أَيْ غَيْر الْأَزْوَاج وَالْإِمَاء " فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ " أَيْ الْمُعْتَدُونَ وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار حَدَّثَنَا عَبْد الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيد عَنْ قَتَادَة : أَنَّ اِمْرَأَة اِتَّخَذَتْ مَمْلُوكهَا وَقَالَتْ تَأَوَّلْت آيَة مِنْ كِتَاب اللَّه " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهمْ " فَأُتِيَ بِهَا عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَالَ لَهُ نَاس أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَأَوَّلَتْ آيَة كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى غَيْر وَجْههَا قَالَ فَضَرَبَ الْعَبْد وَجَزَّ رَأْسه وَقَالَ إِنَّ بَعْده حَرَام عَلَى كُلّ مُسْلِم هَذَا أَثَر غَرِيب مُنْقَطِع ذِكْره اِبْن جَرِير فِي تَفْسِير أَوَّل سُورَة الْمَائِدَة وَهُوَ هَهُنَا أَلْيَق وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا عَلَى الرِّجَال مُعَامَلَة لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدهَا وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ إِذَا اُؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا وَإِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَغْدِرُوا وَهَذِهِ صِفَات الْمُؤْمِنِينَ وَضِدّهَا صِفَات الْمُنَافِقِينَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح " آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ " وَفِي رِوَايَة" إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" .
أَيْ مُحَافِظُونَ عَلَيْهَا لَا يَزِيدُونَ فِيهَا وَلَا يُنْقِصُونَ مِنْهَا وَلَا يَكْتُمُونَهَا" وَمَنْ يَكْتُمهَا فَإِنَّهُ آثِم قَلْبه " .
أَيْ عَلَى مَوَاقِيتهَا وَأَرْكَانهَا وَوَاجِبَاتهَا وَمُسْتَحَبَّاتهَا فَافْتَتَحَ الْكَلَام بِذِكْرِ الصَّلَاة وَاخْتَتَمَهُ بِذِكْرِهَا فَدَلَّ عَلَى الِاعْتِنَاء بِهَا وَالتَّنْوِيه بِشَرَفِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّل سُورَة" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ " سَوَاء لِهَذَا قَالَ هُنَاكَ " أُولَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" .
أَيْ مُكْرَمُونَ بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذّ وَالْمَسَارّ .
يَقُول تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّار الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مُشَاهِدُونَ لَهُ وَلِمَا أَرْسَلَهُ اللَّه بِهِ مِنْ الْهُدَى وَمَا أَيَّدَهُ اللَّه بِهِ مِنْ الْمُعْجِزَات الْبَاهِرَات ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا كُلّه فَارُّونَ مِنْهُ مُتَفَرِّقُونَ عَنْهُ شَارِدُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا فِرَقًا فِرَقًا وَشِيَعًا شِيَعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى " فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَة مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُر مُسْتَنْفِرَة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة " الْآيَة وَهَذِهِ مِثْلهَا فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى " فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلك مُهْطِعِينَ " أَيْ فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّار الَّذِينَ عِنْدك يَا مُحَمَّد مُهْطِعِينَ أَيْ مُسْرِعِينَ نَافِرِينَ مِنْك كَمَا قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ مُهْطِعِينَ أَيْ مُنْطَلِقِينَ .
وَاحِدهَا عِزَة أَيْ مُتَفَرِّقِينَ وَهُوَ حَال مِنْ مُهْطِعِينَ أَيْ فِي حَال تَفَرُّقهمْ وَاخْتِلَافهمْ كَمَا قَالَ الْإِمَام أَحْمَد فِي أَهْل الْأَهْوَاء فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَاب مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَة الْكِتَاب وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس " فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلك مُهْطِعِينَ " قَالَ قِبَلك يَنْظُرُونَ " عَنْ الْيَمِين وَعَنْ الشِّمَال عِزِينَ " قَالَ الْعِزِينَ الْعَصَب مِنْ النَّاس عَنْ يَمِين وَشِمَال مُعْرِضِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار حَدَّثَنَا أَبُو عَامِر حَدَّثَنَا قُرَّة عَنْ الْحَسَن فِي قَوْله " عَنْ الْيَمِين وَعَنْ الشِّمَال عِزِينَ " أَيْ مُتَفَرِّقِينَ يَأْخُذُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا يَقُولُونَ مَا قَالَ هَذَا الرَّجُل وَقَالَ قَتَادَة " مُهْطِعِينَ " عَامِدِينَ" عَنْ الْيَمِين وَعَنْ الشِّمَال عِزِينَ " أَيْ فِرَقًا حَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْغَبُونَ فِي كِتَاب اللَّه وَلَا فِي نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَشُعْبَة وَعَبْثَر بْن الْقَاسِم وَعِيسَى بْن يُونُس وَمُحَمَّد بْن فُضَيْل وَوَكِيع وَيَحْيَى الْقَطَّان وَأَبُو مُعَاوِيَة كُلّهمْ عَنْ الْأَعْمَش عَنْ الْمُسَيِّب بْن رَافِع عَنْ تَمِيم بْن طَرَفَة عَنْ جَابِر بْن سَمُرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ حِلَق فَقَالَ " مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ" رَوَاهُ أَحْمَد وَمُسْلِم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن جَرِير مِنْ حَدِيث الْأَعْمَش بِهِ وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار حَدَّثَنَا مُؤَمَّل حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابه وَهُمْ حِلَق حِلَق فَقَالَ " مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ" وَهَذَا إِسْنَاد جَيِّد وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْء مِنْ الْكُتُب السِّتَّة مِنْ هَذَا الْوَجْه .
أَيْ أَيَطْمَعُ هَؤُلَاءِ وَالْحَالَة هَذِهِ مِنْ فِرَارهمْ عَنْ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِفَارهمْ عَنْ الْحَقّ أَنْ يُدْخَلُوا جَنَّات النَّعِيم . كَلَّا بَلْ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّم ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِوُقُوعِ الْمَعَاد وَالْعَذَاب بِهِمْ الَّذِي أَنْكَرُوا كَوْنه وَاسْتَبْعَدُوا وُجُوده مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِمْ بِالْبُدَاءَةِ وَالْإِعَادَة أَهْوَن مِنْهَا وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَا .
أَيْ مِنْ الْمَنِيّ الضَّعِيف كَمَا قَالَ تَعَالَى " أَلَمْ نَخْلُقكُمْ مِنْ مَاء مَهِين" وَقَالَ " فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاء دَافِق يَخْرُج مِنْ بَيْن الصُّلْب وَالتَّرَائِب إِنَّهُ عَلَى رَجْعه لَقَادِر يَوْم تُبْلَى السَّرَائِر فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّة وَلَا نَاصِر" .
أَيْ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجَعَلَ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا وَسَخَّرَ الْكَوَاكِب تَبْدُو مِنْ مَشَارِقهَا وَتَغِيب فِي مَغَارِبهَا. وَتَقْدِير الْكَلَام لَيْسَ الْأَمْر كَمَا يَزْعُمُونَ أَنْ لَا مَعَاد وَلَا حِسَاب وَلَا بَعْث وَلَا نُشُور بَلْ كُلّ ذَلِكَ وَاقِع وَكَائِن لَا مَحَالَة وَلِهَذَا أَتَى بِلَا فِي اِبْتِدَاء الْقَسَم لِيَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَم عَلَيْهِ نَفْي وَهُوَ مَضْمُون الْكَلَام وَهُوَ الرَّدّ عَلَى زَعْمهمْ الْفَاسِد فِي نَفْي يَوْم الْقِيَامَة وَقَدْ شَاهَدُوا مِنْ عَظِيم قُدْرَة اللَّه تَعَالَى مَا هُوَ أَبْلَغ مِنْ إِقَامَة الْقِيَامَة وَهُوَ خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَتَسْخِير مَا فِيهِمَا مِنْ الْمَخْلُوقَات مِنْ الْحَيَوَانَات وَالْجَمَادَات وَسَائِر صُنُوف الْمَوْجُودَات وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " لَخَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض أَكْبَر مِنْ خَلْق النَّاس وَلَكِنَّ أَكْثَر النَّاس لَا يَعْلَمُونَ " وَقَالَ تَعَالَى " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى " أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُق مِثْلهمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاق الْعَلِيم إِنَّمَا أَمْره إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون " .
أَيْ يَوْم الْقِيَامَة نُعِيدهُمْ بِأَبْدَانٍ خَيْر مِنْ هَذِهِ فَإِنَّ قُدْرَته صَالِحَة لِذَلِكَ " وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ " أَيْ بِعَاجِزِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى " أَيَحْسَبُ الْإِنْسَان أَنْ لَنْ نَجْمَع عِظَامه بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانه" وَقَالَ تَعَالَى " عَلَى أَنْ نُبَدِّل خَيْرًا مِنْهُمْ " أَيْ أُمَّة تُطِيعنَا وَلَا تَعْصِينَا وَجَعَلَهَا كَقَوْلِهِ " وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِل قَوْمًا غَيْركُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالكُمْ " وَالْمَعْنَى الْأَوَّل أَظْهَر لِدَلَالَةِ الْآيَات الْأُخَر عَلَيْهِ وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " فَذَرْهُمْ " أَيْ يَا مُحَمَّد" يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا " أَيْ دَعْهُمْ فِي تَكْذِيبهمْ وَكُفْرهمْ وَعِنَادهمْ " حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمهمْ الَّذِي يُوعَدُونَ " أَيْ فَسَيَعْلَمُونَ غِبّ ذَلِكَ وَيَذُوقُونَ وَبَاله .
أَيْ يَقُومُونَ مِنْ الْقُبُور إِذَا دَعَاهُمْ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِمَوْقِفِ الْحِسَاب يَنْهَضُونَ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُب يُوفِضُونَ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك إِلَى عِلْم يَسْعَوْنَ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَيَحْيَى بْن أَبِي كَثِير إِلَى غَايَة يَسْعَوْنَ إِلَيْهَا وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُور إِلَى نَصْب بِفَتْحِ النُّون وَإِسْكَان الصَّاد وَهُوَ مَصْدَر بِمَعْنَى الْمَنْصُوب وَقَرَأَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ نُصُب بِضَمِّ النُّون وَالصَّاد هُوَ الصَّنَم أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي إِسْرَاعهمْ إِلَى الْمَوْقِف كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُهَرْوِلُونَ إِلَى النُّصُب إِذَا عَايَنُوهُ يُوفِضُونَ يَبْتَدِرُونَ أَيّهمْ يَسْتَلِمهُ أَوَّل وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ مُجَاهِد وَيَحْيَى بْن أَبِي كَثِير وَمُسْلِم الْبَطِين وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَأَبِي صَالِح وَعَاصِم بْن بَهْدَلَة وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ .
" خَاشِعَة أَبْصَارهمْ " أَيْ خَاضِعَة " تَرْهَقهُمْ ذِلَّة " أَيْ فِي مُقَابَلَة مَا اِسْتَكْبَرُوا فِي الدُّنْيَا عَنْ الطَّاعَةِ .