قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ ↓
أَيْ إِنَّ أَهْل مَكَّة بَدَّلُوا نِعْمَة اللَّه بِالْكُفْرِ , فَقُلْ لِمَنْ آمَنَ وَحَقَّقَ عُبُودِيَّته أَنْ " يُقِيمُوا الصَّلَاة " يَعْنِي الصَّلَوَات الْخَمْس , أَيْ قُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا , وَالْأَمْر مَعَهُ شَرْط مُقَدَّر , تَقُول : أَطِعْ اللَّه يُدْخِلك الْجَنَّة ; أَيْ إِنْ أَطَعْته يُدْخِلك الْجَنَّة ; هَذَا قَوْل الْفَرَّاء . وَقَالَ الزَّجَّاج : " يُقِيمُوا " مَجْزُوم بِمَعْنَى اللَّام , أَيْ لِيُقِيمُوا فَأُسْقِطَتْ اللَّام لِأَنَّ الْأَمْر دَلَّ عَلَى الْغَائِب بِ " قُلْ " . قَالَ : وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال : " يُقِيمُوا " جَوَاب أَمْر مَحْذُوف ; أَيْ قُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا الصَّلَاة يُقِيمُوا الصَّلَاة .
يَعْنِي الزَّكَاة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقَالَ الْجُمْهُور : السِّرّ مَا خَفِيَ وَالْعَلَانِيَة مَا ظَهَرَ . وَقَالَ الْقَاسِم بْن يَحْيَى : إِنَّ السِّرّ التَّطَوُّع وَالْعَلَانِيَة الْفَرْض , وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " مُجَوَّدًا عِنْد قَوْله : " إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَات فَنِعِمَّا هِيَ " [ الْبَقَرَة : 271 ] .
وَأَمَرَ تَعَالَى عِبَاده بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّه وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ الْإِمْسَاك إِلَى أَنْ يَجِيء يَوْم لَا يُمْكِن فِيهِ بَيْع وَلَا شِرَاء وَلَا اِسْتِدْرَاك نَفَقَة , كَمَا قَالَ : " فَيَقُول رَبّ لَوْلَا أَخَّرْتنِي إِلَى أَجَل قَرِيب فَأَصَدَّق " [ الْمُنَافِقُونَ : 0 1 ] . وَالْخُلَّة : خَالِص الْمَوَدَّة , مَأْخُوذَة مِنْ تَخَلُّل الْأَسْرَار بَيْن الصِّدِّيقَيْنِ وَ ( خِلَال ) جَمْع خُلَّة كَقُلَّةٍ وَقِلَال . قَالَ : فَلَسْت بِمُقَلِي الْخِلَال وَلَا قَالِي
يَعْنِي الزَّكَاة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقَالَ الْجُمْهُور : السِّرّ مَا خَفِيَ وَالْعَلَانِيَة مَا ظَهَرَ . وَقَالَ الْقَاسِم بْن يَحْيَى : إِنَّ السِّرّ التَّطَوُّع وَالْعَلَانِيَة الْفَرْض , وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " مُجَوَّدًا عِنْد قَوْله : " إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَات فَنِعِمَّا هِيَ " [ الْبَقَرَة : 271 ] .
وَأَمَرَ تَعَالَى عِبَاده بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّه وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ الْإِمْسَاك إِلَى أَنْ يَجِيء يَوْم لَا يُمْكِن فِيهِ بَيْع وَلَا شِرَاء وَلَا اِسْتِدْرَاك نَفَقَة , كَمَا قَالَ : " فَيَقُول رَبّ لَوْلَا أَخَّرْتنِي إِلَى أَجَل قَرِيب فَأَصَدَّق " [ الْمُنَافِقُونَ : 0 1 ] . وَالْخُلَّة : خَالِص الْمَوَدَّة , مَأْخُوذَة مِنْ تَخَلُّل الْأَسْرَار بَيْن الصِّدِّيقَيْنِ وَ ( خِلَال ) جَمْع خُلَّة كَقُلَّةٍ وَقِلَال . قَالَ : فَلَسْت بِمُقَلِي الْخِلَال وَلَا قَالِي
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ↓
أَيْ أَبْدَعَهَا وَاخْتَرَعَهَا عَلَى غَيْر مِثَال سَبَقَ .
أَيْ مِنْ السَّحَاب .
أَيْ مِنْ الشَّجَر ثَمَرَات " رِزْقًا لَكُمْ " .
الْفُلْك : السُّفُن , وَإِفْرَاده وَجَمْعه بِلَفْظٍ وَاحِد , وَيُذَكَّر وَيُؤَنَّث . وَلَيْسَتْ الْحَرَكَات فِي الْمُفْرَد تِلْكَ بِأَعْيَانِهَا فِي الْجَمْع , بَلْ كَأَنَّهُ بَنَى الْجَمْع بِنَاء آخَر ; يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ تَوَسُّط التَّثْنِيَة فِي قَوْلهمْ : فَلَكَانِ . وَالْفُلْك الْمُفْرَد مُذَكَّر ; قَالَ تَعَالَى : " فِي الْفُلْك الْمَشْحُون " [ يس : 41 ] فَجَاءَ بِهِ مُذَكَّرًا , وَقَالَ : " وَالْفُلْك الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر " فَأَنَّثَ . وَيَحْتَمِل وَاحِدًا وَجَمْعًا ; وَقَالَ : " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة " [ يُونُس : 22 ] فَجَمَعَ ; فَكَأَنَّهُ يَذْهَب بِهَا إِذَا كَانَتْ وَاحِدَة إِلَى الْمَرْكَب فَيُذَكَّر , وَإِلَى السَّفِينَة فَيُؤَنَّث . وَقِيلَ : وَاحِده فَلَك ; مِثْل أَسَد وَأُسْد , وَخَشَب وَخُشْب , وَأَصْله مِنْ الدَّوَرَانِ , وَمِنْهُ : فُلْك السَّمَاء الَّتِي تَدُور عَلَيْهِ النُّجُوم . وَفَلَّكَتْ الْجَارِيَة اِسْتَدَارَ ثَدْيهَا ; وَمِنْهُ فَلْكَة الْمِغْزَل . وَسُمِّيَتْ السَّفِينَة فُلْكًا لِأَنَّهَا تَدُور بِالْمَاءِ أَسْهَلَ دَوْر .
وَوَجْه الْآيَة فِي الْفُلْك : تَسْخِير اللَّه إِيَّاهَا حَتَّى تَجْرِي عَلَى وَجْه الْمَاء وَوُقُوفهَا فَوْقه مَعَ ثِقَلهَا . وَأَوَّل مَنْ عَمِلَهَا نُوح عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى ; وَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : اِصْنَعْهَا عَلَى جُؤْجُؤ الطَّائِر ; فَعَمِلَهَا نُوح عَلَيْهِ السَّلَام وِرَاثَة فِي الْعَالَمِينَ بِمَا أَرَاهُ جِبْرِيل . فَالسَّفِينَة طَائِر مَقْلُوب وَالْمَاء فِي أَسْفَلهَا نَظِير الْهَوَاء فِي أَعْلَاهَا ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .
هَذِهِ الْآيَة وَمَا كَانَ مِثْلهَا دَلِيل عَلَى جَوَاز رُكُوب الْبَحْر مُطْلَقًا لِتِجَارَةٍ كَانَ أَوْ عِبَادَة ; كَالْحَجِّ وَالْجِهَاد . وَمِنْ السُّنَّة حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّا نَرْكَب الْبَحْر وَنَحْمِل مَعَنَا الْقَلِيل مِنْ الْمَاء . الْحَدِيث . وَحَدِيث أَنَس بْن مَالِك فِي قِصَّة أُمّ حَرَام ; أَخْرَجَهُمَا الْأَئِمَّة : مَالِك وَغَيْره . رَوَى حَدِيث أَنَس عَنْهُ جَمَاعَة عَنْ إِسْحَاق بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ أَنَس , وَرَوَاهُ بِشْر بْن عُمَر عَنْ مَالِك عَنْ إِسْحَاق عَنْ أَنَس عَنْ أُمّ حَرَام ; جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَد أُمّ حَرَام لَا مِنْ مُسْنَد أَنَس . هَكَذَا حَدَّثَ عَنْهُ بِهِ بُنْدَار مُحَمَّد بْن بَشَّار ; فَفِيهِ دَلِيل وَاضِح عَلَى رُكُوب الْبَحْر فِي الْجِهَاد لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاء ; وَإِذَا جَازَ رُكُوبه لِلْجِهَادِ فَرُكُوبه لِلْحَجِّ الْمُفْتَرَض أَوْلَى وَأَوْجَبَ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمَنْع مِنْ رُكُوبه . وَالْقُرْآن وَالسُّنَّة يَرُدّ هَذَا الْقَوْل ; وَلَوْ كَانَ رُكُوبه يُكْرَه أَوْ لَا يَجُوز لَنَهَى عَنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ قَالُوا لَهُ : إِنَّا نَرْكَب الْبَحْر . وَهَذِهِ الْآيَة وَمَا كَانَ مِثْلهَا نَصّ فِي الْغَرَض وَإِلَيْهَا الْمَفْزَع . وَقَدْ تُؤُوِّلَ مَا رُوِيَ عَنْ الْعُمَرَيْنِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الِاحْتِيَاط وَتَرْك التَّغْرِير بِالْمُهَجِ فِي طَلَب الدُّنْيَا وَالِاسْتِكْثَار مِنْهَا , وَأَمَّا فِي أَدَاء الْفَرَائِض فَلَا . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى جَوَاز رُكُوبه مِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى ضَرَبَ الْبَحْر وَسَط الْأَرْض وَجَعَلَ الْخَلْق فِي الْعُدْوَتَيْنِ , وَقَسَّمَ الْمَنَافِع بَيْن الْجِهَتَيْنِ فَلَا يُوصَل إِلَى جَلْبهَا إِلَّا بِشَقِّ الْبَحْر لَهَا ; فَسَهَّلَ اللَّه سَبِيله بِالْفُلْكِ ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ كَانَ مَالِك يَكْرَه لِلْمَرْأَةِ الرُّكُوب لِلْحَجِّ فِي الْبَحْر , وَهُوَ لِلْجِهَادِ لِذَلِكَ أَكْرَه . وَالْقُرْآن وَالسُّنَّة يَرُدّ قَوْله , إِلَّا أَنَّ بَعْض أَصْحَابنَا مِنْ أَهْل الْبَصْرَة قَالَ : إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَالِك لِأَنَّ السُّفُن بِالْحِجَازِ صِغَار , وَأَنَّ النِّسَاء لَا يَقْدِرْنَ عَلَى الِاسْتِتَار عِنْد الْخَلَاء فِيهَا لِضِيقِهَا وَتَزَاحُم النَّاس فِيهَا ; وَكَانَ الطَّرِيق مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة عَلَى الْبَرّ مُمْكِنًا ; فَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِك ذَلِكَ . وَأَمَّا السُّفُن الْكِبَار نَحْو سُفُن أَهْل الْبَصْرَة فَلَيْسَ بِذَلِكَ بَأْس . قَالَ : وَالْأَصْل أَنَّ الْحَجّ عَلَى كُلّ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الْأَحْرَار الْبَالِغِينَ , نِسَاء كَانُوا أَوْ رِجَالًا , إِذَا كَانَ الْأَغْلَب مِنْ الطَّرِيق الْأَمْن , وَلَمْ يَخُصّ بَحْرًا مِنْ بَرّ .
قُلْت : فَدَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَالْمَعْنَى عَلَى إِبَاحَة رُكُوبه لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا : الْعِبَادَة وَالتِّجَارَة ; فَهِيَ الْحُجَّة وَفِيهَا الْأُسْوَة . إِلَّا أَنَّ النَّاس فِي رُكُوب الْبَحْر تَخْتَلِف أَحْوَالهمْ ; فَرُبَّ رَاكِب يَسْهُل عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَشُقّ , وَآخَر يَشُقّ عَلَيْهِ وَيَضْعُف بِهِ ; كَالْمَائِدِ الْمُفْرِط الْمَيْد , وَمَنْ لَمْ يَقْدِر مَعَهُ عَلَى أَدَاء فَرْض الصَّلَاة وَنَحْوهَا مِنْ الْفَرَائِض ; فَالْأَوَّل ذَلِكَ لَهُ جَائِز ; وَالثَّانِي يَحْرُم عَلَيْهِ وَيُمْنَع مِنْهُ . لَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم وَهِيَ : إِنَّ الْبَحْر إِذَا أَرْتَجَ لَمْ يَجُزْ رُكُوبه لِأَحَدٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه فِي حِين اِرْتِجَاجه وَلَا فِي الزَّمَن الَّذِي الْأَغْلَب فِيهِ عَدَم السَّلَامَة ; وَإِنَّمَا يَجُوز عِنْدهمْ رُكُوبه فِي زَمَن تَكُون السَّلَامَة فِيهِ الْأَغْلَب ; فَإِنَّ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ حَال السَّلَامَة وَيَنْجُونَ لَا حَاصِر لَهُمْ , وَاَلَّذِينَ يَهْلِكُونَ فِيهِ مَحْصُورُونَ .
يَعْنِي الْبِحَار الْعَذْبَة لِتَشْرَبُوا مِنْهَا وَتَسْقُوا وَتَزْرَعُوا , وَالْبِحَار الْمَالِحَة لِاخْتِلَافِ الْمَنَافِع مِنْ الْجِهَات .
أَيْ مِنْ السَّحَاب .
أَيْ مِنْ الشَّجَر ثَمَرَات " رِزْقًا لَكُمْ " .
الْفُلْك : السُّفُن , وَإِفْرَاده وَجَمْعه بِلَفْظٍ وَاحِد , وَيُذَكَّر وَيُؤَنَّث . وَلَيْسَتْ الْحَرَكَات فِي الْمُفْرَد تِلْكَ بِأَعْيَانِهَا فِي الْجَمْع , بَلْ كَأَنَّهُ بَنَى الْجَمْع بِنَاء آخَر ; يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ تَوَسُّط التَّثْنِيَة فِي قَوْلهمْ : فَلَكَانِ . وَالْفُلْك الْمُفْرَد مُذَكَّر ; قَالَ تَعَالَى : " فِي الْفُلْك الْمَشْحُون " [ يس : 41 ] فَجَاءَ بِهِ مُذَكَّرًا , وَقَالَ : " وَالْفُلْك الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر " فَأَنَّثَ . وَيَحْتَمِل وَاحِدًا وَجَمْعًا ; وَقَالَ : " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة " [ يُونُس : 22 ] فَجَمَعَ ; فَكَأَنَّهُ يَذْهَب بِهَا إِذَا كَانَتْ وَاحِدَة إِلَى الْمَرْكَب فَيُذَكَّر , وَإِلَى السَّفِينَة فَيُؤَنَّث . وَقِيلَ : وَاحِده فَلَك ; مِثْل أَسَد وَأُسْد , وَخَشَب وَخُشْب , وَأَصْله مِنْ الدَّوَرَانِ , وَمِنْهُ : فُلْك السَّمَاء الَّتِي تَدُور عَلَيْهِ النُّجُوم . وَفَلَّكَتْ الْجَارِيَة اِسْتَدَارَ ثَدْيهَا ; وَمِنْهُ فَلْكَة الْمِغْزَل . وَسُمِّيَتْ السَّفِينَة فُلْكًا لِأَنَّهَا تَدُور بِالْمَاءِ أَسْهَلَ دَوْر .
وَوَجْه الْآيَة فِي الْفُلْك : تَسْخِير اللَّه إِيَّاهَا حَتَّى تَجْرِي عَلَى وَجْه الْمَاء وَوُقُوفهَا فَوْقه مَعَ ثِقَلهَا . وَأَوَّل مَنْ عَمِلَهَا نُوح عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى ; وَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : اِصْنَعْهَا عَلَى جُؤْجُؤ الطَّائِر ; فَعَمِلَهَا نُوح عَلَيْهِ السَّلَام وِرَاثَة فِي الْعَالَمِينَ بِمَا أَرَاهُ جِبْرِيل . فَالسَّفِينَة طَائِر مَقْلُوب وَالْمَاء فِي أَسْفَلهَا نَظِير الْهَوَاء فِي أَعْلَاهَا ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .
هَذِهِ الْآيَة وَمَا كَانَ مِثْلهَا دَلِيل عَلَى جَوَاز رُكُوب الْبَحْر مُطْلَقًا لِتِجَارَةٍ كَانَ أَوْ عِبَادَة ; كَالْحَجِّ وَالْجِهَاد . وَمِنْ السُّنَّة حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّا نَرْكَب الْبَحْر وَنَحْمِل مَعَنَا الْقَلِيل مِنْ الْمَاء . الْحَدِيث . وَحَدِيث أَنَس بْن مَالِك فِي قِصَّة أُمّ حَرَام ; أَخْرَجَهُمَا الْأَئِمَّة : مَالِك وَغَيْره . رَوَى حَدِيث أَنَس عَنْهُ جَمَاعَة عَنْ إِسْحَاق بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ أَنَس , وَرَوَاهُ بِشْر بْن عُمَر عَنْ مَالِك عَنْ إِسْحَاق عَنْ أَنَس عَنْ أُمّ حَرَام ; جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَد أُمّ حَرَام لَا مِنْ مُسْنَد أَنَس . هَكَذَا حَدَّثَ عَنْهُ بِهِ بُنْدَار مُحَمَّد بْن بَشَّار ; فَفِيهِ دَلِيل وَاضِح عَلَى رُكُوب الْبَحْر فِي الْجِهَاد لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاء ; وَإِذَا جَازَ رُكُوبه لِلْجِهَادِ فَرُكُوبه لِلْحَجِّ الْمُفْتَرَض أَوْلَى وَأَوْجَبَ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمَنْع مِنْ رُكُوبه . وَالْقُرْآن وَالسُّنَّة يَرُدّ هَذَا الْقَوْل ; وَلَوْ كَانَ رُكُوبه يُكْرَه أَوْ لَا يَجُوز لَنَهَى عَنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ قَالُوا لَهُ : إِنَّا نَرْكَب الْبَحْر . وَهَذِهِ الْآيَة وَمَا كَانَ مِثْلهَا نَصّ فِي الْغَرَض وَإِلَيْهَا الْمَفْزَع . وَقَدْ تُؤُوِّلَ مَا رُوِيَ عَنْ الْعُمَرَيْنِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الِاحْتِيَاط وَتَرْك التَّغْرِير بِالْمُهَجِ فِي طَلَب الدُّنْيَا وَالِاسْتِكْثَار مِنْهَا , وَأَمَّا فِي أَدَاء الْفَرَائِض فَلَا . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى جَوَاز رُكُوبه مِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى ضَرَبَ الْبَحْر وَسَط الْأَرْض وَجَعَلَ الْخَلْق فِي الْعُدْوَتَيْنِ , وَقَسَّمَ الْمَنَافِع بَيْن الْجِهَتَيْنِ فَلَا يُوصَل إِلَى جَلْبهَا إِلَّا بِشَقِّ الْبَحْر لَهَا ; فَسَهَّلَ اللَّه سَبِيله بِالْفُلْكِ ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ كَانَ مَالِك يَكْرَه لِلْمَرْأَةِ الرُّكُوب لِلْحَجِّ فِي الْبَحْر , وَهُوَ لِلْجِهَادِ لِذَلِكَ أَكْرَه . وَالْقُرْآن وَالسُّنَّة يَرُدّ قَوْله , إِلَّا أَنَّ بَعْض أَصْحَابنَا مِنْ أَهْل الْبَصْرَة قَالَ : إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَالِك لِأَنَّ السُّفُن بِالْحِجَازِ صِغَار , وَأَنَّ النِّسَاء لَا يَقْدِرْنَ عَلَى الِاسْتِتَار عِنْد الْخَلَاء فِيهَا لِضِيقِهَا وَتَزَاحُم النَّاس فِيهَا ; وَكَانَ الطَّرِيق مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة عَلَى الْبَرّ مُمْكِنًا ; فَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِك ذَلِكَ . وَأَمَّا السُّفُن الْكِبَار نَحْو سُفُن أَهْل الْبَصْرَة فَلَيْسَ بِذَلِكَ بَأْس . قَالَ : وَالْأَصْل أَنَّ الْحَجّ عَلَى كُلّ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الْأَحْرَار الْبَالِغِينَ , نِسَاء كَانُوا أَوْ رِجَالًا , إِذَا كَانَ الْأَغْلَب مِنْ الطَّرِيق الْأَمْن , وَلَمْ يَخُصّ بَحْرًا مِنْ بَرّ .
قُلْت : فَدَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَالْمَعْنَى عَلَى إِبَاحَة رُكُوبه لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا : الْعِبَادَة وَالتِّجَارَة ; فَهِيَ الْحُجَّة وَفِيهَا الْأُسْوَة . إِلَّا أَنَّ النَّاس فِي رُكُوب الْبَحْر تَخْتَلِف أَحْوَالهمْ ; فَرُبَّ رَاكِب يَسْهُل عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَشُقّ , وَآخَر يَشُقّ عَلَيْهِ وَيَضْعُف بِهِ ; كَالْمَائِدِ الْمُفْرِط الْمَيْد , وَمَنْ لَمْ يَقْدِر مَعَهُ عَلَى أَدَاء فَرْض الصَّلَاة وَنَحْوهَا مِنْ الْفَرَائِض ; فَالْأَوَّل ذَلِكَ لَهُ جَائِز ; وَالثَّانِي يَحْرُم عَلَيْهِ وَيُمْنَع مِنْهُ . لَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم وَهِيَ : إِنَّ الْبَحْر إِذَا أَرْتَجَ لَمْ يَجُزْ رُكُوبه لِأَحَدٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه فِي حِين اِرْتِجَاجه وَلَا فِي الزَّمَن الَّذِي الْأَغْلَب فِيهِ عَدَم السَّلَامَة ; وَإِنَّمَا يَجُوز عِنْدهمْ رُكُوبه فِي زَمَن تَكُون السَّلَامَة فِيهِ الْأَغْلَب ; فَإِنَّ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ حَال السَّلَامَة وَيَنْجُونَ لَا حَاصِر لَهُمْ , وَاَلَّذِينَ يَهْلِكُونَ فِيهِ مَحْصُورُونَ .
يَعْنِي الْبِحَار الْعَذْبَة لِتَشْرَبُوا مِنْهَا وَتَسْقُوا وَتَزْرَعُوا , وَالْبِحَار الْمَالِحَة لِاخْتِلَافِ الْمَنَافِع مِنْ الْجِهَات .
أَيْ فِي إِصْلَاح مَا يُصْلِحَانِهِ مِنْ النَّبَات وَغَيْره , وَالدُّؤُوب مُرُور الشَّيْء فِي الْعَمَل عَلَى عَادَة جَارِيَة . وَقِيلَ : دَائِبَيْنِ فِي السَّيْر اِمْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّه , وَالْمَعْنَى يَجْرِيَانِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا يَفْتُرَانِ ; رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس .
أَيْ لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْله فِي النَّهَار , كَمَا قَالَ : " وَمِنْ رَحْمَته جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْل وَالنَّهَار لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْله " [ الْقَصَص : 73 ] .
أَيْ لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْله فِي النَّهَار , كَمَا قَالَ : " وَمِنْ رَحْمَته جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْل وَالنَّهَار لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْله " [ الْقَصَص : 73 ] .
وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ↓
أَيْ أَعْطَاكُمْ مِنْ كُلّ مَسْئُول سَأَلْتُمُوهُ شَيْئًا ; فَحَذَفَ ; عَنْ الْأَخْفَش . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَآتَاكُمْ مِنْ كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ , وَمِنْ كُلّ مَا لَمْ تَسْأَلُوهُ فَحَذَفَ , فَلَمْ نَسْأَلهُ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا كَثِيرًا مِنْ نِعَمه الَّتِي اِبْتَدَأَنَا بِهَا . وَهَذَا كَمَا قَالَ : " سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : 81 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَقِيلَ : " مِنْ " زَائِدَة ; أَيْ آتَاكُمْ كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَغَيْرهمَا " وَآتَاكُمْ مِنْ كُلّ " بِالتَّنْوِينِ " مَا سَأَلْتُمُوهُ " وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ الْحَسَن وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة ; هِيَ عَلَى النَّفْي أَيْ مِنْ كُلّ مَا لَمْ تَسْأَلُوهُ ; كَالشَّمْسِ وَالْقَمَر وَغَيْرهمَا . وَقِيلَ : مِنْ كُلّ شَيْء مَا سَأَلْتُمُوهُ أَيْ الَّذِي مَا سَأَلْتُمُوهُ .
أَيْ نِعَم اللَّه . " لَا تُحْصُوهَا " وَلَا تُطِيقُوا عَدَّهَا , وَلَا تَقُومُوا بِحَصْرِهَا لِكَثْرَتِهَا , كَالسَّمْعِ وَالْبَصَر وَتَقْوِيم الصُّوَر إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْعَافِيَة وَالرِّزْق ; نِعَم لَا تُحْصَى وَهَذِهِ النِّعَم مِنْ اللَّه , فَلِمَ تُبَدِّلُونَ نِعْمَة اللَّه بِالْكُفْرِ ؟ ! وَهَلَّا اِسْتَعَنْتُمْ بِهَا عَلَى الطَّاعَة ؟ !
الْإِنْسَان لَفْظ جِنْس وَأَرَادَ بِهِ الْخُصُوص ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرَادَ أَبَا جَهْل . وَقِيلَ : جَمِيع الْكُفَّار .
أَيْ نِعَم اللَّه . " لَا تُحْصُوهَا " وَلَا تُطِيقُوا عَدَّهَا , وَلَا تَقُومُوا بِحَصْرِهَا لِكَثْرَتِهَا , كَالسَّمْعِ وَالْبَصَر وَتَقْوِيم الصُّوَر إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْعَافِيَة وَالرِّزْق ; نِعَم لَا تُحْصَى وَهَذِهِ النِّعَم مِنْ اللَّه , فَلِمَ تُبَدِّلُونَ نِعْمَة اللَّه بِالْكُفْرِ ؟ ! وَهَلَّا اِسْتَعَنْتُمْ بِهَا عَلَى الطَّاعَة ؟ !
الْإِنْسَان لَفْظ جِنْس وَأَرَادَ بِهِ الْخُصُوص ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرَادَ أَبَا جَهْل . وَقِيلَ : جَمِيع الْكُفَّار .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ↓
يَعْنِي مَكَّة وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " .
أَيْ اِجْعَلْنِي جَانِبًا عَنْ عِبَادَتهَا , وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : ( بَنِيَّ ) بَنِيهِ مِنْ , صُلْبه وَكَانُوا ثَمَانِيَة , فَمَا عَبَدَ أَحَد مِنْهُمْ صَنَمًا . وَقِيلَ : هُوَ دُعَاء لِمَنْ أَرَادَ اللَّه أَنْ يَدْعُو لَهُ . وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ وَعِيسَى " وَأَجْنِبْنِي " بِقَطْعِ الْأَلِف وَالْمَعْنَى وَاحِد ; يُقَال : جَنَبْت ذَلِكَ الْأَمْر ; وَأَجْنَبْته وَجَنَّبْته إِيَّاهُ فَتَجَانَبَهُ وَاجْتَنَبَهُ أَيْ تَرَكَهُ . وَكَانَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يَقُول فِي قَصَصه : مَنْ يَأْمَن الْبَلَاء بَعْد الْخَلِيل حِين يَقُول " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُد الْأَصْنَام " كَمَا عَبَدَهَا أَبِي وَقَوْمِي .
أَيْ اِجْعَلْنِي جَانِبًا عَنْ عِبَادَتهَا , وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : ( بَنِيَّ ) بَنِيهِ مِنْ , صُلْبه وَكَانُوا ثَمَانِيَة , فَمَا عَبَدَ أَحَد مِنْهُمْ صَنَمًا . وَقِيلَ : هُوَ دُعَاء لِمَنْ أَرَادَ اللَّه أَنْ يَدْعُو لَهُ . وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ وَعِيسَى " وَأَجْنِبْنِي " بِقَطْعِ الْأَلِف وَالْمَعْنَى وَاحِد ; يُقَال : جَنَبْت ذَلِكَ الْأَمْر ; وَأَجْنَبْته وَجَنَّبْته إِيَّاهُ فَتَجَانَبَهُ وَاجْتَنَبَهُ أَيْ تَرَكَهُ . وَكَانَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يَقُول فِي قَصَصه : مَنْ يَأْمَن الْبَلَاء بَعْد الْخَلِيل حِين يَقُول " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُد الْأَصْنَام " كَمَا عَبَدَهَا أَبِي وَقَوْمِي .
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ↓
لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلْإِضْلَالٍ أَضَافَ الْفِعْل إِلَيْهِنَّ مَجَازًا ; فَإِنَّ الْأَصْنَام جَمَادَات لَا تَفْعَل .
فِي التَّوْحِيد . " فَإِنَّهُ مِنِّي " أَيْ مِنْ أَهْل دِينِي .
أَيْ أَصَرَّ عَلَى الشِّرْك . " فَإِنَّك غَفُور رَحِيم " قِيلَ : قَالَ هَذَا قَبْل أَنْ يُعَرِّفهُ اللَّه أَنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ . وَقِيلَ : غَفُور رَحِيم لِمَنْ تَابَ مِنْ مَعْصِيَته قَبْل الْمَوْت . وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان : " وَمَنْ عَصَانِي " فِيمَا دُون الشِّرْك .
فِي التَّوْحِيد . " فَإِنَّهُ مِنِّي " أَيْ مِنْ أَهْل دِينِي .
أَيْ أَصَرَّ عَلَى الشِّرْك . " فَإِنَّك غَفُور رَحِيم " قِيلَ : قَالَ هَذَا قَبْل أَنْ يُعَرِّفهُ اللَّه أَنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ . وَقِيلَ : غَفُور رَحِيم لِمَنْ تَابَ مِنْ مَعْصِيَته قَبْل الْمَوْت . وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان : " وَمَنْ عَصَانِي " فِيمَا دُون الشِّرْك .
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ↓
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : ( أَوَّل مَا اِتَّخَذَ النِّسَاء الْمِنْطَق مِنْ قِبَل أُمّ إِسْمَاعِيل ; اِتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرهَا عَلَى سَارَة , ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيم وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيل وَهِيَ تُرْضِعهُ , حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْد الْبَيْت عِنْد دَوْحَة فَوْق زَمْزَم فِي أَعْلَى الْمَسْجِد ; وَلَيْسَ , بِمَكَّة يَوْمئِذٍ أَحَد , وَلَيْسَ بِهَا مَاء , فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ ; وَوَضَعَ عِنْدهمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْر , وَسِقَاء فِيهِ مَاء , ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيم مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمّ إِسْمَاعِيل ; فَقَالَتْ : يَا إِبْرَاهِيم ! أَيْنَ تَذْهَب وَتَتْرُكنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْس وَلَا شَيْء , فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِت إِلَيْهَا , فَقَالَتْ لَهُ : آللَّه أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَتْ إِذًا لَا يُضَيِّعنَا ; ثُمَّ رَجَعَتْ , فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيم . حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْد الثَّنِيَّة حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ , اِسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْت ثُمَّ دَعَا بِهَذِهِ الدَّعَوَات , وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : " رَبّنَا إِنِّي أَسْكَنْت مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْر ذِي زَرْع " [ إِبْرَاهِيم : 37 ] حَتَّى بَلَغَ " يَشْكُرُونَ " وَجَعَلَتْ أُمّ إِسْمَاعِيل تُرْضِع إِسْمَاعِيل وَتَشْرَب مِنْ ذَلِكَ الْمَاء , حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاء عَطِشَتْ وَعَطِشَ اِبْنهَا , وَجَعَلَتْ تَنْظُر إِلَيْهِ يَتَلَوَّى - أَوْ قَالَ يَتَلَبَّط - فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَة أَنْ تَنْظُر إِلَيْهِ , فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَب جَبَل فِي الْأَرْض يَلِيهَا , فَقَامَتْ عَلَيْهِ , ثُمَّ اِسْتَقْبَلَتْ الْوَادِي تَنْظُر هَلْ تَرَى أَحَدًا , فَلَمْ تَرَ أَحَدًا , فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا , حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِي , رَفَعَتْ طَرَف دِرْعهَا , ثُمَّ سَعَتْ سَعْي الْإِنْسَان الْمَجْهُود , ثُمَّ جَاوَزَتْ الْوَادِي , ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَة فَقَامَتْ عَلَيْهِ , فَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا , فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْع مَرَّات ; قَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَذَلِكَ سَعْي النَّاس بَيْنهمَا ) فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَة سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ : صَهْ ! تُرِيد نَفْسهَا , ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ : قَدْ أَسْمَعْتَ , إِنْ كَانَ عِنْدك غِوَاث ! فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْد مَوْضِع زَمْزَم فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ - أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ - حَتَّى ظَهَرَ الْمَاء , فَجَعَلَتْ تُحَوِّضهُ وَتَقُول بِيَدِهَا هَكَذَا , وَجَعَلَتْ تَغْرِف مِنْ الْمَاء فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُور بَعْد مَا تَغْرِف ; قَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَرْحَم اللَّه أُمّ إِسْمَاعِيل لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَم - أَوْ قَالَ : لَوْ لَمْ تَغْرِف مِنْ الْمَاء - لَكَانَتْ زَمْزَم عَيْنًا مَعِينًا ) قَالَ : فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَك : لَا تَخَافِي الضَّيْعَة فَإِنَّ هَاهُنَا بَيْت اللَّه يَبْنِيه هَذَا الْغُلَام وَأَبُوهُ , وَإِنَّ اللَّه لَا يُضَيِّع أَهْله ) وَذَكَرَ الْحَدِيث بِطُولِهِ .
مَسْأَلَة : لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّق بِهَذَا فِي طَرْح وَلَده وَعِيَاله بِأَرْضٍ مَضْيَعَة اِتِّكَالًا عَلَى الْعَزِيز الرَّحِيم , وَاقْتِدَاء بِفِعْلِ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل , كَمَا تَقُول غُلَاة الصُّوفِيَّة فِي حَقِيقَة التَّوَكُّل , فَإِنَّ إِبْرَاهِيم فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّه لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيث : آللَّه أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَارَة لَمَّا غَارَتْ مِنْ هَاجَرَ بَعْد أَنْ وَلَدَتْ إِسْمَاعِيل خَرَجَ بِهَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى مَكَّة , فَرُوِيَ أَنَّهُ رَكِبَ الْبُرَاق هُوَ وَهَاجَر وَالطِّفْل فَجَاءَ فِي يَوْم وَاحِد مِنْ الشَّام إِلَى بَطْن مَكَّة , وَتَرَكَ اِبْنه وَأَمَتَهُ هُنَالِكَ وَرَكِبَ مُنْصَرِفًا مِنْ يَوْمه , فَكَانَ ذَلِكَ كُلّه بِوَحْيٍ مِنْ اللَّه تَعَالَى , فَلَمَّا وَلَّى دَعَا بِضِمْنِ هَذِهِ الْآيَة .
لَمَّا أَرَادَ اللَّه تَأْسِيس الْحَال , وَتَمْهِيد الْمَقَام , وَخَطّ الْمَوْضِع لِلْبَيْتِ الْمُكَرَّم , وَالْبَلَد الْمُحَرَّم , أَرْسَلَ الْمَلَك فَبَحَثَ عَنْ الْمَاء وَأَقَامَهُ مَقَام الْغِذَاء , وَفِي الصَّحِيح : أَنَّ أَبَا ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِجْتَزَأَ بِهِ ثَلَاثِينَ بَيْن يَوْم وَلَيْلَة , قَالَ أَبُو ذَرّ : مَا كَانَ لِي طَعَام إِلَّا مَاء زَمْزَم فَسَمِنْت حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنِي , وَمَا أَجِد عَلَى كَبِدِي سَخْفَة جُوع ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَاء زَمْزَم لِمَا شُرِبَ لَهُ إِنْ شَرِبْته تَشْتَفِي بِهِ شَفَاك اللَّه وَإِنْ شَرِبْته لِشِبَعِك أَشْبَعَك اللَّه بِهِ وَإِنْ شَرِبْته لِقَطْعِ ظَمَئِك قَطَعَهُ وَهِيَ هَزْمَة جِبْرِيل وَسُقْيَا اللَّه إِسْمَاعِيل ) . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : كَانَ اِبْن عَبَّاس إِذَا شَرِبَ مِنْ زَمْزَم قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك عِلْمًا نَافِعًا , وَرِزْقًا وَاسِعًا , وَشِفَاء مِنْ كُلّ دَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا مَوْجُود فِيهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّته , وَسَلِمَتْ طَوِيَّته , وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مُكَذِّبًا , وَلَا يَشْرَبهُ مُجَرِّبًا , فَإِنَّ اللَّه مَعَ الْمُتَوَكِّلِينَ , وَهُوَ يَفْضَح الْمُجَرِّبِينَ . وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ وَحَدَّثَنِي أَبِي رَحِمَهُ اللَّه قَالَ : دَخَلْت الطَّوَاف فِي لَيْلَة ظَلْمَاء فَأَخَذَنِي مِنْ الْبَوْل مَا شَغَلَنِي , فَجَعَلْت أَعْتَصِر حَتَّى آذَانِي , وَخِفْت إِنْ خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِد أَنْ أَطَأ بَعْض تِلْكَ الْأَقْدَام , وَذَلِكَ أَيَّام الْحَجّ ; فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيث , فَدَخَلْت زَمْزَم فَتَضَلَّعْت مِنْهُ , فَذَهَبَ عَنِّي إِلَى الصَّبَاح . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو : إِنَّ فِي زَمْزَم عَيْنًا فِي الْجَنَّة مِنْ قِبَل الرُّكْن .
قَوْله تَعَالَى : " وَمِنْ ذُرِّيَّتِي " " مِنْ " فِي قَوْله تَعَالَى : " مِنْ ذُرِّيَّتِي " لِلتَّبْعِيضِ أَيْ أَسْكَنْت بَعْض ذُرِّيَّتِي ; يَعْنِي إِسْمَاعِيل وَأُمّه ; لِأَنَّ إِسْحَاق كَانَ بِالشَّامِ . وَقِيلَ : هِيَ صِلَة ; أَيْ أَسْكَنْت ذُرِّيَّتِي
يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبَيْت كَانَ قَدِيمًا عَلَى مَا رُوِيَ قَبْل الطُّوفَان , وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَة " الْبَقَرَة " . وَأَضَافَ الْبَيْت إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكهُ غَيْره , وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُحَرَّم , أَيْ يَحْرُم فِيهِ مَا يُسْتَبَاح فِي غَيْره مِنْ جِمَاع وَاسْتِحْلَال . وَقِيلَ : مُحَرَّم عَلَى الْجَبَابِرَة , وَأَنْ تُنْتَهَك حُرْمَته , وَيُسْتَخَفّ بِحَقِّهِ , قَالَهُ قَتَادَة وَغَيْره . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي " الْمَائِدَة " .
خَصَّهَا مِنْ جُمْلَة الدِّين لِفَضْلِهَا فِيهِ , وَمَكَانهَا مِنْهُ , وَهِيَ عَهْد اللَّه عِنْد الْعِبَاد ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَمْس صَلَوَات كَتَبَهُنَّ اللَّه عَلَى الْعِبَاد ) . الْحَدِيث . وَاللَّام فِي " لِيُقِيمُوا الصَّلَاة " لَام كَيْ ; هَذَا هُوَ الظَّاهِر فِيهَا وَتَكُون مُتَعَلِّقَة بِ " أَسْكَنْت " وَيَصِحّ أَنْ تَكُون لَام أَمْر , كَأَنَّهُ رَغِبَ إِلَى اللَّه أَنْ يَأْتَمِنهُمْ وَأَنْ يُوَفِّقهُمْ لِإِقَامَةِ الصَّلَاة .
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الصَّلَاة بِمَكَّة أَفْضَل مِنْ الصَّلَاة بِغَيْرِهَا ; لِأَنَّ مَعْنَى " رَبّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاة " أَيْ أَسْكَنْتهمْ عِنْد بَيْتك الْمُحَرَّم لِيُقِيمُوا الصَّلَاة فِيهِ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ الصَّلَاة بِمَكَّة أَفْضَل أَوْ فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَذَهَبَ عَامَّة أَهْل الْأَثَر إِلَى أَنَّ الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَفْضَل مِنْ الصَّلَاة فِي مَسْجِد الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِائَةِ صَلَاة , وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَل مِنْ أَلْف صَلَاة فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِد إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَفْضَل مِنْ صَلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاة " . قَالَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو عُمَر : وَأَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيث حَبِيب الْمُعَلِّم عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَجَوَّدَهُ , وَلَمْ يَخْلِط فِي لَفْظه وَلَا فِي مَعْنَاهُ , وَكَانَ ثِقَة . قَالَ اِبْن أَبِي خَيْثَمَة سَمِعْت يَحْيَى بْن مَعِين يَقُول : حَبِيب الْمُعَلِّم ثِقَة . وَذَكَرَ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد قَالَ سَمِعْت أَبِي يَقُول : حَبِيب الْمُعَلِّم ثِقَة مَا أَصَحّ حَدِيثه ! وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَة الرَّازِيّ عَنْ حَبِيب الْمُعَلِّم فَقَالَ : بَصْرِيّ ثِقَة . قُلْت : وَقَدْ خَرَّجَ حَدِيث حَبِيب الْمُعَلِّم هَذَا عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَافِظ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بْن حَاتِم التَّمِيمِيّ الْبُسْتِيّ فِي الْمُسْنَد الصَّحِيح لَهُ , فَالْحَدِيث صَحِيح وَهُوَ الْحُجَّة عِنْد التَّنَازُع وَالِاخْتِلَاف . وَالْحَمْد لِلَّهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل حَدِيث اِبْن الزُّبَيْر ; رَوَاهُ مُوسَى الْجُهَنِيّ عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عَمْرو ; وَمُوسَى الْجُهَنِيّ الْكُوفِيّ ثِقَة , أَثْنَى عَلَيْهِ الْقَطَّان وَأَحْمَد وَيَحْيَى وَجَمَاعَتهمْ . وَرَوَى عَنْهُ شُعْبَة . وَالثَّوْرِيّ وَيَحْيَى بْن سَعِيد . وَرَوَى حَكِيم بْن سَيْف , حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر ; عَنْ عَبْد الْكَرِيم عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَل مِنْ أَلْف صَلَاة فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَفْضَل مِنْ مِائَة أَلْف فِيمَنْ سِوَاهُ ) . وَحَكِيم بْن سَيْف هَذَا شَيْخ مِنْ أَهْل الرِّقَّة قَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو زُرْعَة الرَّازِيّ , وَأَخَذَ عَنْهُ اِبْن وَضَّاح , وَهُوَ عِنْدهمْ شَيْخ صَدُوق لَا بَأْس بِهِ . فَإِنْ كَانَ حَفِظَ فَهُمَا حَدِيثَانِ , وَإِلَّا فَالْقَوْل قَوْل حَبِيب الْمُعَلِّم . وَرَوَى مُحَمَّد بْن وَضَّاح , حَدَّثَنَا يُوسُف بْن عَدِيّ عَنْ عُمَر بْن عُبَيْد عَنْ عَبْد الْمَلِك عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَل مِنْ أَلْف صَلَاة فِي غَيْره مِنْ الْمَسَاجِد إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام فَإِنَّ الصَّلَاة فِيهِ أَفْضَل ) . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا كُلّه نَصّ فِي مَوْضِع الْخِلَاف قَاطِع لَهُ عِنْد مَنْ أُلْهِمَ رَشَده , وَلَمْ تَمِلْ بِهِ عَصَبِيَّته . وَذَكَرَ اِبْن حَبِيب عَنْ مُطَرِّف وَعَنْ أَصْبَغ عَنْ اِبْن وَهْب أَنَّهُمَا كَانَا يَذْهَبَانِ إِلَى تَفْضِيل الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام عَلَى الصَّلَاة فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فِي هَذَا الْبَاب . وَقَدْ اِتَّفَقَ مَالِك وَسَائِر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ صَلَاة الْعِيدَيْنِ يَبْرُز لَهُمَا فِي كُلّ بَلَد إِلَّا مَكَّة فَإِنَّهَا تُصَلَّى فِي الْمَسْجِد الْحَرَام . وَكَانَ عُمَر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَأَبُو الدَّرْدَاء وَجَابِر يُفَضِّلُونَ مَكَّة وَمَسْجِدهَا وَهُمْ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِمَّنْ بَعْدهمْ ; وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيّ . وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَالْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ , وَرُوِيَ مِثْله عَنْ مَالِك ; ذَكَرَ اِبْن وَهْب فِي جَامِعه عَنْ مَالِك أَنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْض قَالَ : يَا رَبّ هَذِهِ أَحَبّ إِلَيْك أَنْ تُعْبَد فِيهَا ؟ قَالَ : بَلْ مَكَّة . وَالْمَشْهُور عَنْهُ وَعَنْ أَهْل الْمَدِينَة تَفْضِيل الْمَدِينَة , وَاخْتَلَفَ أَهْل الْبَصْرَة وَالْبَغْدَادِيُّونَ فِي ذَلِكَ ; فَطَائِفَة تَقُول مَكَّة , وَطَائِفَة تَقُول الْمَدِينَة .
الْأَفْئِدَة جَمْع فُؤَاد وَهِيَ الْقُلُوب , وَقَدْ يُعَبَّر عَنْ الْقَلْب بِالْفُؤَادِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَإِنَّ فُؤَادًا قَادَنِي بِصَبَابَةٍ إِلَيْك عَلَى طُول الْمَدَى لَصَبُور وَقِيلَ : جَمْع وَفْد , وَالْأَصْل أَوْفِدَة , فَقُدِّمَتْ الْفَاء وَقُلِبَتْ الْوَاو يَاء كَمَا هِيَ , فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَاجْعَلْ وُفُودًا مِنْ النَّاس تَهْوِي إِلَيْهِمْ ; أَيْ تَنْزِع ; يُقَال : هَوِيَ نَحْوه إِذَا مَالَ , وَهَوَتْ النَّاقَة تَهْوِي هَوِيًّا فَهِيَ هَاوِيَة إِذَا عَدَتْ عَدْوًا شَدِيدًا كَأَنَّهَا فِي هَوَاء بِئْر , وَقَوْله : " تَهْوِي إِلَيْهِمْ " مَأْخُوذ مِنْهُ . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : لَوْ قَالَ أَفْئِدَة النَّاس لَازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ فَارِس وَالرُّوم وَالتُّرْك وَالْهِنْد وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس , وَلَكِنْ قَالَ : " مِنْ النَّاس " فَهُمْ الْمُسْلِمُونَ ; فَقَوْله : " تَهْوِي إِلَيْهِمْ " أَيْ تَحِنّ إِلَيْهِمْ , وَتَحِنّ إِلَى زِيَارَة الْبَيْت . وَقَرَأَ مُجَاهِد " تَهْوَى إِلَيْهِمْ " أَيْ تَهْوَاهُمْ وَتُجِلّهُمْ .
فَاسْتَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ , وَأَنْبَتَ لَهُمْ بِالطَّائِفِ سَائِر الْأَشْجَار , وَبِمَا يُجْلَب إِلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْصَار . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس الْحَدِيث الطَّوِيل وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضه : ( فَجَاءَ إِبْرَاهِيم بَعْد مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيل يُطَالِع تَرِكَته فَلَمْ يَجِد إِسْمَاعِيل , فَسَأَلَ اِمْرَأَته عَنْهُ فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا , ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ عَيْشهمْ وَهَيْئَتهمْ فَقَالَتْ : نَحْنُ بِشَرٍّ , نَحْنُ فِي ضِيق وَشِدَّة ; فَشَكَتْ إِلَيْهِ , قَالَ : فَإِذَا جَاءَ زَوْجك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقُولِي لَهُ يُغَيِّر عَتَبَة بَابه , فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيل كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ : هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَد ! قَالَتْ : نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنِي عَنْك فَأَخْبَرْته , وَسَأَلَنِي كَيْف عِيشَتنَا فَأَخْبَرْته أَنَّا فِي جَهْد وَشِدَّة , قَالَ فَهَلْ أَوْصَاك بِشَيْءٍ : قَالَتْ : أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأ عَلَيْك السَّلَام , وَيَقُول : غَيِّرْ عَتَبَة بَابك ; قَالَ : ذَاكَ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقك اِلْحَقِي بِأَهْلِك ; فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى , فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيم مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْد فَلَمْ يَجِدهُ , وَدَخَلَ عَلَى اِمْرَأَته فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا . قَالَ : كَيْف أَنْتُمْ ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشهمْ وَهَيْئَتهمْ فَقَالَتْ : نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَة وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّه . قَالَ مَا طَعَامكُمْ ؟ قَالَتْ : اللَّحْم . قَالَ فَمَا شَرَابكُمْ ؟ قَالَتْ : الْمَاء . قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْم وَالْمَاء . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمئِذٍ حَبّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ ) . قَالَ : فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَد بِغَيْرِ مَكَّة إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : قَوْل إِبْرَاهِيم " فَاجْعَلْ أَفْئِدَة مِنْ النَّاس تَهْوِي إِلَيْهِمْ " سَأَلَ أَنْ يَجْعَل اللَّه النَّاس يَهْوُونَ السُّكْنَى بِمَكَّة , فَيَصِير بَيْتًا مُحَرَّمًا , وَكُلّ ذَلِكَ كَانَ وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَأَوَّل مَنْ سَكَنَهُ جُرْهُم . فَفِي الْبُخَارِيّ - بَعْد قَوْله : وَإِنَّ اللَّه لَا يُضَيِّع أَهْله - وَكَانَ الْبَيْت مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْض كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيه السُّيُول فَتَأْخُذ عَنْ يَمِينه وَعَنْ شِمَاله , وَكَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَة مِنْ جُرْهُم قَافِلِينَ مِنْ طَرِيق كَذَا , فَنَزَلُوا بِأَسْفَل مَكَّة , فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا : إِنَّ هَذَا الطَّائِر لَيَدُور عَلَى مَاء ! لَعَهْدنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاء ; فَأَرْسِلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ , فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا . قَالَ : وَأُمّ إِسْمَاعِيل عِنْد الْمَاء ; فَقَالُوا : أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِل عِنْدك ؟ قَالَتْ : نَعَمْ وَلَكِنْ لَا حَقّ لَكُمْ فِي الْمَاء . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمّ إِسْمَاعِيل وَهِيَ تُحِبّ الْأُنْس ) فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلهمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْل أَبْيَات مِنْهُمْ , شَبَّ الْغُلَام , وَمَاتَتْ أُمّ إِسْمَاعِيل , فَجَاءَ إِبْرَاهِيم بَعْد مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيل يُطَالِع تَرِكَته ; الْحَدِيث .
مَسْأَلَة : لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّق بِهَذَا فِي طَرْح وَلَده وَعِيَاله بِأَرْضٍ مَضْيَعَة اِتِّكَالًا عَلَى الْعَزِيز الرَّحِيم , وَاقْتِدَاء بِفِعْلِ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل , كَمَا تَقُول غُلَاة الصُّوفِيَّة فِي حَقِيقَة التَّوَكُّل , فَإِنَّ إِبْرَاهِيم فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّه لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيث : آللَّه أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَارَة لَمَّا غَارَتْ مِنْ هَاجَرَ بَعْد أَنْ وَلَدَتْ إِسْمَاعِيل خَرَجَ بِهَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى مَكَّة , فَرُوِيَ أَنَّهُ رَكِبَ الْبُرَاق هُوَ وَهَاجَر وَالطِّفْل فَجَاءَ فِي يَوْم وَاحِد مِنْ الشَّام إِلَى بَطْن مَكَّة , وَتَرَكَ اِبْنه وَأَمَتَهُ هُنَالِكَ وَرَكِبَ مُنْصَرِفًا مِنْ يَوْمه , فَكَانَ ذَلِكَ كُلّه بِوَحْيٍ مِنْ اللَّه تَعَالَى , فَلَمَّا وَلَّى دَعَا بِضِمْنِ هَذِهِ الْآيَة .
لَمَّا أَرَادَ اللَّه تَأْسِيس الْحَال , وَتَمْهِيد الْمَقَام , وَخَطّ الْمَوْضِع لِلْبَيْتِ الْمُكَرَّم , وَالْبَلَد الْمُحَرَّم , أَرْسَلَ الْمَلَك فَبَحَثَ عَنْ الْمَاء وَأَقَامَهُ مَقَام الْغِذَاء , وَفِي الصَّحِيح : أَنَّ أَبَا ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِجْتَزَأَ بِهِ ثَلَاثِينَ بَيْن يَوْم وَلَيْلَة , قَالَ أَبُو ذَرّ : مَا كَانَ لِي طَعَام إِلَّا مَاء زَمْزَم فَسَمِنْت حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنِي , وَمَا أَجِد عَلَى كَبِدِي سَخْفَة جُوع ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَاء زَمْزَم لِمَا شُرِبَ لَهُ إِنْ شَرِبْته تَشْتَفِي بِهِ شَفَاك اللَّه وَإِنْ شَرِبْته لِشِبَعِك أَشْبَعَك اللَّه بِهِ وَإِنْ شَرِبْته لِقَطْعِ ظَمَئِك قَطَعَهُ وَهِيَ هَزْمَة جِبْرِيل وَسُقْيَا اللَّه إِسْمَاعِيل ) . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : كَانَ اِبْن عَبَّاس إِذَا شَرِبَ مِنْ زَمْزَم قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك عِلْمًا نَافِعًا , وَرِزْقًا وَاسِعًا , وَشِفَاء مِنْ كُلّ دَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا مَوْجُود فِيهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّته , وَسَلِمَتْ طَوِيَّته , وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مُكَذِّبًا , وَلَا يَشْرَبهُ مُجَرِّبًا , فَإِنَّ اللَّه مَعَ الْمُتَوَكِّلِينَ , وَهُوَ يَفْضَح الْمُجَرِّبِينَ . وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ وَحَدَّثَنِي أَبِي رَحِمَهُ اللَّه قَالَ : دَخَلْت الطَّوَاف فِي لَيْلَة ظَلْمَاء فَأَخَذَنِي مِنْ الْبَوْل مَا شَغَلَنِي , فَجَعَلْت أَعْتَصِر حَتَّى آذَانِي , وَخِفْت إِنْ خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِد أَنْ أَطَأ بَعْض تِلْكَ الْأَقْدَام , وَذَلِكَ أَيَّام الْحَجّ ; فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيث , فَدَخَلْت زَمْزَم فَتَضَلَّعْت مِنْهُ , فَذَهَبَ عَنِّي إِلَى الصَّبَاح . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو : إِنَّ فِي زَمْزَم عَيْنًا فِي الْجَنَّة مِنْ قِبَل الرُّكْن .
قَوْله تَعَالَى : " وَمِنْ ذُرِّيَّتِي " " مِنْ " فِي قَوْله تَعَالَى : " مِنْ ذُرِّيَّتِي " لِلتَّبْعِيضِ أَيْ أَسْكَنْت بَعْض ذُرِّيَّتِي ; يَعْنِي إِسْمَاعِيل وَأُمّه ; لِأَنَّ إِسْحَاق كَانَ بِالشَّامِ . وَقِيلَ : هِيَ صِلَة ; أَيْ أَسْكَنْت ذُرِّيَّتِي
يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبَيْت كَانَ قَدِيمًا عَلَى مَا رُوِيَ قَبْل الطُّوفَان , وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَة " الْبَقَرَة " . وَأَضَافَ الْبَيْت إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكهُ غَيْره , وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُحَرَّم , أَيْ يَحْرُم فِيهِ مَا يُسْتَبَاح فِي غَيْره مِنْ جِمَاع وَاسْتِحْلَال . وَقِيلَ : مُحَرَّم عَلَى الْجَبَابِرَة , وَأَنْ تُنْتَهَك حُرْمَته , وَيُسْتَخَفّ بِحَقِّهِ , قَالَهُ قَتَادَة وَغَيْره . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي " الْمَائِدَة " .
خَصَّهَا مِنْ جُمْلَة الدِّين لِفَضْلِهَا فِيهِ , وَمَكَانهَا مِنْهُ , وَهِيَ عَهْد اللَّه عِنْد الْعِبَاد ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَمْس صَلَوَات كَتَبَهُنَّ اللَّه عَلَى الْعِبَاد ) . الْحَدِيث . وَاللَّام فِي " لِيُقِيمُوا الصَّلَاة " لَام كَيْ ; هَذَا هُوَ الظَّاهِر فِيهَا وَتَكُون مُتَعَلِّقَة بِ " أَسْكَنْت " وَيَصِحّ أَنْ تَكُون لَام أَمْر , كَأَنَّهُ رَغِبَ إِلَى اللَّه أَنْ يَأْتَمِنهُمْ وَأَنْ يُوَفِّقهُمْ لِإِقَامَةِ الصَّلَاة .
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الصَّلَاة بِمَكَّة أَفْضَل مِنْ الصَّلَاة بِغَيْرِهَا ; لِأَنَّ مَعْنَى " رَبّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاة " أَيْ أَسْكَنْتهمْ عِنْد بَيْتك الْمُحَرَّم لِيُقِيمُوا الصَّلَاة فِيهِ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ الصَّلَاة بِمَكَّة أَفْضَل أَوْ فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَذَهَبَ عَامَّة أَهْل الْأَثَر إِلَى أَنَّ الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَفْضَل مِنْ الصَّلَاة فِي مَسْجِد الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِائَةِ صَلَاة , وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَل مِنْ أَلْف صَلَاة فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِد إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَفْضَل مِنْ صَلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاة " . قَالَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو عُمَر : وَأَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيث حَبِيب الْمُعَلِّم عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَجَوَّدَهُ , وَلَمْ يَخْلِط فِي لَفْظه وَلَا فِي مَعْنَاهُ , وَكَانَ ثِقَة . قَالَ اِبْن أَبِي خَيْثَمَة سَمِعْت يَحْيَى بْن مَعِين يَقُول : حَبِيب الْمُعَلِّم ثِقَة . وَذَكَرَ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد قَالَ سَمِعْت أَبِي يَقُول : حَبِيب الْمُعَلِّم ثِقَة مَا أَصَحّ حَدِيثه ! وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَة الرَّازِيّ عَنْ حَبِيب الْمُعَلِّم فَقَالَ : بَصْرِيّ ثِقَة . قُلْت : وَقَدْ خَرَّجَ حَدِيث حَبِيب الْمُعَلِّم هَذَا عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَافِظ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بْن حَاتِم التَّمِيمِيّ الْبُسْتِيّ فِي الْمُسْنَد الصَّحِيح لَهُ , فَالْحَدِيث صَحِيح وَهُوَ الْحُجَّة عِنْد التَّنَازُع وَالِاخْتِلَاف . وَالْحَمْد لِلَّهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل حَدِيث اِبْن الزُّبَيْر ; رَوَاهُ مُوسَى الْجُهَنِيّ عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عَمْرو ; وَمُوسَى الْجُهَنِيّ الْكُوفِيّ ثِقَة , أَثْنَى عَلَيْهِ الْقَطَّان وَأَحْمَد وَيَحْيَى وَجَمَاعَتهمْ . وَرَوَى عَنْهُ شُعْبَة . وَالثَّوْرِيّ وَيَحْيَى بْن سَعِيد . وَرَوَى حَكِيم بْن سَيْف , حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر ; عَنْ عَبْد الْكَرِيم عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَل مِنْ أَلْف صَلَاة فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَفْضَل مِنْ مِائَة أَلْف فِيمَنْ سِوَاهُ ) . وَحَكِيم بْن سَيْف هَذَا شَيْخ مِنْ أَهْل الرِّقَّة قَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو زُرْعَة الرَّازِيّ , وَأَخَذَ عَنْهُ اِبْن وَضَّاح , وَهُوَ عِنْدهمْ شَيْخ صَدُوق لَا بَأْس بِهِ . فَإِنْ كَانَ حَفِظَ فَهُمَا حَدِيثَانِ , وَإِلَّا فَالْقَوْل قَوْل حَبِيب الْمُعَلِّم . وَرَوَى مُحَمَّد بْن وَضَّاح , حَدَّثَنَا يُوسُف بْن عَدِيّ عَنْ عُمَر بْن عُبَيْد عَنْ عَبْد الْمَلِك عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَل مِنْ أَلْف صَلَاة فِي غَيْره مِنْ الْمَسَاجِد إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام فَإِنَّ الصَّلَاة فِيهِ أَفْضَل ) . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا كُلّه نَصّ فِي مَوْضِع الْخِلَاف قَاطِع لَهُ عِنْد مَنْ أُلْهِمَ رَشَده , وَلَمْ تَمِلْ بِهِ عَصَبِيَّته . وَذَكَرَ اِبْن حَبِيب عَنْ مُطَرِّف وَعَنْ أَصْبَغ عَنْ اِبْن وَهْب أَنَّهُمَا كَانَا يَذْهَبَانِ إِلَى تَفْضِيل الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام عَلَى الصَّلَاة فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فِي هَذَا الْبَاب . وَقَدْ اِتَّفَقَ مَالِك وَسَائِر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ صَلَاة الْعِيدَيْنِ يَبْرُز لَهُمَا فِي كُلّ بَلَد إِلَّا مَكَّة فَإِنَّهَا تُصَلَّى فِي الْمَسْجِد الْحَرَام . وَكَانَ عُمَر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَأَبُو الدَّرْدَاء وَجَابِر يُفَضِّلُونَ مَكَّة وَمَسْجِدهَا وَهُمْ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِمَّنْ بَعْدهمْ ; وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيّ . وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَالْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ , وَرُوِيَ مِثْله عَنْ مَالِك ; ذَكَرَ اِبْن وَهْب فِي جَامِعه عَنْ مَالِك أَنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْض قَالَ : يَا رَبّ هَذِهِ أَحَبّ إِلَيْك أَنْ تُعْبَد فِيهَا ؟ قَالَ : بَلْ مَكَّة . وَالْمَشْهُور عَنْهُ وَعَنْ أَهْل الْمَدِينَة تَفْضِيل الْمَدِينَة , وَاخْتَلَفَ أَهْل الْبَصْرَة وَالْبَغْدَادِيُّونَ فِي ذَلِكَ ; فَطَائِفَة تَقُول مَكَّة , وَطَائِفَة تَقُول الْمَدِينَة .
الْأَفْئِدَة جَمْع فُؤَاد وَهِيَ الْقُلُوب , وَقَدْ يُعَبَّر عَنْ الْقَلْب بِالْفُؤَادِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَإِنَّ فُؤَادًا قَادَنِي بِصَبَابَةٍ إِلَيْك عَلَى طُول الْمَدَى لَصَبُور وَقِيلَ : جَمْع وَفْد , وَالْأَصْل أَوْفِدَة , فَقُدِّمَتْ الْفَاء وَقُلِبَتْ الْوَاو يَاء كَمَا هِيَ , فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَاجْعَلْ وُفُودًا مِنْ النَّاس تَهْوِي إِلَيْهِمْ ; أَيْ تَنْزِع ; يُقَال : هَوِيَ نَحْوه إِذَا مَالَ , وَهَوَتْ النَّاقَة تَهْوِي هَوِيًّا فَهِيَ هَاوِيَة إِذَا عَدَتْ عَدْوًا شَدِيدًا كَأَنَّهَا فِي هَوَاء بِئْر , وَقَوْله : " تَهْوِي إِلَيْهِمْ " مَأْخُوذ مِنْهُ . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : لَوْ قَالَ أَفْئِدَة النَّاس لَازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ فَارِس وَالرُّوم وَالتُّرْك وَالْهِنْد وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس , وَلَكِنْ قَالَ : " مِنْ النَّاس " فَهُمْ الْمُسْلِمُونَ ; فَقَوْله : " تَهْوِي إِلَيْهِمْ " أَيْ تَحِنّ إِلَيْهِمْ , وَتَحِنّ إِلَى زِيَارَة الْبَيْت . وَقَرَأَ مُجَاهِد " تَهْوَى إِلَيْهِمْ " أَيْ تَهْوَاهُمْ وَتُجِلّهُمْ .
فَاسْتَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ , وَأَنْبَتَ لَهُمْ بِالطَّائِفِ سَائِر الْأَشْجَار , وَبِمَا يُجْلَب إِلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْصَار . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس الْحَدِيث الطَّوِيل وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضه : ( فَجَاءَ إِبْرَاهِيم بَعْد مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيل يُطَالِع تَرِكَته فَلَمْ يَجِد إِسْمَاعِيل , فَسَأَلَ اِمْرَأَته عَنْهُ فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا , ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ عَيْشهمْ وَهَيْئَتهمْ فَقَالَتْ : نَحْنُ بِشَرٍّ , نَحْنُ فِي ضِيق وَشِدَّة ; فَشَكَتْ إِلَيْهِ , قَالَ : فَإِذَا جَاءَ زَوْجك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقُولِي لَهُ يُغَيِّر عَتَبَة بَابه , فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيل كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ : هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَد ! قَالَتْ : نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنِي عَنْك فَأَخْبَرْته , وَسَأَلَنِي كَيْف عِيشَتنَا فَأَخْبَرْته أَنَّا فِي جَهْد وَشِدَّة , قَالَ فَهَلْ أَوْصَاك بِشَيْءٍ : قَالَتْ : أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأ عَلَيْك السَّلَام , وَيَقُول : غَيِّرْ عَتَبَة بَابك ; قَالَ : ذَاكَ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقك اِلْحَقِي بِأَهْلِك ; فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى , فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيم مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْد فَلَمْ يَجِدهُ , وَدَخَلَ عَلَى اِمْرَأَته فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا . قَالَ : كَيْف أَنْتُمْ ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشهمْ وَهَيْئَتهمْ فَقَالَتْ : نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَة وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّه . قَالَ مَا طَعَامكُمْ ؟ قَالَتْ : اللَّحْم . قَالَ فَمَا شَرَابكُمْ ؟ قَالَتْ : الْمَاء . قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْم وَالْمَاء . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمئِذٍ حَبّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ ) . قَالَ : فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَد بِغَيْرِ مَكَّة إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : قَوْل إِبْرَاهِيم " فَاجْعَلْ أَفْئِدَة مِنْ النَّاس تَهْوِي إِلَيْهِمْ " سَأَلَ أَنْ يَجْعَل اللَّه النَّاس يَهْوُونَ السُّكْنَى بِمَكَّة , فَيَصِير بَيْتًا مُحَرَّمًا , وَكُلّ ذَلِكَ كَانَ وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَأَوَّل مَنْ سَكَنَهُ جُرْهُم . فَفِي الْبُخَارِيّ - بَعْد قَوْله : وَإِنَّ اللَّه لَا يُضَيِّع أَهْله - وَكَانَ الْبَيْت مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْض كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيه السُّيُول فَتَأْخُذ عَنْ يَمِينه وَعَنْ شِمَاله , وَكَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَة مِنْ جُرْهُم قَافِلِينَ مِنْ طَرِيق كَذَا , فَنَزَلُوا بِأَسْفَل مَكَّة , فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا : إِنَّ هَذَا الطَّائِر لَيَدُور عَلَى مَاء ! لَعَهْدنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاء ; فَأَرْسِلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ , فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا . قَالَ : وَأُمّ إِسْمَاعِيل عِنْد الْمَاء ; فَقَالُوا : أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِل عِنْدك ؟ قَالَتْ : نَعَمْ وَلَكِنْ لَا حَقّ لَكُمْ فِي الْمَاء . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمّ إِسْمَاعِيل وَهِيَ تُحِبّ الْأُنْس ) فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلهمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْل أَبْيَات مِنْهُمْ , شَبَّ الْغُلَام , وَمَاتَتْ أُمّ إِسْمَاعِيل , فَجَاءَ إِبْرَاهِيم بَعْد مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيل يُطَالِع تَرِكَته ; الْحَدِيث .
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ↓
أَيْ , لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْك شَيْء مِنْ أَحْوَالنَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُقَاتِل : تَعْلَم جَمِيع مَا أُخْفِيه وَمَا أُعْلِنهُ مِنْ الْوَجْد بِإِسْمَاعِيل وَأُمّه حَيْثُ أُسْكِنَا بِوَادٍ غَيْر ذِي زَرْع . " وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّه مِنْ شَيْء فِي الْأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء " قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل إِبْرَاهِيم . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى لَمَّا قَالَ إِبْرَاهِيم : " رَبّنَا إِنَّك تَعْلَم مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِن " قَالَ اللَّه : " وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّه مِنْ شَيْء فِي الْأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء " .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء ↓
أَيْ عَلَى كِبَر سِنِّي وَسِنّ اِمْرَأَتِي ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيل وَهُوَ اِبْن تِسْع وَتِسْعِينَ سَنَة . وَإِسْحَاق وَهُوَ اِبْن مِائَة وَاثْنَتَيْ عَشْرَة سَنَة . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : بُشِّرَ إِبْرَاهِيم بِإِسْحَاق بَعْد عَشْر وَمِائَة سَنَة . " إِنَّ رَبِّي لَسَمِيع الدُّعَاء " .
أَيْ مِنْ الثَّابِتِينَ عَلَى الْإِسْلَام وَالْتِزَام أَحْكَامه .
أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي مَنْ يُقِيمهَا .
أَيْ عِبَادَتِي كَمَا قَالَ : " وَقَالَ رَبّكُمْ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " [ غَافِر : 60 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : " الدُّعَاء مُخّ الْعِبَادَة ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " .
أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي مَنْ يُقِيمهَا .
أَيْ عِبَادَتِي كَمَا قَالَ : " وَقَالَ رَبّكُمْ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " [ غَافِر : 60 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : " الدُّعَاء مُخّ الْعِبَادَة ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " .
قِيلَ : اِسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيم لِوَالِدَيْهِ قَبْل أَنْ يَثْبُت عِنْده أَنَّهُمَا عَدُوَّانِ لِلَّهِ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَلَا يَبْعُد أَنْ تَكُون أُمّه مُسْلِمَة لِأَنَّ اللَّه ذَكَرَ عُذْره فِي اِسْتِغْفَاره لِأَبِيهِ دُون أُمّه . قُلْت : وَعَلَى هَذَا قِرَاءَة سَعِيد بْن جُبَيْر , " رَبّ اِغْفِرْ لِي وَلِوَالِدِيَّ " يَعْنِي . أَبَاهُ . وَقِيلَ : اِسْتَغْفَرَ لَهُمَا طَمَعًا فِي إِيمَانهمَا . وَقِيلَ : اِسْتَغْفَرَ لَهُمَا بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَا . وَقِيلَ : أَرَادَ آدَم وَحَوَّاء . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْعَبْد إِذَا قَالَ : اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي وَلِوَالِدِيَّ وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ مَاتَا كَافِرَيْنِ اِنْصَرَفَتْ الْمَغْفِرَة إِلَى آدَم وَحَوَّاء لِأَنَّهُمَا وَالِدَا الْخَلْق أَجْمَع . وَقِيلَ : إِنَّهُ أَرَادَ وَلَدَيْهِ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق . وَكَانَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ يَقْرَأ : " وَلِوَلِدَيَّ " يَعْنِي اِبْنَيْهِ , وَكَذَلِكَ قَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمُر ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ وَالنَّحَّاس " وَلِلْمُؤْمِنِينَ " قَالَ اِبْن عَبَّاس : مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : " لِلْمُؤْمِنِينَ " كُلّهمْ وَهُوَ أَظْهَر .
أَيْ يَوْم يَقُوم النَّاس لِلْحِسَابِ .
أَيْ يَوْم يَقُوم النَّاس لِلْحِسَابِ .
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ↓
وَهَذَا تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد أَنْ أَعْجَبَهُ مِنْ أَفْعَال الْمُشْرِكِينَ وَمُخَالَفَتهمْ دِين إِبْرَاهِيم ; أَيْ اِصْبِرْ كَمَا صَبَرَ إِبْرَاهِيم , وَأَعْلِمْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ تَأْخِير الْعَذَاب لَيْسَ لِلرِّضَا بِأَفْعَالِهِمْ , بَلْ سُنَّة اللَّه إِمْهَال الْعُصَاة مُدَّة . قَالَ مَيْمُون بْن مِهْرَان : هَذَا وَعِيد لِلظَّالِمِ , وَتَعْزِيَة لِلْمَظْلُومِ .
يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّة يُمْهِلهُمْ وَيُؤَخِّر عَذَابهمْ . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " يُؤَخِّرهُمْ " بِالْيَاءِ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم لِقَوْلِهِ " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّه " . وَقَرَأَ الْحَسَن وَالسُّلَمِيّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو أَيْضًا " نُؤَخِّرهُمْ " بِالنُّونِ لِلتَّعْظِيمِ .
أَيْ لَا تُغْمَض مِنْ هَوْل مَا تَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْم , قَالَهُ الْفَرَّاء . يُقَال : شَخَصَ الرَّجُل بَصَره وَشَخَصَ الْبَصَر نَفْسه أَيْ سَمَا وَطَمَحَ مِنْ هَوْل مَا يَرَى . قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَشْخَص أَبْصَار الْخَلَائِق يَوْمئِذٍ إِلَى الْهَوَاء لِشِدَّةِ الْحِيرَة فَلَا يَرْمَضُونَ .
يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّة يُمْهِلهُمْ وَيُؤَخِّر عَذَابهمْ . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " يُؤَخِّرهُمْ " بِالْيَاءِ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم لِقَوْلِهِ " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّه " . وَقَرَأَ الْحَسَن وَالسُّلَمِيّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو أَيْضًا " نُؤَخِّرهُمْ " بِالنُّونِ لِلتَّعْظِيمِ .
أَيْ لَا تُغْمَض مِنْ هَوْل مَا تَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْم , قَالَهُ الْفَرَّاء . يُقَال : شَخَصَ الرَّجُل بَصَره وَشَخَصَ الْبَصَر نَفْسه أَيْ سَمَا وَطَمَحَ مِنْ هَوْل مَا يَرَى . قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَشْخَص أَبْصَار الْخَلَائِق يَوْمئِذٍ إِلَى الْهَوَاء لِشِدَّةِ الْحِيرَة فَلَا يَرْمَضُونَ .
أَيْ مُسْرِعِينَ ; قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر ; مَأْخُوذ مِنْ أَهْطَعَ يُهْطِع إِذَا أَسْرَعَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ " [ الْقَمَر : 8 ] أَيْ مُسْرِعِينَ . قَالَ الشَّاعِر : بِدِجْلَة دَارهمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ بِدِجْلَة مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاع وَقِيلَ : الْمُهْطِع الَّذِي يَنْظُر فِي ذُلّ وَخُشُوع ; أَيْ نَاظِرِينَ مِنْ غَيْر أَنْ يَطْرِفُوا ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك : " مُهْطِعِينَ " أَيْ مُدِيمِي النَّظَر . وَقَالَ النَّحَّاس : وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَنْ يُقَال : أَهْطَعَ إِذَا أَسْرَعَ ; قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَقَدْ يَكُون الْوَجْهَانِ جَمِيعًا يَعْنِي الْإِسْرَاع مَعَ إِدَامَة النَّظَر . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْمُهْطِع الَّذِي لَا يَرْفَع رَأْسه .
أَيْ رَافِعِي رُءُوسهمْ يَنْظُرُونَ فِي ذُلّ . وَإِقْنَاع الرَّأْس رَفْعه ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد . قَالَ اِبْن عَرَفَة وَالْقُتَبِيّ وَغَيْرهمَا : الْمُقْنِع الَّذِي يَرْفَع رَأْسه وَيُقْبِل بِبَصَرِهِ عَلَى مَا بَيْن يَدَيْهِ ; وَمِنْهُ الْإِقْنَاع فِي الصَّلَاة وَأَقْنَعَ صَوْته إِذَا رَفَعَهُ . وَقَالَ الْحَسَن : وُجُوه النَّاس يَوْمئِذٍ إِلَى السَّمَاء لَا يَنْظُر أَحَد إِلَى أَحَد . وَقِيلَ : نَاكِسِي رُءُوسهمْ ; قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَيُقَال أَقْنَعَ إِذَا رَفَعَ رَأْسه , وَأَقْنَعَ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسه ذِلَّة وَخُضُوعًا , وَالْآيَة مُحْتَمِلَة الْوَجْهَيْنِ , وَقَالَهُ الْمُبَرِّد , وَالْقَوْل الْأَوَّل أَعْرَف فِي اللُّغَة ; قَالَ الرَّاجِز : أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسه وَأَقْنَعَا كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئًا أَطْمَعَا وَقَالَ الشَّمَّاخ يَصِف إِبِلًا : يُبَاكِرْنَ الْعِضَاه بِمُقْنَعَاتٍ نَوَاجِذهنَّ كَالْحَدَإِ الْوَقِيع يَعْنِي : بِرُءُوسٍ مَرْفُوعَات إِلَيْهَا لِتَتَنَاوَلهُنَّ . وَمِنْهُ قِيلَ : مُقَنَّعَة لِارْتِفَاعِهَا . وَمِنْهُ قَنَعَ الرَّجُل إِذَا رَضِيَ ; أَيْ رَفَعَ رَأْسه عَنْ السُّؤَال . وَقَنَعَ إِذَا سَأَلَ أَيْ أَتَى مَا يَتَقَنَّع مِنْهُ ; عَنْ النَّحَّاس . وَفَم مُقْنَع أَيْ مَعْطُوفَة أَسْنَانه إِلَى دَاخِل . وَرَجُل مُقَنَّع بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ عَلَيْهِ بَيْضَة قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ .
أَيْ لَا تَرْجِع إِلَيْهِمْ أَبْصَارهمْ مِنْ شِدَّة النَّظَر فَهِيَ شَاخِصَة النَّظَر . يُقَال : طَرَفَ الرَّجُل يَطْرِف طَرْفًا إِذَا أَطْبَقَ جَفْنه عَلَى الْآخَر , فَسُمِّيَ النَّظَر طَرْفًا لِأَنَّهُ بِهِ يَكُون . وَالطَّرْف الْعَيْن . قَالَ عَنْتَرَة : وَأَغُضّ طَرْفِي مَا بَدَتْ جَارَتِي حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي مَأْوَاهَا وَقَالَ جَمِيل : وَأَقْصِر طَرْفِي دُون جُمْل كَرَامَة لِجُمْلٍ وَلِلطَّرْفِ الَّذِي أَنَا قَاصِرُهُ
أَيْ رَافِعِي رُءُوسهمْ يَنْظُرُونَ فِي ذُلّ . وَإِقْنَاع الرَّأْس رَفْعه ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد . قَالَ اِبْن عَرَفَة وَالْقُتَبِيّ وَغَيْرهمَا : الْمُقْنِع الَّذِي يَرْفَع رَأْسه وَيُقْبِل بِبَصَرِهِ عَلَى مَا بَيْن يَدَيْهِ ; وَمِنْهُ الْإِقْنَاع فِي الصَّلَاة وَأَقْنَعَ صَوْته إِذَا رَفَعَهُ . وَقَالَ الْحَسَن : وُجُوه النَّاس يَوْمئِذٍ إِلَى السَّمَاء لَا يَنْظُر أَحَد إِلَى أَحَد . وَقِيلَ : نَاكِسِي رُءُوسهمْ ; قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَيُقَال أَقْنَعَ إِذَا رَفَعَ رَأْسه , وَأَقْنَعَ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسه ذِلَّة وَخُضُوعًا , وَالْآيَة مُحْتَمِلَة الْوَجْهَيْنِ , وَقَالَهُ الْمُبَرِّد , وَالْقَوْل الْأَوَّل أَعْرَف فِي اللُّغَة ; قَالَ الرَّاجِز : أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسه وَأَقْنَعَا كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئًا أَطْمَعَا وَقَالَ الشَّمَّاخ يَصِف إِبِلًا : يُبَاكِرْنَ الْعِضَاه بِمُقْنَعَاتٍ نَوَاجِذهنَّ كَالْحَدَإِ الْوَقِيع يَعْنِي : بِرُءُوسٍ مَرْفُوعَات إِلَيْهَا لِتَتَنَاوَلهُنَّ . وَمِنْهُ قِيلَ : مُقَنَّعَة لِارْتِفَاعِهَا . وَمِنْهُ قَنَعَ الرَّجُل إِذَا رَضِيَ ; أَيْ رَفَعَ رَأْسه عَنْ السُّؤَال . وَقَنَعَ إِذَا سَأَلَ أَيْ أَتَى مَا يَتَقَنَّع مِنْهُ ; عَنْ النَّحَّاس . وَفَم مُقْنَع أَيْ مَعْطُوفَة أَسْنَانه إِلَى دَاخِل . وَرَجُل مُقَنَّع بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ عَلَيْهِ بَيْضَة قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ .
أَيْ لَا تَرْجِع إِلَيْهِمْ أَبْصَارهمْ مِنْ شِدَّة النَّظَر فَهِيَ شَاخِصَة النَّظَر . يُقَال : طَرَفَ الرَّجُل يَطْرِف طَرْفًا إِذَا أَطْبَقَ جَفْنه عَلَى الْآخَر , فَسُمِّيَ النَّظَر طَرْفًا لِأَنَّهُ بِهِ يَكُون . وَالطَّرْف الْعَيْن . قَالَ عَنْتَرَة : وَأَغُضّ طَرْفِي مَا بَدَتْ جَارَتِي حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي مَأْوَاهَا وَقَالَ جَمِيل : وَأَقْصِر طَرْفِي دُون جُمْل كَرَامَة لِجُمْلٍ وَلِلطَّرْفِ الَّذِي أَنَا قَاصِرُهُ
وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ↓
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرَادَ أَهْل مَكَّة .
وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة ; أَيْ خَوِّفْهُمْ ذَلِكَ الْيَوْم . وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِيَوْمِ الْعَذَاب وَإِنْ كَانَ يَوْم الثَّوَاب ; لِأَنَّ الْكَلَام خَرَجَ مَخْرَج التَّهْدِيد لِلْعَاصِي .
أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْم
أَيْ أَمْهِلْنَا .
سَأَلُوهُ الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا حِين ظَهَرَ الْحَقّ فِي الْآخِرَة .
أَيْ إِلَى الْإِسْلَام فَيُجَابُوا :
يَعْنِي فِي دَار الدُّنْيَا .
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ قَسَم قُرَيْش أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ . اِبْن جُرَيْج : هُوَ مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْله : " وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْد أَيْمَانهمْ لَا يَبْعَث اللَّه مَنْ يَمُوت " [ النَّحْل : 38 ] . " مَا لَكُمْ مِنْ زَوَال " فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدهمَا : مَا لَكُمْ مِنْ اِنْتِقَال عَنْ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَة ; أَيْ لَا تُبْعَثُونَ وَلَا تُحْشَرُونَ ; وَهَذَا قَوْل مُجَاهِد . الثَّانِي : " مَا لَكُمْ مِنْ زَوَال " أَيْ مِنْ الْعَذَاب . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ قَالَ : لِأَهْلِ النَّار خَمْس دَعَوَات يُجِيبهُمْ اللَّه فِي أَرْبَعَة , فَإِذَا كَانَ فِي الْخَامِسَة لَمْ يَتَكَلَّمُوا بَعْدهَا أَبَدًا , يَقُولُونَ : " رَبّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوج مِنْ سَبِيل " [ غَافِر : 11 ] فَيُجِيبهُمْ اللَّه " ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّه وَحْده كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَك بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْم لِلَّهِ الْعَلِيّ الْكَبِير " [ غَافِر : 12 ] ثُمَّ يَقُولُونَ : " رَبّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَل صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ " [ السَّجْدَة : 12 ] فَيُجِيبهُمْ اللَّه تَعَالَى : " فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَاب الْخُلْد بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " [ السَّجْدَة : 14 ] ثُمَّ يَقُولُونَ : " رَبّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَل قَرِيب نُجِبْ دَعْوَتك وَنَتَّبِع الرُّسُل " فَيُجِيبهُمْ اللَّه تَعَالَى " أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْل مَا لَكُمْ مِنْ زَوَال " فَيَقُولُونَ : " رَبّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَل صَالِحًا غَيْر الَّذِي كُنَّا نَعْمَل " [ فَاطِر : 37 ] فَيُجِيبهُمْ اللَّه تَعَالَى : " أَوَلَمْ نُعَمِّركُمْ مَا يَتَذَكَّر فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِير فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِير " [ فَاطِر : 37 ] . وَيَقُولُونَ : " رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 106 ] فَيُجِيبهُمْ اللَّه تَعَالَى : " اِخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 108 ] فَلَا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدهَا أَبَدًا ; خَرَّجَهُ اِبْن الْمُبَارَك فِي { دَقَائِقه } بِأَطْوَل مِنْ هَذَا - وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي كِتَاب { التَّذْكِرَة } وَزَادَ فِي الْحَدِيث " وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِن الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْف فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَال وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرهمْ وَعِنْد اللَّه مَكْرهمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال " [ إِبْرَاهِيم : 44 - 45 ] قَالَ هَذِهِ الثَّالِثَة , وَذَكَرَ الْحَدِيث وَزَادَ بَعْد قَوْله : " اِخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 108 ] فَانْقَطَعَ عِنْد ذَلِكَ الدُّعَاء وَالرَّجَاء , وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَنْبَح بَعْضهمْ فِي وَجْه بَعْض , وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ ; وَقَالَ : فَحَدَّثَنِي الْأَزْهَر بْن أَبِي الْأَزْهَر أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ قَوْل : " هَذَا يَوْم لَا يَنْطِقُونَ . وَلَا يُؤْذَن لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ " [ الْمُرْسَلَات : 35 - 36 ] .
وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة ; أَيْ خَوِّفْهُمْ ذَلِكَ الْيَوْم . وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِيَوْمِ الْعَذَاب وَإِنْ كَانَ يَوْم الثَّوَاب ; لِأَنَّ الْكَلَام خَرَجَ مَخْرَج التَّهْدِيد لِلْعَاصِي .
أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْم
أَيْ أَمْهِلْنَا .
سَأَلُوهُ الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا حِين ظَهَرَ الْحَقّ فِي الْآخِرَة .
أَيْ إِلَى الْإِسْلَام فَيُجَابُوا :
يَعْنِي فِي دَار الدُّنْيَا .
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ قَسَم قُرَيْش أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ . اِبْن جُرَيْج : هُوَ مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْله : " وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْد أَيْمَانهمْ لَا يَبْعَث اللَّه مَنْ يَمُوت " [ النَّحْل : 38 ] . " مَا لَكُمْ مِنْ زَوَال " فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدهمَا : مَا لَكُمْ مِنْ اِنْتِقَال عَنْ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَة ; أَيْ لَا تُبْعَثُونَ وَلَا تُحْشَرُونَ ; وَهَذَا قَوْل مُجَاهِد . الثَّانِي : " مَا لَكُمْ مِنْ زَوَال " أَيْ مِنْ الْعَذَاب . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ قَالَ : لِأَهْلِ النَّار خَمْس دَعَوَات يُجِيبهُمْ اللَّه فِي أَرْبَعَة , فَإِذَا كَانَ فِي الْخَامِسَة لَمْ يَتَكَلَّمُوا بَعْدهَا أَبَدًا , يَقُولُونَ : " رَبّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوج مِنْ سَبِيل " [ غَافِر : 11 ] فَيُجِيبهُمْ اللَّه " ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّه وَحْده كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَك بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْم لِلَّهِ الْعَلِيّ الْكَبِير " [ غَافِر : 12 ] ثُمَّ يَقُولُونَ : " رَبّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَل صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ " [ السَّجْدَة : 12 ] فَيُجِيبهُمْ اللَّه تَعَالَى : " فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَاب الْخُلْد بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " [ السَّجْدَة : 14 ] ثُمَّ يَقُولُونَ : " رَبّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَل قَرِيب نُجِبْ دَعْوَتك وَنَتَّبِع الرُّسُل " فَيُجِيبهُمْ اللَّه تَعَالَى " أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْل مَا لَكُمْ مِنْ زَوَال " فَيَقُولُونَ : " رَبّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَل صَالِحًا غَيْر الَّذِي كُنَّا نَعْمَل " [ فَاطِر : 37 ] فَيُجِيبهُمْ اللَّه تَعَالَى : " أَوَلَمْ نُعَمِّركُمْ مَا يَتَذَكَّر فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِير فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِير " [ فَاطِر : 37 ] . وَيَقُولُونَ : " رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 106 ] فَيُجِيبهُمْ اللَّه تَعَالَى : " اِخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 108 ] فَلَا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدهَا أَبَدًا ; خَرَّجَهُ اِبْن الْمُبَارَك فِي { دَقَائِقه } بِأَطْوَل مِنْ هَذَا - وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي كِتَاب { التَّذْكِرَة } وَزَادَ فِي الْحَدِيث " وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِن الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْف فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَال وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرهمْ وَعِنْد اللَّه مَكْرهمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال " [ إِبْرَاهِيم : 44 - 45 ] قَالَ هَذِهِ الثَّالِثَة , وَذَكَرَ الْحَدِيث وَزَادَ بَعْد قَوْله : " اِخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 108 ] فَانْقَطَعَ عِنْد ذَلِكَ الدُّعَاء وَالرَّجَاء , وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَنْبَح بَعْضهمْ فِي وَجْه بَعْض , وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ ; وَقَالَ : فَحَدَّثَنِي الْأَزْهَر بْن أَبِي الْأَزْهَر أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ قَوْل : " هَذَا يَوْم لَا يَنْطِقُونَ . وَلَا يُؤْذَن لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ " [ الْمُرْسَلَات : 35 - 36 ] .
وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ↓
أَيْ فِي بِلَاد ثَمُود وَنَحْوهَا فَهَلَّا اِعْتَبَرْتُمْ بِمَسَاكِنِهِمْ , بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَكُمْ مَا فَعَلْنَا بِهِمْ , وَبَعْد أَنْ ضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَال فِي الْقُرْآن . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ " وَنُبَيِّن لَكُمْ " بِنُونٍ وَالْجَزْم عَلَى أَنَّهُ مُسْتَقْبَل وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي ; وَلِيُنَاسِب قَوْله : " كَيْف فَعَلْنَا بِهِمْ " . وَقِرَاءَة الْجَمَاعَة , " وَتَبَيَّنَ " وَهِيَ مِثْلهَا فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تُبَيَّن لَهُمْ إِلَّا بِتَبْيِينِ اللَّه إِيَّاهُمْ .
وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ↓
أَيْ بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَتَكْذِيب الرُّسُل وَالْمُعَانَدَة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره .
" إِنْ " بِمَعْنَى " مَا " أَيْ مَا كَانَ مَكْرهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال لِضَعْفِهِ وَوَهَنه ;
" وَإِنْ " بِمَعْنَى " مَا " فِي الْقُرْآن فِي مَوَاضِع خَمْسَة : أَحَدهَا هَذَا . الثَّانِي : " فَإِنْ كُنْت فِي شَكّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْك " [ يُونُس : 94 ] . الثَّالِث : " لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا " [ الْأَنْبِيَاء : 17 ] أَيْ مَا كُنَّا . الرَّابِع : " قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَد " [ الزُّخْرُف : 81 ] . الْخَامِس : " وَلَقَدْ مَكَنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَنَّاكُمْ فِيهِ " [ الْأَحْقَاف : 26 ] . وَقَرَأَ الْجَمَاعَة " وَإِنْ كَانَ " بِالنُّونِ . وَقَرَأَ عَمْرو بْن عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَأُبَيّ " وَإِنْ كَادَ " بِالدَّالِ . وَالْعَامَّة عَلَى كَسْر اللَّام فِي " لِتَزُولَ " عَلَى أَنَّهَا لَام الْجُحُود وَفَتْح اللَّام الثَّانِيَة نَصِيبًا . وَقَرَأَ بْن مُحَيْصِن وَابْن جُرَيْج وَالْكِسَائِيّ " لَتَزُولُ " بِفَتْحِ اللَّام الْأُولَى عَلَى أَنَّهَا لَام الِابْتِدَاء وَرَفْع الثَّانِيَة " وَإِنْ " مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة , وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَة اِسْتِعْظَام مَكْرهمْ ; أَيْ وَلَقَدْ عَظُمَ مَكْرهمْ حَتَّى كَادَتْ الْجِبَال تَزُول مِنْهُ ; قَالَ الطَّبَرِيّ : الِاخْتِيَار الْقِرَاءَة الْأُولَى ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ زَالَتْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَة ; قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَلَا حُجَّة عَلَى مُصْحَف الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَدِيث الَّذِي حَدَّثَنَاهُ أَحْمَد بْن الْحُسَيْن : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا وَكِيع بْن الْجَرَّاح عَنْ إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن دَانِيل قَالَ سَمِعْت عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول : إِنَّ جَبَّارًا مِنْ الْجَبَابِرَة قَالَ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات , فَعَمَدَ إِلَى فِرَاخ نُسُور , فَأَمَرَ أَنْ تُطْعَم اللَّحْم , حَتَّى اِشْتَدَّتْ وَعَضَلَتْ وَاسْتَعْلَجَتْ أَمَرَ بِأَنْ يُتَّخَذ تَابُوت يَسَع فِيهِ رَجُلَيْنِ ; وَأَنْ يُجْعَل فِيهِ عَصًا فِي رَأْسهَا لَحْم شَدِيد حُمْرَته , وَأَنْ يُسْتَوْثَق مِنْ أَرْجُل النُّسُور بِالْأَوْتَادِ ; وَتُشَدّ إِلَى قَوَائِم التَّابُوت , ثُمَّ جَلَسَ هُوَ وَصَاحِب لَهُ فِي التَّابُوت وَأَثَارَ النُّسُور , فَلَمَّا رَأَتْ اللَّحْم طَلَبَتْهُ , فَجَعَلَتْ تَرْفَع التَّابُوت حَتَّى بَلَغَتْ بِهِ مَا شَاءَ اللَّه ; فَقَالَ الْجَبَّار لِصَاحِبِهِ : اِفْتَحْ الْبَاب فَانْظُرْ مَا تَرَى ؟ فَقَالَ : أَرَى الْجِبَال كَأَنَّهَا ذُبَاب , فَقَالَ : أَغْلِقْ الْبَاب ; ثُمَّ صَعِدَتْ بِالتَّابُوتِ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ تَصْعَد , فَقَالَ الْجَبَّار لِصَاحِبِهِ : اِفْتَحْ الْبَاب فَانْظُرْ مَا تَرَى ؟ فَقَالَ : مَا أَرَى إِلَّا السَّمَاء وَمَا تَزْدَاد مِنَّا إِلَّا بُعْدًا , فَقَالَ : نَكِّسْ الْعَصَا فَنَكَّسَهَا , فَانْقَضَّتْ النُّسُور . فَلَمَّا وَقَعَ التَّابُوت عَلَى الْأَرْض سُمِعَتْ لَهُ هَدَّة كَادَتْ الْجِبَال تَزُول عَنْ مَرَاتِبهَا مِنْهَا ; قَالَ : فَسَمِعْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقْرَأ " وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ لَتَزُول " بِفَتْحِ اللَّام الْأُولَى مِنْ " لَتَزُولُ " وَضَمّ الثَّانِيَة . وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ هَذَا الْخَبَر بِمَعْنَاهُ , وَأَنَّ الْجَبَّار هُوَ النُّمْرُود الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيم فِي رَبّه , وَقَالَ عِكْرِمَة : كَانَ مَعَهُ فِي التَّابُوت غُلَام أَمْرَد , وَقَدْ حَمَلَ الْقَوْس وَالنَّبْل فَرَمَى بِهِمَا فَعَادَ إِلَيْهِ مُلَطَّخًا بِالدِّمَاءِ وَقَالَ : كَفَيْت نَفْسك إِلَه السَّمَاء . قَالَ عِكْرِمَة : تَلَطَّخَ بِدَمِ سَمَكَة مِنْ السَّمَاء , قَذَفَتْ نَفْسهَا إِلَيْهِ مِنْ بَحْر فِي الْهَوَاء مُعَلَّق . وَقِيلَ : طَائِر مِنْ الطَّيْر أَصَابَهُ السَّهْم ثُمَّ أَمَرَ نُمْرُود صَاحِبه أَنْ يَضْرِب الْعَصَا وَأَنْ يُنَكِّس اللَّحْم , فَهَبَطَتْ النُّسُور بِالتَّابُوتِ , فَسَمِعَتْ الْجِبَال حَفِيف التَّابُوت وَالنُّسُور فَفَزِعَتْ , وَظَنَّتْ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ بِهَا حَدَث مِنْ السَّمَاء , وَأَنَّ السَّاعَة قَدْ قَامَتْ , فَذَلِكَ قَوْله : " وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال " . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا جَائِز بِتَقْدِيرِ خَلْق الْحَيَاة فِي الْجِبَال . وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ النُّمْرُود بْن كَنْعَان بَنَى الصَّرْح فِي قَرْيَة الرَّسّ مِنْ سَوَاد الْكُوفَة , وَجَعَلَ طُوله خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا , وَعَرْضه ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع وَخَمْسَة وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا , وَصَعِدَ مِنْهُ مَعَ النُّسُور , فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيل لَهُ إِلَى السَّمَاء اِتَّخَذَهُ حِصْنًا , وَجَمَعَ فِيهِ أَهْله وَوَلَده لِيَتَحَصَّنَّ فِيهِ . فَأَتَى اللَّه بُنْيَانه مِنْ الْقَوَاعِد , فَتَدَاعَى الصَّرْح عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا جَمِيعًا , فَهَذَا مَعْنَى " وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرهمْ " وَفِي الْجِبَال الَّتِي عَنَى زَوَالهَا بِمَكْرِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : جِبَال الْأَرْض . الثَّانِي : الْإِسْلَام وَالْقُرْآن ; لِأَنَّهُ لِثُبُوتِهِ وَرُسُوخه كَالْجِبَالِ . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : " وَعِنْد اللَّه مَكْرهمْ " أَيْ هُوَ عَالِم بِذَلِكَ فَيُجَازِيهِمْ أَوْ عِنْد اللَّه جَزَاء مَكْرهمْ فَحَذَفَ الْمُضَاف . " وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال " بِكَسْرِ اللَّام ; أَيْ مَا كَانَ مَكْرهمْ مَكْرًا يَكُون لَهُ أَثَر وَخَطَر عِنْد اللَّه تَعَالَى , فَالْجِبَال مَثَل لِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : " وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ " فِي تَقْدِيرهمْ " لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال " وَتُؤَثِّر فِي إِبْطَال الْإِسْلَام . وَقُرِئَ " لَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَال " بِفَتْحِ اللَّام الْأُولَى وَضَمِّ الثَّانِيَة ; أَيْ كَانَ مَكْرًا عَظِيمًا تَزُول مِنْهُ الْجِبَال , وَلَكِنَّ اللَّه حَفِظَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا " [ نُوح : 22 ] وَالْجِبَال لَا تَزُول وَلَكِنَّ الْعِبَارَة عَنْ تَعْظِيم الشَّيْء هَكَذَا تَكُون .
