أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ↓
الْأَرْض قَرَارًا " أَيْ مُسْتَقَرًّا .
وَجَعَلَ خِلَالهَا أَنْهَارًا " أَيْ وَسَطهَا مِثْل : " وَفَجَّرْنَا خِلَالهمَا نَهَرًا " [ الْكَهْف : 33 ] .
يَعْنِي جِبَالًا ثَوَابِت تُمْسِكهَا وَتَمْنَعهَا مِنْ الْحَرَكَة .
الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا " مَانِعًا مِنْ قُدْرَته لِئَلَّا يَخْتَلِط الْأُجَاج بِالْعَذْبِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سُلْطَانًا مِنْ قُدْرَته فَلَا هَذَا يُغَيِّر ذَاكَ وَلَا ذَاكَ يُغَيِّر هَذَا . وَالْحَجْز الْمَنْع .
اللَّه " أَيْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَى هَذَا غَيْره فَلِمَ يَعْبُدُونَ مَا لَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَع .
يَعْلَمُونَ " يَعْنِي كَأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ اللَّه فَلَا يَعْلَمُونَ مَا يَجِب لَهُ مِنْ الْوَحْدَانِيَّة .
وَجَعَلَ خِلَالهَا أَنْهَارًا " أَيْ وَسَطهَا مِثْل : " وَفَجَّرْنَا خِلَالهمَا نَهَرًا " [ الْكَهْف : 33 ] .
يَعْنِي جِبَالًا ثَوَابِت تُمْسِكهَا وَتَمْنَعهَا مِنْ الْحَرَكَة .
الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا " مَانِعًا مِنْ قُدْرَته لِئَلَّا يَخْتَلِط الْأُجَاج بِالْعَذْبِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سُلْطَانًا مِنْ قُدْرَته فَلَا هَذَا يُغَيِّر ذَاكَ وَلَا ذَاكَ يُغَيِّر هَذَا . وَالْحَجْز الْمَنْع .
اللَّه " أَيْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَى هَذَا غَيْره فَلِمَ يَعْبُدُونَ مَا لَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَع .
يَعْلَمُونَ " يَعْنِي كَأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ اللَّه فَلَا يَعْلَمُونَ مَا يَجِب لَهُ مِنْ الْوَحْدَانِيَّة .
أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ ↓
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ ذُو الضَّرُورَة الْمَجْهُود . وَقَالَ السُّدِّيّ : الَّذِي لَا حَوْل لَهُ وَلَا قُوَّة . وَقَالَ ذُو النُّون : هُوَ الَّذِي قَطَعَ الْعَلَائِق عَمَّا دُون اللَّه . وَقَالَ أَبُو جَعْفَر وَأَبُو عُثْمَان النَّيْسَابُورِيّ : هُوَ الْمُفْلِس . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : هُوَ الَّذِي إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّه دَاعِيًا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَسِيلَة مِنْ طَاعَة قَدَّمَهَا . وَجَاءَ رَجُل إِلَى مَالِك بْن دِينَار فَقَالَ : أَنَا أَسْأَلك بِاَللَّهِ أَنْ تَدْعُو لِي فَأَنَا مُضْطَرّ ; قَالَ : إِذًا فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ يُجِيب الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ . قَالَ الشَّاعِر : وَإِنِّي لَأَدْعُو اللَّه وَالْأَمْر ضَيِّق عَلَيَّ فَمَا يَنْفِك أَنْ يَتَفَرَّجَا وَرُبَّ أَخٍ سُدَّتْ عَلَيْهِ وُجُوهه أَصَابَ لَهَا لَمَّا دَعَا اللَّه مَخْرَجَا
وَفِي مُسْنَد أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ أَبِي بَكْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاء الْمُضْطَرّ : ( اللَّهُمَّ رَحْمَتك أَرْجُو فَلَا تَكِلنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ ) .
ضَمِنَ اللَّه تَعَالَى إِجَابَة الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ , وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسه ; وَالسَّبَب فِي ذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورَة إِلَيْهِ بِاللِّجَاءِ يَنْشَأ عَنْ الْإِخْلَاص , وَقَطْع الْقَلْب عَمَّا سِوَاهُ ; وَلِلْإِخْلَاصِ عِنْده سُبْحَانه مَوْقِع وَذِمَّة , وُجِدَ مِنْ مُؤْمِن أَوْ كَافِر , طَائِع أَوْ فَاجِر ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيح عَاصِف وَجَاءَهُمْ الْمَوْج مِنْ كُلّ مَكَان وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين لَئِنْ أَنْجَيْتنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ " [ يُونُس : 22 ] وَقَوْله : " فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ " [ الْعَنْكَبُوت : 65 ] فَأَجَابَهُمْ عِنْد ضَرُورَتهمْ وَوُقُوع إِخْلَاصهمْ , مَعَ عِلْمه أَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى شِرْكهمْ وَكُفْرهمْ . وَقَالَ تَعَالَى : " فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْك دَعَوْا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين " فَيُجِيب الْمُضْطَرّ لِمَوْضِعِ اِضْطِرَاره وَإِخْلَاصه . وَفِي الْحَدِيث : ( ثَلَاث دَعَوَات مُسْتَجَابَات لَا شَكّ فِيهِنَّ دَعْوَة الْمَظْلُوم وَدَعْوَة الْمُسَافِر وَدَعْوَة الْوَالِد عَلَى وَلَده ) ذَكَرَهُ صَاحِب الشِّهَاب ; وَهُوَ حَدِيث صَحِيح . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى أَرْض الْيَمَن ( وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم فَلَيْسَ بَيْنهَا وَبَيْن اللَّه حِجَاب ) وَفِي كِتَاب الشِّهَاب : ( اِتَّقُوا دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنَّهَا تُحْمَل عَلَى الْغَمَام فَيَقُول اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْد حِين ) وَهُوَ صَحِيح أَيْضًا . وَخَرَّجَ الْآجُرِّيّ مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِنِّي لَا أَرُدّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَم كَافِر ) فَيُجِيب الْمَظْلُوم لِمَوْضِعِ إِخْلَاصه بِضَرُورَتِهِ بِمُقْتَضَى كَرَمه , وَإِجَابَة لِإِخْلَاصِهِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا , وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فَاجِرًا فِي دِينه ; فَفُجُور الْفَاجِر وَكُفْر الْكَافِر لَا يَعُود مِنْهُ نَقْص وَلَا وَهَن عَلَى مَمْلَكَة سَيِّده , فَلَا يَمْنَعهُ مَا قَضَى لِلْمُضْطَرِّ مِنْ إِجَابَته . وَفَسَّرَ إِجَابَة دَعْوَة الْمَظْلُوم بِالنُّصْرَةِ عَلَى ظَالِمه بِمَا شَاءَ سُبْحَانه مِنْ قَهْر لَهُ , أَوْ اِقْتِصَاص مِنْهُ , أَوْ تَسْلِيط ظَالِم آخَر عَلَيْهِ يَقْهَرهُ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْض الظَّالِمِينَ بَعْضًا " [ الْأَنْعَام : 129 ] وَأَكَّدَ سُرْعَة إِجَابَتهَا بِقَوْلِهِ : ( تُحْمَل عَلَى الْغَمَام ) وَمَعْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُوَكِّل مَلَائِكَته بِتَلَقِّي دَعْوَة الْمَظْلُوم وَبِحَمْلِهَا عَلَى الْغَمَام , فَيَعْرُجُوا بِهَا إِلَى السَّمَاء , وَالسَّمَاء قِبْلَة الدُّعَاء لِيَرَاهَا الْمَلَائِكَة كُلّهمْ , فَيَظْهَر مِنْهُ مُعَاوَنَة الْمَظْلُوم , وَشَفَاعَة مِنْهُمْ لَهُ فِي إِجَابَة دَعَوْته , رَحْمَة لَهُ . وَفِي هَذَا تَحْذِير مِنْ الظُّلْم جُمْلَة , لِمَا فِيهِ مِنْ سَخَط اللَّه وَمَعْصِيَته وَمُخَالَفَة أَمْره ; حَيْثُ قَالَ عَلَى لِسَان نَبِيّه فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره : ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْت الظُّلْم عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا . .. ) الْحَدِيث . فَالْمَظْلُوم مُضْطَرّ , وَيَقْرُب مِنْهُ الْمُسَافِر ; لِأَنَّهُ مُنْقَطِع عَنْ الْأَهْل وَالْوَطَن مُنْفَرِد عَنْ الصَّدِيق وَالْحَمِيم , لَا يَسْكُن قَلْبه إِلَى مُسْعِد وَلَا مُعِين لِغُرْبَتِهِ . فَتَصْدُق ضَرُورَته إِلَى الْمَوْلَى , فَيُخْلِص إِلَيْهِ فِي اللِّجَاء , وَهُوَ الْمُجِيب لِلْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَاهُ , وَكَذَلِكَ دَعْوَة الْوَالِد عَلَى وَلَده , لَا تَصْدُر مِنْهُ مَعَ مَا يَعْلَم مِنْ حَنَّته عَلَيْهِ وَشَفَقَته , إِلَّا عِنْد تَكَامُل عَجْزه عَنْهُ , وَصِدْق ضَرُورَته ; وَإِيَاسه عَنْ بِرّ وَلَده , مَعَ وُجُود أَذِيَّته , فَيُسْرِع الْحَقّ إِلَى إِجَابَته .
السُّوء " أَيْ الضُّرّ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : الْجَوْر .
أَيْ سُكَّانهَا يُهْلِك قَوْمًا وَيُنْشِئ آخَرِينَ . وَفِي كِتَاب النَّقَّاش : أَيْ وَيَجْعَل أَوْلَادكُمْ خَلَفًا مِنْكُمْ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : خَلَفًا مِنْ الْكُفَّار يَنْزِلُونَ أَرْضهمْ , وَطَاعَة اللَّه بَعْد كُفْرهمْ .
أَإِلَه مَعَ اللَّه " عَلَى جِهَة التَّوْبِيخ ; كَأَنَّهُ قَالَ أَمَعَ اللَّه وَيْلكُمْ إِلَه ; فَ " إِلَه " مَرْفُوع بِ " مَعَ " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَرْفُوعًا بِإِضْمَارِ أَإِلَه مَعَ اللَّه يَفْعَل ذَلِكَ فَتَعْبُدُوهُ . وَالْوَقْف عَلَى " مَعَ اللَّه " حَسَن .
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَهِشَام وَيَعْقُوب : " يَذَّكَّرُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَر , كَقَوْلِهِ : " بَلْ أَكْثَرهمْ لَا يَعْلَمُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 24 ] وَ " تَعَالَى اللَّه عَمَّا يُشْرِكُونَ " فَأَخْبَرَ فِيمَا قَبْلهَا وَبَعْدهَا ; وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم . الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِقَوْلِهِ : " وَيَجْعَلكُمْ خُلَفَاء الْأَرْض " .
وَفِي مُسْنَد أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ أَبِي بَكْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاء الْمُضْطَرّ : ( اللَّهُمَّ رَحْمَتك أَرْجُو فَلَا تَكِلنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ ) .
ضَمِنَ اللَّه تَعَالَى إِجَابَة الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ , وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسه ; وَالسَّبَب فِي ذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورَة إِلَيْهِ بِاللِّجَاءِ يَنْشَأ عَنْ الْإِخْلَاص , وَقَطْع الْقَلْب عَمَّا سِوَاهُ ; وَلِلْإِخْلَاصِ عِنْده سُبْحَانه مَوْقِع وَذِمَّة , وُجِدَ مِنْ مُؤْمِن أَوْ كَافِر , طَائِع أَوْ فَاجِر ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيح عَاصِف وَجَاءَهُمْ الْمَوْج مِنْ كُلّ مَكَان وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين لَئِنْ أَنْجَيْتنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ " [ يُونُس : 22 ] وَقَوْله : " فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ " [ الْعَنْكَبُوت : 65 ] فَأَجَابَهُمْ عِنْد ضَرُورَتهمْ وَوُقُوع إِخْلَاصهمْ , مَعَ عِلْمه أَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى شِرْكهمْ وَكُفْرهمْ . وَقَالَ تَعَالَى : " فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْك دَعَوْا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين " فَيُجِيب الْمُضْطَرّ لِمَوْضِعِ اِضْطِرَاره وَإِخْلَاصه . وَفِي الْحَدِيث : ( ثَلَاث دَعَوَات مُسْتَجَابَات لَا شَكّ فِيهِنَّ دَعْوَة الْمَظْلُوم وَدَعْوَة الْمُسَافِر وَدَعْوَة الْوَالِد عَلَى وَلَده ) ذَكَرَهُ صَاحِب الشِّهَاب ; وَهُوَ حَدِيث صَحِيح . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى أَرْض الْيَمَن ( وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم فَلَيْسَ بَيْنهَا وَبَيْن اللَّه حِجَاب ) وَفِي كِتَاب الشِّهَاب : ( اِتَّقُوا دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنَّهَا تُحْمَل عَلَى الْغَمَام فَيَقُول اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْد حِين ) وَهُوَ صَحِيح أَيْضًا . وَخَرَّجَ الْآجُرِّيّ مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِنِّي لَا أَرُدّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَم كَافِر ) فَيُجِيب الْمَظْلُوم لِمَوْضِعِ إِخْلَاصه بِضَرُورَتِهِ بِمُقْتَضَى كَرَمه , وَإِجَابَة لِإِخْلَاصِهِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا , وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فَاجِرًا فِي دِينه ; فَفُجُور الْفَاجِر وَكُفْر الْكَافِر لَا يَعُود مِنْهُ نَقْص وَلَا وَهَن عَلَى مَمْلَكَة سَيِّده , فَلَا يَمْنَعهُ مَا قَضَى لِلْمُضْطَرِّ مِنْ إِجَابَته . وَفَسَّرَ إِجَابَة دَعْوَة الْمَظْلُوم بِالنُّصْرَةِ عَلَى ظَالِمه بِمَا شَاءَ سُبْحَانه مِنْ قَهْر لَهُ , أَوْ اِقْتِصَاص مِنْهُ , أَوْ تَسْلِيط ظَالِم آخَر عَلَيْهِ يَقْهَرهُ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْض الظَّالِمِينَ بَعْضًا " [ الْأَنْعَام : 129 ] وَأَكَّدَ سُرْعَة إِجَابَتهَا بِقَوْلِهِ : ( تُحْمَل عَلَى الْغَمَام ) وَمَعْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُوَكِّل مَلَائِكَته بِتَلَقِّي دَعْوَة الْمَظْلُوم وَبِحَمْلِهَا عَلَى الْغَمَام , فَيَعْرُجُوا بِهَا إِلَى السَّمَاء , وَالسَّمَاء قِبْلَة الدُّعَاء لِيَرَاهَا الْمَلَائِكَة كُلّهمْ , فَيَظْهَر مِنْهُ مُعَاوَنَة الْمَظْلُوم , وَشَفَاعَة مِنْهُمْ لَهُ فِي إِجَابَة دَعَوْته , رَحْمَة لَهُ . وَفِي هَذَا تَحْذِير مِنْ الظُّلْم جُمْلَة , لِمَا فِيهِ مِنْ سَخَط اللَّه وَمَعْصِيَته وَمُخَالَفَة أَمْره ; حَيْثُ قَالَ عَلَى لِسَان نَبِيّه فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره : ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْت الظُّلْم عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا . .. ) الْحَدِيث . فَالْمَظْلُوم مُضْطَرّ , وَيَقْرُب مِنْهُ الْمُسَافِر ; لِأَنَّهُ مُنْقَطِع عَنْ الْأَهْل وَالْوَطَن مُنْفَرِد عَنْ الصَّدِيق وَالْحَمِيم , لَا يَسْكُن قَلْبه إِلَى مُسْعِد وَلَا مُعِين لِغُرْبَتِهِ . فَتَصْدُق ضَرُورَته إِلَى الْمَوْلَى , فَيُخْلِص إِلَيْهِ فِي اللِّجَاء , وَهُوَ الْمُجِيب لِلْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَاهُ , وَكَذَلِكَ دَعْوَة الْوَالِد عَلَى وَلَده , لَا تَصْدُر مِنْهُ مَعَ مَا يَعْلَم مِنْ حَنَّته عَلَيْهِ وَشَفَقَته , إِلَّا عِنْد تَكَامُل عَجْزه عَنْهُ , وَصِدْق ضَرُورَته ; وَإِيَاسه عَنْ بِرّ وَلَده , مَعَ وُجُود أَذِيَّته , فَيُسْرِع الْحَقّ إِلَى إِجَابَته .
السُّوء " أَيْ الضُّرّ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : الْجَوْر .
أَيْ سُكَّانهَا يُهْلِك قَوْمًا وَيُنْشِئ آخَرِينَ . وَفِي كِتَاب النَّقَّاش : أَيْ وَيَجْعَل أَوْلَادكُمْ خَلَفًا مِنْكُمْ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : خَلَفًا مِنْ الْكُفَّار يَنْزِلُونَ أَرْضهمْ , وَطَاعَة اللَّه بَعْد كُفْرهمْ .
أَإِلَه مَعَ اللَّه " عَلَى جِهَة التَّوْبِيخ ; كَأَنَّهُ قَالَ أَمَعَ اللَّه وَيْلكُمْ إِلَه ; فَ " إِلَه " مَرْفُوع بِ " مَعَ " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَرْفُوعًا بِإِضْمَارِ أَإِلَه مَعَ اللَّه يَفْعَل ذَلِكَ فَتَعْبُدُوهُ . وَالْوَقْف عَلَى " مَعَ اللَّه " حَسَن .
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَهِشَام وَيَعْقُوب : " يَذَّكَّرُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَر , كَقَوْلِهِ : " بَلْ أَكْثَرهمْ لَا يَعْلَمُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 24 ] وَ " تَعَالَى اللَّه عَمَّا يُشْرِكُونَ " فَأَخْبَرَ فِيمَا قَبْلهَا وَبَعْدهَا ; وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم . الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِقَوْلِهِ : " وَيَجْعَلكُمْ خُلَفَاء الْأَرْض " .
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ↓
يَهْدِيكُمْ " أَيْ يُرْشِدكُمْ الطَّرِيق
ظُلُمَات الْبَرّ وَالْبَحْر " إِذَا سَافَرْتُمْ إِلَى الْبِلَاد الَّتِي تَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار . وَقِيلَ : وَجَعَلَ مَفَاوِز الْبَرّ الَّتِي لَا أَعْلَام لَهَا , وَلُجَج الْبِحَار كَأَنَّهَا ظُلُمَات ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا عَلَم يُهْتَدَى بِهِ .
يُرْسِل الرِّيَاح نَشْرًا بَيْن يَدَيْ رَحْمَته " أَيْ قُدَّام الْمَطَر بِاتِّفَاقِ أَهْل التَّأْوِيل .
يَفْعَل ذَلِكَ وَيُعِينهُ عَلَيْهِ .
عَمَّا يُشْرِكُونَ " مِنْ دُونه .
ظُلُمَات الْبَرّ وَالْبَحْر " إِذَا سَافَرْتُمْ إِلَى الْبِلَاد الَّتِي تَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار . وَقِيلَ : وَجَعَلَ مَفَاوِز الْبَرّ الَّتِي لَا أَعْلَام لَهَا , وَلُجَج الْبِحَار كَأَنَّهَا ظُلُمَات ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا عَلَم يُهْتَدَى بِهِ .
يُرْسِل الرِّيَاح نَشْرًا بَيْن يَدَيْ رَحْمَته " أَيْ قُدَّام الْمَطَر بِاتِّفَاقِ أَهْل التَّأْوِيل .
يَفْعَل ذَلِكَ وَيُعِينهُ عَلَيْهِ .
عَمَّا يُشْرِكُونَ " مِنْ دُونه .
أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ↓
يَبْدَأ الْخَلْق ثُمَّ يُعِيدهُ . .... " كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّهُ الْخَالِق الرَّازِق فَأَلْزَمَهُمْ الْإِعَادَة ; أَيْ إِذَا قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاء فَمِنْ ضَرُورَته الْقُدْرَة عَلَى الْإِعَادَة , وَهُوَ أَهْوَن عَلَيْهِ .
