الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَسورة المؤمنون الآية رقم 91
" مِنْ " صِلَة . " وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه " " مِنْ " زَائِدَة ; وَالتَّقْدِير : مَا اِتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا كَمَا زَعَمْتُمْ , وَلَا كَانَ مَعَهُ إِلَه فِيمَا خَلَقَ . وَفِي الْكَلَام حَذْف ; وَالْمَعْنَى : لَوْ كَانَتْ مَعَهُ آلِهَة لَانْفَرَدَ كُلّ إِلَه بِخَلْقِهِ.



أَيْ وَلَغَالَبَ وَطَلَبَ الْقَوِيّ الضَّعِيف كَالْعَادَةِ بَيْن الْمُلُوك , وَكَانَ الضَّعِيف الْمَغْلُوب لَا يَسْتَحِقّ الْإِلَهِيَّة. وَهَذَا الَّذِي يَدُلّ عَلَى نَفْي الشَّرِيك يَدُلّ عَلَى نَفْي الْوَلَد أَيْضًا ; لِأَنَّ الْوَلَد يُنَازِع الْأَب فِي الْمُلْك مُنَازَعَة الشَّرِيك.


تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ الْوَلَد وَالشَّرِيك .
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَسورة المؤمنون الآية رقم 92
تَنْزِيه وَتَقْدِيس . وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو بَكْر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " عَالِم " بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف ; أَيْ هُوَ عَالِم الْغَيْب. الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَة لِلَّهِ . وَرَوَى رُوَيْس عَنْ يَعْقُوب " عَالِم " إِذَا وَصَلَ خَفْضًا . وَ " عَالِم " إِذَا اِبْتَدَأَ رَفْعًا .
قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَسورة المؤمنون الآية رقم 93
عَلَّمَهُ مَا يَدْعُو بِهِ ; أَيْ قُلْ رَبّ , أَيْ يَا رَبّ إِنْ أَرَيْتنِي مَا يُوعَدُونَ مِنْ الْعَذَاب.
رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَسورة المؤمنون الآية رقم 94
أَيْ فِي نُزُول الْعَذَاب بِهِمْ , بَلْ أَخْرِجْنِي مِنْهُمْ . وَقِيلَ : النِّدَاء مُعْتَرِض ; وَ " مَا " فِي " إِمَّا " زَائِدَة . وَقِيلَ : إِنَّ أَصْل إِمَّا إِنْ مَا ; فَ " إِنْ " شَرْط وَ " مَا " شَرْط , فَجُمِعَ بَيْن الشَّرْطَيْنِ تَوْكِيدًا , وَالْجَوَاب " فَلَا تَجْعَلنِي فِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ " ; أَيْ إِذَا أَرَدْت بِهِمْ عُقُوبَة فَأَخْرِجْنِي مِنْهُمْ. وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَعْلَم أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَجْعَلهُ فِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ الْعَذَاب , وَمَعَ هَذَا أَمَرَهُ الرَّبّ بِهَذَا الدُّعَاء وَالسُّؤَال لِيُعْظِمَ أَجْره وَلِيَكُونَ فِي كُلّ الْأَوْقَات ذَاكِرًا لِرَبِّهِ تَعَالَى .
وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَسورة المؤمنون الآية رقم 95
نَبَّهَ عَلَى أَنَّ خِلَاف الْمَعْلُوم مَقْدُور , وَقَدْ أَرَاهُ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فِيهِمْ بِالْجُوعِ وَالسَّيْف , وَنَجَّاهُ اللَّه وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ .
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَسورة المؤمنون الآية رقم 96
أَمْر بِالصَّفْحِ وَمَكَارِم الْأَخْلَاق ; فَمَا كَانَ مِنْهَا لِهَذِهِ الْأُمَّة فِيمَا بَيْنهمْ فَهُوَ مُحْكَم بَاقٍ فِي الْأُمَّة أَبَدًا . وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ مُوَادَعَة الْكُفَّار وَتَرْك التَّعَرُّض لَهُمْ وَالصَّفْح عَنْ أُمُورهمْ فَمَنْسُوخ بِالْقِتَالِ.



أَيْ مِنْ الشِّرْك وَالتَّكْذِيب . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا آيَة مُوَادَعَة , وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِسورة المؤمنون الآية رقم 97
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : الْهَمَزَات هِيَ جَمْع هَمْزَة . وَالْهَمْز فِي اللُّغَة النَّخْس وَالدَّفْع ; يُقَال : هَمْزه وَلَمْزه وَنَخْسه دَفْعه . قَالَ اللَّيْث : الْهَمْز كَلَام مِنْ وَرَاء الْقَفَا , وَاللَّمْز مُوَاجَهَة . وَالشَّيْطَان يُوَسْوِس فَيَهْمِس فِي وَسْوَاسه فِي صَدْر اِبْن آدَم ; وَهُوَ قَوْله : " أَعُوذ بِك مِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين " أَيْ نَزَغَات الشَّيَاطِين الشَّاغِلَة عَنْ ذِكْر اللَّه تَعَالَى . وَفِي الْحَدِيث : كَانَ يَتَعَوَّذ مِنْ هَمْز الشَّيْطَان وَلَمْزه وَهَمْسه. قَالَ أَبُو الْهَيْثَم : إِذَا أَسَرَّ الْكَلَام وَأَخْفَاهُ فَذَلِكَ الْهَمْس مِنْ الْكَلَام . وَسُمِّيَ الْأَسَد هَمُوسًا ; لِأَنَّهُ يَمْشِي بِخِفَّةٍ لَا يُسْمَع صَوْت وَطْئِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " طَه " .

