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ↓
وَقَوْله " وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِع إِلَيْك وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهمْ أَكِنَّة أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانهمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلّ آيَة لَا يُؤْمِنُوا بِهَا" أَيْ يَجِيئُونَ لِيَسْتَمِعُوا قِرَاءَتك وَلَا تَجْزِي عَنْهُمْ شَيْئًا لِأَنَّ اللَّه " جَعَلَ عَلَى قُلُوبهمْ أَكِنَّة " أَيْ أَغْطِيَة لِئَلَّا يَفْقَهُوا الْقُرْآن " وَفِي آذَانهمْ وَقْرًا " أَيْ صُمًّا عَنْ السَّمَاع النَّافِع لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَثَل الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِق بِمَا لَا يَسْمَع إِلَّا دُعَاء وَنِدَاء الْآيَة . وَقَوْله " وَإِنْ يَرَوْا كُلّ آيَة لَا يُؤْمِنُوا بِهَا " أَيْ مَهْمَا رَأَوْا مِنْ الْآيَات وَالدَّلَالَات وَالْحُجَج الْبَيِّنَات وَالْبَرَاهِين لَا يُؤْمِنُوا بِهَا فَلَا فَهْمَ عِنْدهمْ وَلَا إِنْصَاف كَقَوْلِهِ تَعَالَى " وَلَوْ عَلِمَ اللَّه فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ " الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى " حَتَّى إِذَا جَاءُوك يُجَادِلُونَك " أَيْ يُحَاجُّونَك وَيُنَاظِرُونَك فِي الْحَقّ بِالْبَاطِلِ " يَقُول الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ " أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْت بِهِ إِلَّا مَأْخُوذ مِنْ كُتُب الْأَوَائِل وَمَنْقُول عَنْهُمْ .
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ↓
وَقَوْله " وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ " فِي مَعْنَى يَنْهَوْنَ عَنْهُ قَوْلَانِ" أَحَدهمَا " أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاس عَنْ اِتِّبَاع الْحَقّ وَتَصْدِيق الرَّسُول وَالِانْقِيَاد لِلْقُرْآنِ " وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ " أَيْ وَيُبْعِدُونَهُمْ عَنْهُ فَيَجْمَعُونَ بَيْن الْفِعْلَيْنِ الْقَبِيحَيْنِ لَا يَنْتَفِعُونَ وَلَا يَدْعُونَ أَحَدًا يَنْتَفِع قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس " وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ " يَرُدُّونَ النَّاس عَنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة : كَانَ كُفَّار قُرَيْش لَا يَأْتُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَغَيْر وَاحِد وَهَذَا الْقَوْل أَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَم وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن جَرِير . " وَالْقَوْل الثَّانِي " رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت عَمَّنْ سَمِعَ اِبْن عَبَّاس يَقُول فِي قَوْله " وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ " قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِب كَانَ يَنْهَى النَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْذَى . وَكَذَا قَالَ الْقَاسِم بْن مُخَيْمِرَة وَحَبِيب بْن أَبِي ثَابِت وَعَطَاء بْن دِينَار وَغَيْره أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِب . وَقَالَ سَعِيد بْن أَبِي هِلَال : نَزَلَتْ فِي عُمُومَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا عَشَرَة فَكَانُوا أَشَدّ النَّاس مَعَهُ فِي الْعَلَانِيَة وَأَشَدّ النَّاس عَلَيْهِ فِي السِّرّ رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ" وَهُمْ يَنْهَوْنَ " عَنْهُ أَيْ يَنْهَوْنَ النَّاس عَنْ قَتْله وَقَوْله" وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ " أَيْ يَتَبَاعَدُونَ مِنْهُ " وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسهمْ وَمَا يَشْعُرُونَ " أَيْ وَمَا يُهْلِكُونَ بِهَذَا الصَّنِيع وَلَا يَعُود وَبَاله إِلَّا عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ↓
يَذْكُر تَعَالَى حَال الْكُفَّار إِذَا وُقِفُوا يَوْم الْقِيَامَة عَلَى النَّار وَشَاهَدُوا مَا فِيهَا مِنْ السَّلَاسِل وَالْأَغْلَال وَرَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ تِلْكَ الْأُمُور الْعِظَام وَالْأَهْوَال فَعِنْد ذَلِكَ قَالُوا " يَا لَيْتَنَا نُرَدّ وَلَا نُكَذِّب بِآيَاتِ رَبّنَا وَنَكُون مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدَّار الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُكَذِّبُوا بِآيَاتِ رَبّهمْ وَيَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ↓