أَإِلَه مَعَ اللَّه " يَخْلُق وَيَرْزُق وَيُبْدِئ وَيُعِيد
كُنْتُمْ صَادِقِينَ " أَيْ حُجَّتكُمْ أَنَّ لِي شَرِيكًا , أَوْ حُجَّتكُمْ فِي أَنَّهُ صَنَعَ أَحَد شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء غَيْر اللَّه
أَإِلَه مَعَ اللَّه " يَخْلُق وَيَرْزُق وَيُبْدِئ وَيُعِيد
كُنْتُمْ صَادِقِينَ " أَيْ حُجَّتكُمْ أَنَّ لِي شَرِيكًا , أَوْ حُجَّتكُمْ فِي أَنَّهُ صَنَعَ أَحَد شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء غَيْر اللَّه
قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ↓
وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه . ... " وَعَنْ بَعْضهمْ : أَخْفَى غَيْبه عَلَى الْخَلْق , وَلَمْ يَطَّلِع عَلَيْهِ أَحَد لِئَلَّا يَأْمَن أَحَد مِنْ عَبِيده مَكْره . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ حِين سَأَلُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِيَام السَّاعَة . وَ " مَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع ; وَالْمَعْنَى : قُلْ لَا يَعْلَم أَحَد الْغَيْب إِلَّا اللَّه ; فَإِنَّهُ بَدَل مِنْ " مَنْ " قَالَ الزَّجَّاج . الْفَرَّاء : وَإِنَّمَا رُفِعَ مَا بَعْد " إِلَّا " لِأَنَّ مَا قَبْلهَا جَحْد , كَقَوْلِهِ : مَا ذَهَبَ أَحَد إِلَّا أَبُوك ; وَالْمَعْنَى وَاحِد . قَالَ الزَّجَّاج : وَمَنْ نَصَبَ نَصَبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاء ; يَعْنِي فِي الْكَلَام . قَالَ النَّحَّاس : وَسَمِعْته يَحْتَجّ بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى مَنْ صَدَّقَ مُنَجِّمًا ; وَقَالَ : أَخَاف أَنْ يَكْفُر بِهَذِهِ الْآيَة .
قُلْت : وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي " الْأَنْعَام " مُسْتَوْفًى وَقَالَتْ عَائِشَة : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَم مَا فِي غَد فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة ; وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " قُلْ لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه " [ النَّمْل : 65 ] خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاج مُنَجِّم فَاعْتَقَلَهُ الْحَجَّاج , ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَات فَعَدَّهُنَّ , ثُمَّ قَالَ : كَمْ فِي يَدِي مِنْ حَصَاة ؟ فَحَسَبَ الْمُنَجِّم ثُمَّ قَالَ : كَذَا ; فَأَصَابَ . ثُمَّ اِعْتَقَلَهُ فَأَخَذَ حَصَيَات لَمْ يَعُدّهُنَّ فَقَالَ : كَمْ فِي يَدِي ؟ فَحَسَبَ فَأَخْطَأَ ثُمَّ حَسَبَ فَأَخْطَأَ ; ثُمَّ قَالَ : أَيّهَا الْأَمِير أَظُنّك لَا تَعْرِف عَدَدهَا ; قَالَ : لَا . قَالَ : فَإِنِّي لَا أُصِيب . قَالَ : فَمَا الْفَرْق ؟ قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ أَحْصَيْته فَخَرَجَ عَنْ حَدّ الْغَيْب , وَهَذَا لَمْ تُحْصِهِ فَهُوَ غَيْب وَ " لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه "
وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عِيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَفَاتِح الْغَيْب خَمْس لَا يَعْلَم مَا تَغِيض الْأَرْحَام إِلَّا اللَّه وَلَا يَعْلَم مَا فِي غَد إِلَّا اللَّه وَلَا يَعْلَم مَتَى يَأْتِي الْمَطَر إِلَّا اللَّه وَلَا تَدْرِي نَفْس بِأَيِّ أَرْض تَمُوت إِلَّا اللَّه وَلَا يَعْلَم مَتَى تَقُوم السَّاعَة إِلَّا اللَّه ) . فَاَللَّه تَعَالَى عِنْده عِلْم الْغَيْب , وَبِيَدِهِ الطُّرُق الْمُوَصِّلَة إِلَيْهِ , لَا يَمْلِكهَا إِلَّا هُوَ , فَمَنْ شَاءَ إِطْلَاعه عَلَيْهَا أَطْلَعَهُ , وَمَنْ شَاءَ حَجَبَهُ عَنْهَا حَجَبَهُ . وَلَا يَكُون ذَلِكَ مِنْ إِفَاضَته إِلَّا عَلَى رُسُله ; بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعكُمْ عَلَى الْغَيْب وَلَكِنَّ اللَّه يَجْتَبِي مِنْ رُسُله مَنْ يَشَاء " [ آلَ عِمْرَانَ : 179 ] وَقَالَ : " عَالِم الْغَيْب فَلَا يُظْهِر عَلَى غَيْبه أَحَدًا إِلَّا مَنْ اِرْتَضَى مِنْ رَسُول " [ الْجِنّ : 26 - 27 ] . الْآيَة
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَضَافَ سُبْحَانه عِلْم الْغَيْب إِلَى نَفْسه فِي غَيْر مَا آيَة مِنْ كِتَابه إِلَّا مَنْ اِصْطَفَى مِنْ عِبَاده . فَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَنْزِل الْغَيْث غَدًا وَجَزَمَ فَهُوَ كَافِر , أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَةٍ اِدَّعَاهَا أَمْ لَا . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَعْلَم مَا فِي الرَّحِم فَهُوَ كَافِر ; فَإِنْ لَمْ يَجْزِم وَقَالَ : إِنَّ النَّوْء يُنْزِل اللَّه بِهِ الْمَاء عَادَة , وَأَنَّهُ سَبَب الْمَاء عَادَة , وَأَنَّهُ سَبَب الْمَاء عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمه لَمْ يَكْفُر ; إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ أَلَّا يَتَكَلَّم بِهِ , فَإِنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِكَلِمَةِ أَهْل الْكُفْر , وَجَهْلًا بِلَطِيفِ حِكْمَته ; لِأَنَّهُ يُنْزِل مَتَى شَاءَ , مَرَّة بِنَوْءِ كَذَا , وَمَرَّة دُون النَّوْء ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِن بِي وَكَافِر بِالْكَوْكَبِ ) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْوَاقِعَة " إِنْ شَاءَ اللَّه . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَذَلِكَ قَوْل الطَّبِيب : إِذَا كَانَ الثَّدْي الْأَيْمَن مُسْوَدّ الْحَلَمَة فَهُوَ ذَكَر , وَإِنْ كَانَ فِي الثَّدْي الْأَيْسَر فَهُوَ أُنْثَى , وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَة تَجِد الْجَنْب الْأَيْمَن أَثْقَل فَالْوَلَد أُنْثَى ; وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَة لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَة لَمْ يَكْفُر وَلَمْ يَفْسُق . وَأَمَّا مَنْ اِدَّعَى الْكَسْب فِي مُسْتَقْبَل الْعُمْر فَهُوَ كَافِر . أَوَأَخْبَرَ عَنْ الْكَوَائِن الْمُجْمَلَة أَوْ الْمُفَصَّلَة فِي أَنْ تَكُون قَبْل أَنْ تَكُون فَلَا رِيبَة فِي كُفْره أَيْضًا . فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوف الشَّمْس وَالْقَمَر فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُؤَدَّب وَلَا يُسْجَن . أَمَّا عَدَم تَكْفِيره فَلِأَنَّ جَمَاعَة قَالُوا : إِنَّهُ أَمْر يُدْرَك بِالْحِسَابِ وَتَقْدِير الْمَنَازِل حَسَب مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ مِنْ قَوْله : " وَالْقَمَر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِل " [ يس : 39 ] . وَأَمَّا أَدَبهمْ فَلِأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكّ عَلَى الْعَامَّة , إِذْ لَا يُدْرِكُونَ الْفَرْق بَيْن هَذَا وَغَيْره ; فَيُشَوِّشُونَ عَقَائِدهمْ وَيَتْرُكُونَ قَوَاعِدهمْ فِي الْيَقِين فَأُدِّبُوا حَتَّى يُسِرُّوا ذَلِكَ إِذَا عَرَفُوهُ وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ .
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْبَاب أَيْضًا مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَ عَنْ شَيْء لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ لَيْلَة ) . وَالْعَرَّاف هُوَ الْحَازِر وَالْمُنَجِّم الَّذِي يَدَّعِي عِلْم الْغَيْب . وَهِيَ مِنْ الْعِرَافَة وَصَاحِبهَا عَرَّاف , وَهُوَ الَّذِي يَسْتَدِلّ عَلَى الْأُمُور بِأَسْبَابٍ وَمُقَدِّمَات يَدَّعِي مَعْرِفَتهَا . وَقَدْ يَعْتَضِد بَعْض أَهْل هَذَا الْفَنّ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطَّرْق وَالنُّجُوم , وَأَسْبَاب مُعْتَادَة فِي ذَلِكَ . وَهَذَا الْفَنّ هُوَ الْعِيَافَة ( بِالْيَاءِ ) . وَكَذَا يَنْطَلِق عَلَيْهَا اِسْم الْكِهَانَة ; قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاض . وَالْكِهَانَة : ادِّعَاء عِلْم الْغَيْب . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ فِي كِتَاب ( الْكَافِي ) : مِنْ الْمَكَاسِب الْمُجْتَمَع عَلَى تَحْرِيمهَا الرِّبَا وَمُهُور الْبَغَايَا وَالسُّحْت وَالرِّشَا وَأَخْذ الْأُجْرَة عَلَى النِّيَاحَة وَالْغِنَاء , وَعَلَى الْكِهَانَة وَادِّعَاء الْغَيْب وَأَخْبَار السَّمَاء , وَعَلَى الزَّمْر وَاللَّعِب وَالْبَاطِل كُلّه . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَقَدْ اِنْقَلَبَتْ الْأَحْوَال فِي هَذِهِ الْأَزْمَان بِإِتْيَانِ الْمُنَجِّمِينَ , وَالْكُهَّان لَا سِيَّمَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّة ; فَقَدْ شَاعَ فِي رُؤَسَائِهِمْ وَأَتْبَاعهمْ وَأُمَرَائِهِمْ اِتِّخَاذ الْمُنَجِّمِينَ , بَلْ وَلَقَدْ اِنْخَدَعَ كَثِير مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْفِقْهِ وَالدِّين فَجَاءُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْكَهَنَة وَالْعَرَّافِينَ فَبَهْرَجُوا عَلَيْهِمْ بِالْمُحَالِ , وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُمْ الْأَمْوَال فَحَصَلُوا مِنْ أَقْوَالهمْ عَلَى السَّرَاب وَالْآلَ , وَمِنْ أَدْيَانهمْ عَلَى الْفَسَاد وَالضَّلَال . وَكُلّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِر ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ لَيْلَة ) . فَكَيْف بِمَنْ اِتَّخَذَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مُعْتَمِدًا عَلَى أَقْوَالهمْ . رَوَى مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاس عَنْ الْكُهَّان فَقَالَ : ( إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ ) فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُون حَقًّا ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تِلْكَ الْكَلِمَة مِنْ الْحَقّ يَخْطِفهَا الْجِنِّيّ فَيُقِرّهَا فِي أُذُن وَلِيّه قَرّ الدَّجَاجَة فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَة كِذْبَة ) . قَالَ الْحُمَيْدِيّ : لَيْسَ لِيَحْيَى بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة فِي الصَّحِيح غَيْر هَذَا وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ أَيْضًا مِنْ حَدِيث أَبِي الْأَسْوَد مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ الْمَلَائِكَة تَنْزِل فِي الْعَنَان وَهُوَ السَّحَاب فَتَذْكُر الْأَمْر قُضِيَ فِي السَّمَاء فَتَسْتَرِق الشَّيَاطِين السَّمْع فَتَسْمَعهُ فَتُوحِيه إِلَى الْكُهَّان فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَة كِذْبَة مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ ) . وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي " سَبَأ " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قُلْت : وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي " الْأَنْعَام " مُسْتَوْفًى وَقَالَتْ عَائِشَة : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَم مَا فِي غَد فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة ; وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " قُلْ لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه " [ النَّمْل : 65 ] خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاج مُنَجِّم فَاعْتَقَلَهُ الْحَجَّاج , ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَات فَعَدَّهُنَّ , ثُمَّ قَالَ : كَمْ فِي يَدِي مِنْ حَصَاة ؟ فَحَسَبَ الْمُنَجِّم ثُمَّ قَالَ : كَذَا ; فَأَصَابَ . ثُمَّ اِعْتَقَلَهُ فَأَخَذَ حَصَيَات لَمْ يَعُدّهُنَّ فَقَالَ : كَمْ فِي يَدِي ؟ فَحَسَبَ فَأَخْطَأَ ثُمَّ حَسَبَ فَأَخْطَأَ ; ثُمَّ قَالَ : أَيّهَا الْأَمِير أَظُنّك لَا تَعْرِف عَدَدهَا ; قَالَ : لَا . قَالَ : فَإِنِّي لَا أُصِيب . قَالَ : فَمَا الْفَرْق ؟ قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ أَحْصَيْته فَخَرَجَ عَنْ حَدّ الْغَيْب , وَهَذَا لَمْ تُحْصِهِ فَهُوَ غَيْب وَ " لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه "
وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عِيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَفَاتِح الْغَيْب خَمْس لَا يَعْلَم مَا تَغِيض الْأَرْحَام إِلَّا اللَّه وَلَا يَعْلَم مَا فِي غَد إِلَّا اللَّه وَلَا يَعْلَم مَتَى يَأْتِي الْمَطَر إِلَّا اللَّه وَلَا تَدْرِي نَفْس بِأَيِّ أَرْض تَمُوت إِلَّا اللَّه وَلَا يَعْلَم مَتَى تَقُوم السَّاعَة إِلَّا اللَّه ) . فَاَللَّه تَعَالَى عِنْده عِلْم الْغَيْب , وَبِيَدِهِ الطُّرُق الْمُوَصِّلَة إِلَيْهِ , لَا يَمْلِكهَا إِلَّا هُوَ , فَمَنْ شَاءَ إِطْلَاعه عَلَيْهَا أَطْلَعَهُ , وَمَنْ شَاءَ حَجَبَهُ عَنْهَا حَجَبَهُ . وَلَا يَكُون ذَلِكَ مِنْ إِفَاضَته إِلَّا عَلَى رُسُله ; بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعكُمْ عَلَى الْغَيْب وَلَكِنَّ اللَّه يَجْتَبِي مِنْ رُسُله مَنْ يَشَاء " [ آلَ عِمْرَانَ : 179 ] وَقَالَ : " عَالِم الْغَيْب فَلَا يُظْهِر عَلَى غَيْبه أَحَدًا إِلَّا مَنْ اِرْتَضَى مِنْ رَسُول " [ الْجِنّ : 26 - 27 ] . الْآيَة
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَضَافَ سُبْحَانه عِلْم الْغَيْب إِلَى نَفْسه فِي غَيْر مَا آيَة مِنْ كِتَابه إِلَّا مَنْ اِصْطَفَى مِنْ عِبَاده . فَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَنْزِل الْغَيْث غَدًا وَجَزَمَ فَهُوَ كَافِر , أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَةٍ اِدَّعَاهَا أَمْ لَا . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَعْلَم مَا فِي الرَّحِم فَهُوَ كَافِر ; فَإِنْ لَمْ يَجْزِم وَقَالَ : إِنَّ النَّوْء يُنْزِل اللَّه بِهِ الْمَاء عَادَة , وَأَنَّهُ سَبَب الْمَاء عَادَة , وَأَنَّهُ سَبَب الْمَاء عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمه لَمْ يَكْفُر ; إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ أَلَّا يَتَكَلَّم بِهِ , فَإِنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِكَلِمَةِ أَهْل الْكُفْر , وَجَهْلًا بِلَطِيفِ حِكْمَته ; لِأَنَّهُ يُنْزِل مَتَى شَاءَ , مَرَّة بِنَوْءِ كَذَا , وَمَرَّة دُون النَّوْء ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِن بِي وَكَافِر بِالْكَوْكَبِ ) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْوَاقِعَة " إِنْ شَاءَ اللَّه . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَذَلِكَ قَوْل الطَّبِيب : إِذَا كَانَ الثَّدْي الْأَيْمَن مُسْوَدّ الْحَلَمَة فَهُوَ ذَكَر , وَإِنْ كَانَ فِي الثَّدْي الْأَيْسَر فَهُوَ أُنْثَى , وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَة تَجِد الْجَنْب الْأَيْمَن أَثْقَل فَالْوَلَد أُنْثَى ; وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَة لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَة لَمْ يَكْفُر وَلَمْ يَفْسُق . وَأَمَّا مَنْ اِدَّعَى الْكَسْب فِي مُسْتَقْبَل الْعُمْر فَهُوَ كَافِر . أَوَأَخْبَرَ عَنْ الْكَوَائِن الْمُجْمَلَة أَوْ الْمُفَصَّلَة فِي أَنْ تَكُون قَبْل أَنْ تَكُون فَلَا رِيبَة فِي كُفْره أَيْضًا . فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوف الشَّمْس وَالْقَمَر فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُؤَدَّب وَلَا يُسْجَن . أَمَّا عَدَم تَكْفِيره فَلِأَنَّ جَمَاعَة قَالُوا : إِنَّهُ أَمْر يُدْرَك بِالْحِسَابِ وَتَقْدِير الْمَنَازِل حَسَب مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ مِنْ قَوْله : " وَالْقَمَر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِل " [ يس : 39 ] . وَأَمَّا أَدَبهمْ فَلِأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكّ عَلَى الْعَامَّة , إِذْ لَا يُدْرِكُونَ الْفَرْق بَيْن هَذَا وَغَيْره ; فَيُشَوِّشُونَ عَقَائِدهمْ وَيَتْرُكُونَ قَوَاعِدهمْ فِي الْيَقِين فَأُدِّبُوا حَتَّى يُسِرُّوا ذَلِكَ إِذَا عَرَفُوهُ وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ .
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْبَاب أَيْضًا مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَ عَنْ شَيْء لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ لَيْلَة ) . وَالْعَرَّاف هُوَ الْحَازِر وَالْمُنَجِّم الَّذِي يَدَّعِي عِلْم الْغَيْب . وَهِيَ مِنْ الْعِرَافَة وَصَاحِبهَا عَرَّاف , وَهُوَ الَّذِي يَسْتَدِلّ عَلَى الْأُمُور بِأَسْبَابٍ وَمُقَدِّمَات يَدَّعِي مَعْرِفَتهَا . وَقَدْ يَعْتَضِد بَعْض أَهْل هَذَا الْفَنّ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطَّرْق وَالنُّجُوم , وَأَسْبَاب مُعْتَادَة فِي ذَلِكَ . وَهَذَا الْفَنّ هُوَ الْعِيَافَة ( بِالْيَاءِ ) . وَكَذَا يَنْطَلِق عَلَيْهَا اِسْم الْكِهَانَة ; قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاض . وَالْكِهَانَة : ادِّعَاء عِلْم الْغَيْب . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ فِي كِتَاب ( الْكَافِي ) : مِنْ الْمَكَاسِب الْمُجْتَمَع عَلَى تَحْرِيمهَا الرِّبَا وَمُهُور الْبَغَايَا وَالسُّحْت وَالرِّشَا وَأَخْذ الْأُجْرَة عَلَى النِّيَاحَة وَالْغِنَاء , وَعَلَى الْكِهَانَة وَادِّعَاء الْغَيْب وَأَخْبَار السَّمَاء , وَعَلَى الزَّمْر وَاللَّعِب وَالْبَاطِل كُلّه . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَقَدْ اِنْقَلَبَتْ الْأَحْوَال فِي هَذِهِ الْأَزْمَان بِإِتْيَانِ الْمُنَجِّمِينَ , وَالْكُهَّان لَا سِيَّمَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّة ; فَقَدْ شَاعَ فِي رُؤَسَائِهِمْ وَأَتْبَاعهمْ وَأُمَرَائِهِمْ اِتِّخَاذ الْمُنَجِّمِينَ , بَلْ وَلَقَدْ اِنْخَدَعَ كَثِير مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْفِقْهِ وَالدِّين فَجَاءُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْكَهَنَة وَالْعَرَّافِينَ فَبَهْرَجُوا عَلَيْهِمْ بِالْمُحَالِ , وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُمْ الْأَمْوَال فَحَصَلُوا مِنْ أَقْوَالهمْ عَلَى السَّرَاب وَالْآلَ , وَمِنْ أَدْيَانهمْ عَلَى الْفَسَاد وَالضَّلَال . وَكُلّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِر ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ لَيْلَة ) . فَكَيْف بِمَنْ اِتَّخَذَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مُعْتَمِدًا عَلَى أَقْوَالهمْ . رَوَى مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاس عَنْ الْكُهَّان فَقَالَ : ( إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ ) فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُون حَقًّا ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تِلْكَ الْكَلِمَة مِنْ الْحَقّ يَخْطِفهَا الْجِنِّيّ فَيُقِرّهَا فِي أُذُن وَلِيّه قَرّ الدَّجَاجَة فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَة كِذْبَة ) . قَالَ الْحُمَيْدِيّ : لَيْسَ لِيَحْيَى بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة فِي الصَّحِيح غَيْر هَذَا وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ أَيْضًا مِنْ حَدِيث أَبِي الْأَسْوَد مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ الْمَلَائِكَة تَنْزِل فِي الْعَنَان وَهُوَ السَّحَاب فَتَذْكُر الْأَمْر قُضِيَ فِي السَّمَاء فَتَسْتَرِق الشَّيَاطِين السَّمْع فَتَسْمَعهُ فَتُوحِيه إِلَى الْكُهَّان فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَة كِذْبَة مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ ) . وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي " سَبَأ " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
عِلْمهمْ فِي الْآخِرَة " هَذِهِ قِرَاءَة أَكْثَر النَّاس مِنْهُمْ عَاصِم وَشَيْبَة وَنَافِع وَيَحْيَى بْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَحُمَيْد : " بَلْ أَدْرَكَ " مِنْ الْإِدْرَاك . وَقَرَأَ عَطَاء بْن يَسَار وَأَخُوهُ سُلَيْمَان بْن يَسَار وَالْأَعْمَش : " بَلْ اِدَّرَكَ " غَيْر مَهْمُوز مُشَدَّدًا . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن : " بَلْ أَدَّارَكَ " عَلَى الِاسْتِفْهَام . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس : " بَلَى " بِإِثْبَاتِ الْيَاء " أَدَّارَكَ " بِهَمْزَةِ قَطْع وَالدَّال مُشَدَّدَة وَأَلِف بَعْدهَا ; قَالَ النَّحَّاس : وَإِسْنَاده إِسْنَاد صَحِيح , هُوَ مِنْ حَدِيث شُعْبَة يَرْفَعهُ إِلَى اِبْن عَبَّاس . وَزَعَمَ هَارُون الْقَارِئ أَنَّ قِرَاءَة أُبَيّ " بَلْ تَدَارَكَ عِلْمهمْ " وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ أَنَّهَا فِي حَرْف أُبَيّ أَمْ تَدَارَكَ . وَالْعَرَب تَضَع بَلْ مَوْضِع ( أَمْ ) وَ ( أَمْ ) مَوْضِع بَلْ إِذَا كَانَ فِي أَوَّل الْكَلَام اِسْتِفْهَام ; كَقَوْلِ الشَّاعِر : فَوَاَللَّهِ لَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَقَوَّلَتْ أَمْ الْقَوْل أَمْ كُلّ إِلَيَّ حَبِيب أَيْ بَلْ كُلّ . قَالَ النَّحَّاس : الْقِرَاءَة الْأُولَى وَالْأَخِيرَة مَعْنَاهُمَا وَاحِد , لِأَنَّ أَصْل " اِدَّارَكَ " تَدَارَكَ ; أُدْغِمَتْ الدَّال فِي التَّاء وَجِيءَ بِأَلِفِ الْوَصْل ; وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّ الْمَعْنَى بَلْ تَكَامَلَ عِلْمهمْ فِي الْآخِرَة ; لِأَنَّهُمْ رَأَوْا كُلّ مَا وُعِدُوا بِهِ مُعَايَنَة فَتَكَامَلَ عِلْمهمْ بِهِ . وَالْقَوْل الْآخَر أَنَّ الْمَعْنَى : بَلْ تَتَابَعَ عِلْمهمْ الْيَوْم فِي الْآخِرَة ; فَقَالُوا تَكُون وَقَالُوا لَا تَكُون . الْقِرَاءَة الثَّانِيَة فِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّ مَعْنَاهُ كَمُلَ فِي الْآخِرَة ; وَهُوَ مِثْل الْأَوَّل ; قَالَ مُجَاهِد : مَعْنَاهُ يُدْرَك عِلْمهمْ فِي الْآخِرَة وَيَعْلَمُونَهَا إِذَا عَايَنُوهَا حِين لَا يَنْفَعهُمْ عِلْمهمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُكَذِّبِينَ . وَالْقَوْل الْآخَر أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَار ; وَهُوَ مَذْهَب أَبِي إِسْحَاق ; وَاسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّة هَذَا الْقَوْل بِأَنَّ بَعْده " بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ " أَيْ لَمْ يُدْرِك عِلْمهمْ عِلْم الْآخِرَة . وَقِيلَ : بَلْ ضَلَّ وَغَابَ عِلْمهمْ فِي الْآخِرَة فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا عِلْم . وَالْقِرَاءَة الثَّالِثَة : " بَلْ اِدَّرَكَ " فَهِيَ بِمَعْنَى " بَلْ اِدَّارَكَ " وَقَدْ يَجِيء اِفْتَعَلَ وَتَفَاعَلَ بِمَعْنًى ; وَلِذَلِكَ صُحِّحَ اِزْدَوَجُوا حِين كَانَ بِمَعْنَى تَزَاوَجُوا . الْقِرَاءَة الرَّابِعَة : لَيْسَ فِيهَا إِلَّا قَوْل وَاحِد يَكُون فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَار ; كَمَا تَقُول : أَأَنَا قَاتَلْتُك ؟ ! فَيَكُون الْمَعْنَى لَمْ يُدْرِك ; وَعَلَيْهِ تَرْجِع قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : " بَلَى أَدَّارَكَ عِلْمهمْ فِي الْآخِرَة " أَيْ لَمْ يُدْرِك . قَالَ الْفَرَّاء : وَهُوَ قَوْل حَسَن كَأَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى الِاسْتِهْزَاء بِالْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ , كَقَوْلِك لِرَجُلٍ تُكَذِّبهُ : بَلَى لَعَمْرِي قَدْ أَدْرَكَتْ السَّلَف فَأَنْتَ تَرْوِي مَا لَا أَرْوِي وَأَنْتَ تُكَذِّبهُ . وَقِرَاءَة سَابِعَة : " بَلَ اِدَّرَكَ " بِفَتْحِ اللَّام ; عَدَلَ إِلَى الْفَتْحَة لِخِفَّتِهَا . وَقَدْ حُكِيَ نَحْو ذَلِكَ عَنْ قُطْرُب فِي " قُمِ اللَّيْل " فَإِنَّهُ عَدَلَ إِلَى الْفَتْح . وَكَذَلِكَ وَ { بِعِ الثَّوْب } وَنَحْوه . وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْكِتَاب : وَقُرِئَ " بَلْ أَأَدَّرَكَ " بِهَمْزَتَيْنِ " بَلْ أَدَّرَكَ " بِأَلِفٍ بَيْنهمَا " بَلَى أَأَدَّرَكَ " " أَمْ تَدَارَكَ " " أَمْ أَدْرَكَ " فَهَذِهِ ثَنَتَا عَشْرَة قِرَاءَة , ثُمَّ أَخَذَ يُعَلِّل وُجُوه الْقِرَاءَات وَقَالَ : فَإِنْ قُلْت فَمَا وَجْه قِرَاءَة " بَلْ أَدَّرَكَ " عَلَى الِاسْتِفْهَام ؟ قُلْت : هُوَ اِسْتِفْهَام عَلَى وَجْه الْإِنْكَار لِإِدْرَاكِ عِلْمهمْ , وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ : أَمْ أَدَّرَكَ " وَ " أَمْ تَدَارَكَ " لِأَنَّهَا أَمْ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَة , وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ : " بَلَى أَأَدَّرَكَ " عَلَى الِاسْتِفْهَام فَمَعْنَاهُ بَلَى يَشْعُرُونَ مَتَى يُبْعَثُونَ , ثُمَّ أَنْكَرَ عِلْمهمْ بِكَوْنِهَا , وَإِذَا أَنْكَرَ عِلْمهمْ بِكَوْنِهَا لَمْ يَتَحَصَّل لَهُمْ شُعُور وَقْت كَوْنهَا ; لِأَنَّ الْعِلْم بِوَقْتِ الْكَائِن تَابِع لِلْعِلْمِ بِكَوْنِ الْكَائِن . " فِي الْآخِرَة " فِي شَأْن الْآخِرَة وَمَعْنَاهَا .
أَيْ فِي الدُّنْيَا .
" أَيْ بِقُلُوبِهِمْ وَاحِدهمْ عَمْو . وَقِيلَ : عَم , وَأَصْله عَمْيُون حُذِفَتْ الْيَاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَلَمْ يَجُزْ تَحْرِيكهَا لِثِقَلِ الْحَرَكَة فِيهَا .
أَيْ فِي الدُّنْيَا .
" أَيْ بِقُلُوبِهِمْ وَاحِدهمْ عَمْو . وَقِيلَ : عَم , وَأَصْله عَمْيُون حُذِفَتْ الْيَاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَلَمْ يَجُزْ تَحْرِيكهَا لِثِقَلِ الْحَرَكَة فِيهَا .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا " يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّة .
أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ " هَكَذَا يَقْرَأ نَافِع هُنَا وَفِي سُورَة : [ الْعَنْكَبُوت ] . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو بِاسْتِفْهَامَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَة . وَقَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة أَيْضًا بِاسْتِفْهَامَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا حَقَّقَا الْهَمْزَتَيْنِ , وَكُلّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي السُّورَتَيْنِ جَمِيعًا وَاحِد . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَابْن عَامِر وَرُوَيْس وَيَعْقُوب : " أَئِذَا " بِمَهْزَتَيْنِ " إِنَّنَا " بِنُونَيْنِ عَلَى الْخَبَر فِي هَذِهِ السُّورَة ; وَفِي سُورَة : [ الْعَنْكَبُوت ] بِاسْتِفْهَامَيْنِ ; قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : الْقِرَاءَة " إِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ " مُوَافَقَة لِلْخَطِّ حَسَنَة , وَقَدْ عَارَضَ فِيهَا أَبُو حَاتِم فَقَالَ وَهَذَا مَعْنَى كَلَامه : " إِذَا " لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ وَ " أَئِنَّا " اِسْتِفْهَام وَفِيهِ " إِنَّ " فَكَيْف يَجُوز أَنْ يَعْمَل مَا فِي حَيِّز الِاسْتِفْهَام فِيمَا قَبْله ؟ ! وَكَيْف يَجُوز أَنْ يَعْمَل مَا بَعْد " إِنَّ " فِيمَا قَبْلهَا ؟ ! وَكَيْف يَجُوز غَدًا إِنَّ زَيْدًا خَارِج ؟ ! فَإِذَا كَانَ فِيهِ اِسْتِفْهَام كَانَ أَبْعَد , وَهَذَا إِذَا سُئِلَ عَنْهُ كَانَ مُشْكِلًا لِمَا ذَكَرَهُ . وَقَالَ أَبُو جَعْفَر : وَسَمِعْت مُحَمَّد بْن الْوَلِيد يَقُول : سَأَلْنَا أَبَا الْعَبَّاس عَنْ آيَة مِنْ الْقُرْآن صَعْبَة مُشْكِلَة , وَهِيَ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلّ مُمَزَّق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْق جَدِيد " [ سَبَأ : 7 ] فَقَالَ : إِنَّ عَمِلَ فِي " إِذَا " " يُنَبِّئكُمْ " كَانَ مُحَالًا ; لِأَنَّهُ لَا يُنَبِّئهُمْ ذَلِكَ الْوَقْت , وَإِنْ عَمِلَ فِيهِ مَا بَعْد " إِنَّ " كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَكَانَ خَطَأ فِي الْعَرَبِيَّة أَنْ يَعْمَل مَا قَبْل " إِنَّ " فِيمَا بَعْدهَا ; وَهَذَا سُؤَال بَيِّن رَأَيْت أَنْ يُذْكَر فِي السُّورَة الَّتِي هُوَ فِيهَا ; فَأَمَّا أَبُو عُبَيْد فَمَالَ إِلَى قِرَاءَة نَافِع وَرَدَّ عَلَى مَنْ جَمَعَ بَيْن اِسْتِفْهَامَيْنِ , وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابكُمْ " [ آلَ عِمْرَانَ : 144 ] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 34 ] وَهَذَا الرَّدّ عَلَى أَبِي عَمْرو وَعَاصِم وَحَمْزَة وَطَلْحَة وَالْأَعْرَج لَا يَلْزَم مِنْهُ شَيْء , وَلَا يُشْبِه مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْآيَة شَيْئًا ; وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الشَّرْط وَجَوَابه بِمَنْزِلَةِ شَيْء وَاحِد ; وَمَعْنَى : " أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 34 ] أَفَإِنْ مِتَّ خُلِّدُوا . وَنَظِير هَذَا : أَزَيْد مُنْطَلِق , وَلَا يُقَال : أَزَيْد أَمُنْطَلِق ; لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ شَيْء وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْآيَة ; لِأَنَّ الثَّانِي جُمْلَة قَائِمَة بِنَفْسِهَا فَيَصْلُح فِيهَا الِاسْتِفْهَام , وَالْأَوَّل كَلَام يَصْلُح فِيهِ الِاسْتِفْهَام ; فَأَمَّا مَنْ حَذَفَ الِاسْتِفْهَام مِنْ الثَّانِي وَأَثْبَتَهُ فِي الْأَوَّل فَقَرَأَ : " أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا إِنَّنَا " فَحَذَفَهُ مِنْ الثَّانِي ; لِأَنَّ فِي الْكَلَام دَلِيلًا عَلَيْهِ بِمَعْنَى الْإِنْكَار .
أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ " هَكَذَا يَقْرَأ نَافِع هُنَا وَفِي سُورَة : [ الْعَنْكَبُوت ] . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو بِاسْتِفْهَامَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَة . وَقَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة أَيْضًا بِاسْتِفْهَامَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا حَقَّقَا الْهَمْزَتَيْنِ , وَكُلّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي السُّورَتَيْنِ جَمِيعًا وَاحِد . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَابْن عَامِر وَرُوَيْس وَيَعْقُوب : " أَئِذَا " بِمَهْزَتَيْنِ " إِنَّنَا " بِنُونَيْنِ عَلَى الْخَبَر فِي هَذِهِ السُّورَة ; وَفِي سُورَة : [ الْعَنْكَبُوت ] بِاسْتِفْهَامَيْنِ ; قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : الْقِرَاءَة " إِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ " مُوَافَقَة لِلْخَطِّ حَسَنَة , وَقَدْ عَارَضَ فِيهَا أَبُو حَاتِم فَقَالَ وَهَذَا مَعْنَى كَلَامه : " إِذَا " لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ وَ " أَئِنَّا " اِسْتِفْهَام وَفِيهِ " إِنَّ " فَكَيْف يَجُوز أَنْ يَعْمَل مَا فِي حَيِّز الِاسْتِفْهَام فِيمَا قَبْله ؟ ! وَكَيْف يَجُوز أَنْ يَعْمَل مَا بَعْد " إِنَّ " فِيمَا قَبْلهَا ؟ ! وَكَيْف يَجُوز غَدًا إِنَّ زَيْدًا خَارِج ؟ ! فَإِذَا كَانَ فِيهِ اِسْتِفْهَام كَانَ أَبْعَد , وَهَذَا إِذَا سُئِلَ عَنْهُ كَانَ مُشْكِلًا لِمَا ذَكَرَهُ . وَقَالَ أَبُو جَعْفَر : وَسَمِعْت مُحَمَّد بْن الْوَلِيد يَقُول : سَأَلْنَا أَبَا الْعَبَّاس عَنْ آيَة مِنْ الْقُرْآن صَعْبَة مُشْكِلَة , وَهِيَ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلّ مُمَزَّق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْق جَدِيد " [ سَبَأ : 7 ] فَقَالَ : إِنَّ عَمِلَ فِي " إِذَا " " يُنَبِّئكُمْ " كَانَ مُحَالًا ; لِأَنَّهُ لَا يُنَبِّئهُمْ ذَلِكَ الْوَقْت , وَإِنْ عَمِلَ فِيهِ مَا بَعْد " إِنَّ " كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَكَانَ خَطَأ فِي الْعَرَبِيَّة أَنْ يَعْمَل مَا قَبْل " إِنَّ " فِيمَا بَعْدهَا ; وَهَذَا سُؤَال بَيِّن رَأَيْت أَنْ يُذْكَر فِي السُّورَة الَّتِي هُوَ فِيهَا ; فَأَمَّا أَبُو عُبَيْد فَمَالَ إِلَى قِرَاءَة نَافِع وَرَدَّ عَلَى مَنْ جَمَعَ بَيْن اِسْتِفْهَامَيْنِ , وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابكُمْ " [ آلَ عِمْرَانَ : 144 ] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 34 ] وَهَذَا الرَّدّ عَلَى أَبِي عَمْرو وَعَاصِم وَحَمْزَة وَطَلْحَة وَالْأَعْرَج لَا يَلْزَم مِنْهُ شَيْء , وَلَا يُشْبِه مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْآيَة شَيْئًا ; وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الشَّرْط وَجَوَابه بِمَنْزِلَةِ شَيْء وَاحِد ; وَمَعْنَى : " أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 34 ] أَفَإِنْ مِتَّ خُلِّدُوا . وَنَظِير هَذَا : أَزَيْد مُنْطَلِق , وَلَا يُقَال : أَزَيْد أَمُنْطَلِق ; لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ شَيْء وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْآيَة ; لِأَنَّ الثَّانِي جُمْلَة قَائِمَة بِنَفْسِهَا فَيَصْلُح فِيهَا الِاسْتِفْهَام , وَالْأَوَّل كَلَام يَصْلُح فِيهِ الِاسْتِفْهَام ; فَأَمَّا مَنْ حَذَفَ الِاسْتِفْهَام مِنْ الثَّانِي وَأَثْبَتَهُ فِي الْأَوَّل فَقَرَأَ : " أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا إِنَّنَا " فَحَذَفَهُ مِنْ الثَّانِي ; لِأَنَّ فِي الْكَلَام دَلِيلًا عَلَيْهِ بِمَعْنَى الْإِنْكَار .
وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْل " أَيْ مِنْ قَبْل مَجِيء مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَمْ نَرَ لَهُ حَقِيقَة .
أَيْ مَا هَذَا
أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ " أَيْ أَبَاطِيلهمْ وَتُرَّهَاتهمْ ; وَكَانَتْ الْأَنْبِيَاء يَقْرَبُونَ أَمْر الْبَعْث مُبَالَغَة فِي التَّحْذِير ; وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ فَقَرِيب
أَيْ مَا هَذَا
أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ " أَيْ أَبَاطِيلهمْ وَتُرَّهَاتهمْ ; وَكَانَتْ الْأَنْبِيَاء يَقْرَبُونَ أَمْر الْبَعْث مُبَالَغَة فِي التَّحْذِير ; وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ فَقَرِيب
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض " أَيْ " قُلْ " لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّار " سِيرُوا " فِي بِلَاد الشَّام وَالْحِجَاز وَالْيَمَن .
" أَيْ بِقُلُوبِكُمْ وَبَصَائِركُمْ
كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرِمِينَ " الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِمْ .
" أَيْ بِقُلُوبِكُمْ وَبَصَائِركُمْ
كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرِمِينَ " الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِمْ .
أَيْ عَلَى كُفَّار مَكَّة إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا
" وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْق " فِي حَرَج , وَقُرِئَ : " فِي ضِيق " بِالْكَسْرِ وَقَدْ مَضَى فِي آخِر [ النَّحْل ] .
نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ اِقْتَسَمُوا عقاب مَكَّة وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرهمْ .
" وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْق " فِي حَرَج , وَقُرِئَ : " فِي ضِيق " بِالْكَسْرِ وَقَدْ مَضَى فِي آخِر [ النَّحْل ] .
نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ اِقْتَسَمُوا عقاب مَكَّة وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرهمْ .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْد . .. " أَيْ وَقْت يَجِيئنَا الْعَذَاب بِتَكْذِيبِنَا " إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " .
يَكُون رَدِفَ لَكُمْ " أَيْ اِقْتَرَبَ لَكُمْ وَدَنَا مِنْكُمْ " بَعْض الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ " أَيْ مِنْ الْعَذَاب ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَهُوَ مِنْ رَدِفَهُ إِذَا تَبِعَهُ وَجَاءَ فِي أَثَره ; وَتَكُون اللَّام أُدْخِلَتْ لِأَنَّ الْمَعْنَى اِقْتَرَبَ لَكُمْ وَدَنَا لَكُمْ . أَوْ تَكُون مُتَعَلِّقَة بِالْمَصْدَرِ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ مَعَكُمْ . وَقَالَ اِبْن شَجَرَة : تَبِعَكُمْ ; وَمِنْهُ رِدْف الْمَرْأَة ; لِأَنَّهُ تَبَع لَهَا مِنْ خَلْفهَا ; وَمِنْهُ قَوْل أَبِي ذُؤَيْب : عَادَ السَّوَاد بَيَاضًا فِي مَفَارِقه لَا مَرْحَبًا بِبَيَاضِ الشَّيْب إِذْ رَدِفَا قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَأَرْدَفَهُ أَمْر لُغَة فِي رَدِفَهُ , مِثْل تَبِعَهُ وَأَتْبَعَهُ بِمَعْنًى ; قَالَ خُزَيْمَة بْن مَالِك بْن نَهْد : إِذَا الْجَوْزَاء أَرْدَفَتْ الثُّرَيَّا ظَنَنْت بِآلِ فَاطِمَة الظُّنُونَا يَعْنِي فَاطِمَة بِنْت يَذْكُر بْن عَنَزَة أَحَد الْقَارِظِينَ . وَقَالَ الْفَرَّاء : " رَدِفَ لَكُمْ " دَنَا لَكُمْ وَلِهَذَا قَالَ : " لَكُمْ " . وَقِيلَ : رَدِفَهُ وَرَدِفَ لَهُ بِمَعْنًى فَتُزَاد اللَّام لِلتَّوْكِيدِ ; عَنْ الْفَرَّاء أَيْضًا . كَمَا تَقُول : نَقَدْته وَنَقَدْت لَهُ , وَكِلْته وَوَزَنْته , وَكِلْت لَهُ وَوَزَنْت لَهُ ; وَنَحْو ذَلِكَ .
تَسْتَعْجِلُونَ " مِنْ الْعَذَاب فَكَانَ ذَلِكَ يَوْم بَدْر . وَقِيلَ : عَذَاب الْقَبْر .
تَسْتَعْجِلُونَ " مِنْ الْعَذَاب فَكَانَ ذَلِكَ يَوْم بَدْر . وَقِيلَ : عَذَاب الْقَبْر .
وَإِنَّ رَبّك لَذُو فَضْل عَلَى النَّاس " فِي تَأْخِير الْعُقُوبَة وَإِدْرَار الرِّزْق
وَلَكِنَّ أَكْثَرهمْ لَا يَشْكُرُونَ " فَضْله وَنِعَمه .
وَلَكِنَّ أَكْثَرهمْ لَا يَشْكُرُونَ " فَضْله وَنِعَمه .
صُدُورهمْ " أَيْ تُخْفِي صُدُورهمْ وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد : " مَا تُكِنّ " مِنْ كَنَنْت الشَّيْء إِذَا سَتَرْته هُنَا . وَفِي [ الْقَصَص ] تَقْدِيره : مَا تُكِنّ صُدُورهمْ عَلَيْهِ ; وَكَأَنَّ الضَّمِير الَّذِي فِي الصُّدُور كَالْجِسْمِ السَّائِر . وَمَنْ قَرَأَ : " تُكِنّ " فَهُوَ الْمَعْرُوف ; يُقَال : أَكْنَنْت الشَّيْء إِذَا أَخْفَيْته فِي نَفْسك .
يُعْلِنُونَ " يُظْهِرُونَ مِنْ الْأُمُور .
يُعْلِنُونَ " يُظْهِرُونَ مِنْ الْأُمُور .
قَالَ الْحَسَن : الْغَائِبَة هُنَا الْقِيَامَة . وَقِيلَ : مَا غَابَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَاب السَّمَاء وَالْأَرْض ; حَكَاهُ النَّقَّاش . وَقَالَ اِبْن شَجَرَة : الْغَائِبَة هُنَا جَمِيع مَا أَخْفَى اللَّه تَعَالَى عَنْ خَلْقه وَغَيْبه عَنْهُمْ , وَهَذَا عَامّ . وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْهَاء فِي " غَائِبَة " إِشَارَة إِلَى الْجَمْع ; أَيْ . مَا مِنْ خَصْلَة غَائِبَة عَنْ الْخَلْق إِلَّا وَاَللَّه عَالِم بِهَا قَدْ أَثْبَتَهَا فِي أُمّ الْكِتَاب عِنْده , فَكَيْف يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يُسِرّ هَؤُلَاءِ وَمَا يُعْلِنُونَهُ . وَقِيلَ : أَيْ كُلّ شَيْء هُوَ مُثْبَت فِي أُمّ الْكِتَاب يُخْرِجهُ لِلْأَجَلِ الْمُؤَجَّل لَهُ ; فَاَلَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ مِنْ الْعَذَاب لَهُ أَجَل مَضْرُوب لَا يَتَأَخَّر عَنْهُ وَلَا يَتَقَدَّم عَلَيْهِ . وَالْكِتَاب اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَثْبَتَ اللَّه فِيهِ مَا أَرَادَ لِيَعْلَم بِذَلِكَ مَنْ يَشَاء مِنْ مَلَائِكَته .
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل أَكْثَر الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِي كَثِير مِنْ الْأَشْيَاء حَتَّى لَعَنَ بَعْضهمْ بَعْضًا فَنَزَلَتْ . وَالْمَعْنَى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآن يُبَيِّن لَهُمْ مَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَوْ أَخَذُوا بِهِ , وَذَلِكَ مَا حَرَّفُوهُ مِنْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل , وَمَا سَقَطَ مِنْ كُتُبهمْ مِنْ الْأَحْكَام .
وَإِنَّهُ " يَعْنِي الْقُرْآن
وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ " خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ . .
وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ " خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ . .
رَبّك يَقْضِي بَيْنهمْ بِحُكْمِهِ " أَيْ يَقْضِي بَيْن بَنِي إِسْرَائِيل فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْآخِرَة , فَيُجَازِي الْمُحِقّ وَالْمُبْطِل . وَقِيلَ : يَقْضِي بَيْنهمْ فِي الدُّنْيَا فَيُظْهِر مَا حَرَّفُوهُ .
الْمَنِيع الْغَالِب الَّذِي لَا يُرَدّ أَمْره
" الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء .
الْمَنِيع الْغَالِب الَّذِي لَا يُرَدّ أَمْره
" الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء .
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه " أَيْ فَوِّضْ إِلَيْهِ أَمْرك وَاعْتَمِدْ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ نَاصِرك .
أَيْ الظَّاهِر . وَقِيلَ : الْمُظْهِر لِمَنْ تَدَبَّرَ وَجْه الصَّوَاب .
أَيْ الظَّاهِر . وَقِيلَ : الْمُظْهِر لِمَنْ تَدَبَّرَ وَجْه الصَّوَاب .
الْمَوْتَى " يَعْنِي الْكُفَّار لِتَرْكِهِمْ التَّدَبُّر ; فَهُمْ كَالْمَوْتَى لَا حِسّ لَهُمْ وَلَا عَقْل . وَقِيلَ : هَذَا فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِن .
مَسْأَلَة : وَقَدْ اِحْتَجَّتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي إِنْكَارهَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعَ مَوْتَى بَدْر بِهَذِهِ الْآيَة ; فَنَظَرَتْ فِي الْأَمْر بِقِيَاسٍ عَقْلِيّ وَوَقَفَتْ مَعَ هَذِهِ الْآيَة . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ ) قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَيُشْبِه أَنَّ قِصَّة بَدْر خَرْق عَادَة لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ رَدَّ اللَّه إِلَيْهِمْ إِدْرَاكًا سَمِعُوا بِهِ مَقَاله وَلَوْلَا إِخْبَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَمَاعِهِمْ لَحَمَلْنَا نِدَاءَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخ لِمَنْ بَقِيَ مِنْ الْكَفَرَة , وَعَلَى مَعْنَى شِفَاء صُدُور الْمُؤْمِنِينَ .
قُلْت : رَوَى الْبُخَارِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد سَمِعَ رَوْح بْن عُبَادَة قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة قَالَ : ذَكَرَ لَنَا أَنَس بْن مَالِك عَنْ أَبِي طَلْحَة أَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْم بَدْر بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيد قُرَيْش فَقُذِفُوا فِي طَوِيّ مِنْ أَطْوَاء بَدْر خَبِيث مُخْبَث , وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْم أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاث لَيَالٍ , فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْم الثَّالِث أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلهَا ثُمَّ مَشَى وَتَبِعَهُ أَصْحَابه , قَالُوا : مَا نَرَى يَنْطَلِق إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَته , حَتَّى قَامَ عَلَى شَفِير الرَّكِيّ , فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِمْ يَا فُلَان بْن فُلَان وَيَا فُلَان بْن فُلَان أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللَّه وَرَسُوله ; فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقًّا ; قَالَ فَقَالَ عُمَر : يَا رَسُول اللَّه مَا تُكَلِّم مِنْ أَجْسَاد لَا أَرْوَاح لَهَا ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُول مِنْهُمْ ) قَالَ قَتَادَة : أَحْيَاهُمْ اللَّه حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْله تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَة وَحَسْرَة وَنَدَمًا . خَرَّجَهُ مُسْلِم أَيْضًا . قَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا عُثْمَان قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدَة عَنْ هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : وَقَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَلِيب بَدْر فَقَالَ : ( هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقًّا ) ثُمَّ قَالَ : ( إِنَّهُمْ الْآن لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْت أَقُول لَهُمْ هُوَ الْحَقّ ) ثُمَّ قَرَأَتْ " إِنَّك لَا تُسْمِع الْمَوْتَى " حَتَّى قَرَأَتْ الْآيَة . وَقَدْ عُورِضَتْ هَذِهِ الْآيَة بِقِصَّةِ بَدْر وَبِالسَّلَامِ عَلَى الْقُبُور , وَبِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الْأَرْوَاح تَكُون عَلَى شَفِير الْقُبُور فِي أَوْقَات , وَبِأَنَّ الْمَيِّت يَسْمَع قَرْع النِّعَال إِذَا اِنْصَرَفُوا عَنْهُ , إِلَى غَيْر ذَلِكَ ; فَلَوْ لَمْ يَسْمَع الْمَيِّت لَمْ يُسَلَّم عَلَيْهِ . وَهَذَا وَاضِح وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة
الدُّعَاء . ... " يَعْنِي الْكُفَّار الَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الصُّمّ عَنْ قَبُول الْمَوَاعِظ ; فَإِذَا دُعُوا إِلَى الْخَيْر أَعْرَضُوا وَوَلَّوْا كَأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ; نَظِيره : " صُمّ بُكْم عُمْي " [ الْبَقَرَة : 18 ] كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد وَابْن كَثِير وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَعَبَّاس عَنْ أَبِي عَمْرو : " وَلَا يَسْمَع " بِفَتْحِ الْيَاء وَالْمِيم " الصُّمّ " رَفْعًا عَلَى الْفَاعِل . الْبَاقُونَ " تُسْمِع " مُضَارِع أَسْمَعْت " الصُّمّ " نَصْبًا .
مَسْأَلَة : وَقَدْ اِحْتَجَّتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي إِنْكَارهَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعَ مَوْتَى بَدْر بِهَذِهِ الْآيَة ; فَنَظَرَتْ فِي الْأَمْر بِقِيَاسٍ عَقْلِيّ وَوَقَفَتْ مَعَ هَذِهِ الْآيَة . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ ) قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَيُشْبِه أَنَّ قِصَّة بَدْر خَرْق عَادَة لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ رَدَّ اللَّه إِلَيْهِمْ إِدْرَاكًا سَمِعُوا بِهِ مَقَاله وَلَوْلَا إِخْبَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَمَاعِهِمْ لَحَمَلْنَا نِدَاءَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخ لِمَنْ بَقِيَ مِنْ الْكَفَرَة , وَعَلَى مَعْنَى شِفَاء صُدُور الْمُؤْمِنِينَ .
قُلْت : رَوَى الْبُخَارِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد سَمِعَ رَوْح بْن عُبَادَة قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة قَالَ : ذَكَرَ لَنَا أَنَس بْن مَالِك عَنْ أَبِي طَلْحَة أَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْم بَدْر بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيد قُرَيْش فَقُذِفُوا فِي طَوِيّ مِنْ أَطْوَاء بَدْر خَبِيث مُخْبَث , وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْم أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاث لَيَالٍ , فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْم الثَّالِث أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلهَا ثُمَّ مَشَى وَتَبِعَهُ أَصْحَابه , قَالُوا : مَا نَرَى يَنْطَلِق إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَته , حَتَّى قَامَ عَلَى شَفِير الرَّكِيّ , فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِمْ يَا فُلَان بْن فُلَان وَيَا فُلَان بْن فُلَان أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللَّه وَرَسُوله ; فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقًّا ; قَالَ فَقَالَ عُمَر : يَا رَسُول اللَّه مَا تُكَلِّم مِنْ أَجْسَاد لَا أَرْوَاح لَهَا ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُول مِنْهُمْ ) قَالَ قَتَادَة : أَحْيَاهُمْ اللَّه حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْله تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَة وَحَسْرَة وَنَدَمًا . خَرَّجَهُ مُسْلِم أَيْضًا . قَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا عُثْمَان قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدَة عَنْ هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : وَقَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَلِيب بَدْر فَقَالَ : ( هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقًّا ) ثُمَّ قَالَ : ( إِنَّهُمْ الْآن لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْت أَقُول لَهُمْ هُوَ الْحَقّ ) ثُمَّ قَرَأَتْ " إِنَّك لَا تُسْمِع الْمَوْتَى " حَتَّى قَرَأَتْ الْآيَة . وَقَدْ عُورِضَتْ هَذِهِ الْآيَة بِقِصَّةِ بَدْر وَبِالسَّلَامِ عَلَى الْقُبُور , وَبِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الْأَرْوَاح تَكُون عَلَى شَفِير الْقُبُور فِي أَوْقَات , وَبِأَنَّ الْمَيِّت يَسْمَع قَرْع النِّعَال إِذَا اِنْصَرَفُوا عَنْهُ , إِلَى غَيْر ذَلِكَ ; فَلَوْ لَمْ يَسْمَع الْمَيِّت لَمْ يُسَلَّم عَلَيْهِ . وَهَذَا وَاضِح وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة
الدُّعَاء . ... " يَعْنِي الْكُفَّار الَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الصُّمّ عَنْ قَبُول الْمَوَاعِظ ; فَإِذَا دُعُوا إِلَى الْخَيْر أَعْرَضُوا وَوَلَّوْا كَأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ; نَظِيره : " صُمّ بُكْم عُمْي " [ الْبَقَرَة : 18 ] كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد وَابْن كَثِير وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَعَبَّاس عَنْ أَبِي عَمْرو : " وَلَا يَسْمَع " بِفَتْحِ الْيَاء وَالْمِيم " الصُّمّ " رَفْعًا عَلَى الْفَاعِل . الْبَاقُونَ " تُسْمِع " مُضَارِع أَسْمَعْت " الصُّمّ " نَصْبًا .
وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ↓
بِهَادِي الْعُمْي عَنْ ضَلَالَتهمْ " أَيْ كُفْرهمْ ; أَيْ لَيْسَ فِي وُسْعك خَلْق الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ . وَقَرَأَ حَمْزَة : " وَمَا أَنْتَ تَهْدِي الْعُمْي عَنْ ضَلَالَتهمْ " كَقَوْلِهِ : " أَفَأَنْت تَهْدِي الْعُمْي " . الْبَاقُونَ : ( بِهَادِي الْعُمْي ) وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم وَفِي [ الرُّوم ] مِثْله . وَكُلّهمْ وَقَفَ عَلَى ( بِهَادِي ) بِالْيَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَة وَبِغَيْرِ يَاء فِي [ الرُّوم ] اِتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ , إِلَّا يَعْقُوب فَإِنَّهُ وَقَفَ فِيهِمَا جَمِيعًا بِالْيَاءِ . وَأَجَازَ الْفَرَّاء وَأَبُو حَاتِم : ( وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْي ) وَهِيَ الْأَصْل . وَفِي حَرْف عَبْد اللَّه ( وَمَا أَنْ تَهْدِي الْعُمْي ) .
أَيْ مَا تُسْمِع .
إِلَّا مَنْ يُؤْمِن بِآيَاتِنَا . . " قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ إِلَّا مَنْ خَلَقْته لِلسَّعَادَةِ فَهُمْ مُخْلِصُونَ فِي التَّوْحِيد .
أَيْ مَا تُسْمِع .
إِلَّا مَنْ يُؤْمِن بِآيَاتِنَا . . " قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ إِلَّا مَنْ خَلَقْته لِلسَّعَادَةِ فَهُمْ مُخْلِصُونَ فِي التَّوْحِيد .
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ↓
وَقَعَ الْقَوْل عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّة مِنْ الْأَرْض تُكَلِّمهُمْ " اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى وَقَعَ الْقَوْل وَفِي الدَّابَّة ; فَقِيلَ : مَعْنَى " وَقَعَ الْقَوْل عَلَيْهِمْ " وَجَبَ الْغَضَب عَلَيْهِمْ ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقَالَ مُجَاهِد : أَيْ حَقَّ الْقَوْل عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَقَالَ اِبْن عُمَر وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : إِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْا عَنْ الْمُنْكَر وَجَبَ السَّخَط عَلَيْهِمْ . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : وَقَعَ الْقَوْل يَكُون بِمَوْتِ الْعُلَمَاء , وَذَهَاب الْعِلْم , وَرَفْع الْقُرْآن . قَالَ عَبْد اللَّه : أَكْثِرُوا تِلَاوَة الْقُرْآن قَبْل أَنْ يُرْفَع , قَالُوا هَذِهِ الْمَصَاحِف تُرْفَع فَكَيْف بِمَا فِي صُدُور الرِّجَال ؟ قَالَ : يُسْرَى عَلَيْهِ لَيْلًا فَيُصْبِحُونَ مِنْهُ قَفْرًا , وَيَنْسَوْنَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَيَقَعُونَ فِي قَوْل الْجَاهِلِيَّة وَأَشْعَارهمْ , وَذَلِكَ حِين يَقَع الْقَوْل عَلَيْهِمْ .