الثَّانِيَة أَمْر اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ الشَّيْطَان فِي هَمَزَاته , وَهِيَ سَوْرَات الْغَضَب الَّتِي لَا يَمْلِك الْإِنْسَان فِيهَا نَفْسه , كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُصِيب الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّار فَتَقَع الْمُحَادَّة فَلِذَلِكَ اِتَّصَلَتْ بِهَذِهِ الْآيَة . فَالنَّزَغَات وَسَوْرَات الْغَضَب الْوَارِدَة مِنْ الشَّيْطَان هِيَ الْمُتَعَوَّذ مِنْهَا فِي الْآيَة ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر " الْأَعْرَاف " بَيَانه مُسْتَوْفًى , وَفِي أَوَّل الْكِتَاب أَيْضًا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن حَرْب بْن مُحَمَّد الطَّائِيّ حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ أَيُّوب عَنْ مُحَمَّد بْن حِبَّان أَنَّ خَالِدًا كَانَ يُؤَرَّق مِنْ اللَّيْل ; فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّة مِنْ غَضَب اللَّه وَعِقَابه وَمِنْ شَرّ عِبَاده وَمِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين وَأَنْ يَحْضُرُونَ . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد قَالَ عُمَر : وَهَمْزه الْمَوْتَة ; قَالَ اِبْن مَاجَهْ : الْمَوْتَة يَعْنِي الْجُنُون . وَالتَّعَوُّذ أَيْضًا مِنْ الْجُنُون وَكِيد . وَفِي قِرَاءَة أُبَيّ " رَبّ عَائِذًا بِك مِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين , وَعَائِذًا بِك أَنْ يَحْضُرُونَ " ; أَيْ يَكُونُوا مَعِي فِي أُمُورِي , فَإِنَّهُمْ إِذَا حَضَرُوا الْإِنْسَان كَانُوا مُعِدِّينَ لِلْهَمْزِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُضُور فَلَا هَمْز . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " إِنَّ الشَّيْطَان يَحْضُر أَحَدكُمْ عِنْد كُلّ شَيْء مِنْ شَأْنه حَتَّى يَحْضُرهُ عِنْد طَعَامه فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدكُمْ اللُّقْمَة فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذَى ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعهَا لِلشَّيْطَانِ فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعه فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيّ طَعَامه الْبَرَكَة ) .
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِسورة المؤمنون الآية رقم 98
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : الْهَمَزَات هِيَ جَمْع هَمْزَة. وَالْهَمْز فِي اللُّغَة النَّخْس وَالدَّفْع ; يُقَال : هَمْزه وَلَمْزه وَنَخْسه دَفْعه . قَالَ اللَّيْث : الْهَمْز كَلَام مِنْ وَرَاء الْقَفَا , وَاللَّمْز مُوَاجَهَة . وَالشَّيْطَان يُوَسْوِس فَيَهْمِس فِي وَسْوَاسه فِي صَدْر اِبْن آدَم ; وَهُوَ قَوْله : " أَعُوذ بِك مِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين " أَيْ نَزَغَات الشَّيَاطِين الشَّاغِلَة عَنْ ذِكْر اللَّه تَعَالَى . وَفِي الْحَدِيث : كَانَ يَتَعَوَّذ مِنْ هَمْز الشَّيْطَان وَلَمْزه وَهَمْسه . قَالَ أَبُو الْهَيْثَم : إِذَا أَسَرَّ الْكَلَام وَأَخْفَاهُ فَذَلِكَ الْهَمْس مِنْ الْكَلَام . وَسُمِّيَ الْأَسَد هَمُوسًا ; لِأَنَّهُ يَمْشِي بِخِفَّةٍ لَا يُسْمَع صَوْت وَطْئِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " طَه " .

الثَّانِيَة أَمْر اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ الشَّيْطَان فِي هَمَزَاته , وَهِيَ سَوْرَات الْغَضَب الَّتِي لَا يَمْلِك الْإِنْسَان فِيهَا نَفْسه , كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُصِيب الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّار فَتَقَع الْمُحَادَّة فَلِذَلِكَ اِتَّصَلَتْ بِهَذِهِ الْآيَة . فَالنَّزَغَات وَسَوْرَات الْغَضَب الْوَارِدَة مِنْ الشَّيْطَان هِيَ الْمُتَعَوَّذ مِنْهَا فِي الْآيَة ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر " الْأَعْرَاف " بَيَانه مُسْتَوْفًى , وَفِي أَوَّل الْكِتَاب أَيْضًا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن حَرْب بْن مُحَمَّد الطَّائِيّ حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ أَيُّوب عَنْ مُحَمَّد بْن حِبَّان أَنَّ خَالِدًا كَانَ يُؤَرَّق مِنْ اللَّيْل ; فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّة مِنْ غَضَب اللَّه وَعِقَابه وَمِنْ شَرّ عِبَاده وَمِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين وَأَنْ يَحْضُرُونَ . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد قَالَ عُمَر : وَهَمْزه الْمُوتَة ; قَالَ اِبْن مَاجَهْ : الْمُوتَة يَعْنِي الْجُنُون. وَالتَّعَوُّذ أَيْضًا مِنْ الْجُنُون وَكِيد . وَفِي قِرَاءَة أُبَيّ " رَبّ عَائِذًا بِك مِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين , وَعَائِذًا بِك أَنْ يَحْضُرُونَ " ; أَيْ يَكُونُوا مَعِي فِي أُمُورِي , فَإِنَّهُمْ إِذَا حَضَرُوا الْإِنْسَان كَانُوا مُعَدِّينَ لِلْهَمْزِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُضُور فَلَا هَمْز. وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " إِنَّ الشَّيْطَان يَحْضُر أَحَدكُمْ عِنْد كُلّ شَيْء مِنْ شَأْنه حَتَّى يَحْضُرهُ عِنْد طَعَامه فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدكُمْ اللُّقْمَة فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعهَا لِلشَّيْطَانِ فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعه فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيّ طَعَامه الْبَرَكَة ).
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِسورة المؤمنون الآية رقم 99
عَادَ الْكَلَام إِلَى ذِكْر الْمُشْرِكِينَ ; أَيْ قَالُوا " أَئِذَا مِتْنَا - إِلَى قَوْله - إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ " . ثُمَّ اِحْتَجَّ عَلَيْهِمْ وَذَكَّرَهُمْ قُدْرَته عَلَى كُلّ شَيْء , ثُمَّ قَالَ هُمْ مُصِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدهمْ الْمَوْت تَيَقَّنَ ضَلَالَته وَعَايَنَ الْمَلَائِكَة الَّتِي تَقْبِض رُوحه ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَة " [ الْأَنْفَال : 50 ] .



