لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ↓
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة عَلَى أَقْوَال ثَمَانِيَة . أَقْرَبهَا - هَلْ هِيَ مَنْسُوخَة أَوْ نَاسِخَة أَوْ مُحْكَمَة ; فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَقْوَال :
الْأَوَّل : أَنَّهَا مَنْسُوخَة مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا عَلَى أَنْفُسكُمْ " إِلَى آخِر الْآيَة ; قَالَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد , قَالَ : هَذَا شَيْء قَدْ اِنْقَطَعَ , كَانُوا فِي أَوَّل الْإِسْلَام لَيْسَ عَلَى أَبْوَابهمْ أَغِلَاق , وَكَانَتْ السُّتُور مُرْخَاة , فَرُبَّمَا جَاءَ الرَّجُل فَدَخَلَ الْبَيْت وَهُوَ جَائِع وَلَيْسَ فِيهِ أَحَد ; فَسَوَّغَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ , ثُمَّ صَارَتْ الْأَغْلَاق عَلَى الْبُيُوت فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَحهَا , فَذَهَبَ هَذَا وَانْقَطَعَ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَد مَاشِيَة أَحَد إِلَّا بِإِذْنِهِ . . ) الْحَدِيث . خَرَّجَهُ الْأَئِمَّة .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَاسِخَة ; قَالَهُ جَمَاعَة . رَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنكُمْ بِالْبَاطِلِ " قَالَ الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُل أَمْوَالنَا بَيْننَا بِالْبَاطِلِ , وَأَنَّ الطَّعَام مِنْ أَفْضَل الْأَمْوَال , فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُل عِنْد أَحَد , فَكَفَّ النَّاس عَنْ ذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج - إِلَى - أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحه " . قَالَ : هُوَ الرَّجُل يُوَكِّل الرَّجُل بِضَيْعَتِهِ .
قُلْت : عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة هَذَا هُوَ مَوْلَى بَنِي هَاشِم سَكَنَ الشَّام , يُكَنَّى أَبَا الْحَسَن وَيُقَال أَبَا مُحَمَّد , اِسْم أَبِيهِ أَبِي طَلْحَة سَالِم , تُكَلِّم فِي تَفْسِيره ; فَقِيلَ : إِنَّهُ لَمْ يَرَ اِبْن عَبَّاس , وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّالِث : أَنَّهَا مُحْكَمَة ; قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم مِمَّنْ يُقْتَدَى بِقَوْلِهِمْ ; مِنْهُمْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة بْن مَسْعُود . وَرَوَى الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُوعَبُونَ فِي النَّفِير مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَانُوا يَدْفَعُونَ مَفَاتِيحهمْ إِلَى ضَمْنَاهُمْ وَيَقُولُونَ : إِذَا اِحْتَجْتُمْ فَكُلُوا ; فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا أَحَلُّوهُ لَنَا عَنْ غَيْر طِيب نَفْس ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا عَلَى أَنْفُسكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ أَوْ بُيُوت آبَائِكُمْ " إِلَى آخِر الْآيَة . قَالَ النَّحَّاس : يُوعَبُونَ أَيْ يَخْرُجُونَ بِأَجْمَعِهِمْ فِي الْمَغَازِي ; يُقَال : أَوْعَبَ بَنُو فُلَان لَبَنِي فُلَان إِذَا جَاءُوهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ . وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : يُقَال أَوْعَبَ بَنُو فُلَان جَلَاء ; فَلَمْ يَبْقَ بِبَلَدِهِمْ مِنْهُمْ أَحَد. وَجَاءَ الْفَرَس بِرَكْضٍ وَعِيب ; أَيْ بِأَقْصَى مَا عِنْده . وَفِي الْحَدِيث : ( فِي الْأَنْف إِذَا اِسْتُوْعِبَ جَدْعه الدِّيَة ) إِذَا لَمْ يَتْرُك مِنْهُ شَيْء. وَاسْتِيعَاب الشَّيْء اِسْتِئْصَاله . وَيُقَال : بَيْت وَعِيب إِذَا كَانَ وَاسِعًا يَسْتَوْعِب كُلّ مَا جُعِلَ فِيهِ . وَالضَّمْنَى هُمْ الزَّمْنَى , وَاحِدهمْ ضَمِن زَمِن . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الْقَوْل مِنْ أَجَلّ مَا رُوِيَ فِي الْآيَة ; لِمَا فِيهِ عَنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مِنْ التَّوْفِيق أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَيْء بِعَيْنِهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا كَلَام مُنْتَظِم لِأَجْلِ تَخَلُّفهمْ عَنْهُمْ فِي الْجِهَاد وَبَقَاء أَمْوَالهمْ بِأَيْدِيهِمْ , لَكِنَّ قَوْله " أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحه " قَدْ اِقْتَضَاهُ ; فَكَانَ هَذَا الْقَوْل بَعِيدًا جِدًّا. لَكِنَّ الْمُخْتَار أَنْ يُقَال : إِنَّ اللَّه رَفَعَ الْحَرَج عَنْ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّق بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَط فِيهِ الْبَصَر , وَعَنْ الْأَعْرَج فِيمَا يُشْتَرَط فِي التَّكْلِيف بِهِ مِنْ الْمَشْي ; وَمَا يَتَعَذَّر مِنْ الْأَفْعَال مَعَ وُجُود الْعَرَج , وَعَنْ الْمَرِيض فِيمَا يُؤَثِّر الْمَرَض فِي إِسْقَاطه ; كَالصَّوْمِ وَشُرُوط الصَّلَاة وَأَرْكَانهَا , وَالْجِهَاد وَنَحْو ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ بَعْد ذَلِكَ مُبَيِّنًا : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَج فِي أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ . فَهَذَا مَعْنًى صَحِيح , وَتَفْسِير بَيِّن مُفِيد , يُعَضِّدهُ الشَّرْع وَالْعَقْل , وَلَا يُحْتَاج فِي تَفْسِير الْآيَة إِلَى نَقْل .
قُلْت : وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اِبْن عَطِيَّة فَقَالَ : فَظَاهِر الْآيَة وَأَمْر الشَّرِيعَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحَرَج عَنْهُمْ مَرْفُوع فِي كُلّ مَا يَضْطَرّهُمْ إِلَيْهِ الْعُذْر , وَتَقْتَضِي نِيَّتهمْ فِيهِ الْإِتْيَان بِالْأَكْمَلِ , وَيَقْتَضِي الْعُذْر أَنْ يَقَع مِنْهُمْ الْأَنْقَص , فَالْحَرَج مَرْفُوع عَنْهُمْ فِي هَذَا .
فَأَمَّا مَا قَالَ النَّاس فِي الْحَرَج : هُنَا وَهِيَ قَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ الْحَرَج فِي الْغَزْو ; أَيْ لَا حَرَج عَلَيْهِمْ فِي تَأَخُّرهمْ . وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَا عَلَى أَنْفُسكُمْ " الْآيَة , مَعْنًى مَقْطُوع مِنْ الْأَوَّل . وَقَالَتْ فِرْقَة : الْآيَة كُلّهَا فِي مَعْنَى الْمَطَاعِم. قَالَتْ : وَكَانَتْ الْعَرَب وَمَنْ بِالْمَدِينَةِ قَبْل الْمَبْعَث تَتَجَنَّب الْأَكْل مَعَ أَهْل الْأَعْذَار ; فَبَعْضهمْ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ تَقَذُّرًا لِجَوَلَانِ الْيَد مِنْ الْأَعْمَى , وَلِانْبِسَاطِ الْجِلْسَة مِنْ الْأَعْرَج , وَلِرَائِحَةِ الْمَرِيض وَعِلَّاته ; وَهِيَ أَخْلَاق جَاهِلِيَّة وَكِبْر , فَنَزَلَتْ الْآيَة مُؤْذِنَة . وَبَعْضهمْ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ تَحَرُّجًا مِنْ غَيْر أَهْل الْأَعْذَار , إِذْ هُمْ مُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَة الْأَصِحَّاء فِي الْأَكْل , لِعَدَمِ الرُّؤْيَة فِي الْأَعْمَى , وَلِلْعَجْزِ عَنْ الْمُزَاحَمَة فِي الْأَعْرَج , وَلِضَعْفِ الْمَرِيض ; فَنَزَلَتْ الْآيَة فِي إِبَاحَة الْأَكْل مَعَهُمْ. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي كِتَاب الزَّهْرَاوِيّ : إِنَّ أَهْل الْأَعْذَار تَحَرَّجُوا فِي الْأَكْل مَعَ النَّاس مِنْ أَجْل عُذْرهمْ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة مُبِيحَة لَهُمْ. وَقِيلَ : كَانَ الرَّجُل إِذَا سَاقَ أَهْل الْعُذْر إِلَى بَيْته فَلَمْ يَجِد فِيهِ شَيْئًا ذَهَبَ بِهِ إِلَى بُيُوت قَرَابَته ; فَتَحَرَّجَ أَهْل الْأَعْذَار مِنْ ذَلِكَ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة .
هَذَا اِبْتِدَاء كَلَام ; أَيْ وَلَا عَلَيْكُمْ أَيّهَا النَّاس . وَلَكِنْ لَمَّا اِجْتَمَعَ الْمُخَاطَب وَغَيْر الْمُخَاطَب غَلَبَ الْمُخَاطَب لِيَنْتَظِم الْكَلَام. وَذَكَرَ بُيُوت الْقَرَابَات وَسَقَطَ مِنْهَا بُيُوت الْأَبْنَاء ; فَقَالَ الْمُسَفِّرُونَ : ذَلِكَ لِأَنَّهَا دَاخِلَة فِي قَوْله : " فِي بُيُوتكُمْ " لِأَنَّ بَيْت اِبْن الرَّجُل بَيْته ; وَفِي الْخَبَر ( أَنْتَ وَمَالك لِأَبِيك ) . لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَقْرِبَاء بَعْد وَلَمْ يَذْكُر الْأَوْلَاد . قَالَ النَّحَّاس : وَعَارَضَ بَعْضهمْ هَذَا الْقَوْل فَقَالَ : هَذَا تَحَكُّم عَلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى ; بَلْ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِر أَلَّا يَكُون الِابْن مُخَالِفًا لِهَؤُلَاءِ , وَلَيْسَ الِاحْتِجَاج بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك ) بِقَوِيٍّ لِوَهْيِ هَذَا الْحَدِيث , وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّة ; إِذْ قَدْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّ مَال ذَلِكَ الْمُخَاطَب لِأَبِيهِ . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى : أَنْتَ لِأَبِيك , وَمَالك مُبْتَدَأ ; أَيْ وَمَالك لَك . وَالْقَاطِع لِهَذَا التَّوَارُث بَيْن الْأَب وَالِابْن . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم : وَوَجْه قَوْله تَعَالَى : " وَلَا عَلَى أَنْفُسكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ " كَأَنَّهُ يَقُول مَسَاكِنكُمْ الَّتِي فِيهَا أَهَالِيكُمْ وَأَوْلَادكُمْ ; فَيَكُون لِلْأَهْلِ وَالْوَلَد هُنَاكَ شَيْء قَدْ أَفَادَهُمْ هَذَا الرَّجُل الَّذِي لَهُ الْمَسْكَن , فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَج أَنْ يَأْكُل مَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقُوت , أَوْ يَكُون لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَد هُنَاكَ شَيْء مِنْ مِلْكهمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَرَج .
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : هَذَا إِذَا أَذِنُوا لَهُ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ : أَذِنُوا لَهُ أَوْ لَمْ يَأْذَنُوا فَلَهُ أَنْ يَأْكُل ; لِأَنَّ الْقَرَابَة الَّتِي بَيْنهمْ هِيَ إِذَنْ مِنْهُمْ . وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْقَرَابَة عَطْفًا تَسْمَح النُّفُوس مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْعَطْف أَنْ يَأْكُل هَذَا مِنْ شَيْئِهِمْ وَيُسَرُّوا بِذَلِكَ إِذَا عَلِمُوا . اِبْن الْعَرَبِيّ : أَبَاحَ لَنَا الْأَكْل مِنْ جِهَة النَّسَب مِنْ غَيْر اِسْتِئْذَان إِذَا كَانَ الطَّعَام مَبْذُولًا , فَإِذَا كَانَ مُحْرَزًا دُونهمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذه , وَلَا يَجُوز أَنْ يُجَاوِزُوا إِلَى الِادِّخَار , وَلَا إِلَى مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ وَإِنْ كَانَ غَيْر مُحْرَز عَنْهُمْ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ .
يَعْنِي مِمَّا اِخْتَزَنْتُمْ وَصَارَ فِي قَبْضَتكُمْ . وَعُظْم ذَلِكَ مَا مَلَكَهُ الرَّجُل فِي بَيْته وَتَحْت غَلْقه ; وَذَلِكَ هُوَ تَأْوِيل الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَمُجَاهِد . وَعِنْد جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ يَدْخُل فِي الْآيَة الْوُكَلَاء وَالْعَبِيد وَالْأُجَرَاء . قَالَ اِبْن عَبَّاس : عُنِيَ وَكِيل الرَّجُل عَلَى ضَيْعَته , وَخَازِنه عَلَى مَاله ; فَيَجُوز لَهُ أَنْ يَأْكُل مِمَّا هُوَ قَيِّم عَلَيْهِ . وَذَكَرَ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : إِذَا مَلَكَ الرَّجُل الْمِفْتَاح فَهُوَ خَازِن , فَلَا بَأْس أَنْ يَطْعَم الشَّيْء الْيَسِير . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلِلْخَازِنِ أَنْ يَأْكُل مِمَّا يُخْزَن إِجْمَاعًا ; وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أُجْرَة , فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَهُ أُجْرَة عَلَى الْخَزْن حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْل . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر " مُلِّكْتُمْ " بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْر اللَّام وَشَدّهَا . وَقَرَأَ أَيْضًا " مَفَاتِيحه " بِيَاءٍ بَيْن التَّاء وَالْحَاء , جَمْع مِفْتَاح ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام " . وَقَرَأَ قَتَادَة " مِفْتَاحه " عَلَى الْإِفْرَاد . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الْحَارِث بْن عَمْرو , خَرَجَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا وَخَلَّفَ مَالِك بْن زَيْد عَلَى أَهْله , فَلَمَّا رَجَعَ وَجَدَهُ مَجْهُودًا فَسَأَلَهُ عَنْ حَاله فَقَالَ : تَحَرَّجْت أَنْ آكُل مِنْ طَعَامك بِغَيْرِ إِذْنك ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة .
الصَّدِيق بِمَعْنَى الْجَمْع , وَكَذَلِكَ الْعَدُوّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَإِنَّهُمْ عَدُوّ لِي " [ الشُّعَرَاء : 77 ] . وَقَالَ جَرِير : دَعَوْنَ الْهَوَى ثُمَّ اِرْتَمَيْنَ قُلُوبنَا بِأَسْهُمِ أَعْدَاء وَهُنَّ صَدِيق وَالصَّدِيق مَنْ يَصْدُقك فِي مَوَدَّته وَتَصْدُقهُ فِي مَوَدَّتك . ثُمَّ قِيلَ : إِنَّ هَذَا مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ : " لَا تَدْخُلُوا بُيُوت النَّبِيّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَن لَكُمْ " [ الْأَحْزَاب : 53 ] , وَقَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا " [ النُّور : 28 ] الْآيَة , وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَحِلّ مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِطِيبَةِ نَفْس مِنْهُ ) . وَقِيلَ : هِيَ مُحْكَمَة ; وَهُوَ أَصَحّ . ذَكَرَ مُحَمَّد بْن ثَوْر عَنْ مَعْمَر قَالَ : دَخَلْت بَيْت قَتَادَة فَأَبْصَرْت فِيهِ رُطَبًا فَجَعَلْت آكُلهُ ; فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقُلْت : أَبْصَرْت رُطَبًا فِي بَيْتك فَأَكَلْت ; قَالَ : أَحْسَنْت ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَوْ صَدِيقكُمْ " . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : " أَوْ صَدِيقكُمْ " قَالَ : إِذَا دَخَلْت بَيْت صَدِيقك مِنْ غَيْر مُؤَامَرَته لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْس. وَقَالَ مَعْمَر قُلْت لِقَتَادَةَ : أَلَا أَشْرَب مِنْ هَذَا الْحُبّ ؟ قَالَ : أَنْتَ لِي صَدِيق ! فَمَا هَذَا الِاسْتِئْذَان . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُل حَائِط أَبِي طَلْحَة الْمُسَمَّى بِبَيْرُحَا وَيَشْرَب مِنْ مَاء فِيهَا طَيِّب بِغَيْرِ إِذْنه , عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا ; قَالُوا : وَالْمَاء مُتَمَلَّك لِأَهْلِهِ. وَإِذَا جَازَ الشُّرْب مِنْ مَاء الصَّدِيق بِغَيْرِ إِذْنه جَازَ الْأَكْل مِنْ ثِمَاره وَطَعَامه إِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْس صَاحِبه تَطِيب بِهِ لِتَفَاهَتِهِ وَيَسِير مُؤْنَته , أَوْ لِمَا بَيْنهمَا مِنْ الْمَوَدَّة. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى إِطْعَام أُمّ حَرَام لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَامَ عِنْدهَا ; لِأَنَّ الْأَغْلَب أَنَّ مَا فِي الْبَيْت مِنْ الطَّعَام هُوَ لِلرَّجُلِ , وَأَنَّ يَد زَوْجَته فِي ذَلِكَ عَارِيَة . وَهَذَا كُلّه مَا لَمْ يُتَّخَذ الْأَكْل خُبْنَة , وَلَمْ يَقْصِد بِذَلِكَ وِقَايَة مَاله , وَكَانَ تَافِهًا يَسِيرًا.
قَرَنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة الصَّدِيق بِالْقَرَابَةِ الْمَحْضَة الْوَكِيدَة , لِأَنَّ قُرْب الْمَوَدَّة لَصِيق . قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي كِتَاب النَّقَّاش : الصَّدِيق أَوْكَد مِنْ الْقَرَابَة ; أَلَا تَرَى اِسْتِغَاثَة الْجَهَنَّمِيَّيْنِ " فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلَا صَدِيق حَمِيم " [ الشُّعَرَاء : 100 - 101 ].
قُلْت : وَلِهَذَا لَا تَجُوز عِنْدنَا شَهَادَة الصَّدِيق لِصَدِيقِهِ , كَمَا لَا تَجُوز شَهَادَة الْقَرِيب لِقَرِيبِهِ . وَقَدْ مَضَى بَيَان هَذَا وَالْعِلَّة فِيهِ فِي " النِّسَاء " . وَفِي الْمَثَل - أَيّهمْ أَحَبّ إِلَيْك أَخُوك أَمْ صَدِيقك - قَالَ : أَخِي إِذَا كَانَ صَدِيقِي .
قِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي لَيْث بْن بَكْر , وَهُمْ حَيّ مِنْ بَنِي كِنَانَة , وَكَانَ الرَّجُل مِنْهُمْ لَا يَأْكُل وَحْده وَيَمْكُث أَيَّامًا جَائِعًا حَتَّى يَجِد مَنْ يُؤَاكِلهُ . وَمِنْهُ قَوْل بَعْض الشُّعَرَاء : إِذَا مَا صَنَعْت الزَّاد فَالْتَمِسِي لَهُ أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْت آكِله وَحْدِي قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَة مَوْرُوثه عِنْدهمْ عَنْ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُل وَحْده . وَكَانَ بَعْض الْعَرَب إِذَا كَانَ لَهُ ضَيْف لَا يَأْكُل إِلَّا أَنْ يَأْكُل مَعَ ضَيْفه ; فَنَزَلَتْ الْآيَة مُبَيِّنَة سُنَّة الْأَكْل , وَمُذْهِبَة كُلّ مَا خَالَفَهَا مِنْ سِيرَة الْعَرَب , وَمُبِيحَة مِنْ أَكْل الْمُنْفَرِد مَا كَانَ عِنْد الْعَرَب مُحَرَّمًا , نَحَتْ بِهِ نَحْو كَرَم الْخُلُق , فَأَفْرَطَتْ فِي إِلْزَامه , وَإِنَّ إِحْضَار الْأَكِيل لَحَسَن , وَلَكِنْ بِأَلَّا يَحْرُم الِانْفِرَاد .
" جَمِيعًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَ " أَشْتَاتًا " جَمْع شَتّ وَالشَّتّ الْمَصْدَر بِمَعْنَى التَّفَرُّق ; يُقَال : شَتَّ الْقَوْم أَيْ تَفَرَّقُوا . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه بَاب ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج وَلَا عَلَى الْأَعْرَج حَرَج وَلَا عَلَى الْمَرِيض حَرَج ) الْآيَة . وَ - النِّهْد وَالِاجْتِمَاع - . وَمَقْصُوده فِيمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا فِي هَذَا الْبَاب : إِبَاحَة الْأَكْل جَمِيعًا وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ أَحْوَالهمْ فِي الْأَكْل . وَقَدْ سَوَّغَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ , فَصَارَتْ تِلْكَ سُنَّة فِي الْجَمَاعَات الَّتِي تُدْعَى إِلَى الطَّعَام فِي النِّهْد وَالْوَلَائِم وَفِي الْإِمْلَاق فِي السَّفَر . وَمَا مَلَكْت مَفَاتِحه بِأَمَانَةٍ أَوْ قَرَابَة أَوْ صَدَاقَة فَلَك أَنْ تَأْكُل مَعَ الْقَرِيب أَوْ الصَّدِيق وَوَحْدك. وَالنِّهْد : مَا يَجْمَعهُ الرُّفَقَاء مِنْ مَال أَوْ طَعَام عَلَى قَدْر فِي النَّفَقَة يُنْفِقُونَهُ بَيْنهمْ ; وَقَدْ تَنَاهَدُوا ; عَنْ صَاحِب الْعَيْن . وَقَالَ اِبْن دُرَيْد : يُقَال مِنْ ذَلِكَ : تَنَاهَدَ الْقَوْم الشَّيْء بَيْنهمْ . الْهَرَوِيّ : وَفِي حَدِيث الْحَسَن ( أَخْرِجُوا نِهْدكُمْ فَإِنَّهُ أَعْظَم لِلْبَرَكَةِ وَأَحْسَن لِأَخْلَاقِكُمْ ). النِّهْد : مَا تُخْرِجهُ الرُّفْقَة عِنْد الْمُنَاهَدَة ; وَهُوَ اِسْتِقْسَام النَّفَقَة بِالسَّوِيَّةِ فِي السَّفَر وَغَيْره . وَالْعَرَب تَقُول : هَاتِ نِهْدك ; بِكَسْرِ النُّون . قَالَ الْمُهَلِّب : وَطَعَام النِّهْد لَمْ يُوضَع لِلْآكِلِينَ عَلَى أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِالسَّوَاءِ , وَإِنَّمَا يَأْكُل كُلّ وَاحِد عَلَى قَدْر نَهْمَته , وَقَدْ يَأْكُل الرَّجُل أَكْثَر مِنْ غَيْره . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ تَرْكهَا أَشْبَه بِالْوَرَعِ . وَإِنْ كَانَتْ الرُّفْقَة تَجْتَمِع كُلّ يَوْم عَلَى طَعَام أَحَدهمْ فَهُوَ أَحْسَن مِنْ النِّهْد لِأَنَّهُمْ لَا يَتَنَاهَدُونَ إِلَّا لِيُصِيبَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ مِنْ مَاله , ثُمَّ لَا يَدْرِي لَعَلَّ أَحَدهمْ يُقَصِّر عَنْ مَاله وَيَأْكُل غَيْره أَكْثَر مِنْ مَاله وَإِذَا كَانُوا يَوْمًا عِنْد هَذَا وَيَوْمًا عِنْد هَذَا بِلَا شَرْط فَإِنَّمَا يَكُونُونَ أَضْيَافًا وَالضَّيْف يَأْكُل بِطِيبِ نَفْس مِمَّا يُقَدَّم إِلَيْهِ . وَقَالَ أَيُّوب السَّخْتِيَانِيّ : إِنَّمَا كَانَ النِّهْد أَنَّ الْقَوْم كَانُوا يَكُونُونَ فِي السَّفَر فَيَسْبِق بَعْضهمْ إِلَى الْمَنْزِل فَيَذْبَح وَيُهَيِّئ الطَّعَام ثُمَّ يَأْتِيهِمْ , ثُمَّ يَسْبِق أَيْضًا إِلَى الْمَنْزِل فَيَفْعَل مِثْل ذَلِكَ ; فَقَالُوا : إِنَّ هَذَا الَّذِي تَصْنَع كُلّنَا نُحِبّ أَنْ نَصْنَع مِثْله فَتَعَالَوْا نَجْعَل بَيْننَا شَيْئًا لَا يَتَفَضَّل بَعْضنَا عَلَى بَعْض , فَوَضَعُوا النِّهْد بَيْنهمْ . وَكَانَ الصُّلَحَاء إِذَا تَنَاهَدُوا تَحَرَّى أَفْضَلهمْ أَنْ يَزِيد عَلَى مَا يُخْرِجهُ أَصْحَابه , وَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ مِنْهُ إِذَا عَلِمُوهُ فَعَلَهُ سِرًّا دُونهمْ .
اِخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي أَيّ الْبُيُوت أَرَادَ ; فَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَالْحَسَن : أَرَادَ الْمَسَاجِد ; وَالْمَعْنَى : سَلِّمُوا عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ ضَيْفكُمْ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسَاجِد أَحَد فَالسَّلَام أَنْ يَقُول الْمَرْء : السَّلَام عَلَى رَسُول اللَّه . وَقِيلَ : يَقُول السَّلَام عَلَيْكُمْ ; يُرِيد الْمَلَائِكَة , ثُمَّ يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ " الْآيَة , قَالَ : إِذَا دَخَلْت الْمَسْجِد فَقُلْ السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ. وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْبُيُوتِ الْبُيُوت الْمَسْكُونَة ; أَيْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ . قَالَهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عَبَّاس أَيْضًا وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح. وَقَالُوا : يَدْخُل فِي ذَلِكَ الْبُيُوت غَيْر الْمَسْكُونَة , وَيُسَلِّم الْمَرْء فِيهَا عَلَى نَفْسه بِأَنْ يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْقَوْل بِالْعُمُومِ فِي الْبُيُوت هُوَ الصَّحِيح , وَلَا دَلِيل عَلَى التَّخْصِيص ; وَأَطْلَقَ الْقَوْل لِيَدْخُل تَحْت هَذَا الْعُمُوم كُلّ بَيْت كَانَ لِلْغَيْرِ أَوْ لِنَفْسِهِ , فَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لِغَيْرِهِ اسْتَأْذَنَ كَمَا تَقَدَّمَ , فَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لِنَفْسِهِ سَلَّمَ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَر , يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ ; قَالَهُ اِبْن عُمَر. وَهَذَا إِذَا كَانَ فَارِغًا , فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَهْله وَخَدَمه فَلْيَقُلْ : السَّلَام عَلَيْكُمْ . وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فَلْيَقُلْ : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ . وَعَلَيْهِ حَمَلَ اِبْن عُمَر الْبَيْت الْفَارِغ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ إِذَا كَانَ الْبَيْت فَارِغًا أَلَّا يَلْزَم السَّلَام , فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْصُود الْمَلَائِكَة فَالْمَلَائِكَة لَا تُفَارِق الْعَبْد بِحَالٍ , أَمَّا إِنَّهُ إِذَا دَخَلْت بَيْتك يُسْتَحَبّ لَك ذِكْر اللَّه بِأَنْ تَقُول : مَا شَاءَ اللَّه لَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " الْكَهْف " . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ فِي قَوْله : " إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا " : وَالْأَوْجَه أَنْ يُقَال إِنَّ هَذَا عَامّ فِي دُخُول كُلّ بَيْت , فَإِنْ كَانَ فِيهِ سَاكِن مُسْلِم يَقُول السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَاكِن يَقُول السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ , وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْت مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ قَالَ السَّلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى , أَوْ السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ . وَذَكَرَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد قَالَ : كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْعَبَّاس الْأَصَمّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن وَهْب قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مَيْسَرَة عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلهَا وَاذْكُرُوا اِسْم اللَّه فَإِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا سَلَّمَ حِين يَدْخُل بَيْته وَذَكَرَ اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَى طَعَامه يَقُول الشَّيْطَان لِأَصْحَابِهِ لَا مَبِيت لَكُمْ هَاهُنَا وَلَا عَشَاء وَإِذَا لَمْ يُسَلِّم أَحَدكُمْ إِذَا دَخَلَ وَلَمْ يَذْكُر اِسْم اللَّه عَلَى طَعَامه قَالَ الشَّيْطَان لِأَصْحَابِهِ أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيت وَالْعَشَاء ) .
قُلْت : هَذَا الْحَدِيث ثَبَتَ مَعْنَاهُ مَرْفُوع مِنْ حَدِيث جَابِر , خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي مَالِك الْأَشْجَعِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا وَلَجَ الرَّجُل بَيْته فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك خَيْر الْوُلُوج وَخَيْر الْخُرُوج بِاسْمِ اللَّه وَلَجْنَا وَبِاسْمِ اللَّه خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّه رَبّنَا تَوَكَّلْنَا ثُمَّ لْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْله ).
" تَحِيَّة " مَصْدَر ; لِأَنَّ قَوْله : " فَسَلِّمُوا " مَعْنَاهُ فَحَيُّوا . وَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ لِأَنَّ فِيهَا الدُّعَاء وَاسْتِجْلَاب مَوَدَّة الْمُسْلِم عَلَيْهِ . وَوَصَفَهَا أَيْضًا بِالطِّيبِ لِأَنَّ سَامِعهَا يَسْتَطِيبهَا. وَالْكَاف مِنْ قَوْله : " كَذَلِكَ " كَاف تَشْبِيه . وَ " ذَلِكَ " إِشَارَة إِلَى هَذِهِ السُّنَن ; أَيْ كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ سُنَّة دِينكُمْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء يُبَيِّن لَكُمْ سَائِر مَا بِكُمْ حَاجَة إِلَيْهِ فِي دِينكُمْ .