قَالَ اللَّه تَعَالَى " بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْل " أَيْ بَلْ ظَهَرَ لَهُمْ حِينَئِذٍ مَا كَانُوا يُخْفُونَ فِي أَنْفُسهمْ مِنْ الْكُفْر وَالتَّكْذِيب وَالْمُعَانَدَة وَإِنْ أَنْكَرُوهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَة كَمَا قَالَ قَبْله بِيَسِيرٍ " ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسهمْ " وَيَحْتَمِل أَنَّهُمْ ظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسهمْ مِنْ صِدْق مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُل فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ لِأَتْبَاعِهِمْ خِلَافه كَقَوْلِهِ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِفِرْعَوْن " لَقَدْ عَلِمْت مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبّ السَّمَوَات وَالْأَرْض بَصَائِر " الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْن وَقَوْمه " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسهمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا " وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَان لِلنَّاسِ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْر وَيَكُون هَذَا إِخْبَارًا عَمَّا يَكُون يَوْم الْقِيَامَة مِنْ كَلَام طَائِفَة مِنْ الْكُفَّار وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْن هَذِهِ السُّورَة مَكِّيَّة وَالنِّفَاق إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَعْض أَهْل الْمَدِينَة وَمَنْ حَوْلهَا مِنْ الْأَعْرَاب فَقَدْ ذَكَرَ اللَّه وُقُوع النِّفَاق فِي سُورَة مَكِّيَّة وَهِيَ الْعَنْكَبُوت فَقَالَ " وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ " وَعَلَى هَذَا فَيَكُون إِخْبَارًا عَنْ قَوْل الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّار الْآخِرَة حِين يُعَايِنُونَ الْعَذَاب فَظَهَرَ لَهُمْ حِينَئِذٍ غِبّ مَا كَانُوا يُبْطِنُونَ مِنْ الْكُفْر وَالنِّفَاق وَالشِّقَاق وَاَللَّه أَعْلَم وَأَمَّا مَعْنَى الْإِضْرَاب فِي قَوْله " بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْل " فَإِنَّهُمْ مَا طَلَبُوا الْعَوْد إِلَى الدُّنْيَا رَغْبَة وَمَحَبَّة فِي الْإِيمَان بَلْ خَوْفًا مِنْ الْعَذَاب الَّذِي عَايَنُوهُ جَزَاء مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر فَسَأَلُوا الرَّجْعَة إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَخَلَّصُوا مِمَّا شَاهَدُوا مِنْ النَّار وَلِهَذَا قَالَ " وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " أَيْ فِي طَلَبهمْ الرَّجْعَة رَغْبَة وَمَحَبَّة فِي الْإِيمَان ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدَّار الدُّنْيَا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ الْكُفْر وَالْمُخَالَفَة " وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " إِي فِي قَوْلهمْ يَا لَيْتَنَا نُرَدّ وَلَا نُكَذِّب بِآيَاتِ رَبّنَا وَنَكُون مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدَّار الدُّنْيَا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ الْكُفْر وَالْمُخَالَفَة" وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " إِي فِي قَوْلهمْ يَا لَيْتَنَا نُرَدّ وَلَا نُكَذِّب بِآيَاتِ رَبّنَا وَنَكُون مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَلَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتنَا الدُّنْيَا أَيْ مَا هِيَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا لَا مَعَاد بَعْدهَا وَلِهَذَا قَالَ " وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ " .
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ↓
ثُمَّ قَالَ " وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبّهمْ " أَيْ أُوقِفُوا بَيْن يَدَيْهِ قَالَ " أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ " أَيْ أَلَيْسَ هَذَا الْمَعَاد بِحَقٍّ وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ كَمَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ " قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" أَيْ بِمَا كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ فَذُوقُوا الْيَوْم مَسَّهُ" أَفَسِحْر هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ " .