سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ↓
" سَلْ " مِنْ السُّؤَال : بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَة , فَلَمَّا تَحَرَّكَتْ السِّين لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَلِف الْوَصْل . وَقِيلَ : إِنَّ لِلْعَرَبِ فِي سُقُوط أَلِف الْوَصْل فِي " سَلْ " وَثُبُوتهَا فِي " وَاسْأَلْ " وَجْهَيْنِ :
أَحَدهمَا - حَذْفهَا فِي إِحْدَاهُمَا وَثُبُوتهَا فِي الْأُخْرَى , وَجَاءَ الْقُرْآن بِهِمَا , فَاتَّبَعَ خَطّ الْمُصْحَف فِي إِثْبَاته لِلْهَمْزَةِ وَإِسْقَاطهَا .
وَالْوَجْه الثَّانِي - أَنَّهُ يَخْتَلِف إِثْبَاتهَا وَإِسْقَاطهَا بِاخْتِلَافِ الْكَلَام الْمُسْتَعْمَل فِيهِ , فَتُحْذَف الْهَمْزَة فِي الْكَلَام الْمُبْتَدَإِ , مِثْل قَوْله : " سَلْ بَنِي إِسْرَائِيل " , وَقَوْله : " سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ " [ ن : 40 ] . وَثَبَتَ فِي الْعَطْف , مِثْل قَوْله : " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] , " وَاسْأَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله " [ النِّسَاء : 32 ] قَالَهُ عَلِيّ بْن عِيسَى . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو فِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس عَنْهُ " اِسْأَلْ " عَلَى الْأَصْل . وَقَرَأَ قَوْم " اِسْلَ " عَلَى نَقْل الْحَرَكَة إِلَى السِّين وَإِبْقَاء أَلِف الْوَصْل , عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ : الْأَحْمَر . و " كَمْ " فِي مَوْضِع نَصْب ; لِأَنَّهَا مَفْعُول ثَانٍ لِآتَيْنَاهُمْ . وَقِيلَ : بِفِعْلٍ مُضْمَر , تَقْدِيره كَمْ آتَيْنَا آتَيْنَاهُمْ . وَلَا يَجُوز أَنْ يَتَقَدَّمهَا الْفِعْل لِأَنَّ لَهَا صَدْر الْكَلَام . " مِنْ آيَة " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى التَّمْيِيز عَلَى التَّقْدِير الْأَوَّل , وَعَلَى الثَّانِي مَفْعُول ثَانٍ لِآتَيْنَاهُمْ , وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر فِي آتَيْنَاهُمْ , وَيَصِير عَائِد عَلَى كَمْ , تَقْدِيره : كَمْ آتَيْنَاهُمُوهُ , وَلَمْ يُعْرَب وَهِيَ اِسْم لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرُوف لِمَا وَقَعَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَام , وَإِذَا فَرَّقْت بَيْن كَمْ وَبَيْن الِاسْم كَانَ الِاخْتِيَار أَنْ تَأْتِي بِمِنْ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة , فَإِنْ حَذَفْتهَا نَصَبْت فِي الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر , وَيَجُوز الْخَفْض فِي الْخَبَر كَمَا قَالَ الشَّاعِر : كَمْ بِجُودٍ مُقْرِف نَالَ الْعُلَا وَكَرِيم بُخْله قَدْ وَضَعَهُ وَالْمُرَاد بِالْآيَةِ كَمْ جَاءَهُمْ فِي أَمْر مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ آيَة مُعَرِّفَة بِهِ دَالَّة عَلَيْهِ . قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَغَيْرهمَا : يَعْنِي الْآيَات الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ فَلْق الْبَحْر وَالظُّلَل مِنْ الْغَمَام وَالْعَصَا وَالْيَد وَغَيْر ذَلِكَ . وَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه بِسُؤَالِهِمْ عَلَى جِهَة التَّقْرِيع لَهُمْ وَالتَّوْبِيخ .
لَفْظ عَامّ لِجَمِيعِ الْعَامَّة , وَإِنْ كَانَ الْمُشَار إِلَيْهِ بَنِي إِسْرَائِيل , لِكَوْنِهِمْ بَدَّلُوا مَا فِي كُتُبهمْ وَجَحَدُوا أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَاللَّفْظ مُنْسَحِب عَلَى كُلّ مُبَدِّل نِعْمَة اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : النِّعْمَة هُنَا الْإِسْلَام , وَهَذَا قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَيَدْخُل فِي اللَّفْظ أَيْضًا كُفَّار قُرَيْش , فَإِنَّ بَعْث مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ نِعْمَة عَلَيْهِمْ , فَبَدَّلُوا قَبُولهَا وَالشُّكْر عَلَيْهَا كُفْرًا .
خَبَر يَتَضَمَّن الْوَعِيد . وَالْعِقَاب مَأْخُوذ مِنْ الْعَقِب , كَأَنَّ الْمُعَاقِب يَمْشِي بِالْمُجَازَاةِ لَهُ فِي آثَار عَقِبه , وَمِنْهُ عُقْبَة الرَّاكِب وَعُقْبَة الْقِدْر . فَالْعِقَاب وَالْعُقُوبَة يَكُونَانِ بِعَقِبِ الذَّنْب , وَقَدْ عَاقَبَهُ بِذَنْبِهِ .
أَحَدهمَا - حَذْفهَا فِي إِحْدَاهُمَا وَثُبُوتهَا فِي الْأُخْرَى , وَجَاءَ الْقُرْآن بِهِمَا , فَاتَّبَعَ خَطّ الْمُصْحَف فِي إِثْبَاته لِلْهَمْزَةِ وَإِسْقَاطهَا .
وَالْوَجْه الثَّانِي - أَنَّهُ يَخْتَلِف إِثْبَاتهَا وَإِسْقَاطهَا بِاخْتِلَافِ الْكَلَام الْمُسْتَعْمَل فِيهِ , فَتُحْذَف الْهَمْزَة فِي الْكَلَام الْمُبْتَدَإِ , مِثْل قَوْله : " سَلْ بَنِي إِسْرَائِيل " , وَقَوْله : " سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ " [ ن : 40 ] . وَثَبَتَ فِي الْعَطْف , مِثْل قَوْله : " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] , " وَاسْأَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله " [ النِّسَاء : 32 ] قَالَهُ عَلِيّ بْن عِيسَى . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو فِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس عَنْهُ " اِسْأَلْ " عَلَى الْأَصْل . وَقَرَأَ قَوْم " اِسْلَ " عَلَى نَقْل الْحَرَكَة إِلَى السِّين وَإِبْقَاء أَلِف الْوَصْل , عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ : الْأَحْمَر . و " كَمْ " فِي مَوْضِع نَصْب ; لِأَنَّهَا مَفْعُول ثَانٍ لِآتَيْنَاهُمْ . وَقِيلَ : بِفِعْلٍ مُضْمَر , تَقْدِيره كَمْ آتَيْنَا آتَيْنَاهُمْ . وَلَا يَجُوز أَنْ يَتَقَدَّمهَا الْفِعْل لِأَنَّ لَهَا صَدْر الْكَلَام . " مِنْ آيَة " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى التَّمْيِيز عَلَى التَّقْدِير الْأَوَّل , وَعَلَى الثَّانِي مَفْعُول ثَانٍ لِآتَيْنَاهُمْ , وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر فِي آتَيْنَاهُمْ , وَيَصِير عَائِد عَلَى كَمْ , تَقْدِيره : كَمْ آتَيْنَاهُمُوهُ , وَلَمْ يُعْرَب وَهِيَ اِسْم لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرُوف لِمَا وَقَعَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَام , وَإِذَا فَرَّقْت بَيْن كَمْ وَبَيْن الِاسْم كَانَ الِاخْتِيَار أَنْ تَأْتِي بِمِنْ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة , فَإِنْ حَذَفْتهَا نَصَبْت فِي الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر , وَيَجُوز الْخَفْض فِي الْخَبَر كَمَا قَالَ الشَّاعِر : كَمْ بِجُودٍ مُقْرِف نَالَ الْعُلَا وَكَرِيم بُخْله قَدْ وَضَعَهُ وَالْمُرَاد بِالْآيَةِ كَمْ جَاءَهُمْ فِي أَمْر مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ آيَة مُعَرِّفَة بِهِ دَالَّة عَلَيْهِ . قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَغَيْرهمَا : يَعْنِي الْآيَات الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ فَلْق الْبَحْر وَالظُّلَل مِنْ الْغَمَام وَالْعَصَا وَالْيَد وَغَيْر ذَلِكَ . وَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه بِسُؤَالِهِمْ عَلَى جِهَة التَّقْرِيع لَهُمْ وَالتَّوْبِيخ .
لَفْظ عَامّ لِجَمِيعِ الْعَامَّة , وَإِنْ كَانَ الْمُشَار إِلَيْهِ بَنِي إِسْرَائِيل , لِكَوْنِهِمْ بَدَّلُوا مَا فِي كُتُبهمْ وَجَحَدُوا أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَاللَّفْظ مُنْسَحِب عَلَى كُلّ مُبَدِّل نِعْمَة اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : النِّعْمَة هُنَا الْإِسْلَام , وَهَذَا قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَيَدْخُل فِي اللَّفْظ أَيْضًا كُفَّار قُرَيْش , فَإِنَّ بَعْث مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ نِعْمَة عَلَيْهِمْ , فَبَدَّلُوا قَبُولهَا وَالشُّكْر عَلَيْهَا كُفْرًا .
خَبَر يَتَضَمَّن الْوَعِيد . وَالْعِقَاب مَأْخُوذ مِنْ الْعَقِب , كَأَنَّ الْمُعَاقِب يَمْشِي بِالْمُجَازَاةِ لَهُ فِي آثَار عَقِبه , وَمِنْهُ عُقْبَة الرَّاكِب وَعُقْبَة الْقِدْر . فَالْعِقَاب وَالْعُقُوبَة يَكُونَانِ بِعَقِبِ الذَّنْب , وَقَدْ عَاقَبَهُ بِذَنْبِهِ .
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ↓
عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . وَالْمُرَاد رُؤَسَاء قُرَيْش . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَحُمَيْد بْن قَيْس عَلَى بِنَاء الْفَاعِل . قَالَ النَّحَّاس : وَهِيَ قِرَاءَة شَاذَّة ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّم لِلْفَاعِلِ ذِكْر . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة : " زُيِّنَتْ " بِإِظْهَارِ الْعَلَامَة , وَجَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِ التَّأْنِيث غَيْر حَقِيقِيّ , وَالْمُزَيِّن هُوَ خَالِقهَا وَمُخْتَرِعهَا وَخَالِق الْكُفْر , وَيُزَيِّنهَا أَيْضًا الشَّيْطَان بِوَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ . وَخَصَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لِقَبُولِهِمْ التَّزْيِين جُمْلَة , وَإِقْبَالهمْ عَلَى الدُّنْيَا وَإِعْرَاضهمْ عَنْ الْآخِرَة بِسَبَبِهَا . وَقَدْ جَعَلَ اللَّه مَا عَلَى الْأَرْض زِينَة لَهَا لِيَبْلُوَ الْخَلْق أَيّهمْ أَحْسَن عَمَلًا , فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى سُنَن الشَّرْع لَمْ تَفْتِنهُمْ الزِّينَة , وَالْكُفَّار تَمَلَّكَتْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ غَيْرهَا . وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين قُدِمَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ : اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَسْتَطِيع إِلَّا أَنْ نَفْرَح بِمَا زَيَّنْت لَنَا .
إِشَارَة إِلَى كُفَّار قُرَيْش , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ حَالهمْ مِنْ الدُّنْيَا وَيَغْتَبِطُونَ بِهَا , وَيَسْخَرُونَ مِنْ أَتْبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ اِبْن جُرَيْج : فِي طَلَبهمْ الْآخِرَة . وَقِيلَ : لِفَقْرِهِمْ وَإِقْلَالهمْ , كَبِلَالٍ وَصُهَيْب وَابْن مَسْعُود وَغَيْرهمْ , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , فَنَبَّهَ سُبْحَانه عَلَى خَفْض مَنْزِلَتهمْ لِقَبِيحِ فِعْلهمْ بِقَوْلِهِ : " وَاَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقهمْ يَوْم الْقِيَامَة " . وَرَوَى عَلِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِسْتَذَلَّ مُؤْمِنًا أَوْ مُؤْمِنَة أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّة ذَات يَده شَهَّرَهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ فَضَحَهُ وَمَنْ بَهَتَ مُؤْمِنًا أَوْ مُؤْمِنَة أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى تَلّ مِنْ نَار يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يَخْرُج مِمَّا قَالَ فِيهِ وَإِنَّ عِظَم الْمُؤْمِن أَعْظَم عِنْد اللَّه وَأَكْرَم عَلَيْهِ مِنْ مَلَك مُقَرَّب وَلَيْسَ شَيْء أَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ مُؤْمِن تَائِب أَوْ مُؤْمِنَة تَائِبَة وَإِنَّ الرَّجُل الْمُؤْمِن يُعْرَف فِي السَّمَاء كَمَا يَعْرِف الرَّجُل أَهْله وَوَلَده ) .
أَيْ فِي الدَّرَجَة ; لِأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّة وَالْكُفَّار فِي النَّار . وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَاد بِالْفَوْقِ الْمَكَان , مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْجَنَّة فِي السَّمَاء , وَالنَّار فِي أَسْفَل السَّافِلِينَ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون التَّفْضِيل عَلَى مَا يَتَضَمَّنهُ زَعْم الْكُفَّار , فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : وَإِنْ كَانَ مَعَاد فَلَنَا فِيهِ الْحَظّ أَكْثَر مِمَّا لَكُمْ , وَمِنْهُ حَدِيث خَبَّاب مَعَ الْعَاص بْن وَائِل , قَالَ خَبَّاب : كَانَ لِي عَلَى الْعَاص بْن وَائِل دَيْن فَأَتَيْته أَتَقَاضَاهُ , فَقَالَ لِي : لَنْ أَقْضِيك حَتَّى تَكْفُر بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ فَقُلْت لَهُ : إِنِّي لَنْ أَكْفُر بِهِ حَتَّى تَمُوت ثُمَّ تُبْعَث . قَالَ : وَإِنِّي لَمَبْعُوث مِنْ بَعْد الْمَوْت ؟ ! فَسَوْفَ أَقْضِيك إِذَا رَجَعْت إِلَى مَال وَوَلَد , الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَيُقَال : سَخِرْت مِنْهُ وَسَخِرْت بِهِ , وَضَحِكْت مِنْهُ وَضَحِكْت بِهِ , وَهَزِئْت مِنْهُ وَبِهِ , كُلّ ذَلِكَ يُقَال , حَكَاهُ الْأَخْفَش . وَالِاسْم السُّخْرِيَة وَالسُّخْرِيّ وَالسِّخْرِيّ , وَقُرِئَ بِهِمَا قَوْله تَعَالَى : " لِيَتَّخِذ بَعْضهمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا " [ الزُّخْرُف : 32 ] وَقَوْله : " فَاِتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا " [ الْمُؤْمِنُونَ : 110 ] . وَرَجُل سُخْرَةٌ . يُسْخَر مِنْهُ , وَسُخَرَة - بِفَتْحِ الْخَاء - يَسْخَر مِنْ النَّاس . وَفُلَان سُخْرَة يَتَسَخَّر فِي الْعَمَل , يُقَال : خَادِمه سُخْرَة , وَسَخَّرَهُ تَسْخِيرًا كَلَّفَهُ عَمَلًا بِلَا أُجْرَة .
قَالَ الضَّحَّاك : يَعْنِي مِنْ غَيْر تَبِعَة فِي الْآخِرَة . وَقِيلَ : هُوَ إِشَارَة إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ , أَيْ يَرْزُقهُمْ عُلُوّ الْمَنْزِلَة , فَالْآيَة تَنْبِيه عَلَى عَظِيم النِّعْمَة عَلَيْهِمْ . وَجَعَلَ رِزْقهمْ بِغَيْرِ حِسَاب مِنْ حَيْثُ هُوَ دَائِم لَا يَتَنَاهَى , فَهُوَ لَا يَنْعَدّ . وَقِيلَ : إِنَّ قَوْله : " بِغَيْرِ حِسَاب " صِفَة لِرِزْقِ اللَّه تَعَالَى كَيْف يُصْرَف , إِذْ هُوَ جَلَّتْ قُدْرَته لَا يُنْفِق بَعْد , فَفَضْله كُلّه بِغَيْرِ حِسَاب , وَاَلَّذِي بِحِسَابٍ مَا كَانَ عَلَى عَمَل قَدَّمَهُ الْعَبْد , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " جَزَاء مِنْ رَبّك عَطَاء حِسَابًا " [ النَّبَأ : 36 ] . وَاَللَّه أَعْلَم . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى بِغَيْرِ اِحْتِسَاب مِنْ الْمَرْزُوقِينَ , كَمَا قَالَ : " وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب " [ الطَّلَاق : 3 ] .
إِشَارَة إِلَى كُفَّار قُرَيْش , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ حَالهمْ مِنْ الدُّنْيَا وَيَغْتَبِطُونَ بِهَا , وَيَسْخَرُونَ مِنْ أَتْبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ اِبْن جُرَيْج : فِي طَلَبهمْ الْآخِرَة . وَقِيلَ : لِفَقْرِهِمْ وَإِقْلَالهمْ , كَبِلَالٍ وَصُهَيْب وَابْن مَسْعُود وَغَيْرهمْ , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , فَنَبَّهَ سُبْحَانه عَلَى خَفْض مَنْزِلَتهمْ لِقَبِيحِ فِعْلهمْ بِقَوْلِهِ : " وَاَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقهمْ يَوْم الْقِيَامَة " . وَرَوَى عَلِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِسْتَذَلَّ مُؤْمِنًا أَوْ مُؤْمِنَة أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّة ذَات يَده شَهَّرَهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ فَضَحَهُ وَمَنْ بَهَتَ مُؤْمِنًا أَوْ مُؤْمِنَة أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى تَلّ مِنْ نَار يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يَخْرُج مِمَّا قَالَ فِيهِ وَإِنَّ عِظَم الْمُؤْمِن أَعْظَم عِنْد اللَّه وَأَكْرَم عَلَيْهِ مِنْ مَلَك مُقَرَّب وَلَيْسَ شَيْء أَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ مُؤْمِن تَائِب أَوْ مُؤْمِنَة تَائِبَة وَإِنَّ الرَّجُل الْمُؤْمِن يُعْرَف فِي السَّمَاء كَمَا يَعْرِف الرَّجُل أَهْله وَوَلَده ) .
أَيْ فِي الدَّرَجَة ; لِأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّة وَالْكُفَّار فِي النَّار . وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَاد بِالْفَوْقِ الْمَكَان , مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْجَنَّة فِي السَّمَاء , وَالنَّار فِي أَسْفَل السَّافِلِينَ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون التَّفْضِيل عَلَى مَا يَتَضَمَّنهُ زَعْم الْكُفَّار , فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : وَإِنْ كَانَ مَعَاد فَلَنَا فِيهِ الْحَظّ أَكْثَر مِمَّا لَكُمْ , وَمِنْهُ حَدِيث خَبَّاب مَعَ الْعَاص بْن وَائِل , قَالَ خَبَّاب : كَانَ لِي عَلَى الْعَاص بْن وَائِل دَيْن فَأَتَيْته أَتَقَاضَاهُ , فَقَالَ لِي : لَنْ أَقْضِيك حَتَّى تَكْفُر بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ فَقُلْت لَهُ : إِنِّي لَنْ أَكْفُر بِهِ حَتَّى تَمُوت ثُمَّ تُبْعَث . قَالَ : وَإِنِّي لَمَبْعُوث مِنْ بَعْد الْمَوْت ؟ ! فَسَوْفَ أَقْضِيك إِذَا رَجَعْت إِلَى مَال وَوَلَد , الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَيُقَال : سَخِرْت مِنْهُ وَسَخِرْت بِهِ , وَضَحِكْت مِنْهُ وَضَحِكْت بِهِ , وَهَزِئْت مِنْهُ وَبِهِ , كُلّ ذَلِكَ يُقَال , حَكَاهُ الْأَخْفَش . وَالِاسْم السُّخْرِيَة وَالسُّخْرِيّ وَالسِّخْرِيّ , وَقُرِئَ بِهِمَا قَوْله تَعَالَى : " لِيَتَّخِذ بَعْضهمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا " [ الزُّخْرُف : 32 ] وَقَوْله : " فَاِتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا " [ الْمُؤْمِنُونَ : 110 ] . وَرَجُل سُخْرَةٌ . يُسْخَر مِنْهُ , وَسُخَرَة - بِفَتْحِ الْخَاء - يَسْخَر مِنْ النَّاس . وَفُلَان سُخْرَة يَتَسَخَّر فِي الْعَمَل , يُقَال : خَادِمه سُخْرَة , وَسَخَّرَهُ تَسْخِيرًا كَلَّفَهُ عَمَلًا بِلَا أُجْرَة .
قَالَ الضَّحَّاك : يَعْنِي مِنْ غَيْر تَبِعَة فِي الْآخِرَة . وَقِيلَ : هُوَ إِشَارَة إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ , أَيْ يَرْزُقهُمْ عُلُوّ الْمَنْزِلَة , فَالْآيَة تَنْبِيه عَلَى عَظِيم النِّعْمَة عَلَيْهِمْ . وَجَعَلَ رِزْقهمْ بِغَيْرِ حِسَاب مِنْ حَيْثُ هُوَ دَائِم لَا يَتَنَاهَى , فَهُوَ لَا يَنْعَدّ . وَقِيلَ : إِنَّ قَوْله : " بِغَيْرِ حِسَاب " صِفَة لِرِزْقِ اللَّه تَعَالَى كَيْف يُصْرَف , إِذْ هُوَ جَلَّتْ قُدْرَته لَا يُنْفِق بَعْد , فَفَضْله كُلّه بِغَيْرِ حِسَاب , وَاَلَّذِي بِحِسَابٍ مَا كَانَ عَلَى عَمَل قَدَّمَهُ الْعَبْد , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " جَزَاء مِنْ رَبّك عَطَاء حِسَابًا " [ النَّبَأ : 36 ] . وَاَللَّه أَعْلَم . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى بِغَيْرِ اِحْتِسَاب مِنْ الْمَرْزُوقِينَ , كَمَا قَالَ : " وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب " [ الطَّلَاق : 3 ] .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ↓
أَيْ عَلَى دِين وَاحِد . قَالَ أُبَيّ بْن كَعْب , وَابْن زَيْد : الْمُرَاد بِالنَّاسِ بَنُو آدَم حِين أَخْرَجَهُمْ اللَّه نَسَمًا مِنْ ظَهْر آدَم فَأَقَرُّوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ . وَقَالَ مُجَاهِد : النَّاس آدَم وَحْده , وَسُمِّيَ الْوَاحِد بِلَفْظِ الْجَمْع لِأَنَّهُ أَصْل النَّسْل . وَقِيلَ : آدَم وَحَوَّاء . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : ( الْمُرَاد بِالنَّاسِ الْقُرُون الَّتِي كَانَتْ بَيْن آدَم وَنُوح , وَهِيَ عَشَرَة كَانُوا عَلَى الْحَقّ حَتَّى اِخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّه نُوحًا فَمَنْ بَعْده ) . وَقَالَ اِبْن أَبِي خَيْثَمَة : مُنْذُ خَلَقَ اللَّه آدَم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَنْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَة آلَاف سَنَة وَثَمَانمِائَةِ سَنَة . وَقِيلَ : أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ , وَكَانَ بَيْنه وَبَيْن نُوح أَلْف سَنَة وَمِائَتَا سَنَة . وَعَاشَ آدَم تِسْعمِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَة , وَكَانَ النَّاس فِي زَمَانه أَهْل مِلَّة وَاحِدَة , مُتَمَسِّكِينَ بِالدِّينِ , تُصَافِحهُمْ الْمَلَائِكَة , وَدَامُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ رُفِعَ إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام فَاخْتَلَفُوا . وَهَذَا فِيهِ نَظَر ; لِأَنَّ إِدْرِيس بَعْد نُوح عَلَى الصَّحِيح . وَقَالَ قَوْم مِنْهُمْ الْكَلْبِيّ وَالْوَاقِدِيّ : الْمُرَاد نُوح وَمَنْ فِي السَّفِينَة , وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ثُمَّ بَعْد وَفَاة نُوح اِخْتَلَفُوا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : ( كَانُوا أُمَّة وَاحِدَة عَلَى الْكُفْر , يُرِيد فِي مُدَّة نُوح حِين بَعَثَهُ اللَّه ) . وَعَنْهُ أَيْضًا : كَانَ النَّاس عَلَى عَهْد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أُمَّة وَاحِدَة , كُلّهمْ كُفَّار , وَوُلِدَ إِبْرَاهِيم فِي جَاهِلِيَّة , فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى إِبْرَاهِيم وَغَيْره مِنْ النَّبِيِّينَ . ف " كَانَ " عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَال عَلَى بَابهَا مِنْ الْمُضِيّ الْمُنْقَضِي . وَكُلّ مَنْ قَدَّرَ النَّاس فِي الْآيَة مُؤْمِنِينَ قَدَّرَ فِي الْكَلَام فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ , وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْحَذْف : " وَمَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ " أَيْ كَانَ النَّاس عَلَى دِين الْحَقّ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّه النَّبِيِّينَ , مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَ وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَى . وَكُلّ مَنْ قَدَّرَهُمْ كُفَّارًا كَانَتْ بَعْثَة النَّبِيِّينَ إِلَيْهِمْ . وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون " كَانَ " لِلثُّبُوتِ , وَالْمُرَاد الْإِخْبَار عَنْ النَّاس الَّذِينَ هُمْ الْجِنْس كُلّه أَنَّهُمْ أُمَّة وَاحِدَة فِي خُلُوّهُمْ عَنْ الشَّرَائِع , وَجَهْلهمْ بِالْحَقَائِقِ , لَوْلَا مَنُّ اللَّه عَلَيْهِمْ , وَتَفَضُّلُهُ بِالرُّسُلِ إِلَيْهِمْ . فَلَا يَخْتَصّ " كَانَ " عَلَى هَذَا التَّأْوِيل بِالْمُضِيِّ فَقَطْ , بَلْ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْله : " وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا " [ النِّسَاء : 96 100 , , 152 ] . و " أُمَّة " مَأْخُوذَة مِنْ قَوْلهمْ : أَمَمْت كَذَا , أَيْ قَصَدْته , فَمَعْنَى " أُمَّة " مَقْصِدهمْ وَاحِد , وَيُقَال لِلْوَاحِدِ : أُمَّة , أَيْ مَقْصِده غَيْر مَقْصِد النَّاس , وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُسّ بْن سَاعِدَة : ( يُحْشَر يَوْم الْقِيَامَة أُمَّة وَحْده ) . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي زَيْد بْن عَمْرو بْن نُفَيْل . وَالْأُمَّة الْقَامَة , كَأَنَّهَا مَقْصِد سَائِر الْبَدَن . وَالْإِمَّة ( بِالْكَسْرِ ) : النِّعْمَة ; لِأَنَّ النَّاس يَقْصِدُونَ قَصْدهَا . وَقِيلَ : إِمَام ; لِأَنَّ النَّاس يَقْصِدُونَ قَصْد مَا يَفْعَل , عَنْ النَّحَّاس . وَقَرَأَ أُبَيّ بْن كَعْب : " كَانَ الْبَشَر أُمَّة وَاحِدَة " وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " كَانَ النَّاس أُمَّة وَاحِدَة فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ " .
وَجُمْلَتهمْ مِائَة وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَلْفًا , وَالرُّسُل مِنْهُمْ ثَلَاثمِائَةٍ وَثَلَاثَة عَشَر , وَالْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآن بِالِاسْمِ الْعِلْم ثَمَانِيَة عَشَر , وَأَوَّل الرُّسُل آدَم , عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيث أَبِي ذَرّ , أَخْرَجَهُ الْآجُرِيّ وَأَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ . وَقِيلَ : نُوح , لِحَدِيثِ الشَّفَاعَة , فَإِنَّ النَّاس يَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ أَوَّل الرُّسُل . وَقِيلَ : إِدْرِيس , وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي " الْأَعْرَاف " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
نُصِبَ عَلَى الْحَال .
اِسْم جِنْس بِمَعْنَى الْكُتُب . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْأَلِف وَاللَّام فِي الْكِتَاب لِلْعَهْدِ , وَالْمُرَاد التَّوْرَاة .
مُسْنَد إِلَى الْكِتَاب فِي قَوْل الْجُمْهُور , وَهُوَ نَصْب بِإِضْمَارِ أَنْ , أَيْ لِأَنْ يَحْكُم وَهُوَ مَجَاز مِثْل " هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ " [ الْجَاثِيَة : 29 ] . وَقِيلَ : أَيْ لِيَحْكُم كُلّ نَبِيّ بِكِتَابِهِ , وَإِذَا حَكَمَ بِالْكِتَابِ فَكَأَنَّمَا حَكَمَ الْكِتَابُ . وَقِرَاءَة عَاصِم الْجَحْدَرِيّ " لِيُحْكَمَ بَيْن النَّاس " عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله , وَهِيَ قِرَاءَة شَاذَّة ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر الْكِتَاب . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لِيَحْكُم اللَّه , وَالضَّمِير فِي " فِيهِ " عَائِد عَلَى " مَا " مِنْ قَوْله : " فِيمَا " وَالضَّمِير فِي " فِيهِ " الثَّانِيَة يُحْتَمَل أَنْ يَعُود عَلَى الْكِتَاب , أَيْ وَمَا اِخْتَلَفَ فِي الْكِتَاب إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ . مَوْضِع " الَّذِينَ " رُفِعَ بِفِعْلِهِمْ . و " أُوتُوهُ " بِمَعْنَى أُعْطُوهُ . وَقِيلَ : يَعُود عَلَى الْمُنَزَّل عَلَيْهِ , وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَهُ الزَّجَّاج . أَيْ وَمَا اِخْتَلَفَ فِي النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا الَّذِينَ أُعْطُوا عِلْمه .
نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول لَهُ , أَيْ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا لِلْبَغْيِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ . وَفِي هَذَا تَنْبِيه عَلَى السَّفَه فِي فِعْلهمْ , وَالْقُبْح الَّذِي وَاقَعُوهُ .
مَعْنَاهُ أَرْشَدَ , أَيْ فَهَدَى اللَّه أُمَّة مُحَمَّد إِلَى الْحَقّ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ مَنْ كَانَ قَبْلهمْ . وَقَالَتْ طَائِفَة : مَعْنَى الْآيَة أَنَّ الْأُمَم كَذَّبَ بَعْضهمْ كِتَاب بَعْض , فَهَدَى اللَّه تَعَالَى أُمَّة مُحَمَّد لِلتَّصْدِيقِ بِجَمِيعِهَا . وَقَالَتْ طَائِفَة : إِنَّ اللَّه هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِلْحَقِّ فِيمَا اِخْتَلَفَ فِيهِ أَهْل الْكِتَابَيْنِ , مِنْ قَوْلهمْ : إِنَّ إِبْرَاهِيم كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا . وَقَالَ اِبْن زَيْد وَزَيْد بْن أَسْلَم : مِنْ قِبْلَتهمْ , فَإِنَّ الْيَهُود إِلَى بَيْت الْمَقْدِس , وَالنَّصَارَى إِلَى الْمَشْرِق , وَمِنْ يَوْم الْجُمُعَة فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( هَذَا الْيَوْم الَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّه لَهُ فَلِلْيَهُودِ غَد وَلِلنَّصَارَى بَعْد غَد ) وَمِنْ صِيَامهمْ , وَمِنْ جَمِيع مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَقَالَ اِبْن زَيْد : وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى فَجَعَلَتْهُ الْيَهُود لِفِرْيَةٍ , وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى رَبًّا , فَهَدَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ جَعَلُوهُ عَبْدًا لِلَّهِ . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مِنْ الْمَقْلُوب - وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ - قَالَ : وَتَقْدِيره فَهَدَى اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا لِلْحَقِّ لَمَّا اِخْتَلَفُوا فِيهِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَدَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِير خَوْف أَنْ يَحْتَمِل اللَّفْظ أَنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِي الْحَقّ فَهَدَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ مَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ , وَعَسَاهُ غَيْر الْحَقّ فِي نَفْسه , نَحَا إِلَى هَذَا الطَّبَرِيّ فِي حِكَايَته عَنْ الْفَرَّاء , وَادِّعَاء الْقَلْب عَلَى لَفْظ كِتَاب اللَّه دُون ضَرُورَة تَدْفَع إِلَى ذَلِكَ عَجْز وَسُوء نَظَر , وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَام يَتَخَرَّج عَلَى وَجْهه وَوَصْفه , لِأَنَّ قَوْله : " فَهَدَى " يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَصَابُوا الْحَقّ وَتَمَّ الْمَعْنَى فِي قَوْله : " فِيهِ " وَتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ : " مِنْ الْحَقّ " جِنْس مَا وَقَعَ الْخِلَاف فِيهِ , قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَقُدِّمَ لَفْظ الِاخْتِلَاف عَلَى لَفْظ الْحَقّ اِهْتِمَامًا , إِذْ الْعِنَايَة إِنَّمَا هِيَ بِذِكْرِ الِاخْتِلَاف . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِقَوِيٍّ . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود " لِمَا اِخْتَلَفُوا عَنْهُ مِنْ الْحَقّ " أَيْ عَنْ الْإِسْلَام .
قَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَاهُ بِعِلْمِهِ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا غَلَط , وَالْمَعْنَى بِأَمْرِهِ , وَإِذَا أَذِنْت فِي الشَّيْء فَقَدْ أَمَرْت بِهِ , أَيْ فَهَدَى اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِمَا يَجِب أَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ .
رَدّ عَلَى الْمُعْتَزِلَة فِي قَوْلهمْ : إِنَّ الْعَبْد يَسْتَبِدّ بِهِدَايَةِ نَفْسه .
وَجُمْلَتهمْ مِائَة وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَلْفًا , وَالرُّسُل مِنْهُمْ ثَلَاثمِائَةٍ وَثَلَاثَة عَشَر , وَالْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآن بِالِاسْمِ الْعِلْم ثَمَانِيَة عَشَر , وَأَوَّل الرُّسُل آدَم , عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيث أَبِي ذَرّ , أَخْرَجَهُ الْآجُرِيّ وَأَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ . وَقِيلَ : نُوح , لِحَدِيثِ الشَّفَاعَة , فَإِنَّ النَّاس يَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ أَوَّل الرُّسُل . وَقِيلَ : إِدْرِيس , وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي " الْأَعْرَاف " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
نُصِبَ عَلَى الْحَال .
اِسْم جِنْس بِمَعْنَى الْكُتُب . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْأَلِف وَاللَّام فِي الْكِتَاب لِلْعَهْدِ , وَالْمُرَاد التَّوْرَاة .
مُسْنَد إِلَى الْكِتَاب فِي قَوْل الْجُمْهُور , وَهُوَ نَصْب بِإِضْمَارِ أَنْ , أَيْ لِأَنْ يَحْكُم وَهُوَ مَجَاز مِثْل " هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ " [ الْجَاثِيَة : 29 ] . وَقِيلَ : أَيْ لِيَحْكُم كُلّ نَبِيّ بِكِتَابِهِ , وَإِذَا حَكَمَ بِالْكِتَابِ فَكَأَنَّمَا حَكَمَ الْكِتَابُ . وَقِرَاءَة عَاصِم الْجَحْدَرِيّ " لِيُحْكَمَ بَيْن النَّاس " عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله , وَهِيَ قِرَاءَة شَاذَّة ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر الْكِتَاب . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لِيَحْكُم اللَّه , وَالضَّمِير فِي " فِيهِ " عَائِد عَلَى " مَا " مِنْ قَوْله : " فِيمَا " وَالضَّمِير فِي " فِيهِ " الثَّانِيَة يُحْتَمَل أَنْ يَعُود عَلَى الْكِتَاب , أَيْ وَمَا اِخْتَلَفَ فِي الْكِتَاب إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ . مَوْضِع " الَّذِينَ " رُفِعَ بِفِعْلِهِمْ . و " أُوتُوهُ " بِمَعْنَى أُعْطُوهُ . وَقِيلَ : يَعُود عَلَى الْمُنَزَّل عَلَيْهِ , وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَهُ الزَّجَّاج . أَيْ وَمَا اِخْتَلَفَ فِي النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا الَّذِينَ أُعْطُوا عِلْمه .
نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول لَهُ , أَيْ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا لِلْبَغْيِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ . وَفِي هَذَا تَنْبِيه عَلَى السَّفَه فِي فِعْلهمْ , وَالْقُبْح الَّذِي وَاقَعُوهُ .
مَعْنَاهُ أَرْشَدَ , أَيْ فَهَدَى اللَّه أُمَّة مُحَمَّد إِلَى الْحَقّ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ مَنْ كَانَ قَبْلهمْ . وَقَالَتْ طَائِفَة : مَعْنَى الْآيَة أَنَّ الْأُمَم كَذَّبَ بَعْضهمْ كِتَاب بَعْض , فَهَدَى اللَّه تَعَالَى أُمَّة مُحَمَّد لِلتَّصْدِيقِ بِجَمِيعِهَا . وَقَالَتْ طَائِفَة : إِنَّ اللَّه هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِلْحَقِّ فِيمَا اِخْتَلَفَ فِيهِ أَهْل الْكِتَابَيْنِ , مِنْ قَوْلهمْ : إِنَّ إِبْرَاهِيم كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا . وَقَالَ اِبْن زَيْد وَزَيْد بْن أَسْلَم : مِنْ قِبْلَتهمْ , فَإِنَّ الْيَهُود إِلَى بَيْت الْمَقْدِس , وَالنَّصَارَى إِلَى الْمَشْرِق , وَمِنْ يَوْم الْجُمُعَة فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( هَذَا الْيَوْم الَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّه لَهُ فَلِلْيَهُودِ غَد وَلِلنَّصَارَى بَعْد غَد ) وَمِنْ صِيَامهمْ , وَمِنْ جَمِيع مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَقَالَ اِبْن زَيْد : وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى فَجَعَلَتْهُ الْيَهُود لِفِرْيَةٍ , وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى رَبًّا , فَهَدَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ جَعَلُوهُ عَبْدًا لِلَّهِ . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مِنْ الْمَقْلُوب - وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ - قَالَ : وَتَقْدِيره فَهَدَى اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا لِلْحَقِّ لَمَّا اِخْتَلَفُوا فِيهِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَدَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِير خَوْف أَنْ يَحْتَمِل اللَّفْظ أَنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِي الْحَقّ فَهَدَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ مَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ , وَعَسَاهُ غَيْر الْحَقّ فِي نَفْسه , نَحَا إِلَى هَذَا الطَّبَرِيّ فِي حِكَايَته عَنْ الْفَرَّاء , وَادِّعَاء الْقَلْب عَلَى لَفْظ كِتَاب اللَّه دُون ضَرُورَة تَدْفَع إِلَى ذَلِكَ عَجْز وَسُوء نَظَر , وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَام يَتَخَرَّج عَلَى وَجْهه وَوَصْفه , لِأَنَّ قَوْله : " فَهَدَى " يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَصَابُوا الْحَقّ وَتَمَّ الْمَعْنَى فِي قَوْله : " فِيهِ " وَتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ : " مِنْ الْحَقّ " جِنْس مَا وَقَعَ الْخِلَاف فِيهِ , قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَقُدِّمَ لَفْظ الِاخْتِلَاف عَلَى لَفْظ الْحَقّ اِهْتِمَامًا , إِذْ الْعِنَايَة إِنَّمَا هِيَ بِذِكْرِ الِاخْتِلَاف . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِقَوِيٍّ . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود " لِمَا اِخْتَلَفُوا عَنْهُ مِنْ الْحَقّ " أَيْ عَنْ الْإِسْلَام .
قَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَاهُ بِعِلْمِهِ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا غَلَط , وَالْمَعْنَى بِأَمْرِهِ , وَإِذَا أَذِنْت فِي الشَّيْء فَقَدْ أَمَرْت بِهِ , أَيْ فَهَدَى اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِمَا يَجِب أَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ .
رَدّ عَلَى الْمُعْتَزِلَة فِي قَوْلهمْ : إِنَّ الْعَبْد يَسْتَبِدّ بِهِدَايَةِ نَفْسه .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ↓
" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَل الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْر اللَّه أَلَا إِنَّ نَصْر اللَّه ق َرِيب " قَوْله تَعَالَى : " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة " " حَسِبْتُمْ " مَعْنَاهُ ظَنَنْتُمْ . قَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي غَزْوَة الْخَنْدَق حِين أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْجَهْد وَالشِّدَّة , وَالْحَرّ وَالْبَرْد , وَسُوء الْعَيْش , وَأَنْوَاع الشَّدَائِد , وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ " [ الْأَحْزَاب : 10 ] . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي حَرْب أُحُد , نَظِيرهَا - فِي آل عِمْرَان - " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة وَلَمَّا يَعْلَم اللَّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ " [ آل عِمْرَان : 142 ] . وَقَالَتْ فِرْقَة : نَزَلَتْ الْآيَة تَسْلِيَة لِلْمُهَاجِرِينَ حِين تَرَكُوا دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ , وَآثَرُوا رِضَا اللَّه وَرَسُوله , وَأَظْهَرَتْ الْيَهُود الْعَدَاوَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَسَرَّ قَوْم مِنْ الْأَغْنِيَاء النِّفَاق , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ " أَمْ حَسِبْتُمْ " . و " أَمْ " هُنَا مُنْقَطِعَة , بِمَعْنَى بَلْ , وَحَكَى بَعْض اللُّغَوِيِّينَ أَنَّهَا قَدْ تَجِيء بِمَثَابَةِ أَلِف الِاسْتِفْهَام لِيُبْتَدَأ بِهَا , و " حَسِبْتُمْ " تَطْلُب مَفْعُولَيْنِ , فَقَالَ النُّحَاة : " أَنْ تَدْخُلُوا " تَسُدّ مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ . وَقِيلَ : الْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف : أَحَسِبْتُمْ دُخُولكُمْ الْجَنَّة وَاقِعًا . و " لَمَّا " بِمَعْنَى لَمْ . و " مَثَل " مَعْنَاهُ شَبَه , أَيْ وَلَمْ تُمْتَحَنُوا بِمِثْلِ مَا امْتُحِنَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ فَتَصْبِرُوا كَمَا صَبَرُوا . وَحَكَى النَّضْر بْن شُمَيْل أَنَّ " مَثَل " يَكُون بِمَعْنَى صِفَة , وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : وَلَمَّا يُصِبْكُمْ مِثْل الَّذِي أَصَابَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ , أَيْ مِنْ الْبَلَاء . قَالَ وَهْب : وُجِدَ فِيمَا بَيْن مَكَّة وَالطَّائِف سَبْعُونَ نَبِيًّا مَوْتَى , كَانَ سَبَب مَوْتهمْ الْجُوع وَالْقُمَّل , وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة " الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ " [ الْعَنْكَبُوت : 1 - 2 - 3 ] عَلَى مَا يَأْتِي , فَاسْتَدْعَاهُمْ تَعَالَى إِلَى الصَّبْر , وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّصْرِ فَقَالَ : " أَلَا إِنَّ نَصْر اللَّه قَرِيب " . وَالزَّلْزَلَة : شِدَّة التَّحْرِيك , تَكُون فِي الْأَشْخَاص وَفِي الْأَحْوَال , يُقَال : زَلْزَلَ اللَّه الْأَرْض زَلْزَلَة وَزِلْزَالًا - بِالْكَسْرِ - فَتَزَلْزَلَتْ إِذَا تَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ , فَمَعْنَى " زُلْزِلُوا " خُوِّفُوا وَحُرِّكُوا . وَالزَّلْزَال - بِالْفَتْحِ - الِاسْم . وَالزَّلَازِل : الشَّدَائِد . وَقَالَ الزَّجَّاج : أَصْل الزَّلْزَلَة مِنْ زَلَّ الشَّيْء عَنْ مَكَانه , فَإِذَا قُلْت : زَلْزَلْته فَمَعْنَاهُ كَرَّرْت زَلَله مِنْ مَكَانه . وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّ زَلْزَلَ رُبَاعِيّ كَدَحْرَجَ . وَقَرَأَ نَافِع " حَتَّى يَقُول " بِالرَّفْعِ , وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ . وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ فِي " حَتَّى " أَنَّ النَّصْب فِيمَا بَعْدهَا مِنْ جِهَتَيْنِ وَالرَّفْع مِنْ جِهَتَيْنِ , تَقُول : سِرْت حَتَّى أَدْخُل الْمَدِينَة - بِالنَّصْبِ - عَلَى أَنَّ السَّيْر وَالدُّخُول جَمِيعًا قَدْ مَضَيَا , أَيْ سِرْت إِلَى أَنْ أَدْخُلهَا , وَهَذِهِ غَايَة , وَعَلَيْهِ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ . وَالْوَجْه الْآخَر فِي النَّصْب فِي غَيْر الْآيَة سِرْت حَتَّى أَدْخُلهَا , أَيْ كَيْ أَدْخُلهَا . وَالْوَجْهَانِ فِي الرَّفْع سِرْت حَتَّى أَدْخُلهَا , أَيْ سِرْت فَأَدْخُلهَا , وَقَدْ مَضَيَا جَمِيعًا , أَيْ كُنْت سِرْت فَدَخَلْت . وَلَا تَعْمَل حَتَّى هَاهُنَا بِإِضْمَارِ أَنْ ; لِأَنَّ بَعْدهَا جُمْلَة , كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَق : فَيَا عَجَبًا حَتَّى كُلَيْب تَسُبّنِي قَالَ النَّحَّاس : فَعَلَى هَذَا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ أَبْيَنُ وَأَصَحُّ مَعْنًى , أَيْ وَزُلْزِلُوا حَتَّى الرَّسُول يَقُول , أَيْ حَتَّى هَذِهِ حَاله ; لِأَنَّ الْقَوْل إِنَّمَا كَانَ عَنْ الزَّلْزَلَة غَيْر مُنْقَطِع مِنْهَا , وَالنَّصْب عَلَى الْغَايَة لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى . وَالرَّسُول هُنَا شَعْيًَا فِي قَوْل مُقَاتِل , وَهُوَ الْيَسَع . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : هَذَا فِي كُلّ رَسُول بُعِثَ إِلَى أُمَّته وَأُجْهِدَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : مَتَى نَصْر اللَّه ؟ . وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاك قَالَ : يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعَلَيْهِ يَدُلّ نُزُول الْآيَة , وَاَللَّه أَعْلَم . وَالْوَجْه الْآخَر فِي غَيْر الْآيَة سِرْت حَتَّى أَدْخُلهَا , عَلَى أَنْ يَكُون السَّيْر قَدْ مَضَى وَالدُّخُول الْآن . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : مَرِضَ حَتَّى لَا يَرْجُونَهُ , أَيْ هُوَ الْآن لَا يُرْجَى , وَمِثْله سِرْت حَتَّى أَدْخُلهَا لَا أُمْنَع . وَبِالرَّفْعِ قَرَأَ مُجَاهِد وَالْأَعْرَج وَابْن مُحَيْصِن وَشَيْبَة . وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو جَعْفَر وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَشِبْل وَغَيْرهمْ . قَالَ مَكِّيّ : وَهُوَ الِاخْتِيَار ; لِأَنَّ جَمَاعَة الْقُرَّاء عَلَيْهِ . وَقَرَأَ الْأَعْمَش : " وَزُلْزِلُوا وَيَقُول الرَّسُول " بِالْوَاوِ بَدَل حَتَّى . وَفِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود : " وَزُلْزِلُوا ثُمَّ زُلْزِلُوا وَيَقُول " . وَأَكْثَر الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى أَنَّ الْكَلَام إِلَى آخِر الْآيَة مِنْ قَوْل الرَّسُول وَالْمُؤْمِنِينَ , أَيْ بَلَغَ الْجَهْد بِهِمْ حَتَّى اِسْتَبْطَئُوا النَّصْر , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَلَا إِنَّ نَصْر اللَّه قَرِيب " . وَيَكُون ذَلِكَ مِنْ قَوْل الرَّسُول عَلَى طَلَب اِسْتِعْجَال النَّصْر لَا عَلَى شَكّ وَارْتِيَاب . وَالرَّسُول اِسْم جِنْس . وَقَالَتْ طَائِفَة : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَالتَّقْدِير : حَتَّى يَقُول الَّذِينَ آمَنُوا مَتَى نَصْر اللَّه , فَيَقُول الرَّسُول : أَلَا إِنَّ نَصْر اللَّه قَرِيب , فَقُدِّمَ الرَّسُول فِي الرُّتْبَة لِمَكَانَتِهِ , ثُمَّ قُدِّمَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ الْمُتَقَدِّم فِي الزَّمَان . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا تَحَكُّم , وَحُمِلَ الْكَلَام عَلَى وَجْهه غَيْر مُتَعَذِّر . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون " أَلَا إِنَّ نَصْر اللَّه قَرِيب " إِخْبَارًا مِنْ اللَّه تَعَالَى مُؤْتَنِفًا بَعْد تَمَام ذِكْر الْقَوْل .
قَوْله تَعَالَى : " مَتَى نَصْر اللَّه " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى قَوْل سِيبَوَيْهِ , وَعَلَى قَوْل أَبِي الْعَبَّاس رُفِعَ بِفِعْلٍ , أَيْ مَتَى يَقَع نَصْر اللَّه . و " قَرِيب " خَبَر " إِنَّ " . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن " قَرِيبًا " أَيْ مَكَانًا قَرِيبًا . و " قَرِيب " لَا تُثَنِّيه الْعَرَب وَلَا تَجْمَعهُ وَلَا تُؤَنِّثهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّ رَحْمَة اللَّه قَرِيب مِنْ الْمُحْسِنِينَ " [ الْأَعْرَاف : 56 ] . وَقَالَ الشَّاعِر : لَهُ الْوَيْل إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمّ هَاشِم قَرِيب وَلَا بَسْبَاسَة بْنَة يَشْكُرَا فَإِنْ قُلْت : فُلَان قَرِيب لِي ثَنَّيْت وَجَمَعْت , فَقُلْت : قَرِيبُونَ وَأَقْرِبَاء وَقُرَبَاء .
قَوْله تَعَالَى : " مَتَى نَصْر اللَّه " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى قَوْل سِيبَوَيْهِ , وَعَلَى قَوْل أَبِي الْعَبَّاس رُفِعَ بِفِعْلٍ , أَيْ مَتَى يَقَع نَصْر اللَّه . و " قَرِيب " خَبَر " إِنَّ " . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن " قَرِيبًا " أَيْ مَكَانًا قَرِيبًا . و " قَرِيب " لَا تُثَنِّيه الْعَرَب وَلَا تَجْمَعهُ وَلَا تُؤَنِّثهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّ رَحْمَة اللَّه قَرِيب مِنْ الْمُحْسِنِينَ " [ الْأَعْرَاف : 56 ] . وَقَالَ الشَّاعِر : لَهُ الْوَيْل إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمّ هَاشِم قَرِيب وَلَا بَسْبَاسَة بْنَة يَشْكُرَا فَإِنْ قُلْت : فُلَان قَرِيب لِي ثَنَّيْت وَجَمَعْت , فَقُلْت : قَرِيبُونَ وَأَقْرِبَاء وَقُرَبَاء .
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ↓
إِنْ خَفَّفْت الْهَمْزَة أَلْقَيْت حَرَكَتهَا عَلَى السِّين فَفَتَحْتهَا وَحَذَفْت الْهَمْزَة فَقُلْت : يَسَلُونَك . وَنَزَلَتْ الْآيَة فِي عَمْرو بْن الْجَمُوح , وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ مَالِي كَثِير , فَبِمَاذَا أَتَصَدَّق , وَعَلَى مَنْ أُنْفِق ؟ فَنَزَلَتْ " يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ " .
" مَا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , و " ذَا " الْخَبَر , وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي , وَحُذِفَتْ الْهَاء لِطُولِ الِاسْم , أَيْ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَهُ , وَإِنْ شِئْت كَانَتْ " مَا " فِي مَوْضِع نَصْب ب " يُنْفِقُونَ " و " ذَا " مَعَ " مَا " بِمَنْزِلَةِ شَيْء وَاحِد وَلَا يَحْتَاج إِلَى ضَمِير , وَمَتَى كَانَتْ اِسْمًا مُرَكَّبًا فَهِيَ فِي مَوْضِع نَصْب , إِلَّا مَا جَاءَ فِي قَوْل الشَّاعِر : وَمَاذَا عَسَى الْوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا سِوَى أَنْ يَقُولُوا إِنَّنِي لَك عَاشِق فَإِنَّ " عَسَى " لَا تَعْمَل فِيهِ , ف " مَاذَا " فِي مَوْضِع رَفْع وَهُوَ مُرَكَّب , إِذْ لَا صِلَة ل " ذَا " . قِيلَ : إِنَّ السَّائِلِينَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , وَالْمَعْنَى يَسْأَلُونَك مَا هِيَ الْوُجُوه الَّتِي يُنْفِقُونَ فِيهَا , وَأَيْنَ يَضَعُونَ مَا لَزِمَ إِنْفَاقه . قَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَبْل فَرْض الزَّكَاة ثُمَّ نَسَخَتْهَا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَوَهَمَ الْمَهْدَوِيّ عَلَى السُّدِّيّ فِي هَذَا , فَنُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الْآيَة فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة ثُمَّ نُسِخَ مِنْهَا الْوَالِدَانِ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج وَغَيْره : هِيَ نَدْب , وَالزَّكَاة غَيْر هَذَا الْإِنْفَاق , فَعَلَى هَذَا لَا نَسْخ فِيهَا , وَهِيَ مُبَيِّنَة لِمَصَارِف صَدَقَة التَّطَوُّع , فَوَاجِب عَلَى الرَّجُل الْغَنِيّ أَنْ يُنْفِق عَلَى أَبَوَيْهِ الْمُحْتَاجَيْنِ مَا يُصْلِحهُمَا فِي قَدْر حَالهمَا مِنْ حَاله , مِنْ طَعَام وَكِسْوَة وَغَيْر ذَلِكَ . قَالَ مَالِك : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّج أَبَاهُ , وَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِق عَلَى اِمْرَأَة أَبِيهِ , كَانَتْ أُمّه أَوْ أَجْنَبِيَّة , وَإِنَّمَا قَالَ مَالِك : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّج أَبَاهُ لِأَنَّهُ رَآهُ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّزْوِيج غَالِبًا , وَلَوْ اِحْتَاجَ حَاجَة مَاسَّة لَوَجَبَ أَنْ يُزَوِّجهُ , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُوجِب عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِق عَلَيْهِمَا . فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِالْعِبَادَاتِ مِنْ الْأَمْوَال فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيه مَا يَحُجّ بِهِ أَوْ يَغْزُو , وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِج عَنْهُ صَدَقَة الْفِطْر ; لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّة بِالنَّفَقَةِ وَالْإِسْلَام .
" قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ " " مَا " فِي مَوْضِع نَصْب ب " أَنْفَقْتُمْ " وَكَذَا " وَمَا تُنْفِقُوا " وَهُوَ شَرْط وَالْجَوَاب " فَلِلْوَالِدَيْنِ " , وَكَذَا " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر " شَرْط , وَجَوَابه " فَإِنَّ اللَّه بِهِ عَلِيم " وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْيَتِيم وَالْمِسْكِين وَابْن السَّبِيل . وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى " فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقّه وَالْمِسْكِين وَابْن السَّبِيل " [ الرُّوم : 38 ] . وَقَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب " يَفْعَلُوا " بِالْيَاءِ عَلَى ذِكْر الْغَائِب , وَظَاهِر الْآيَة الْخَبَر , وَهِيَ تَتَضَمَّن الْوَعْد بِالْمُجَازَاةِ .
" مَا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , و " ذَا " الْخَبَر , وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي , وَحُذِفَتْ الْهَاء لِطُولِ الِاسْم , أَيْ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَهُ , وَإِنْ شِئْت كَانَتْ " مَا " فِي مَوْضِع نَصْب ب " يُنْفِقُونَ " و " ذَا " مَعَ " مَا " بِمَنْزِلَةِ شَيْء وَاحِد وَلَا يَحْتَاج إِلَى ضَمِير , وَمَتَى كَانَتْ اِسْمًا مُرَكَّبًا فَهِيَ فِي مَوْضِع نَصْب , إِلَّا مَا جَاءَ فِي قَوْل الشَّاعِر : وَمَاذَا عَسَى الْوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا سِوَى أَنْ يَقُولُوا إِنَّنِي لَك عَاشِق فَإِنَّ " عَسَى " لَا تَعْمَل فِيهِ , ف " مَاذَا " فِي مَوْضِع رَفْع وَهُوَ مُرَكَّب , إِذْ لَا صِلَة ل " ذَا " . قِيلَ : إِنَّ السَّائِلِينَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , وَالْمَعْنَى يَسْأَلُونَك مَا هِيَ الْوُجُوه الَّتِي يُنْفِقُونَ فِيهَا , وَأَيْنَ يَضَعُونَ مَا لَزِمَ إِنْفَاقه . قَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَبْل فَرْض الزَّكَاة ثُمَّ نَسَخَتْهَا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَوَهَمَ الْمَهْدَوِيّ عَلَى السُّدِّيّ فِي هَذَا , فَنُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الْآيَة فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة ثُمَّ نُسِخَ مِنْهَا الْوَالِدَانِ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج وَغَيْره : هِيَ نَدْب , وَالزَّكَاة غَيْر هَذَا الْإِنْفَاق , فَعَلَى هَذَا لَا نَسْخ فِيهَا , وَهِيَ مُبَيِّنَة لِمَصَارِف صَدَقَة التَّطَوُّع , فَوَاجِب عَلَى الرَّجُل الْغَنِيّ أَنْ يُنْفِق عَلَى أَبَوَيْهِ الْمُحْتَاجَيْنِ مَا يُصْلِحهُمَا فِي قَدْر حَالهمَا مِنْ حَاله , مِنْ طَعَام وَكِسْوَة وَغَيْر ذَلِكَ . قَالَ مَالِك : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّج أَبَاهُ , وَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِق عَلَى اِمْرَأَة أَبِيهِ , كَانَتْ أُمّه أَوْ أَجْنَبِيَّة , وَإِنَّمَا قَالَ مَالِك : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّج أَبَاهُ لِأَنَّهُ رَآهُ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّزْوِيج غَالِبًا , وَلَوْ اِحْتَاجَ حَاجَة مَاسَّة لَوَجَبَ أَنْ يُزَوِّجهُ , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُوجِب عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِق عَلَيْهِمَا . فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِالْعِبَادَاتِ مِنْ الْأَمْوَال فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيه مَا يَحُجّ بِهِ أَوْ يَغْزُو , وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِج عَنْهُ صَدَقَة الْفِطْر ; لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّة بِالنَّفَقَةِ وَالْإِسْلَام .
" قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ " " مَا " فِي مَوْضِع نَصْب ب " أَنْفَقْتُمْ " وَكَذَا " وَمَا تُنْفِقُوا " وَهُوَ شَرْط وَالْجَوَاب " فَلِلْوَالِدَيْنِ " , وَكَذَا " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر " شَرْط , وَجَوَابه " فَإِنَّ اللَّه بِهِ عَلِيم " وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْيَتِيم وَالْمِسْكِين وَابْن السَّبِيل . وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى " فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقّه وَالْمِسْكِين وَابْن السَّبِيل " [ الرُّوم : 38 ] . وَقَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب " يَفْعَلُوا " بِالْيَاءِ عَلَى ذِكْر الْغَائِب , وَظَاهِر الْآيَة الْخَبَر , وَهِيَ تَتَضَمَّن الْوَعْد بِالْمُجَازَاةِ .
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ↓
مَعْنَاهُ فُرِضَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْله . وَقَرَأَ قَوْم " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقَتْل " , وَقَالَ الشَّاعِر : كُتِبَ الْقَتْل وَالْقِتَال عَلَيْنَا وَعَلَى الْغَانِيَات جَرّ الذُّيُول هَذَا هُوَ فَرْض الْجِهَاد , بَيَّنَ سُبْحَانه أَنَّ هَذَا مِمَّا اُمْتُحِنُوا بِهِ وَجُعِلَ وَصْلَة إِلَى الْجَنَّة . وَالْمُرَاد بِالْقِتَالِ قِتَال الْأَعْدَاء مِنْ الْكُفَّار , وَهَذَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ بِقَرَائِن الْأَحْوَال , وَلَمْ يُؤْذَن لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِتَال مُدَّة إِقَامَته بِمَكَّة , فَلَمَّا هَاجَرَ أُذِنَ لَهُ فِي قِتَال مَنْ يُقَاتِلهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ تَعَالَى : " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا " [ الْحَجّ : 39 ] ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي قِتَال الْمُشْرِكِينَ عَامَّة . وَاخْتَلَفُوا مَنْ الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة , فَقِيلَ : أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة , فَكَانَ الْقِتَال مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْض عَيْن عَلَيْهِمْ , فَلَمَّا اِسْتَقَرَّ الشَّرْع صَارَ عَلَى الْكِفَايَة , قَالَ عَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ . قَالَ اِبْن جُرَيْج : قُلْت لِعَطَاءٍ : أَوَاجِب الْغَزْو عَلَى النَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة ؟ فَقَالَ : لَا , إِنَّمَا كُتِبَ عَلَى أُولَئِكَ . وَقَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْأُمَّة : أَوَّل فَرْضه إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْكِفَايَة دُون تَعْيِين , غَيْر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اِسْتَنْفَرَهُمْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ النَّفِير لِوُجُوبِ طَاعَته . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : إِنَّ الْجِهَاد فَرْض عَلَى كُلّ مُسْلِم فِي عَيْنه أَبَدًا , حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي اِسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاع أَنَّ الْجِهَاد عَلَى كُلّ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْض كِفَايَة , فَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ قَامَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ , إِلَّا أَنْ يَنْزِل الْعَدُوّ بِسَاحَةِ الْإِسْلَام فَهُوَ حِينَئِذٍ فَرْض عَيْن , وَسَيَأْتِي هَذَا مُبَيَّنًا فِي سُورَة " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ وَغَيْره عَنْ الثَّوْرِيّ أَنَّهُ قَالَ : الْجِهَاد تَطَوُّع . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذِهِ الْعِبَارَة عِنْدِي إِنَّمَا هِيَ عَلَى سُؤَال سَائِل وَقَدْ قِيَم بِالْجِهَادِ , فَقِيلَ لَهُ : ذَلِكَ تَطَوُّع .
اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَهُوَ كُرْه فِي الطِّبَاع . قَالَ اِبْن عَرَفَة : الْكُرْه , الْمَشَقَّة وَالْكَرْه - بِالْفَتْحِ - مَا أُكْرِهْت عَلَيْهِ , هَذَا هُوَ الِاخْتِيَار , وَيَجُوز الضَّمّ فِي مَعْنَى الْفَتْح فَيَكُونَانِ لُغَتَيْنِ , يُقَال : كَرِهْت الشَّيْء كَرْهًا وَكُرْهًا وَكَرَاهَة وَكَرَاهِيَة , وَأَكْرَهْته عَلَيْهِ إِكْرَاهًا . وَإِنَّمَا كَانَ الْجِهَاد كُرْهًا لِأَنَّ فِيهِ إِخْرَاج الْمَال وَمُفَارَقَة الْوَطَن وَالْأَهْل , وَالتَّعَرُّض بِالْجَسَدِ لِلشِّجَاجِ وَالْجِرَاح وَقَطْع الْأَطْرَاف وَذَهَاب النَّفْس , فَكَانَتْ كَرَاهِيَتهمْ لِذَلِكَ , لَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا فَرْض اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ عِكْرِمَة فِي هَذِهِ الْآيَة : إِنَّهُمْ كَرِهُوهُ ثُمَّ أَحَبُّوهُ وَقَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا , وَهَذَا لِأَنَّ اِمْتِثَال الْأَمْر يَتَضَمَّن مَشَقَّة , لَكِنْ إِذَا عُرِفَ الثَّوَاب هَانَ فِي جَنْبه مُقَاسَاة الْمَشَقَّات .
قُلْت : وَمِثَاله فِي الدُّنْيَا إِزَالَة مَا يُؤْلِم الْإِنْسَان وَيَخَاف مِنْهُ كَقَطْعِ عُضْو وَقَلْع ضِرْس وَفَصْد وَحِجَامَة اِبْتِغَاء الْعَافِيَة وَدَوَام الصِّحَّة , وَلَا نَعِيم أَفْضَل مِنْ الْحَيَاة الدَّائِمَة فِي دَار الْخُلْد وَالْكَرَامَة فِي مَقْعَد صِدْق .
قِيلَ : " عَسَى " : بِمَعْنَى قَدْ , قَالَهُ الْأَصَمّ . وَقِيلَ : هِيَ وَاجِبَة . و " عَسَى " مِنْ اللَّه وَاجِبَة فِي جَمِيع الْقُرْآن إِلَّا قَوْله تَعَالَى : " عَسَى رَبّه إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلهُ " [ التَّحْرِيم : 5 ] . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : " عَسَى " مِنْ اللَّه إِيجَاب , وَالْمَعْنَى عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا مَا فِي الْجِهَاد مِنْ الْمَشَقَّة وَهُوَ خَيْر لَكُمْ فِي أَنَّكُمْ تَغْلِبُونَ وَتَظْفَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتُؤْجَرُونَ , وَمَنْ مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا , وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا الدَّعَة وَتَرْك الْقِتَال وَهُوَ شَرّ لَكُمْ فِي أَنَّكُمْ تُغْلَبُونَ وَتَذِلُّونَ وَيَذْهَب أَمْركُمْ .
قُلْت : وَهَذَا صَحِيح لَا غُبَار عَلَيْهِ , كَمَا اِتَّفَقَ فِي بِلَاد الْأَنْدَلُس , تَرَكُوا الْجِهَاد وَجَبُنُوا عَنْ الْقِتَال وَأَكْثَرُوا مِنْ الْفِرَار , فَاسْتَوْلَى الْعَدُوّ عَلَى الْبِلَاد , وَأَيّ بِلَاد ؟ ! وَأَسَرَ وَقَتَلَ وَسَبَى وَاسْتَرَقَّ , فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ! ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِينَا وَكَسَبَتْهُ ! وَقَالَ الْحَسَن فِي مَعْنَى الْآيَة : لَا تَكْرَهُوا الْمُلِمَّات الْوَاقِعَة , فَلَرُبَّ أَمْر تَكْرَههُ فِيهِ نَجَاتك , وَلَرُبَّ أَمْر تُحِبّهُ فِيهِ عَطَبك , وَأَنْشَدَ أَبُو سَعِيد الضَّرِير : رُبَّ أَمْر تَتَّقِيه جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيه خَفِيَ الْمَحْبُوب مِنْهُ وَبَدَا الْمَكْرُوه فِيهِ
اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَهُوَ كُرْه فِي الطِّبَاع . قَالَ اِبْن عَرَفَة : الْكُرْه , الْمَشَقَّة وَالْكَرْه - بِالْفَتْحِ - مَا أُكْرِهْت عَلَيْهِ , هَذَا هُوَ الِاخْتِيَار , وَيَجُوز الضَّمّ فِي مَعْنَى الْفَتْح فَيَكُونَانِ لُغَتَيْنِ , يُقَال : كَرِهْت الشَّيْء كَرْهًا وَكُرْهًا وَكَرَاهَة وَكَرَاهِيَة , وَأَكْرَهْته عَلَيْهِ إِكْرَاهًا . وَإِنَّمَا كَانَ الْجِهَاد كُرْهًا لِأَنَّ فِيهِ إِخْرَاج الْمَال وَمُفَارَقَة الْوَطَن وَالْأَهْل , وَالتَّعَرُّض بِالْجَسَدِ لِلشِّجَاجِ وَالْجِرَاح وَقَطْع الْأَطْرَاف وَذَهَاب النَّفْس , فَكَانَتْ كَرَاهِيَتهمْ لِذَلِكَ , لَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا فَرْض اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ عِكْرِمَة فِي هَذِهِ الْآيَة : إِنَّهُمْ كَرِهُوهُ ثُمَّ أَحَبُّوهُ وَقَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا , وَهَذَا لِأَنَّ اِمْتِثَال الْأَمْر يَتَضَمَّن مَشَقَّة , لَكِنْ إِذَا عُرِفَ الثَّوَاب هَانَ فِي جَنْبه مُقَاسَاة الْمَشَقَّات .
قُلْت : وَمِثَاله فِي الدُّنْيَا إِزَالَة مَا يُؤْلِم الْإِنْسَان وَيَخَاف مِنْهُ كَقَطْعِ عُضْو وَقَلْع ضِرْس وَفَصْد وَحِجَامَة اِبْتِغَاء الْعَافِيَة وَدَوَام الصِّحَّة , وَلَا نَعِيم أَفْضَل مِنْ الْحَيَاة الدَّائِمَة فِي دَار الْخُلْد وَالْكَرَامَة فِي مَقْعَد صِدْق .
قِيلَ : " عَسَى " : بِمَعْنَى قَدْ , قَالَهُ الْأَصَمّ . وَقِيلَ : هِيَ وَاجِبَة . و " عَسَى " مِنْ اللَّه وَاجِبَة فِي جَمِيع الْقُرْآن إِلَّا قَوْله تَعَالَى : " عَسَى رَبّه إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلهُ " [ التَّحْرِيم : 5 ] . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : " عَسَى " مِنْ اللَّه إِيجَاب , وَالْمَعْنَى عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا مَا فِي الْجِهَاد مِنْ الْمَشَقَّة وَهُوَ خَيْر لَكُمْ فِي أَنَّكُمْ تَغْلِبُونَ وَتَظْفَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتُؤْجَرُونَ , وَمَنْ مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا , وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا الدَّعَة وَتَرْك الْقِتَال وَهُوَ شَرّ لَكُمْ فِي أَنَّكُمْ تُغْلَبُونَ وَتَذِلُّونَ وَيَذْهَب أَمْركُمْ .