الْأَوَّل : أَنَّهَا مَنْسُوخَة مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا عَلَى أَنْفُسكُمْ " إِلَى آخِر الْآيَة ; قَالَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد , قَالَ : هَذَا شَيْء قَدْ اِنْقَطَعَ , كَانُوا فِي أَوَّل الْإِسْلَام لَيْسَ عَلَى أَبْوَابهمْ أَغِلَاق , وَكَانَتْ السُّتُور مُرْخَاة , فَرُبَّمَا جَاءَ الرَّجُل فَدَخَلَ الْبَيْت وَهُوَ جَائِع وَلَيْسَ فِيهِ أَحَد ; فَسَوَّغَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ , ثُمَّ صَارَتْ الْأَغْلَاق عَلَى الْبُيُوت فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَحهَا , فَذَهَبَ هَذَا وَانْقَطَعَ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَد مَاشِيَة أَحَد إِلَّا بِإِذْنِهِ . . ) الْحَدِيث . خَرَّجَهُ الْأَئِمَّة .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَاسِخَة ; قَالَهُ جَمَاعَة . رَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنكُمْ بِالْبَاطِلِ " قَالَ الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُل أَمْوَالنَا بَيْننَا بِالْبَاطِلِ , وَأَنَّ الطَّعَام مِنْ أَفْضَل الْأَمْوَال , فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُل عِنْد أَحَد , فَكَفَّ النَّاس عَنْ ذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج - إِلَى - أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحه " . قَالَ : هُوَ الرَّجُل يُوَكِّل الرَّجُل بِضَيْعَتِهِ .
قُلْت : عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة هَذَا هُوَ مَوْلَى بَنِي هَاشِم سَكَنَ الشَّام , يُكَنَّى أَبَا الْحَسَن وَيُقَال أَبَا مُحَمَّد , اِسْم أَبِيهِ أَبِي طَلْحَة سَالِم , تُكَلِّم فِي تَفْسِيره ; فَقِيلَ : إِنَّهُ لَمْ يَرَ اِبْن عَبَّاس , وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّالِث : أَنَّهَا مُحْكَمَة ; قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم مِمَّنْ يُقْتَدَى بِقَوْلِهِمْ ; مِنْهُمْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة بْن مَسْعُود . وَرَوَى الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُوعَبُونَ فِي النَّفِير مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَانُوا يَدْفَعُونَ مَفَاتِيحهمْ إِلَى ضَمْنَاهُمْ وَيَقُولُونَ : إِذَا اِحْتَجْتُمْ فَكُلُوا ; فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا أَحَلُّوهُ لَنَا عَنْ غَيْر طِيب نَفْس ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا عَلَى أَنْفُسكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ أَوْ بُيُوت آبَائِكُمْ " إِلَى آخِر الْآيَة . قَالَ النَّحَّاس : يُوعَبُونَ أَيْ يَخْرُجُونَ بِأَجْمَعِهِمْ فِي الْمَغَازِي ; يُقَال : أَوْعَبَ بَنُو فُلَان لَبَنِي فُلَان إِذَا جَاءُوهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ . وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : يُقَال أَوْعَبَ بَنُو فُلَان جَلَاء ; فَلَمْ يَبْقَ بِبَلَدِهِمْ مِنْهُمْ أَحَد. وَجَاءَ الْفَرَس بِرَكْضٍ وَعِيب ; أَيْ بِأَقْصَى مَا عِنْده . وَفِي الْحَدِيث : ( فِي الْأَنْف إِذَا اِسْتُوْعِبَ جَدْعه الدِّيَة ) إِذَا لَمْ يَتْرُك مِنْهُ شَيْء. وَاسْتِيعَاب الشَّيْء اِسْتِئْصَاله . وَيُقَال : بَيْت وَعِيب إِذَا كَانَ وَاسِعًا يَسْتَوْعِب كُلّ مَا جُعِلَ فِيهِ . وَالضَّمْنَى هُمْ الزَّمْنَى , وَاحِدهمْ ضَمِن زَمِن . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الْقَوْل مِنْ أَجَلّ مَا رُوِيَ فِي الْآيَة ; لِمَا فِيهِ عَنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مِنْ التَّوْفِيق أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَيْء بِعَيْنِهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا كَلَام مُنْتَظِم لِأَجْلِ تَخَلُّفهمْ عَنْهُمْ فِي الْجِهَاد وَبَقَاء أَمْوَالهمْ بِأَيْدِيهِمْ , لَكِنَّ قَوْله " أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحه " قَدْ اِقْتَضَاهُ ; فَكَانَ هَذَا الْقَوْل بَعِيدًا جِدًّا. لَكِنَّ الْمُخْتَار أَنْ يُقَال : إِنَّ اللَّه رَفَعَ الْحَرَج عَنْ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّق بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَط فِيهِ الْبَصَر , وَعَنْ الْأَعْرَج فِيمَا يُشْتَرَط فِي التَّكْلِيف بِهِ مِنْ الْمَشْي ; وَمَا يَتَعَذَّر مِنْ الْأَفْعَال مَعَ وُجُود الْعَرَج , وَعَنْ الْمَرِيض فِيمَا يُؤَثِّر الْمَرَض فِي إِسْقَاطه ; كَالصَّوْمِ وَشُرُوط الصَّلَاة وَأَرْكَانهَا , وَالْجِهَاد وَنَحْو ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ بَعْد ذَلِكَ مُبَيِّنًا : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَج فِي أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ . فَهَذَا مَعْنًى صَحِيح , وَتَفْسِير بَيِّن مُفِيد , يُعَضِّدهُ الشَّرْع وَالْعَقْل , وَلَا يُحْتَاج فِي تَفْسِير الْآيَة إِلَى نَقْل .
قُلْت : وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اِبْن عَطِيَّة فَقَالَ : فَظَاهِر الْآيَة وَأَمْر الشَّرِيعَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحَرَج عَنْهُمْ مَرْفُوع فِي كُلّ مَا يَضْطَرّهُمْ إِلَيْهِ الْعُذْر , وَتَقْتَضِي نِيَّتهمْ فِيهِ الْإِتْيَان بِالْأَكْمَلِ , وَيَقْتَضِي الْعُذْر أَنْ يَقَع مِنْهُمْ الْأَنْقَص , فَالْحَرَج مَرْفُوع عَنْهُمْ فِي هَذَا .
فَأَمَّا مَا قَالَ النَّاس فِي الْحَرَج : هُنَا وَهِيَ قَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ الْحَرَج فِي الْغَزْو ; أَيْ لَا حَرَج عَلَيْهِمْ فِي تَأَخُّرهمْ . وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَا عَلَى أَنْفُسكُمْ " الْآيَة , مَعْنًى مَقْطُوع مِنْ الْأَوَّل . وَقَالَتْ فِرْقَة : الْآيَة كُلّهَا فِي مَعْنَى الْمَطَاعِم. قَالَتْ : وَكَانَتْ الْعَرَب وَمَنْ بِالْمَدِينَةِ قَبْل الْمَبْعَث تَتَجَنَّب الْأَكْل مَعَ أَهْل الْأَعْذَار ; فَبَعْضهمْ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ تَقَذُّرًا لِجَوَلَانِ الْيَد مِنْ الْأَعْمَى , وَلِانْبِسَاطِ الْجِلْسَة مِنْ الْأَعْرَج , وَلِرَائِحَةِ الْمَرِيض وَعِلَّاته ; وَهِيَ أَخْلَاق جَاهِلِيَّة وَكِبْر , فَنَزَلَتْ الْآيَة مُؤْذِنَة . وَبَعْضهمْ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ تَحَرُّجًا مِنْ غَيْر أَهْل الْأَعْذَار , إِذْ هُمْ مُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَة الْأَصِحَّاء فِي الْأَكْل , لِعَدَمِ الرُّؤْيَة فِي الْأَعْمَى , وَلِلْعَجْزِ عَنْ الْمُزَاحَمَة فِي الْأَعْرَج , وَلِضَعْفِ الْمَرِيض ; فَنَزَلَتْ الْآيَة فِي إِبَاحَة الْأَكْل مَعَهُمْ. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي كِتَاب الزَّهْرَاوِيّ : إِنَّ أَهْل الْأَعْذَار تَحَرَّجُوا فِي الْأَكْل مَعَ النَّاس مِنْ أَجْل عُذْرهمْ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة مُبِيحَة لَهُمْ. وَقِيلَ : كَانَ الرَّجُل إِذَا سَاقَ أَهْل الْعُذْر إِلَى بَيْته فَلَمْ يَجِد فِيهِ شَيْئًا ذَهَبَ بِهِ إِلَى بُيُوت قَرَابَته ; فَتَحَرَّجَ أَهْل الْأَعْذَار مِنْ ذَلِكَ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة .
هَذَا اِبْتِدَاء كَلَام ; أَيْ وَلَا عَلَيْكُمْ أَيّهَا النَّاس . وَلَكِنْ لَمَّا اِجْتَمَعَ الْمُخَاطَب وَغَيْر الْمُخَاطَب غَلَبَ الْمُخَاطَب لِيَنْتَظِم الْكَلَام. وَذَكَرَ بُيُوت الْقَرَابَات وَسَقَطَ مِنْهَا بُيُوت الْأَبْنَاء ; فَقَالَ الْمُسَفِّرُونَ : ذَلِكَ لِأَنَّهَا دَاخِلَة فِي قَوْله : " فِي بُيُوتكُمْ " لِأَنَّ بَيْت اِبْن الرَّجُل بَيْته ; وَفِي الْخَبَر ( أَنْتَ وَمَالك لِأَبِيك ) . لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَقْرِبَاء بَعْد وَلَمْ يَذْكُر الْأَوْلَاد . قَالَ النَّحَّاس : وَعَارَضَ بَعْضهمْ هَذَا الْقَوْل فَقَالَ : هَذَا تَحَكُّم عَلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى ; بَلْ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِر أَلَّا يَكُون الِابْن مُخَالِفًا لِهَؤُلَاءِ , وَلَيْسَ الِاحْتِجَاج بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك ) بِقَوِيٍّ لِوَهْيِ هَذَا الْحَدِيث , وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّة ; إِذْ قَدْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّ مَال ذَلِكَ الْمُخَاطَب لِأَبِيهِ . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى : أَنْتَ لِأَبِيك , وَمَالك مُبْتَدَأ ; أَيْ وَمَالك لَك . وَالْقَاطِع لِهَذَا التَّوَارُث بَيْن الْأَب وَالِابْن . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم : وَوَجْه قَوْله تَعَالَى : " وَلَا عَلَى أَنْفُسكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ " كَأَنَّهُ يَقُول مَسَاكِنكُمْ الَّتِي فِيهَا أَهَالِيكُمْ وَأَوْلَادكُمْ ; فَيَكُون لِلْأَهْلِ وَالْوَلَد هُنَاكَ شَيْء قَدْ أَفَادَهُمْ هَذَا الرَّجُل الَّذِي لَهُ الْمَسْكَن , فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَج أَنْ يَأْكُل مَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقُوت , أَوْ يَكُون لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَد هُنَاكَ شَيْء مِنْ مِلْكهمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَرَج .
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : هَذَا إِذَا أَذِنُوا لَهُ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ : أَذِنُوا لَهُ أَوْ لَمْ يَأْذَنُوا فَلَهُ أَنْ يَأْكُل ; لِأَنَّ الْقَرَابَة الَّتِي بَيْنهمْ هِيَ إِذَنْ مِنْهُمْ . وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْقَرَابَة عَطْفًا تَسْمَح النُّفُوس مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْعَطْف أَنْ يَأْكُل هَذَا مِنْ شَيْئِهِمْ وَيُسَرُّوا بِذَلِكَ إِذَا عَلِمُوا . اِبْن الْعَرَبِيّ : أَبَاحَ لَنَا الْأَكْل مِنْ جِهَة النَّسَب مِنْ غَيْر اِسْتِئْذَان إِذَا كَانَ الطَّعَام مَبْذُولًا , فَإِذَا كَانَ مُحْرَزًا دُونهمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذه , وَلَا يَجُوز أَنْ يُجَاوِزُوا إِلَى الِادِّخَار , وَلَا إِلَى مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ وَإِنْ كَانَ غَيْر مُحْرَز عَنْهُمْ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ .
يَعْنِي مِمَّا اِخْتَزَنْتُمْ وَصَارَ فِي قَبْضَتكُمْ . وَعُظْم ذَلِكَ مَا مَلَكَهُ الرَّجُل فِي بَيْته وَتَحْت غَلْقه ; وَذَلِكَ هُوَ تَأْوِيل الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَمُجَاهِد . وَعِنْد جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ يَدْخُل فِي الْآيَة الْوُكَلَاء وَالْعَبِيد وَالْأُجَرَاء . قَالَ اِبْن عَبَّاس : عُنِيَ وَكِيل الرَّجُل عَلَى ضَيْعَته , وَخَازِنه عَلَى مَاله ; فَيَجُوز لَهُ أَنْ يَأْكُل مِمَّا هُوَ قَيِّم عَلَيْهِ . وَذَكَرَ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : إِذَا مَلَكَ الرَّجُل الْمِفْتَاح فَهُوَ خَازِن , فَلَا بَأْس أَنْ يَطْعَم الشَّيْء الْيَسِير . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلِلْخَازِنِ أَنْ يَأْكُل مِمَّا يُخْزَن إِجْمَاعًا ; وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أُجْرَة , فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَهُ أُجْرَة عَلَى الْخَزْن حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْل . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر " مُلِّكْتُمْ " بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْر اللَّام وَشَدّهَا . وَقَرَأَ أَيْضًا " مَفَاتِيحه " بِيَاءٍ بَيْن التَّاء وَالْحَاء , جَمْع مِفْتَاح ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام " . وَقَرَأَ قَتَادَة " مِفْتَاحه " عَلَى الْإِفْرَاد . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الْحَارِث بْن عَمْرو , خَرَجَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا وَخَلَّفَ مَالِك بْن زَيْد عَلَى أَهْله , فَلَمَّا رَجَعَ وَجَدَهُ مَجْهُودًا فَسَأَلَهُ عَنْ حَاله فَقَالَ : تَحَرَّجْت أَنْ آكُل مِنْ طَعَامك بِغَيْرِ إِذْنك ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة .
الصَّدِيق بِمَعْنَى الْجَمْع , وَكَذَلِكَ الْعَدُوّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَإِنَّهُمْ عَدُوّ لِي " [ الشُّعَرَاء : 77 ] . وَقَالَ جَرِير : دَعَوْنَ الْهَوَى ثُمَّ اِرْتَمَيْنَ قُلُوبنَا بِأَسْهُمِ أَعْدَاء وَهُنَّ صَدِيق وَالصَّدِيق مَنْ يَصْدُقك فِي مَوَدَّته وَتَصْدُقهُ فِي مَوَدَّتك . ثُمَّ قِيلَ : إِنَّ هَذَا مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ : " لَا تَدْخُلُوا بُيُوت النَّبِيّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَن لَكُمْ " [ الْأَحْزَاب : 53 ] , وَقَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا " [ النُّور : 28 ] الْآيَة , وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَحِلّ مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِطِيبَةِ نَفْس مِنْهُ ) . وَقِيلَ : هِيَ مُحْكَمَة ; وَهُوَ أَصَحّ . ذَكَرَ مُحَمَّد بْن ثَوْر عَنْ مَعْمَر قَالَ : دَخَلْت بَيْت قَتَادَة فَأَبْصَرْت فِيهِ رُطَبًا فَجَعَلْت آكُلهُ ; فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقُلْت : أَبْصَرْت رُطَبًا فِي بَيْتك فَأَكَلْت ; قَالَ : أَحْسَنْت ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَوْ صَدِيقكُمْ " . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : " أَوْ صَدِيقكُمْ " قَالَ : إِذَا دَخَلْت بَيْت صَدِيقك مِنْ غَيْر مُؤَامَرَته لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْس. وَقَالَ مَعْمَر قُلْت لِقَتَادَةَ : أَلَا أَشْرَب مِنْ هَذَا الْحُبّ ؟ قَالَ : أَنْتَ لِي صَدِيق ! فَمَا هَذَا الِاسْتِئْذَان . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُل حَائِط أَبِي طَلْحَة الْمُسَمَّى بِبَيْرُحَا وَيَشْرَب مِنْ مَاء فِيهَا طَيِّب بِغَيْرِ إِذْنه , عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا ; قَالُوا : وَالْمَاء مُتَمَلَّك لِأَهْلِهِ. وَإِذَا جَازَ الشُّرْب مِنْ مَاء الصَّدِيق بِغَيْرِ إِذْنه جَازَ الْأَكْل مِنْ ثِمَاره وَطَعَامه إِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْس صَاحِبه تَطِيب بِهِ لِتَفَاهَتِهِ وَيَسِير مُؤْنَته , أَوْ لِمَا بَيْنهمَا مِنْ الْمَوَدَّة. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى إِطْعَام أُمّ حَرَام لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَامَ عِنْدهَا ; لِأَنَّ الْأَغْلَب أَنَّ مَا فِي الْبَيْت مِنْ الطَّعَام هُوَ لِلرَّجُلِ , وَأَنَّ يَد زَوْجَته فِي ذَلِكَ عَارِيَة . وَهَذَا كُلّه مَا لَمْ يُتَّخَذ الْأَكْل خُبْنَة , وَلَمْ يَقْصِد بِذَلِكَ وِقَايَة مَاله , وَكَانَ تَافِهًا يَسِيرًا.
قَرَنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة الصَّدِيق بِالْقَرَابَةِ الْمَحْضَة الْوَكِيدَة , لِأَنَّ قُرْب الْمَوَدَّة لَصِيق . قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي كِتَاب النَّقَّاش : الصَّدِيق أَوْكَد مِنْ الْقَرَابَة ; أَلَا تَرَى اِسْتِغَاثَة الْجَهَنَّمِيَّيْنِ " فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلَا صَدِيق حَمِيم " [ الشُّعَرَاء : 100 - 101 ].
قُلْت : وَلِهَذَا لَا تَجُوز عِنْدنَا شَهَادَة الصَّدِيق لِصَدِيقِهِ , كَمَا لَا تَجُوز شَهَادَة الْقَرِيب لِقَرِيبِهِ . وَقَدْ مَضَى بَيَان هَذَا وَالْعِلَّة فِيهِ فِي " النِّسَاء " . وَفِي الْمَثَل - أَيّهمْ أَحَبّ إِلَيْك أَخُوك أَمْ صَدِيقك - قَالَ : أَخِي إِذَا كَانَ صَدِيقِي .
قِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي لَيْث بْن بَكْر , وَهُمْ حَيّ مِنْ بَنِي كِنَانَة , وَكَانَ الرَّجُل مِنْهُمْ لَا يَأْكُل وَحْده وَيَمْكُث أَيَّامًا جَائِعًا حَتَّى يَجِد مَنْ يُؤَاكِلهُ . وَمِنْهُ قَوْل بَعْض الشُّعَرَاء : إِذَا مَا صَنَعْت الزَّاد فَالْتَمِسِي لَهُ أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْت آكِله وَحْدِي قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَة مَوْرُوثه عِنْدهمْ عَنْ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُل وَحْده . وَكَانَ بَعْض الْعَرَب إِذَا كَانَ لَهُ ضَيْف لَا يَأْكُل إِلَّا أَنْ يَأْكُل مَعَ ضَيْفه ; فَنَزَلَتْ الْآيَة مُبَيِّنَة سُنَّة الْأَكْل , وَمُذْهِبَة كُلّ مَا خَالَفَهَا مِنْ سِيرَة الْعَرَب , وَمُبِيحَة مِنْ أَكْل الْمُنْفَرِد مَا كَانَ عِنْد الْعَرَب مُحَرَّمًا , نَحَتْ بِهِ نَحْو كَرَم الْخُلُق , فَأَفْرَطَتْ فِي إِلْزَامه , وَإِنَّ إِحْضَار الْأَكِيل لَحَسَن , وَلَكِنْ بِأَلَّا يَحْرُم الِانْفِرَاد .
" جَمِيعًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَ " أَشْتَاتًا " جَمْع شَتّ وَالشَّتّ الْمَصْدَر بِمَعْنَى التَّفَرُّق ; يُقَال : شَتَّ الْقَوْم أَيْ تَفَرَّقُوا . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه بَاب ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج وَلَا عَلَى الْأَعْرَج حَرَج وَلَا عَلَى الْمَرِيض حَرَج ) الْآيَة . وَ - النِّهْد وَالِاجْتِمَاع - . وَمَقْصُوده فِيمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا فِي هَذَا الْبَاب : إِبَاحَة الْأَكْل جَمِيعًا وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ أَحْوَالهمْ فِي الْأَكْل . وَقَدْ سَوَّغَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ , فَصَارَتْ تِلْكَ سُنَّة فِي الْجَمَاعَات الَّتِي تُدْعَى إِلَى الطَّعَام فِي النِّهْد وَالْوَلَائِم وَفِي الْإِمْلَاق فِي السَّفَر . وَمَا مَلَكْت مَفَاتِحه بِأَمَانَةٍ أَوْ قَرَابَة أَوْ صَدَاقَة فَلَك أَنْ تَأْكُل مَعَ الْقَرِيب أَوْ الصَّدِيق وَوَحْدك. وَالنِّهْد : مَا يَجْمَعهُ الرُّفَقَاء مِنْ مَال أَوْ طَعَام عَلَى قَدْر فِي النَّفَقَة يُنْفِقُونَهُ بَيْنهمْ ; وَقَدْ تَنَاهَدُوا ; عَنْ صَاحِب الْعَيْن . وَقَالَ اِبْن دُرَيْد : يُقَال مِنْ ذَلِكَ : تَنَاهَدَ الْقَوْم الشَّيْء بَيْنهمْ . الْهَرَوِيّ : وَفِي حَدِيث الْحَسَن ( أَخْرِجُوا نِهْدكُمْ فَإِنَّهُ أَعْظَم لِلْبَرَكَةِ وَأَحْسَن لِأَخْلَاقِكُمْ ). النِّهْد : مَا تُخْرِجهُ الرُّفْقَة عِنْد الْمُنَاهَدَة ; وَهُوَ اِسْتِقْسَام النَّفَقَة بِالسَّوِيَّةِ فِي السَّفَر وَغَيْره . وَالْعَرَب تَقُول : هَاتِ نِهْدك ; بِكَسْرِ النُّون . قَالَ الْمُهَلِّب : وَطَعَام النِّهْد لَمْ يُوضَع لِلْآكِلِينَ عَلَى أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِالسَّوَاءِ , وَإِنَّمَا يَأْكُل كُلّ وَاحِد عَلَى قَدْر نَهْمَته , وَقَدْ يَأْكُل الرَّجُل أَكْثَر مِنْ غَيْره . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ تَرْكهَا أَشْبَه بِالْوَرَعِ . وَإِنْ كَانَتْ الرُّفْقَة تَجْتَمِع كُلّ يَوْم عَلَى طَعَام أَحَدهمْ فَهُوَ أَحْسَن مِنْ النِّهْد لِأَنَّهُمْ لَا يَتَنَاهَدُونَ إِلَّا لِيُصِيبَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ مِنْ مَاله , ثُمَّ لَا يَدْرِي لَعَلَّ أَحَدهمْ يُقَصِّر عَنْ مَاله وَيَأْكُل غَيْره أَكْثَر مِنْ مَاله وَإِذَا كَانُوا يَوْمًا عِنْد هَذَا وَيَوْمًا عِنْد هَذَا بِلَا شَرْط فَإِنَّمَا يَكُونُونَ أَضْيَافًا وَالضَّيْف يَأْكُل بِطِيبِ نَفْس مِمَّا يُقَدَّم إِلَيْهِ . وَقَالَ أَيُّوب السَّخْتِيَانِيّ : إِنَّمَا كَانَ النِّهْد أَنَّ الْقَوْم كَانُوا يَكُونُونَ فِي السَّفَر فَيَسْبِق بَعْضهمْ إِلَى الْمَنْزِل فَيَذْبَح وَيُهَيِّئ الطَّعَام ثُمَّ يَأْتِيهِمْ , ثُمَّ يَسْبِق أَيْضًا إِلَى الْمَنْزِل فَيَفْعَل مِثْل ذَلِكَ ; فَقَالُوا : إِنَّ هَذَا الَّذِي تَصْنَع كُلّنَا نُحِبّ أَنْ نَصْنَع مِثْله فَتَعَالَوْا نَجْعَل بَيْننَا شَيْئًا لَا يَتَفَضَّل بَعْضنَا عَلَى بَعْض , فَوَضَعُوا النِّهْد بَيْنهمْ . وَكَانَ الصُّلَحَاء إِذَا تَنَاهَدُوا تَحَرَّى أَفْضَلهمْ أَنْ يَزِيد عَلَى مَا يُخْرِجهُ أَصْحَابه , وَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ مِنْهُ إِذَا عَلِمُوهُ فَعَلَهُ سِرًّا دُونهمْ .
اِخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي أَيّ الْبُيُوت أَرَادَ ; فَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَالْحَسَن : أَرَادَ الْمَسَاجِد ; وَالْمَعْنَى : سَلِّمُوا عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ ضَيْفكُمْ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسَاجِد أَحَد فَالسَّلَام أَنْ يَقُول الْمَرْء : السَّلَام عَلَى رَسُول اللَّه . وَقِيلَ : يَقُول السَّلَام عَلَيْكُمْ ; يُرِيد الْمَلَائِكَة , ثُمَّ يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ " الْآيَة , قَالَ : إِذَا دَخَلْت الْمَسْجِد فَقُلْ السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ. وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْبُيُوتِ الْبُيُوت الْمَسْكُونَة ; أَيْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ . قَالَهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عَبَّاس أَيْضًا وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح. وَقَالُوا : يَدْخُل فِي ذَلِكَ الْبُيُوت غَيْر الْمَسْكُونَة , وَيُسَلِّم الْمَرْء فِيهَا عَلَى نَفْسه بِأَنْ يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْقَوْل بِالْعُمُومِ فِي الْبُيُوت هُوَ الصَّحِيح , وَلَا دَلِيل عَلَى التَّخْصِيص ; وَأَطْلَقَ الْقَوْل لِيَدْخُل تَحْت هَذَا الْعُمُوم كُلّ بَيْت كَانَ لِلْغَيْرِ أَوْ لِنَفْسِهِ , فَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لِغَيْرِهِ اسْتَأْذَنَ كَمَا تَقَدَّمَ , فَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لِنَفْسِهِ سَلَّمَ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَر , يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ ; قَالَهُ اِبْن عُمَر. وَهَذَا إِذَا كَانَ فَارِغًا , فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَهْله وَخَدَمه فَلْيَقُلْ : السَّلَام عَلَيْكُمْ . وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فَلْيَقُلْ : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ . وَعَلَيْهِ حَمَلَ اِبْن عُمَر الْبَيْت الْفَارِغ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ إِذَا كَانَ الْبَيْت فَارِغًا أَلَّا يَلْزَم السَّلَام , فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْصُود الْمَلَائِكَة فَالْمَلَائِكَة لَا تُفَارِق الْعَبْد بِحَالٍ , أَمَّا إِنَّهُ إِذَا دَخَلْت بَيْتك يُسْتَحَبّ لَك ذِكْر اللَّه بِأَنْ تَقُول : مَا شَاءَ اللَّه لَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " الْكَهْف " . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ فِي قَوْله : " إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا " : وَالْأَوْجَه أَنْ يُقَال إِنَّ هَذَا عَامّ فِي دُخُول كُلّ بَيْت , فَإِنْ كَانَ فِيهِ سَاكِن مُسْلِم يَقُول السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَاكِن يَقُول السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ , وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْت مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ قَالَ السَّلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى , أَوْ السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ . وَذَكَرَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد قَالَ : كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْعَبَّاس الْأَصَمّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن وَهْب قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مَيْسَرَة عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلهَا وَاذْكُرُوا اِسْم اللَّه فَإِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا سَلَّمَ حِين يَدْخُل بَيْته وَذَكَرَ اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَى طَعَامه يَقُول الشَّيْطَان لِأَصْحَابِهِ لَا مَبِيت لَكُمْ هَاهُنَا وَلَا عَشَاء وَإِذَا لَمْ يُسَلِّم أَحَدكُمْ إِذَا دَخَلَ وَلَمْ يَذْكُر اِسْم اللَّه عَلَى طَعَامه قَالَ الشَّيْطَان لِأَصْحَابِهِ أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيت وَالْعَشَاء ) .
قُلْت : هَذَا الْحَدِيث ثَبَتَ مَعْنَاهُ مَرْفُوع مِنْ حَدِيث جَابِر , خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي مَالِك الْأَشْجَعِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا وَلَجَ الرَّجُل بَيْته فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك خَيْر الْوُلُوج وَخَيْر الْخُرُوج بِاسْمِ اللَّه وَلَجْنَا وَبِاسْمِ اللَّه خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّه رَبّنَا تَوَكَّلْنَا ثُمَّ لْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْله ).
" تَحِيَّة " مَصْدَر ; لِأَنَّ قَوْله : " فَسَلِّمُوا " مَعْنَاهُ فَحَيُّوا . وَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ لِأَنَّ فِيهَا الدُّعَاء وَاسْتِجْلَاب مَوَدَّة الْمُسْلِم عَلَيْهِ . وَوَصَفَهَا أَيْضًا بِالطِّيبِ لِأَنَّ سَامِعهَا يَسْتَطِيبهَا. وَالْكَاف مِنْ قَوْله : " كَذَلِكَ " كَاف تَشْبِيه . وَ " ذَلِكَ " إِشَارَة إِلَى هَذِهِ السُّنَن ; أَيْ كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ سُنَّة دِينكُمْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء يُبَيِّن لَكُمْ سَائِر مَا بِكُمْ حَاجَة إِلَيْهِ فِي دِينكُمْ .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ↓
" إِنَّمَا " فِي هَذِهِ الْآيَة لِلْحَصْرِ ; الْمَعْنَى : لَا يَتِمّ وَلَا يَكْمُل إِيمَان مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُوله إِلَّا بِأَنْ يَكُون مِنْ الرَّسُول سَامِعًا غَيْر مُعَنِّت فِي أَنْ يَكُون الرَّسُول يُرِيد إِكْمَال أَمْر فَيُرِيد هُوَ إِفْسَاده بِزَوَالِهِ فِي وَقْت الْجَمْع , وَنَحْو ذَلِكَ. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي أَوَّل السُّورَة أَنَّهُ أَنْزَلَ آيَات بَيِّنَات , وَإِنَّمَا النُّزُول عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَخَتَمَ السُّورَة بِتَأْكِيدِ الْأَمْر فِي مُتَابَعَته عَلَيْهِ السَّلَام ; لِيُعْلِم أَنَّ أَوَامِره كَأَوَامِرِ الْقُرْآن .
وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمْر الْجَامِع مَا هُوَ ; فَقِيلَ : الْمُرَاد بِهِ مَا لِلْإِمَامِ مِنْ حَاجَة إِلَى تَجْمَع النَّاس فِيهِ لِإِذَاعَةِ مَصْلَحَة , مِنْ إِقَامَة سُنَّة فِي الدِّين , أَوْ لِتَرْهِيبِ عَدُوّ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَلِلْحُرُوبِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر " [ آل عِمْرَان : 159 ] . فَإِذَا كَانَ أَمْر يَشْمَلهُمْ نَفْعه وَضُرّه جَمَعَهُمْ لِلتَّشَاوُرِ فِي ذَلِكَ. وَالْإِمَام الَّذِي يَتَرَقَّب إِذْنه هُوَ إِمَام الْإِمْرَة , فَلَا يَذْهَب أَحَد لِعُذْرٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ , فَإِذَا ذَهَبَ بِإِذْنِهِ اِرْتَفَعَ عَنْهُ الظَّنّ السَّيِّئ . وَقَالَ مَكْحُول وَالزُّهْرِيّ : الْجُمْعَة مِنْ الْأَمْر الْجَامِع . وَإِمَام الصَّلَاة يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَأْذَن إِذَا قَدَّمَهُ إِمَام الْإِمْرَة , إِذَا كَانَ يَرَى الْمُسْتَأْذِن. قَالَ اِبْن سِيرِينَ : كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْإِمَام عَلَى الْمِنْبَر ; فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قَالَ زِيَاد : مَنْ جَعَلَ يَده عَلَى فِيهِ فَلْيَخْرُجْ دُون إِذْن , وَقَدْ كَانَ هَذَا بِالْمَدِينَةِ حَتَّى أَنَّ سَهْل بْن أَبِي صَالِح رَعَفَ يَوْم الْجُمْعَة فَاسْتَأْذَنَ الْإِمَام . وَظَاهِر الْآيَة يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَأْذِن أَمِير الْإِمْرَة الَّذِي هُوَ فِي مَقْعَد النُّبُوَّة , فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لَهُ رَأْي فِي حَبْس ذَلِكَ الرَّجُل لِأَمْرٍ مِنْ أُمُور الدِّين . فَأَمَّا إِمَام الصَّلَاة فَقَطْ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ وَكِيل عَلَى جُزْء مِنْ أَجْزَاء الدِّين لِلَّذِي هُوَ فِي مَقْعَد النُّبُوَّة . وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي حَفْر الْخَنْدَق حِين جَاءَتْ قُرَيْش وَقَائِدهَا أَبُو سُفْيَان , وَغَطَفَان وَقَائِدهَا عُيَيْنَة بْن حِصْن ; فَضَرَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَق عَلَى الْمَدِينَة , وَذَلِكَ فِي شَوَّال سَنَة خَمْس مِنْ الْهِجْرَة , فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا مِنْ الْعَمَل وَيَعْتَذِرُونَ بِأَعْذَارٍ كَاذِبَة . وَنَحْوه رَوَى أَشْهَب وَابْن عَبْد الْحَكَم عَنْ مَالِك , وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق . وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , اِسْتَأْذَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك فِي الرَّجْعَة فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ : ( اِنْطَلِقْ فَوَاَللَّهِ مَا أَنْتَ بِمُنَافِقٍ ) يُرِيد بِذَلِكَ أَنْ يُسْمِع الْمُنَافِقِينَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : إِنَّمَا اِسْتَأْذَنَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي الْعُمْرَة فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا أَذِنَ لَهُ : ( يَا أَبَا حَفْص لَا تَنْسَنَا فِي صَالِح دُعَائِك ) .
قُلْت : وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِتَنَاوُلِهِ جَمِيع الْأَقْوَال . وَاخْتَارَ اِبْن الْعَرَبِيّ مَا ذَكَرَهُ فِي نُزُول الْآيَة عَنْ مَالِك وَابْن إِسْحَاق , وَأَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوص فِي الْحَرْب . قَالَ : وَاَلَّذِي يُبَيِّن ذَلِكَ أَمْرَانِ : أَحَدهمَا : قَوْله فِي الْآيَة الْأُخْرَى : " قَدْ يَعْلَم اللَّه الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا " [ النُّور : 63 ] . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَلَوَّذُونَ وَيَخْرُجُونَ عَنْ الْجَمَاعَة وَيَتْرُكُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَمَرَ اللَّه جَمِيعهمْ بِأَلَّا يَخْرُج أَحَد مِنْهُمْ حَتَّى يَأْذَن لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّن إِيمَانه. الثَّانِي : قَوْله : " لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ " وَأَيّ إِذْن فِي الْحَدَث وَالْإِمَام يَخْطُب , وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خِيَار فِي مَنْعه وَلَا إِبْقَائِهِ , وَقَدْ قَالَ : " فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ " ; فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَخْصُوص فِي الْحَرْب .
قُلْت : الْقَوْل بِالْعُمُومِ أَوْلَى وَأَرْفَع وَأَحْسَن وَأَعْلَى .
فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَأْذَن وَإِنْ شَاءَ مَنَعَ . وَقَالَ قَتَادَة : قَوْله : " فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ " مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ : " عَفَا اللَّه عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ " [ التَّوْبَة : 43 ] .
أَيْ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ الْجَمَاعَة إِنْ عَلِمْت لَهُمْ عُذْرًا . " إِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم " .
وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمْر الْجَامِع مَا هُوَ ; فَقِيلَ : الْمُرَاد بِهِ مَا لِلْإِمَامِ مِنْ حَاجَة إِلَى تَجْمَع النَّاس فِيهِ لِإِذَاعَةِ مَصْلَحَة , مِنْ إِقَامَة سُنَّة فِي الدِّين , أَوْ لِتَرْهِيبِ عَدُوّ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَلِلْحُرُوبِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر " [ آل عِمْرَان : 159 ] . فَإِذَا كَانَ أَمْر يَشْمَلهُمْ نَفْعه وَضُرّه جَمَعَهُمْ لِلتَّشَاوُرِ فِي ذَلِكَ. وَالْإِمَام الَّذِي يَتَرَقَّب إِذْنه هُوَ إِمَام الْإِمْرَة , فَلَا يَذْهَب أَحَد لِعُذْرٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ , فَإِذَا ذَهَبَ بِإِذْنِهِ اِرْتَفَعَ عَنْهُ الظَّنّ السَّيِّئ . وَقَالَ مَكْحُول وَالزُّهْرِيّ : الْجُمْعَة مِنْ الْأَمْر الْجَامِع . وَإِمَام الصَّلَاة يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَأْذَن إِذَا قَدَّمَهُ إِمَام الْإِمْرَة , إِذَا كَانَ يَرَى الْمُسْتَأْذِن. قَالَ اِبْن سِيرِينَ : كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْإِمَام عَلَى الْمِنْبَر ; فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قَالَ زِيَاد : مَنْ جَعَلَ يَده عَلَى فِيهِ فَلْيَخْرُجْ دُون إِذْن , وَقَدْ كَانَ هَذَا بِالْمَدِينَةِ حَتَّى أَنَّ سَهْل بْن أَبِي صَالِح رَعَفَ يَوْم الْجُمْعَة فَاسْتَأْذَنَ الْإِمَام . وَظَاهِر الْآيَة يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَأْذِن أَمِير الْإِمْرَة الَّذِي هُوَ فِي مَقْعَد النُّبُوَّة , فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لَهُ رَأْي فِي حَبْس ذَلِكَ الرَّجُل لِأَمْرٍ مِنْ أُمُور الدِّين . فَأَمَّا إِمَام الصَّلَاة فَقَطْ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ وَكِيل عَلَى جُزْء مِنْ أَجْزَاء الدِّين لِلَّذِي هُوَ فِي مَقْعَد النُّبُوَّة . وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي حَفْر الْخَنْدَق حِين جَاءَتْ قُرَيْش وَقَائِدهَا أَبُو سُفْيَان , وَغَطَفَان وَقَائِدهَا عُيَيْنَة بْن حِصْن ; فَضَرَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَق عَلَى الْمَدِينَة , وَذَلِكَ فِي شَوَّال سَنَة خَمْس مِنْ الْهِجْرَة , فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا مِنْ الْعَمَل وَيَعْتَذِرُونَ بِأَعْذَارٍ كَاذِبَة . وَنَحْوه رَوَى أَشْهَب وَابْن عَبْد الْحَكَم عَنْ مَالِك , وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق . وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , اِسْتَأْذَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك فِي الرَّجْعَة فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ : ( اِنْطَلِقْ فَوَاَللَّهِ مَا أَنْتَ بِمُنَافِقٍ ) يُرِيد بِذَلِكَ أَنْ يُسْمِع الْمُنَافِقِينَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : إِنَّمَا اِسْتَأْذَنَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي الْعُمْرَة فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا أَذِنَ لَهُ : ( يَا أَبَا حَفْص لَا تَنْسَنَا فِي صَالِح دُعَائِك ) .
قُلْت : وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِتَنَاوُلِهِ جَمِيع الْأَقْوَال . وَاخْتَارَ اِبْن الْعَرَبِيّ مَا ذَكَرَهُ فِي نُزُول الْآيَة عَنْ مَالِك وَابْن إِسْحَاق , وَأَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوص فِي الْحَرْب . قَالَ : وَاَلَّذِي يُبَيِّن ذَلِكَ أَمْرَانِ : أَحَدهمَا : قَوْله فِي الْآيَة الْأُخْرَى : " قَدْ يَعْلَم اللَّه الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا " [ النُّور : 63 ] . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَلَوَّذُونَ وَيَخْرُجُونَ عَنْ الْجَمَاعَة وَيَتْرُكُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَمَرَ اللَّه جَمِيعهمْ بِأَلَّا يَخْرُج أَحَد مِنْهُمْ حَتَّى يَأْذَن لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّن إِيمَانه. الثَّانِي : قَوْله : " لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ " وَأَيّ إِذْن فِي الْحَدَث وَالْإِمَام يَخْطُب , وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خِيَار فِي مَنْعه وَلَا إِبْقَائِهِ , وَقَدْ قَالَ : " فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ " ; فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَخْصُوص فِي الْحَرْب .