قُلْت : أَسْنَدَهُ أَبُو بَكْر الْبَزَّار قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن يُوسُف الثَّقَفِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الْمَجِيد بْن عَبْد الْعَزِيز عَنْ مُوسَى بْن عُبَيْدَة عَنْ صَفْوَان بْن سُلَيْم عَنْ اِبْنٍ لِعَبْدِ اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : أَكْثِرُوا مِنْ زِيَارَة هَذَا الْبَيْت مِنْ قَبْل أَنْ يُرْفَع وَيَنْسَى النَّاس مَكَانه ; وَأَكْثِرُوا تِلَاوَة الْقُرْآن مِنْ قَبْل أَنْ يُرْفَع ; قَالُوا : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن هَذِهِ الْمَصَاحِف تُرْفَع فَكَيْف بِمَا فِي صُدُور الرِّجَال ؟ قَالَ : فَيُصْبِحُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نَتَكَلَّم بِكَلَامٍ وَنَقُول قَوْلًا فَيَرْجِعُونَ إِلَى شِعْر الْجَاهِلِيَّة وَأَحَادِيث الْجَاهِلِيَّة , وَذَلِكَ حِين يَقَع الْقَوْل عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : الْقَوْل هُوَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْل مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم " [ السَّجْدَة : 13 ] فَوُقُوع الْقَوْل وُجُوب الْعِقَاب عَلَى هَؤُلَاءِ , فَإِذَا صَارُوا إِلَى حَدّ لَا تُقْبَل تَوْبَتهمْ وَلَا يُولَد لَهُمْ وَلَد مُؤْمِن فَحِينَئِذٍ تَقُوم الْقِيَامَة ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ . وَقَوْل سَادِس : قَالَتْ حَفْصه بِنْت سِيرِينَ سَأَلْت أَبَا الْعَالِيَة عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْل عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّة مِنْ الْأَرْض تُكَلِّمهُمْ " فَقَالَ : أَوْحَى اللَّه إِلَى نُوح " أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِن مِنْ قَوْمك إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ " [ هُود : 36 ] وَكَأَنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِي غِطَاء فَكُشِفَ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ حَسَن الْجَوَاب ; لِأَنَّ النَّاس مُمْتَحَنُونَ وَمُؤَخَّرُونَ لِأَنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنِينَ وَصَالِحِينَ , وَمَنْ قَدْ عَلِمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ سَيُؤْمِنُ وَيَتُوب ; فَلِهَذَا أُمْهِلُوا وَأُمِرْنَا بِأَخْذِ الْجِزْيَة , فَإِذَا زَالَ هَذَا وَجَبَ الْقَوْل عَلَيْهِمْ , فَصَارُوا كَقَوْمِ نُوح حِين قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّهُ لَنْ يُؤْمِن مِنْ قَوْمك إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ " [ هُود : 36 ] .
قُلْت : وَجَمِيع الْأَقْوَال عِنْد التَّأَمُّل تَرْجِع إِلَى مَعْنًى وَاحِد . وَالدَّلِيل عَلَيْهِ آخِر الْآيَة " إِنَّ النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ " وَقُرِئَ : " أَنَّ " : بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَسَيَأْتِي . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاث إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَالدَّجَّال وَدَابَّة الْأَرْض ) وَقَدْ مَضَى . وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِين هَذِهِ الدَّابَّة وَصِفَتهَا وَمِنْ أَيْنَ تَخْرُج اِخْتِلَافًا كَثِيرًا ; قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَنَذْكُرهُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مُسْتَوْفًى . فَأَوَّل الْأَقْوَال أَنَّهُ فَصِيل نَاقَة صَالِح وَهُوَ أَصَحّهَا - وَاَللَّه أَعْلَم - لِمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده عَنْ حُذَيْفَة قَالَ : ذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّابَّة فَقَالَ : ( لَهَا ثَلَاث خَرْجَات مِنْ الدَّهْر فَتَخْرُج فِي أَقْصَى الْبَادِيَة وَلَا يَدْخُل ذِكْرهَا الْقَرْيَة - يَعْنِي مَكَّة - ثُمَّ تَكْمُن زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ تَخْرُج خَرْجَة أُخْرَى دُون ذَلِكَ فَيَفْشُو ذِكْرهَا فِي الْبَادِيَة وَيَدْخُل ذِكْرهَا الْقَرْيَة ) يَعْنِي مَكَّة قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثُمَّ بَيْنَمَا النَّاس فِي أَعْظَم الْمَسَاجِد عَلَى اللَّه حُرْمَة خَيْرهَا وَأَكْرَمهَا عَلَى اللَّه الْمَسْجِد الْحَرَام لَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَهِيَ تَرْغُو بَيْن الرُّكْن وَالْمَقَام تَنْفُض عَنْ رَأْسهَا التُّرَاب فَارْفَضَّ النَّاس مِنْهَا شَتَّى وَمَعًا وَتَثْبُت عِصَابَة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللَّه فَبَدَأَتْ بِهِمْ فَجَلَتْ وُجُوههمْ حَتَّى جَعَلَتْهَا كَأَنَّهَا الْكَوْكَب الدُّرِّيّ وَوَلَّتْ فِي الْأَرْض لَا يُدْرِكهَا طَالِب وَلَا يَنْجُو مِنْهَا هَارِب حَتَّى إِنَّ الرَّجُل لَيَتَعَوَّذ مِنْهَا بِالصَّلَاةِ فَتَأْتِيه مِنْ خَلْفه فَتَقُول يَا فُلَان الْآن تُصَلِّي فَتُقْبِل عَلَيْهِ فَتَسِمهُ فِي وَجْهه ثُمَّ تَنْطَلِق وَيَشْتَرِك النَّاس فِي الْأَمْوَال وَيَصْطَلِحُونَ فِي الْأَمْصَار يُعْرَف الْمُؤْمِن مِنْ الْكَافِر حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِن يَقُول يَا كَافِر اِقْضِ حَقِّي ) . وَمَوْضِع الدَّلِيل مِنْ هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ الْفَصِيل قَوْله : ( وَهِيَ تَرْغُو ) وَالرُّغَاء إِنَّمَا هُوَ لِلْإِبِلِ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْفَصِيل لَمَّا قُتِلَتْ النَّاقَة هَرَبَ فَانْفَتَحَ لَهُ حَجَر فَدَخَلَ فِي جَوْفه ثُمَّ اِنْطَبَقَ عَلَيْهِ , فَهُوَ فِيهِ حَتَّى يَخْرُج بِإِذْنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَرُوِيَ أَنَّهَا دَابَّة مُزَغَّبَة شَعْرَاء , ذَات قَوَائِم طُولهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا , وَيُقَال إِنَّهَا الْجَسَّاسَة ; وَهُوَ قَوْل عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهَا عَلَى خِلْقَة الْآدَمِيِّينَ ; وَهِيَ فِي السَّحَاب وَقَوَائِمهَا فِي الْأَرْض . وَرُوِيَ أَنَّهَا جَمَعَتْ مِنْ خَلْق كُلّ حَيَوَان . وَذَكَر الْمَاوَرْدِيّ وَالثَّعْلَبِيّ رَأْسهَا رَأْس ثَوْر , وَعَيْنهَا عَيْن خِنْزِير , وَأُذُنهَا أُذُن فِيل , وَقَرْنهَا قَرْن أُيَّل , وَعُنُقهَا عُنُق نَعَامَة , وَصَدْرهَا صَدْر أَسَد , وَلَوْنهَا لَوْن نَمِر , وَخَاصِرَتهَا خَاصِرَة هِرّ , وَذَنَبهَا ذَنَب كَبْش , وَقَوَائِمهَا قَوَائِم بَعِير بَيْن كُلّ مِفْصَل وَمِفْصَل اِثْنَا عَشَر ذِرَاعًا - الزَّمَخْشَرِيّ : بِذِرَاعِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام - وَيَخْرُج مَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَم سُلَيْمَان , فَتَنْكُت فِي وَجْه الْمُسْلِم بِعَصَا مُوسَى نُكْتَة بَيْضَاء فَيَبْيَضّ وَجْهه , وَتَنْكُت فِي وَجْه الْكَافِر بِخَاتَمِ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَيَسْوَدّ وَجْهه ; قَالَهُ اِبْن الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَفِي كِتَاب النَّقَّاش عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : إِنَّ الدَّابَّة الثُّعْبَان الْمُشْرِف عَلَى جِدَار الْكَعْبَة الَّتِي اِقْتَلَعَتْهَا الْعُقَاب حِين أَرَادَتْ قُرَيْش بِنَاء الْكَعْبَة . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّة فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّه مَا لَهَا ذَنَب وَإِنَّ لَهَا لَلِحْيَة . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَفِي هَذَا الْقَوْل مِنْهُ إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا مِنْ الْإِنْس وَإِنْ لَمْ يُصَرِّح بِهِ .
قُلْت : وَلِهَذَا - وَاَللَّه أَعْلَم - قَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ الْأَقْرَب أَنْ تَكُون هَذِهِ الدَّابَّة إِنْسَانًا مُتَكَلِّمًا يُنَاظِر أَهْل الْبِدَع وَالْكُفْر وَيُجَادِلهُمْ لِيَنْقَطِعُوا , فَيَهْلِك مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة : وَيَحْيَا مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَة . قَالَ شَيْخنَا الْإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عُمَر الْقُرْطُبِيّ فِي كِتَاب الْمُفْهِم لَهُ : وَإِنَّمَا كَانَ عِنْد هَذَا الْقَائِل الْأَقْرَب لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " تُكَلِّمهُمْ " وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُون فِي هَذِهِ الدَّابَّة آيَة خَاصَّة خَارِقَة لِلْعَادَةِ , وَلَا يَكُون مِنْ الْعَشْر الْآيَات الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث ; لِأَنَّ وُجُود الْمُنَاظِرِينَ وَالْمُحْتَجِّينَ عَلَى أَهْل الْبِدَع كَثِير , فَلَا آيَة خَاصَّة بِهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُذْكَر مَعَ الْعَشْر , وَتَرْتَقِع خُصُوصِيَّة وُجُودهَا إِذَا وَقَعَ الْقَوْل , ثُمَّ فِيهِ الْعُدُول عَنْ تَسْمِيَة هَذَا الْإِنْسَان الْمَنَاظِر الْفَاضِل الْعَالِم الَّذِي عَلَى أَهْل الْأَرْض أَنْ يُسَمُّوهُ بِاسْمِ الْإِنْسَان أَوْ بِالْعَالِمِ أَوْ بِالْإِمَامِ إِلَى أَنْ يُسَمَّى بِدَابَّةٍ ; وَهَذَا خُرُوج عَنْ عَادَة الْفُصَحَاء , وَعَنْ تَعْظِيم الْعُلَمَاء , وَلَيْسَ ذَلِكَ دَأْب الْعُقَلَاء ; فَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ أَهْل التَّفْسِير , وَاَللَّه أَعْلَم بِحَقَائِقِ الْأُمُور .
قُلْت : قَدْ رَفَعَ الْإِشْكَال فِي هَذِهِ الدَّابَّة مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيث حُذَيْفَة فَلْيُعْتَمَدْ عَلَيْهِ , وَاخْتُلِفَ مِنْ أَيّ مَوْضِع تَخْرُج , فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : تَخْرُج مِنْ جَبَل الصَّفَا بِمَكَّةَ ; يَتَصَدَّع فَتَخْرُج مِنْهُ . قَالَ عَبْد اللَّه اِبْن عَمْرو نَحْوه وَقَالَ : لَوْ شِئْت أَنْ أَضَع قَدَمِي عَلَى مَوْضِع خُرُوجهَا لَفَعَلْت وَرُوِيَ فِي خَبَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْأَرْض تَنْشَقّ عَنْ الدَّابَّة وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَطُوف بِالْبَيْتِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ نَاحِيَة الْمَسْعَى وَإِنَّهَا تَخْرُج مِنْ الصَّفَا فَتَسِم بَيْن عَيْنَيْ الْمُؤْمِن هُوَ مُؤْمِن سِمَة كَأَنَّهَا كَوْكَب دُرِّيّ وَتَسِم بَيْن عَيْنَيْ الْكَافِر نُكْتَة سَوْدَاء كَافِر ) وَذُكِرَ فِي الْخَبَر أَنَّهَا ذَات وَبَر وَرِيش ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهَا تَخْرُج مِنْ شِعْب فَتَمَسّ رَأْسهَا السَّحَاب وَرِجْلَاهَا فِي الْأَرْض لَمْ تَخْرُجَا , وَتَخْرُج وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَم سُلَيْمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام . وَعَنْ حُذَيْفَة : تَخْرُج ثَلَاث خَرْجَات ; خَرْجَة فِي بَعْض الْبَوَادِي ثُمَّ تَكْمُن , وَخَرْجَة فِي الْقُرَى يَتَقَاتَل فِيهَا الْأُمَرَاء حَتَّى تَكْثُر الدِّمَاء , وَخَرْجَة مِنْ أَعْظَم الْمَسَاجِد وَأَكْرَمهَا وَأَشْرَفهَا وَأَفْضَلهَا الزَّمَخْشَرِيّ : تَخْرُج مِنْ بَيْن الرُّكْن حِذَاء دَار بَنِي مَخْزُوم عَنْ يَمِين الْخَارِج مِنْ الْمَسْجِد ; فَقَوْم يَهْرُبُونَ , وَقَوْم يَقِفُونَ نَظَّارَة . وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَة أَنَّهَا تَخْرُج فِي تِهَامَة . وَرُوِيَ أَنَّهَا تَخْرُج مِنْ مَسْجِد الْكُوفَة مِنْ حَيْثُ فَارَ تَنُّور نُوح عَلَيْهِ السَّلَام . وَقِيلَ : مِنْ أَرْض الطَّائِف ; قَالَ أَبُو قَبِيل : ضَرَبَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَرْض الطَّائِف بِرِجْلِهِ وَقَالَ : مِنْ هُنَا تَخْرُج الدَّابَّة الَّتِي تُكَلِّم النَّاس وَقِيلَ : مِنْ بَعْض أَوْدِيَة تِهَامَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقِيلَ : مِنْ صَخْرَة مِنْ شِعْب أَجْيَاد ; قَالَهُ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو . وَقِيلَ : مِنْ بَحْر سَدُوم ; قَالَهُ وَهْب بْن مُنَبِّه . ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَابه . وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ أَبُو الْقَاسِم عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْجَعْد عَنْ فَضِيل بْن مَرْزُوق الرَّقَاشِيّ الْأَغَرّ - وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْن مَعِين فَقَالَ ثِقَة - عَنْ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ تَخْرُج الدَّابَّة مِنْ صَدْع فِي الْكَعْبَة كَجَرْيِ الْفَرَس ثَلَاثَة أَيَّام لَا يَخْرُج ثُلُثهَا .
قُلْت : فَهَذِهِ أَقْوَال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي خُرُوج الدَّابَّة وَصِفَتهَا , وَهِيَ تَرُدّ قَوْل مَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ الدَّابَّة إِنَّمَا هِيَ إِنْسَان مُتَكَلِّم يُنَاظِر أَهْل الْبِدَع وَالْكُفْر وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( تَخْرُج الدَّابَّة فَتَسِم النَّاس عَلَى خَرَاطِيمهمْ ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . " تُكَلِّمهُمْ " بِضَمِّ التَّاء وَشَدّ اللَّام الْمَكْسُورَة - مِنْ الْكَلَام - قِرَاءَة الْعَامَّة ; يَدُلّ عَلَيْهِ قِرَاءَة أُبَيّ " تُنَبِّئهُمْ " . وَقَالَ السُّدِّيّ : تُكَلِّمهُمْ بِبُطْلَانِ الْأَدْيَان سِوَى دِين الْإِسْلَام . وَقِيلَ : تُكَلِّمهُمْ بِمَا يَسُوءهُمْ . وَقِيلَ : تُكَلِّمهُمْ بِلِسَانٍ ذَلِق فَتَقُول بِصَوْتٍ يَسْمَعهُ مَنْ قَرُبَ وَبَعُدَ " إِنَّ النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ " وَتَقُول : أَلَا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظَّالِمِينَ . وَقَرَأَ أَبُو زُرْعَة وَابْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَأَبُو رَجَاء : " تَكْلِمهُمْ " بِفَتْحِ التَّاء مِنْ الْكَلْم وَهُوَ الْجَرْح قَالَ عِكْرِمَة : أَيْ تَسِمُهُمْ . وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاء : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ هَذِهِ الْآيَة " تُكَلِّمهُمْ " أَوْ " تَكْلِمهُمْ " ؟ فَقَالَ : هِيَ وَاَللَّه تُكَلِّمهُمْ وَتَكْلِمهُمْ ; تُكَلِّم الْمُؤْمِن وَتَكْلِم الْكَافِر وَالْفَاجِر أَيْ تَجْرَحهُ . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : " تُكَلِّمهُمْ " كَمَا تَقُول تَجْرَحهُمْ ; يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ تَكْثِير مِنْ " تَكْلِمهُمْ " .
يُوقِنُونَ " أَيْ بِخُرُوجِي ; لِأَنَّ خُرُوجهَا مِنْ الْآيَات . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَحْيَى : " أَنَّ " بِالْفَتْحِ . وَقَرَأَ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَهْل الشَّام وَأَهْل الْبَصْرَة : " إِنَّ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة . قَالَ النَّحَّاس : فِي الْمَفْتُوحَة قَوْلَانِ وَكَذَا الْمَكْسُورَة ; قَالَ الْأَخْفَش : الْمَعْنَى بِأَنَّ وَكَذَا قَرَأَ اِبْن مَسْعُود " بِأَنَّ " وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : مَوْضِعهَا نَصْب بِوُقُوعِ الْفِعْل عَلَيْهَا ; أَيْ تُخْبِرهُمْ أَنَّ النَّاس . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء : " إِنَّ النَّاس " بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف وَقَالَ الْأَخْفَش : هِيَ بِمَعْنَى تَقُول إِنَّ النَّاس ; يَعْنِي الْكُفَّار " بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ " يَعْنِي بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَذَلِكَ حِين لَا يَقْبَل اللَّه مِنْ كَافِر إِيمَانًا وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ فِي عِلْم اللَّه قَبْل خُرُوجهَا ; وَاَللَّه أَعْلَم .
قُلْت : أَسْنَدَهُ أَبُو بَكْر الْبَزَّار قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن يُوسُف الثَّقَفِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الْمَجِيد بْن عَبْد الْعَزِيز عَنْ مُوسَى بْن عُبَيْدَة عَنْ صَفْوَان بْن سُلَيْم عَنْ اِبْنٍ لِعَبْدِ اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : أَكْثِرُوا مِنْ زِيَارَة هَذَا الْبَيْت مِنْ قَبْل أَنْ يُرْفَع وَيَنْسَى النَّاس مَكَانه ; وَأَكْثِرُوا تِلَاوَة الْقُرْآن مِنْ قَبْل أَنْ يُرْفَع ; قَالُوا : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن هَذِهِ الْمَصَاحِف تُرْفَع فَكَيْف بِمَا فِي صُدُور الرِّجَال ؟ قَالَ : فَيُصْبِحُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نَتَكَلَّم بِكَلَامٍ وَنَقُول قَوْلًا فَيَرْجِعُونَ إِلَى شِعْر الْجَاهِلِيَّة وَأَحَادِيث الْجَاهِلِيَّة , وَذَلِكَ حِين يَقَع الْقَوْل عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : الْقَوْل هُوَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْل مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم " [ السَّجْدَة : 13 ] فَوُقُوع الْقَوْل وُجُوب الْعِقَاب عَلَى هَؤُلَاءِ , فَإِذَا صَارُوا إِلَى حَدّ لَا تُقْبَل تَوْبَتهمْ وَلَا يُولَد لَهُمْ وَلَد مُؤْمِن فَحِينَئِذٍ تَقُوم الْقِيَامَة ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ . وَقَوْل سَادِس : قَالَتْ حَفْصه بِنْت سِيرِينَ سَأَلْت أَبَا الْعَالِيَة عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْل عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّة مِنْ الْأَرْض تُكَلِّمهُمْ " فَقَالَ : أَوْحَى اللَّه إِلَى نُوح " أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِن مِنْ قَوْمك إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ " [ هُود : 36 ] وَكَأَنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِي غِطَاء فَكُشِفَ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ حَسَن الْجَوَاب ; لِأَنَّ النَّاس مُمْتَحَنُونَ وَمُؤَخَّرُونَ لِأَنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنِينَ وَصَالِحِينَ , وَمَنْ قَدْ عَلِمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ سَيُؤْمِنُ وَيَتُوب ; فَلِهَذَا أُمْهِلُوا وَأُمِرْنَا بِأَخْذِ الْجِزْيَة , فَإِذَا زَالَ هَذَا وَجَبَ الْقَوْل عَلَيْهِمْ , فَصَارُوا كَقَوْمِ نُوح حِين قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّهُ لَنْ يُؤْمِن مِنْ قَوْمك إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ " [ هُود : 36 ] .