قُلْت : وَهَذَا صَحِيح لَا غُبَار عَلَيْهِ , كَمَا اِتَّفَقَ فِي بِلَاد الْأَنْدَلُس , تَرَكُوا الْجِهَاد وَجَبُنُوا عَنْ الْقِتَال وَأَكْثَرُوا مِنْ الْفِرَار , فَاسْتَوْلَى الْعَدُوّ عَلَى الْبِلَاد , وَأَيّ بِلَاد ؟ ! وَأَسَرَ وَقَتَلَ وَسَبَى وَاسْتَرَقَّ , فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ! ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِينَا وَكَسَبَتْهُ ! وَقَالَ الْحَسَن فِي مَعْنَى الْآيَة : لَا تَكْرَهُوا الْمُلِمَّات الْوَاقِعَة , فَلَرُبَّ أَمْر تَكْرَههُ فِيهِ نَجَاتك , وَلَرُبَّ أَمْر تُحِبّهُ فِيهِ عَطَبك , وَأَنْشَدَ أَبُو سَعِيد الضَّرِير : رُبَّ أَمْر تَتَّقِيه جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيه خَفِيَ الْمَحْبُوب مِنْهُ وَبَدَا الْمَكْرُوه فِيهِ
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ↓
" يَسْأَلُونَك " تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ . وَرَوَى جَرِير بْن عَبْد الْحَمِيد وَمُحَمَّد بْن فُضَيْل عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( مَا رَأَيْت قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاث عَشْرَة مَسْأَلَة كُلّهنَّ فِي الْقُرْآن : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيض " , " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام " , " يَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى " , مَا كَانُوا يَسْأَلُونَك إِلَّا عَمَّا يَنْفَعهُمْ ) . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : لَيْسَ فِي الْحَدِيث مِنْ الثَّلَاث عَشْرَة مَسْأَلَة إِلَّا ثَلَاث . وَرَوَى أَبُو الْيَسَار عَنْ جُنْدُب بْن عَبْد اللَّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَهْطًا وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَة بْن الْحَارِث أَوْ عُبَيْدَة بْن الْحَارِث , فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْطَلِق بَكَى صَبَابَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَبَعَثَ عَبْد اللَّه بْن جَحْش , وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَلَّا يَقْرَأ الْكِتَاب حَتَّى يَبْلُغ مَكَان كَذَا وَكَذَا , وَقَالَ : وَلَا تُكْرِهَن أَصْحَابك عَلَى الْمَسِير , فَلَمَّا بَلَغَ الْمَكَان قَرَأَ الْكِتَاب فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ : سَمْعًا وَطَاعَة لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ , قَالَ : فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَمَضَى بَقِيَّتهمْ , فَلَقُوا اِبْن الْحَضْرَمِيّ فَقَتَلُوهُ , وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ رَجَب , فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْر الْحَرَام , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام " الْآيَة . وَرُوِيَ أَنَّ سَبَب نُزُولهَا أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي كِلَاب لَقِيَا عَمْرو بْن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ وَهُوَ لَا يَعْلَم أَنَّهُمَا كَانَا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ فِي أَوَّل يَوْم مِنْ رَجَب فَقَتَلَهُمَا , فَقَالَتْ قُرَيْش : قَتَلَهُمَا فِي الشَّهْر الْحَرَام , فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَالْقَوْل بِأَنَّ نُزُولهَا فِي قِصَّة عَبْد اللَّه بْن جَحْش أَكْثَر وَأَشْهَر , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مَعَ تِسْعَة رَهْط , وَقِيلَ ثَمَانِيَة , فِي جُمَادَى الْآخِرَة قَبْل بَدْر بِشَهْرَيْنِ , وَقِيلَ فِي رَجَب . قَالَ أَبُو عُمَر - فِي كِتَاب الدُّرَر لَهُ - : وَلَمَّا رَجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَلَب كُرْز بْن جَابِر - وَتُعْرَف تِلْكَ الْخَرْجَة بِبَدْرٍ الْأُولَى - أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّة جُمَادَى الْآخِرَة وَرَجَب , وَبَعَثَ فِي رَجَب عَبْد اللَّه بْن جَحْش بْن رِئَاب الْأَسَدِيّ وَمَعَهُ ثَمَانِيَة رِجَال مِنْ الْمُهَاجِرِينَ , وَهُمْ أَبُو حُذَيْفَة بْن عُتْبَة , وَعُكَاشَة بْن مِحْصَن , وَعُتْبَة بْن غَزْوَان , وَسُهَيْل بْن بَيْضَاء الْفِهْرِيّ , وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص , وَعَامِر بْن رَبِيعَة , وَوَاقِد بْن عَبْد اللَّه التَّمِيمِيّ , وَخَالِد بْن بُكَيْر اللَّيْثِيّ . وَكَتَبَ لِعَبْدِ اللَّه بْن جَحْش كِتَابًا , وَأَمَرَهُ أَلَّا يَنْظُر فِيهِ حَتَّى يَسِير يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُر فِيهِ فَيَمْضِي لِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَلَا يَسْتَكْرِه أَحَدًا مِنْ أَصْحَابه , وَكَانَ أَمِيرهمْ , فَفَعَلَ عَبْد اللَّه بْن جَحْش مَا أَمَرَهُ بِهِ , فَلَمَّا فَتَحَ الْكِتَاب وَقَرَأَهُ وَجَدَ فِيهِ : ( إِذَا نَظَرْت فِي كِتَابِي هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِل نَخْلَة بَيْن مَكَّة وَالطَّائِف فَتَرَصَّدْ بِهَا قُرَيْشًا , وَتَعَلَّمْ لَنَا مِنْ أَخْبَارهمْ ) . فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب قَالَ : سَمْعًا وَطَاعَة , ثُمَّ أَخْبَرَ أَصْحَابه بِذَلِكَ , وَبِأَنَّهُ لَا يَسْتَكْرِه أَحَدًا مِنْهُمْ , وَأَنَّهُ نَاهِض لِوَجْهِهِ بِمَنْ أَطَاعَهُ , وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُطِعْهُ أَحَد مَضَى وَحْده , فَمَنْ أَحَبَّ الشَّهَادَة فَلْيَنْهَضْ , وَمَنْ كَرِهَ الْمَوْت فَلْيَرْجِعْ . فَقَالُوا : كُلّنَا نَرْغَب فِيمَا تَرْغَب فِيهِ , وَمَا مِنَّا أَحَد إِلَّا وَهُوَ سَامِع مُطِيع لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَنَهَضُوا مَعَهُ , فَسَلَكَ عَلَى الْحِجَاز , وَشَرَدَ لِسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاص وَعُتْبَة بْن غَزْوَان جَمَل كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلَّفَا فِي طَلَبه , وَنَفَذَ عَبْد اللَّه بْن جَحْش مَعَ سَائِرهمْ لِوَجْهِهِ حَتَّى نَزَلَ بِنَخْلَة , فَمَرَّتْ بِهِمْ عِير لِقُرَيْشٍ تَحْمِل زَبِيبًا وَتِجَارَة فِيهَا عَمْرو بْن الْحَضْرَمِيّ - وَاسْم الْحَضْرَمِيّ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاد مِنْ الصَّدَف , وَالصَّدَف بَطْن مِنْ حَضْرَمَوْت - وَعُثْمَان بْن عَبْد اللَّه بْن الْمُغِيرَة , وَأَخُوهُ نَوْفَل بْن عَبْد اللَّه بْن الْمُغِيرَة الْمَخْزُومِيَّانِ , وَالْحَكَم بْن كَيْسَان مَوْلَى بَنِي الْمُغِيرَة , فَتَشَاوَرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا : نَحْنُ فِي آخِر يَوْم مِنْ رَجَب الشَّهْر الْحَرَام , فَإِنْ نَحْنُ قَاتَلْنَاهُمْ هَتَكْنَا حُرْمَة الشَّهْر الْحَرَام : وَإِنْ تَرَكْنَاهُمْ اللَّيْلَة دَخَلُوا الْحَرَم , ثُمَّ اِتَّفَقُوا عَلَى لِقَائِهِمْ , فَرَمَى وَاقِد بْن عَبْد اللَّه التَّمِيمِيّ عَمْرو بْن الْحَضْرَمِيّ فَقَتَلَهُ , وَأَسَرُوا عُثْمَان بْن عَبْد اللَّه وَالْحَكَم بْن كَيْسَان , وَأَفْلَتَ نَوْفَل بْن عَبْد اللَّه , ثُمَّ قَدِمُوا بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ , وَقَالَ لَهُمْ عَبْد اللَّه بْن جَحْش : اِعْزِلُوا مِمَّا غَنِمْنَا الْخُمُس لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلُوا , فَكَانَ أَوَّل خُمُس فِي الْإِسْلَام , ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآن : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " [ الْأَنْفَال : 41 ] فَأَقَرَّ اللَّه وَرَسُوله فِعْل عَبْد اللَّه بْن جَحْش وَرَضِيَهُ وَسَنَّهُ لِلْأُمَّةِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَهِيَ أَوَّل غَنِيمَة غُنِمَتْ فِي الْإِسْلَام , وَأَوَّل أَمِير , وَعَمْرو بْن الْحَضْرَمِيّ أَوَّل قَتِيل . وَأَنْكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْل اِبْن الْحَضْرَمِيّ فِي الشَّهْر الْحَرَام , فَسَقَطَ فِي أَيْدِي الْقَوْم , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام قِتَال فِيهِ " إِلَى قَوْله : " هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " . وَقَبِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاء فِي الْأَسِيرَيْنِ , فَأَمَّا عُثْمَان بْن عَبْد اللَّه فَمَاتَ بِمَكَّة كَافِرًا , وَأَمَّا الْحَكَم بْن كَيْسَان فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اُسْتُشْهِدَ بِبِئْرِ مَعُونَة , وَرَجَعَ سَعْد وَعُتْبَة إِلَى الْمَدِينَة سَالِمَيْنِ . وَقِيلَ : إِنَّ اِنْطِلَاق سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَعُتْبَة فِي طَلَب بَعِيرهمَا كَانَ عَنْ إِذْن مِنْ عَبْد اللَّه بْن جَحْش , وَإِنَّ عَمْرو بْن الْحَضْرَمِيّ وَأَصْحَابه لَمَّا رَأَوْا أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَابُوهُمْ , فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن جَحْش : إِنَّ الْقَوْم قَدْ فَزِعُوا مِنْكُمْ , فَاحْلِقُوا رَأْس رَجُل مِنْكُمْ فَلْيَتَعَرَّضْ لَهُمْ , فَإِذَا رَأَوْهُ مَحْلُوقًا أَمِنُوا وَقَالُوا : قَوْم عُمَّار لَا بَأْس عَلَيْكُمْ , وَتَشَاوَرُوا فِي قِتَالهمْ , الْحَدِيث . وَتَفَاءَلَتْ الْيَهُود وَقَالُوا : وَاقِد وَقَدَتْ الْحَرْب , وَعَمْرو عَمَرَتْ الْحَرْب , وَالْحَضْرَمِيّ حَضَرَتْ الْحَرْب . وَبَعَثَ أَهْل مَكَّة فِي فَدَاء أَسِيرَيْهِمْ , فَقَالَ : لَا نَفْدِيهِمَا حَتَّى يَقْدَم سَعْد وَعُتْبَة , وَإِنْ لَمْ يَقْدَمَا قَتَلْنَاهُمَا بِهِمَا , فَلَمَّا قَدِمَا فَادَاهُمَا , فَأَمَّا الْحَكَم فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى قُتِلَ يَوْم بِئْر مَعُونَة شَهِيدًا , وَأَمَّا عُثْمَان فَرَجَعَ إِلَى مَكَّة فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا , وَأَمَّا نَوْفَل فَضَرَبَ بَطْن فَرَسه يَوْم الْأَحْزَاب لِيَدْخُل الْخَنْدَق عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فِي الْخَنْدَق مَعَ فَرَسه فَتَحَطَّمَا جَمِيعًا فَقَتَلَهُ اللَّه تَعَالَى , وَطَلَب الْمُشْرِكُونَ جِيفَته بِالثَّمَنِ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خُذُوهُ فَإِنَّهُ خَبِيث الْجِيفَة خَبِيث الدِّيَة ) فَهَذَا سَبَب نُزُول قَوْله تَعَالَى : " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام " . وَذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق أَنَّ قَتْل عَمْرو بْن الْحَضْرَمِيّ كَانَ فِي آخِر يَوْم مِنْ رَجَب , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ السُّدِّيّ وَغَيْره أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِر يَوْم مِنْ جُمَادَى الْآخِرَة , وَالْأَوَّل أَشْهَر , عَلَى أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَدْ وَرَدَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّل لَيْلَة مِنْ رَجَب , وَالْمُسْلِمُونَ يَظُنُّونَهَا مِنْ جُمَادَى . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَكَرَ الصَّاحِب بْن عَبَّاد فِي رِسَالَته الْمَعْرُوفَة بِالْأَسَدِيَّة أَنَّ عَبْد اللَّه بْن جَحْش سُمِّيَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لِكَوْنِهِ مُؤَمَّرًا عَلَى جَمَاعَة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي نَسْخ هَذِهِ الْآيَة , فَالْجُمْهُور عَلَى نَسْخهَا , وَأَنَّ قِتَال الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُر الْحُرُم مُبَاح . وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخهَا , فَقَالَ الزُّهْرِيّ : نَسَخَهَا " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة " [ التَّوْبَة : 36 ] . وَقِيلَ نَسَخَهَا غَزْو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي الشَّهْر الْحَرَام , وَإِغْزَاؤُهُ أَبَا عَامِر إِلَى أَوْطَاس فِي الشَّهْر الْحَرَام . وَقِيلَ : نَسَخَهَا بَيْعَة الرِّضْوَان عَلَى الْقِتَال فِي ذِي الْقَعْدَة , وَهَذَا ضَعِيف , فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْل عُثْمَان بِمَكَّة وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى حَرْبه بَايَعَ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمِينَ عَلَى دَفْعهمْ لَا عَلَى الِابْتِدَاء بِقِتَالِهِمْ . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر مِنْ غَيْر حَدِيث مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي أَثَر قِصَّة الْحَضْرَمِيّ : فَأَنْزَلَ عَزَّ وَجَلَّ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام قِتَال فِيهِ " الْآيَة , قَالَ : فَحَدَّثَهُمْ اللَّه فِي كِتَابه أَنَّ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام حَرَام كَمَا كَانَ , وَأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَكْبَر مِنْ ذَلِكَ مِنْ صَدّهمْ عَنْ سَبِيل اللَّه حِين يَسْجُنُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ وَيَحْبِسُونَهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكُفْرهمْ بِاَللَّهِ وَصَدّهمْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَة وَالصَّلَاة فِيهِ , وَإِخْرَاجهمْ أَهْل الْمَسْجِد الْحَرَام وَهُمْ سُكَّانه مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَفِتْنَتهمْ إِيَّاهُمْ عَنْ الدِّين , فَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلَ اِبْن الْحَضْرَمِيّ وَحَرَّمَ الشَّهْر الْحَرَام كَمَا كَانَ يُحَرِّمهُ , حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " بَرَاءَة مِنْ اللَّه وَرَسُوله " [ التَّوْبَة : 1 ] . وَكَانَ عَطَاء يَقُول : الْآيَة مُحْكَمَة , وَلَا يَجُوز الْقِتَال فِي الْأَشْهُر الْحُرُم , وَيَحْلِف عَلَى ذَلِكَ , لِأَنَّ الْآيَات الَّتِي وَرَدَتْ بَعْدهَا عَامَّة فِي الْأَزْمِنَة , وَهَذَا خَاصّ وَالْعَامّ لَا يَنْسَخ الْخَاصّ بِاتِّفَاقٍ . وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْر عَنْ جَابِر قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَاتِل فِي الشَّهْر الْحَرَام إِلَّا أَنْ يُغْزَى .
قَوْله تَعَالَى : " قِتَال فِيهِ " " قِتَال " بَدَل عِنْد سِيبَوَيْهِ بَدَل اِشْتِمَال ; لِأَنَّ السُّؤَال اِشْتَمَلَ عَلَى الشَّهْر وَعَلَى الْقِتَال , أَيْ يَسْأَلك الْكُفَّار تَعَجُّبًا مِنْ هَتْك حُرْمَة الشَّهْر , فَسُؤَالهمْ عَنْ الشَّهْر إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْقِتَال فِيهِ . قَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى يَسْأَلُونَك عَنْ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : يَسْأَلُونَك عَنْ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام هَلْ يَجُوز ؟ فَأَبْدَلَ قِتَالًا مِنْ الشَّهْر , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : فَمَا كَانَ قَيْس هُلْكُهُ هُلْك وَاحِد وَلَكِنَّهُ بُنْيَان قَوْم تَهَدَّمَا وَقَرَأَ عِكْرِمَة : " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام قَتْلٍ فِيهِ قُلْ قَتْل " بِغَيْرِ أَلِف فِيهِمَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام وَعَنْ قِتَال فِيهِ , وَهَكَذَا قَرَأَ اِبْن مَسْعُود , فَيَكُون مَخْفُوضًا بِعَنْ عَلَى التَّكْرِير , قَالَهُ الْكِسَائِيّ . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مَخْفُوض عَلَى نِيَّة عَنْ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ مَخْفُوض عَلَى الْجِوَار . قَالَ النَّحَّاس : لَا يَجُوز أَنْ يُعْرَب الشَّيْء عَلَى الْجِوَار فِي كِتَاب اللَّه وَلَا فِي شَيْء مِنْ الْكَلَام , وَإِنَّمَا الْجِوَار غَلَط , وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي شَيْء شَاذّ , وَهُوَ قَوْلهمْ : هَذَا جُحْر ضَبٍّ خَرِبٍ , وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ غَلَط قَوْل الْعَرَب فِي التَّثْنِيَة : هَذَانِ : جُحْرَا ضَبّ خَرِبَانِ , وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْوَاء , وَلَا يَجُوز أَنْ يُحْمَل شَيْء مِنْ كِتَاب اللَّه عَلَى هَذَا , وَلَا يَكُون إِلَّا بِأَفْصَح اللُّغَات وَأَصَحّهَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ خَفْض عَلَى الْجِوَار , وَقَوْله هَذَا خَطَأ . قَالَ النَّحَّاس : وَلَا يَجُوز إِضْمَار عَنْ , وَالْقَوْل فِيهِ أَنَّهُ بَدَل . وَقَرَأَ الْأَعْرَج : " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام قِتَال فِيهِ " بِالرَّفْعِ . قَالَ النَّحَّاس : وَهُوَ غَامِض فِي الْعَرَبِيَّة , وَالْمَعْنَى فِيهِ يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام أَجَائِز قِتَال فِيهِ ؟ فَقَوْله : " يَسْأَلُونَك " يَدُلّ عَلَى الِاسْتِفْهَام , كَمَا قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : أَصَاح تَرَى بَرْقًا أُرِيك وَمِيضه كَلَمْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَبِيّ مُكَلَّل وَالْمَعْنَى : أَتَرَى بَرْقًا , فَحَذَفَ أَلِف الِاسْتِفْهَام ; لِأَنَّ الْأَلِف الَّتِي فِي " أَصَاح " تَدُلّ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرْف نِدَاء , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : تَرُوح مِنْ الْحَيّ أَمْ تَبْتَكِر وَالْمَعْنَى : أَتَرُوحُ , فَحُذِفَ الْأَلِف لِأَنَّ " أَمْ " تَدُلّ عَلَيْهَا .
اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ مُسْتَنْكَر ; لِأَنَّ تَحْرِيم الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام كَانَ ثَابِتًا يَوْمئِذٍ إِذْ كَانَ الِابْتِدَاء مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَالشَّهْر فِي الْآيَة اِسْم جِنْس , وَكَانَتْ الْعَرَب قَدْ جَعَلَ اللَّه لَهَا الشَّهْر الْحَرَام قِوَامًا تَعْتَدِل عِنْده , فَكَانَتْ لَا تَسْفِك دَمًا , وَلَا تُغَيِّر فِي الْأَشْهُر الْحُرُم , وَهِيَ رَجَب وَذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحَجَّة وَالْمُحَرَّم , ثَلَاثَة سَرْد وَوَاحِد فَرْد . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
" وَصَدّ عَنْ سَبِيل اللَّه " اِبْتِدَاء " وَكُفْر بِهِ " عَطْف عَلَى " صَدّ " " وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " عَطْف عَلَى " سَبِيل اللَّه " " وَإِخْرَاج أَهْله مِنْهُ " عَطْف عَلَى " صَدّ " , وَخَبَر الِابْتِدَاء " أَكْبَر عِنْد اللَّه " أَيْ أَعْظَم إِثْمًا مِنْ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام , قَالَهُ الْمُبَرِّد وَغَيْره . وَهُوَ الصَّحِيح , لِطُولِ مَنْع النَّاس عَنْ الْكَعْبَة أَنْ يُطَاف بِهَا . " وَكُفْر بِهِ " أَيْ بِاَللَّهِ , وَقِيلَ : " وَكُفْر بِهِ " أَيْ بِالْحَجِّ وَالْمَسْجِد الْحَرَام . " وَإِخْرَاج أَهْله مِنْهُ أَكْبَر " أَيْ أَعْظَم عُقُوبَة عِنْد اللَّه مِنْ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام . وَقَالَ الْفَرَّاء : " صَدّ " عَطْف عَلَى " كَبِير " . " وَالْمَسْجِد " عَطْف عَلَى الْهَاء فِي " بِهِ " , فَيَكُون الْكَلَام نَسَقًا مُتَّصِلًا غَيْر مُنْقَطِع . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَلِكَ خَطَأ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَسُوق إِلَى أَنَّ قَوْله : " وَكُفْر بِهِ " أَيْ بِاَللَّهِ عَطْف أَيْضًا عَلَى " كَبِير " , وَيَجِيء مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاج أَهْل الْمَسْجِد مِنْهُ أَكْبَر مِنْ الْكُفْر عِنْد اللَّه , وَهَذَا بَيِّنٌ فَسَاده . وَمَعْنَى الْآيَة عَلَى قَوْل الْجُمْهُور : إِنَّكُمْ يَا كُفَّار قُرَيْش تَسْتَعْظِمُونَ عَلَيْنَا الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام , وَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ مِنْ الصَّدّ عَنْ سَبِيل اللَّه لِمَنْ أَرَادَ الْإِسْلَام , وَمِنْ كُفْركُمْ بِاَللَّهِ وَإِخْرَاجكُمْ أَهْل الْمَسْجِد مِنْهُ , كَمَا فَعَلْتُمْ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه أَكْبَر جُرْمًا عِنْد اللَّه . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن جَحْش رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَام عَظِيمَة وَأَعْظَم مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْد رَاشِد صُدُودكُمْ عَمَّا يَقُول مُحَمَّد وَكُفْر بِهِ وَاَللَّه رَاءٍ وَشَاهِد وَإِخْرَاجكُمْ مِنْ مَسْجِد اللَّه أَهْله لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْت سَاجِد فَإِنَّا وَإِنْ غَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِد سَقَيْنَا مِنْ اِبْن الْحَضْرَمِيّ رِمَاحنَا بِنَخْلَة لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْب وَاقِد دَمًا وَابْن عَبْد اللَّه عُثْمَان بَيْننَا يُنَازِعهُ غُلّ مِنْ الْقِدّ عَانِد وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : قَوْله تَعَالَى : " قُلْ قِتَال فِيهِ كَبِير " مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ : " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة " وَبِقَوْلِهِ : " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : 5 ] . وَقَالَ عَطَاء : لَمْ يُنْسَخ , وَلَا يَنْبَغِي الْقِتَال فِي الْأَشْهُر الْحُرُم , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
قَالَ مُجَاهِد وَغَيْره : الْفِتْنَة هُنَا الْكُفْر , أَيْ كُفْركُمْ أَكْبَر مِنْ قَتْلنَا أُولَئِكَ . وَقَالَ الْجُمْهُور : مَعْنَى الْفِتْنَة هُنَا فِتْنَتهمْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينهمْ حَتَّى يَهْلَكُوا , أَيْ أَنَّ ذَلِكَ أَشَدّ اِجْتِرَامًا مِنْ قَتْلكُمْ فِي الشَّهْر الْحَرَام .
اِبْتِدَاء خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَتَحْذِير مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَرّ الْكَفَرَة . قَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي كُفَّار قُرَيْش .
نُصِبَ بِحَتَّى , لِأَنَّهَا غَايَة مُجَرَّدَة .
" وَمَنْ يَرْتَدِدْ " أَيْ يَرْجِع عَنْ الْإِسْلَام إِلَى الْكُفْر .
أَيْ بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ , وَمِنْهُ الْحَبَط وَهُوَ فَسَاد يَلْحَق الْمَوَاشِي فِي بُطُونهَا مِنْ كَثْرَة أَكْلهَا الْكَلَأ فَتَنْتَفِخ أَجْوَافهَا , وَرُبَّمَا تَمُوت مِنْ ذَلِكَ , فَالْآيَة تَهْدِيد لِلْمُسْلِمِينَ لِيَثْبُتُوا عَلَى دِين الْإِسْلَام . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرْتَدّ هَلْ يُسْتَتَاب أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحْبَط عَمَله بِنَفْسِ الرِّدَّة أَمْ لَا , إِلَّا عَلَى الْمُوَافَاة عَلَى الْكُفْر ؟ وَهَلْ يُورَث أَمْ لَا ؟ قَالَتْ طَائِفَة : يُسْتَتَاب , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ , وَقَالَ بَعْضهمْ : سَاعَة وَاحِدَة . وَقَالَ آخَرُونَ : يُسْتَتَاب شَهْرًا . وَقَالَ آخَرُونَ : يُسْتَتَاب ثَلَاثًا , عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان , وَهُوَ قَوْل مَالِك رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ الْحَسَن : يُسْتَتَاب مِائَة مَرَّة , وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُقْتَل دُون اِسْتِتَابَة , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ طَاوُس وَعُبَيْد بْن عُمَيْر . وَذَكَرَ سَحْنُون أَنَّ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة الْمَاجِشُونَ كَانَ يَقُول : يُقْتَل الْمُرْتَدّ وَلَا يُسْتَتَاب , وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ مُعَاذ وَأَبِي مُوسَى , وَفِيهِ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَن أَتْبَعَهُ مُعَاذ بْن جَبَل فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ : اِنْزِلْ , وَأَلْقَى إِلَيْهِ وِسَادَة , وَإِذَا رَجُل عِنْده مُوثَق قَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَاجَعَ دِينه دِين السُّوء فَتَهَوَّدَ . قَالَ : لَا أَجْلِس حَتَّى يُقْتَل , قَضَاء اللَّه وَرَسُوله , فَقَالَ : اِجْلِسْ . قَالَ : نَعَمْ لَا أَجْلِس حَتَّى يُقْتَل , قَضَاء اللَّه وَرَسُوله - ثَلَاث مَرَّات - فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ , خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَذَكَرَ أَبُو يُوسُف عَنْ أَبِي حَنِيفَة أَنَّ الْمُرْتَدّ يُعْرَض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانه , إِلَّا أَنْ يَطْلُب أَنْ يُؤَجَّل , فَإِنْ طَلَبَ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَة أَيَّام , وَالْمَشْهُور عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابه أَنَّ الْمُرْتَدّ لَا يُقْتَل حَتَّى يُسْتَتَاب . وَالزِّنْدِيق عِنْدهمْ وَالْمُرْتَدّ سَوَاء . وَقَالَ مَالِك : وَتُقْتَل الزَّنَادِقَة وَلَا يُسْتَتَابُونَ . وَقَدْ مَضَى هَذَا أَوَّل " الْبَقَرَة " . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْر إِلَى كُفْر , فَقَالَ مَالِك وَجُمْهُور الْفُقَهَاء : لَا يُتَعَرَّض لَهُ ; لِأَنَّهُ اِنْتَقَلَ إِلَى مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاء لَأَقَرَّ عَلَيْهِ . وَحَكَى اِبْن عَبْد الْحَكَم عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ يُقْتَل , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ ) وَلَمْ يَخُصّ مُسْلِمًا مِنْ كَافِر . وَقَالَ مَالِك : مَعْنَى الْحَدِيث مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَام إِلَى الْكُفْر , وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْر إِلَى كُفْر فَلَمْ يُعْنَ بِهَذَا الْحَدِيث , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء . وَالْمَشْهُور عَنْ الشَّافِعِيّ مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ وَالرَّبِيع أَنَّ الْمُبَدِّل لِدِينِهِ مِنْ أَهْل الذِّمَّة يَلْحَقهُ الْإِمَام بِأَرْضِ الْحَرْب وَيُخْرِجهُ مِنْ بَلَده وَيَسْتَحِلّ مَاله مَعَ أَمْوَال الْحَرْبِيِّينَ إِنْ غَلَبَ عَلَى الدَّار , لِأَنَّهُ إِنَّمَا جُعِلَ لَهُ الذِّمَّة عَلَى الدِّين الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي حِين عَقَدَ الْعَهْد . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرْتَدَّة , فَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث بْن سَعْد : تُقْتَل كَمَا يُقْتَل الْمُرْتَدّ سَوَاء , وَحُجَّتهمْ ظَاهِر الْحَدِيث : ( مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ ) . و " مَنْ " يَصْلُح لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا تُقْتَل الْمُرْتَدَّة , وَهُوَ قَوْل اِبْن شُبْرُمَة , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ اِبْن عُلَيَّة , وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَالْحَسَن . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اِبْن عَبَّاس رَوَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ ) ثُمَّ إِنَّ اِبْن عَبَّاس لَمْ يَقْتُل الْمُرْتَدَّة , وَمَنْ رَوَى حَدِيثًا كَانَ أَعْلَم بِتَأْوِيلِهِ , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ مِثْله . وَنَهَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْل النِّسَاء وَالصِّبْيَان . وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث كُفْر بَعْد إِيمَان . .. ) فَعَمَّ كُلّ مَنْ كَفَرَ بَعْد إِيمَانه , وَهُوَ أَصَحّ .
قَالَ الشَّافِعِيّ : إِنَّ مَنْ اِرْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَام لَمْ يَحْبَط عَمَله وَلَا حَجّه الَّذِي فَرَغَ مِنْهُ , بَلْ إِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّة فَحِينَئِذٍ تَحْبَط أَعْمَاله . وَقَالَ مَالِك : تَحْبَط بِنَفْسِ الرِّدَّة , وَيَظْهَر الْخِلَاف فِي الْمُسْلِم إِذَا حَجَّ ثُمَّ اِرْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ , فَقَالَ مَالِك : يَلْزَمهُ الْحَجّ ; لِأَنَّ الْأَوَّل قَدْ حَبِطَ بِالرِّدَّةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا إِعَادَة عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عَمَله بَاقٍ . وَاسْتَظْهَرَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ " [ الزُّمَر : 65 ] . قَالُوا : وَهُوَ خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام يَسْتَحِيل مِنْهُ الرِّدَّة شَرْعًا . وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : بَلْ هُوَ خِطَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيق التَّغْلِيظ عَلَى الْأُمَّة , وَبَيَان أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَف مَنْزِلَته لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَله , فَكَيْف أَنْتُمْ ! لَكِنَّهُ لَا يُشْرِك لِفَضْلِ مَرْتَبَته , كَمَا قَالَ : " يَا نِسَاء النَّبِيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة يُضَاعَف لَهَا الْعَذَاب ضِعْفَيْنِ " [ الْأَحْزَاب : 30 ] وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتهنَّ , وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّر إِتْيَان مِنْهُنَّ صِيَانَة لِزَوْجِهِنَّ الْمُكَرَّم الْمُعَظَّم , اِبْن الْعَرَبِيّ . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه الْمُوَافَاة شَرْطًا هَاهُنَا لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الْخُلُود فِي النَّار جَزَاء , فَمَنْ وَافَى عَلَى الْكُفْر خَلَّدَهُ اللَّه فِي النَّار بِهَذِهِ الْآيَة , وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَله بِالْآيَةِ الْأُخْرَى , فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ , وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ . وَمَا خُوطِبَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ لِأُمَّتِهِ حَتَّى يَثْبُت اِخْتِصَاصه , وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجه فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّن أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكَانِ أَحَدهمَا لِحُرْمَةِ الدِّين , وَالثَّانِي لِحُرْمَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلِكُلِّ هَتْك حُرْمَة عِقَاب , وَيَنْزِل ذَلِكَ مَنْزِلَة مَنْ عَصَى فِي الشَّهْر الْحَرَام أَوْ فِي الْبَلَد الْحَرَام أَوْ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام , يُضَاعَف عَلَيْهِ الْعَذَاب بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنْ الْحُرُمَات . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَهِيَ اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي مِيرَاث الْمُرْتَدّ , فَقَالَ عَلَى بْن أَبِي طَالِب وَالْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَالْحَكَم وَاللَّيْث وَأَبُو حَنِيفَة وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ : مِيرَاث الْمُرْتَدّ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ مَالِك وَرَبِيعَة وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر : مِيرَاثه فِي بَيْت الْمَال . وَقَالَ اِبْن شُبْرُمَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَالْأَوْزَاعِيّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : مَا اِكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدّ بَعْد الرِّدَّة فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : مَا اِكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدّ فِي حَال الرِّدَّة فَهُوَ فَيْء , وَمَا كَانَ مُكْتَسَبًا فِي حَالَة الْإِسْلَام ثُمَّ اِرْتَدَّ يَرِثهُ وَرَثَته الْمُسْلِمُونَ , وَأَمَّا اِبْن شُبْرُمَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد فَلَا يَفْصِلُونَ بَيْن الْأَمْرَيْنِ , وَمُطْلَق قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا وِرَاثَة بَيْن أَهْل مِلَّتَيْنِ ) يَدُلّ عَلَى بُطْلَان قَوْلهمْ . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ وَرَثَته مِنْ الْكُفَّار لَا يَرِثُونَهُ , سِوَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز فَإِنَّهُ قَالَ : يَرِثُونَهُ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي نَسْخ هَذِهِ الْآيَة , فَالْجُمْهُور عَلَى نَسْخهَا , وَأَنَّ قِتَال الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُر الْحُرُم مُبَاح . وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخهَا , فَقَالَ الزُّهْرِيّ : نَسَخَهَا " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة " [ التَّوْبَة : 36 ] . وَقِيلَ نَسَخَهَا غَزْو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي الشَّهْر الْحَرَام , وَإِغْزَاؤُهُ أَبَا عَامِر إِلَى أَوْطَاس فِي الشَّهْر الْحَرَام . وَقِيلَ : نَسَخَهَا بَيْعَة الرِّضْوَان عَلَى الْقِتَال فِي ذِي الْقَعْدَة , وَهَذَا ضَعِيف , فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْل عُثْمَان بِمَكَّة وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى حَرْبه بَايَعَ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمِينَ عَلَى دَفْعهمْ لَا عَلَى الِابْتِدَاء بِقِتَالِهِمْ . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر مِنْ غَيْر حَدِيث مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي أَثَر قِصَّة الْحَضْرَمِيّ : فَأَنْزَلَ عَزَّ وَجَلَّ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام قِتَال فِيهِ " الْآيَة , قَالَ : فَحَدَّثَهُمْ اللَّه فِي كِتَابه أَنَّ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام حَرَام كَمَا كَانَ , وَأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَكْبَر مِنْ ذَلِكَ مِنْ صَدّهمْ عَنْ سَبِيل اللَّه حِين يَسْجُنُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ وَيَحْبِسُونَهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكُفْرهمْ بِاَللَّهِ وَصَدّهمْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَة وَالصَّلَاة فِيهِ , وَإِخْرَاجهمْ أَهْل الْمَسْجِد الْحَرَام وَهُمْ سُكَّانه مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَفِتْنَتهمْ إِيَّاهُمْ عَنْ الدِّين , فَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلَ اِبْن الْحَضْرَمِيّ وَحَرَّمَ الشَّهْر الْحَرَام كَمَا كَانَ يُحَرِّمهُ , حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " بَرَاءَة مِنْ اللَّه وَرَسُوله " [ التَّوْبَة : 1 ] . وَكَانَ عَطَاء يَقُول : الْآيَة مُحْكَمَة , وَلَا يَجُوز الْقِتَال فِي الْأَشْهُر الْحُرُم , وَيَحْلِف عَلَى ذَلِكَ , لِأَنَّ الْآيَات الَّتِي وَرَدَتْ بَعْدهَا عَامَّة فِي الْأَزْمِنَة , وَهَذَا خَاصّ وَالْعَامّ لَا يَنْسَخ الْخَاصّ بِاتِّفَاقٍ . وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْر عَنْ جَابِر قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَاتِل فِي الشَّهْر الْحَرَام إِلَّا أَنْ يُغْزَى .
قَوْله تَعَالَى : " قِتَال فِيهِ " " قِتَال " بَدَل عِنْد سِيبَوَيْهِ بَدَل اِشْتِمَال ; لِأَنَّ السُّؤَال اِشْتَمَلَ عَلَى الشَّهْر وَعَلَى الْقِتَال , أَيْ يَسْأَلك الْكُفَّار تَعَجُّبًا مِنْ هَتْك حُرْمَة الشَّهْر , فَسُؤَالهمْ عَنْ الشَّهْر إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْقِتَال فِيهِ . قَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى يَسْأَلُونَك عَنْ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : يَسْأَلُونَك عَنْ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام هَلْ يَجُوز ؟ فَأَبْدَلَ قِتَالًا مِنْ الشَّهْر , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : فَمَا كَانَ قَيْس هُلْكُهُ هُلْك وَاحِد وَلَكِنَّهُ بُنْيَان قَوْم تَهَدَّمَا وَقَرَأَ عِكْرِمَة : " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام قَتْلٍ فِيهِ قُلْ قَتْل " بِغَيْرِ أَلِف فِيهِمَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام وَعَنْ قِتَال فِيهِ , وَهَكَذَا قَرَأَ اِبْن مَسْعُود , فَيَكُون مَخْفُوضًا بِعَنْ عَلَى التَّكْرِير , قَالَهُ الْكِسَائِيّ . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مَخْفُوض عَلَى نِيَّة عَنْ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ مَخْفُوض عَلَى الْجِوَار . قَالَ النَّحَّاس : لَا يَجُوز أَنْ يُعْرَب الشَّيْء عَلَى الْجِوَار فِي كِتَاب اللَّه وَلَا فِي شَيْء مِنْ الْكَلَام , وَإِنَّمَا الْجِوَار غَلَط , وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي شَيْء شَاذّ , وَهُوَ قَوْلهمْ : هَذَا جُحْر ضَبٍّ خَرِبٍ , وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ غَلَط قَوْل الْعَرَب فِي التَّثْنِيَة : هَذَانِ : جُحْرَا ضَبّ خَرِبَانِ , وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْوَاء , وَلَا يَجُوز أَنْ يُحْمَل شَيْء مِنْ كِتَاب اللَّه عَلَى هَذَا , وَلَا يَكُون إِلَّا بِأَفْصَح اللُّغَات وَأَصَحّهَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ خَفْض عَلَى الْجِوَار , وَقَوْله هَذَا خَطَأ . قَالَ النَّحَّاس : وَلَا يَجُوز إِضْمَار عَنْ , وَالْقَوْل فِيهِ أَنَّهُ بَدَل . وَقَرَأَ الْأَعْرَج : " يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام قِتَال فِيهِ " بِالرَّفْعِ . قَالَ النَّحَّاس : وَهُوَ غَامِض فِي الْعَرَبِيَّة , وَالْمَعْنَى فِيهِ يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام أَجَائِز قِتَال فِيهِ ؟ فَقَوْله : " يَسْأَلُونَك " يَدُلّ عَلَى الِاسْتِفْهَام , كَمَا قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : أَصَاح تَرَى بَرْقًا أُرِيك وَمِيضه كَلَمْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَبِيّ مُكَلَّل وَالْمَعْنَى : أَتَرَى بَرْقًا , فَحَذَفَ أَلِف الِاسْتِفْهَام ; لِأَنَّ الْأَلِف الَّتِي فِي " أَصَاح " تَدُلّ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرْف نِدَاء , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : تَرُوح مِنْ الْحَيّ أَمْ تَبْتَكِر وَالْمَعْنَى : أَتَرُوحُ , فَحُذِفَ الْأَلِف لِأَنَّ " أَمْ " تَدُلّ عَلَيْهَا .
اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ مُسْتَنْكَر ; لِأَنَّ تَحْرِيم الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام كَانَ ثَابِتًا يَوْمئِذٍ إِذْ كَانَ الِابْتِدَاء مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَالشَّهْر فِي الْآيَة اِسْم جِنْس , وَكَانَتْ الْعَرَب قَدْ جَعَلَ اللَّه لَهَا الشَّهْر الْحَرَام قِوَامًا تَعْتَدِل عِنْده , فَكَانَتْ لَا تَسْفِك دَمًا , وَلَا تُغَيِّر فِي الْأَشْهُر الْحُرُم , وَهِيَ رَجَب وَذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحَجَّة وَالْمُحَرَّم , ثَلَاثَة سَرْد وَوَاحِد فَرْد . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
" وَصَدّ عَنْ سَبِيل اللَّه " اِبْتِدَاء " وَكُفْر بِهِ " عَطْف عَلَى " صَدّ " " وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " عَطْف عَلَى " سَبِيل اللَّه " " وَإِخْرَاج أَهْله مِنْهُ " عَطْف عَلَى " صَدّ " , وَخَبَر الِابْتِدَاء " أَكْبَر عِنْد اللَّه " أَيْ أَعْظَم إِثْمًا مِنْ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام , قَالَهُ الْمُبَرِّد وَغَيْره . وَهُوَ الصَّحِيح , لِطُولِ مَنْع النَّاس عَنْ الْكَعْبَة أَنْ يُطَاف بِهَا . " وَكُفْر بِهِ " أَيْ بِاَللَّهِ , وَقِيلَ : " وَكُفْر بِهِ " أَيْ بِالْحَجِّ وَالْمَسْجِد الْحَرَام . " وَإِخْرَاج أَهْله مِنْهُ أَكْبَر " أَيْ أَعْظَم عُقُوبَة عِنْد اللَّه مِنْ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام . وَقَالَ الْفَرَّاء : " صَدّ " عَطْف عَلَى " كَبِير " . " وَالْمَسْجِد " عَطْف عَلَى الْهَاء فِي " بِهِ " , فَيَكُون الْكَلَام نَسَقًا مُتَّصِلًا غَيْر مُنْقَطِع . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَلِكَ خَطَأ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَسُوق إِلَى أَنَّ قَوْله : " وَكُفْر بِهِ " أَيْ بِاَللَّهِ عَطْف أَيْضًا عَلَى " كَبِير " , وَيَجِيء مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاج أَهْل الْمَسْجِد مِنْهُ أَكْبَر مِنْ الْكُفْر عِنْد اللَّه , وَهَذَا بَيِّنٌ فَسَاده . وَمَعْنَى الْآيَة عَلَى قَوْل الْجُمْهُور : إِنَّكُمْ يَا كُفَّار قُرَيْش تَسْتَعْظِمُونَ عَلَيْنَا الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام , وَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ مِنْ الصَّدّ عَنْ سَبِيل اللَّه لِمَنْ أَرَادَ الْإِسْلَام , وَمِنْ كُفْركُمْ بِاَللَّهِ وَإِخْرَاجكُمْ أَهْل الْمَسْجِد مِنْهُ , كَمَا فَعَلْتُمْ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه أَكْبَر جُرْمًا عِنْد اللَّه . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن جَحْش رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَام عَظِيمَة وَأَعْظَم مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْد رَاشِد صُدُودكُمْ عَمَّا يَقُول مُحَمَّد وَكُفْر بِهِ وَاَللَّه رَاءٍ وَشَاهِد وَإِخْرَاجكُمْ مِنْ مَسْجِد اللَّه أَهْله لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْت سَاجِد فَإِنَّا وَإِنْ غَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِد سَقَيْنَا مِنْ اِبْن الْحَضْرَمِيّ رِمَاحنَا بِنَخْلَة لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْب وَاقِد دَمًا وَابْن عَبْد اللَّه عُثْمَان بَيْننَا يُنَازِعهُ غُلّ مِنْ الْقِدّ عَانِد وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : قَوْله تَعَالَى : " قُلْ قِتَال فِيهِ كَبِير " مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ : " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة " وَبِقَوْلِهِ : " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : 5 ] . وَقَالَ عَطَاء : لَمْ يُنْسَخ , وَلَا يَنْبَغِي الْقِتَال فِي الْأَشْهُر الْحُرُم , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
قَالَ مُجَاهِد وَغَيْره : الْفِتْنَة هُنَا الْكُفْر , أَيْ كُفْركُمْ أَكْبَر مِنْ قَتْلنَا أُولَئِكَ . وَقَالَ الْجُمْهُور : مَعْنَى الْفِتْنَة هُنَا فِتْنَتهمْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينهمْ حَتَّى يَهْلَكُوا , أَيْ أَنَّ ذَلِكَ أَشَدّ اِجْتِرَامًا مِنْ قَتْلكُمْ فِي الشَّهْر الْحَرَام .
اِبْتِدَاء خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَتَحْذِير مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَرّ الْكَفَرَة . قَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي كُفَّار قُرَيْش .
نُصِبَ بِحَتَّى , لِأَنَّهَا غَايَة مُجَرَّدَة .
" وَمَنْ يَرْتَدِدْ " أَيْ يَرْجِع عَنْ الْإِسْلَام إِلَى الْكُفْر .
أَيْ بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ , وَمِنْهُ الْحَبَط وَهُوَ فَسَاد يَلْحَق الْمَوَاشِي فِي بُطُونهَا مِنْ كَثْرَة أَكْلهَا الْكَلَأ فَتَنْتَفِخ أَجْوَافهَا , وَرُبَّمَا تَمُوت مِنْ ذَلِكَ , فَالْآيَة تَهْدِيد لِلْمُسْلِمِينَ لِيَثْبُتُوا عَلَى دِين الْإِسْلَام . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرْتَدّ هَلْ يُسْتَتَاب أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحْبَط عَمَله بِنَفْسِ الرِّدَّة أَمْ لَا , إِلَّا عَلَى الْمُوَافَاة عَلَى الْكُفْر ؟ وَهَلْ يُورَث أَمْ لَا ؟ قَالَتْ طَائِفَة : يُسْتَتَاب , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ , وَقَالَ بَعْضهمْ : سَاعَة وَاحِدَة . وَقَالَ آخَرُونَ : يُسْتَتَاب شَهْرًا . وَقَالَ آخَرُونَ : يُسْتَتَاب ثَلَاثًا , عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان , وَهُوَ قَوْل مَالِك رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ الْحَسَن : يُسْتَتَاب مِائَة مَرَّة , وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُقْتَل دُون اِسْتِتَابَة , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ طَاوُس وَعُبَيْد بْن عُمَيْر . وَذَكَرَ سَحْنُون أَنَّ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة الْمَاجِشُونَ كَانَ يَقُول : يُقْتَل الْمُرْتَدّ وَلَا يُسْتَتَاب , وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ مُعَاذ وَأَبِي مُوسَى , وَفِيهِ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَن أَتْبَعَهُ مُعَاذ بْن جَبَل فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ : اِنْزِلْ , وَأَلْقَى إِلَيْهِ وِسَادَة , وَإِذَا رَجُل عِنْده مُوثَق قَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَاجَعَ دِينه دِين السُّوء فَتَهَوَّدَ . قَالَ : لَا أَجْلِس حَتَّى يُقْتَل , قَضَاء اللَّه وَرَسُوله , فَقَالَ : اِجْلِسْ . قَالَ : نَعَمْ لَا أَجْلِس حَتَّى يُقْتَل , قَضَاء اللَّه وَرَسُوله - ثَلَاث مَرَّات - فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ , خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَذَكَرَ أَبُو يُوسُف عَنْ أَبِي حَنِيفَة أَنَّ الْمُرْتَدّ يُعْرَض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانه , إِلَّا أَنْ يَطْلُب أَنْ يُؤَجَّل , فَإِنْ طَلَبَ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَة أَيَّام , وَالْمَشْهُور عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابه أَنَّ الْمُرْتَدّ لَا يُقْتَل حَتَّى يُسْتَتَاب . وَالزِّنْدِيق عِنْدهمْ وَالْمُرْتَدّ سَوَاء . وَقَالَ مَالِك : وَتُقْتَل الزَّنَادِقَة وَلَا يُسْتَتَابُونَ . وَقَدْ مَضَى هَذَا أَوَّل " الْبَقَرَة " . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْر إِلَى كُفْر , فَقَالَ مَالِك وَجُمْهُور الْفُقَهَاء : لَا يُتَعَرَّض لَهُ ; لِأَنَّهُ اِنْتَقَلَ إِلَى مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاء لَأَقَرَّ عَلَيْهِ . وَحَكَى اِبْن عَبْد الْحَكَم عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ يُقْتَل , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ ) وَلَمْ يَخُصّ مُسْلِمًا مِنْ كَافِر . وَقَالَ مَالِك : مَعْنَى الْحَدِيث مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَام إِلَى الْكُفْر , وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْر إِلَى كُفْر فَلَمْ يُعْنَ بِهَذَا الْحَدِيث , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء . وَالْمَشْهُور عَنْ الشَّافِعِيّ مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ وَالرَّبِيع أَنَّ الْمُبَدِّل لِدِينِهِ مِنْ أَهْل الذِّمَّة يَلْحَقهُ الْإِمَام بِأَرْضِ الْحَرْب وَيُخْرِجهُ مِنْ بَلَده وَيَسْتَحِلّ مَاله مَعَ أَمْوَال الْحَرْبِيِّينَ إِنْ غَلَبَ عَلَى الدَّار , لِأَنَّهُ إِنَّمَا جُعِلَ لَهُ الذِّمَّة عَلَى الدِّين الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي حِين عَقَدَ الْعَهْد . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرْتَدَّة , فَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث بْن سَعْد : تُقْتَل كَمَا يُقْتَل الْمُرْتَدّ سَوَاء , وَحُجَّتهمْ ظَاهِر الْحَدِيث : ( مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ ) . و " مَنْ " يَصْلُح لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا تُقْتَل الْمُرْتَدَّة , وَهُوَ قَوْل اِبْن شُبْرُمَة , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ اِبْن عُلَيَّة , وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَالْحَسَن . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اِبْن عَبَّاس رَوَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ ) ثُمَّ إِنَّ اِبْن عَبَّاس لَمْ يَقْتُل الْمُرْتَدَّة , وَمَنْ رَوَى حَدِيثًا كَانَ أَعْلَم بِتَأْوِيلِهِ , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ مِثْله . وَنَهَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْل النِّسَاء وَالصِّبْيَان . وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث كُفْر بَعْد إِيمَان . .. ) فَعَمَّ كُلّ مَنْ كَفَرَ بَعْد إِيمَانه , وَهُوَ أَصَحّ .
قَالَ الشَّافِعِيّ : إِنَّ مَنْ اِرْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَام لَمْ يَحْبَط عَمَله وَلَا حَجّه الَّذِي فَرَغَ مِنْهُ , بَلْ إِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّة فَحِينَئِذٍ تَحْبَط أَعْمَاله . وَقَالَ مَالِك : تَحْبَط بِنَفْسِ الرِّدَّة , وَيَظْهَر الْخِلَاف فِي الْمُسْلِم إِذَا حَجَّ ثُمَّ اِرْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ , فَقَالَ مَالِك : يَلْزَمهُ الْحَجّ ; لِأَنَّ الْأَوَّل قَدْ حَبِطَ بِالرِّدَّةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا إِعَادَة عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عَمَله بَاقٍ . وَاسْتَظْهَرَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ " [ الزُّمَر : 65 ] . قَالُوا : وَهُوَ خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام يَسْتَحِيل مِنْهُ الرِّدَّة شَرْعًا . وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : بَلْ هُوَ خِطَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيق التَّغْلِيظ عَلَى الْأُمَّة , وَبَيَان أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَف مَنْزِلَته لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَله , فَكَيْف أَنْتُمْ ! لَكِنَّهُ لَا يُشْرِك لِفَضْلِ مَرْتَبَته , كَمَا قَالَ : " يَا نِسَاء النَّبِيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة يُضَاعَف لَهَا الْعَذَاب ضِعْفَيْنِ " [ الْأَحْزَاب : 30 ] وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتهنَّ , وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّر إِتْيَان مِنْهُنَّ صِيَانَة لِزَوْجِهِنَّ الْمُكَرَّم الْمُعَظَّم , اِبْن الْعَرَبِيّ . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه الْمُوَافَاة شَرْطًا هَاهُنَا لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الْخُلُود فِي النَّار جَزَاء , فَمَنْ وَافَى عَلَى الْكُفْر خَلَّدَهُ اللَّه فِي النَّار بِهَذِهِ الْآيَة , وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَله بِالْآيَةِ الْأُخْرَى , فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ , وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ . وَمَا خُوطِبَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ لِأُمَّتِهِ حَتَّى يَثْبُت اِخْتِصَاصه , وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجه فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّن أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكَانِ أَحَدهمَا لِحُرْمَةِ الدِّين , وَالثَّانِي لِحُرْمَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلِكُلِّ هَتْك حُرْمَة عِقَاب , وَيَنْزِل ذَلِكَ مَنْزِلَة مَنْ عَصَى فِي الشَّهْر الْحَرَام أَوْ فِي الْبَلَد الْحَرَام أَوْ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام , يُضَاعَف عَلَيْهِ الْعَذَاب بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنْ الْحُرُمَات . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَهِيَ اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي مِيرَاث الْمُرْتَدّ , فَقَالَ عَلَى بْن أَبِي طَالِب وَالْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَالْحَكَم وَاللَّيْث وَأَبُو حَنِيفَة وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ : مِيرَاث الْمُرْتَدّ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ مَالِك وَرَبِيعَة وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر : مِيرَاثه فِي بَيْت الْمَال . وَقَالَ اِبْن شُبْرُمَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَالْأَوْزَاعِيّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : مَا اِكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدّ بَعْد الرِّدَّة فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : مَا اِكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدّ فِي حَال الرِّدَّة فَهُوَ فَيْء , وَمَا كَانَ مُكْتَسَبًا فِي حَالَة الْإِسْلَام ثُمَّ اِرْتَدَّ يَرِثهُ وَرَثَته الْمُسْلِمُونَ , وَأَمَّا اِبْن شُبْرُمَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد فَلَا يَفْصِلُونَ بَيْن الْأَمْرَيْنِ , وَمُطْلَق قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا وِرَاثَة بَيْن أَهْل مِلَّتَيْنِ ) يَدُلّ عَلَى بُطْلَان قَوْلهمْ . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ وَرَثَته مِنْ الْكُفَّار لَا يَرِثُونَهُ , سِوَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز فَإِنَّهُ قَالَ : يَرِثُونَهُ .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ↓
" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا " الْآيَة . قَالَ جُنْدُب بْن عَبْد اللَّه وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَغَيْرهمَا : لَمَّا قَتَلَ وَاقِدُ بْنُ عَبْد اللَّه التَّمِيمِيّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيّ فِي الشَّهْر الْحَرَام تَوَقَّفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَخْذ خُمُسه الَّذِي وُفِّقَ فِي فَرْضه لَهُ عَبْد اللَّه بْن جَحْش وَفِي الْأَسِيرَيْنِ , فَعَنَّفَ الْمُسْلِمُونَ عَبْد اللَّه بْن جَحْش وَأَصْحَابه حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ , فَتَلَافَاهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة فِي الشَّهْر الْحَرَام وَفَرَّجَ عَنْهُمْ , وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ ثَوَابَ مَنْ هَاجَرَ وَغَزَا , فَالْإِشَارَة إِلَيْهِمْ فِي قَوْله : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا " ثُمَّ هِيَ بَاقِيَة فِي كُلّ مَنْ فَعَلَ مَا ذَكَرَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَقِيلَ : إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصَابُوا وِزْرًا فَلَيْسَ لَهُمْ أَجْر , فَأَنْزَلَ اللَّه : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا " إِلَى آخِر الْآيَة . وَالْهِجْرَة مَعْنَاهَا الِانْتِقَال مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع , وَقَصْد تَرْك الْأَوَّل إِيثَارًا لِلثَّانِي . وَالْهَجْر ضِدّ الْوَصْل . وَقَدْ هَجَرَهُ هَجْرًا وَهِجْرَانًا , وَالِاسْم الْهِجْرَة . وَالْمُهَاجَرَة مِنْ أَرْض إِلَى أَرْض تَرْك الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ . وَالتَّهَاجُر التَّقَاطُع . وَمَنْ قَالَ : الْمُهَاجَرَة الِانْتِقَال مِنْ الْبَادِيَة إِلَى الْحَاضِرَة فَقَدْ أَوْهَمَ , بِسَبَبِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ الْأَغْلَب فِي الْعَرَب , وَلَيْسَ أَهْل مَكَّة مُهَاجِرِينَ عَلَى قَوْله . " وَجَاهَدَ " مُفَاعَلَة مِنْ جَهَدَ إِذَا اِسْتَخْرَجَ الْجَهْد , مُجَاهَدَة وَجِهَادًا . وَالِاجْتِهَاد وَالتَّجَاهُد : بَذْل الْوُسْع وَالْمَجْهُود . وَالْجَهَاد ( بِالْفَتْحِ ) : الْأَرْض الصُّلْبَة . " وَيَرْجُونَ " مَعْنَاهُ يَطْمَعُونَ وَيَسْتَقْرِبُونَ . وَإِنَّمَا قَالَ " يَرْجُونَ " وَقَدْ مَدَحَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَم أَحَد فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَنَّهُ صَائِر إِلَى الْجَنَّة وَلَوْ بَلَغَ فِي طَاعَة اللَّه كُلّ مَبْلَغ , لِأَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا - لَا يَدْرِي بِمَا يُخْتَم لَهُ . وَالثَّانِي - لِئَلَّا يَتَّكِل عَلَى عَمَله , وَالرَّجَاء يَنْعَمّ , وَالرَّجَاء أَبَدًا مَعَهُ خَوْف وَلَا بُدّ , كَمَا أَنَّ الْخَوْف مَعَهُ رَجَاء . وَالرَّجَاء مِنْ الْأَمَل مَمْدُود , يُقَال : رَجَوْت فُلَانًا رَجْوًا وَرَجَاء وَرَجَاوَة , يُقَال : مَا أَتَيْتُك إِلَّا رَجَاوَة الْخَيْر . وَتَرَجَّيْته وَارْتَجَيْته وَرَجَيْته وَكُلّه بِمَعْنَى رَجَوْته , قَالَ بِشْرٌ يُخَاطِب بِنْته : فَرَجِّي الْخَيْر وَانْتَظِرِي إِيَابِي إِذَا مَا الْقَارِظ الْعَنَزِيّ آبَا وَمَا لِي فِي فُلَان رَجِيَّة , أَيْ مَا أَرْجُو . وَقَدْ يَكُون الرَّجْو وَالرَّجَاء بِمَعْنَى الْخَوْف , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا " [ نُوح : 13 ] أَيْ لَا تَخَافُونَ عَظَمَة اللَّه , قَالَ أَبُو ذُؤَيْب : إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْل لَمْ يَرْجُ لَسْعهَا وَخَالَفَهَا فِي بَيْت نُوبٍ عَوَامِل أَيْ لَمْ يَخَفْ وَلَمْ يُبَالِ . وَالرَّجَا - مَقْصُور - : نَاحِيَة الْبِئْر وَحَافَّتَاهَا , وَكُلّ نَاحِيَة رَجَا . وَالْعَوَامّ مِنْ النَّاس يُخْطِئُونَ فِي قَوْلهمْ : يَا عَظِيم الرَّجَا , فَيَقْصُرُونَ وَلَا يَمُدُّونَ .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ↓
فِيهِ تِسْع مَسَائِل الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " يَسْأَلُونَك " السَّائِلُونَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْخَمْر مَأْخُوذَة مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ , وَمِنْهُ خِمَار الْمَرْأَة . وَكُلّ شَيْء غَطَّى شَيْئًا فَقَدْ خَمَرَهُ , وَمِنْهُ " خَمِّرُوا آنِيَتكُمْ " فَالْخَمْر تَخْمُر الْعَقْل , أَيْ تُغَطِّيه وَتَسْتُرهُ , وَمِنْ ذَلِكَ الشَّجَر الْمُلْتَفّ يُقَال لَهُ : الْخَمَر ( بِفَتْحِ الْمِيم لِأَنَّهُ يُغَطِّي مَا تَحْته وَيَسْتُرهُ , يُقَال مِنْهُ : أَخَمَرَتْ الْأَرْض كَثُرَ خَمَرهَا , قَالَ الشَّاعِر : أَلَا يَا زَيْد وَالضَّحَّاك سِيرَا فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَر الطَّرِيق أَيْ سِيرَا مُدِلِّينَ فَقَدْ جَاوَزْتُمَا الْوَهْدَة الَّتِي يَسْتَتِر بِهَا الذِّئْب وَغَيْره . وَقَالَ الْعَجَّاج يَصِف جَيْشًا يَمْشِي بِرَايَاتٍ وَجُيُوش غَيْر مُسْتَخْفٍ : فِي لَامِع الْعِقْبَان لَا يَمْشِي الْخَمَر يُوَجِّه الْأَرْض وَيَسْتَاق الشَّجَر وَمِنْهُ قَوْلهمْ : دَخَلَ فِي غِمَار النَّاس وَخِمَارهمْ , أَيْ هُوَ فِي مَكَان خَافٍ . فَلَمَّا كَانَتْ الْخَمْر تَسْتُر الْعَقْل وَتُغَطِّيه سُمِّيَتْ بِذَلِكَ وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ الْخَمْر خَمْرًا لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أَدْرَكَتْ , كَمَا يُقَال : قَدْ اِخْتَمَرَ الْعَجِين , أَيْ بَلَغَ إِدْرَاكه . وَخُمِرَ الرَّأْي , أَيْ تُرِكَ حَتَّى يَتَبَيَّن فِيهِ الْوَجْه . وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ الْخَمْر خَمْرًا لِأَنَّهَا تُخَالِط الْعَقْل , مِنْ الْمُخَامَرَة وَهِيَ الْمُخَالَطَة , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : دَخَلْت فِي خِمَار النَّاس , أَيْ اِخْتَلَطْت بِهِمْ . فَالْمَعَانِي الثَّلَاثَة مُتَقَارِبَة , فَالْخَمْر تُرِكَتْ وَخُمِرَتْ حَتَّى أَدْرَكَتْ , ثُمَّ خَالَطَتْ الْعَقْل , ثُمَّ خَمَرْته , وَالْأَصْل السَّتْر . وَالْخَمْر : مَاء الْعِنَب الَّذِي غَلَى أَوْ طُبِخَ , وَمَا خَامَرَ الْعَقْل مِنْ غَيْره فَهُوَ فِي حُكْمه ; لِأَنَّ إِجْمَاع الْعُلَمَاء أَنَّ الْقِمَار كُلّه حَرَام . وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْمَيْسِر مِنْ بَيْنه فَجُعِلَ كُلّه قِيَاسًا عَلَى الْمَيْسِر , وَالْمَيْسِر إِنَّمَا كَانَ قِمَارًا فِي الْجُزُر خَاصَّة , فَكَذَلِكَ كُلّ مَا كَانَ كَالْخَمْرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهَا .
الثَّانِيَة : وَالْجُمْهُور مِنْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيره مِنْ غَيْر خَمْر الْعِنَب فَمُحَرَّم قَلِيله وَكَثِيره , وَالْحَدّ فِي ذَلِكَ وَاجِب . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَابْن شُبْرُمَة وَجَمَاعَة مِنْ فُقَهَاء الْكُوفَة : مَا أَسْكَرَ كَثِيره مِنْ غَيْر خَمْر الْعِنَب فَهُوَ حَلَال , وَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ أَحَد دُون أَنْ يَتَعَمَّد الْوُصُول إِلَى حَدّ السُّكْر فَلَا حَدّ عَلَيْهِ , وَهَذَا ضَعِيف يَرُدّهُ النَّظَر وَالْخَبَر , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة وَالنَّحْل " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّالِثَة : قَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَدَع شَيْئًا مِنْ الْكَرَامَة وَالْبِرّ إِلَّا أَعْطَاهُ هَذِهِ الْأُمَّة , وَمِنْ كَرَامَته وَإِحْسَانه أَنَّهُ لَمْ يُوجِب عَلَيْهِمْ الشَّرَائِع دُفْعَة وَاحِدَة , وَلَكِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مَرَّة بَعْد مَرَّة , فَكَذَلِكَ تَحْرِيم الْخَمْر . وَهَذِهِ الْآيَة أَوَّل مَا نَزَلَ فِي أَمْر الْخَمْر , ثُمَّ بَعْده : " لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " [ النِّسَاء : 43 ] ثُمَّ قَوْله : " إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِع بَيْنكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : 91 ] ثُمَّ قَوْله : " إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس مِنْ عَمَل الشَّيْطَان فَاجْتَنِبُوهُ " [ الْمَائِدَة : 90 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " .
الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " وَالْمَيْسِر " الْمَيْسِر : قِمَار الْعَرَب بِالْأَزْلَامِ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : ( كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة يُخَاطِر الرَّجُل عَلَى أَهْله وَمَاله فَأَيّهمَا قَمَرَ صَاحِبه ذَهَبَ بِمَالِهِ وَأَهْله ) فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقَالَ مُجَاهِد وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَالْحَسَن وَابْن الْمُسَيِّب وَعَطَاء وَقَتَادَة وَمُعَاوِيَة بْن صَالِح وَطَاوُس وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَابْن عَبَّاس أَيْضًا : ( كُلّ شَيْء فِيهِ قِمَار مِنْ نَرْد وَشِطْرَنْج فَهُوَ الْمَيْسِر , حَتَّى لَعِب الصِّبْيَان بِالْجَوْزِ وَالْكِعَاب , إِلَّا مَا أُبِيحَ مِنْ الرِّهَان فِي الْخَيْل وَالْقُرْعَة فِي إِفْرَاز الْحُقُوق ) , عَلَى مَا يَأْتِي . وَقَالَ مَالِك : الْمَيْسِر مَيْسِرَانِ : مَيْسِر اللَّهْو , وَمَيْسِر الْقِمَار , فَمِنْ مَيْسِر اللَّهْو النَّرْد وَالشِّطْرَنْج وَالْمَلَاهِي كُلّهَا . وَمَيْسِر الْقِمَار : مَا يَتَخَاطَر النَّاس عَلَيْهِ . قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : الشِّطْرَنْج مَيْسِر الْعَجَم . وَكُلّ مَا قُومِرَ بِهِ فَهُوَ مَيْسِر عِنْد مَالِك وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء . وَسَيَأْتِي فِي " يُونُس " زِيَادَة بَيَان لِهَذَا الْبَاب إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَالْمَيْسِر مَأْخُوذ مِنْ الْيَسَر , وَهُوَ وُجُوب الشَّيْء لِصَاحِبِهِ , يُقَال : يَسَرَ لِي كَذَا إِذَا وَجَبَ فَهُوَ يَيْسِر يَسَرًا وَمَيْسِرًا . وَالْيَاسِر : اللَّاعِب بِالْقِدَاحِ , وَقَدْ يَسَرَ يَيْسِر , قَالَ الشَّاعِر : فَأَعِنْهُمْ وَايسِرْ بِمَا يَسَرُوا بِهِ وَإِذَا هُمْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : الْمَيْسِر : الْجَزُور الَّذِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهِ , سُمِّيَ مَيْسِرًا لِأَنَّهُ يُجَزَّأ أَجْزَاء , فَكَأَنَّهُ مَوْضِع التَّجْزِئَة , وَكُلّ شَيْء جَزَّأْته فَقَدْ يَسَرْته . وَالْيَاسِر : الْجَازِر ; لِأَنَّهُ يُجَزِّئ لَحْم الْجَزُور . قَالَ : وَهَذَا الْأَصْل فِي الْيَاسِر , ثُمَّ يُقَال لِلضَّارِبِينَ بِالْقِدَاحِ وَالْمُتَقَامِرِين عَلَى الْجَزُور : يَاسِرُونَ , لِأَنَّهُمْ جَازِرُونَ إِذْ كَانُوا سَبَبًا لِذَلِكَ . وَفِي الصِّحَاح : وَيَسَرَ الْقَوْم الْجَزُور أَيْ اِجْتَزَرُوهَا وَاقْتَسَمُوا أَعْضَاءَهَا . قَالَ سُحَيْم بْن وَثِيل الْيَرْبُوعِيّ : أَقُول لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسِرُونَنِي أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي اِبْن فَارِس زَهْدَم كَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ سِبَاء فَضُرِبَ عَلَيْهِ بِالسِّهَامِ . وَيُقَال : يَسَرَ الْقَوْم إِذَا قَامَرُوا . وَرَجُل يَسَر وَيَاسِر بِمَعْنًى . وَالْجَمْع أَيْسَار , قَالَ النَّابِغَة : أَنِّي أُتَمِّم أَيْسَارِي وَأَمْنَحهُمْ مَثْنَى الْأَيَادِي وَأَكْسُو الْجَفْنَة الْأَدَمَا وَقَالَ طَرَفَة : وَهُمْ أَيْسَار لُقْمَان إِذَا أَغْلَتْ الشَّتْوَة أَبْدَاء الْجُزُر وَكَانَ مَنْ تَطَوَّعَ بِنَحْرِهَا مَمْدُوحًا عِنْدهمْ , قَالَ الشَّاعِر : وَنَاجِيَة نَحَرْت لِقَوْمِ صِدْق وَمَا نَادَيْت أَيْسَار الْجَزَاء
الْخَامِسَة : رَوَى مَالِك فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ دَاوُد بْن حُصَيْن أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقُول : كَانَ مِنْ مَيْسِر أَهْل الْجَاهِلِيَّة بَيْع اللَّحْم بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ , وَهَذَا مَحْمُول عِنْد مَالِك وَجُمْهُور أَصْحَابه فِي الْجِنْس الْوَاحِد , حَيَوَانه بِلَحْمِهِ , وَهُوَ عِنْده مِنْ بَاب الْمُزَابَنَة وَالْغَرَر وَالْقِمَار ; لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى هَلْ فِي الْحَيَوَان مِثْل اللَّحْم الَّذِي أَعْطَى أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر , وَبَيْع اللَّحْم بِاللَّحْمِ لَا يَجُوز مُتَفَاضِلًا , فَكَانَ بَيْع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ كَبَيْعِ اللَّحْم الْمَغِيب فِي جِلْده إِذَا كَانَا مِنْ جِنْس وَاحِد , وَالْجِنْس الْوَاحِد عِنْده الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم وَالظِّبَاء وَالْوُعُول وَسَائِر الْوُحُوش , وَذَوَات الْأَرْبَع الْمَأْكُولَات كُلّهَا عِنْده جِنْس وَاحِد , لَا يَجُوز بَيْع شَيْء مِنْ حَيَوَان هَذَا الصِّنْف وَالْجِنْس كُلّه بِشَيْءٍ وَاحِد مِنْ لَحْمه بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه ; لِأَنَّهُ عِنْده مِنْ بَاب الْمُزَابَنَة , كَبَيْعِ الزَّبِيب بِالْعِنَبِ وَالزَّيْتُون بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَج بِالسِّمْسِمِ , وَنَحْو ذَلِكَ . وَالطَّيْر عِنْده كُلّه جِنْس وَاحِد , وَكَذَلِكَ الْحِيتَان مِنْ سَمَك وَغَيْره . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْجَرَاد وَحْده صِنْف . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بْن سَعْد : لَا يَجُوز بَيْع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ عَلَى حَال مِنْ الْأَحْوَال مِنْ جِنْس وَاحِد كَانَ أَمْ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ , عَلَى عُمُوم الْحَدِيث . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس ( أَنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ عَلَى عَهْد أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فَقُسِمَتْ عَلَى عَشَرَة أَجْزَاء , فَقَالَ رَجُل : أَعْطُونِي جُزْءًا مِنْهَا بِشَاةٍ , فَقَالَ أَبُو بَكْر : لَا يَصْلُح هَذَا ) . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَلَسْت أَعْلَم لِأَبِي بَكْر فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَة . قَالَ أَبُو عُمَر : قَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس ( أَنَّهُ أَجَازَ بَيْع الشَّاة بِاللَّحْمِ , وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ) . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُبَاع حَيّ بِمَيِّتٍ , يَعْنِي الشَّاة الْمَذْبُوحَة بِالْقَائِمَةِ . قَالَ سُفْيَان : وَنَحْنُ لَا نَرَى بِهِ بَأْسًا . قَالَ الْمُزَنِيّ : إِنْ لَمْ يَصِحّ الْحَدِيث فِي بَيْع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ فَالْقِيَاس أَنَّهُ جَائِز , وَإِنْ صَحَّ بَطَلَ الْقِيَاس وَاتُّبِعَ الْأَثَر . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلِلْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّهُ جَائِز بَيْع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ حُجَج كَثِيرَة مِنْ جِهَة الْقِيَاس وَالِاعْتِبَار , إِلَّا أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْأَثَر بَطَلَ الْقِيَاس وَالنَّظَر . وَرَوَى مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا أَعْلَمهُ يَتَّصِل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْه ثَابِت , وَأَحْسَن أَسَانِيده مُرْسَل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيّ , وَأَصْله أَنَّهُ لَا يَقْبَل الْمَرَاسِيل إِلَّا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ اِفْتَقَدَ مَرَاسِيل سَعِيد فَوَجَدَهَا أَوْ أَكْثَرهَا صِحَاحًا . فَكَرِهَ بَيْع أَنْوَاع الْحَيَوَان بِأَنْوَاعِ اللُّحُوم عَلَى ظَاهِر الْحَدِيث وَعُمُومه ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَثَر يَخُصّهُ وَلَا إِجْمَاع . وَلَا يَجُوز عِنْده أَنْ يُخَصّ النَّصّ بِالْقِيَاسِ . وَالْحَيَوَان عِنْده اِسْم لِكُلِّ مَا يَعِيش فِي الْبَرّ وَالْمَاء وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ أَجْنَاسه , كَالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ اِسْم لِكُلِّ مَأْكُول أَوْ مَشْرُوب , فَاعْلَمْ .
السَّادِسَة : قَوْله تَعَالَى : " قُلْ فِيهِمَا " يَعْنِي الْخَمْر وَالْمَيْسِر " إِثْم كَبِير " إِثْم الْخَمْر مَا يَصْدُر عَنْ الشَّارِب مِنْ الْمُخَاصَمَة وَالْمُشَاتَمَة وَقَوْل الْفُحْش وَالزُّور , وَزَوَال الْعَقْل الَّذِي يَعْرِف بِهِ مَا يَجِب لِخَالِقِهِ , وَتَعْطِيل الصَّلَوَات وَالتَّعَوُّق عَنْ ذِكْر اللَّه , إِلَى غَيْر ذَلِكَ . رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : اِجْتَنِبُوا الْخَمْر فَإِنَّهَا أُمّ الْخَبَائِث , إِنَّهُ كَانَ رَجُل مِمَّنْ كَانَ قَبْلكُمْ تَعَبَّدَ فَعَلِقَتْهُ اِمْرَأَة غَوِيَّة , فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتهَا فَقَالَتْ لَهُ : إِنَّا نَدْعُوك لِلشَّهَادَةِ , فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتهَا فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونه , حَتَّى أَفْضَى إِلَى اِمْرَأَة وَضِيئَة عِنْدهَا غُلَام وَبَاطِيَة خَمْر , فَقَالَتْ : إِنِّي وَاَللَّه مَا دَعَوْتُك لِلشَّهَادَةِ , وَلَكِنْ دَعَوْتُك لِتَقَع عَلَيَّ , أَوْ تَشْرَب مِنْ هَذِهِ الْخَمْر كَأْسًا , أَوْ تَقْتُل هَذَا الْغُلَام . قَالَ : فَاسْقِينِي مِنْ هَذِهِ الْخَمْر كَأْسًا , فَسَقَتْهُ كَأْسًا . قَالَ : زِيدُونِي , فَلَمْ يَرِم حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا , وَقَتَلَ النَّفْس , فَاجْتَنِبُوا الْخَمْر , فَإِنَّهَا وَاَللَّه لَا يَجْتَمِع الْإِيمَان وَإِدْمَان الْخَمْر , إِلَّا لَيُوشِك أَنْ يُخْرِج أَحَدهمَا صَاحِبه , وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي الِاسْتِيعَاب . وَرُوِيَ أَنَّ الْأَعْشَى لَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَة لِيُسْلِم فَلَقِيَهُ بَعْض الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيق فَقَالُوا لَهُ : أَيْنَ تَذْهَب ؟ فَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ يُرِيد مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا : لَا تَصِل إِلَيْهِ , فَإِنَّهُ يَأْمُرك بِالصَّلَاةِ , فَقَالَ : إِنَّ خِدْمَة الرَّبّ وَاجِبَة . فَقَالُوا : إِنَّهُ يَأْمُرك بِإِعْطَاءِ الْمَال إِلَى الْفُقَرَاء . فَقَالَ : اِصْطِنَاع الْمَعْرُوف وَاجِب . فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ يَنْهَى عَنْ الزِّنَى . فَقَالَ : هُوَ فُحْش وَقَبِيح فِي الْعَقْل , وَقَدْ صِرْت شَيْخًا فَلَا أَحْتَاج إِلَيْهِ . فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ يَنْهَى عَنْ شُرْب الْخَمْر . فَقَالَ : أَمَّا هَذَا فَإِنِّي لَا أَصْبِر عَلَيْهِ ! فَرَجَعَ , وَقَالَ : أَشْرَب الْخَمْر سَنَة ثُمَّ أَرْجِع إِلَيْهِ , فَلَمْ يَصِل إِلَى مَنْزِله حَتَّى سَقَطَ عَنْ الْبَعِير فَانْكَسَرَتْ عُنُقه فَمَاتَ . وَكَانَ قَيْس بْن عَاصِم الْمِنْقَرِيّ شَرَّابًا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّة ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسه , وَكَانَ سَبَب ذَلِكَ أَنَّهُ غَمَزَ عُكْنَة اِبْنَته وَهُوَ سَكْرَان , وَسَبَّ أَبَوَيْهِ , وَرَأَى الْقَمَر فَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ , وَأَعْطَى الْخَمَّار كَثِيرًا مِنْ مَاله , فَلَمَّا أَفَاقَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسه , وَفِيهَا يَقُول : رَأَيْت الْخَمْر صَالِحَة وَفِيهَا خِصَال تُفْسِد الرَّجُل الْحَلِيمَا فَلَا وَاَللَّه أَشْرَبهَا صَحِيحًا وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي وَلَا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمَا فَإِنَّ الْخَمْر تَفْضَح شَارِبِيهَا وَتُجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْر الْعَظِيمَا قَالَ أَبُو عُمَر : وَرَوَى اِبْن الْأَعْرَابِيّ عَنْ الْمُفَضَّل الضَّبِّيّ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَات لِأَبِي مِحْجَن الثَّقَفِيّ قَالَهَا فِي تَرْكه الْخَمْر , وَهُوَ الْقَائِل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِذَا مِتّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْب كَرْمَةٍ تَرْوِي عِظَامِي بَعْد مَوْتِي عُرُوقهَا وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي أَخَاف إِذَا مَا مِتّ أَنْ لَا أَذُوقهَا وَجَلَدَهُ عُمَر الْحَدّ عَلَيْهَا مِرَارًا , وَنَفَاهُ إِلَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر , فَلَحِقَ بِسَعْدٍ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر أَنْ يَحْبِسهُ , فَحَبَسَهُ , وَكَانَ أَحَد الشُّجْعَان الْبُهَم , فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْره فِي حَرْب الْقَادِسِيَّة مَا هُوَ مَعْرُوف حَلَّ قُيُوده وَقَالَ : لَا نَجْلِدك عَلَى الْخَمْر أَبَدًا . قَالَ أَبُو مِحْجَن : وَأَنَا وَاَللَّه لَا أَشْرَبهَا أَبَدًا , فَلَمْ يَشْرَبهَا بَعْد ذَلِكَ . وَفِي رِوَايَة : قَدْ كُنْت أَشْرَبهَا إِذْ يُقَام عَلَيَّ الْحَدّ وَأَطْهُر مِنْهَا , وَأَمَّا إِذْ بَهْرَجَتنِي فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبهَا أَبَدًا . وَذَكَرَ الْهَيْثَم بْن عَدِيّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ رَأَى قَبْر أَبِي مِحْجَن بِأَذْرَبِيجَان , أَوْ قَالَ : فِي نَوَاحِي جُرْجَان , وَقَدْ نَبَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاث أُصُول كَرْم وَقَدْ طَالَتْ وَأَثْمَرَتْ , وَهِيَ مَعْرُوشَة عَلَى قَبْره , وَمَكْتُوب عَلَى الْقَبْر " هَذَا قَبْر أَبِي مِحْجَن " قَالَ : فَجَعَلْت أَتَعَجَّب وَأَذْكُر قَوْله : إِذَا مِتّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْب كَرْمَة ثُمَّ إِنَّ الشَّارِب يَصِير ضُحْكَة لِلْعُقَلَاءِ , فَيَلْعَب بِبَوْلِهِ وَعَذِرَته , وَرُبَّمَا يَمْسَح وَجْهه , حَتَّى رُئِيَ بَعْضهمْ يَمْسَح وَجْهه بِبَوْلِهِ وَيَقُول : اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ وَرُئِيَ بَعْضهمْ وَالْكَلْب يَلْحَس وَجْهه وَهُوَ يَقُول لَهُ : أَكْرَمَك اللَّه . وَأَمَّا الْقِمَار فَيُورِث الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء ; لِأَنَّهُ أَكْل مَال الْغَيْر بِالْبَاطِلِ .
السَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " وَمَنَافِع لِلنَّاسِ " أَمَّا فِي الْخَمْر فَرِبْح التِّجَارَة , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنْ الشَّام بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَاز بِرِبْحٍ , وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ الْمُمَاسَكَة فِيهَا , فَيَشْتَرِي طَالِب الْخَمْر الْخَمْر بِالثَّمَنِ الْغَالِي . هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِي مَنْفَعَتهَا , وَقَدْ قِيلَ فِي مَنَافِعهَا : إِنَّهَا تَهْضِم الطَّعَام , وَتُقَوِّي الضَّعْف , وَتُعِين عَلَى الْبَاه , وَتُسَخِيّ الْبَخِيل , وَتُشَجِّع الْجَبَان , وَتَصُفِّي اللَّوْن , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ اللَّذَّة بِهَا . وَقَدْ قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَنَشْرَبهَا فَتَتْرُكنَا مُلُوكًا وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهنَا اللِّقَاء إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَفْرَاحهَا . وَقَالَ آخَر : فَإِذَا شَرِبْت فَإِنَّنِي رَبّ الْخَوَرْنَق وَالسَّدِير وَإِذَا صَحَوْت فَإِنَّنِي رَبّ الشُّوَيْهَة وَالْبَعِير وَمَنْفَعَة الْمَيْسِر مَصِير الشَّيْء إِلَى الْإِنْسَان فِي الْقِمَار بِغَيْرِ كَدّ وَلَا تَعَب , فَكَانُوا يَشْتَرُونَ الْجَزُور وَيَضْرِبُونَ بِسِهَامِهِمْ , فَمَنْ خَرَجَ سَهْمه أُخِذَ نَصِيبه مِنْ اللَّحْم وَلَا يَكُون عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَن شَيْء , وَمَنْ بَقِيَ سَهْمه آخِرًا كَانَ عَلَيْهِ ثَمَن الْجَزُور كُلّه وَلَا يَكُون لَهُ مِنْ اللَّحْم شَيْء . وَقِيلَ : مَنْفَعَته التَّوْسِعَة عَلَى الْمَحَاوِيج , فَإِنَّ مَنْ قَمَرَ مِنْهُمْ كَانَ لَا يَأْكُل مِنْ الْجَزُور وَكَانَ يُفَرِّقهُ فِي الْمُحْتَاجِينَ . وَسِهَام الْمَيْسِر أَحَد عَشَر سَهْمًا , مِنْهَا سَبْعَة لَهَا حُظُوظ وَفِيهَا فُرُوض عَلَى عَدَد الْحُظُوظ , وَهِيَ : " الْفَذّ " وَفِيهِ عَلَامَة وَاحِدَة لَهُ نَصِيب وَعَلَيْهِ نَصِيب إِنْ خَابَ . الثَّانِي : " التَّوْأَم " وَفِيهِ عَلَامَتَانِ وَلَهُ وَعَلَيْهِ نَصِيبَانِ . الثَّالِث : " الرَّقِيب " وَفِيهِ ثَلَاث عَلَامَات عَلَى مَا ذَكَرْنَا . الرَّابِع : " حِلْس " وَلَهُ أَرْبَع . الْخَامِس : " النَّافِز " وَالنَّافِس أَيْضًا وَلَهُ خَمْس . السَّادِس : " الْمُسْبِل " وَلَهُ سِتّ . السَّابِع : " الْمُعَلَّى " وَلَهُ سَبْع . فَذَلِكَ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ فَرْضًا , وَأَنْصِبَاء الْجَزُور كَذَلِكَ فِي قَوْل الْأَصْمَعِيّ . وَبَقِيَ مِنْ السِّهَام أَرْبَعَة , وَهِيَ الْأَغْفَال لَا فُرُوض لَهَا وَلَا أَنْصِبَاء , وَهِيَ : " الْمُصَدَّر " و " الْمُضَعَّف " و " الْمَنِيح " و " السَّفِيح " . وَقِيلَ : الْبَاقِيَة الْأَغْفَال الثَّلَاثَة : " السَّفِيح " و " الْمَنِيح " و " الْوَغْد " تُزَاد هَذِهِ الثَّلَاثَة لِتَكْثُر السِّهَام عَلَى الَّذِي يُجِيلهَا فَلَا يَجِد إِلَى الْمَيْل مَعَ أَحَد سَبِيلًا . وَيُسَمَّى الْمُجِيل الْمُفِيض وَالضَّارِب وَالضَّرِيب وَالْجَمْع الضُّرَبَاء . وَقِيلَ : يُجْعَل خَلْفه رَقِيب لِئَلَّا يُحَابِي أَحَدًا , ثُمَّ يَجْثُو الضَّرِيب عَلَى رُكْبَتَيْهِ , وَيَلْتَحِف بِثَوْبٍ وَيُخْرِج رَأْسه وَيُدْخِل يَده فِي الرِّبَابَة فَيُخْرِج . وَكَانَتْ عَادَة الْعَرَب أَنْ تَضْرِب الْجَزُور بِهَذِهِ السِّهَام فِي الشَّتْوَة وَضِيق الْوَقْت وَكَلَبِ الْبَرْد عَلَى الْفُقَرَاء , يُشْتَرَى الْجَزُورُ وَيَضْمَن الْأَيْسَار ثَمَنهَا وَيُرْضِي صَاحِبهَا مِنْ حَقّه , وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَذُمُّونَ مَنْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ مِنْهُمْ , وَيُسَمُّونَهُ " الْبَرَم " قَالَ مُتَمِّم بْن نُوَيْرَة : وَلَا بَرَمًا تُهْدِي النِّسَاء لِعُرْسِهِ إِذَا الْقَشْع مِنْ بَرْدِ الشِّتَاء تَقَعْقَعَا ثُمَّ تُنْحَر وَتُقَسَّم عَلَى عَشَرَة أَقْسَام . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَأَخْطَأَ الْأَصْمَعِيّ فِي قِسْمَة الْجَزُور , فَذَكَرَ أَنَّهَا عَلَى قَدْر حُظُوظ السِّهَام ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ قِسْمًا , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , ثُمَّ يُضْرَب عَلَى الْعَشَرَة فَمَنْ فَازَ سَهْمه بِأَنْ يَخْرُج مِنْ الرِّبَابَة مُتَقَدِّمًا أَخَذَ أَنْصِبَاءَهُ وَأَعْطَاهَا الْفُقَرَاء . وَالرِّبَابَة ( بِكَسْرِ الرَّاء ) : شَبِيهَة بِالْكِنَانَةِ تُجْمَع فِيهَا سِهَام الْمَيْسِر , وَرُبَّمَا سَمَّوْا جَمِيع السِّهَام رِبَابَة , قَالَ أَبُو ذُؤَيْب يَصِف الْحِمَار وَأُتُنَهُ : وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَة وَكَأَنَّهُ يَسَر يُفِيض عَلَى الْقِدَاح وَيَصْدَع وَالرِّبَابَة أَيْضًا : الْعَهْد وَالْمِيثَاق , قَالَ الشَّاعِر : وَكُنْت اِمْرَأً أَفَضْت إِلَيْك رِبَابَتِي وَقَبْلك رَبَّتْنِي فَضِعْت رُبُوب وَفِي أَحْيَان رُبَّمَا تَقَامَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ يَغْرَم الثَّمَن مَنْ لَمْ يَفُزْ سَهْمه , كَمَا تَقَدَّمَ . وَيَعِيش بِهَذِهِ السِّيرَة فُقَرَاء الْحَيّ , وَمِنْهُ قَوْل الْأَعْشَى : الْمُطْعِمُو الضَّيْف إِذَا مَا شَتَوْا وَالْجَاعِلُو الْقُوت عَلَى الْيَاسِر وَمِنْهُ قَوْل الْآخَر : بِأَيْدِيهِمْ مَقْرُومَة وَمَغَالِق يَعُود بِأَرْزَاقِ الْعُفَاة مَنِيحهَا و " الْمَنِيح " فِي هَذَا الْبَيْت الْمُسْتَمْنِح ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعِيرُونَ السَّهْم الَّذِي قَدْ اِمَّلَسَ وَكَثُرَ فَوْزه , فَذَلِكَ الْمَنِيح الْمَمْدُوح . وَأَمَّا الْمَنِيح الَّذِي هُوَ أَحَد الْأَغْفَال فَذَلِكَ إِنَّمَا يُوصَف بِالْكَرِّ , وَإِيَّاهُ أَرَادَ الْأَخْطَل بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَة عَطْفَة كَرَّ الْمَنِيح وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالَا وَفِي الصِّحَاح : " وَالْمَنِيح سَهْم مِنْ سِهَام الْمَيْسِر مِمَّا لَا نَصِيب لَهُ إِلَّا أَنْ يَمْنَح صَاحِبه شَيْئًا " . وَمِنْ الْمَيْسِر قَوْل لَبِيد : إِذَا يَسَرُوا لَمْ يُورِث الْيُسْر بَيْنهمْ فَوَاحِش يُنْعَى ذِكْرهَا بِالْمَصَايِفِ فَهَذَا كُلّه نَفْع الْمَيْسِر , إِلَّا أَنَّهُ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِلِ .
الثَّامِنَة : قَوْله تَعَالَى : " وَإِثْمهمَا أَكْبَر مِنْ نَفْعهمَا " أَعْلَمَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ الْإِثْم أَكْبَر مِنْ النَّفْع , وَأَعْوَد بِالضَّرَرِ فِي الْآخِرَة , فَالْإِثْم الْكَبِير بَعْد التَّحْرِيم , وَالْمَنَافِع قَبْل التَّحْرِيم . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " كَثِير " بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة , وَحُجَّتهمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْخَمْر وَلَعَنَ مَعَهَا عَشَرَة : بَائِعهَا وَمُبْتَاعهَا وَالْمُشْتَرَاة لَهُ وَعَاصِرهَا وَالْمَعْصُورَة لَهُ وَسَاقِيهَا وَشَارِبهَا وَحَامِلهَا وَالْمَحْمُولَة لَهُ وَآكِل ثَمَنهَا . وَأَيْضًا فَجَمْع الْمَنَافِع يَحْسُن مَعَهُ جَمْع الْآثَام . و " كَثِير " بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة يُعْطِي ذَلِكَ . وَقَرَأَ بَاقِي الْقُرَّاء وَجُمْهُور النَّاس " كَبِير " بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة , وَحُجَّتهمْ أَنَّ الذَّنْب فِي الْقِمَار وَشُرْب الْخَمْر مِنْ الْكَبَائِر , فَوَصْفه بِالْكَبِيرِ أَلْيَق . وَأَيْضًا فَاتِّفَاقهمْ عَلَى " أَكْبَر " حُجَّة ل " كَبِير " بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ . وَأَجْمَعُوا عَلَى رَفْض " أَكْثَر " بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة , إِلَّا فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فَإِنَّ فِيهِ " قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَثِير " " وَإِثْمهمَا أَكْثَر " بِالثَّاءِ مُثَلَّثَة فِي الْحَرْفَيْنِ .
التَّاسِعَة : قَالَ قَوْم مِنْ أَهْل النَّظَر : حُرِّمَتْ الْخَمْر بِهَذِهِ الْآيَة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ قَالَ : " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ " [ الْأَعْرَاف : 33 ] فَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ فِيهَا إِثْمًا فَهُوَ حَرَام . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : لَيْسَ هَذَا النَّظَر بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّ الْإِثْم الَّذِي فِيهَا هُوَ الْحَرَام , لَا هِيَ بِعَيْنِهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيه هَذَا النَّظَر . قُلْت : وَقَالَ بَعْضهمْ : فِي هَذِهِ الْآيَة مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيم الْخَمْر لِأَنَّهُ سَمَّاهُ إِثْمًا , وَقَدْ حُرِّمَ الْإِثْم فِي آيَة أُخْرَى , وَهُوَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْم " وَقَالَ بَعْضهمْ : الْإِثْم أَرَادَ بِهِ الْخَمْر , بِدَلِيلِ قَوْل الشَّاعِر : شَرِبْت الْإِثْم حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاك الْإِثْم يُذْهِب بِالْعُقُولِ قُلْت : وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ الْخَمْر إِثْمًا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَإِنَّمَا قَالَ : " قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَبِير " وَلَمْ يَقُلْ : قُلْ هُمَا إِثْم كَبِير . وَأَمَّا آيَة " الْأَعْرَاف " وَبَيْت الشِّعْر فَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِمَا هُنَاكَ مُبَيَّنًا , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ قَالَ قَتَادَة : إِنَّمَا فِي هَذِهِ الْآيَة ذَمّ الْخَمْر , فَأَمَّا التَّحْرِيم فَيُعْلَم بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ آيَة " الْمَائِدَة " وَعَلَى هَذَا أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ .
" فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " قُلْ الْعَفْو " قِرَاءَة الْجُمْهُور بِالنَّصْبِ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحْده بِالرَّفْعِ . وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ اِبْن كَثِير . وَبِالرَّفْعِ قِرَاءَة الْحَسَن وَقَتَادَة وَابْن أَبِي إِسْحَاق . قَالَ النَّحَّاس وَغَيْره : إِنْ جَعَلْت " ذَا " بِمَعْنَى الَّذِي كَانَ الِاخْتِيَار الرَّفْع , عَلَى مَعْنَى : الَّذِي يُنْفِقُونَ هُوَ الْعَفْو , وَجَازَ النَّصْب . وَإِنْ جَعَلْت " مَا " و " ذَا " شَيْئًا وَاحِدًا كَانَ الِاخْتِيَار النَّصْب , عَلَى مَعْنَى : قُلْ يُنْفِقُونَ الْعَفْو , وَجَازَ الرَّفْع . وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ : مَاذَا تَعَلَّمْت : أَنَحْوًا أَمْ شِعْرًا ؟ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع , عَلَى أَنَّهُمَا جَيِّدَانِ حَسَنَانِ , إِلَّا أَنَّ التَّفْسِير فِي الْآيَة عَلَى النَّصْب .
الثَّانِيَة : قَالَ الْعُلَمَاء : لَمَّا كَانَ السُّؤَال فِي الْآيَة الْمُتَقَدِّمَة فِي قَوْله تَعَالَى : " وَيَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ " سُؤَالًا عَنْ النَّفَقَة إِلَى مَنْ تُصْرَف , كَمَا بَيَّنَّاهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَاب , وَالْجَوَاب خَرَجَ عَلَى وَفْق السُّؤَال , كَانَ السُّؤَال الثَّانِي فِي هَذِهِ الْآيَة عَنْ قَدْر الْإِنْفَاق , وَهُوَ فِي شَأْن عَمْرو بْن الْجَمُوح - كَمَا تَقَدَّمَ - فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ " قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْر فَلِلْوَالِدَيْنِ " [ الْبَقَرَة : 215 ] قَالَ : كَمْ أُنْفِق ؟ فَنَزَلَ : " قُلْ الْعَفْو " وَالْعَفْو : مَا سَهُلَ وَتَيَسَّرَ وَفَضَلَ , وَلَمْ يَشُقّ عَلَى الْقَلْب إِخْرَاجه , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : خُذِي الْعَفْو مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِين أَغْضَب فَالْمَعْنَى : أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عَنْ حَوَائِجكُمْ , وَلَمْ تُؤْذُوا فِيهِ أَنْفُسكُمْ فَتَكُونُوا عَالَة , هَذَا أَوْلَى مَا قِيلَ فِي تَأْوِيل الْآيَة , وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَة وَعَطَاء وَالسُّدِّيّ وَالْقُرَظِيّ مُحَمَّد بْن كَعْب وَابْن أَبِي لَيْلَى وَغَيْرهمْ , قَالُوا : ( الْعَفْو مَا فَضَلَ عَنْ الْعِيَال ) , وَنَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ مُجَاهِد : صَدَقَة عَنْ ظَهْر غِنًى , وَكَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( خَيْر الصَّدَقَة مَا أُنْفِقَتْ عَنْ غِنًى ) وَفِي حَدِيث آخَر : ( خَيْر الصَّدَقَة مَا كَانَ عَنْ ظَهْر غِنًى ) . وَقَالَ قَيْس بْن سَعْد : هَذِهِ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة . وَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء : بَلْ هِيَ نَفَقَات التَّطَوُّع . وَقِيلَ : هِيَ مَنْسُوخَة . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : كَانَ الرَّجُل بَعْد نُزُول هَذِهِ الْآيَة إِذَا كَانَ لَهُ مَال مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة أَوْ زَرْع أَوْ ضَرْع نَظَر إِلَى مَا يَكْفِيه وَعِيَاله لِنَفَقَةِ سَنَة أَمْسَكَهُ وَتَصَدَّقَ بِسَائِرِهِ , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْمَل بِيَدِهِ أَمْسَكَ مَا يَكْفِيه وَعِيَاله يَوْمًا وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي , حَتَّى نَزَلَتْ آيَة الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة وَكُلّ صَدَقَة أُمِرُوا بِهَا . وَقَالَ قَوْم : هِيَ مُحْكَمَة , وَفِي الْمَال حَقّ سِوَى الزَّكَاة . وَالظَّاهِر يَدُلّ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل .
الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى : " كَذَلِكَ يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ الْآيَات " قَالَ الْمُفَضَّل بْن سَلَمَة : أَيْ فِي أَمْر النَّفَقَة . " لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ " فَتَحْبِسُونَ مِنْ أَمْوَالكُمْ مَا يُصْلِحكُمْ فِي مَعَاش الدُّنْيَا وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِي فِيمَا يَنْفَعكُمْ فِي الْعُقْبَى .
الثَّانِيَة : وَالْجُمْهُور مِنْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيره مِنْ غَيْر خَمْر الْعِنَب فَمُحَرَّم قَلِيله وَكَثِيره , وَالْحَدّ فِي ذَلِكَ وَاجِب . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَابْن شُبْرُمَة وَجَمَاعَة مِنْ فُقَهَاء الْكُوفَة : مَا أَسْكَرَ كَثِيره مِنْ غَيْر خَمْر الْعِنَب فَهُوَ حَلَال , وَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ أَحَد دُون أَنْ يَتَعَمَّد الْوُصُول إِلَى حَدّ السُّكْر فَلَا حَدّ عَلَيْهِ , وَهَذَا ضَعِيف يَرُدّهُ النَّظَر وَالْخَبَر , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة وَالنَّحْل " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّالِثَة : قَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَدَع شَيْئًا مِنْ الْكَرَامَة وَالْبِرّ إِلَّا أَعْطَاهُ هَذِهِ الْأُمَّة , وَمِنْ كَرَامَته وَإِحْسَانه أَنَّهُ لَمْ يُوجِب عَلَيْهِمْ الشَّرَائِع دُفْعَة وَاحِدَة , وَلَكِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مَرَّة بَعْد مَرَّة , فَكَذَلِكَ تَحْرِيم الْخَمْر . وَهَذِهِ الْآيَة أَوَّل مَا نَزَلَ فِي أَمْر الْخَمْر , ثُمَّ بَعْده : " لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " [ النِّسَاء : 43 ] ثُمَّ قَوْله : " إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِع بَيْنكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : 91 ] ثُمَّ قَوْله : " إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس مِنْ عَمَل الشَّيْطَان فَاجْتَنِبُوهُ " [ الْمَائِدَة : 90 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " .
الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " وَالْمَيْسِر " الْمَيْسِر : قِمَار الْعَرَب بِالْأَزْلَامِ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : ( كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة يُخَاطِر الرَّجُل عَلَى أَهْله وَمَاله فَأَيّهمَا قَمَرَ صَاحِبه ذَهَبَ بِمَالِهِ وَأَهْله ) فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقَالَ مُجَاهِد وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَالْحَسَن وَابْن الْمُسَيِّب وَعَطَاء وَقَتَادَة وَمُعَاوِيَة بْن صَالِح وَطَاوُس وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَابْن عَبَّاس أَيْضًا : ( كُلّ شَيْء فِيهِ قِمَار مِنْ نَرْد وَشِطْرَنْج فَهُوَ الْمَيْسِر , حَتَّى لَعِب الصِّبْيَان بِالْجَوْزِ وَالْكِعَاب , إِلَّا مَا أُبِيحَ مِنْ الرِّهَان فِي الْخَيْل وَالْقُرْعَة فِي إِفْرَاز الْحُقُوق ) , عَلَى مَا يَأْتِي . وَقَالَ مَالِك : الْمَيْسِر مَيْسِرَانِ : مَيْسِر اللَّهْو , وَمَيْسِر الْقِمَار , فَمِنْ مَيْسِر اللَّهْو النَّرْد وَالشِّطْرَنْج وَالْمَلَاهِي كُلّهَا . وَمَيْسِر الْقِمَار : مَا يَتَخَاطَر النَّاس عَلَيْهِ . قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : الشِّطْرَنْج مَيْسِر الْعَجَم . وَكُلّ مَا قُومِرَ بِهِ فَهُوَ مَيْسِر عِنْد مَالِك وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء . وَسَيَأْتِي فِي " يُونُس " زِيَادَة بَيَان لِهَذَا الْبَاب إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَالْمَيْسِر مَأْخُوذ مِنْ الْيَسَر , وَهُوَ وُجُوب الشَّيْء لِصَاحِبِهِ , يُقَال : يَسَرَ لِي كَذَا إِذَا وَجَبَ فَهُوَ يَيْسِر يَسَرًا وَمَيْسِرًا . وَالْيَاسِر : اللَّاعِب بِالْقِدَاحِ , وَقَدْ يَسَرَ يَيْسِر , قَالَ الشَّاعِر : فَأَعِنْهُمْ وَايسِرْ بِمَا يَسَرُوا بِهِ وَإِذَا هُمْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : الْمَيْسِر : الْجَزُور الَّذِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهِ , سُمِّيَ مَيْسِرًا لِأَنَّهُ يُجَزَّأ أَجْزَاء , فَكَأَنَّهُ مَوْضِع التَّجْزِئَة , وَكُلّ شَيْء جَزَّأْته فَقَدْ يَسَرْته . وَالْيَاسِر : الْجَازِر ; لِأَنَّهُ يُجَزِّئ لَحْم الْجَزُور . قَالَ : وَهَذَا الْأَصْل فِي الْيَاسِر , ثُمَّ يُقَال لِلضَّارِبِينَ بِالْقِدَاحِ وَالْمُتَقَامِرِين عَلَى الْجَزُور : يَاسِرُونَ , لِأَنَّهُمْ جَازِرُونَ إِذْ كَانُوا سَبَبًا لِذَلِكَ . وَفِي الصِّحَاح : وَيَسَرَ الْقَوْم الْجَزُور أَيْ اِجْتَزَرُوهَا وَاقْتَسَمُوا أَعْضَاءَهَا . قَالَ سُحَيْم بْن وَثِيل الْيَرْبُوعِيّ : أَقُول لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسِرُونَنِي أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي اِبْن فَارِس زَهْدَم كَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ سِبَاء فَضُرِبَ عَلَيْهِ بِالسِّهَامِ . وَيُقَال : يَسَرَ الْقَوْم إِذَا قَامَرُوا . وَرَجُل يَسَر وَيَاسِر بِمَعْنًى . وَالْجَمْع أَيْسَار , قَالَ النَّابِغَة : أَنِّي أُتَمِّم أَيْسَارِي وَأَمْنَحهُمْ مَثْنَى الْأَيَادِي وَأَكْسُو الْجَفْنَة الْأَدَمَا وَقَالَ طَرَفَة : وَهُمْ أَيْسَار لُقْمَان إِذَا أَغْلَتْ الشَّتْوَة أَبْدَاء الْجُزُر وَكَانَ مَنْ تَطَوَّعَ بِنَحْرِهَا مَمْدُوحًا عِنْدهمْ , قَالَ الشَّاعِر : وَنَاجِيَة نَحَرْت لِقَوْمِ صِدْق وَمَا نَادَيْت أَيْسَار الْجَزَاء
الْخَامِسَة : رَوَى مَالِك فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ دَاوُد بْن حُصَيْن أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقُول : كَانَ مِنْ مَيْسِر أَهْل الْجَاهِلِيَّة بَيْع اللَّحْم بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ , وَهَذَا مَحْمُول عِنْد مَالِك وَجُمْهُور أَصْحَابه فِي الْجِنْس الْوَاحِد , حَيَوَانه بِلَحْمِهِ , وَهُوَ عِنْده مِنْ بَاب الْمُزَابَنَة وَالْغَرَر وَالْقِمَار ; لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى هَلْ فِي الْحَيَوَان مِثْل اللَّحْم الَّذِي أَعْطَى أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر , وَبَيْع اللَّحْم بِاللَّحْمِ لَا يَجُوز مُتَفَاضِلًا , فَكَانَ بَيْع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ كَبَيْعِ اللَّحْم الْمَغِيب فِي جِلْده إِذَا كَانَا مِنْ جِنْس وَاحِد , وَالْجِنْس الْوَاحِد عِنْده الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم وَالظِّبَاء وَالْوُعُول وَسَائِر الْوُحُوش , وَذَوَات الْأَرْبَع الْمَأْكُولَات كُلّهَا عِنْده جِنْس وَاحِد , لَا يَجُوز بَيْع شَيْء مِنْ حَيَوَان هَذَا الصِّنْف وَالْجِنْس كُلّه بِشَيْءٍ وَاحِد مِنْ لَحْمه بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه ; لِأَنَّهُ عِنْده مِنْ بَاب الْمُزَابَنَة , كَبَيْعِ الزَّبِيب بِالْعِنَبِ وَالزَّيْتُون بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَج بِالسِّمْسِمِ , وَنَحْو ذَلِكَ . وَالطَّيْر عِنْده كُلّه جِنْس وَاحِد , وَكَذَلِكَ الْحِيتَان مِنْ سَمَك وَغَيْره . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْجَرَاد وَحْده صِنْف . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بْن سَعْد : لَا يَجُوز بَيْع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ عَلَى حَال مِنْ الْأَحْوَال مِنْ جِنْس وَاحِد كَانَ أَمْ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ , عَلَى عُمُوم الْحَدِيث . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس ( أَنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ عَلَى عَهْد أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فَقُسِمَتْ عَلَى عَشَرَة أَجْزَاء , فَقَالَ رَجُل : أَعْطُونِي جُزْءًا مِنْهَا بِشَاةٍ , فَقَالَ أَبُو بَكْر : لَا يَصْلُح هَذَا ) . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَلَسْت أَعْلَم لِأَبِي بَكْر فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَة . قَالَ أَبُو عُمَر : قَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس ( أَنَّهُ أَجَازَ بَيْع الشَّاة بِاللَّحْمِ , وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ) . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُبَاع حَيّ بِمَيِّتٍ , يَعْنِي الشَّاة الْمَذْبُوحَة بِالْقَائِمَةِ . قَالَ سُفْيَان : وَنَحْنُ لَا نَرَى بِهِ بَأْسًا . قَالَ الْمُزَنِيّ : إِنْ لَمْ يَصِحّ الْحَدِيث فِي بَيْع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ فَالْقِيَاس أَنَّهُ جَائِز , وَإِنْ صَحَّ بَطَلَ الْقِيَاس وَاتُّبِعَ الْأَثَر . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلِلْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّهُ جَائِز بَيْع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ حُجَج كَثِيرَة مِنْ جِهَة الْقِيَاس وَالِاعْتِبَار , إِلَّا أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْأَثَر بَطَلَ الْقِيَاس وَالنَّظَر . وَرَوَى مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا أَعْلَمهُ يَتَّصِل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْه ثَابِت , وَأَحْسَن أَسَانِيده مُرْسَل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيّ , وَأَصْله أَنَّهُ لَا يَقْبَل الْمَرَاسِيل إِلَّا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ اِفْتَقَدَ مَرَاسِيل سَعِيد فَوَجَدَهَا أَوْ أَكْثَرهَا صِحَاحًا . فَكَرِهَ بَيْع أَنْوَاع الْحَيَوَان بِأَنْوَاعِ اللُّحُوم عَلَى ظَاهِر الْحَدِيث وَعُمُومه ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَثَر يَخُصّهُ وَلَا إِجْمَاع . وَلَا يَجُوز عِنْده أَنْ يُخَصّ النَّصّ بِالْقِيَاسِ . وَالْحَيَوَان عِنْده اِسْم لِكُلِّ مَا يَعِيش فِي الْبَرّ وَالْمَاء وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ أَجْنَاسه , كَالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ اِسْم لِكُلِّ مَأْكُول أَوْ مَشْرُوب , فَاعْلَمْ .
السَّادِسَة : قَوْله تَعَالَى : " قُلْ فِيهِمَا " يَعْنِي الْخَمْر وَالْمَيْسِر " إِثْم كَبِير " إِثْم الْخَمْر مَا يَصْدُر عَنْ الشَّارِب مِنْ الْمُخَاصَمَة وَالْمُشَاتَمَة وَقَوْل الْفُحْش وَالزُّور , وَزَوَال الْعَقْل الَّذِي يَعْرِف بِهِ مَا يَجِب لِخَالِقِهِ , وَتَعْطِيل الصَّلَوَات وَالتَّعَوُّق عَنْ ذِكْر اللَّه , إِلَى غَيْر ذَلِكَ . رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : اِجْتَنِبُوا الْخَمْر فَإِنَّهَا أُمّ الْخَبَائِث , إِنَّهُ كَانَ رَجُل مِمَّنْ كَانَ قَبْلكُمْ تَعَبَّدَ فَعَلِقَتْهُ اِمْرَأَة غَوِيَّة , فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتهَا فَقَالَتْ لَهُ : إِنَّا نَدْعُوك لِلشَّهَادَةِ , فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتهَا فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونه , حَتَّى أَفْضَى إِلَى اِمْرَأَة وَضِيئَة عِنْدهَا غُلَام وَبَاطِيَة خَمْر , فَقَالَتْ : إِنِّي وَاَللَّه مَا دَعَوْتُك لِلشَّهَادَةِ , وَلَكِنْ دَعَوْتُك لِتَقَع عَلَيَّ , أَوْ تَشْرَب مِنْ هَذِهِ الْخَمْر كَأْسًا , أَوْ تَقْتُل هَذَا الْغُلَام . قَالَ : فَاسْقِينِي مِنْ هَذِهِ الْخَمْر كَأْسًا , فَسَقَتْهُ كَأْسًا . قَالَ : زِيدُونِي , فَلَمْ يَرِم حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا , وَقَتَلَ النَّفْس , فَاجْتَنِبُوا الْخَمْر , فَإِنَّهَا وَاَللَّه لَا يَجْتَمِع الْإِيمَان وَإِدْمَان الْخَمْر , إِلَّا لَيُوشِك أَنْ يُخْرِج أَحَدهمَا صَاحِبه , وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي الِاسْتِيعَاب . وَرُوِيَ أَنَّ الْأَعْشَى لَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَة لِيُسْلِم فَلَقِيَهُ بَعْض الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيق فَقَالُوا لَهُ : أَيْنَ تَذْهَب ؟ فَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ يُرِيد مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا : لَا تَصِل إِلَيْهِ , فَإِنَّهُ يَأْمُرك بِالصَّلَاةِ , فَقَالَ : إِنَّ خِدْمَة الرَّبّ وَاجِبَة . فَقَالُوا : إِنَّهُ يَأْمُرك بِإِعْطَاءِ الْمَال إِلَى الْفُقَرَاء . فَقَالَ : اِصْطِنَاع الْمَعْرُوف وَاجِب . فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ يَنْهَى عَنْ الزِّنَى . فَقَالَ : هُوَ فُحْش وَقَبِيح فِي الْعَقْل , وَقَدْ صِرْت شَيْخًا فَلَا أَحْتَاج إِلَيْهِ . فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ يَنْهَى عَنْ شُرْب الْخَمْر . فَقَالَ : أَمَّا هَذَا فَإِنِّي لَا أَصْبِر عَلَيْهِ ! فَرَجَعَ , وَقَالَ : أَشْرَب الْخَمْر سَنَة ثُمَّ أَرْجِع إِلَيْهِ , فَلَمْ يَصِل إِلَى مَنْزِله حَتَّى سَقَطَ عَنْ الْبَعِير فَانْكَسَرَتْ عُنُقه فَمَاتَ . وَكَانَ قَيْس بْن عَاصِم الْمِنْقَرِيّ شَرَّابًا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّة ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسه , وَكَانَ سَبَب ذَلِكَ أَنَّهُ غَمَزَ عُكْنَة اِبْنَته وَهُوَ سَكْرَان , وَسَبَّ أَبَوَيْهِ , وَرَأَى الْقَمَر فَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ , وَأَعْطَى الْخَمَّار كَثِيرًا مِنْ مَاله , فَلَمَّا أَفَاقَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسه , وَفِيهَا يَقُول : رَأَيْت الْخَمْر صَالِحَة وَفِيهَا خِصَال تُفْسِد الرَّجُل الْحَلِيمَا فَلَا وَاَللَّه أَشْرَبهَا صَحِيحًا وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي وَلَا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمَا فَإِنَّ الْخَمْر تَفْضَح شَارِبِيهَا وَتُجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْر الْعَظِيمَا قَالَ أَبُو عُمَر : وَرَوَى اِبْن الْأَعْرَابِيّ عَنْ الْمُفَضَّل الضَّبِّيّ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَات لِأَبِي مِحْجَن الثَّقَفِيّ قَالَهَا فِي تَرْكه الْخَمْر , وَهُوَ الْقَائِل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِذَا مِتّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْب كَرْمَةٍ تَرْوِي عِظَامِي بَعْد مَوْتِي عُرُوقهَا وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي أَخَاف إِذَا مَا مِتّ أَنْ لَا أَذُوقهَا وَجَلَدَهُ عُمَر الْحَدّ عَلَيْهَا مِرَارًا , وَنَفَاهُ إِلَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر , فَلَحِقَ بِسَعْدٍ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر أَنْ يَحْبِسهُ , فَحَبَسَهُ , وَكَانَ أَحَد الشُّجْعَان الْبُهَم , فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْره فِي حَرْب الْقَادِسِيَّة مَا هُوَ مَعْرُوف حَلَّ قُيُوده وَقَالَ : لَا نَجْلِدك عَلَى الْخَمْر أَبَدًا . قَالَ أَبُو مِحْجَن : وَأَنَا وَاَللَّه لَا أَشْرَبهَا أَبَدًا , فَلَمْ يَشْرَبهَا بَعْد ذَلِكَ . وَفِي رِوَايَة : قَدْ كُنْت أَشْرَبهَا إِذْ يُقَام عَلَيَّ الْحَدّ وَأَطْهُر مِنْهَا , وَأَمَّا إِذْ بَهْرَجَتنِي فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبهَا أَبَدًا . وَذَكَرَ الْهَيْثَم بْن عَدِيّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ رَأَى قَبْر أَبِي مِحْجَن بِأَذْرَبِيجَان , أَوْ قَالَ : فِي نَوَاحِي جُرْجَان , وَقَدْ نَبَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاث أُصُول كَرْم وَقَدْ طَالَتْ وَأَثْمَرَتْ , وَهِيَ مَعْرُوشَة عَلَى قَبْره , وَمَكْتُوب عَلَى الْقَبْر " هَذَا قَبْر أَبِي مِحْجَن " قَالَ : فَجَعَلْت أَتَعَجَّب وَأَذْكُر قَوْله : إِذَا مِتّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْب كَرْمَة ثُمَّ إِنَّ الشَّارِب يَصِير ضُحْكَة لِلْعُقَلَاءِ , فَيَلْعَب بِبَوْلِهِ وَعَذِرَته , وَرُبَّمَا يَمْسَح وَجْهه , حَتَّى رُئِيَ بَعْضهمْ يَمْسَح وَجْهه بِبَوْلِهِ وَيَقُول : اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ وَرُئِيَ بَعْضهمْ وَالْكَلْب يَلْحَس وَجْهه وَهُوَ يَقُول لَهُ : أَكْرَمَك اللَّه . وَأَمَّا الْقِمَار فَيُورِث الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء ; لِأَنَّهُ أَكْل مَال الْغَيْر بِالْبَاطِلِ .
السَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " وَمَنَافِع لِلنَّاسِ " أَمَّا فِي الْخَمْر فَرِبْح التِّجَارَة , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنْ الشَّام بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَاز بِرِبْحٍ , وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ الْمُمَاسَكَة فِيهَا , فَيَشْتَرِي طَالِب الْخَمْر الْخَمْر بِالثَّمَنِ الْغَالِي . هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِي مَنْفَعَتهَا , وَقَدْ قِيلَ فِي مَنَافِعهَا : إِنَّهَا تَهْضِم الطَّعَام , وَتُقَوِّي الضَّعْف , وَتُعِين عَلَى الْبَاه , وَتُسَخِيّ الْبَخِيل , وَتُشَجِّع الْجَبَان , وَتَصُفِّي اللَّوْن , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ اللَّذَّة بِهَا . وَقَدْ قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَنَشْرَبهَا فَتَتْرُكنَا مُلُوكًا وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهنَا اللِّقَاء إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَفْرَاحهَا . وَقَالَ آخَر : فَإِذَا شَرِبْت فَإِنَّنِي رَبّ الْخَوَرْنَق وَالسَّدِير وَإِذَا صَحَوْت فَإِنَّنِي رَبّ الشُّوَيْهَة وَالْبَعِير وَمَنْفَعَة الْمَيْسِر مَصِير الشَّيْء إِلَى الْإِنْسَان فِي الْقِمَار بِغَيْرِ كَدّ وَلَا تَعَب , فَكَانُوا يَشْتَرُونَ الْجَزُور وَيَضْرِبُونَ بِسِهَامِهِمْ , فَمَنْ خَرَجَ سَهْمه أُخِذَ نَصِيبه مِنْ اللَّحْم وَلَا يَكُون عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَن شَيْء , وَمَنْ بَقِيَ سَهْمه آخِرًا كَانَ عَلَيْهِ ثَمَن الْجَزُور كُلّه وَلَا يَكُون لَهُ مِنْ اللَّحْم شَيْء . وَقِيلَ : مَنْفَعَته التَّوْسِعَة عَلَى الْمَحَاوِيج , فَإِنَّ مَنْ قَمَرَ مِنْهُمْ كَانَ لَا يَأْكُل مِنْ الْجَزُور وَكَانَ يُفَرِّقهُ فِي الْمُحْتَاجِينَ . وَسِهَام الْمَيْسِر أَحَد عَشَر سَهْمًا , مِنْهَا سَبْعَة لَهَا حُظُوظ وَفِيهَا فُرُوض عَلَى عَدَد الْحُظُوظ , وَهِيَ : " الْفَذّ " وَفِيهِ عَلَامَة وَاحِدَة لَهُ نَصِيب وَعَلَيْهِ نَصِيب إِنْ خَابَ . الثَّانِي : " التَّوْأَم " وَفِيهِ عَلَامَتَانِ وَلَهُ وَعَلَيْهِ نَصِيبَانِ . الثَّالِث : " الرَّقِيب " وَفِيهِ ثَلَاث عَلَامَات عَلَى مَا ذَكَرْنَا . الرَّابِع : " حِلْس " وَلَهُ أَرْبَع . الْخَامِس : " النَّافِز " وَالنَّافِس أَيْضًا وَلَهُ خَمْس . السَّادِس : " الْمُسْبِل " وَلَهُ سِتّ . السَّابِع : " الْمُعَلَّى " وَلَهُ سَبْع . فَذَلِكَ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ فَرْضًا , وَأَنْصِبَاء الْجَزُور كَذَلِكَ فِي قَوْل الْأَصْمَعِيّ . وَبَقِيَ مِنْ السِّهَام أَرْبَعَة , وَهِيَ الْأَغْفَال لَا فُرُوض لَهَا وَلَا أَنْصِبَاء , وَهِيَ : " الْمُصَدَّر " و " الْمُضَعَّف " و " الْمَنِيح " و " السَّفِيح " . وَقِيلَ : الْبَاقِيَة الْأَغْفَال الثَّلَاثَة : " السَّفِيح " و " الْمَنِيح " و " الْوَغْد " تُزَاد هَذِهِ الثَّلَاثَة لِتَكْثُر السِّهَام عَلَى الَّذِي يُجِيلهَا فَلَا يَجِد إِلَى الْمَيْل مَعَ أَحَد سَبِيلًا . وَيُسَمَّى الْمُجِيل الْمُفِيض وَالضَّارِب وَالضَّرِيب وَالْجَمْع الضُّرَبَاء . وَقِيلَ : يُجْعَل خَلْفه رَقِيب لِئَلَّا يُحَابِي أَحَدًا , ثُمَّ يَجْثُو الضَّرِيب عَلَى رُكْبَتَيْهِ , وَيَلْتَحِف بِثَوْبٍ وَيُخْرِج رَأْسه وَيُدْخِل يَده فِي الرِّبَابَة فَيُخْرِج . وَكَانَتْ عَادَة الْعَرَب أَنْ تَضْرِب الْجَزُور بِهَذِهِ السِّهَام فِي الشَّتْوَة وَضِيق الْوَقْت وَكَلَبِ الْبَرْد عَلَى الْفُقَرَاء , يُشْتَرَى الْجَزُورُ وَيَضْمَن الْأَيْسَار ثَمَنهَا وَيُرْضِي صَاحِبهَا مِنْ حَقّه , وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَذُمُّونَ مَنْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ مِنْهُمْ , وَيُسَمُّونَهُ " الْبَرَم " قَالَ مُتَمِّم بْن نُوَيْرَة : وَلَا بَرَمًا تُهْدِي النِّسَاء لِعُرْسِهِ إِذَا الْقَشْع مِنْ بَرْدِ الشِّتَاء تَقَعْقَعَا ثُمَّ تُنْحَر وَتُقَسَّم عَلَى عَشَرَة أَقْسَام . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَأَخْطَأَ الْأَصْمَعِيّ فِي قِسْمَة الْجَزُور , فَذَكَرَ أَنَّهَا عَلَى قَدْر حُظُوظ السِّهَام ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ قِسْمًا , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , ثُمَّ يُضْرَب عَلَى الْعَشَرَة فَمَنْ فَازَ سَهْمه بِأَنْ يَخْرُج مِنْ الرِّبَابَة مُتَقَدِّمًا أَخَذَ أَنْصِبَاءَهُ وَأَعْطَاهَا الْفُقَرَاء . وَالرِّبَابَة ( بِكَسْرِ الرَّاء ) : شَبِيهَة بِالْكِنَانَةِ تُجْمَع فِيهَا سِهَام الْمَيْسِر , وَرُبَّمَا سَمَّوْا جَمِيع السِّهَام رِبَابَة , قَالَ أَبُو ذُؤَيْب يَصِف الْحِمَار وَأُتُنَهُ : وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَة وَكَأَنَّهُ يَسَر يُفِيض عَلَى الْقِدَاح وَيَصْدَع وَالرِّبَابَة أَيْضًا : الْعَهْد وَالْمِيثَاق , قَالَ الشَّاعِر : وَكُنْت اِمْرَأً أَفَضْت إِلَيْك رِبَابَتِي وَقَبْلك رَبَّتْنِي فَضِعْت رُبُوب وَفِي أَحْيَان رُبَّمَا تَقَامَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ يَغْرَم الثَّمَن مَنْ لَمْ يَفُزْ سَهْمه , كَمَا تَقَدَّمَ . وَيَعِيش بِهَذِهِ السِّيرَة فُقَرَاء الْحَيّ , وَمِنْهُ قَوْل الْأَعْشَى : الْمُطْعِمُو الضَّيْف إِذَا مَا شَتَوْا وَالْجَاعِلُو الْقُوت عَلَى الْيَاسِر وَمِنْهُ قَوْل الْآخَر : بِأَيْدِيهِمْ مَقْرُومَة وَمَغَالِق يَعُود بِأَرْزَاقِ الْعُفَاة مَنِيحهَا و " الْمَنِيح " فِي هَذَا الْبَيْت الْمُسْتَمْنِح ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعِيرُونَ السَّهْم الَّذِي قَدْ اِمَّلَسَ وَكَثُرَ فَوْزه , فَذَلِكَ الْمَنِيح الْمَمْدُوح . وَأَمَّا الْمَنِيح الَّذِي هُوَ أَحَد الْأَغْفَال فَذَلِكَ إِنَّمَا يُوصَف بِالْكَرِّ , وَإِيَّاهُ أَرَادَ الْأَخْطَل بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَة عَطْفَة كَرَّ الْمَنِيح وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالَا وَفِي الصِّحَاح : " وَالْمَنِيح سَهْم مِنْ سِهَام الْمَيْسِر مِمَّا لَا نَصِيب لَهُ إِلَّا أَنْ يَمْنَح صَاحِبه شَيْئًا " . وَمِنْ الْمَيْسِر قَوْل لَبِيد : إِذَا يَسَرُوا لَمْ يُورِث الْيُسْر بَيْنهمْ فَوَاحِش يُنْعَى ذِكْرهَا بِالْمَصَايِفِ فَهَذَا كُلّه نَفْع الْمَيْسِر , إِلَّا أَنَّهُ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِلِ .
الثَّامِنَة : قَوْله تَعَالَى : " وَإِثْمهمَا أَكْبَر مِنْ نَفْعهمَا " أَعْلَمَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ الْإِثْم أَكْبَر مِنْ النَّفْع , وَأَعْوَد بِالضَّرَرِ فِي الْآخِرَة , فَالْإِثْم الْكَبِير بَعْد التَّحْرِيم , وَالْمَنَافِع قَبْل التَّحْرِيم . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " كَثِير " بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة , وَحُجَّتهمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْخَمْر وَلَعَنَ مَعَهَا عَشَرَة : بَائِعهَا وَمُبْتَاعهَا وَالْمُشْتَرَاة لَهُ وَعَاصِرهَا وَالْمَعْصُورَة لَهُ وَسَاقِيهَا وَشَارِبهَا وَحَامِلهَا وَالْمَحْمُولَة لَهُ وَآكِل ثَمَنهَا . وَأَيْضًا فَجَمْع الْمَنَافِع يَحْسُن مَعَهُ جَمْع الْآثَام . و " كَثِير " بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة يُعْطِي ذَلِكَ . وَقَرَأَ بَاقِي الْقُرَّاء وَجُمْهُور النَّاس " كَبِير " بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة , وَحُجَّتهمْ أَنَّ الذَّنْب فِي الْقِمَار وَشُرْب الْخَمْر مِنْ الْكَبَائِر , فَوَصْفه بِالْكَبِيرِ أَلْيَق . وَأَيْضًا فَاتِّفَاقهمْ عَلَى " أَكْبَر " حُجَّة ل " كَبِير " بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ . وَأَجْمَعُوا عَلَى رَفْض " أَكْثَر " بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة , إِلَّا فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فَإِنَّ فِيهِ " قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَثِير " " وَإِثْمهمَا أَكْثَر " بِالثَّاءِ مُثَلَّثَة فِي الْحَرْفَيْنِ .
التَّاسِعَة : قَالَ قَوْم مِنْ أَهْل النَّظَر : حُرِّمَتْ الْخَمْر بِهَذِهِ الْآيَة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ قَالَ : " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ " [ الْأَعْرَاف : 33 ] فَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ فِيهَا إِثْمًا فَهُوَ حَرَام . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : لَيْسَ هَذَا النَّظَر بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّ الْإِثْم الَّذِي فِيهَا هُوَ الْحَرَام , لَا هِيَ بِعَيْنِهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيه هَذَا النَّظَر . قُلْت : وَقَالَ بَعْضهمْ : فِي هَذِهِ الْآيَة مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيم الْخَمْر لِأَنَّهُ سَمَّاهُ إِثْمًا , وَقَدْ حُرِّمَ الْإِثْم فِي آيَة أُخْرَى , وَهُوَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْم " وَقَالَ بَعْضهمْ : الْإِثْم أَرَادَ بِهِ الْخَمْر , بِدَلِيلِ قَوْل الشَّاعِر : شَرِبْت الْإِثْم حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاك الْإِثْم يُذْهِب بِالْعُقُولِ قُلْت : وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ الْخَمْر إِثْمًا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَإِنَّمَا قَالَ : " قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَبِير " وَلَمْ يَقُلْ : قُلْ هُمَا إِثْم كَبِير . وَأَمَّا آيَة " الْأَعْرَاف " وَبَيْت الشِّعْر فَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِمَا هُنَاكَ مُبَيَّنًا , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ قَالَ قَتَادَة : إِنَّمَا فِي هَذِهِ الْآيَة ذَمّ الْخَمْر , فَأَمَّا التَّحْرِيم فَيُعْلَم بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ آيَة " الْمَائِدَة " وَعَلَى هَذَا أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ .
" فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " قُلْ الْعَفْو " قِرَاءَة الْجُمْهُور بِالنَّصْبِ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحْده بِالرَّفْعِ . وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ اِبْن كَثِير . وَبِالرَّفْعِ قِرَاءَة الْحَسَن وَقَتَادَة وَابْن أَبِي إِسْحَاق . قَالَ النَّحَّاس وَغَيْره : إِنْ جَعَلْت " ذَا " بِمَعْنَى الَّذِي كَانَ الِاخْتِيَار الرَّفْع , عَلَى مَعْنَى : الَّذِي يُنْفِقُونَ هُوَ الْعَفْو , وَجَازَ النَّصْب . وَإِنْ جَعَلْت " مَا " و " ذَا " شَيْئًا وَاحِدًا كَانَ الِاخْتِيَار النَّصْب , عَلَى مَعْنَى : قُلْ يُنْفِقُونَ الْعَفْو , وَجَازَ الرَّفْع . وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ : مَاذَا تَعَلَّمْت : أَنَحْوًا أَمْ شِعْرًا ؟ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع , عَلَى أَنَّهُمَا جَيِّدَانِ حَسَنَانِ , إِلَّا أَنَّ التَّفْسِير فِي الْآيَة عَلَى النَّصْب .
الثَّانِيَة : قَالَ الْعُلَمَاء : لَمَّا كَانَ السُّؤَال فِي الْآيَة الْمُتَقَدِّمَة فِي قَوْله تَعَالَى : " وَيَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ " سُؤَالًا عَنْ النَّفَقَة إِلَى مَنْ تُصْرَف , كَمَا بَيَّنَّاهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَاب , وَالْجَوَاب خَرَجَ عَلَى وَفْق السُّؤَال , كَانَ السُّؤَال الثَّانِي فِي هَذِهِ الْآيَة عَنْ قَدْر الْإِنْفَاق , وَهُوَ فِي شَأْن عَمْرو بْن الْجَمُوح - كَمَا تَقَدَّمَ - فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ " قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْر فَلِلْوَالِدَيْنِ " [ الْبَقَرَة : 215 ] قَالَ : كَمْ أُنْفِق ؟ فَنَزَلَ : " قُلْ الْعَفْو " وَالْعَفْو : مَا سَهُلَ وَتَيَسَّرَ وَفَضَلَ , وَلَمْ يَشُقّ عَلَى الْقَلْب إِخْرَاجه , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : خُذِي الْعَفْو مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِين أَغْضَب فَالْمَعْنَى : أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عَنْ حَوَائِجكُمْ , وَلَمْ تُؤْذُوا فِيهِ أَنْفُسكُمْ فَتَكُونُوا عَالَة , هَذَا أَوْلَى مَا قِيلَ فِي تَأْوِيل الْآيَة , وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَة وَعَطَاء وَالسُّدِّيّ وَالْقُرَظِيّ مُحَمَّد بْن كَعْب وَابْن أَبِي لَيْلَى وَغَيْرهمْ , قَالُوا : ( الْعَفْو مَا فَضَلَ عَنْ الْعِيَال ) , وَنَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ مُجَاهِد : صَدَقَة عَنْ ظَهْر غِنًى , وَكَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( خَيْر الصَّدَقَة مَا أُنْفِقَتْ عَنْ غِنًى ) وَفِي حَدِيث آخَر : ( خَيْر الصَّدَقَة مَا كَانَ عَنْ ظَهْر غِنًى ) . وَقَالَ قَيْس بْن سَعْد : هَذِهِ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة . وَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء : بَلْ هِيَ نَفَقَات التَّطَوُّع . وَقِيلَ : هِيَ مَنْسُوخَة . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : كَانَ الرَّجُل بَعْد نُزُول هَذِهِ الْآيَة إِذَا كَانَ لَهُ مَال مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة أَوْ زَرْع أَوْ ضَرْع نَظَر إِلَى مَا يَكْفِيه وَعِيَاله لِنَفَقَةِ سَنَة أَمْسَكَهُ وَتَصَدَّقَ بِسَائِرِهِ , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْمَل بِيَدِهِ أَمْسَكَ مَا يَكْفِيه وَعِيَاله يَوْمًا وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي , حَتَّى نَزَلَتْ آيَة الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة وَكُلّ صَدَقَة أُمِرُوا بِهَا . وَقَالَ قَوْم : هِيَ مُحْكَمَة , وَفِي الْمَال حَقّ سِوَى الزَّكَاة . وَالظَّاهِر يَدُلّ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل .
الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى : " كَذَلِكَ يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ الْآيَات " قَالَ الْمُفَضَّل بْن سَلَمَة : أَيْ فِي أَمْر النَّفَقَة . " لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ " فَتَحْبِسُونَ مِنْ أَمْوَالكُمْ مَا يُصْلِحكُمْ فِي مَعَاش الدُّنْيَا وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِي فِيمَا يَنْفَعكُمْ فِي الْعُقْبَى .
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ↓
قِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ كَذَلِكَ يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ الْآيَات فِي أَمْر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَزَوَالهَا وَفَنَائِهَا فَتَزْهَدُونَ فِيهَا , وَفِي إِقْبَال الْآخِرَة وَبَقَائِهَا فَتَرْغَبُونَ فِيهَا .
قَوْله تَعَالَى : " وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى " إِلَى قَوْله " حَكِيم " رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن " [ الْأَنْعَام : 152 ] و " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا " [ النِّسَاء : 10 ] الْآيَة , اِنْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْده يَتِيم فَعَزَلَ طَعَامه مِنْ طَعَامه وَشَرَابه مِنْ شَرَابه فَجَعَلَ يُفْضِل مِنْ طَعَامه فَيَحْبِس لَهُ , حَتَّى يَأْكُلهُ أَوْ يَفْسُد , فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ , فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاح لَهُمْ خَيْر " الْآيَة , فَخَلَطُوا طَعَامهمْ بِطَعَامِهِ وَشَرَابهمْ بِشَرَابِهِ ) , لَفْظ أَبِي دَاوُد . وَالْآيَة مُتَّصِلَة بِمَا قَبْل ; لِأَنَّهُ اِقْتَرَنَ بِذِكْرِ الْأَمْوَال الْأَمْر بِحِفْظِ أَمْوَال الْيَتَامَى . وَقِيلَ : إِنَّ السَّائِل عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة . وَقِيلَ : كَانَتْ الْعَرَب تَتَشَاءَم بِمُلَابَسَةِ أَمْوَال الْيَتَامَى فِي مُؤَاكَلَتهمْ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة .
لَمَّا أَذِنَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ فِي مُخَالَطَة الْأَيْتَام مَعَ قَصْد الْإِصْلَاح بِالنَّظَرِ إِلَيْهِمْ وَفِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَاز التَّصَرُّف فِي مَال الْيَتِيم , تَصَرُّف الْوَصِيّ فِي الْبَيْع وَالْقِسْمَة وَغَيْر ذَلِكَ , عَلَى الْإِطْلَاق لِهَذِهِ الْآيَة . فَإِذَا كَفَلَ الرَّجُل الْيَتِيم وَحَازَهُ وَكَانَ فِي نَظَره جَازَ عَلَيْهِ فِعْله وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمهُ وَالٍ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْآيَة مُطْلَقَة وَالْكَفَالَة وِلَايَة عَامَّة . لَمْ يُؤْثَر عَنْ أَحَد مِنْ الْخُلَفَاء أَنَّهُ قَدَّمَ أَحَدًا عَلَى يَتِيم مَعَ وُجُودهمْ فِي أَزْمِنَتهمْ , وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَوْنهمْ عِنْدهمْ .
تَوَاتَرَتْ الْآثَار فِي دَفْع مَال الْيَتِيم مُضَارَبَة وَالتِّجَارَة فِيهِ , وَفِي جَوَاز خَلْط مَاله بِمَالِهِ دَلَالَة عَلَى جَوَاز التَّصَرُّف فِي مَاله بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاء إِذَا وَافَقَ الصَّلَاح , وَجَوَاز دَفْعه مُضَارَبَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرهُ مُبَيَّنًا . وَاخْتُلِفَ فِي عَمَله هُوَ قِرَاضًا , فَمَنَعَهُ أَشْهَب , وَقَاسَهُ عَلَى مَنْعه مِنْ أَنْ يَبِيع لَهُمْ مِنْ نَفْسه أَوْ يَشْتَرِي لَهَا . وَقَالَ غَيْره : إِذَا أَخَذَهُ عَلَى جُزْء مِنْ الرِّبْح بِنِسْبَةِ قِرَاض مِثْله فِيهِ أُمْضِيَ , كَشِرَائِهِ شَيْئًا لِلْيَتِيمِ بِتَعَقُّبٍ فَيَكُون أَحْسَن لِلْيَتِيمِ . قَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم : وَلَهُ أَنْ يَبِيع لَهُ بِالدَّيْنِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ نَظَرًا . قَالَ اِبْن كِنَانَة : وَلَهُ أَنْ يُنْفِق فِي عُرْس الْيَتِيم مَا يَصْلُح مِنْ صَنِيع وَطِيب , وَمَصْلَحَته بِقَدْرِ حَاله وَحَال مَنْ يُزَوِّج إِلَيْهِ , وَبِقَدْرِ كَثْرَة مَاله . قَالَ : وَكَذَلِكَ فِي خِتَانه , فَإِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّهَم رَفَعَ ذَلِكَ إِلَى السُّلْطَان فَيَأْمُرهُ بِالْقَصْدِ , وَكُلّ مَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْه النَّظَر فَهُوَ جَائِز , وَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْه الْمُحَابَاة وَسُوء النَّظَر فَلَا يَجُوز . وَدَلَّ الظَّاهِر عَلَى أَنَّ وَلِيّ الْيَتِيم يُعَلِّمهُ أَمْر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , وَيَسْتَأْجِر لَهُ وَيُؤَاجِرهُ مِمَّنْ يُعَلِّمهُ الصِّنَاعَات . وَإِذَا وُهِبَ لِلْيَتِيمِ شَيْء فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْبِضهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِصْلَاح . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي " النِّسَاء " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَلِمَا يُنْفِقهُ الْوَصِيّ وَالْكَفِيل مِنْ مَال الْيَتِيم حَالَتَانِ : حَال يُمْكِنهُ الْإِشْهَاد عَلَيْهِ , فَلَا يُقْبَل قَوْله إِلَّا بِبَيِّنَةٍ . وَحَالَة لَا يُمْكِنهُ الْإِشْهَاد عَلَيْهِ فَقَوْله مَقْبُول بِغَيْرِ بَيِّنَة , فَمَهْمَا اِشْتَرَى مِنْ الْعَقَار وَمَا جَرَتْ الْعَادَة بِالتَّوَثُّقِ فِيهِ لَمْ يُقْبَل قَوْله بِغَيْرِ بَيِّنَة . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلِذَلِكَ فَرَّقَ أَصْحَابنَا بَيْن أَنْ يَكُون الْيَتِيم فِي دَار الْوَصِيّ يُنْفِق عَلَيْهِ فَلَا يُكَلَّف الْإِشْهَاد عَلَى نَفَقَته وَكِسْوَته ; لِأَنَّهُ يَتَعَذَّر عَلَيْهِ الْإِشْهَاد عَلَى مَا يَأْكُلهُ وَيَلْبَسهُ فِي كُلّ وَقْت , وَلَكِنْ إِذَا قَالَ : أَنْفَقْت نَفَقَة لِسَنَةٍ قُبِلَ مِنْهُ , وَبَيْن أَنْ يَكُون عِنْد أُمّه أَوْ حَاضِنَته فَيَدَّعِي الْوَصِيّ أَنَّهُ كَانَ يُنْفِق عَلَيْهِ , أَوْ كَانَ يُعْطِي الْأُمّ أَوْ الْحَاضِنَة النَّفَقَة وَالْكِسْوَة فَلَا يُقْبَل قَوْله عَلَى الْأُمّ أَوْ الْحَاضِنَة إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَقْبِض ذَلِكَ لَهُ مُشَاهَرَة أَوْ مُسَانَاة .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الرَّجُل يُنْكِح نَفْسه مِنْ يَتِيمَته , وَهَلْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ مِنْ مَال يَتِيمه أَوْ يَتِيمَته ؟ فَقَالَ مَالِك : وِلَايَة النِّكَاح بِالْكَفَالَةِ وَالْحَضَانَة أَقْوَى مِنْهَا بِالْقَرَابَةِ , حَتَّى قَالَ فِي الْأَعْرَاب الَّذِينَ يُسَلِّمُونَ أَوْلَادهمْ فِي أَيَّام الْمَجَاعَة : إِنَّهُمْ يَنْكِحُونَهُمْ إِنْكَاحهمْ , فَأَمَّا إِنْكَاح الْكَافِل وَالْحَاضِن لِنَفْسِهِ فَيَأْتِي فِي " النِّسَاء " بَيَانه , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا الشِّرَاء مِنْهُ فَقَالَ مَالِك : يَشْتَرِي فِي مَشْهُور الْأَقْوَال , وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَهُ أَنْ يَشْتَرِي مَال الطِّفْل الْيَتِيم لِنَفْسِهِ بِأَكْثَر مِنْ ثَمَن الْمِثْل ; لِأَنَّهُ إِصْلَاح دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِر الْقُرْآن . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز ذَلِكَ فِي النِّكَاح وَلَا فِي الْبَيْع , لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُر فِي الْآيَة التَّصَرُّف , بَلْ قَالَ : " إِصْلَاح لَهُمْ خَيْر " مِنْ غَيْر أَنْ يَذْكُر فِيهِ الَّذِي يَجُوز لَهُ النَّظَر . وَأَبُو حَنِيفَة يَقُول : إِذَا كَانَ الْإِصْلَاح خَيْرًا فَيَجُوز تَزْوِيجه وَيَجُوز أَنْ يُزَوَّج مِنْهُ . وَالشَّافِعِيّ لَا يَرَى فِي التَّزْوِيج إِصْلَاحًا إِلَّا مِنْ جِهَة دَفْع الْحَاجَة , وَلَا حَاجَة قَبْل الْبُلُوغ . وَأَحْمَد بْن حَنْبَل يُجَوِّز لِلْوَصِيِّ التَّزْوِيج لِأَنَّهُ إِصْلَاح . وَالشَّافِعِيّ يُجَوِّز لِلْجَدِّ التَّزْوِيج مَعَ الْوَصِيّ , وَلِلْأَبِ فِي حَقّ وَلَده الَّذِي مَاتَتْ أُمّه لَا بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَة . وَأَبُو حَنِيفَة يُجَوِّز لِلْقَاضِي تَزْوِيج الْيَتِيم بِظَاهِرِ الْقُرْآن . وَهَذِهِ الْمَذَاهِب نَشَأَتْ مِنْ هَذِهِ الْآيَة , فَإِنْ ثَبَتَ كَوْن التَّزْوِيج إِصْلَاحًا فَظَاهِر الْآيَة يَقْتَضِي جَوَازه . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى " أَيْ يَسْأَلك الْقِوَام عَلَى الْيَتَامَى الْكَافِلُونَ لَهُمْ , وَذَلِكَ مُجْمَل لَا يُعْلَم مِنْهُ عَيْن الْكَافِل وَالْقَيِّم وَمَا يُشْتَرَط فِيهِ مِنْ الْأَوْصَاف . فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَم تَرْك مَالِك أَصْله فِي التُّهْمَة وَالذَّرَائِع إِذْ جُوِّزَ لَهُ الشِّرَاء مِنْ يَتِيمه , فَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَم , وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ ذَرِيعَة فِيمَا يُؤَدَّى مِنْ الْأَفْعَال الْمَحْظُورَة إِلَى مَحْظُورَة مَنْصُوص عَلَيْهَا , وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّه سُبْحَانه فِي صُورَة الْمُخَالَطَة , وَوَكَلَ الْحَاضِنِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَمَانَتهمْ بِقَوْلِهِ : " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " وَكُلّ أَمْر مَخُوف وَكَلَ اللَّه سُبْحَانه الْمُكَلَّف إِلَى أَمَانَته لَا يُقَال فِيهِ : إِنَّهُ يَتَذَرَّع إِلَى مَحْظُور بِهِ فَيُمْنَع مِنْهُ , كَمَا جَعَلَ اللَّه النِّسَاء مُؤْتَمَنَات عَلَى فُرُوجهنَّ , مَعَ عَظِيم مَا يَتَرَتَّب عَلَى قَوْلهنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَام , وَيَرْتَبِط بِهِ مِنْ الْحِلّ وَالْحُرْمَة وَالْأَنْسَاب , وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ . وَكَانَ طَاوُس إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْء مِنْ أَمْر الْيَتَامَى قَرَأَ : " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " . وَكَانَ اِبْن سِيرِينَ أَحَبّ الْأَشْيَاء إِلَيْهِ فِي مَال الْيَتِيم أَنْ يَجْتَمِع نُصَحَاؤُهُ فَيَنْظُرُونَ الَّذِي هُوَ خَيْر لَهُ , ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ . وَفِي هَذَا دَلَالَة عَلَى جَوَاز الشِّرَاء مِنْهُ لِنَفْسِهِ , كَمَا ذَكَرْنَا . وَالْقَوْل الْآخَر أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يَشْتَرِي مِمَّا تَحْت يَده شَيْئًا , لِمَا يَلْحَقهُ فِي ذَلِكَ مِنْ التُّهْمَة إِلَّا أَنْ يَكُون الْبَيْع فِي ذَلِكَ بَيْع سُلْطَان فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاس . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم : لَا يَشْتَرِي مِنْ التَّرِكَة , وَلَا بَأْس أَنْ يَدُسّ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَعْلَم أَنَّهُ مِنْ قِبَله .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانكُمْ " هَذِهِ الْمُخَالَطَة كَخَلْطِ الْمِثْل بِالْمِثْلِ كَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : مُخَالَطَة الْيَتَامَى أَنْ يَكُون لِأَحَدِهِمْ الْمَال وَيَشُقّ عَلَى كَافِله أَنْ يُفْرِد طَعَامه عَنْهُ , وَلَا يَجِد بُدًّا مِنْ خَلْطه بِعِيَالِهِ فَيَأْخُذ مِنْ مَال الْيَتِيم مَا يَرَى أَنَّهُ كَافِيه بِالتَّحَرِّي فَيَجْعَلهُ مَعَ نَفَقَة أَهْله , وَهَذَا قَدْ يَقَع فِيهِ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان , فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَة النَّاسِخَة بِالرُّخْصَةِ فِيهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَهَذَا عِنْدِي أَصْل لِمَا يَفْعَلهُ الرُّفَقَاء فِي الْأَسْفَار فَإِنَّهُمْ يَتَخَارَجُونَ النَّفَقَات بَيْنهمْ بِالسَّوِيَّةِ , وَقَدْ يَتَفَاوَتُونَ فِي قِلَّة الْمَطْعَم وَكَثْرَته , وَلَيْسَ كُلّ مَنْ قَلَّ مَطْعَمه تَطِيب نَفْسه بِالتَّفَضُّلِ عَلَى رَفِيقه , فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِي أَمْوَال الْيَتَامَى وَاسِعًا كَانَ فِي غَيْرهمْ أَوْسَع , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَخِفْت أَنْ يُضَيَّق فِيهِ الْأَمْر عَلَى النَّاس .
قَوْله تَعَالَى : " فَإِخْوَانكُمْ " خَبَر لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوف , أَيْ فَهُمْ إِخْوَانكُمْ , وَالْفَاء جَوَاب الشَّرْط . وَقَوْله تَعَالَى : " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " تَحْذِير , أَيْ يَعْلَم الْمُفْسِد لِأَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنْ الْمُصْلِح لَهَا , فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى إِصْلَاحه وَإِفْسَاده .
رَوَى الْحَكَم عَنْ مِقْسَم عَنْ اِبْن عَبَّاس : " وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَأَعْنَتَكُمْ " قَالَ : ( لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَال الْيَتَامَى مُوبِقًا ) . وَقِيلَ : " لَأَعْنَتَكُمْ " لَأَهْلَكَكُمْ , عَنْ الزَّجَّاج وَأَبِي عُبَيْدَة . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَشَدَّدَ , وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ إِلَّا التَّسْهِيل عَلَيْكُمْ . وَقِيلَ : أَيْ لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشْتَدّ عَلَيْكُمْ أَدَاؤُهُ وَأَثَّمَكُمْ فِي مُخَالَطَتهمْ , كَمَا فَعَلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلكُمْ , وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ عَنْكُمْ . وَالْعَنَت : الْمَشَقَّة , وَقَدْ عَنِتَ وَأَعْنَتَهُ غَيْره . وَيُقَال لِلْعَظْمِ الْمَجْبُور إِذَا أَصَابَهُ شَيْء فَهَاضَهُ : قَدْ أَعْنَتَهُ , فَهُوَ عَنِت وَمُعْنِت . وَعَنِتَتْ الدَّابَّة تَعْنَت عَنَتًا : إِذَا حَدَثَ فِي قَوَائِمهَا كَسْر بَعْد جَبْر لَا يُمْكِنهَا مَعَهُ جَرْي . وَأَكَمَة عَنُوت : شَاقَّة الْمَصْعَد . وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : أَصْل الْعَنَت التَّشْدِيد , فَإِذَا قَالَتْ الْعَرَب : فُلَان يَتَعَنَّت فُلَانًا وَيُعْنِتهُ فَمُرَادهَا يُشَدِّد عَلَيْهِ وَيُلْزِمهُ مَا يَصْعُب عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ , ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى مَعْنَى الْهَلَاك . وَالْأَصْل مَا وَصَفْنَا .
أَيْ لَا يَمْتَنِع عَلَيْهِ شَيْء .
يَتَصَرَّف فِي مُلْكه بِمَا يُرِيد لَا حَجْر عَلَيْهِ , جَلَّ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا .
قَوْله تَعَالَى : " وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى " إِلَى قَوْله " حَكِيم " رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن " [ الْأَنْعَام : 152 ] و " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا " [ النِّسَاء : 10 ] الْآيَة , اِنْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْده يَتِيم فَعَزَلَ طَعَامه مِنْ طَعَامه وَشَرَابه مِنْ شَرَابه فَجَعَلَ يُفْضِل مِنْ طَعَامه فَيَحْبِس لَهُ , حَتَّى يَأْكُلهُ أَوْ يَفْسُد , فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ , فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاح لَهُمْ خَيْر " الْآيَة , فَخَلَطُوا طَعَامهمْ بِطَعَامِهِ وَشَرَابهمْ بِشَرَابِهِ ) , لَفْظ أَبِي دَاوُد . وَالْآيَة مُتَّصِلَة بِمَا قَبْل ; لِأَنَّهُ اِقْتَرَنَ بِذِكْرِ الْأَمْوَال الْأَمْر بِحِفْظِ أَمْوَال الْيَتَامَى . وَقِيلَ : إِنَّ السَّائِل عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة . وَقِيلَ : كَانَتْ الْعَرَب تَتَشَاءَم بِمُلَابَسَةِ أَمْوَال الْيَتَامَى فِي مُؤَاكَلَتهمْ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة .
لَمَّا أَذِنَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ فِي مُخَالَطَة الْأَيْتَام مَعَ قَصْد الْإِصْلَاح بِالنَّظَرِ إِلَيْهِمْ وَفِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَاز التَّصَرُّف فِي مَال الْيَتِيم , تَصَرُّف الْوَصِيّ فِي الْبَيْع وَالْقِسْمَة وَغَيْر ذَلِكَ , عَلَى الْإِطْلَاق لِهَذِهِ الْآيَة . فَإِذَا كَفَلَ الرَّجُل الْيَتِيم وَحَازَهُ وَكَانَ فِي نَظَره جَازَ عَلَيْهِ فِعْله وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمهُ وَالٍ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْآيَة مُطْلَقَة وَالْكَفَالَة وِلَايَة عَامَّة . لَمْ يُؤْثَر عَنْ أَحَد مِنْ الْخُلَفَاء أَنَّهُ قَدَّمَ أَحَدًا عَلَى يَتِيم مَعَ وُجُودهمْ فِي أَزْمِنَتهمْ , وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَوْنهمْ عِنْدهمْ .
تَوَاتَرَتْ الْآثَار فِي دَفْع مَال الْيَتِيم مُضَارَبَة وَالتِّجَارَة فِيهِ , وَفِي جَوَاز خَلْط مَاله بِمَالِهِ دَلَالَة عَلَى جَوَاز التَّصَرُّف فِي مَاله بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاء إِذَا وَافَقَ الصَّلَاح , وَجَوَاز دَفْعه مُضَارَبَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرهُ مُبَيَّنًا . وَاخْتُلِفَ فِي عَمَله هُوَ قِرَاضًا , فَمَنَعَهُ أَشْهَب , وَقَاسَهُ عَلَى مَنْعه مِنْ أَنْ يَبِيع لَهُمْ مِنْ نَفْسه أَوْ يَشْتَرِي لَهَا . وَقَالَ غَيْره : إِذَا أَخَذَهُ عَلَى جُزْء مِنْ الرِّبْح بِنِسْبَةِ قِرَاض مِثْله فِيهِ أُمْضِيَ , كَشِرَائِهِ شَيْئًا لِلْيَتِيمِ بِتَعَقُّبٍ فَيَكُون أَحْسَن لِلْيَتِيمِ . قَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم : وَلَهُ أَنْ يَبِيع لَهُ بِالدَّيْنِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ نَظَرًا . قَالَ اِبْن كِنَانَة : وَلَهُ أَنْ يُنْفِق فِي عُرْس الْيَتِيم مَا يَصْلُح مِنْ صَنِيع وَطِيب , وَمَصْلَحَته بِقَدْرِ حَاله وَحَال مَنْ يُزَوِّج إِلَيْهِ , وَبِقَدْرِ كَثْرَة مَاله . قَالَ : وَكَذَلِكَ فِي خِتَانه , فَإِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّهَم رَفَعَ ذَلِكَ إِلَى السُّلْطَان فَيَأْمُرهُ بِالْقَصْدِ , وَكُلّ مَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْه النَّظَر فَهُوَ جَائِز , وَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْه الْمُحَابَاة وَسُوء النَّظَر فَلَا يَجُوز . وَدَلَّ الظَّاهِر عَلَى أَنَّ وَلِيّ الْيَتِيم يُعَلِّمهُ أَمْر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , وَيَسْتَأْجِر لَهُ وَيُؤَاجِرهُ مِمَّنْ يُعَلِّمهُ الصِّنَاعَات . وَإِذَا وُهِبَ لِلْيَتِيمِ شَيْء فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْبِضهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِصْلَاح . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي " النِّسَاء " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَلِمَا يُنْفِقهُ الْوَصِيّ وَالْكَفِيل مِنْ مَال الْيَتِيم حَالَتَانِ : حَال يُمْكِنهُ الْإِشْهَاد عَلَيْهِ , فَلَا يُقْبَل قَوْله إِلَّا بِبَيِّنَةٍ . وَحَالَة لَا يُمْكِنهُ الْإِشْهَاد عَلَيْهِ فَقَوْله مَقْبُول بِغَيْرِ بَيِّنَة , فَمَهْمَا اِشْتَرَى مِنْ الْعَقَار وَمَا جَرَتْ الْعَادَة بِالتَّوَثُّقِ فِيهِ لَمْ يُقْبَل قَوْله بِغَيْرِ بَيِّنَة . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلِذَلِكَ فَرَّقَ أَصْحَابنَا بَيْن أَنْ يَكُون الْيَتِيم فِي دَار الْوَصِيّ يُنْفِق عَلَيْهِ فَلَا يُكَلَّف الْإِشْهَاد عَلَى نَفَقَته وَكِسْوَته ; لِأَنَّهُ يَتَعَذَّر عَلَيْهِ الْإِشْهَاد عَلَى مَا يَأْكُلهُ وَيَلْبَسهُ فِي كُلّ وَقْت , وَلَكِنْ إِذَا قَالَ : أَنْفَقْت نَفَقَة لِسَنَةٍ قُبِلَ مِنْهُ , وَبَيْن أَنْ يَكُون عِنْد أُمّه أَوْ حَاضِنَته فَيَدَّعِي الْوَصِيّ أَنَّهُ كَانَ يُنْفِق عَلَيْهِ , أَوْ كَانَ يُعْطِي الْأُمّ أَوْ الْحَاضِنَة النَّفَقَة وَالْكِسْوَة فَلَا يُقْبَل قَوْله عَلَى الْأُمّ أَوْ الْحَاضِنَة إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَقْبِض ذَلِكَ لَهُ مُشَاهَرَة أَوْ مُسَانَاة .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الرَّجُل يُنْكِح نَفْسه مِنْ يَتِيمَته , وَهَلْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ مِنْ مَال يَتِيمه أَوْ يَتِيمَته ؟ فَقَالَ مَالِك : وِلَايَة النِّكَاح بِالْكَفَالَةِ وَالْحَضَانَة أَقْوَى مِنْهَا بِالْقَرَابَةِ , حَتَّى قَالَ فِي الْأَعْرَاب الَّذِينَ يُسَلِّمُونَ أَوْلَادهمْ فِي أَيَّام الْمَجَاعَة : إِنَّهُمْ يَنْكِحُونَهُمْ إِنْكَاحهمْ , فَأَمَّا إِنْكَاح الْكَافِل وَالْحَاضِن لِنَفْسِهِ فَيَأْتِي فِي " النِّسَاء " بَيَانه , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا الشِّرَاء مِنْهُ فَقَالَ مَالِك : يَشْتَرِي فِي مَشْهُور الْأَقْوَال , وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَهُ أَنْ يَشْتَرِي مَال الطِّفْل الْيَتِيم لِنَفْسِهِ بِأَكْثَر مِنْ ثَمَن الْمِثْل ; لِأَنَّهُ إِصْلَاح دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِر الْقُرْآن . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز ذَلِكَ فِي النِّكَاح وَلَا فِي الْبَيْع , لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُر فِي الْآيَة التَّصَرُّف , بَلْ قَالَ : " إِصْلَاح لَهُمْ خَيْر " مِنْ غَيْر أَنْ يَذْكُر فِيهِ الَّذِي يَجُوز لَهُ النَّظَر . وَأَبُو حَنِيفَة يَقُول : إِذَا كَانَ الْإِصْلَاح خَيْرًا فَيَجُوز تَزْوِيجه وَيَجُوز أَنْ يُزَوَّج مِنْهُ . وَالشَّافِعِيّ لَا يَرَى فِي التَّزْوِيج إِصْلَاحًا إِلَّا مِنْ جِهَة دَفْع الْحَاجَة , وَلَا حَاجَة قَبْل الْبُلُوغ . وَأَحْمَد بْن حَنْبَل يُجَوِّز لِلْوَصِيِّ التَّزْوِيج لِأَنَّهُ إِصْلَاح . وَالشَّافِعِيّ يُجَوِّز لِلْجَدِّ التَّزْوِيج مَعَ الْوَصِيّ , وَلِلْأَبِ فِي حَقّ وَلَده الَّذِي مَاتَتْ أُمّه لَا بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَة . وَأَبُو حَنِيفَة يُجَوِّز لِلْقَاضِي تَزْوِيج الْيَتِيم بِظَاهِرِ الْقُرْآن . وَهَذِهِ الْمَذَاهِب نَشَأَتْ مِنْ هَذِهِ الْآيَة , فَإِنْ ثَبَتَ كَوْن التَّزْوِيج إِصْلَاحًا فَظَاهِر الْآيَة يَقْتَضِي جَوَازه . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى " أَيْ يَسْأَلك الْقِوَام عَلَى الْيَتَامَى الْكَافِلُونَ لَهُمْ , وَذَلِكَ مُجْمَل لَا يُعْلَم مِنْهُ عَيْن الْكَافِل وَالْقَيِّم وَمَا يُشْتَرَط فِيهِ مِنْ الْأَوْصَاف . فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَم تَرْك مَالِك أَصْله فِي التُّهْمَة وَالذَّرَائِع إِذْ جُوِّزَ لَهُ الشِّرَاء مِنْ يَتِيمه , فَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَم , وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ ذَرِيعَة فِيمَا يُؤَدَّى مِنْ الْأَفْعَال الْمَحْظُورَة إِلَى مَحْظُورَة مَنْصُوص عَلَيْهَا , وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّه سُبْحَانه فِي صُورَة الْمُخَالَطَة , وَوَكَلَ الْحَاضِنِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَمَانَتهمْ بِقَوْلِهِ : " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " وَكُلّ أَمْر مَخُوف وَكَلَ اللَّه سُبْحَانه الْمُكَلَّف إِلَى أَمَانَته لَا يُقَال فِيهِ : إِنَّهُ يَتَذَرَّع إِلَى مَحْظُور بِهِ فَيُمْنَع مِنْهُ , كَمَا جَعَلَ اللَّه النِّسَاء مُؤْتَمَنَات عَلَى فُرُوجهنَّ , مَعَ عَظِيم مَا يَتَرَتَّب عَلَى قَوْلهنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَام , وَيَرْتَبِط بِهِ مِنْ الْحِلّ وَالْحُرْمَة وَالْأَنْسَاب , وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ . وَكَانَ طَاوُس إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْء مِنْ أَمْر الْيَتَامَى قَرَأَ : " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " . وَكَانَ اِبْن سِيرِينَ أَحَبّ الْأَشْيَاء إِلَيْهِ فِي مَال الْيَتِيم أَنْ يَجْتَمِع نُصَحَاؤُهُ فَيَنْظُرُونَ الَّذِي هُوَ خَيْر لَهُ , ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ . وَفِي هَذَا دَلَالَة عَلَى جَوَاز الشِّرَاء مِنْهُ لِنَفْسِهِ , كَمَا ذَكَرْنَا . وَالْقَوْل الْآخَر أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يَشْتَرِي مِمَّا تَحْت يَده شَيْئًا , لِمَا يَلْحَقهُ فِي ذَلِكَ مِنْ التُّهْمَة إِلَّا أَنْ يَكُون الْبَيْع فِي ذَلِكَ بَيْع سُلْطَان فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاس . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم : لَا يَشْتَرِي مِنْ التَّرِكَة , وَلَا بَأْس أَنْ يَدُسّ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَعْلَم أَنَّهُ مِنْ قِبَله .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانكُمْ " هَذِهِ الْمُخَالَطَة كَخَلْطِ الْمِثْل بِالْمِثْلِ كَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : مُخَالَطَة الْيَتَامَى أَنْ يَكُون لِأَحَدِهِمْ الْمَال وَيَشُقّ عَلَى كَافِله أَنْ يُفْرِد طَعَامه عَنْهُ , وَلَا يَجِد بُدًّا مِنْ خَلْطه بِعِيَالِهِ فَيَأْخُذ مِنْ مَال الْيَتِيم مَا يَرَى أَنَّهُ كَافِيه بِالتَّحَرِّي فَيَجْعَلهُ مَعَ نَفَقَة أَهْله , وَهَذَا قَدْ يَقَع فِيهِ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان , فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَة النَّاسِخَة بِالرُّخْصَةِ فِيهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَهَذَا عِنْدِي أَصْل لِمَا يَفْعَلهُ الرُّفَقَاء فِي الْأَسْفَار فَإِنَّهُمْ يَتَخَارَجُونَ النَّفَقَات بَيْنهمْ بِالسَّوِيَّةِ , وَقَدْ يَتَفَاوَتُونَ فِي قِلَّة الْمَطْعَم وَكَثْرَته , وَلَيْسَ كُلّ مَنْ قَلَّ مَطْعَمه تَطِيب نَفْسه بِالتَّفَضُّلِ عَلَى رَفِيقه , فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِي أَمْوَال الْيَتَامَى وَاسِعًا كَانَ فِي غَيْرهمْ أَوْسَع , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَخِفْت أَنْ يُضَيَّق فِيهِ الْأَمْر عَلَى النَّاس .