قُلْت : الْقَوْل بِالْعُمُومِ أَوْلَى وَأَرْفَع وَأَحْسَن وَأَعْلَى .
فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَأْذَن وَإِنْ شَاءَ مَنَعَ . وَقَالَ قَتَادَة : قَوْله : " فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ " مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ : " عَفَا اللَّه عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ " [ التَّوْبَة : 43 ] .
أَيْ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ الْجَمَاعَة إِنْ عَلِمْت لَهُمْ عُذْرًا . " إِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم " .
لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ↓
يُرِيد : يَصِيح مِنْ بَعِيد : يَا أَبَا الْقَاسِم ! بَلْ عَظِّمُوهُ كَمَا قَالَ فِي الْحُجُرَات : " إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتهمْ عِنْد رَسُول اللَّه " [ الْحُجُرَات : 3 ] الْآيَة . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد : الْمَعْنَى قُولُوا يَا رَسُول اللَّه , فِي رِفْق وَلِين , وَلَا تَقُولُوا يَا مُحَمَّد بِتَجَهُّمٍ . وَقَالَ قَتَادَة : أَمَرَهُمْ أَنْ يُشَرِّفُوهُ وَيُفَخِّمُوهُ . اِبْن عَبَّاس : لَا تَتَعَرَّضُوا لِدُعَاءِ الرَّسُول عَلَيْكُمْ بِإِسْخَاطِهِ فَإِنَّ دَعْوَته مُوجِبَة .
التَّسَلُّل وَالِانْسِلَال : الْخُرُوج وَاللِّوَاذ مِنْ الْمُلَاوَذَة , وَهِيَ أَنْ تَسْتَتِر بِشَيْءٍ مَخَافَة مَنْ يَرَاك ; فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَسَلَّلُونَ عَنْ صَلَاة الْجُمْعَة . " لِوَاذًا " مَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال ; أَيْ مُتَلَاوِذِينَ , أَيْ يَلُوذ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ , يَنْضَمّ إِلَيْهِ اِسْتِتَارًا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَثْقَل مِنْ يَوْم الْجُمْعَة وَحُضُور الْخُطْبَة ; حَكَاهُ النَّقَّاش , وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ . وَقِيلَ : كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فِي الْجِهَاد رُجُوعًا عَنْهُ يَلُوذ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ. وَقَالَ الْحَسَن : لِوَاذًا فِرَارًا مِنْ الْجِهَاد ; وَمِنْهُ قَوْل حَسَّان : وَقُرَيْش تَجُول مِنَّا لِوَاذًا لَمْ تُحَافِظ وَخَفَّ مِنْهَا الْحُلُوم وَصَحَّتْ وَاوهَا لِتَحَرُّكِهَا فِي لَاوَذَ . يُقَال : لَاوَذَ يُلَاوِذ مُلَاوَذَة وَلِوَاذًا . وَلَاذَ يَلُوذ لَوْذًا وَلِيَاذًا ; اِنْقَلَبَتْ الْوَاو يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا اِتِّبَاعًا لَلَاذَ فِي الِاعْتِلَال ; فَإِذَا كَانَ مَصْدَر فَاعِل لَمْ يُعَلّ ; لِأَنَّ فَاعَلَ لَا يَجُوز أَنْ يُعَلّ .
بِهَذِهِ الْآيَة اِحْتَجَّ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّ الْأَمْر عَلَى الْوُجُوب . وَوَجْههَا أَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَة أَمْره , وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ : " أَنْ تُصِيبهُمْ فِتْنَة أَوْ يُصِيبهُمْ عَذَاب أَلِيم " فَتَحْرُم مُخَالَفَته , فَيَجِب اِمْتِثَال أَمْره. وَالْفِتْنَة هُنَا الْقَتْل ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . عَطَاء : الزَّلَازِل وَالْأَهْوَال. جَعْفَر بْن مُحَمَّد : سُلْطَان جَائِر يُسَلَّط عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : الطَّبْع عَلَى الْقُلُوب بِشُؤْمِ مُخَالَفَة الرَّسُول . وَالضَّمِير فِي " أَمْره " قِيلَ هُوَ عَائِد إِلَى أَمْر اللَّه تَعَالَى ; قَالَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام . وَقِيلَ : إِلَى أَمْر رَسُول عَلَيْهِ السَّلَام ; قَالَهُ قَتَادَة . وَمَعْنَى " يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْره " أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْ أَمْره . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْأَخْفَش : " عَنْ " فِي هَذَا الْمَوْضِع زَائِدَة. وَقَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ ; وَالْمَعْنَى : يُخَالِفُونَ بَعْد أَمْره ; كَمَا قَالَ : . .. لَمْ تَنْتَطِق عَنْ تَفَضُّل وَمِنْهُ قَوْله : " فَفَسَقَ عَنْ أَمْر رَبّه " [ الْكَهْف : 50 ] أَيْ بَعْد أَمْر رَبّه . وَ " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب " بِيَحْذَر " . وَلَا يَجُوز عِنْد أَكْثَر النَّحْوِيِّينَ حَذِرَ زَيْدًا , وَهُوَ فِي " أَنْ " جَائِز ; لِأَنَّ حُرُوف الْخَفْض تُحْذَف مَعَهَا .
التَّسَلُّل وَالِانْسِلَال : الْخُرُوج وَاللِّوَاذ مِنْ الْمُلَاوَذَة , وَهِيَ أَنْ تَسْتَتِر بِشَيْءٍ مَخَافَة مَنْ يَرَاك ; فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَسَلَّلُونَ عَنْ صَلَاة الْجُمْعَة . " لِوَاذًا " مَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال ; أَيْ مُتَلَاوِذِينَ , أَيْ يَلُوذ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ , يَنْضَمّ إِلَيْهِ اِسْتِتَارًا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَثْقَل مِنْ يَوْم الْجُمْعَة وَحُضُور الْخُطْبَة ; حَكَاهُ النَّقَّاش , وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ . وَقِيلَ : كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فِي الْجِهَاد رُجُوعًا عَنْهُ يَلُوذ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ. وَقَالَ الْحَسَن : لِوَاذًا فِرَارًا مِنْ الْجِهَاد ; وَمِنْهُ قَوْل حَسَّان : وَقُرَيْش تَجُول مِنَّا لِوَاذًا لَمْ تُحَافِظ وَخَفَّ مِنْهَا الْحُلُوم وَصَحَّتْ وَاوهَا لِتَحَرُّكِهَا فِي لَاوَذَ . يُقَال : لَاوَذَ يُلَاوِذ مُلَاوَذَة وَلِوَاذًا . وَلَاذَ يَلُوذ لَوْذًا وَلِيَاذًا ; اِنْقَلَبَتْ الْوَاو يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا اِتِّبَاعًا لَلَاذَ فِي الِاعْتِلَال ; فَإِذَا كَانَ مَصْدَر فَاعِل لَمْ يُعَلّ ; لِأَنَّ فَاعَلَ لَا يَجُوز أَنْ يُعَلّ .
بِهَذِهِ الْآيَة اِحْتَجَّ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّ الْأَمْر عَلَى الْوُجُوب . وَوَجْههَا أَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَة أَمْره , وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ : " أَنْ تُصِيبهُمْ فِتْنَة أَوْ يُصِيبهُمْ عَذَاب أَلِيم " فَتَحْرُم مُخَالَفَته , فَيَجِب اِمْتِثَال أَمْره. وَالْفِتْنَة هُنَا الْقَتْل ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . عَطَاء : الزَّلَازِل وَالْأَهْوَال. جَعْفَر بْن مُحَمَّد : سُلْطَان جَائِر يُسَلَّط عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : الطَّبْع عَلَى الْقُلُوب بِشُؤْمِ مُخَالَفَة الرَّسُول . وَالضَّمِير فِي " أَمْره " قِيلَ هُوَ عَائِد إِلَى أَمْر اللَّه تَعَالَى ; قَالَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام . وَقِيلَ : إِلَى أَمْر رَسُول عَلَيْهِ السَّلَام ; قَالَهُ قَتَادَة . وَمَعْنَى " يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْره " أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْ أَمْره . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْأَخْفَش : " عَنْ " فِي هَذَا الْمَوْضِع زَائِدَة. وَقَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ ; وَالْمَعْنَى : يُخَالِفُونَ بَعْد أَمْره ; كَمَا قَالَ : . .. لَمْ تَنْتَطِق عَنْ تَفَضُّل وَمِنْهُ قَوْله : " فَفَسَقَ عَنْ أَمْر رَبّه " [ الْكَهْف : 50 ] أَيْ بَعْد أَمْر رَبّه . وَ " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب " بِيَحْذَر " . وَلَا يَجُوز عِنْد أَكْثَر النَّحْوِيِّينَ حَذِرَ زَيْدًا , وَهُوَ فِي " أَنْ " جَائِز ; لِأَنَّ حُرُوف الْخَفْض تُحْذَف مَعَهَا .
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ↓
خَلْقًا وَمِلْكًا .
فَهُوَ يُجَازِيكُمْ بِهِ. وَ " يَعْلَم " هُنَا بِمَعْنَى عَلِمَ .
بَعْد مَا كَانَ فِي خِطَاب رَجَعَ فِي خَبَر وَهَذَا يُقَال لَهُ : خِطَاب التَّلْوِين .
أَيْ يُخْبِرهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَيُجَازِيهِمْ بِهَا .
مِنْ أَعْمَالهمْ وَأَحْوَالهمْ. خُتِمَتْ السُّورَة بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ التَّفْسِير , وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى التَّيْسِير
فَهُوَ يُجَازِيكُمْ بِهِ. وَ " يَعْلَم " هُنَا بِمَعْنَى عَلِمَ .
بَعْد مَا كَانَ فِي خِطَاب رَجَعَ فِي خَبَر وَهَذَا يُقَال لَهُ : خِطَاب التَّلْوِين .
أَيْ يُخْبِرهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَيُجَازِيهِمْ بِهَا .
مِنْ أَعْمَالهمْ وَأَحْوَالهمْ. خُتِمَتْ السُّورَة بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ التَّفْسِير , وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى التَّيْسِير