" إِنْ " بِمَعْنَى " مَا " أَيْ مَا كَانَ مَكْرهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال لِضَعْفِهِ وَوَهَنه ;
" وَإِنْ " بِمَعْنَى " مَا " فِي الْقُرْآن فِي مَوَاضِع خَمْسَة : أَحَدهَا هَذَا . الثَّانِي : " فَإِنْ كُنْت فِي شَكّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْك " [ يُونُس : 94 ] . الثَّالِث : " لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا " [ الْأَنْبِيَاء : 17 ] أَيْ مَا كُنَّا . الرَّابِع : " قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَد " [ الزُّخْرُف : 81 ] . الْخَامِس : " وَلَقَدْ مَكَنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَنَّاكُمْ فِيهِ " [ الْأَحْقَاف : 26 ] . وَقَرَأَ الْجَمَاعَة " وَإِنْ كَانَ " بِالنُّونِ . وَقَرَأَ عَمْرو بْن عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَأُبَيّ " وَإِنْ كَادَ " بِالدَّالِ . وَالْعَامَّة عَلَى كَسْر اللَّام فِي " لِتَزُولَ " عَلَى أَنَّهَا لَام الْجُحُود وَفَتْح اللَّام الثَّانِيَة نَصِيبًا . وَقَرَأَ بْن مُحَيْصِن وَابْن جُرَيْج وَالْكِسَائِيّ " لَتَزُولُ " بِفَتْحِ اللَّام الْأُولَى عَلَى أَنَّهَا لَام الِابْتِدَاء وَرَفْع الثَّانِيَة " وَإِنْ " مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة , وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَة اِسْتِعْظَام مَكْرهمْ ; أَيْ وَلَقَدْ عَظُمَ مَكْرهمْ حَتَّى كَادَتْ الْجِبَال تَزُول مِنْهُ ; قَالَ الطَّبَرِيّ : الِاخْتِيَار الْقِرَاءَة الْأُولَى ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ زَالَتْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَة ; قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَلَا حُجَّة عَلَى مُصْحَف الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَدِيث الَّذِي حَدَّثَنَاهُ أَحْمَد بْن الْحُسَيْن : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا وَكِيع بْن الْجَرَّاح عَنْ إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن دَانِيل قَالَ سَمِعْت عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول : إِنَّ جَبَّارًا مِنْ الْجَبَابِرَة قَالَ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات , فَعَمَدَ إِلَى فِرَاخ نُسُور , فَأَمَرَ أَنْ تُطْعَم اللَّحْم , حَتَّى اِشْتَدَّتْ وَعَضَلَتْ وَاسْتَعْلَجَتْ أَمَرَ بِأَنْ يُتَّخَذ تَابُوت يَسَع فِيهِ رَجُلَيْنِ ; وَأَنْ يُجْعَل فِيهِ عَصًا فِي رَأْسهَا لَحْم شَدِيد حُمْرَته , وَأَنْ يُسْتَوْثَق مِنْ أَرْجُل النُّسُور بِالْأَوْتَادِ ; وَتُشَدّ إِلَى قَوَائِم التَّابُوت , ثُمَّ جَلَسَ هُوَ وَصَاحِب لَهُ فِي التَّابُوت وَأَثَارَ النُّسُور , فَلَمَّا رَأَتْ اللَّحْم طَلَبَتْهُ , فَجَعَلَتْ تَرْفَع التَّابُوت حَتَّى بَلَغَتْ بِهِ مَا شَاءَ اللَّه ; فَقَالَ الْجَبَّار لِصَاحِبِهِ : اِفْتَحْ الْبَاب فَانْظُرْ مَا تَرَى ؟ فَقَالَ : أَرَى الْجِبَال كَأَنَّهَا ذُبَاب , فَقَالَ : أَغْلِقْ الْبَاب ; ثُمَّ صَعِدَتْ بِالتَّابُوتِ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ تَصْعَد , فَقَالَ الْجَبَّار لِصَاحِبِهِ : اِفْتَحْ الْبَاب فَانْظُرْ مَا تَرَى ؟ فَقَالَ : مَا أَرَى إِلَّا السَّمَاء وَمَا تَزْدَاد مِنَّا إِلَّا بُعْدًا , فَقَالَ : نَكِّسْ الْعَصَا فَنَكَّسَهَا , فَانْقَضَّتْ النُّسُور . فَلَمَّا وَقَعَ التَّابُوت عَلَى الْأَرْض سُمِعَتْ لَهُ هَدَّة كَادَتْ الْجِبَال تَزُول عَنْ مَرَاتِبهَا مِنْهَا ; قَالَ : فَسَمِعْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقْرَأ " وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ لَتَزُول " بِفَتْحِ اللَّام الْأُولَى مِنْ " لَتَزُولُ " وَضَمّ الثَّانِيَة . وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ هَذَا الْخَبَر بِمَعْنَاهُ , وَأَنَّ الْجَبَّار هُوَ النُّمْرُود الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيم فِي رَبّه , وَقَالَ عِكْرِمَة : كَانَ مَعَهُ فِي التَّابُوت غُلَام أَمْرَد , وَقَدْ حَمَلَ الْقَوْس وَالنَّبْل فَرَمَى بِهِمَا فَعَادَ إِلَيْهِ مُلَطَّخًا بِالدِّمَاءِ وَقَالَ : كَفَيْت نَفْسك إِلَه السَّمَاء . قَالَ عِكْرِمَة : تَلَطَّخَ بِدَمِ سَمَكَة مِنْ السَّمَاء , قَذَفَتْ نَفْسهَا إِلَيْهِ مِنْ بَحْر فِي الْهَوَاء مُعَلَّق . وَقِيلَ : طَائِر مِنْ الطَّيْر أَصَابَهُ السَّهْم ثُمَّ أَمَرَ نُمْرُود صَاحِبه أَنْ يَضْرِب الْعَصَا وَأَنْ يُنَكِّس اللَّحْم , فَهَبَطَتْ النُّسُور بِالتَّابُوتِ , فَسَمِعَتْ الْجِبَال حَفِيف التَّابُوت وَالنُّسُور فَفَزِعَتْ , وَظَنَّتْ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ بِهَا حَدَث مِنْ السَّمَاء , وَأَنَّ السَّاعَة قَدْ قَامَتْ , فَذَلِكَ قَوْله : " وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال " . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا جَائِز بِتَقْدِيرِ خَلْق الْحَيَاة فِي الْجِبَال . وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ النُّمْرُود بْن كَنْعَان بَنَى الصَّرْح فِي قَرْيَة الرَّسّ مِنْ سَوَاد الْكُوفَة , وَجَعَلَ طُوله خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا , وَعَرْضه ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع وَخَمْسَة وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا , وَصَعِدَ مِنْهُ مَعَ النُّسُور , فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيل لَهُ إِلَى السَّمَاء اِتَّخَذَهُ حِصْنًا , وَجَمَعَ فِيهِ أَهْله وَوَلَده لِيَتَحَصَّنَّ فِيهِ . فَأَتَى اللَّه بُنْيَانه مِنْ الْقَوَاعِد , فَتَدَاعَى الصَّرْح عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا جَمِيعًا , فَهَذَا مَعْنَى " وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرهمْ " وَفِي الْجِبَال الَّتِي عَنَى زَوَالهَا بِمَكْرِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : جِبَال الْأَرْض . الثَّانِي : الْإِسْلَام وَالْقُرْآن ; لِأَنَّهُ لِثُبُوتِهِ وَرُسُوخه كَالْجِبَالِ . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : " وَعِنْد اللَّه مَكْرهمْ " أَيْ هُوَ عَالِم بِذَلِكَ فَيُجَازِيهِمْ أَوْ عِنْد اللَّه جَزَاء مَكْرهمْ فَحَذَفَ الْمُضَاف . " وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال " بِكَسْرِ اللَّام ; أَيْ مَا كَانَ مَكْرهمْ مَكْرًا يَكُون لَهُ أَثَر وَخَطَر عِنْد اللَّه تَعَالَى , فَالْجِبَال مَثَل لِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : " وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ " فِي تَقْدِيرهمْ " لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال " وَتُؤَثِّر فِي إِبْطَال الْإِسْلَام . وَقُرِئَ " لَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَال " بِفَتْحِ اللَّام الْأُولَى وَضَمِّ الثَّانِيَة ; أَيْ كَانَ مَكْرًا عَظِيمًا تَزُول مِنْهُ الْجِبَال , وَلَكِنَّ اللَّه حَفِظَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا " [ نُوح : 22 ] وَالْجِبَال لَا تَزُول وَلَكِنَّ الْعِبَارَة عَنْ تَعْظِيم الشَّيْء هَكَذَا تَكُون .
اِسْم اللَّه تَعَالَى وَ " مُخْلِف " مَفْعُولًا تَحْسِب ; وَ " رُسُله " مَفْعُول " وَعْده " وَهُوَ عَلَى الِاتِّسَاع , وَالْمَعْنَى : مُخْلِف وَعْده رُسُله ; قَالَ الشَّاعِر : تَرَى الثَّوْر فِيهَا مُدْخِل الظِّلّ رَأْسه وَسَائِره بَادٍ إِلَى الشَّمْس أَجْمَع قَالَ الْقُتَبِيّ : هُوَ مِنْ الْمُقَدَّم الَّذِي يُوَضِّحهُ التَّأْخِير , وَالْمُؤَخَّر الَّذِي يُوَضِّحهُ التَّقْدِيم , وَسَوَاء فِي قَوْلك : مُخْلِف وَعْده رُسُله , وَمُخْلِف رُسُله وَعْده .
أَيْ مِنْ أَعْدَائِهِ . وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْمُنْتَقِم وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى " .
أَيْ مِنْ أَعْدَائِهِ . وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْمُنْتَقِم وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى " .
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ↓
أَيْ اُذْكُرْ يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض , فَتَكُون مُتَعَلِّقَة بِمَا قَبْله . وَقِيلَ : هُوَ صِفَة لِقَوْلِهِ : " يَوْم يَقُوم الْحِسَاب " [ إِبْرَاهِيم : 41 ] . وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّة تَبْدِيل الْأَرْض , فَقَالَ كَثِير مِنْ النَّاس : إِنَّ تَبَدُّل الْأَرْض عِبَارَة عَنْ تَغَيُّر صِفَاتهَا , وَتَسْوِيَة آكَامهَا , وَنَسْف جِبَالهَا , وَمَدّ أَرْضهَا ; وَرَوَاهُ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه وَذَكَرَهُ اِبْن الْمُبَارَك مِنْ حَدِيث شَهْر بْن حَوْشَب , قَالَ حَدَّثَنِي اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مُدَّتْ الْأَرْض مَدّ الْأَدِيم وَزِيدَ فِي سَعَتهَا كَذَا وَكَذَا ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( تُبَدَّل الْأَرْض غَيْر الْأَرْض فَيَبْسُطهَا وَيَمُدّهَا مَدّ الْأَدِيم الْعُكَاظِيّ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ثُمَّ يَزْجُر اللَّه الْخَلْق زَجْرَة فَإِذَا هُمْ فِي الثَّانِيَة فِي مِثْل مَوَاضِعهمْ مِنْ الْأُولَى مَنْ كَانَ فِي بَطْنهَا فَفِي بَطْنهَا وَمَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرهَا كَانَ عَلَى ظَهْرهَا ) ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيّ . وَتَبْدِيل السَّمَاء تَكْوِير شَمْسهَا وَقَمَرهَا , وَتَنَاثُر نُجُومهَا ; قَالَ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : اِخْتِلَاف أَحْوَالهَا , فَمَرَّة كَالْمُهْلِ وَمَرَّة كَالدِّهَانِ ; حَكَاهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ ; وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْبَاب مُبَيَّنًا فِي كِتَاب { التَّذْكِرَة } وَذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ , وَأَنَّ الصَّحِيح إِزَالَة هَذِهِ الْأَرْض حَسَب مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رَوَى مُسْلِم عَنْ ثَوْبَانِ مَوْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُنْت قَائِمًا عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ حَبْر مِنْ أَحْبَار الْيَهُود فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْك ; وَذَكَرَ الْحَدِيث , وَفِيهِ : فَقَالَ الْيَهُودِيّ أَيْنَ يَكُون النَّاس يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض غَيْر الْأَرْض وَالسَّمَوَات ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فِي الظُّلْمَة دُون الْجِسْر ) . وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَخَرَّجَ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله : " يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض غَيْر الْأَرْض وَالسَّمَوَات " فَأَيْنَ يَكُون النَّاس يَوْمئِذٍ ؟ قَالَ : ( عَلَى الصِّرَاط ) . خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ بِإِسْنَادِ مُسْلِم سَوَاء , وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة وَأَنَّهَا هِيَ السَّائِلَة , قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح ; فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تَنُصّ عَلَى أَنَّ السَّمَوَات وَالْأَرْض تُبَدَّل وَتُزَال , وَيَخْلُق اللَّه أَرْضًا أُخْرَى يَكُون النَّاس عَلَيْهَا بَعْد كَوْنهمْ عَلَى الْجِسْر . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ سَهْل بْن سَعْد قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُحْشَر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة عَلَى أَرْض بَيْضَاء عَفْرَاء كَقُرْصَةِ النَّقِيّ لَيْسَ فِيهَا عَلَم لِأَحَدٍ ) . وَقَالَ جَابِر : سَأَلْت أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ عَنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض غَيْر الْأَرْض " قَالَ : تُبَدَّل خُبْزَة يَأْكُل مِنْهَا الْخَلْق يَوْم الْقِيَامَة , ثُمَّ قَرَأَ : " وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَام " [ الْأَنْبِيَاء : 8 ] . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : إِنَّهَا تُبَدَّل بِأَرْضٍ غَيْرهَا بَيْضَاء كَالْفِضَّةِ لَمْ يُعْمَل عَلَيْهَا خَطِيئَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بِأَرْضٍ مِنْ فِضَّة بَيْضَاء . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : تُبَدَّل الْأَرْض يَوْمئِذٍ مِنْ فِضَّة وَالسَّمَاء مِنْ ذَهَب وَهَذَا تَبْدِيل لِلْعَيْنِ , وَحَسْبك .
أَيْ مِنْ قُبُورهمْ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ مِنْ قُبُورهمْ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ .
أَيْ يَوْم الْقِيَامَة .
أَيْ مَشْدُودِينَ
وَهِيَ الْأَغْلَال وَالْقُيُود , وَاحِدهَا صَفْد وَصَفَد . وَيُقَال : صَفَدْته صَفْدًا أَيْ قَيَّدْته وَالِاسْم الصَّفَد , فَإِذَا أَرَدْت التَّكْثِير قُلْت : صَفَّدْته تَصْفِيدًا ; قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا أَيْ مُقَيَّدِينَا . وَقَالَ حَسَّان : مِنْ كُلّ مَأْسُور يُشَدّ صِفَاده صَقْر إِذَا لَاقَى الْكَرِيهَة حَامِ أَيْ غُلّه , وَأَصْفَدْته إِصْفَادًا أَعْطَيْته . وَقِيلَ : صَفَدْته وَأَصْفَدْته جَارِيَانِ فِي الْقَيْد وَالْإِعْطَاء جَمِيعًا ; قَالَ النَّابِغَة : فَلَمْ أُعَرِّض أَبَيْت اللَّعْن بِالصَّفَدِ فَالصُّفَد الْعَطَاء ; لِأَنَّهُ يُقَيِّد وَيُعَبِّد , قَالَ أَبُو الطَّيِّب : وَقَيَّدْت نَفْسِي فِي ذَرَاك مَحَبَّة وَمَنْ وَجَدَ الْإِحْسَان قَيْدًا تَقَيَّدَا قِيلَ : يُقْرَن كُلّ كَافِر مَعَ شَيْطَان فِي غُلّ , بَيَانه قَوْله : " اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجهمْ " [ الصَّافَّات : 22 ] يَعْنِي قُرَنَاءَهُمْ مِنْ الشَّيَاطِين . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ الْكُفَّار يُجْمَعُونَ فِي الْأَصْفَاد كَمَا اِجْتَمَعُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمَعَاصِي .
أَيْ يَوْم الْقِيَامَة .
أَيْ مَشْدُودِينَ
وَهِيَ الْأَغْلَال وَالْقُيُود , وَاحِدهَا صَفْد وَصَفَد . وَيُقَال : صَفَدْته صَفْدًا أَيْ قَيَّدْته وَالِاسْم الصَّفَد , فَإِذَا أَرَدْت التَّكْثِير قُلْت : صَفَّدْته تَصْفِيدًا ; قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا أَيْ مُقَيَّدِينَا . وَقَالَ حَسَّان : مِنْ كُلّ مَأْسُور يُشَدّ صِفَاده صَقْر إِذَا لَاقَى الْكَرِيهَة حَامِ أَيْ غُلّه , وَأَصْفَدْته إِصْفَادًا أَعْطَيْته . وَقِيلَ : صَفَدْته وَأَصْفَدْته جَارِيَانِ فِي الْقَيْد وَالْإِعْطَاء جَمِيعًا ; قَالَ النَّابِغَة : فَلَمْ أُعَرِّض أَبَيْت اللَّعْن بِالصَّفَدِ فَالصُّفَد الْعَطَاء ; لِأَنَّهُ يُقَيِّد وَيُعَبِّد , قَالَ أَبُو الطَّيِّب : وَقَيَّدْت نَفْسِي فِي ذَرَاك مَحَبَّة وَمَنْ وَجَدَ الْإِحْسَان قَيْدًا تَقَيَّدَا قِيلَ : يُقْرَن كُلّ كَافِر مَعَ شَيْطَان فِي غُلّ , بَيَانه قَوْله : " اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجهمْ " [ الصَّافَّات : 22 ] يَعْنِي قُرَنَاءَهُمْ مِنْ الشَّيَاطِين . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ الْكُفَّار يُجْمَعُونَ فِي الْأَصْفَاد كَمَا اِجْتَمَعُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمَعَاصِي .
أَيْ قَمِيصهمْ , عَنْ اِبْن دُرَيْد وَغَيْره , وَاحِدهَا سِرْبَال , وَالْفِعْل تَسَرْبَلْت وَسَرْبَلْت غَيْرِي ; قَالَ كَعْب بْن مَالِك : تَلْقَاكُمُ عَصَب حَوْل النَّبِيّ لَهُمْ مِنْ نَسْج دَاوُد فِي الْهَيْجَا سَرَابِيل " مِنْ قَطِرَان " يَعْنِي قَطِرَان الْإِبِل الَّذِي تُهْنَأ بِهِ ; قَالَهُ الْحَسَن . وَذَلِكَ أَبْلَغ لِاشْتِعَالِ النَّار فِيهِمْ . وَفِي الصَّحِيح : أَنَّ النَّائِحَة إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْل مَوْتهَا تُقَام يَوْم الْقِيَامَة وَعَلَيْهَا سِرْبَال مِنْ قَطِرَان وَدِرْع مِنْ جَرَب . وَرُوِيَ عَنْ حَمَّاد أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ النُّحَاسُ . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر : " قَطْرَان " بِفَتْحِ الْقَاف وَتَسْكِين الطَّاء . وَفِيهِ قِرَاءَة ثَالِثَة : كَسْر الْقَاف وَجَزْم الطَّاء ; وَمِنْهُ قَوْل أَبِي النَّجْم : جَوْن كَأَنَّ الْعَرَق الْمَنْتُوحَا لَبَّسَهُ الْقِطْرَان وَالْمُسُوحَا وَقِرَاءَة رَابِعَة : " مِنْ قِطْرانٍ " رُوِيَتْ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَيَعْقُوب ; وَالْقِطْر النُّحَاسُ وَالصُّفْر الْمُذَاب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " آتُونِي أُفْرِغ عَلَيْهِ قِطْرًا " [ الْكَهْف : 96 ] . وَالْآن : الَّذِي قَدْ اِنْتَهَى إِلَى حَرّه ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَبَيْن حَمِيم آنٍ " . [ الرَّحْمَن : 44 ] .
أَيْ تَضْرِب " وُجُوههمْ النَّار " فَتُغَشِّيهَا .
أَيْ تَضْرِب " وُجُوههمْ النَّار " فَتُغَشِّيهَا .
أَيْ بِمَا كَسَبَتْ .
مِنْ سَرُعَ يَسْرُع - مِثْل عَظُمَ يَعْظُم - سِرْعًا وَسُرْعَة ; فَهُوَ سَرِيع . " الْحِسَاب " : مَصْدَر كَالْمُحَاسَبَةِ ; وَقَدْ يُسَمَّى الْمَحْسُوب حِسَابًا . وَالْحِسَاب الْعَدّ ; يُقَال : حَسَبَ يَحْسُب حِسَابًا وَحِسَابَة وَحُسْبَانًا وَحِسْبَانًا وَحَسْبًا ; أَيْ عَدّ وَأَنْشَدَ ابْن الْأَعْرَابِيّ : يَا جُمْل أَسْقَاك بِلَا حِسَابهْ سُقْيَا مَلِيك حَسَن الرِّبَابَهْ قَتَلْتنِي بِالدَّلِّ وَالْخِلَابَهْ وَالْحَسَب : مَا عُدَّ مِنْ مَفَاخِر الْمَرْء . وَيُقَال : حَسَبُهُ دِينُهُ . وَيُقَال : مَالُهُ ; وَمِنْهُ الْحَدِيث : الْحَسَب الْمَال وَالْكَرَم التَّقْوَى ) رَوَاهُ سَمُرَة بْن جُنْدُب , أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ , وَهُوَ فِي الشِّهَاب أَيْضًا . وَالرَّجُل حَسِيب , وَقَدْ حَسُبَ حَسَابَة ( بِالضَّمِّ ) ; مِثْل خَطُبَ خَطَابَة . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة : أَنَّ اللَّه سُبْحَانه سَرِيع الْحِسَاب , لَا يَحْتَاج إِلَى عَدّ وَلَا إِلَى عَقْد وَلَا إِلَى إِعْمَال فِكْر كَمَا يَفْعَلهُ الْحُسَّاب ; وَلِهَذَا قَالَ وَقَوْله الْحَقّ : " وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 47 ] , وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ مُنْزِل الْكِتَاب سَرِيع الْحِسَاب ) الْحَدِيث . فَاَللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَالِم بِمَا لِلْعِبَادِ وَعَلَيْهِمْ فَلَا يَحْتَاج إِلَى تَذَكُّر وَتَأَمُّل , إِذْ قَدْ عَلِمَ مَا لِلْمُحَاسَبِ وَعَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْفَائِدَة فِي الْحِسَاب عِلْم حَقِيقَته . وَقِيلَ : سَرِيع الْمُجَازَاة لِلْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا يَشْغَلهُ شَأْن عَنْ شَأْن , فَيُحَاسِبهُمْ فِي حَالَة وَاحِدَة ; كَمَا قَالَ وَقَوْله الْحَقّ : " مَا خَلْقكُمْ وَلَا بَعْثكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَة " [ لُقْمَان : 28 ] . قَالَ الْحَسَن : حِسَابه أَسْرَع مِنْ لَمْح الْبَصَر ; وَفِي الْخَبَر ( إِنَّ اللَّه يُحَاسِب فِي قَدْر حَلْب شَاة ) . وَقِيلَ : هُوَ أَنَّهُ إِذَا حَاسَبَ وَاحِدًا فَقَدْ حَاسَبَ جَمِيع الْخَلْق . وَقِيلَ لِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَيْف يُحَاسِب اللَّه الْعِبَاد فِي يَوْم ؟ قَالَ : كَمَا يَرْزُقهُمْ فِي يَوْم . وَمَعْنَى الْحِسَاب : تَعْرِيف اللَّه عِبَاده مَقَادِير الْجَزَاء عَلَى أَعْمَالهمْ , وَتَذْكِيره إِيَّاهُمْ بِمَا قَدْ نَسُوهُ ; بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم يَبْعَثهُمْ اللَّه جَمِيعًا فَيُنَبِّئهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّه وَنَسُوهُ " [ الْمُجَادَلَة : 6 ] . وَقِيلَ : مَعْنَى الْآيَة سَرِيع بِمَجِيءِ يَوْم الْحِسَاب ; فَالْمَقْصِد بِالْآيَةِ الْإِنْذَار بِيَوْمِ الْقِيَامَة .
قُلْت : وَالْكُلّ مُحْتَمَل فَيَأْخُذ الْعَبْد لِنَفْسِهِ فِي تَخْفِيف الْحِسَاب عَنْهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة ; وَإِنَّمَا يَخِفّ الْحِسَاب فِي الْآخِرَة عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسه فِي الدُّنْيَا .
مِنْ سَرُعَ يَسْرُع - مِثْل عَظُمَ يَعْظُم - سِرْعًا وَسُرْعَة ; فَهُوَ سَرِيع . " الْحِسَاب " : مَصْدَر كَالْمُحَاسَبَةِ ; وَقَدْ يُسَمَّى الْمَحْسُوب حِسَابًا . وَالْحِسَاب الْعَدّ ; يُقَال : حَسَبَ يَحْسُب حِسَابًا وَحِسَابَة وَحُسْبَانًا وَحِسْبَانًا وَحَسْبًا ; أَيْ عَدّ وَأَنْشَدَ ابْن الْأَعْرَابِيّ : يَا جُمْل أَسْقَاك بِلَا حِسَابهْ سُقْيَا مَلِيك حَسَن الرِّبَابَهْ قَتَلْتنِي بِالدَّلِّ وَالْخِلَابَهْ وَالْحَسَب : مَا عُدَّ مِنْ مَفَاخِر الْمَرْء . وَيُقَال : حَسَبُهُ دِينُهُ . وَيُقَال : مَالُهُ ; وَمِنْهُ الْحَدِيث : الْحَسَب الْمَال وَالْكَرَم التَّقْوَى ) رَوَاهُ سَمُرَة بْن جُنْدُب , أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ , وَهُوَ فِي الشِّهَاب أَيْضًا . وَالرَّجُل حَسِيب , وَقَدْ حَسُبَ حَسَابَة ( بِالضَّمِّ ) ; مِثْل خَطُبَ خَطَابَة . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة : أَنَّ اللَّه سُبْحَانه سَرِيع الْحِسَاب , لَا يَحْتَاج إِلَى عَدّ وَلَا إِلَى عَقْد وَلَا إِلَى إِعْمَال فِكْر كَمَا يَفْعَلهُ الْحُسَّاب ; وَلِهَذَا قَالَ وَقَوْله الْحَقّ : " وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 47 ] , وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ مُنْزِل الْكِتَاب سَرِيع الْحِسَاب ) الْحَدِيث . فَاَللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَالِم بِمَا لِلْعِبَادِ وَعَلَيْهِمْ فَلَا يَحْتَاج إِلَى تَذَكُّر وَتَأَمُّل , إِذْ قَدْ عَلِمَ مَا لِلْمُحَاسَبِ وَعَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْفَائِدَة فِي الْحِسَاب عِلْم حَقِيقَته . وَقِيلَ : سَرِيع الْمُجَازَاة لِلْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا يَشْغَلهُ شَأْن عَنْ شَأْن , فَيُحَاسِبهُمْ فِي حَالَة وَاحِدَة ; كَمَا قَالَ وَقَوْله الْحَقّ : " مَا خَلْقكُمْ وَلَا بَعْثكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَة " [ لُقْمَان : 28 ] . قَالَ الْحَسَن : حِسَابه أَسْرَع مِنْ لَمْح الْبَصَر ; وَفِي الْخَبَر ( إِنَّ اللَّه يُحَاسِب فِي قَدْر حَلْب شَاة ) . وَقِيلَ : هُوَ أَنَّهُ إِذَا حَاسَبَ وَاحِدًا فَقَدْ حَاسَبَ جَمِيع الْخَلْق . وَقِيلَ لِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَيْف يُحَاسِب اللَّه الْعِبَاد فِي يَوْم ؟ قَالَ : كَمَا يَرْزُقهُمْ فِي يَوْم . وَمَعْنَى الْحِسَاب : تَعْرِيف اللَّه عِبَاده مَقَادِير الْجَزَاء عَلَى أَعْمَالهمْ , وَتَذْكِيره إِيَّاهُمْ بِمَا قَدْ نَسُوهُ ; بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم يَبْعَثهُمْ اللَّه جَمِيعًا فَيُنَبِّئهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّه وَنَسُوهُ " [ الْمُجَادَلَة : 6 ] . وَقِيلَ : مَعْنَى الْآيَة سَرِيع بِمَجِيءِ يَوْم الْحِسَاب ; فَالْمَقْصِد بِالْآيَةِ الْإِنْذَار بِيَوْمِ الْقِيَامَة .
قُلْت : وَالْكُلّ مُحْتَمَل فَيَأْخُذ الْعَبْد لِنَفْسِهِ فِي تَخْفِيف الْحِسَاب عَنْهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة ; وَإِنَّمَا يَخِفّ الْحِسَاب فِي الْآخِرَة عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسه فِي الدُّنْيَا .
هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ↓
أَيْ هَذَا الَّذِي أَنْزَلْنَا إِلَيْك بَلَاغ ; أَيْ تَبْلِيغ وَعِظَة .
أَيْ لِيُخَوَّفُوا عِقَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَقُرِئَ . " وَلِيَنْذَرُوا " بِفَتْحِ الْيَاء وَالذَّال , يُقَال : نَذِرْت بِالشَّيْءِ أَنْذَر إِذَا عَلِمْت بِهِ فَاسْتَعْدَدْت لَهُ , وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا مِنْهُ مَصْدَرًا كَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا مِنْ عَسَى وَلَيْسَ , وَكَأَنَّهُمْ اِسْتَغْنَوْا بِأَنْ وَالْفِعْل كَقَوْلِك : سَرَّنِي أَنْ نَذِرْت بِالشَّيْءِ .
أَيْ وَلِيَعْلَمُوا وَحْدَانِيَّة اللَّه بِمَا أَقَامَ مِنْ الْحُجَج وَالْبَرَاهِين . " وَلِيَذَّكَّر أُولُو الْأَلْبَاب " أَيْ وَلِيَتَّعِظَ أَصْحَاب الْعُقُول . وَهَذِهِ اللَّامَّات فِي " وَلِيُنْذَرُوا " " وَلِيَعْلَمُوا " " وَلِيَذَّكَّر " مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ , التَّقْدِير : وَلَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ . وَرَوَى يَمَان بْن رِئَاب أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَسُئِلَ بَعْضهمْ هَلْ لِكِتَابِ اللَّه عِنْوَان ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ; قِيلَ : وَأَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ قَوْله تَعَالَى : " هَذَا بَلَاغ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ " إِلَى آخِرهَا . تَمَّ تَفْسِير سُورَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَالْحَمْد لِلَّهِ .
أَيْ لِيُخَوَّفُوا عِقَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَقُرِئَ . " وَلِيَنْذَرُوا " بِفَتْحِ الْيَاء وَالذَّال , يُقَال : نَذِرْت بِالشَّيْءِ أَنْذَر إِذَا عَلِمْت بِهِ فَاسْتَعْدَدْت لَهُ , وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا مِنْهُ مَصْدَرًا كَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا مِنْ عَسَى وَلَيْسَ , وَكَأَنَّهُمْ اِسْتَغْنَوْا بِأَنْ وَالْفِعْل كَقَوْلِك : سَرَّنِي أَنْ نَذِرْت بِالشَّيْءِ .
أَيْ وَلِيَعْلَمُوا وَحْدَانِيَّة اللَّه بِمَا أَقَامَ مِنْ الْحُجَج وَالْبَرَاهِين . " وَلِيَذَّكَّر أُولُو الْأَلْبَاب " أَيْ وَلِيَتَّعِظَ أَصْحَاب الْعُقُول . وَهَذِهِ اللَّامَّات فِي " وَلِيُنْذَرُوا " " وَلِيَعْلَمُوا " " وَلِيَذَّكَّر " مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ , التَّقْدِير : وَلَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ . وَرَوَى يَمَان بْن رِئَاب أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَسُئِلَ بَعْضهمْ هَلْ لِكِتَابِ اللَّه عِنْوَان ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ; قِيلَ : وَأَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ قَوْله تَعَالَى : " هَذَا بَلَاغ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ " إِلَى آخِرهَا . تَمَّ تَفْسِير سُورَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَالْحَمْد لِلَّهِ .