تَمَنَّى الرَّجْعَة كَيْ يَعْمَل صَالِحًا فِيمَا تَرَكَ . وَقَدْ يَكُون الْقَوْل فِي النَّفْس ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسهمْ لَوْلَا يُعَذِّبنَا اللَّه بِمَا نَقُول " [ الْمُجَادَلَة : 8 ]. فَأَمَّا قَوْله " اِرْجِعُونِ " وَهُوَ مُخَاطِب رَبّه عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَقُلْ " اِرْجِعْنِي " جَاءَ عَلَى تَعْظِيم الذِّكْر لِلْمُخَاطَبِ . وَقِيلَ : اِسْتَغَاثُوا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلًا , فَقَالَ قَائِلهمْ : ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَة الْمَلَائِكَة فَقَالَ : اِرْجِعُونِ إِلَى الدُّنْيَا ; قَالَ اِبْن جُرَيْج . وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى " اِرْجِعُونِ " عَلَى جِهَة التَّكْرِير ; أَيْ أَرْجِعْنِي أَرْجِعْنِي أَرْجِعْنِي وَهَكَذَا . قَالَ الْمُزَنِيّ فِي قَوْله تَعَالَى " أَلْقِيَا فِي جَهَنَّم " [ ق : 24 ] قَالَ : مَعْنَاهُ أَلْقِ أَلْقِ . قَالَ الضَّحَّاك : الْمُرَاد بِهِ أَهْل الشِّرْك . قُلْت : لَيْسَ سُؤَال الرَّجْعَة مُخْتَصًّا بِالْكَافِرِ فَقَدْ يَسْأَلهَا الْمُؤْمِن كَمَا فِي آخِر سُورَة الْمُنَافِقِينَ عَلَى مَا يَأْتِي. وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوت حَتَّى يُعْرَف اِضْطِرَارًا أَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاء اللَّه أَمْ مِنْ أَعْدَاء اللَّه , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَأَلَ الرَّجْعَة , فَيَعْلَمُوا ذَلِكَ قَبْل نُزُول الْمَوْت وَذَوَاقه .
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَسورة المؤمنون الآية رقم 100
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه .



أَيْ فِيمَا ضَيَّعْت وَتَرَكْت الْعَمَل بِهِ مِنْ الطَّاعَات. وَقِيلَ " فِيمَا تَرَكْت " مِنْ الْمَال فَأَتَصَدَّق . وَ " لَعَلَّ " تَتَضَمَّن تَرَدُّدًا ; وَهَذَا الَّذِي يَسْأَل الرَّجْعَة قَدْ اِسْتَيْقَنَ الْعَذَاب , وَهُوَ يُوَطِّن نَفْسه عَلَى الْعَمَل الصَّالِح قَطْعًا مِنْ غَيْر تَرَدُّد . فَالتَّرَدُّد يَرْجِع إِمَّا إِلَى رَدّه إِلَى الدُّنْيَا , وَإِمَّا إِلَى التَّوْفِيق ; أَيْ أَعْمَل صَالِحًا إِنْ وَفَّقْتنِي ; إِذْ لَيْسَ عَلَى قَطْع مِنْ وُجُود الْقُدْرَة وَالتَّوْفِيق لَوْ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا .



هَذِهِ كَلِمَة رَدّ ; أَيْ لَيْسَ الْأَمْر عَلَى مَا يَظُنّهُ مِنْ أَنَّهُ يُجَاب إِلَى الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا , بَلْ هُوَ كَلَام يَطِيح فِي أَدْرَاج الرِّيح. وَقِيلَ : لَوْ أُجِيبَ إِلَى مَا يَطْلُب لَمَا وَفَّى بِمَا يَقُول ; كَمَا قَالَ : " وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ " [ الْأَنْعَام : 28 ] . وَقِيلَ :


تَرْجِع إِلَى اللَّه تَعَالَى ; أَيْ لَا خُلْف فِي خَبَره , وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَنْ يُؤَخِّر نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلهَا , وَأَخْبَرَ بِأَنَّ هَذَا الْكَافِر لَا يُؤْمِن . وَقِيلَ : " إِنَّهَا كَلِمَة هُوَ قَائِلهَا " عِنْد الْمَوْت , وَلَكِنْ لَا تَنْفَع .