قُلْت : وَجَمِيع الْأَقْوَال عِنْد التَّأَمُّل تَرْجِع إِلَى مَعْنًى وَاحِد . وَالدَّلِيل عَلَيْهِ آخِر الْآيَة " إِنَّ النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ " وَقُرِئَ : " أَنَّ " : بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَسَيَأْتِي . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاث إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَالدَّجَّال وَدَابَّة الْأَرْض ) وَقَدْ مَضَى . وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِين هَذِهِ الدَّابَّة وَصِفَتهَا وَمِنْ أَيْنَ تَخْرُج اِخْتِلَافًا كَثِيرًا ; قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَنَذْكُرهُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مُسْتَوْفًى . فَأَوَّل الْأَقْوَال أَنَّهُ فَصِيل نَاقَة صَالِح وَهُوَ أَصَحّهَا - وَاَللَّه أَعْلَم - لِمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده عَنْ حُذَيْفَة قَالَ : ذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّابَّة فَقَالَ : ( لَهَا ثَلَاث خَرْجَات مِنْ الدَّهْر فَتَخْرُج فِي أَقْصَى الْبَادِيَة وَلَا يَدْخُل ذِكْرهَا الْقَرْيَة - يَعْنِي مَكَّة - ثُمَّ تَكْمُن زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ تَخْرُج خَرْجَة أُخْرَى دُون ذَلِكَ فَيَفْشُو ذِكْرهَا فِي الْبَادِيَة وَيَدْخُل ذِكْرهَا الْقَرْيَة ) يَعْنِي مَكَّة قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثُمَّ بَيْنَمَا النَّاس فِي أَعْظَم الْمَسَاجِد عَلَى اللَّه حُرْمَة خَيْرهَا وَأَكْرَمهَا عَلَى اللَّه الْمَسْجِد الْحَرَام لَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَهِيَ تَرْغُو بَيْن الرُّكْن وَالْمَقَام تَنْفُض عَنْ رَأْسهَا التُّرَاب فَارْفَضَّ النَّاس مِنْهَا شَتَّى وَمَعًا وَتَثْبُت عِصَابَة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللَّه فَبَدَأَتْ بِهِمْ فَجَلَتْ وُجُوههمْ حَتَّى جَعَلَتْهَا كَأَنَّهَا الْكَوْكَب الدُّرِّيّ وَوَلَّتْ فِي الْأَرْض لَا يُدْرِكهَا طَالِب وَلَا يَنْجُو مِنْهَا هَارِب حَتَّى إِنَّ الرَّجُل لَيَتَعَوَّذ مِنْهَا بِالصَّلَاةِ فَتَأْتِيه مِنْ خَلْفه فَتَقُول يَا فُلَان الْآن تُصَلِّي فَتُقْبِل عَلَيْهِ فَتَسِمهُ فِي وَجْهه ثُمَّ تَنْطَلِق وَيَشْتَرِك النَّاس فِي الْأَمْوَال وَيَصْطَلِحُونَ فِي الْأَمْصَار يُعْرَف الْمُؤْمِن مِنْ الْكَافِر حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِن يَقُول يَا كَافِر اِقْضِ حَقِّي ) . وَمَوْضِع الدَّلِيل مِنْ هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ الْفَصِيل قَوْله : ( وَهِيَ تَرْغُو ) وَالرُّغَاء إِنَّمَا هُوَ لِلْإِبِلِ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْفَصِيل لَمَّا قُتِلَتْ النَّاقَة هَرَبَ فَانْفَتَحَ لَهُ حَجَر فَدَخَلَ فِي جَوْفه ثُمَّ اِنْطَبَقَ عَلَيْهِ , فَهُوَ فِيهِ حَتَّى يَخْرُج بِإِذْنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَرُوِيَ أَنَّهَا دَابَّة مُزَغَّبَة شَعْرَاء , ذَات قَوَائِم طُولهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا , وَيُقَال إِنَّهَا الْجَسَّاسَة ; وَهُوَ قَوْل عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهَا عَلَى خِلْقَة الْآدَمِيِّينَ ; وَهِيَ فِي السَّحَاب وَقَوَائِمهَا فِي الْأَرْض . وَرُوِيَ أَنَّهَا جَمَعَتْ مِنْ خَلْق كُلّ حَيَوَان . وَذَكَر الْمَاوَرْدِيّ وَالثَّعْلَبِيّ رَأْسهَا رَأْس ثَوْر , وَعَيْنهَا عَيْن خِنْزِير , وَأُذُنهَا أُذُن فِيل , وَقَرْنهَا قَرْن أُيَّل , وَعُنُقهَا عُنُق نَعَامَة , وَصَدْرهَا صَدْر أَسَد , وَلَوْنهَا لَوْن نَمِر , وَخَاصِرَتهَا خَاصِرَة هِرّ , وَذَنَبهَا ذَنَب كَبْش , وَقَوَائِمهَا قَوَائِم بَعِير بَيْن كُلّ مِفْصَل وَمِفْصَل اِثْنَا عَشَر ذِرَاعًا - الزَّمَخْشَرِيّ : بِذِرَاعِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام - وَيَخْرُج مَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَم سُلَيْمَان , فَتَنْكُت فِي وَجْه الْمُسْلِم بِعَصَا مُوسَى نُكْتَة بَيْضَاء فَيَبْيَضّ وَجْهه , وَتَنْكُت فِي وَجْه الْكَافِر بِخَاتَمِ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَيَسْوَدّ وَجْهه ; قَالَهُ اِبْن الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَفِي كِتَاب النَّقَّاش عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : إِنَّ الدَّابَّة الثُّعْبَان الْمُشْرِف عَلَى جِدَار الْكَعْبَة الَّتِي اِقْتَلَعَتْهَا الْعُقَاب حِين أَرَادَتْ قُرَيْش بِنَاء الْكَعْبَة . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّة فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّه مَا لَهَا ذَنَب وَإِنَّ لَهَا لَلِحْيَة . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَفِي هَذَا الْقَوْل مِنْهُ إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا مِنْ الْإِنْس وَإِنْ لَمْ يُصَرِّح بِهِ .
قُلْت : وَلِهَذَا - وَاَللَّه أَعْلَم - قَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ الْأَقْرَب أَنْ تَكُون هَذِهِ الدَّابَّة إِنْسَانًا مُتَكَلِّمًا يُنَاظِر أَهْل الْبِدَع وَالْكُفْر وَيُجَادِلهُمْ لِيَنْقَطِعُوا , فَيَهْلِك مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة : وَيَحْيَا مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَة . قَالَ شَيْخنَا الْإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عُمَر الْقُرْطُبِيّ فِي كِتَاب الْمُفْهِم لَهُ : وَإِنَّمَا كَانَ عِنْد هَذَا الْقَائِل الْأَقْرَب لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " تُكَلِّمهُمْ " وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُون فِي هَذِهِ الدَّابَّة آيَة خَاصَّة خَارِقَة لِلْعَادَةِ , وَلَا يَكُون مِنْ الْعَشْر الْآيَات الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث ; لِأَنَّ وُجُود الْمُنَاظِرِينَ وَالْمُحْتَجِّينَ عَلَى أَهْل الْبِدَع كَثِير , فَلَا آيَة خَاصَّة بِهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُذْكَر مَعَ الْعَشْر , وَتَرْتَقِع خُصُوصِيَّة وُجُودهَا إِذَا وَقَعَ الْقَوْل , ثُمَّ فِيهِ الْعُدُول عَنْ تَسْمِيَة هَذَا الْإِنْسَان الْمَنَاظِر الْفَاضِل الْعَالِم الَّذِي عَلَى أَهْل الْأَرْض أَنْ يُسَمُّوهُ بِاسْمِ الْإِنْسَان أَوْ بِالْعَالِمِ أَوْ بِالْإِمَامِ إِلَى أَنْ يُسَمَّى بِدَابَّةٍ ; وَهَذَا خُرُوج عَنْ عَادَة الْفُصَحَاء , وَعَنْ تَعْظِيم الْعُلَمَاء , وَلَيْسَ ذَلِكَ دَأْب الْعُقَلَاء ; فَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ أَهْل التَّفْسِير , وَاَللَّه أَعْلَم بِحَقَائِقِ الْأُمُور .
قُلْت : قَدْ رَفَعَ الْإِشْكَال فِي هَذِهِ الدَّابَّة مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيث حُذَيْفَة فَلْيُعْتَمَدْ عَلَيْهِ , وَاخْتُلِفَ مِنْ أَيّ مَوْضِع تَخْرُج , فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : تَخْرُج مِنْ جَبَل الصَّفَا بِمَكَّةَ ; يَتَصَدَّع فَتَخْرُج مِنْهُ . قَالَ عَبْد اللَّه اِبْن عَمْرو نَحْوه وَقَالَ : لَوْ شِئْت أَنْ أَضَع قَدَمِي عَلَى مَوْضِع خُرُوجهَا لَفَعَلْت وَرُوِيَ فِي خَبَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْأَرْض تَنْشَقّ عَنْ الدَّابَّة وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَطُوف بِالْبَيْتِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ نَاحِيَة الْمَسْعَى وَإِنَّهَا تَخْرُج مِنْ الصَّفَا فَتَسِم بَيْن عَيْنَيْ الْمُؤْمِن هُوَ مُؤْمِن سِمَة كَأَنَّهَا كَوْكَب دُرِّيّ وَتَسِم بَيْن عَيْنَيْ الْكَافِر نُكْتَة سَوْدَاء كَافِر ) وَذُكِرَ فِي الْخَبَر أَنَّهَا ذَات وَبَر وَرِيش ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهَا تَخْرُج مِنْ شِعْب فَتَمَسّ رَأْسهَا السَّحَاب وَرِجْلَاهَا فِي الْأَرْض لَمْ تَخْرُجَا , وَتَخْرُج وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَم سُلَيْمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام . وَعَنْ حُذَيْفَة : تَخْرُج ثَلَاث خَرْجَات ; خَرْجَة فِي بَعْض الْبَوَادِي ثُمَّ تَكْمُن , وَخَرْجَة فِي الْقُرَى يَتَقَاتَل فِيهَا الْأُمَرَاء حَتَّى تَكْثُر الدِّمَاء , وَخَرْجَة مِنْ أَعْظَم الْمَسَاجِد وَأَكْرَمهَا وَأَشْرَفهَا وَأَفْضَلهَا الزَّمَخْشَرِيّ : تَخْرُج مِنْ بَيْن الرُّكْن حِذَاء دَار بَنِي مَخْزُوم عَنْ يَمِين الْخَارِج مِنْ الْمَسْجِد ; فَقَوْم يَهْرُبُونَ , وَقَوْم يَقِفُونَ نَظَّارَة . وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَة أَنَّهَا تَخْرُج فِي تِهَامَة . وَرُوِيَ أَنَّهَا تَخْرُج مِنْ مَسْجِد الْكُوفَة مِنْ حَيْثُ فَارَ تَنُّور نُوح عَلَيْهِ السَّلَام . وَقِيلَ : مِنْ أَرْض الطَّائِف ; قَالَ أَبُو قَبِيل : ضَرَبَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَرْض الطَّائِف بِرِجْلِهِ وَقَالَ : مِنْ هُنَا تَخْرُج الدَّابَّة الَّتِي تُكَلِّم النَّاس وَقِيلَ : مِنْ بَعْض أَوْدِيَة تِهَامَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقِيلَ : مِنْ صَخْرَة مِنْ شِعْب أَجْيَاد ; قَالَهُ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو . وَقِيلَ : مِنْ بَحْر سَدُوم ; قَالَهُ وَهْب بْن مُنَبِّه . ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَابه . وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ أَبُو الْقَاسِم عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْجَعْد عَنْ فَضِيل بْن مَرْزُوق الرَّقَاشِيّ الْأَغَرّ - وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْن مَعِين فَقَالَ ثِقَة - عَنْ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ تَخْرُج الدَّابَّة مِنْ صَدْع فِي الْكَعْبَة كَجَرْيِ الْفَرَس ثَلَاثَة أَيَّام لَا يَخْرُج ثُلُثهَا .
قُلْت : فَهَذِهِ أَقْوَال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي خُرُوج الدَّابَّة وَصِفَتهَا , وَهِيَ تَرُدّ قَوْل مَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ الدَّابَّة إِنَّمَا هِيَ إِنْسَان مُتَكَلِّم يُنَاظِر أَهْل الْبِدَع وَالْكُفْر وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( تَخْرُج الدَّابَّة فَتَسِم النَّاس عَلَى خَرَاطِيمهمْ ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . " تُكَلِّمهُمْ " بِضَمِّ التَّاء وَشَدّ اللَّام الْمَكْسُورَة - مِنْ الْكَلَام - قِرَاءَة الْعَامَّة ; يَدُلّ عَلَيْهِ قِرَاءَة أُبَيّ " تُنَبِّئهُمْ " . وَقَالَ السُّدِّيّ : تُكَلِّمهُمْ بِبُطْلَانِ الْأَدْيَان سِوَى دِين الْإِسْلَام . وَقِيلَ : تُكَلِّمهُمْ بِمَا يَسُوءهُمْ . وَقِيلَ : تُكَلِّمهُمْ بِلِسَانٍ ذَلِق فَتَقُول بِصَوْتٍ يَسْمَعهُ مَنْ قَرُبَ وَبَعُدَ " إِنَّ النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ " وَتَقُول : أَلَا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظَّالِمِينَ . وَقَرَأَ أَبُو زُرْعَة وَابْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَأَبُو رَجَاء : " تَكْلِمهُمْ " بِفَتْحِ التَّاء مِنْ الْكَلْم وَهُوَ الْجَرْح قَالَ عِكْرِمَة : أَيْ تَسِمُهُمْ . وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاء : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ هَذِهِ الْآيَة " تُكَلِّمهُمْ " أَوْ " تَكْلِمهُمْ " ؟ فَقَالَ : هِيَ وَاَللَّه تُكَلِّمهُمْ وَتَكْلِمهُمْ ; تُكَلِّم الْمُؤْمِن وَتَكْلِم الْكَافِر وَالْفَاجِر أَيْ تَجْرَحهُ . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : " تُكَلِّمهُمْ " كَمَا تَقُول تَجْرَحهُمْ ; يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ تَكْثِير مِنْ " تَكْلِمهُمْ " .
يُوقِنُونَ " أَيْ بِخُرُوجِي ; لِأَنَّ خُرُوجهَا مِنْ الْآيَات . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَحْيَى : " أَنَّ " بِالْفَتْحِ . وَقَرَأَ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَهْل الشَّام وَأَهْل الْبَصْرَة : " إِنَّ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة . قَالَ النَّحَّاس : فِي الْمَفْتُوحَة قَوْلَانِ وَكَذَا الْمَكْسُورَة ; قَالَ الْأَخْفَش : الْمَعْنَى بِأَنَّ وَكَذَا قَرَأَ اِبْن مَسْعُود " بِأَنَّ " وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : مَوْضِعهَا نَصْب بِوُقُوعِ الْفِعْل عَلَيْهَا ; أَيْ تُخْبِرهُمْ أَنَّ النَّاس . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء : " إِنَّ النَّاس " بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف وَقَالَ الْأَخْفَش : هِيَ بِمَعْنَى تَقُول إِنَّ النَّاس ; يَعْنِي الْكُفَّار " بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ " يَعْنِي بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَذَلِكَ حِين لَا يَقْبَل اللَّه مِنْ كَافِر إِيمَانًا وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ فِي عِلْم اللَّه قَبْل خُرُوجهَا ; وَاَللَّه أَعْلَم .
أُمَّة فَوْجًا " أَيْ زُمْرَة وَجَمَاعَة .
مِمَّنْ يُكَذِّب بِآيَاتِنَا " يَعْنِي بِالْقُرْآنِ وَبِأَعْلَامِنَا الدَّالَّة عَلَى الْحَقّ .
أَيْ يُدْفَعُونَ وُسَاقُونَ إِلَى مَوْضِع الْحِسَاب . قَالَ الشَّمَّاخ : ش وَكَمْ وَزَعْنَا مِنْ خَمِيس جَحْفَل /و وَكَمْ حَبْونَا مِنْ رَئِيس مِسْحَل وَقَالَ قَتَادَة : " يُوزَعُونَ " أَيْ يَرُدّ أَوَّلهمْ عَلَى آخِرهمْ .
مِمَّنْ يُكَذِّب بِآيَاتِنَا " يَعْنِي بِالْقُرْآنِ وَبِأَعْلَامِنَا الدَّالَّة عَلَى الْحَقّ .
أَيْ يُدْفَعُونَ وُسَاقُونَ إِلَى مَوْضِع الْحِسَاب . قَالَ الشَّمَّاخ : ش وَكَمْ وَزَعْنَا مِنْ خَمِيس جَحْفَل /و وَكَمْ حَبْونَا مِنْ رَئِيس مِسْحَل وَقَالَ قَتَادَة : " يُوزَعُونَ " أَيْ يَرُدّ أَوَّلهمْ عَلَى آخِرهمْ .
حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ↓
أَيْ قَالَ لَهُمْ اللَّه
الَّتِي أَنْزَلْتهَا عَلَى رُسُلِي , وَبِالْآيَاتِ الَّتِي أَقَمْتهَا دَلَالَة عَلَى تَوْحِيدِي .
أَيْ بِبُطْلَانِهَا حَتَّى تُعْرِضُوا عَنْهَا , بَلْ كَذَّبْتهمْ جَاهِلِينَ غَيْر مُسْتَدِلِّينَ .
تَقْرِيع وَتَوْبِيخ أَيْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حِين لَمْ تَبْحَثُوا عَنْهَا وَلَمْ تَتَفَكَّرُوا مَا فِيهَا .
الَّتِي أَنْزَلْتهَا عَلَى رُسُلِي , وَبِالْآيَاتِ الَّتِي أَقَمْتهَا دَلَالَة عَلَى تَوْحِيدِي .
أَيْ بِبُطْلَانِهَا حَتَّى تُعْرِضُوا عَنْهَا , بَلْ كَذَّبْتهمْ جَاهِلِينَ غَيْر مُسْتَدِلِّينَ .
تَقْرِيع وَتَوْبِيخ أَيْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حِين لَمْ تَبْحَثُوا عَنْهَا وَلَمْ تَتَفَكَّرُوا مَا فِيهَا .
ظَلَمُوا " أَيْ وَجَبَ الْعَذَاب عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ أَيْ بِشِرْكِهِمْ .
يَنْطِقُونَ " أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عُذْر وَلَا حُجَّة . وَقِيلَ : يُخْتَم عَلَى أَفْوَاههمْ فَلَا يَنْطِقُونَ ; قَالَهُ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ .
يَنْطِقُونَ " أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عُذْر وَلَا حُجَّة . وَقِيلَ : يُخْتَم عَلَى أَفْوَاههمْ فَلَا يَنْطِقُونَ ; قَالَهُ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ .
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ↓
جَعَلْنَا اللَّيْل لِيَسْكُنُوا فِيهِ " أَيْ يَسْتَقِرُّونَ فَيَنَامُونَ .
مُبْصِرًا " أَيْ يُبْصَر فِيهِ لِسَعْيِ الرِّزْق .
" بِاَللَّهِ . ذَكَرَ الدَّلَالَة عَلَى إِلَهِيَّته وَقُدْرَته أَيْ أَلَمْ يَعْلَمُوا كَمَال قُدْرَتنَا فَيُؤْمِنُوا .
مُبْصِرًا " أَيْ يُبْصَر فِيهِ لِسَعْيِ الرِّزْق .
" بِاَللَّهِ . ذَكَرَ الدَّلَالَة عَلَى إِلَهِيَّته وَقُدْرَته أَيْ أَلَمْ يَعْلَمُوا كَمَال قُدْرَتنَا فَيُؤْمِنُوا .
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ↓
يُنْفَخ فِي الصُّور فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض " أَيْ وَاذْكُرْ يَوْم أَوْ ذَكِّرْهُمْ يَوْم يُنْفَخ فِي الصُّور وَمَذْهَب الْفَرَّاء أَنَّ الْمَعْنَى : وَذَلِكُمْ يَوْم يُنْفَخ فِي الصُّور ; وَأَجَازَ فِيهِ الْحَذْف وَالصَّحِيح فِي الصُّور أَنَّهُ قَرْن مِنْ نُور يَنْفُخ فِيهِ إِسْرَافِيل قَالَ مُجَاهِد : كَهَيْئَةِ الْبُوق وَقِيلَ : هُوَ الْبُوق بِلُغَةِ أَهْل الْيَمَن وَقَدْ مَضَى فِي [ الْأَنْعَام ] بَيَانه وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ . " فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْق السَّمَوَات خَلَقَ الصُّور فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيل فَهُوَ وَاضِعه عَلَى فِيهِ شَاخِص بِبَصَرِهِ إِلَى الْعَرْش يَنْتَظِر مَتَى يُؤْمَر بِالنَّفْخَةِ ) قُلْت : يَا رَسُول اللَّه مَا الصُّور ؟ قَالَ : ( قَرْن وَاَللَّه عَظِيم وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ إِنَّ عُظْم دَارَة فِيهِ كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْض فَيَنْفُخ فِيهِ ثَلَاث نَفَخَات النَّفْخَة الْأُولَى نَفْخَة الْفَزَع وَالثَّانِيَة نَفْحَة الصَّعْق وَالثَّالِثَة نَفْخَة الْبَعْث وَالْقِيَام لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . .. ) وَذَكَرَ الْحَدِيث ذَكَرَهُ عَلِيّ بْن مَعْبَد وَالطَّبَرِيّ وَالثَّعْلَبِيّ وَغَيْرهمْ , وَصَحَّحَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . وَقَدْ ذَكَرْته فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ هُنَالِكَ , وَأَنَّ الصَّحِيح فِي النَّفْخ فِي الصُّور أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ لَا ثَلَاث , وَأَنَّ نَفْخَة الْفَزَع إِنَّمَا تَكُون رَاجِعَة إِلَى نَفْخَة الصَّعْق لِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ لَا زَمَان لَهُمَا ; أَيْ فَزِعُوا فَزَعًا مَاتُوا مِنْهُ ; أَوْ إِلَى نَفْخَة الْبَعْث وَهُوَ اِخْتِيَار الْقُشَيْرِيّ وَغَيْره ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي كَلَامه عَلَى هَذِهِ الْآيَة : وَالْمُرَاد النَّفْخَة الثَّانِيَة أَيْ يَحْيَوْنَ فَزِعِينَ يَقُولُونَ : " مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدنَا " [ يس : 52 ] ; وَيُعَايِنُونَ مِنْ الْأُمُور مَا يَهُولهُمْ وَيُفْزِعهُمْ ; وَهَذَا النَّفْخ كَصَوْتِ الْبُوق لِتَجْتَمِع الْخَلْق فِي أَرْض الْجَزَاء . قَالَهُ قَتَادَة وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ : " وَيَوْم يُنْفَخ فِي الصُّور " . هُوَ يَوْم النُّشُور مِنْ الْقُبُور , قَالَ وَفِي هَذَا الْفَزَع قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ الْإِسْرَاع وَالْإِجَابَة إِلَى النِّدَاء مِنْ قَوْلهمْ : فَزِعْت إِلَيْك فِي كَذَا إِذَا أَسْرَعْت إِلَى نِدَائِك فِي مَعُونَتك وَالْقَوْل الثَّانِي : إِنَّ الْفَزَع هُنَا هُوَ الْفَزَع الْمَعْهُود مِنْ الْخَوْف وَالْحُزْن ; لِأَنَّهُمْ أُزْعِجُوا مِنْ قُبُورهمْ فَفَزِعُوا وَخَافُوا . وَهَذَا أَشْبَه الْقَوْلَيْنِ .
قُلْت : وَالسُّنَّة الثَّابِتَة مِنْ حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة وَحَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ لَا ثَلَاث ; خَرَّجَهُمَا مُسْلِم وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَنُفِخَ فِي الصُّوَر فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " [ الزُّمَر : 68 ] فَاسْتَثْنَى هُنَا كَمَا اِسْتَثْنَى فِي نَفْخَة الْفَزَع فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا وَاحِدَة . وَقَدْ رَوَى اِبْن الْمُبَارَك عَنْ الْحَسَن قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْن النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَة الْأُولَى يُمِيت اللَّه بِهَا كُلّ حَيّ وَالْأُخْرَى يُحْيِي اللَّه بِهَا كُلّ مَيِّت ) فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم تَرْجُف الرَّاجِفَة تَتْبَعهَا الرَّادِفَة " [ النَّازِعَات : 7 ] إِلَى أَنْ قَالَ : " فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة " [ النَّازِعَات : 13 ] وَهَذَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّهَا ثَلَاث قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِالزَّجْرَةِ النَّفْخَة الثَّانِيَة الَّتِي يَكُون عَنْهَا خُرُوج الْخَلْق مِنْ قُبُورهمْ ; كَذَلِكَ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَعَطَاء وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ . قَالَ مُجَاهِد : هُمَا صَيْحَتَانِ أَمَّا الْأُولَى فَتُمِيت كُلّ شَيْء بِإِذْنِ اللَّه , وَأَمَّا الْأُخْرَى فَتُحْيِي كُلّ شَيْء بِإِذْنِ اللَّه . وَقَالَ عَطَاء : " الرَّاجِفَة " الْقِيَامَة وَ " الرَّادِفَة " الْبَعْث . وَقَالَ اِبْن زَيْد : " الرَّاجِفَة " الْمَوْت وَ " الرَّادِفَة " السَّاعَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَوْله " فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَات " مَاضٍ وَ " يُنْفَخ " مُسْتَقْبَل فَيُقَال : كَيْف عُطِفَ مَاضٍ عَلَى مُسْتَقْبَل ؟ فَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ هَذَا مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْمَعْنَى : إِذَا نُفِخَ فِي الصُّوَر فَفَزِعَ .
اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْمُسْتَثْنَى مَنْ هُمْ . فَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُمْ الشُّهَدَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ إِنَّمَا يَصِل الْفَزَع إِلَى الْأَحْيَاء ; وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّهُمْ الشُّهَدَاء مُتَقَلِّدُو السُّيُوف حَوْل الْعَرْش وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : الْأَنْبِيَاء دَاخِلُونَ فِي جُمْلَتهمْ ; لِأَنَّ لَهُمْ الشَّهَادَة مَعَ النُّبُوَّة وَقِيلَ : الْمَلَائِكَة . قَالَ الْحَسَن : اِسْتَثْنَى طَوَائِف مِنْ الْمَلَائِكَة يَمُوتُونَ بَيْن النَّفْخَتَيْنِ قَالَ مُقَاتِل : يَعْنِي جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت . وَقِيلَ : الْحُور الْعِين . وَقِيلَ : هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ عَقِب هَذَا : " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْر مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمئِذٍ آمِنُونَ " وَقَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : وَالصَّحِيح أَنَّهُ لَمْ يَرِد فِي تَعْيِينهمْ خَبَر صَحِيح وَالْكُلّ مُحْتَمَل .
قُلْت : خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَقَدْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ فَلْيُعَوَّلْ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ نَصّ فِي التَّعْيِين وَغَيْره اِجْتِهَاد . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مَا يَأْتِي فِي [ الزُّمَر ] " إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاء
وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ " قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَالْكِسَائِيّ وَنَافِع وَابْن عَامِر وَابْن كَثِير : " آتُوهُ " جَعَلُوهُ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَحَمْزَة وَحَفْص عَنْ عَاصِم : " وَكُلّ أَتَوْهُ " مَقْصُورًا عَلَى الْفِعْل الْمَاضِي , وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ اِبْن مَسْعُود وَعَنْ قَتَادَة " وَكُلّ أَتَاهُ دَاخِرِينَ " قَالَ النَّحَّاس : وَفِي كِتَابِي عَنْ أَبِي إِسْحَاق فِي الْقِرَاءَات مَنْ قَرَأَ : " وَكُلّ أَتَوْهُ " وَحْده عَلَى لَفْظ " كُلّ " وَمَنْ قَرَأَ : " أَتُوهُ " جَمْع عَلَى مَعْنَاهَا , وَهَذَا الْقَوْل غَلَط قَبِيح ; لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ : " وَكُلّ أَتَوْهُ " فَلَمْ يُوَحِّد وَإِنَّمَا جَمَعَ , وَلَوْ وَحَّدَ لَقَالَ : " أَتَاهُ " وَلَكِنْ مَنْ قَالَ : " أَتَوْهُ " جَمَعَ عَلَى الْمَعْنَى وَجَاءَ بِهِ مَاضِيًا لِأَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى " فَفَزِعَ " وَمَنْ قَرَأَ " وَكُلّ آتَوْهُ " حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى أَيْضًا وَقَالَ : " آتُوهُ " لِأَنَّهَا جُمْلَة مُنْقَطِعَة مِنْ الْأَوَّل قَالَ اِبْن نَصْر : قَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاق رَحِمَهُ اللَّه مَا لَمْ يَقُلْهُ , وَنَصّ أَبِي إِسْحَاق : " وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ " وَيُقْرَأ : " آتُوهُ " فَمَنْ وَحَّدَ فَلِلَفْظِ " كُلّ " وَمَنْ جَمَعَ فَلِمَعْنَاهَا . يُرِيد مَا أُتِيَ فِي الْقُرْآن أَوْ غَيْره مِنْ تَوْحِيد خَبَر " كُلّ " فَعَلَى اللَّفْظ أَوْ جَمْع فَعَلَى الْمَعْنَى ; فَلَمْ يَأْخُذ أَبُو جَعْفَر هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ " وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ " فَهُوَ فِعْل مِنْ الْإِتْيَان وَحُمِلَ عَلَى مَعْنَى " كُلّ " دُون لَفْظهَا , وَمَنْ قَرَأَ " وَكُلّ آتُوهُ دَاخِرِينَ " فَهُوَ اِسْم الْفَاعِل مِنْ أَتَى يَدُلّك عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَكُلّهمْ آتِيه يَوْم الْقِيَامَة فَرْدًا " [ مَرْيَم : 95 ] وَمَنْ قَرَأَ " وَكُلّ أَتَاهُ " حَمَلَهُ عَلَى لَفْظ " كُلّ " دُون مَعْنَاهَا وَحَمَلَ " دَاخِرِينَ " عَلَى الْمَعْنَى , وَمَعْنَاهُ صَاغِرِينَ , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . وَقَدْ مَضَى فِي [ النَّحْل ] .
قُلْت : وَالسُّنَّة الثَّابِتَة مِنْ حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة وَحَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ لَا ثَلَاث ; خَرَّجَهُمَا مُسْلِم وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَنُفِخَ فِي الصُّوَر فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " [ الزُّمَر : 68 ] فَاسْتَثْنَى هُنَا كَمَا اِسْتَثْنَى فِي نَفْخَة الْفَزَع فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا وَاحِدَة . وَقَدْ رَوَى اِبْن الْمُبَارَك عَنْ الْحَسَن قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْن النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَة الْأُولَى يُمِيت اللَّه بِهَا كُلّ حَيّ وَالْأُخْرَى يُحْيِي اللَّه بِهَا كُلّ مَيِّت ) فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم تَرْجُف الرَّاجِفَة تَتْبَعهَا الرَّادِفَة " [ النَّازِعَات : 7 ] إِلَى أَنْ قَالَ : " فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة " [ النَّازِعَات : 13 ] وَهَذَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّهَا ثَلَاث قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِالزَّجْرَةِ النَّفْخَة الثَّانِيَة الَّتِي يَكُون عَنْهَا خُرُوج الْخَلْق مِنْ قُبُورهمْ ; كَذَلِكَ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَعَطَاء وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ . قَالَ مُجَاهِد : هُمَا صَيْحَتَانِ أَمَّا الْأُولَى فَتُمِيت كُلّ شَيْء بِإِذْنِ اللَّه , وَأَمَّا الْأُخْرَى فَتُحْيِي كُلّ شَيْء بِإِذْنِ اللَّه . وَقَالَ عَطَاء : " الرَّاجِفَة " الْقِيَامَة وَ " الرَّادِفَة " الْبَعْث . وَقَالَ اِبْن زَيْد : " الرَّاجِفَة " الْمَوْت وَ " الرَّادِفَة " السَّاعَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَوْله " فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَات " مَاضٍ وَ " يُنْفَخ " مُسْتَقْبَل فَيُقَال : كَيْف عُطِفَ مَاضٍ عَلَى مُسْتَقْبَل ؟ فَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ هَذَا مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْمَعْنَى : إِذَا نُفِخَ فِي الصُّوَر فَفَزِعَ .
اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْمُسْتَثْنَى مَنْ هُمْ . فَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُمْ الشُّهَدَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ إِنَّمَا يَصِل الْفَزَع إِلَى الْأَحْيَاء ; وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّهُمْ الشُّهَدَاء مُتَقَلِّدُو السُّيُوف حَوْل الْعَرْش وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : الْأَنْبِيَاء دَاخِلُونَ فِي جُمْلَتهمْ ; لِأَنَّ لَهُمْ الشَّهَادَة مَعَ النُّبُوَّة وَقِيلَ : الْمَلَائِكَة . قَالَ الْحَسَن : اِسْتَثْنَى طَوَائِف مِنْ الْمَلَائِكَة يَمُوتُونَ بَيْن النَّفْخَتَيْنِ قَالَ مُقَاتِل : يَعْنِي جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت . وَقِيلَ : الْحُور الْعِين . وَقِيلَ : هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ عَقِب هَذَا : " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْر مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمئِذٍ آمِنُونَ " وَقَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : وَالصَّحِيح أَنَّهُ لَمْ يَرِد فِي تَعْيِينهمْ خَبَر صَحِيح وَالْكُلّ مُحْتَمَل .
قُلْت : خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَقَدْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ فَلْيُعَوَّلْ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ نَصّ فِي التَّعْيِين وَغَيْره اِجْتِهَاد . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مَا يَأْتِي فِي [ الزُّمَر ] " إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاء
وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ " قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَالْكِسَائِيّ وَنَافِع وَابْن عَامِر وَابْن كَثِير : " آتُوهُ " جَعَلُوهُ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَحَمْزَة وَحَفْص عَنْ عَاصِم : " وَكُلّ أَتَوْهُ " مَقْصُورًا عَلَى الْفِعْل الْمَاضِي , وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ اِبْن مَسْعُود وَعَنْ قَتَادَة " وَكُلّ أَتَاهُ دَاخِرِينَ " قَالَ النَّحَّاس : وَفِي كِتَابِي عَنْ أَبِي إِسْحَاق فِي الْقِرَاءَات مَنْ قَرَأَ : " وَكُلّ أَتَوْهُ " وَحْده عَلَى لَفْظ " كُلّ " وَمَنْ قَرَأَ : " أَتُوهُ " جَمْع عَلَى مَعْنَاهَا , وَهَذَا الْقَوْل غَلَط قَبِيح ; لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ : " وَكُلّ أَتَوْهُ " فَلَمْ يُوَحِّد وَإِنَّمَا جَمَعَ , وَلَوْ وَحَّدَ لَقَالَ : " أَتَاهُ " وَلَكِنْ مَنْ قَالَ : " أَتَوْهُ " جَمَعَ عَلَى الْمَعْنَى وَجَاءَ بِهِ مَاضِيًا لِأَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى " فَفَزِعَ " وَمَنْ قَرَأَ " وَكُلّ آتَوْهُ " حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى أَيْضًا وَقَالَ : " آتُوهُ " لِأَنَّهَا جُمْلَة مُنْقَطِعَة مِنْ الْأَوَّل قَالَ اِبْن نَصْر : قَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاق رَحِمَهُ اللَّه مَا لَمْ يَقُلْهُ , وَنَصّ أَبِي إِسْحَاق : " وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ " وَيُقْرَأ : " آتُوهُ " فَمَنْ وَحَّدَ فَلِلَفْظِ " كُلّ " وَمَنْ جَمَعَ فَلِمَعْنَاهَا . يُرِيد مَا أُتِيَ فِي الْقُرْآن أَوْ غَيْره مِنْ تَوْحِيد خَبَر " كُلّ " فَعَلَى اللَّفْظ أَوْ جَمْع فَعَلَى الْمَعْنَى ; فَلَمْ يَأْخُذ أَبُو جَعْفَر هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ " وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ " فَهُوَ فِعْل مِنْ الْإِتْيَان وَحُمِلَ عَلَى مَعْنَى " كُلّ " دُون لَفْظهَا , وَمَنْ قَرَأَ " وَكُلّ آتُوهُ دَاخِرِينَ " فَهُوَ اِسْم الْفَاعِل مِنْ أَتَى يَدُلّك عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَكُلّهمْ آتِيه يَوْم الْقِيَامَة فَرْدًا " [ مَرْيَم : 95 ] وَمَنْ قَرَأَ " وَكُلّ أَتَاهُ " حَمَلَهُ عَلَى لَفْظ " كُلّ " دُون مَعْنَاهَا وَحَمَلَ " دَاخِرِينَ " عَلَى الْمَعْنَى , وَمَعْنَاهُ صَاغِرِينَ , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . وَقَدْ مَضَى فِي [ النَّحْل ] .
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ↓
وَتَرَى الْجِبَال تَحْسَبهَا جَامِدَة وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السَّحَاب " قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ قَائِمَة وَهِيَ تَسِير سَيْرًا حَثِيثًا . قَالَ الْقُتَبِيّ : وَذَلِكَ أَنَّ الْجِبَال تُجْمَع وَتُسَيَّر , فَهِيَ فِي رُؤْيَة الْعَيْن كَالْقَائِمَةِ وَهِيَ تَسِير ; وَكَذَلِكَ كُلّ شَيّ عَظِيم وَجَمْع كَثِير يَقْصُر عَنْهُ النَّظَر , لِكَثْرَتِهِ وَبُعْد مَا بَيْن أَطْرَافه , وَهُوَ فِي حُسْبَان النَّاظِر كَالْوَاقِفِ وَهُوَ يَسِير قَالَ النَّابِغَة فِي وَصْف جَيْش : بِأَرْعَنَ مِثْل الطَّوْد تَحْسَب أَنَّهُمْ وُقُوف لَحَاج وَالرِّكَاب تُهَمْلِج قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا يَوْم الْقِيَامَة ; أَيْ هِيَ لِكَثْرَتِهَا كَأَنَّهَا جَامِدَة أَيْ وَاقِفَة فِي مَرْأَى الْعَيْن وَإِنْ كَانَتْ فِي أَنْفُسهَا تَسِير سَيْر السَّحَاب , وَالسَّحَاب الْمُتَرَاكِم يَظُنّ أَنَّهَا وَاقِفَة وَهِيَ تَسِير أَيْ تَمُرّ مَرّ السَّحَاب حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْء , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَسُيِّرَتْ الْجِبَال فَكَانَتْ سَرَابًا " [ النَّبَأ : 20 ] وَيُقَال : إِنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ الْجِبَال بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَة تَرْجِع كُلّهَا إِلَى تَفْرِيغ الْأَرْض مِنْهَا , وَإِبْرَاز مَا كَانَتْ تُوَارِيه , فَأَوَّل الصِّفَات الِانْدِكَاك وَذَلِكَ قَبْل الزَّلْزَلَة ; ثُمَّ تَصِير كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوش ; وَذَلِكَ إِذَا صَارَتْ السَّمَاء كَالْمُهْلِ , وَقَدْ جَمَعَ اللَّه بَيْنهمَا فَقَالَ : " يَوْم تَكُون السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُون الْجِبَال كَالْعِهْنِ " [ الْمَعَارِج : 8 - 9 ] . وَالْحَالَة الثَّالِثَة أَنْ تَصِير كَالْهَبَاءِ وَذَلِكَ أَنْ تَتَقَطَّع بَعْد أَنْ كَانَتْ كَالْعِهْنِ . وَالْحَالَة الرَّابِعَة أَنْ تُنْسَف لِأَنَّهَا مَعَ الْأَحْوَال الْمُتَقَدِّمَة قَارَّة فِي مَوَاضِعهَا وَالْأَرْض تَحْتهَا غَيْر بَارِزَة فَتُنْسَف عَنْهَا لِتَبْرُز , فَإِذَا نُسِفَتْ فَبِإِرْسَالِ الرِّيَاح عَلَيْهَا . وَالْحَالَة الْخَامِسَة أَنَّ الرِّيَاح تَرْفَعهَا عَلَى وَجْه الْأَرْض فَتُظْهِرهَا شُعَاعًا فِي الْهَوَاء كَأَنَّهَا غُبَار , فَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مِنْ بُعْد حَسِبَهَا لِتَكَاثُفِهَا أَجْسَادًا جَامِدَة , وَهِيَ بِالْحَقِيقَةِ مَارَّة إِلَّا أَنَّ مُرُورهَا مِنْ وَرَاء الرِّيَاح كَأَنَّهَا مُنْدَكَّة مُتَفَتِّتَة . وَالْحَالَة السَّادِسَة أَنْ تَكُون سَرَابًا فَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَوَاضِعهَا لَمْ يَجِد فِيهَا شَيْئًا مِنْهَا كَالسَّرَابِ قَالَ مُقَاتِل : تَقَع عَلَى الْأَرْض فَتُسَوَّى بِهَا . ثُمَّ قِيلَ هَذَا مَثَل , قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَفِيهِمَا ضَرْب لَهُ ثَلَاثَة أَقْوَال : أَحَدهَا أَنَّهُ مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِلدُّنْيَا يَظُنّ النَّاظِر إِلَيْهَا أَنَّهَا وَاقِفَة كَالْجِبَالِ , وَهِيَ آخِذَة بِحَظِّهَا مِنْ الزَّوَال كَالسَّحَابِ ; قَالَهُ سَهْل بْن عَبْد اللَّه . الثَّانِي : أَنَّهُ مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه لِلْإِيمَانِ تَحْسَبهُ ثَابِتًا فِي الْقَلْب وَعَمَله صَاعِد إِلَى السَّمَاء . الثَّالِث : أَنَّهُ مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه لِلنَّفْسِ عِنْد خُرُوج الرُّوح وَالرُّوح تَسِير إِلَى الْعَرْش . وَ " تَرَى " مِنْ رُؤْيَة الْعَيْن وَلَوْ كَانَتْ مِنْ رُؤْيَة الْقَلْب لَتَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ . وَالْأَصْل تُرْأَى فَأُلْقِيَتْ حَرَكَة الْهَمْزَة عَلَى الرَّاء فَتَحَرَّكَتْ الرَّاء وَحُذِفَتْ الْهَمْزَة , وَهَذَا سَبِيل تَخْفِيف الْهَمْزَة إِذَا كَانَ قَبْلهَا سَاكِن , إِلَّا أَنَّ التَّخْفِيف لَازِم لِتَرَى . وَأَهْل الْكُوفَة يَقْرَءُونَ : " تَحْسَبهَا " بِفَتْحِ السِّين وَهُوَ الْقِيَاس ; لِأَنَّهُ مِنْ حَسِبَ يَحْسَب إِلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافهَا أَنَّهُ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَل , فَتَكُون عَلَى فَعِلَ يَفْعَل مِثْل نَعِمَ يَنْعَم وَبَئِسَ يَبْئَس وَحَكَى يَئِسَ يَيْئِس مِنْ السَّالِم , لَا يُعْرَف فِي كَلَام الْعَرَب غَيْر هَذِهِ الْأَحْرُف " وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السَّحَاب " تَقْدِيره مَرًّا مِثْل مَرّ السَّحَاب , فَأُقِيمَتْ الصِّفَة مَقَام الْمَوْصُوف وَالْمُضَاف مَقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ ; فَالْجِبَال تُزَال مِنْ أَمَاكِنهَا مِنْ عَلَى وَجْه الْأَرْض وَتُجْمَع وَتَسِير كَمَا تَسِير السَّحَاب , ثُمَّ تُكْسَر فَتَعُود إِلَى الْأَرْض كَمَا قَالَ : " وَبُسَّتْ الْجِبَال بَسًّا " [ الْوَاقِعَة : 5 ]
أَتْقَنَ كُلّ شَيْء " أَيْ هَذَا مِنْ فِعْل اللَّه , وَمَا هُوَ فِعْل مِنْهُ فَهُوَ مُتْقَن . " صُنْع اللَّه " عِنْد الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ مَنْصُوب عَلَى أَنَّهُ مَصْدَر ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السَّحَاب " دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ ذَلِكَ صُنْعًا . وَيَجُوز النَّصْب عَلَى الْإِغْرَاء ; أَيْ اُنْظُرُوا صُنْع اللَّه . فَيُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " السَّحَاب " وَلَا يُوقَف عَلَيْهِ عَلَى التَّقْدِير الْأَوَّل . وَيَجُوز رَفْعه عَلَى تَقْدِير ذَلِكَ صُنْع اللَّه . " الَّذِي أَتْقَنَ كُلّ شَيْء " أَيْ أَحْكَمَهُ وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَحِمَ اللَّه مَنْ عَمِلَ عَمَلًا فَأَتْقَنَهُ ) . وَقَالَ قَتَادَة : مَعْنَاهُ أَحْسِنْ كُلّ شَيْء وَالْإِتْقَان الْإِحْكَام ; يُقَال : رَجُل تِقْن أَيْ حَاذِق بِالْأَشْيَاءِ وَقَالَ الزُّهْرِيّ : أَصْله مِنْ اِبْن تِقْن , وَهُوَ رَجُل مِنْ عَاد لَمْ يَكُنْ يَسْقُط لَهُ سَهْم فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَل ; يُقَال : أَرْمَى مِنْ اِبْن تِقْن ثُمَّ يُقَال لِكُلِّ حَاذِق بِالْأَشْيَاءِ تِقْن .
خَبِير بِمَا تَفْعَلُونَ " وَالْبَاقُونَ تَفْعَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب قِرَاءَة الْجُمْهُور وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَهِشَام بِالْيَاءِ . أَيْ عَالِم بِمَا تَفْعَلُونَ
أَتْقَنَ كُلّ شَيْء " أَيْ هَذَا مِنْ فِعْل اللَّه , وَمَا هُوَ فِعْل مِنْهُ فَهُوَ مُتْقَن . " صُنْع اللَّه " عِنْد الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ مَنْصُوب عَلَى أَنَّهُ مَصْدَر ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السَّحَاب " دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ ذَلِكَ صُنْعًا . وَيَجُوز النَّصْب عَلَى الْإِغْرَاء ; أَيْ اُنْظُرُوا صُنْع اللَّه . فَيُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " السَّحَاب " وَلَا يُوقَف عَلَيْهِ عَلَى التَّقْدِير الْأَوَّل . وَيَجُوز رَفْعه عَلَى تَقْدِير ذَلِكَ صُنْع اللَّه . " الَّذِي أَتْقَنَ كُلّ شَيْء " أَيْ أَحْكَمَهُ وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَحِمَ اللَّه مَنْ عَمِلَ عَمَلًا فَأَتْقَنَهُ ) . وَقَالَ قَتَادَة : مَعْنَاهُ أَحْسِنْ كُلّ شَيْء وَالْإِتْقَان الْإِحْكَام ; يُقَال : رَجُل تِقْن أَيْ حَاذِق بِالْأَشْيَاءِ وَقَالَ الزُّهْرِيّ : أَصْله مِنْ اِبْن تِقْن , وَهُوَ رَجُل مِنْ عَاد لَمْ يَكُنْ يَسْقُط لَهُ سَهْم فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَل ; يُقَال : أَرْمَى مِنْ اِبْن تِقْن ثُمَّ يُقَال لِكُلِّ حَاذِق بِالْأَشْيَاءِ تِقْن .
خَبِير بِمَا تَفْعَلُونَ " وَالْبَاقُونَ تَفْعَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب قِرَاءَة الْجُمْهُور وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَهِشَام بِالْيَاءِ . أَيْ عَالِم بِمَا تَفْعَلُونَ
قَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : الْحَسَنَة لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَقَالَ أَبُو مَعْشَر : كَانَ إِبْرَاهِيم يَحْلِف بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَلَا يَسْتَثْنِي أَنَّ الْحَسَنَة لَا إِلَه إِلَّا اللَّه مُحَمَّد رَسُول اللَّه . وَقَالَ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ : غَزَا رَجُل فَكَانَ إِذَا خَلَا بِمَكَانٍ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي أَرْض الرُّوم فِي أَرْض جلفاء وبردى رَفَعَ صَوْته فَقَالَ : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ فَخَرَجَ عَلَيْهِ رَجُل عَلَى فَرَس عَلَيْهِ ثِيَاب بِيض فَقَالَ لَهُ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا الْكَلِمَة الَّتِي قَالَ اللَّه تَعَالَيْ : " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْر مِنْهَا " وَرَوَى أَبُو ذَرّ قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه أَوْصِنِي , قَالَ : ( اِتَّقِ اللَّه وَإِذَا عَمِلْت سَيِّئَة فَأَتْبِعْهَا حَسَنَة تَمْحُهَا ) قَالَ : قُلْت : يَا رَسُول اللَّه أَمِنَ الْحَسَنَات لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ؟ قَالَ : ( مِنْ أَفْضَل الْحَسَنَات ) وَفِي رِوَايَة قَالَ : ( نَعَمْ هِيَ أَحْسَن الْحَسَنَات ) ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ , وَقَالَ قَتَادَة : " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ " بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيد . وَقِيلَ : أَدَاء الْفَرَائِض كُلّهَا .
قُلْت : إِذَا أَتَى بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه عَلَى حَقِيقَتهَا وَمَا يَجِب لَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة [ إِبْرَاهِيم ] فَقَدْ أَتَى بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاص وَالْفَرَائِض .
مِنْهَا " قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْخَيْر مِنْهَا ; وَقَالَهُ مُجَاهِد وَقِيلَ : فَلَهُ الْجَزَاء الْجَمِيل وَهُوَ الْجَنَّة وَلَيْسَ " خَيْر " لِلتَّفْضِيلِ قَالَ عِكْرِمَة وَابْن جُرَيْج : أَمَّا أَنْ يَكُون لَهُ خَيْر مِنْهَا يَعْنِي مِنْ الْإِيمَان فَلَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْء خَيْرًا مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَلَكِنْ لَهُ مِنْهَا خَيْر وَقِيلَ : " فَلَهُ خَيْر مِنْهَا " لِلتَّفْضِيلِ أَيْ ثَوَاب اللَّه خَيْر مِنْ عَمَل الْعَبْد وَقَوْله وَذِكْره , وَكَذَلِكَ رِضْوَان اللَّه خَيْر لِلْعَبْدِ مِنْ فِعْل الْعَبْد , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقِيلَ : يَرْجِع هَذَا إِلَى الْإِضْعَاف فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُعْطِيه بِالْوَاحِدَةِ عَشْرًا ; وَبِالْإِيمَانِ فِي مُدَّة يَسِيرَة الثَّوَاب الْأَبَدِيّ قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب وَعَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد
" وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمئِذٍ آمِنُونَ " قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " فَزَع يَوْمئِذٍ " بِالْإِضَافَةِ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَهَذَا أَعْجَب إِلَيَّ لِأَنَّهُ أَعَمّ التَّأْوِيلَيْنِ أَنْ يَكُون الْأَمْن مِنْ جَمِيع فَزَع ذَلِكَ الْيَوْم , وَإِذَا قَالَ : " مِنْ فَزَع يَوْمئِذٍ " صَارَ كَأَنَّهُ فَزَع دُون فَزَع . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقُرِئَ : " مِنْ فَزَع " بِالتَّنْوِينِ ثُمَّ قِيلَ يَعْنِي بِهِ فَزَعًا وَاحِدًا كَمَا قَالَ : " لَا يَحْزُنهُمْ الْفَزَع الْأَكْبَر " [ الْأَنْبِيَاء : 103 ] وَقِيلَ : عَنَى الْكَثْرَة لِأَنَّهُ مَصْدَر وَالْمَصْدَر صَالِح لِلْكَثْرَةِ .
قُلْت : فَعَلَى هَذَا تَكُون الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ : " مِنْ فَزَع يَوْمئِذٍ " بِالتَّنْوِينِ اِنْتَصَبَ " يَوْمئِذٍ " بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ " فَزَع " وَيَجُوز أَنْ يَكُون صِفَة لِفَزَعٍ وَيَكُون مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ ; لِأَنَّ الْمَصَادِر يُخْبَر عَنْهَا بِأَسْمَاءِ الزَّمَان وَتُوصَف بِهَا , وَيَجُوز أَنْ يَتَعَلَّق بِاسْمِ الْفَاعِل الَّذِي هُوَ " آمِنُونَ " . وَالْإِضَافَة عَلَى الِاتِّسَاع فِي الظُّرُوف , وَمَنْ حَذَفَ التَّنْوِين وَفَتَحَ الْمِيم بَنَاهُ لِأَنَّهُ ظَرْف زَمَان , وَلَيْسَ الْإِعْرَاب فِي ظَرْف الزَّمَان مُتَمَكِّنًا , فَلَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْر مُتَمَكِّن وَلَا مُعْرَب بُنِيَ . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : عَلَى حِين أَلْهَى النَّاس جُلّ أُمُورهمْ فَنَدْلًا رُزَيْق الْمَال نَدْل الثَّعَالِب
قُلْت : إِذَا أَتَى بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه عَلَى حَقِيقَتهَا وَمَا يَجِب لَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة [ إِبْرَاهِيم ] فَقَدْ أَتَى بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاص وَالْفَرَائِض .
مِنْهَا " قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْخَيْر مِنْهَا ; وَقَالَهُ مُجَاهِد وَقِيلَ : فَلَهُ الْجَزَاء الْجَمِيل وَهُوَ الْجَنَّة وَلَيْسَ " خَيْر " لِلتَّفْضِيلِ قَالَ عِكْرِمَة وَابْن جُرَيْج : أَمَّا أَنْ يَكُون لَهُ خَيْر مِنْهَا يَعْنِي مِنْ الْإِيمَان فَلَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْء خَيْرًا مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَلَكِنْ لَهُ مِنْهَا خَيْر وَقِيلَ : " فَلَهُ خَيْر مِنْهَا " لِلتَّفْضِيلِ أَيْ ثَوَاب اللَّه خَيْر مِنْ عَمَل الْعَبْد وَقَوْله وَذِكْره , وَكَذَلِكَ رِضْوَان اللَّه خَيْر لِلْعَبْدِ مِنْ فِعْل الْعَبْد , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقِيلَ : يَرْجِع هَذَا إِلَى الْإِضْعَاف فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُعْطِيه بِالْوَاحِدَةِ عَشْرًا ; وَبِالْإِيمَانِ فِي مُدَّة يَسِيرَة الثَّوَاب الْأَبَدِيّ قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب وَعَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد
" وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمئِذٍ آمِنُونَ " قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " فَزَع يَوْمئِذٍ " بِالْإِضَافَةِ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَهَذَا أَعْجَب إِلَيَّ لِأَنَّهُ أَعَمّ التَّأْوِيلَيْنِ أَنْ يَكُون الْأَمْن مِنْ جَمِيع فَزَع ذَلِكَ الْيَوْم , وَإِذَا قَالَ : " مِنْ فَزَع يَوْمئِذٍ " صَارَ كَأَنَّهُ فَزَع دُون فَزَع . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقُرِئَ : " مِنْ فَزَع " بِالتَّنْوِينِ ثُمَّ قِيلَ يَعْنِي بِهِ فَزَعًا وَاحِدًا كَمَا قَالَ : " لَا يَحْزُنهُمْ الْفَزَع الْأَكْبَر " [ الْأَنْبِيَاء : 103 ] وَقِيلَ : عَنَى الْكَثْرَة لِأَنَّهُ مَصْدَر وَالْمَصْدَر صَالِح لِلْكَثْرَةِ .
قُلْت : فَعَلَى هَذَا تَكُون الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ : " مِنْ فَزَع يَوْمئِذٍ " بِالتَّنْوِينِ اِنْتَصَبَ " يَوْمئِذٍ " بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ " فَزَع " وَيَجُوز أَنْ يَكُون صِفَة لِفَزَعٍ وَيَكُون مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ ; لِأَنَّ الْمَصَادِر يُخْبَر عَنْهَا بِأَسْمَاءِ الزَّمَان وَتُوصَف بِهَا , وَيَجُوز أَنْ يَتَعَلَّق بِاسْمِ الْفَاعِل الَّذِي هُوَ " آمِنُونَ " . وَالْإِضَافَة عَلَى الِاتِّسَاع فِي الظُّرُوف , وَمَنْ حَذَفَ التَّنْوِين وَفَتَحَ الْمِيم بَنَاهُ لِأَنَّهُ ظَرْف زَمَان , وَلَيْسَ الْإِعْرَاب فِي ظَرْف الزَّمَان مُتَمَكِّنًا , فَلَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْر مُتَمَكِّن وَلَا مُعْرَب بُنِيَ . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : عَلَى حِين أَلْهَى النَّاس جُلّ أُمُورهمْ فَنَدْلًا رُزَيْق الْمَال نَدْل الثَّعَالِب
وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ↓
جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ " أَيْ بِالشِّرْكِ , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالنَّخَعِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة وَمُجَاهِد وَقَيْس بْن سَعْد وَالْحَسَن , وَهُوَ إِجْمَاع مِنْ أَهْل التَّأْوِيل فِي أَنَّ الْحَسَنَة لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَأَنَّ السَّيِّئَة الشِّرْك فِي هَذِهِ الْآيَة .
فَكُبَّتْ وُجُوههمْ فِي النَّار " قَالَ اِبْن عَبَّاس : أُلْقِيَتْ وَقَالَ الضَّحَّاك : طُرِحَتْ , وَيُقَال كَبَبْت الْإِنَاء أَيْ قَلَبْته عَلَى وَجْهه , وَاللَّازِم مِنْ أَكَبَّ , وَقَلَّمَا يَأْتِي هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب
" هَلْ تُجْزَوْنَ " أَيْ يُقَال لَهُمْ هَلْ تُجْزَوْنَ ثُمَّ يَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ قَوْل اللَّه , وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة
" أَيْ إِلَّا جَزَاء أَعْمَالكُمْ .
فَكُبَّتْ وُجُوههمْ فِي النَّار " قَالَ اِبْن عَبَّاس : أُلْقِيَتْ وَقَالَ الضَّحَّاك : طُرِحَتْ , وَيُقَال كَبَبْت الْإِنَاء أَيْ قَلَبْته عَلَى وَجْهه , وَاللَّازِم مِنْ أَكَبَّ , وَقَلَّمَا يَأْتِي هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب
" هَلْ تُجْزَوْنَ " أَيْ يُقَال لَهُمْ هَلْ تُجْزَوْنَ ثُمَّ يَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ قَوْل اللَّه , وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة
" أَيْ إِلَّا جَزَاء أَعْمَالكُمْ .