أَيْ وَمِنْ أَمَامهمْ وَبَيْن أَيْدِيهمْ . وَقِيلَ : مِنْ خَلْفهمْ . " بَرْزَخ " أَيْ حَاجِز بَيْن الْمَوْت وَالْبَعْث ; قَالَهُ الضَّحَّاك وَمُجَاهِد وَابْن زَيْد . وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا أَنَّ الْبَرْزَخ هُوَ الْحَاجِز بَيْن الْمَوْت وَالرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا . وَعَنْ الضَّحَّاك : هُوَ مَا بَيْن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . اِبْن عَبَّاس . حِجَاب . السُّدِّيّ : أَجَل . قَتَادَة : بَقِيَّة الدُّنْيَا . وَقِيلَ : الْإِمْهَال إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; حَكَاهُ اِبْن عِيسَى . الْكَلْبِيّ : هُوَ الْأَجَل مَا بَيْن النَّفْخَتَيْنِ , وَبَيْنهمَا أَرْبَعُونَ سَنَة . وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة . وَكُلّ حَاجِز بَيْن شَيْئَيْنِ فَهُوَ بَرْزَخ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْبَرْزَخ الْحَاجِز بَيْن الشَّيْئَيْنِ . وَالْبَرْزَخ مَا بَيْن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مِنْ وَقْت الْمَوْت إِلَى الْبَعْث ; فَمَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْبَرْز . وَقَالَ رَجُل بِحَضْرَةِ الشَّعْبِيّ : رَحِمَ اللَّه فُلَانًا فَقَدْ صَارَ مِنْ أَهْل الْآخِرَة ! فَقَالَ : لَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْل الْآخِرَة , وَلَكِنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْل الْبَرْزَخ , وَلَيْسَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ الْآخِرَة. وَأُضِيفَ " يَوْم " إِلَى " يُبْعَثُونَ " لِأَنَّهُ ظَرْف زَمَان , وَالْمُرَاد بِالْإِضَافَةِ الْمَصْدَر .
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَسورة المؤمنون الآية رقم 101
الْمُرَاد بِهَذَا النَّفْخ النَّفْخَة الثَّانِيَة .



قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَا يَفْتَخِرُونَ بِالْأَنْسَابِ فِي الْآخِرَة كَمَا يَفْتَخِرُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا , وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فِيهَا كَمَا يَتَسَاءَلُونَ فِي الدُّنْيَا ; مِنْ أَيّ قَبِيلَة أَنْتَ وَلَا مِنْ أَيّ نَسَب , وَلَا يَتَعَارَفُونَ لِهَوْلِ مَا أَذْهَلَهُمْ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ ذَلِكَ فِي النَّفْخَة الْأُولَى حِين يُصْعَق مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ , ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَام يَنْظُرُونَ , وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ . وَسَأَلَ رَجُل اِبْن عَبَّاس عَنْ هَذِهِ الْآيَة وَقَوْله : " فَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ " [ الصَّافَّات : 50 ] فَقَالَ : لَا يَتَسَاءَلُونَ فِي النَّفْخَة الْأُولَى ; لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْض حَيّ , فَلَا أَنْسَاب وَلَا تَسَاؤُل . و أَمَّا قَوْله " فَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّة تَسَاءَلُوا. وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : إِنَّمَا عَنَى فِي هَذِهِ الْآيَة النَّفْخَة الثَّانِيَة . وَقَالَ أَبُو عُمَر زَاذَان : دَخَلْت عَلَى اِبْن مَسْعُود فَوَجَدْت أَصْحَاب الْخَيْر وَالْيَمْنَة قَدْ سَبَقُونِي إِلَيْهِ , فَنَادَيْت بِأَعْلَى صَوْتِي : يَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود ! مِنْ أَجْل أَنِّي رَجُل أَعْجَمِيّ أَدْنَيْت هَؤُلَاءِ وَأَقْصَيْتنِي ! فَقَالَ : اُدْنُهُ ; فَدَنَوْت , حَتَّى مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنه جَلِيس فَسَمِعْته يَقُول : يُؤْخَذ بِيَدِ الْعَبْد أَوْ الْأَمَة يَوْم الْقِيَامَة فَيُنْصَب عَلَى رُءُوس الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ : هَذَا فُلَان بْن فُلَان , مَنْ كَانَ لَهُ حَقّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقّه ; فَتَفْرَح الْمَرْأَة أَنْ يَدُور لَهَا الْحَقّ عَلَى أَبِيهَا أَوْ عَلَى زَوْجهَا أَوْ عَلَى أَخِيهَا أَوْ عَلَى اِبْنهَا ; ثُمَّ قَرَأَ اِبْن مَسْعُود : " فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ " فَيَقُول الرَّبّ سُبْحَانه وَتَعَالَى ( آتِ هَؤُلَاءِ حُقُوقهمْ ) فَيَقُول : يَا رَبّ قَدْ فَنِيَتْ الدُّنْيَا فَمِنْ أَيْنَ أُوتِيَهُمْ ; فَيَقُول الرَّبّ لِلْمَلَائِكَةِ : ( خُذُوا مِنْ حَسَنَاته فَأَعْطُوا كُلّ إِنْسَان بِقَدْرِ طِلْبَته ) فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَضَلَتْ مِنْ حَسَنَاته مِثْقَال حَبَّة مِنْ خَرْدَل فَيُضَاعِفهَا اللَّه تَعَالَى حَتَّى يُدْخِلهُ بِهَا الْجَنَّة , ثُمَّ قَرَأَ اِبْن مَسْعُود " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا " [ النِّسَاء : 40 ] . وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا قَالَتْ الْمَلَائِكَة : رَبّ ! فَنِيَتْ حَسَنَاته وَبَقِيَ طَالِبُونَ ; فَيَقُول اللَّه تَعَالَى : ( خُذُوا مِنْ أَعْمَالهمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاته وَصُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى جَهَنَّم ) .
فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَسورة المؤمنون الآية رقم 102
تُوزَن الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَات فِي مِيزَان لَهُ لِسَان وَكِفَّتَانِ ; فَأَمَّا الْمُؤْمِن فَيُؤْتَى بِعَمَلِهِ فِي أَحْسَن صُورَة فَيُوضَع فِي كِفَّة الْمِيزَان فَتَثْقُل حَسَنَاته عَلَى سَيِّئَاته .
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَسورة المؤمنون الآية رقم 103
يُؤْتَى بِعَمَلِ الْكَافِر فِي أَقْبَح صُورَة فَيُوضَع فِي كِفَّة الْمِيزَان فَيَخِفّ وَزْنه حَتَّى يَقَع فِي النَّار . وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ اِبْن عَبَّاس قَرِيب مِمَّا قِيلَ : يَخْلُق اللَّه تَعَالَى كُلّ جُزْء مِنْ أَعْمَال الْعِبَاد جَوْهَرًا فَيَقَع الْوَزْن عَلَى تِلْكَ الْجَوَاهِر . وَرَدَّهُ اِبْن فَوْرَك وَغَيْره . وَفِي الْخَبَر ( إِذَا خَفَّتْ حَسَنَات الْمُؤْمِن أَخْرَجَ رَسُول اللَّه صَلِّ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاقَة كَالْأُنْمُلَةِ فَيُلْقِيهَا فِي كِفَّة الْمِيزَان الْيُمْنَى الَّتِي فِيهَا حَسَنَاته فَتَرْجَح الْحَسَنَات فَيَقُول ذَلِكَ الْعَبْد الْمُؤْمِن لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! مَا أَحْسَن وَجْهك وَمَا أَحْسَن خَلْقك فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُول أَنَا مُحَمَّد نَبِيّك وَهَذِهِ صَلَوَاتك الَّتِي كُنْت تُصَلِّي عَلَيَّ قَدْ وَفَّيْتُك أَحْوَج مَا تَكُون إِلَيْهَا ) . ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ فِي تَفْسِيره . وَذَكَرَ أَنَّ الْبِطَاقَة ( بِكَسْرِ الْبَاء ) رُقْعَة فِيهَا رَقْم الْمَتَاع بِلُغَةِ . أَهْل مِصْر . وَقَالَ اِبْن مَاجَهْ : قَالَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى : الْبِطَاقَة الرُّقْعَة , وَأَهْل مِصْر يَقُولُونَ لِلرُّقْعَةِ بِطَاقَة . وَقَالَ حُذَيْفَة : صَاحِب الْمَوَازِين يَوْم الْقِيَامَة جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام , يَقُول اللَّه تَعَالَى : ( يَا جِبْرِيل زِنْ بَيْنهمْ فَرُدَّ مِنْ بَعْض عَلَى بَعْض ) . قَالَ : وَلَيْسَ ثَمَّ ذَهَب وَلَا فِضَّة ; فَإِنْ كَانَ لِلظَّالِمِ حَسَنَات أُخِذَ مِنْ حَسَنَاته فَرُدَّ عَلَى الْمَظْلُوم , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَات أُخِذَ مِنْ سَيِّئَات الْمَظْلُوم فَتُحْمَل عَلَى الظَّالِم ; فَيَرْجِع الرَّجُل وَعَلَيْهِ مِثْل الْجِبَال . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة يَا آدَم اُبْرُزْ إِلَى جَانِب الْكُرْسِيّ عِنْد الْمِيزَان وَانْظُرْ مَا يُرْفَع إِلَيْك مِنْ أَعْمَال بَنِيك فَمَنْ رَجَحَ خَيْره عَلَى شَرّه مِثْقَال حَبَّة فَلَهُ الْجَنَّة وَمَنْ رَجَحَ شَرّه عَلَى خَيْره مِثْقَال حَبَّة فَلَهُ النَّار حَتَّى تَعْلَم أَنِّي لَا أُعَذِّب إِلَّا ظَالِمًا ) .
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَسورة المؤمنون الآية رقم 104
وَيُقَال " تَنْفَح " بِمَعْنَاهُ ; وَمِنْهُ " وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَة مِنْ عَذَاب رَبّك " [ الْأَنْبِيَاء : 46 ] . إِلَّا أَنَّ " تَلْفَح " أَبْلَغ بَأْسًا ; يُقَال : لَفَحَتْهُ النَّار وَالسَّمُوم بِحَرِّهَا أَحْرَقَتْهُ . وَلَفَحْتُهُ بِالسَّيْفِ لَفْحَة إِذَا ضَرَبْته بِهِ [ ضَرْبَة ] خَفِيفَة.



قَالَ اِبْن عَبَّاس : عَابِسُونَ . وَقَالَ أَهْل اللُّغَة : الْكُلُوح تَكَشُّر فِي عُبُوس . وَالْكَالِح : الَّذِي قَدْ تَشَمَّرَتْ شَفَتَاهُ وَبَدَتْ أَسْنَانه . قَالَ الْأَعْشَى : وَلَهُ الْمُقْدَم لَا مِثْل لَهُ سَاعَة الشِّدْق عَنْ النَّاب كَلَحْ وَقَدْ كَلَحَ الرَّجُل كُلُوحًا وَكِلَاحًا. وَمَا أَقْبَح كَلْحَته ; يُرَاد بِهِ الْفَم وَمَا حَوَالَيْهِ . وَدَهْر كَالِح أَيْ شَدِيد . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا " وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ " يُرِيد كَاَلَّذِي كَلَحَ وَتَقَلَّصَتْ شَفَتَاهُ وَسَالَ صَدِيده . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّأْس الْمُشَيَّط بِالنَّارِ , وَقَدْ بَدَتْ أَسْنَانه وَقَلَصَتْ شَفَتَاهُ. وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ - قَالَ - تَشْوِيه النَّار فَتَقْلُص شَفَته الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغ وَسَط رَأْسه وَتَسْتَرْخِي شَفَته السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِب سُرَّته ) قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب .
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَسورة المؤمنون الآية رقم 105
الْآيَات يُرِيد بِهَا الْقُرْآن . " تُتْلَى عَلَيْكُمْ " أَيْ تُقْرَأ .
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَسورة المؤمنون الآية رقم 106
قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَأَبِي عَمْرو وَعَاصِم " شِقْوَتنَا " وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا " شَقَاوَتنَا " . وَهَذِهِ الْقِرَاءَة مَرْوِيَّة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَالْحَسَن . وَيُقَال : شَقَاء وَشَقًا ; بِالْمَدِّ وَالْقَصْر. وَأَحْسَن مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ : غَلَبَتْ عَلَيْنَا لَذَّاتنَا وَأَهْوَاؤُنَا ; فَسَمَّى اللَّذَّات وَالْأَهْوَاء شِقْوَة , لِأَنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهَا , كَمَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونهمْ نَارًا " [ النِّسَاء : 10 ] ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّار. وَقِيلَ : مَا سَبَقَ فِي عِلْمك وَكُتِبَ عَلَيْنَا فِي أُمّ الْكِتَاب مِنْ الشَّقَاوَة . وَقِيلَ : حُسْن الظَّنّ بِالنَّفْسِ وَسُوء الظَّنّ بِالْخَلْقِ .



أَيْ كُنَّا فِي فِعْلنَا ضَالِّينَ عَنْ الْهُدَى . وَلَيْسَ هَذَا اِعْتِذَار مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ إِقْرَار , وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلهمْ
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَسورة المؤمنون الآية رقم 107
طَلَبُوا الرَّجْعَة إِلَى الدُّنْيَا كَمَا طَلَبُوهَا عِنْد الْمَوْت . " فَإِنْ عُدْنَا " إِلَى الْكُفْر " فَإِنَّا ظَالِمُونَ " لِأَنْفُسِنَا بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ فَيُجَابُونَ بَعْد أَلْف سَنَة :
قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِسورة المؤمنون الآية رقم 108
أَيْ اُبْعُدُوا فِي جَهَنَّم ; كَمَا يُقَال لِلْكَلْبِ : اِخْسَأْ ; أَيْ اُبْعُدْ . خَسَأْت الْكَلْب خَسْئًا طَرَدْته . وَخَسَأَ الْكَلْب بِنَفْسِهِ خُسُوءًا , يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَانْخَسَأَ الْكَلْب أَيْضًا . وَذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة يَذْكُرهُ عَنْ أَبِي أَيُّوب عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : إِنَّ أَهْل جَهَنَّم يَدْعُونَ مَالِكًا فَلَا يُجِيبهُمْ أَرْبَعِينَ عَامًا , ثُمَّ يَرُدّ عَلَيْهِمْ : إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ . قَالَ : هَانَتْ وَاَللَّه دَعْوَتهمْ عَلَى مَالِك وَرَبّ مَالِك . قَالَ : ثُمَّ يَدْعُونَ رَبّهمْ فَيَقُولُونَ : " رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ. رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ " . قَالَ : فَيَسْكُت عَنْهُمْ قَدْر الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ . قَالَ : ثُمَّ يَرُدّ عَلَيْهِمْ اِخْسَئُوا فِيهَا . قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا نَبَسَ الْقَوْم بَعْدهَا بِكَلِمَةٍ , وَمَا هُوَ إِلَّا الزَّفِير وَالشَّهِيق مِنْ نَار جَهَنَّم فَشَبَّهَ أَصْوَاتهمْ بِصَوْتِ الْحَمِير , أَوَّلهَا زَفِير وَآخِرهَا شَهِيق . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعًا بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء . وَقَالَ قَتَادَة : صَوْت الْكُفَّار فِي النَّار كَصَوْتِ الْحِمَار , أَوَّله زَفِير وَآخِره شَهِيق . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يَصِير لَهُمْ نُبَاح كَنُبَاحِ الْكِلَاب . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : بَلَغَنِي أَوْ ذُكِرَ لِي أَنَّ أَهْل النَّار اِسْتَغَاثُوا بِالْخَزَنَةِ ... الْخَبَر بِطُولِهِ , ذَكَرَهُ اِبْن الْمُبَارَك , وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِكَمَالِهِ فِي التَّذْكِرَة , وَفِي آخِره : ثُمَّ مَكَثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّه , ثُمَّ نَادَاهُمْ " أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ " قَالَ : فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْته قَالُوا الْآنَ يَرْحَمنَا رَبّنَا فَقَالُوا عِنْد ذَلِكَ " رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتنَا " أَيْ الْكِتَاب الَّذِي كُتِبَ عَلَيْنَا " وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ . رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ " فَقَالَ عِنْد ذَلِكَ " اِخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " فَانْقَطَعَ عِنْد ذَلِكَ الدُّعَاء وَالرَّجَاء , وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَنْبَح بَعْضهمْ فِي وُجُوه بَعْض , وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ .
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَسورة المؤمنون الآية رقم 109
الْآيَة. قَالَ مُجَاهِد : هُمْ بِلَال وَخَبَّاب وَصُهَيْب , وَفُلَان وَفُلَان مِنْ ضُعَفَاء الْمُسْلِمِينَ ; كَانَ أَبُو جَهْل وَأَصْحَابه يَهْزَءُونَ بِهِمْ .
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَسورة المؤمنون الآية رقم 110
بِالضَّمِّ قِرَاءَة نَافِع وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ هَاهُنَا وَفِي " ص " . وَكَسَرَ الْبَاقُونَ. قَالَ النَّحَّاس : وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرو بَيْنهمَا , فَجَعَلَ الْمَكْسُورَة مِنْ جِهَة التَّهَزُّؤ , وَالْمَضْمُومَة مِنْ جِهَة السُّخْرَة , وَلَا يَعْرِف هَذَا التَّفْرِيق الْخَلِيل وَلَا سِيبَوَيْهِ وَلَا الْكِسَائِيّ وَلَا الْفَرَّاء . قَالَ الْكِسَائِيّ : هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد ; كَمَا يُقَال : عِصِيّ وَعُصِيّ , وَلُجِّيّ وَلِجِّيّ . وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ عَنْ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء الْفَرْق الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرو , وَأَنَّ الْكَسْر بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاء وَالسُّخْرِيَة بِالْقَوْلِ , وَالضَّمّ بِمَعْنَى التَّسْخِير وَالِاسْتِعْبَاد بِالْفِعْلِ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : إِنَّمَا يُؤْخَذ التَّفْرِيق بَيْن الْمَعَانِي عَنْ الْعَرَب , وَأَمَّا التَّأْوِيل فَلَا يَكُون . وَالْكَسْر فِي سِخْرِيّ فِي الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ; لِأَنَّ الضَّمَّة تُسْتَثْقَل فِي مِثْل هَذَا .



أَيْ اِشْتَغَلْتُمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ عَنْ ذِكْرِي .


اِسْتِهْزَاء بِهِمْ , وَأَضَافَ الْإِنْسَاء إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبًا لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ ذِكْره ; وَتَعَدِّي شُؤْم اِسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى اِسْتِيلَاء الْكُفْر عَلَى قُلُوبهمْ .
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَسورة المؤمنون الآية رقم 111
عَلَى أَذَاكُمْ , وَصَبَرُوا عَلَى طَاعَتِي .


قَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ بِكَسْرِ الْهَمْزَة عَلَى اِبْتِدَاء الْمَدْح مِنْ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ وَفَتَحَ الْبَاقُونَ ; أَيْ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ . وَيَجُوز نَصْبه بِوُقُوعِ الْجَزَاء عَلَيْهِ , تَقْدِيره : إِنِّي جَزَيْتهمْ الْيَوْم الْفَوْز بِالْجَنَّةِ . قُلْت : وَيُنْظَر إِلَى مَعْنَى هَذَا قَوْله تَعَالَى فِي آخِر الْمُطَفِّفِينَ : " فَالْيَوْم الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّار يَضْحَكُونَ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 34 ] إِلَى آخِر السُّورَة , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا : التَّحْذِير مِنْ السُّخْرِيَة وَالِاسْتِهْزَاء بِالضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِين وَالِاحْتِقَار لَهُمْ , وَالْإِزْرَاء عَلَيْهِمْ وَالِاشْتِغَال بِهِمْ فِيمَا لَا يُغْنِي , وَأَنَّ ذَلِكَ مُبْعِد مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَسورة المؤمنون الآية رقم 112
قِيلَ : يَعْنِي فِي الْقُبُور . وَقِيلَ : هُوَ سُؤَال لَهُمْ عَنْ مُدَّة حَيَاتهمْ فِي الدُّنْيَا . وَهَذَا السُّؤَال لِلْمُشْرِكِينَ فِي عَرَصَات الْقِيَامَة أَوْ فِي النَّار .



بِفَتْحِ النُّون عَلَى أَنَّهُ جَمْع مُسْلِم , وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَخْفِضهَا وَيُنَوِّنهَا .
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَسورة المؤمنون الآية رقم 113
أَنْسَاهُمْ شِدَّة الْعَذَاب مُدَّة مُكْثهمْ فِي الْقُبُور. وَقِيلَ : لِأَنَّ الْعَذَاب رُفِعَ عَنْهُمْ بَيْن النَّفْخَتَيْنِ فَنَسَوْا مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْعَذَاب فِي قُبُورهمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَنْسَاهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْعَذَاب مِنْ النَّفْخَة الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَد قَتَلَهُ نَبِيّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ مَاتَ بِحَضْرَةِ نَبِيّ إِلَّا عُذِّبَ مِنْ سَاعَة يَمُوت إِلَى النَّفْخَة الْأُولَى , ثُمَّ يُمْسَك عَنْهُ الْعَذَاب فَيَكُون كَالْمَاءِ حَتَّى يُنْفَخ الثَّانِيَة. وَقِيلَ : اسْتَقْصَرُوا مُدَّة لُبْثهمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقُبُور وَرَأَوْهُ يَسِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُمْ بِصَدَدِهِ.



أَيْ سَلْ الْحِسَاب الَّذِينَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَإِنَّا قَدْ نَسِينَاهُ , أَوْ فَاسْأَلْ الْمَلَائِكَة الَّذِينَ كَانُوا مَعَنَا فِي الدُّنْيَا ; الْأَوَّل قَوْل قَتَادَة , وَالثَّانِي قَوْل مُجَاهِد , وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْض " عَلَى الْأَمْر . وَيَحْتَمِل ثَلَاثَة مَعَانٍ : أَحَدهَا : قُولُوا كَمْ لَبِثْتُمْ ; فَأُخْرِجَ الْكَلَام مَخْرَج الْأَمْر لِلْوَاحِدِ وَالْمُرَاد الْجَمَاعَة ; إِذْ كَانَ الْمَعْنَى مَفْهُومًا . الثَّانِي : أَنْ يَكُون أَمْرًا لِلْمَلَكِ لِيَسْأَلهُمْ يَوْم الْبَعْث عَنْ قَدْر مُكْثهمْ فِي الدُّنْيَا. أَوْ أَرَادَ قُلْ أَيّهَا الْكَافِر كَمْ لَبِثْتُمْ , وَهُوَ الثَّالِث . الْبَاقُونَ " قَالَ كَمْ " عَلَى الْخَبَر ; أَيْ قَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ , أَوْ قَالَتْ الْمَلَائِكَة لَهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ أَيْضًا
قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَسورة المؤمنون الآية رقم 114
الْبَاقُونَ " قَالَ " عَلَى الْخَبَر , عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ التَّأْوِيل فِي الْأَوَّل ; أَيْ مَا لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْض إِلَّا قَلِيلًا ; وَذَلِكَ أَنَّ مُكْثهمْ فِي الْقُبُور وَإِنْ طَالَ كَانَ مُتَنَاهِيًا . وَقِيلَ : هُوَ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُكْثهمْ فِي النَّار ; لِأَنَّهُ لَا نِهَايَة لَهُ .



ذَلِكَ .
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَسورة المؤمنون الآية رقم 115
أَيْ مُهْمَلِينَ كَمَا خُلِقَتْ الْبَهَائِم لَا ثَوَاب لَهَا وَلَا عِقَاب عَلَيْهَا ; مِثْل قَوْله تَعَالَى : " أَيَحْسَبُ الْإِنْسَان أَنْ يُتْرَك سُدًى " [ الْقِيَامَة : 36 ] يُرِيد كَالْبَهَائِمِ مُهْمَلًا لِغَيْرِ فَائِدَة . قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَلِيّ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْق عَبِيدًا لِيَعْبُدُوهُ , فَيُثِيبهُمْ عَلَى الْعِبَادَة وَيُعَاقِبهُمْ عَلَى تَرْكهَا , فَإِنْ عَبَدُوهُ فَهُمْ الْيَوْم لَهُ عَبِيد أَحْرَار كِرَام مِنْ رِقّ الدُّنْيَا , مُلُوك فِي دَار الْإِسْلَام ; وَإِنْ رَفَضُوا الْعُبُودِيَّة فَهُمْ الْيَوْم عَبِيد أُبَّاق سُقَّاط لِئَام , وَغَدًا أَعْدَاء فِي السُّجُون بَيْن أَطْبَاق النِّيرَان . وَ " عَبَثًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال عِنْد سِيبَوَيْهِ وَقُطْرُب . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر أَوْ لِأَنَّهُ مَفْعُول لَهُ .



فَتُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِكُمْ . قَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تَرْجِعُونَ " بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْر الْجِيم مِنْ الرُّجُوع .
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِسورة المؤمنون الآية رقم 116
أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ اللَّه الْمَلِك الْحَقّ عَنْ الْأَوْلَاد وَالشُّرَكَاء وَالْأَنْدَاد , وَعَنْ أَنْ يَخْلُق شَيْئًا عَبَثًا أَوْ سَفَهًا ; لِأَنَّهُ الْحَكِيم.



لَيْسَ فِي الْقُرْآن غَيْرهَا . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَرُوِيَ عَنْ اِبْن كَثِير " الْكَرِيم " بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلَّهِ .
وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَسورة المؤمنون الآية رقم 117
أَيْ لَا حُجَّة لَهُ عَلَيْهِ


أَيْ هُوَ يُعَاقِبهُ وَيُحَاسِبهُ . " إِنَّهُ " الْهَاء ضَمِير الْأَمْر وَالشَّأْن .


وَقَرَأَ الْحَسَن وَقَتَادَة " لَا يَفْلَح " - بِالْفَتْحِ - مِنْ كَذَبَ وَجَحَدَ مَا جِئْت بِهِ وَكَفَرَ نِعْمَتِي .
وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَسورة المؤمنون الآية رقم 118
ثُمَّ أَمَرَ نَبِيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالِاسْتِغْفَارِ لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّة . وَقِيلَ : أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأُمَّتِهِ . وَأَسْنَدَ الثَّعْلَبِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن لَهِيعَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن هُبَيْرَة عَنْ حَنَش بْن عَبْد اللَّه الصَّنْعَانِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّهُ مَرَّ بِمُصَابٍ مُبْتَلًى فَقَرَأَ فِي أُذُنه " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا " حَتَّى خَتَمَ السُّورَة فَبَرَأَ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَاذَا قَرَأْت فِي أُذُنه ) ؟ فَأَخْبَرَهُ , فَقَالَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُوقِنًا قَرَأَهَا عَلَى جَبَل لَزَالَ ) .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4