قَوْله تَعَالَى : " فَإِخْوَانكُمْ " خَبَر لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوف , أَيْ فَهُمْ إِخْوَانكُمْ , وَالْفَاء جَوَاب الشَّرْط . وَقَوْله تَعَالَى : " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " تَحْذِير , أَيْ يَعْلَم الْمُفْسِد لِأَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنْ الْمُصْلِح لَهَا , فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى إِصْلَاحه وَإِفْسَاده .
رَوَى الْحَكَم عَنْ مِقْسَم عَنْ اِبْن عَبَّاس : " وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَأَعْنَتَكُمْ " قَالَ : ( لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَال الْيَتَامَى مُوبِقًا ) . وَقِيلَ : " لَأَعْنَتَكُمْ " لَأَهْلَكَكُمْ , عَنْ الزَّجَّاج وَأَبِي عُبَيْدَة . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَشَدَّدَ , وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ إِلَّا التَّسْهِيل عَلَيْكُمْ . وَقِيلَ : أَيْ لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشْتَدّ عَلَيْكُمْ أَدَاؤُهُ وَأَثَّمَكُمْ فِي مُخَالَطَتهمْ , كَمَا فَعَلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلكُمْ , وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ عَنْكُمْ . وَالْعَنَت : الْمَشَقَّة , وَقَدْ عَنِتَ وَأَعْنَتَهُ غَيْره . وَيُقَال لِلْعَظْمِ الْمَجْبُور إِذَا أَصَابَهُ شَيْء فَهَاضَهُ : قَدْ أَعْنَتَهُ , فَهُوَ عَنِت وَمُعْنِت . وَعَنِتَتْ الدَّابَّة تَعْنَت عَنَتًا : إِذَا حَدَثَ فِي قَوَائِمهَا كَسْر بَعْد جَبْر لَا يُمْكِنهَا مَعَهُ جَرْي . وَأَكَمَة عَنُوت : شَاقَّة الْمَصْعَد . وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : أَصْل الْعَنَت التَّشْدِيد , فَإِذَا قَالَتْ الْعَرَب : فُلَان يَتَعَنَّت فُلَانًا وَيُعْنِتهُ فَمُرَادهَا يُشَدِّد عَلَيْهِ وَيُلْزِمهُ مَا يَصْعُب عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ , ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى مَعْنَى الْهَلَاك . وَالْأَصْل مَا وَصَفْنَا .
أَيْ لَا يَمْتَنِع عَلَيْهِ شَيْء .
يَتَصَرَّف فِي مُلْكه بِمَا يُرِيد لَا حَجْر عَلَيْهِ , جَلَّ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ↓
فِيهِ سَبْع مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَنْكِحُوا " قِرَاءَة الْجُمْهُور بِفَتْحِ التَّاء . وَقُرِئَتْ فِي الشَّاذّ بِالضَّمِّ , كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَزَوِّج لَهَا أَنْكَحَهَا مِنْ نَفْسه . وَنَكَحَ أَصْله الْجِمَاع , وَيُسْتَعْمَل فِي التَّزَوُّج تَجَوُّزًا وَاتِّسَاعًا , وَسَيَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّانِيَة : لَمَّا أَذِنَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي مُخَالَطَة الْأَيْتَام , وَفِي مُخَالَطَة النِّكَاح بَيَّنَ أَنَّ مُنَاكَحَة الْمُشْرِكِينَ لَا تَصِحّ . وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَبِي مَرْثَد الْغَنَوِيّ , وَقِيلَ : فِي مَرْثَد بْن أَبِي مَرْثَد , وَاسْمه كَنَّاز بْن حُصَيْن الْغَنَوِيّ , بَعَثَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة سِرًّا لِيُخْرِج رَجُلًا مِنْ أَصْحَابه , وَكَانَتْ لَهُ بِمَكَّة اِمْرَأَة يُحِبّهَا فِي الْجَاهِلِيَّة يُقَال لَهَا " عَنَاق " فَجَاءَتْهُ , فَقَالَ لَهَا : إِنَّ الْإِسْلَام حَرَّمَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة , قَالَتْ : فَتَزَوَّجْنِي , قَالَ : حَتَّى أَسْتَأْذِن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَنَهَاهُ عَنْ التَّزَوُّج بِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَهِيَ مُشْرِكَة . وَسَيَأْتِي فِي " النُّور " بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَتْ طَائِفَة : حَرَّمَ اللَّه نِكَاح الْمُشْرِكَات فِي سُورَة " الْبَقَرَة " ثُمَّ نُسِخَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَة نِسَاء أَهْل الْكِتَاب , فَأَحَلَّهُنَّ فِي سُورَة " الْمَائِدَة " . وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَبِهِ قَالَ مَالِك بْن أَنَس وَسُفْيَان بْن سَعِيد الثَّوْرِيّ , وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ . وَقَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر : لَفْظ الْآيَة الْعُمُوم فِي كُلّ كَافِرَة , وَالْمُرَاد بِهَا الْخُصُوص فِي الْكِتَابِيَّات , وَبَيَّنَتْ الْخُصُوص آيَة " الْمَائِدَة " وَلَمْ يَتَنَاوَل الْعُمُوم قَطُّ الْكِتَابِيَّات . وَهَذَا أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ , وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل يَتَنَاوَلهُنَّ الْعُمُوم , ثُمَّ نَسَخَتْ آيَة " الْمَائِدَة " بَعْض الْعُمُوم . وَهَذَا مَذْهَب مَالِك رَحِمَهُ اللَّه , ذَكَرَهُ اِبْن حَبِيب , وَقَالَ : وَنِكَاح الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَلَّهُ اللَّه تَعَالَى مُسْتَثْقَل مَذْمُوم . وَقَالَ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ : ذَهَبَ قَوْم فَجَعَلُوا الْآيَة الَّتِي فِي " الْبَقَرَة " هِيَ النَّاسِخَة , وَاَلَّتِي فِي " الْمَائِدَة " هِيَ الْمَنْسُوخَة , فَحَرَّمُوا نِكَاح كُلّ مُشْرِكَة كِتَابِيَّة أَوْ غَيْر كِتَابِيَّة . قَالَ النَّحَّاس : وَمِنْ الْحُجَّة لِقَائِلِ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَده مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّد بْن رَيَّان , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن رُمْح , قَالَ : حَدَّثَنَا اللَّيْث عَنْ نَافِع أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاح الرَّجُل النَّصْرَانِيَّة أَوْ الْيَهُودِيَّة قَالَ : حَرَّمَ اللَّه الْمُشْرِكَات عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا أَعْرِف شَيْئًا مِنْ الْإِشْرَاك أَعْظَم مِنْ أَنْ تَقُول الْمَرْأَة رَبّهَا عِيسَى , أَوْ عَبْد مِنْ عِبَاد اللَّه ! . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل خَارِج عَنْ قَوْل الْجَمَاعَة الَّذِينَ تَقُوم بِهِمْ الْحُجَّة , لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِتَحْلِيلِ نِكَاح نِسَاء أَهْل الْكِتَاب مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ جَمَاعَة , مِنْهُمْ عُثْمَان وَطَلْحَة وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَحُذَيْفَة . وَمِنْ التَّابِعِينَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَطَاوُس وَعِكْرِمَة وَالشَّعْبِيّ وَالضَّحَّاك , وَفُقَهَاء الْأَمْصَار عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَيَمْتَنِع أَنْ تَكُون هَذِهِ الْآيَة مِنْ سُورَة " الْبَقَرَة " نَاسِخَة لِلْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَة " الْمَائِدَة " لِأَنَّ " الْبَقَرَة " مِنْ أَوَّل مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ , و " الْمَائِدَة " مِنْ آخِر مَا نَزَلَ . وَإِنَّمَا الْآخَر يَنْسَخ الْأَوَّل , وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عُمَر فَلَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّ اِبْن عُمَر رَحِمَهُ اللَّه كَانَ رَجُلًا مُتَوَقِّفًا , فَلَمَّا سَمِعَ الْآيَتَيْنِ , فِي وَاحِدَة التَّحْلِيل , وَفِي أُخْرَى التَّحْرِيم وَلَمْ يَبْلُغهُ النَّسْخ تَوَقَّفَ , وَلَمْ يُؤْخَذ عَنْهُ ذِكْر النَّسْخ وَإِنَّمَا تُؤُوِّلَ عَلَيْهِ , وَلَيْسَ يُؤْخَذ النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ بِالتَّأْوِيلِ . وَذَكَرَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي بَعْض مَا رُوِيَ عَنْهُ : ( إِنَّ الْآيَة عَامَّة فِي الْوَثَنِيَّات وَالْمَجُوسِيَّات وَالْكِتَابِيَّات , وَكُلّ مَنْ عَلَى غَيْر الْإِسْلَام حَرَام ) , فَعَلَى هَذَا هِيَ نَاسِخَة لِلْآيَةِ الَّتِي فِي " الْمَائِدَة " وَيُنْظَر إِلَى هَذَا قَوْل اِبْن عُمَر فِي الْمُوَطَّإِ : وَلَا أَعْلَم إِشْرَاكًا أَعْظَم مِنْ أَنْ تَقُول الْمَرْأَة رَبّهَا عِيسَى . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْن طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه وَحُذَيْفَة بْن الْيَمَان وَبَيْن كِتَابِيَّتَيْنِ وَقَالَا : نُطَلِّقُ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَغْضَب , فَقَالَ : لَوْ جَازَ طَلَاقكُمَا لَجَازَ نِكَاحكُمَا ! وَلَكِنْ أُفَرِّق بَيْنكُمَا صَغْرَة قَمْأَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا لَا يَسْتَنِد جِيدًا , وَأُسْنِدَ مِنْهُ أَنَّ عُمَر أَرَادَ التَّفْرِيق بَيْنهمَا فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَة : أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَام فَأُخْلِي سَبِيلهَا يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ : لَا أَزْعُم أَنَّهَا حَرَام , وَلَكِنِّي أَخَاف أَنْ تَعَاطَوْا الْمُومِسَات مِنْهُنَّ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس نَحْو هَذَا . وَذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر جَوَاز نِكَاح الْكِتَابِيَّات عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب , وَمَنْ ذَكَرَ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي قَوْل النَّحَّاس . وَقَالَ فِي آخِر كَلَامه : وَلَا يَصِحّ عَنْ أَحَد مِنْ الْأَوَائِل أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : وَأَمَّا الْآيَتَانِ فَلَا تَعَارُض بَيْنهمَا , فَإِنَّ ظَاهِر لَفْظ الشِّرْك لَا يَتَنَاوَل أَهْل الْكِتَاب , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا يَوَدّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّل عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبّكُمْ " [ الْبَقَرَة : 105 ] , وَقَالَ : " لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَالْمُشْرِكِينَ " [ الْبَيِّنَة : 1 ] فَفَرَّقَ بَيْنهمْ فِي اللَّفْظ , وَظَاهِر الْعَطْف يَقْتَضِي مُغَايَرَة بَيْن الْمَعْطُوف وَالْمَعْطُوف عَلَيْهِ , وَأَيْضًا فَاسْم الشِّرْك عُمُوم وَلَيْسَ بِنَصٍّ , وَقَوْله تَعَالَى : " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " [ الْمَائِدَة : 5 ] بَعْد قَوْله " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الْمُؤْمِنَات " نَصّ , فَلَا تَعَارُض بَيْن الْمُحْتَمَل وَبَيْن مَا لَا يُحْتَمَل . فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ " أَيْ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ وَأَسْلَمُوا , كَقَوْلِهِ " وَإِنَّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ " [ آل عِمْرَان : 199 ] الْآيَة . وَقَوْله : " مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُمَّة قَائِمَة " [ آل عِمْرَان : 113 ] الْآيَة . قِيلَ لَهُ : هَذَا خِلَاف نَصّ الْآيَة فِي قَوْله : " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ " وَخِلَاف مَا قَالَهُ الْجُمْهُور , فَإِنَّهُ لَا يُشْكِل عَلَى أَحَد جَوَاز التَّزْوِيج مِمَّنْ أَسْلَمَ وَصَارَ مِنْ أَعْيَان الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ قَالُوا : فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّار " فَجَعَلَ الْعِلَّة فِي تَحْرِيم نِكَاحهنَّ الدُّعَاء إِلَى النَّار . وَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ عِلَّة لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَة " لِأَنَّ الْمُشْرِك يَدْعُو إِلَى النَّار , وَهَذِهِ الْعِلَّة مُطَّرِدَة فِي جَمِيع الْكُفَّار , فَالْمُسْلِم خَيْر مِنْ الْكَافِر مُطْلَقًا , وَهَذَا بَيِّن .
الرَّابِعَة : وَأَمَّا نِكَاح أَهْل الْكِتَاب إِذَا كَانُوا حَرْبًا فَلَا يَحِلّ , وَسُئِلَ اِبْن عَبَّاس عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يَحِلّ , وَتَلَا قَوْل اللَّه تَعَالَى : " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " [ التَّوْبَة : 29 ] إِلَى قَوْله " صَاغِرُونَ " . قَالَ الْمُحَدِّث : حَدَّثْت بِذَلِكَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ فَأَعْجَبَهُ . وَكَرِهَ مَالِك تَزَوُّج الْحَرْبِيَّات , لِعِلَّةِ تَرْك الْوَلَد فِي دَار الْحَرْب , وَلِتَصَرُّفِهَا فِي الْخَمْر وَالْخِنْزِير .
الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : " وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَة " إِخْبَار بِأَنَّ الْمُؤْمِنَة الْمَمْلُوكَة خَيْر مِنْ الْمُشْرِكَة , وَإِنْ كَانَتْ ذَات الْحَسَب وَالْمَال . " وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ " فِي الْحُسْن وَغَيْر ذَلِكَ , هَذَا قَوْل الطَّبَرِيّ وَغَيْره . وَنَزَلَتْ فِي خَنْسَاء وَلِيدَة سَوْدَاء كَانَتْ لِحُذَيْفَة بْن الْيَمَان , فَقَالَ لَهَا حُذَيْفَة : يَا خَنْسَاء , قَدْ ذُكِرْت فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى مَعَ سَوَادك وَدَمَامَتك , وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرك فِي كِتَابه , فَأَعْتَقَهَا حُذَيْفَة وَتَزَوَّجَهَا . وَقَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة , كَانَتْ لَهُ أَمَة سَوْدَاء فَلَطَمَهَا فِي غَضَب ثُمَّ نَدِمَ , فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ , فَقَالَ : ( مَا هِيَ يَا عَبْد اللَّه ) قَالَ : تَصُوم وَتُصَلِّي وَتُحْسِن الْوُضُوء وَتَشْهَد الشَّهَادَتَيْنِ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذِهِ مُؤْمِنَة ) . فَقَالَ اِبْن رَوَاحَة : لَأُعْتِقَنهَا وَلَأَتَزَوَّجَنهَا , فَفَعَلَ , فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاس مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا : نَكَحَ أَمَة , وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنْ يُنْكَحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ , وَكَانُوا يَنْكِحُونَهُمْ رَغْبَة فِي أَحْسَابهمْ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
السَّادِسَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي نِكَاح إِمَاء أَهْل الْكِتَاب , فَقَالَ مَالِك : لَا يَجُوز نِكَاح الْأَمَة الْكِتَابِيَّة . وَقَالَ أَشْهَب فِي كِتَاب مُحَمَّد , فِيمَنْ أَسْلَمَ وَتَحْته أَمَة كِتَابِيَّة : إِنَّهُ لَا يُفَرَّق بَيْنهمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه , يَجُوز نِكَاح إِمَاء أَهْل الْكِتَاب . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : دَرَسَنَا الشَّيْخ أَبُو بَكْر الشَّاشِيّ بِمَدِينَةِ السَّلَام قَالَ : اِحْتَجَّ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة عَلَى جَوَاز نِكَاح الْأَمَة الْكِتَابِيَّة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَة " . وَوَجْه الدَّلِيل مِنْ الْآيَة أَنَّ اللَّه سُبْحَانه خَايَرَ بَيْن نِكَاح الْأَمَة الْمُؤْمِنَة وَالْمُشْرِكَة , فَلَوْلَا أَنَّ نِكَاح الْأَمَة الْمُشْرِكَة جَائِز لَمَا خَايَرَ اللَّه تَعَالَى بَيْنهمَا ; لِأَنَّ الْمُخَايَرَة إِنَّمَا هِيَ بَيْن الْجَائِزَيْنِ لَا بَيْن جَائِز وَمُمْتَنِع , وَلَا بَيْن مُتَضَادَّيْنِ . وَالْجَوَاب أَنَّ الْمُخَايَرَة بَيْن الضِّدَّيْنِ تَجُوز لُغَة وَقُرْآنًا : لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه قَالَ : " أَصْحَاب الْجَنَّة يَوْمئِذٍ خَيْر مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَن مَقِيلًا " [ الْفُرْقَان : 24 ] . وَقَالَ عُمَر فِي رِسَالَته لِأَبِي مُوسَى : " الرُّجُوع إِلَى الْحَقّ خَيْر مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل " . جَوَاب آخَر : قَوْله تَعَالَى : " وَلَأَمَة " لَمْ يَرِد بِهِ الرِّقّ الْمَمْلُوك وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْآدَمِيَّة , وَالْآدَمِيَّات وَالْآدَمِيُّونَ بِأَجْمَعِهِمْ عَبِيد اللَّه وَإِمَاؤُهُ , قَالَهُ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ أَبُو الْعَبَّاس الْجُرْجَانِيّ .
السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي نِكَاح نِسَاء الْمَجُوس , فَمَنَعَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ اِبْن حَنْبَل : لَا يُعْجِبنِي . وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّة , وَأَنَّ عُمَر قَالَ لَهُ : طَلِّقْهَا . وَقَالَ اِبْن الْقَصَّار : قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : يَجِب عَلَى أَحَد الْقَوْلَيْنِ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا أَنْ تَجُوز مُنَاكَحَتهمْ . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ الْأَمَة الْمَجُوسِيَّة لَا يَجُوز أَنْ تُوطَأ بِمِلْكِ الْيَمِين , وَكَذَلِكَ الْوَثَنِيَّات وَغَيْرهنَّ مِنْ الْكَافِرَات , وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء , إِلَّا مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْن أَيُّوب عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ نِكَاح الْإِمَاء الْمَجُوسِيَّات , فَقَالَا : لَا بَأْس بِذَلِكَ . وَتَأَوَّلَا قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات " . فَهَذَا عِنْدهمَا عَلَى عَقْد النِّكَاح لَا عَلَى الْأَمَة الْمُشْتَرَاة , وَاحْتَجَّا بِسَبْيِ أَوْطَاس , وَأَنَّ الصَّحَابَة نَكَحُوا الْإِمَاء مِنْهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِين . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل شَاذّ , أَمَّا سَبْي أَوْطَاس فَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون الْإِمَاء أَسْلَمْنَ فَجَازَ نِكَاحهنَّ وَأَمَّا الِاحْتِجَاج بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات حَتَّى يُؤْمِنَّ " فَغَلَط ; لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا النِّكَاح عَلَى الْعَقْد , وَالنِّكَاح فِي اللُّغَة يَقَع عَلَى الْعَقْد وَعَلَى الْوَطْء , فَلَمَّا قَالَ : " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات " حَرَّمَ كُلّ نِكَاح يَقَع عَلَى الْمُشْرِكَات مِنْ نِكَاح وَوَطْء . وَقَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : سَأَلْت الزُّهْرِيّ عَنْ الرَّجُل يَشْتَرِي الْمَجُوسِيَّة أَيَطَؤُهَا ؟ فَقَالَ : إِذَا شَهِدَتْ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَطِئَهَا . وَعَنْ يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب قَالَ : لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَطَأهَا حَتَّى تُسْلِم . قَالَ أَبُو عُمَر : قَوْل اِبْن شِهَاب لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَطَأهَا حَتَّى تُسْلِم هَذَا - وَهُوَ أَعْلَم النَّاس بِالْمَغَازِي وَالسِّيَر - دَلِيل عَلَى فَسَاد قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ سَبْي أَوْطَاس وُطِئْنَ وَلَمْ يُسْلِمْنَ . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَة مِنْهُمْ عَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار قَالَا : لَا بَأْس بِوَطْءِ الْمَجُوسِيَّة , وَهَذَا لَمْ يَلْتَفِت إِلَيْهِ أَحَد مِنْ الْفُقَهَاء بِالْأَمْصَارِ . وَقَدْ جَاءَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ - وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ غَزْوه وَلَا غَزْو أَهْل نَاحِيَته إِلَّا الْفُرْس وَمَا وَرَاءَهُمْ مِنْ خُرَاسَان , وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَد أَهْل كِتَاب - مَا يُبَيِّن لَك كَيْف كَانَتْ السِّيرَة فِي نِسَائِهِمْ إِذَا سُبِينَ , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أَسَد , قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد بْن فِرَاس , قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الْعَزِيز , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد , قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَام عَنْ يُونُس عَنْ الْحَسَن , قَالَ : قَالَ رَجُل لَهُ : يَا أَبَا سَعِيد كَيْف كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ إِذَا سَبَيْتُمُوهُنَّ ؟ قَالَ : كُنَّا نُوَجِّههَا إِلَى الْقِبْلَة وَنَأْمُرهَا أَنْ تُسْلِم وَتَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , ثُمَّ نَأْمُرهَا أَنْ تَغْتَسِل , وَإِذَا أَرَادَ صَاحِبهَا أَنْ يُصِيبهَا لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا . وَعَلَى هَذَا تَأْوِيل جَمَاعَة الْعُلَمَاء فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات حَتَّى يُؤْمِنَّ " . أَنَّهُنَّ الْوَثَنِيَّات وَالْمَجُوسِيَّات ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ الْكِتَابِيَّات بِقَوْلِهِ : " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ " يَعْنِي الْعَفَائِف , لَا مَنْ شُهِرَ زِنَاهَا مِنْ الْمُسْلِمَات . وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ نِكَاحهَا وَوَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِين مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُنَّ تَوْبَة , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِفْسَاد النَّسَب .
قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تُنْكِحُوا " أَيْ لَا تُزَوِّجُوا الْمُسْلِمَة مِنْ الْمُشْرِك . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْمُشْرِك لَا يَطَأ الْمُؤْمِنَة بِوَجْهٍ , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَضَاضَة عَلَى الْإِسْلَام . وَالْقُرَّاء عَلَى ضَمّ التَّاء مِنْ " تُنْكِحُوا " .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل بِالنَّصِّ عَلَى أَنْ لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ . قَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن : " النِّكَاح بِوَلِيٍّ فِي كِتَاب اللَّه " , ثُمَّ قَرَأَ " وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ " . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي النِّكَاح بِغَيْرِ وَلِيّ , فَقَالَ كَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم : لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ , رُوِيَ هَذَا الْحَدِيث عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَبِهِ قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَجَابِر بْن زَيْد وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَابْن شُبْرُمَة وَابْن الْمُبَارَك وَالشَّافِعِيّ وَعُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد . قُلْت : وَهُوَ قَوْل مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَبِي ثَوْر وَالطَّبَرِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : حُجَّة مَنْ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) . رَوَى هَذَا الْحَدِيث شُعْبَة وَالثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا , فَمَنْ يَقْبَل الْمَرَاسِيل يَلْزَمهُ قَبُوله , وَأَمَّا مَنْ لَا يَقْبَل الْمَرَاسِيل فَيَلْزَمهُ أَيْضًا , لِأَنَّ الَّذِينَ وَصَلُوهُ مِنْ أَهْل الْحِفْظ وَالثِّقَة . وَمِمَّنْ وَصَلَهُ إِسْرَائِيل وَأَبُو عَوَانَة كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِسْرَائِيل وَمَنْ تَابَعَهُ حُفَّاظ , وَالْحَافِظ تُقْبَل زِيَادَته , وَهَذِهِ الزِّيَادَة يَعْضُدهَا أُصُول , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجهنَّ " [ الْبَقَرَة : 232 ] . وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي مَعْقِل بْن يَسَار إِذْ عَضَلَ أُخْته عَنْ مُرَاجَعَة زَوْجهَا , قَالَهُ الْبُخَارِيّ . وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْإِنْكَاح مَا نُهِيَ عَنْ الْعَضْل . قُلْت : وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى هَذَا أَيْضًا مِنْ الْكِتَاب قَوْله : " فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلهنَّ " [ النِّسَاء : 25 ] وَقَوْل : " وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ " [ النُّور : 32 ] فَلَمْ يُخَاطِب تَعَالَى بِالنِّكَاحِ غَيْر الرِّجَال , وَلَوْ كَانَ إِلَى النِّسَاء لَذَكَرَهُنَّ . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي " النُّور " وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَنْ شُعَيْب فِي قِصَّة مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام : " إِنِّي أُرِيد أَنْ أُنْكِحك " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " الْقَصَص " . وَقَالَ تَعَالَى : " الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء " [ النِّسَاء : 34 ] , فَقَدْ تَعَاضَدَ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى أَنْ لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ . قَالَ الطَّبَرِيّ : فِي حَدِيث حَفْصَة حِين تَأَيَّمَتْ وَعَقَدَ عُمَر عَلَيْهَا النِّكَاح وَلَمْ تَعْقِدهُ هِيَ إِبْطَال قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ لِلْمَرْأَةِ الْبَالِغَة الْمَالِكَة لِنَفْسِهَا تَزْوِيج نَفْسهَا وَعَقْد النِّكَاح دُون وَلِيّهَا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَهَا لَمْ يَكُنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدَع خِطْبَة حَفْصَة لِنَفْسِهَا إِذَا كَانَتْ أَوْلَى بِنَفْسِهَا مِنْ أَبِيهَا , وَخَطَبَهَا إِلَى مَنْ لَا يَمْلِك أَمْرهَا وَلَا الْعَقْد عَلَيْهَا , وَفِيهِ بَيَان قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْأَيِّم أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا ) أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَحَقّ بِنَفْسِهَا فِي أَنَّهُ لَا يَعْقِد عَلَيْهَا إِلَّا بِرِضَاهَا , لَا أَنَّهَا أَحَقّ بِنَفْسِهَا فِي أَنْ تَعْقِد عَقْد النِّكَاح عَلَى نَفْسهَا دُون وَلِيّهَا . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُزَوِّج الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا تُزَوِّج الْمَرْأَة نَفْسهَا فَإِنَّ الزَّانِيَة هِيَ الَّتِي تُزَوِّج نَفْسهَا ) . قَالَ : حَدِيث صَحِيح . وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث سُفْيَان عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيّمَا اِمْرَأَة نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْن وَلِيّهَا فَنِكَاحهَا بَاطِل - ثَلَاث مَرَّات - فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْر لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَان وَلِيّ مَنْ لَا وَلِيّ لَهُ ) وَهَذَا الْحَدِيث صَحِيح . وَلَا اِعْتِبَار بِقَوْلِ اِبْن عُلَيَّة عَنْ اِبْن جُرَيْج أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْت عَنْهُ الزُّهْرِيّ فَلَمْ يَعْرِفهُ , وَلَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَد عَنْ اِبْن جُرَيْج غَيْر اِبْن عُلَيَّة , وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَة عَنْ الزُّهْرِيّ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ , وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيّ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّة ; لِأَنَّهُ قَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ ثِقَات , مِنْهُمْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى وَهُوَ ثِقَة إِمَام وَجَعْفَر بْن رَبِيعَة , فَلَوْ نَسِيَهُ الزُّهْرِيّ لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النِّسْيَان لَا يُعْصَم مِنْهُ اِبْن آدَم , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَسِيَ آدَم فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّته ) . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَى , فَمَنْ سِوَاهُ أَحْرَى أَنْ يَنْسَى , وَمَنْ حَفِظَ فَهُوَ حُجَّة عَلَى مَنْ نَسِيَ , فَإِذَا رَوَى الْخَبَر ثِقَة فَلَا يَضُرّهُ نِسْيَان مَنْ نَسِيَهُ , هَذَا لَوْ صَحَّ مَا حَكَى اِبْن عُلَيَّة عَنْ اِبْن جُرَيْج , فَكَيْف وَقَدْ أَنْكَرَ أَهْل الْعِلْم ذَلِكَ مِنْ حِكَايَته وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَيْهَا . قُلْت : وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيث أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بْن حِبَّان التَّمِيمِيّ الْبُسْتِيّ فِي الْمُسْنَد الصَّحِيح لَهُ - عَلَى التَّقَاسِيم وَالْأَنْوَاع مِنْ غَيْر وُجُود قَطْع فِي سَنَدهَا , وَلَا ثُبُوت جُرْح فِي نَاقِلهَا - عَنْ حَفْص بْن غِيَاث عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْل وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاح عَلَى غَيْر ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِل فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَان وَلِيّ مَنْ لَا وَلِيّ لَهُ ) . قَالَ أَبُو حَاتِم : لَمْ يَقُلْ أَحَد فِي خَبَر اِبْن جُرَيْج عَنْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيّ هَذَا : ( وَشَاهِدَيْ عَدْل ) إِلَّا ثَلَاثَة أَنْفُس : سُوَيْد بْن يَحْيَى الْأُمَوِيّ عَنْ حَفْص بْن غِيَاث وَعَبْد اللَّه بْن عَبْد الْوَهَّاب الْجُمَحِيّ عَنْ خَالِد بْن الْحَارِث وَعَبْد الرَّحْمَن بْن يُونُس الرَّقِّيّ عَنْ عِيسَى بْن يُونُس , وَلَا يَصِحّ فِي الشَّاهِدَيْنِ غَيْر هَذَا الْخَبَر , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْخَبَر فَقَدْ صَرَّحَ الْكِتَاب وَالسُّنَّة بِأَنْ لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ , فَلَا مَعْنَى لِمَا خَالَفَهُمَا . وَقَدْ كَانَ الزُّهْرِيّ وَالشَّعْبِيّ يَقُولَانِ : " إِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَة نَفْسهَا كُفُؤًا بِشَاهِدَيْنِ فَذَلِكَ نِكَاح جَائِز " . وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو حَنِيفَة يَقُول : إِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَة نَفْسهَا كُفُؤًا بِشَاهِدَيْنِ فَذَلِكَ نِكَاح جَائِز , وَهُوَ قَوْل زُفَر . وَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسهَا غَيْر كُفْء فَالنِّكَاح جَائِز , وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنهمَا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَأَمَّا مَا قَالَهُ النُّعْمَان فَمُخَالِف لِلسُّنَّةِ , خَارِج عَنْ قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعِلْم . وَبِالْخَبَرِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقُول . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : لَا يَجُوز النِّكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ , فَإِنْ سَلَّمَ الْوَلِيّ جَازَ , وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَلِّم وَالزَّوْج كُفْء أَجَازَهُ الْقَاضِي . وَإِنَّمَا يَتِمّ النِّكَاح فِي قَوْله حِين يُجِيزهُ الْقَاضِي , وَهُوَ قَوْل مُحَمَّد بْن الْحَسَن , وَقَدْ كَانَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن يَقُول : يَأْمُر الْقَاضِي الْوَلِيّ بِإِجَازَتِهِ , فَإِنْ لَمْ يَفْعَل اِسْتَأْنَفَ عَقْدًا . وَلَا خِلَاف بَيْن أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا وَلِيّهَا فَعَقَدَتْ النِّكَاح بِنَفْسِهَا جَازَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : " إِذَا وَلَّتْ أَمْرهَا رَجُلًا فَزَوَّجَهَا كُفُؤًا فَالنِّكَاح جَائِز , وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّق بَيْنهمَا , إِلَّا أَنْ تَكُون عَرَبِيَّة تَزَوَّجَتْ مَوْلًى " , وَهَذَا نَحْو مَذْهَب مَالِك عَلَى مَا يَأْتِي . وَحَمَلَ الْقَائِلُونَ بِمَذْهَبِ الزُّهْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّعْبِيّ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) عَلَى الْكَمَال لَا عَلَى الْوُجُوب , كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا صَلَاة لِجَارِ الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد ) /و ( لَا حَظّ فِي الْإِسْلَام لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاة ) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجهنَّ " [ الْبَقَرَة : 232 ] , وَقَوْله تَعَالَى : " فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ " [ الْبَقَرَة : 234 ] , وَبِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ سِمَاك بْن حَرْب قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ : اِمْرَأَة أَنَا وَلِيّهَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِي ؟ فَقَالَ عَلِيّ : يُنْظَر فِيمَا صَنَعَتْ , فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ كُفُؤًا أَجَزْنَا ذَلِكَ لَهَا , وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِكُفْءٍ جَعَلْنَا ذَلِكَ إِلَيْك . وَفِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوَّجَتْ بِنْت أَخِيهَا عَبْد الرَّحْمَن وَهُوَ غَائِب , الْحَدِيث . وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم بْن مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رِضَى اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا أَنْكَحَتْ رَجُلًا هُوَ الْمُنْذِر بْن الزُّبَيْر اِمْرَأَة مِنْ بَنِي أَخِيهَا فَضَرَبَتْ بَيْنهمْ بِسِتْرٍ , ثُمَّ تَكَلَّمَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْد أَمَرَتْ رَجُلًا فَأَنْكَحَ , ثُمَّ قَالَتْ : لَيْسَ عَلَى النِّسَاء إِنْكَاح . فَالْوَجْه فِي حَدِيث مَالِك أَنَّ عَائِشَة قَرَّرَتْ الْمَهْر وَأَحْوَال النِّكَاح , وَتَوَلَّى الْعَقْد أَحَد عَصَبَتهَا , وَنُسِبَ الْعَقْد إِلَى عَائِشَة لَمَّا كَانَ تَقْرِيره إِلَيْهَا .
ذَكَرَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي الْأَوْلِيَاء , مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ مَرَّة : كُلّ مَنْ وَضَعَ الْمَرْأَة فِي مَنْصِب حَسَن فَهُوَ وَلِيّهَا , سَوَاء كَانَ مِنْ الْعَصَبَة أَوْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَام أَوْ الْأَجَانِب أَوْ الْإِمَام أَوْ الْوَصِيّ . وَقَالَ مَرَّة : الْأَوْلِيَاء مِنْ الْعَصَبَة , فَمَنْ وَضَعَهَا مِنْهُمْ فِي مَنْصِب حَسَن فَهُوَ وَلِيّ . وَقَالَ أَبُو عُمَر : قَالَ مَالِك فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ : إِنَّ الْمَرْأَة إِذَا زَوَّجَهَا غَيْر وَلِيّهَا بِإِذْنِهَا فَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَة لَهَا فِي النَّاس حَال كَانَ وَلِيّهَا بِالْخِيَارِ فِي فَسْخ النِّكَاح وَإِقْرَاره , وَإِنْ كَانَتْ دَنِيئَة كَالْمُعْتَقَةِ وَالسَّوْدَاء وَالسِّعَايَة والْمَسْلَمَانِيّة , وَمَنْ لَا حَال لَهَا جَازَ نِكَاحهَا , وَلَا خِيَار لِوَلِيِّهَا لِأَنَّ كُلّ وَاحِد كُفْء لَهَا , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّ الشَّرِيفَة وَالدَّنِيئَة لَا يُزَوِّجهَا إِلَّا وَلِيّهَا أَوْ السُّلْطَان , وَهَذَا الْقَوْل اِخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر , قَالَ : وَأَمَّا تَفْرِيق مَالِك بَيْن الْمِسْكِينَة وَاَلَّتِي لَهَا قَدْر فَغَيْر جَائِز ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَوَّى بَيْن أَحْكَامهمْ فِي الدِّمَاء فَقَالَ : ( الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ ) . وَإِذَا كَانُوا فِي الدِّمَاء سَوَاء فَهُمْ فِي غَيْر ذَلِكَ شَيْء وَاحِد . وَقَالَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق : لَمَّا أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه بِالنِّكَاحِ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض فَقَالَ تَعَالَى : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض " [ التَّوْبَة : 71 ] وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْجُمْلَة هَكَذَا يَرِث بَعْضهمْ بَعْضًا , فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَا وَارِث لَهُ لَكَانَ مِيرَاثه لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ جَنَى جِنَايَة لَعَقَلَ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ , ثُمَّ تَكُون وِلَايَة أَقْرَب مِنْ وِلَايَة , وَقَرَابَة أَقْرَب مِنْ قَرَابَة . وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَة بِمَوْضِعٍ لَا سُلْطَان فِيهِ وَلَا وَلِيّ لَهَا فَإِنَّهَا تُصَيِّر أَمْرهَا إِلَى مَنْ يُوثَق بِهِ مِنْ جِيرَانهَا , فَيُزَوِّجهَا وَيَكُون هُوَ وَلِيّهَا فِي هَذِهِ الْحَال ; لِأَنَّ النَّاس لَا بُدّ لَهُمْ مِنْ التَّزْوِيج , وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ فِيهِ بِأَحْسَن مَا يُمْكِن , وَعَلَى هَذَا قَالَ مَالِك فِي الْمَرْأَة الضَّعِيفَة الْحَال : إِنَّهُ يُزَوِّجهَا مَنْ تُسْنِد أَمْرهَا إِلَيْهِ ; لِأَنَّهَا مِمَّنْ تَضْعُف عَنْ السُّلْطَان فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَا سُلْطَان بِحَضْرَتِهَا , فَرَجَعَتْ فِي الْجُمْلَة إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلِيَاؤُهَا , فَأَمَّا إِذَا صَيَّرَتْ أَمْرهَا إِلَى رَجُل وَتَرَكَتْ أَوْلِيَاءَهَا فَإِنَّهَا أَخَذَتْ الْأَمْر مِنْ غَيْر وَجْهه , وَفَعَلَتْ مَا يُنْكِرهُ الْحَاكِم عَلَيْهَا وَالْمُسْلِمُونَ , فَيُفْسَخ ذَلِكَ النِّكَاح مِنْ غَيْر أَنْ يُعْلَم أَنَّ حَقِيقَته حَرَام , لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض , وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَاف , وَلَكِنْ يُفْسَخ لِتَنَاوُلِ الْأَمْر مِنْ غَيْر وَجْهه , وَلِأَنَّهُ أَحْوَط لِلْفُرُوجِ وَلِتَحْصِينِهَا , فَإِذَا وَقَعَ الدُّخُول وَتَطَاوَلَ الْأَمْر وَوَلَدَتْ الْأَوْلَاد وَكَانَ صَوَابًا لَمْ يَجُزْ الْفَسْخ ; لِأَنَّ الْأُمُور إِذَا تَفَاوَتَتْ لَمْ يُرَدّ مِنْهَا إِلَّا الْحَرَام الَّذِي لَا يُشَكّ فِيهِ , وَيُشْبِه مَا فَاتَ مِنْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَاكِم إِذَا حَكَمَ بِحُكْمٍ لَمْ يُفْسَخ إِلَّا أَنْ يَكُون خَطَأ لَا شَكّ فِيهِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه فَالنِّكَاح عِنْدهمْ بِغَيْرِ وَلِيّ مَفْسُوخ أَبَدًا قَبْل الدُّخُول وَبَعْده , وَلَا يَتَوَارَثَانِ إِنْ مَاتَ أَحَدهمَا . وَالْوَلِيّ عِنْدهمْ مِنْ فَرَائِض النِّكَاح , لِقِيَامِ الدَّلِيل عِنْدهمْ مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة : قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ " [ النُّور : 32 ] كَمَا قَالَ : " فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلهنَّ " [ النِّسَاء : 25 ] , وَقَالَ مُخَاطِبًا لِلْأَوْلِيَاءِ : " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ " [ الْبَقَرَة : 232 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) . وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْن دَنِيَّة الْحَال وَبَيْن الشَّرِيفَة , لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنْ لَا فَرْق بَيْنهمْ فِي الدِّمَاء , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ ) . وَسَائِر الْأَحْكَام كَذَلِكَ . وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَرْق بَيْن الرَّفِيع وَالْوَضِيع فِي كِتَاب وَلَا سُنَّة .
وَاخْتَلَفُوا فِي النِّكَاح يَقَع عَلَى غَيْر وَلِيّ ثُمَّ يُجِيزهُ الْوَلِيّ قَبْل الدُّخُول , فَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه إِلَّا عَبْد الْمَلِك : ذَلِكَ جَائِز , إِذَا كَانَتْ إِجَازَته لِذَلِكَ بِالْقُرْبِ , وَسَوَاء دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُل . هَذَا إِذَا عَقَدَ النِّكَاح غَيْر وَلِيّ وَلَمْ تَعْقِدهُ الْمَرْأَة بِنَفْسِهَا , فَإِنْ زَوَّجَتْ الْمَرْأَة نَفْسهَا وَعَقَدَتْ عُقْدَة النِّكَاح مِنْ غَيْر وَلِيّ قَرِيب وَلَا بَعِيد مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ هَذَا النِّكَاح لَا يُقَرّ أَبَدًا عَلَى حَال وَإِنْ تَطَاوَلَ وَوَلَدَتْ الْأَوْلَاد , وَلَكِنَّهُ يَلْحَق الْوَلَد إِنْ دَخَلَ , وَيَسْقُط الْحَدّ , وَلَا بُدّ مِنْ فَسْخ ذَلِكَ النِّكَاح عَلَى كُلّ حَال . وَقَالَ اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك : الْفَسْخ فِيهِ بِغَيْرِ طَلَاق .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَنَازِل الْأَوْلِيَاء وَتَرْتِيبهمْ , فَكَانَ مَالِك يَقُول : أَوَّلهمْ الْبَنُونَ وَإِنْ سَفَلُوا , ثُمَّ الْآبَاء , ثُمَّ الْإِخْوَة لِلْأَبِ وَالْأُمّ , ثُمَّ لِلْأَبِ , ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَة لِلْأَبِ وَالْأُمّ , ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَة لِلْأَبِ , ثُمَّ الْأَجْدَاد لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَوْا , ثُمَّ الْعُمُومَة عَلَى تَرْتِيب الْإِخْوَة , ثُمَّ بَنُوهُمْ عَلَى تَرْتِيب بَنِي الْإِخْوَة وَإِنْ سَفَلُوا , ثُمَّ الْمَوْلَى ثُمَّ السُّلْطَان أَوْ قَاضِيه . وَالْوَصِيّ مُقَدَّم فِي إِنْكَاح الْأَيْتَام عَلَى الْأَوْلِيَاء , وَهُوَ خَلِيفَة الْأَب وَوَكِيله , فَأَشْبَهَ حَاله لَوْ كَانَ الْأَب حَيًّا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا وِلَايَة لِأَحَدٍ مَعَ الْأَب , فَإِنْ مَاتَ فَالْجَدّ , ثُمَّ أَب أَب الْجَدّ ; لِأَنَّهُمْ كُلّهمْ آبَاء . وَالْوِلَايَة بَعْد الْجَدّ لِلْإِخْوَةِ , ثُمَّ الْأَقْرَب . وَقَالَ الْمُزَنِيّ : قَالَ فِي الْجَدِيد : مَنْ اِنْفَرَدَ بِأُمٍّ كَانَ أَوْلَى بِالنِّكَاحِ , كَالْمِيرَاثِ . وَقَالَ فِي الْقَدِيم : هُمَا سَوَاء . قُلْت : وَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِك مِثْل قَوْل الشَّافِعِيّ , وَأَنَّ الْأَب أَوْلَى مِنْ الِابْن , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَة , حَكَاهُ الْبَاجِيّ . وَرُوِيَ عَنْ الْمُغِيرَة أَنَّهُ قَالَ : " الْجَدّ أَوْلَى مِنْ الْإِخْوَة " , وَالْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب مَا قَدَّمْنَاهُ . وَقَالَ أَحْمَد : أَحَقّهمْ بِالْمَرْأَةِ أَنْ يُزَوِّجهَا أَبُوهَا , ثُمَّ الِابْن , ثُمَّ الْأَخ , ثُمَّ اِبْنه , ثُمَّ الْعَمّ . وَقَالَ إِسْحَاق : الِابْن أَوْلَى مِنْ الْأَب , كَمَا قَالَهُ مَالِك , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر ; لِأَنَّ عُمَر اِبْن أُمّ سَلَمَة زَوَّجَهَا بِإِذْنِهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْت : أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ أُمّ سَلَمَة وَتَرْجَمَ لَهُ ( إِنْكَاح الِابْن أُمّه ) . قُلْت : وَكَثِيرًا مَا يُسْتَدَلّ بِهَذَا عُلَمَاؤُنَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ , وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاح أَنَّ عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة قَالَ : كُنْت غُلَامًا فِي حِجْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدَيَّ تَطِيش فِي الصَّحْفَة , فَقَالَ : ( يَا غُلَام سَمِّ اللَّه وَكُلْ بِيَمِينِك وَكُلْ مِمَّا يَلِيك ) . وَقَالَ أَبُو عُمَر فِي كِتَاب الِاسْتِيعَاب : عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة يُكَنَّى أَبَا حَفْص , وُلِدَ فِي السَّنَة الثَّانِيَة مِنْ الْهِجْرَة بِأَرْضِ الْحَبَشَة . وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ يَوْم قُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْن تِسْع سِنِينَ . قُلْت : وَمَنْ كَانَ سِنّه هَذَا لَا يَصْلُح أَنْ يَكُون وَلِيًّا , وَلَكِنْ ذَكَرَ أَبُو عُمَر أَنَّ لِأَبِي سَلَمَة مِنْ أُمّ سَلَمَة اِبْنًا آخَر اِسْمه سَلَمَة , وَهُوَ الَّذِي عَقَدَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمّه أُمّ سَلَمَة , وَكَانَ سَلَمَة أَسَنّ مِنْ أَخِيهِ عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة , وَلَا أَحْفَظ لَهُ رِوَايَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ رَوَى عَنْهُ عُمَر أَخُوهُ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يُزَوِّج الْمَرْأَة الْأَبْعَد مِنْ الْأَوْلِيَاء - كَذَا وَقَعَ , وَالْأَقْرَب عِبَارَة أَنْ يُقَال : اُخْتُلِفَ فِي الْمَرْأَة يُزَوِّجهَا مِنْ أَوْلِيَائِهَا الْأَبْعَد وَالْأَقْعَد حَاضِر , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : النِّكَاح بَاطِل . وَقَالَ مَالِك : النِّكَاح جَائِز . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : إِنْ لَمْ يُنْكِر الْأَقْعَد شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا رَدَّهُ نَفَذَ , وَإِنْ أَنْكَرَهُ وَهِيَ ثَيِّب أَوْ بِكْر بَالِغ يَتِيمَة وَلَا وَصِيّ لَهَا فَقَدْ اِخْتَلَفَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة فِي ذَلِكَ , فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : لَا يُرَدّ ذَلِكَ وَيَنْفُذ , لِأَنَّهُ نِكَاح اِنْعَقَدَ بِإِذْنِ وَلِيّ مِنْ الْفَخِذ وَالْعَشِيرَة . وَمَنْ قَالَ هَذَا مِنْهُمْ لَا يَنْفُذ قَالَ : إِنَّمَا جَاءَتْ الرُّتْبَة فِي الْأَوْلِيَاء عَلَى الْأَفْضَل وَالْأَوْلَى , وَذَلِكَ مُسْتَحَبّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَهَذَا تَحْصِيل مَذْهَب مَالِك عِنْد أَكْثَر أَصْحَابه , وَإِيَّاهُ اِخْتَارَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق وَأَتْبَاعه . وَقِيلَ : يَنْظُر السُّلْطَان فِي ذَلِكَ وَيَسْأَل الْوَلِيّ الْأَقْرَب عَلَى مَا يُنْكِرهُ , ثُمَّ إِنْ رَأَى إِمْضَاءَهُ أَمْضَاهُ , وَإِنْ رَأَى أَنْ يَرُدّهُ رَدَّهُ . وَقِيلَ : بَلْ لِلْأَقْعَدِ رَدّه عَلَى كُلّ حَال ; لِأَنَّهُ حَقّ لَهُ . وَقِيلَ : لَهُ رَدّه وَإِجَازَته مَا لَمْ يَطُلْ مُكْثهَا وَتَلِد الْأَوْلَاد , وَهَذِهِ كُلّهَا أَقَاوِيل أَهْل الْمَدِينَة . فَلَوْ كَانَ الْوَلِيّ الْأَقْرَب مَحْبُوسًا أَوْ سَفِيهًا زَوَّجَهَا مَنْ يَلِيه مِنْ أَوْلِيَائِهَا , وَعُدَّ كَالْمَيِّتِ مِنْهُمْ , وَكَذَلِكَ إِذَا غَابَ الْأَقْرَب مِنْ أَوْلِيَائِهَا غَيْبَة بَعِيدَة أَوْ غَيْبَة لَا يُرْجَى لَهَا أَوْبَة سَرِيعَة زَوَّجَهَا مَنْ يَلِيه مِنْ الْأَوْلِيَاء . وَقَدْ قِيلَ : إِذَا غَابَ أَقْرَب أَوْلِيَائِهَا لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي يَلِيه تَزْوِيجهَا , وَيُزَوِّجهَا الْحَاكِم , وَالْأَوَّل قَوْل مَالِك . وَإِذَا كَانَ الْوَلِيَّانِ قَدْ اِسْتَوَيَا فِي الْقُعْدُد وَغَابَ أَحَدهمَا وَفَوَّضَتْ الْمَرْأَة عَقْد نِكَاحهَا إِلَى الْحَاضِر لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِبِ إِنْ قَدِمَ نُكْرَتُهُ . وَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَفَوَّضَتْ أَمْرهَا إِلَى أَحَدهمَا لَمْ يُزَوِّجهَا إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبه , فَإِنْ اِخْتَلَفَا نَظَرَ الْحَاكِم فِي ذَلِكَ , وَأَجَازَ عَلَيْهَا رَأْي أَحْسَنهمَا نَظَرًا لَهَا , رَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك . وَأَمَّا الشَّهَادَة عَلَى النِّكَاح فَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه , وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ شُهْرَته وَالْإِعْلَان بِهِ , وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُون نِكَاح سِرّ . قَالَ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك : لَوْ زَوَّجَ بِبَيِّنَةٍ , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ النِّكَاح ; لِأَنَّهُ نِكَاح سِرّ . وَإِنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ بَيِّنَة عَلَى غَيْر اِسْتِسْرَار جَازَ , وَأَشْهَدَا فِيمَا يَسْتَقْبِلَانِ . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك فِي الرَّجُل يَتَزَوَّج الْمَرْأَة بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَيَسْتَكْتِمهُمَا قَالَ : يُفَرَّق بَيْنهمَا بِتَطْلِيقَةٍ وَلَا يَجُوز النِّكَاح , وَلَهَا صَدَاقهَا إِنْ كَانَ أَصَابَهَا , وَلَا يُعَاقَب الشَّاهِدَانِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا : إِذَا تَزَوَّجَهَا بِشَاهِدَيْنِ وَقَالَ لَهُمَا : اُكْتُمَا جَازَ النِّكَاح . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا قَوْل يَحْيَى بْن يَحْيَى اللَّيْثِيّ الْأَنْدَلُسِيّ صَاحِبنَا , قَالَ : كُلّ نِكَاح شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ حَدّ السِّرّ , وَأَظُنّهُ حَكَاهُ عَنْ اللَّيْث بْن سَعْد . وَالسِّرّ عِنْد الشَّافِعِيّ وَالْكُوفِيِّينَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ : كُلّ نِكَاح لَمْ يَشْهَد عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَصَاعِدًا , وَيُفْسَخ عَلَى كُلّ حَال . قُلْت : قَوْل الشَّافِعِيّ أَصَحّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْل وَوَلِيّ مُرْشِد ) , وَلَا مُخَالِف لَهُ مِنْ الصَّحَابَة فِيمَا عَلِمْته . وَاحْتَجَّ مَالِك لِمَذْهَبِهِ أَنَّ الْبُيُوع الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِيهَا الْإِشْهَاد عِنْد الْعَقْد , وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَة بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فَرَائِض الْبُيُوع . وَالنِّكَاح الَّذِي لَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى فِيهِ الْأَشْهَاد أَحْرَى بِأَلَّا يَكُون الْإِشْهَاد فِيهِ مِنْ شُرُوطه وَفَرَائِضه , وَإِنَّمَا الْغَرَض الْإِعْلَان وَالظُّهُور لِحِفْظِ الْأَنْسَاب . وَالْإِشْهَاد يَصْلُح بَعْد الْعَقْد لِلتَّدَاعِي وَالِاخْتِلَاف فِيمَا يَنْعَقِد بَيْن الْمُتَنَاكِحِينَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَعْلِنُوا النِّكَاح ) . وَقَوْل مَالِك هَذَا قَوْل اِبْن شِهَاب وَأَكْثَر أَهْل الْمَدِينَة . " وَلَعَبْد مُؤْمِن " أَيْ مَمْلُوك " خَيْر مِنْ مُشْرِك " أَيْ حَسِيب . " وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ " أَيْ حَسَبه وَمَاله , حَسَب مَا تَقَدَّمَ .
الثَّانِيَة : لَمَّا أَذِنَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي مُخَالَطَة الْأَيْتَام , وَفِي مُخَالَطَة النِّكَاح بَيَّنَ أَنَّ مُنَاكَحَة الْمُشْرِكِينَ لَا تَصِحّ . وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَبِي مَرْثَد الْغَنَوِيّ , وَقِيلَ : فِي مَرْثَد بْن أَبِي مَرْثَد , وَاسْمه كَنَّاز بْن حُصَيْن الْغَنَوِيّ , بَعَثَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة سِرًّا لِيُخْرِج رَجُلًا مِنْ أَصْحَابه , وَكَانَتْ لَهُ بِمَكَّة اِمْرَأَة يُحِبّهَا فِي الْجَاهِلِيَّة يُقَال لَهَا " عَنَاق " فَجَاءَتْهُ , فَقَالَ لَهَا : إِنَّ الْإِسْلَام حَرَّمَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة , قَالَتْ : فَتَزَوَّجْنِي , قَالَ : حَتَّى أَسْتَأْذِن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَنَهَاهُ عَنْ التَّزَوُّج بِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَهِيَ مُشْرِكَة . وَسَيَأْتِي فِي " النُّور " بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَتْ طَائِفَة : حَرَّمَ اللَّه نِكَاح الْمُشْرِكَات فِي سُورَة " الْبَقَرَة " ثُمَّ نُسِخَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَة نِسَاء أَهْل الْكِتَاب , فَأَحَلَّهُنَّ فِي سُورَة " الْمَائِدَة " . وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَبِهِ قَالَ مَالِك بْن أَنَس وَسُفْيَان بْن سَعِيد الثَّوْرِيّ , وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ . وَقَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر : لَفْظ الْآيَة الْعُمُوم فِي كُلّ كَافِرَة , وَالْمُرَاد بِهَا الْخُصُوص فِي الْكِتَابِيَّات , وَبَيَّنَتْ الْخُصُوص آيَة " الْمَائِدَة " وَلَمْ يَتَنَاوَل الْعُمُوم قَطُّ الْكِتَابِيَّات . وَهَذَا أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ , وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل يَتَنَاوَلهُنَّ الْعُمُوم , ثُمَّ نَسَخَتْ آيَة " الْمَائِدَة " بَعْض الْعُمُوم . وَهَذَا مَذْهَب مَالِك رَحِمَهُ اللَّه , ذَكَرَهُ اِبْن حَبِيب , وَقَالَ : وَنِكَاح الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَلَّهُ اللَّه تَعَالَى مُسْتَثْقَل مَذْمُوم . وَقَالَ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ : ذَهَبَ قَوْم فَجَعَلُوا الْآيَة الَّتِي فِي " الْبَقَرَة " هِيَ النَّاسِخَة , وَاَلَّتِي فِي " الْمَائِدَة " هِيَ الْمَنْسُوخَة , فَحَرَّمُوا نِكَاح كُلّ مُشْرِكَة كِتَابِيَّة أَوْ غَيْر كِتَابِيَّة . قَالَ النَّحَّاس : وَمِنْ الْحُجَّة لِقَائِلِ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَده مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّد بْن رَيَّان , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن رُمْح , قَالَ : حَدَّثَنَا اللَّيْث عَنْ نَافِع أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاح الرَّجُل النَّصْرَانِيَّة أَوْ الْيَهُودِيَّة قَالَ : حَرَّمَ اللَّه الْمُشْرِكَات عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا أَعْرِف شَيْئًا مِنْ الْإِشْرَاك أَعْظَم مِنْ أَنْ تَقُول الْمَرْأَة رَبّهَا عِيسَى , أَوْ عَبْد مِنْ عِبَاد اللَّه ! . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل خَارِج عَنْ قَوْل الْجَمَاعَة الَّذِينَ تَقُوم بِهِمْ الْحُجَّة , لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِتَحْلِيلِ نِكَاح نِسَاء أَهْل الْكِتَاب مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ جَمَاعَة , مِنْهُمْ عُثْمَان وَطَلْحَة وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَحُذَيْفَة . وَمِنْ التَّابِعِينَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَطَاوُس وَعِكْرِمَة وَالشَّعْبِيّ وَالضَّحَّاك , وَفُقَهَاء الْأَمْصَار عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَيَمْتَنِع أَنْ تَكُون هَذِهِ الْآيَة مِنْ سُورَة " الْبَقَرَة " نَاسِخَة لِلْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَة " الْمَائِدَة " لِأَنَّ " الْبَقَرَة " مِنْ أَوَّل مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ , و " الْمَائِدَة " مِنْ آخِر مَا نَزَلَ . وَإِنَّمَا الْآخَر يَنْسَخ الْأَوَّل , وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عُمَر فَلَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّ اِبْن عُمَر رَحِمَهُ اللَّه كَانَ رَجُلًا مُتَوَقِّفًا , فَلَمَّا سَمِعَ الْآيَتَيْنِ , فِي وَاحِدَة التَّحْلِيل , وَفِي أُخْرَى التَّحْرِيم وَلَمْ يَبْلُغهُ النَّسْخ تَوَقَّفَ , وَلَمْ يُؤْخَذ عَنْهُ ذِكْر النَّسْخ وَإِنَّمَا تُؤُوِّلَ عَلَيْهِ , وَلَيْسَ يُؤْخَذ النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ بِالتَّأْوِيلِ . وَذَكَرَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي بَعْض مَا رُوِيَ عَنْهُ : ( إِنَّ الْآيَة عَامَّة فِي الْوَثَنِيَّات وَالْمَجُوسِيَّات وَالْكِتَابِيَّات , وَكُلّ مَنْ عَلَى غَيْر الْإِسْلَام حَرَام ) , فَعَلَى هَذَا هِيَ نَاسِخَة لِلْآيَةِ الَّتِي فِي " الْمَائِدَة " وَيُنْظَر إِلَى هَذَا قَوْل اِبْن عُمَر فِي الْمُوَطَّإِ : وَلَا أَعْلَم إِشْرَاكًا أَعْظَم مِنْ أَنْ تَقُول الْمَرْأَة رَبّهَا عِيسَى . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْن طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه وَحُذَيْفَة بْن الْيَمَان وَبَيْن كِتَابِيَّتَيْنِ وَقَالَا : نُطَلِّقُ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَغْضَب , فَقَالَ : لَوْ جَازَ طَلَاقكُمَا لَجَازَ نِكَاحكُمَا ! وَلَكِنْ أُفَرِّق بَيْنكُمَا صَغْرَة قَمْأَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا لَا يَسْتَنِد جِيدًا , وَأُسْنِدَ مِنْهُ أَنَّ عُمَر أَرَادَ التَّفْرِيق بَيْنهمَا فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَة : أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَام فَأُخْلِي سَبِيلهَا يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ : لَا أَزْعُم أَنَّهَا حَرَام , وَلَكِنِّي أَخَاف أَنْ تَعَاطَوْا الْمُومِسَات مِنْهُنَّ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس نَحْو هَذَا . وَذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر جَوَاز نِكَاح الْكِتَابِيَّات عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب , وَمَنْ ذَكَرَ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي قَوْل النَّحَّاس . وَقَالَ فِي آخِر كَلَامه : وَلَا يَصِحّ عَنْ أَحَد مِنْ الْأَوَائِل أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : وَأَمَّا الْآيَتَانِ فَلَا تَعَارُض بَيْنهمَا , فَإِنَّ ظَاهِر لَفْظ الشِّرْك لَا يَتَنَاوَل أَهْل الْكِتَاب , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا يَوَدّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّل عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبّكُمْ " [ الْبَقَرَة : 105 ] , وَقَالَ : " لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَالْمُشْرِكِينَ " [ الْبَيِّنَة : 1 ] فَفَرَّقَ بَيْنهمْ فِي اللَّفْظ , وَظَاهِر الْعَطْف يَقْتَضِي مُغَايَرَة بَيْن الْمَعْطُوف وَالْمَعْطُوف عَلَيْهِ , وَأَيْضًا فَاسْم الشِّرْك عُمُوم وَلَيْسَ بِنَصٍّ , وَقَوْله تَعَالَى : " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " [ الْمَائِدَة : 5 ] بَعْد قَوْله " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الْمُؤْمِنَات " نَصّ , فَلَا تَعَارُض بَيْن الْمُحْتَمَل وَبَيْن مَا لَا يُحْتَمَل . فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ " أَيْ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ وَأَسْلَمُوا , كَقَوْلِهِ " وَإِنَّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ " [ آل عِمْرَان : 199 ] الْآيَة . وَقَوْله : " مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُمَّة قَائِمَة " [ آل عِمْرَان : 113 ] الْآيَة . قِيلَ لَهُ : هَذَا خِلَاف نَصّ الْآيَة فِي قَوْله : " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ " وَخِلَاف مَا قَالَهُ الْجُمْهُور , فَإِنَّهُ لَا يُشْكِل عَلَى أَحَد جَوَاز التَّزْوِيج مِمَّنْ أَسْلَمَ وَصَارَ مِنْ أَعْيَان الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ قَالُوا : فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّار " فَجَعَلَ الْعِلَّة فِي تَحْرِيم نِكَاحهنَّ الدُّعَاء إِلَى النَّار . وَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ عِلَّة لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَة " لِأَنَّ الْمُشْرِك يَدْعُو إِلَى النَّار , وَهَذِهِ الْعِلَّة مُطَّرِدَة فِي جَمِيع الْكُفَّار , فَالْمُسْلِم خَيْر مِنْ الْكَافِر مُطْلَقًا , وَهَذَا بَيِّن .
الرَّابِعَة : وَأَمَّا نِكَاح أَهْل الْكِتَاب إِذَا كَانُوا حَرْبًا فَلَا يَحِلّ , وَسُئِلَ اِبْن عَبَّاس عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يَحِلّ , وَتَلَا قَوْل اللَّه تَعَالَى : " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " [ التَّوْبَة : 29 ] إِلَى قَوْله " صَاغِرُونَ " . قَالَ الْمُحَدِّث : حَدَّثْت بِذَلِكَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ فَأَعْجَبَهُ . وَكَرِهَ مَالِك تَزَوُّج الْحَرْبِيَّات , لِعِلَّةِ تَرْك الْوَلَد فِي دَار الْحَرْب , وَلِتَصَرُّفِهَا فِي الْخَمْر وَالْخِنْزِير .
الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : " وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَة " إِخْبَار بِأَنَّ الْمُؤْمِنَة الْمَمْلُوكَة خَيْر مِنْ الْمُشْرِكَة , وَإِنْ كَانَتْ ذَات الْحَسَب وَالْمَال . " وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ " فِي الْحُسْن وَغَيْر ذَلِكَ , هَذَا قَوْل الطَّبَرِيّ وَغَيْره . وَنَزَلَتْ فِي خَنْسَاء وَلِيدَة سَوْدَاء كَانَتْ لِحُذَيْفَة بْن الْيَمَان , فَقَالَ لَهَا حُذَيْفَة : يَا خَنْسَاء , قَدْ ذُكِرْت فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى مَعَ سَوَادك وَدَمَامَتك , وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرك فِي كِتَابه , فَأَعْتَقَهَا حُذَيْفَة وَتَزَوَّجَهَا . وَقَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة , كَانَتْ لَهُ أَمَة سَوْدَاء فَلَطَمَهَا فِي غَضَب ثُمَّ نَدِمَ , فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ , فَقَالَ : ( مَا هِيَ يَا عَبْد اللَّه ) قَالَ : تَصُوم وَتُصَلِّي وَتُحْسِن الْوُضُوء وَتَشْهَد الشَّهَادَتَيْنِ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذِهِ مُؤْمِنَة ) . فَقَالَ اِبْن رَوَاحَة : لَأُعْتِقَنهَا وَلَأَتَزَوَّجَنهَا , فَفَعَلَ , فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاس مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا : نَكَحَ أَمَة , وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنْ يُنْكَحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ , وَكَانُوا يَنْكِحُونَهُمْ رَغْبَة فِي أَحْسَابهمْ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
السَّادِسَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي نِكَاح إِمَاء أَهْل الْكِتَاب , فَقَالَ مَالِك : لَا يَجُوز نِكَاح الْأَمَة الْكِتَابِيَّة . وَقَالَ أَشْهَب فِي كِتَاب مُحَمَّد , فِيمَنْ أَسْلَمَ وَتَحْته أَمَة كِتَابِيَّة : إِنَّهُ لَا يُفَرَّق بَيْنهمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه , يَجُوز نِكَاح إِمَاء أَهْل الْكِتَاب . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : دَرَسَنَا الشَّيْخ أَبُو بَكْر الشَّاشِيّ بِمَدِينَةِ السَّلَام قَالَ : اِحْتَجَّ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة عَلَى جَوَاز نِكَاح الْأَمَة الْكِتَابِيَّة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَة " . وَوَجْه الدَّلِيل مِنْ الْآيَة أَنَّ اللَّه سُبْحَانه خَايَرَ بَيْن نِكَاح الْأَمَة الْمُؤْمِنَة وَالْمُشْرِكَة , فَلَوْلَا أَنَّ نِكَاح الْأَمَة الْمُشْرِكَة جَائِز لَمَا خَايَرَ اللَّه تَعَالَى بَيْنهمَا ; لِأَنَّ الْمُخَايَرَة إِنَّمَا هِيَ بَيْن الْجَائِزَيْنِ لَا بَيْن جَائِز وَمُمْتَنِع , وَلَا بَيْن مُتَضَادَّيْنِ . وَالْجَوَاب أَنَّ الْمُخَايَرَة بَيْن الضِّدَّيْنِ تَجُوز لُغَة وَقُرْآنًا : لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه قَالَ : " أَصْحَاب الْجَنَّة يَوْمئِذٍ خَيْر مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَن مَقِيلًا " [ الْفُرْقَان : 24 ] . وَقَالَ عُمَر فِي رِسَالَته لِأَبِي مُوسَى : " الرُّجُوع إِلَى الْحَقّ خَيْر مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل " . جَوَاب آخَر : قَوْله تَعَالَى : " وَلَأَمَة " لَمْ يَرِد بِهِ الرِّقّ الْمَمْلُوك وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْآدَمِيَّة , وَالْآدَمِيَّات وَالْآدَمِيُّونَ بِأَجْمَعِهِمْ عَبِيد اللَّه وَإِمَاؤُهُ , قَالَهُ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ أَبُو الْعَبَّاس الْجُرْجَانِيّ .
السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي نِكَاح نِسَاء الْمَجُوس , فَمَنَعَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ اِبْن حَنْبَل : لَا يُعْجِبنِي . وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّة , وَأَنَّ عُمَر قَالَ لَهُ : طَلِّقْهَا . وَقَالَ اِبْن الْقَصَّار : قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : يَجِب عَلَى أَحَد الْقَوْلَيْنِ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا أَنْ تَجُوز مُنَاكَحَتهمْ . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ الْأَمَة الْمَجُوسِيَّة لَا يَجُوز أَنْ تُوطَأ بِمِلْكِ الْيَمِين , وَكَذَلِكَ الْوَثَنِيَّات وَغَيْرهنَّ مِنْ الْكَافِرَات , وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء , إِلَّا مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْن أَيُّوب عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ نِكَاح الْإِمَاء الْمَجُوسِيَّات , فَقَالَا : لَا بَأْس بِذَلِكَ . وَتَأَوَّلَا قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات " . فَهَذَا عِنْدهمَا عَلَى عَقْد النِّكَاح لَا عَلَى الْأَمَة الْمُشْتَرَاة , وَاحْتَجَّا بِسَبْيِ أَوْطَاس , وَأَنَّ الصَّحَابَة نَكَحُوا الْإِمَاء مِنْهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِين . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل شَاذّ , أَمَّا سَبْي أَوْطَاس فَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون الْإِمَاء أَسْلَمْنَ فَجَازَ نِكَاحهنَّ وَأَمَّا الِاحْتِجَاج بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات حَتَّى يُؤْمِنَّ " فَغَلَط ; لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا النِّكَاح عَلَى الْعَقْد , وَالنِّكَاح فِي اللُّغَة يَقَع عَلَى الْعَقْد وَعَلَى الْوَطْء , فَلَمَّا قَالَ : " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات " حَرَّمَ كُلّ نِكَاح يَقَع عَلَى الْمُشْرِكَات مِنْ نِكَاح وَوَطْء . وَقَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : سَأَلْت الزُّهْرِيّ عَنْ الرَّجُل يَشْتَرِي الْمَجُوسِيَّة أَيَطَؤُهَا ؟ فَقَالَ : إِذَا شَهِدَتْ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَطِئَهَا . وَعَنْ يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب قَالَ : لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَطَأهَا حَتَّى تُسْلِم . قَالَ أَبُو عُمَر : قَوْل اِبْن شِهَاب لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَطَأهَا حَتَّى تُسْلِم هَذَا - وَهُوَ أَعْلَم النَّاس بِالْمَغَازِي وَالسِّيَر - دَلِيل عَلَى فَسَاد قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ سَبْي أَوْطَاس وُطِئْنَ وَلَمْ يُسْلِمْنَ . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَة مِنْهُمْ عَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار قَالَا : لَا بَأْس بِوَطْءِ الْمَجُوسِيَّة , وَهَذَا لَمْ يَلْتَفِت إِلَيْهِ أَحَد مِنْ الْفُقَهَاء بِالْأَمْصَارِ . وَقَدْ جَاءَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ - وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ غَزْوه وَلَا غَزْو أَهْل نَاحِيَته إِلَّا الْفُرْس وَمَا وَرَاءَهُمْ مِنْ خُرَاسَان , وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَد أَهْل كِتَاب - مَا يُبَيِّن لَك كَيْف كَانَتْ السِّيرَة فِي نِسَائِهِمْ إِذَا سُبِينَ , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أَسَد , قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد بْن فِرَاس , قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الْعَزِيز , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد , قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَام عَنْ يُونُس عَنْ الْحَسَن , قَالَ : قَالَ رَجُل لَهُ : يَا أَبَا سَعِيد كَيْف كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ إِذَا سَبَيْتُمُوهُنَّ ؟ قَالَ : كُنَّا نُوَجِّههَا إِلَى الْقِبْلَة وَنَأْمُرهَا أَنْ تُسْلِم وَتَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , ثُمَّ نَأْمُرهَا أَنْ تَغْتَسِل , وَإِذَا أَرَادَ صَاحِبهَا أَنْ يُصِيبهَا لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا . وَعَلَى هَذَا تَأْوِيل جَمَاعَة الْعُلَمَاء فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات حَتَّى يُؤْمِنَّ " . أَنَّهُنَّ الْوَثَنِيَّات وَالْمَجُوسِيَّات ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ الْكِتَابِيَّات بِقَوْلِهِ : " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ " يَعْنِي الْعَفَائِف , لَا مَنْ شُهِرَ زِنَاهَا مِنْ الْمُسْلِمَات . وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ نِكَاحهَا وَوَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِين مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُنَّ تَوْبَة , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِفْسَاد النَّسَب .
قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تُنْكِحُوا " أَيْ لَا تُزَوِّجُوا الْمُسْلِمَة مِنْ الْمُشْرِك . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْمُشْرِك لَا يَطَأ الْمُؤْمِنَة بِوَجْهٍ , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَضَاضَة عَلَى الْإِسْلَام . وَالْقُرَّاء عَلَى ضَمّ التَّاء مِنْ " تُنْكِحُوا " .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل بِالنَّصِّ عَلَى أَنْ لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ . قَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن : " النِّكَاح بِوَلِيٍّ فِي كِتَاب اللَّه " , ثُمَّ قَرَأَ " وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ " . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي النِّكَاح بِغَيْرِ وَلِيّ , فَقَالَ كَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم : لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ , رُوِيَ هَذَا الْحَدِيث عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَبِهِ قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَجَابِر بْن زَيْد وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَابْن شُبْرُمَة وَابْن الْمُبَارَك وَالشَّافِعِيّ وَعُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد . قُلْت : وَهُوَ قَوْل مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَبِي ثَوْر وَالطَّبَرِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : حُجَّة مَنْ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) . رَوَى هَذَا الْحَدِيث شُعْبَة وَالثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا , فَمَنْ يَقْبَل الْمَرَاسِيل يَلْزَمهُ قَبُوله , وَأَمَّا مَنْ لَا يَقْبَل الْمَرَاسِيل فَيَلْزَمهُ أَيْضًا , لِأَنَّ الَّذِينَ وَصَلُوهُ مِنْ أَهْل الْحِفْظ وَالثِّقَة . وَمِمَّنْ وَصَلَهُ إِسْرَائِيل وَأَبُو عَوَانَة كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِسْرَائِيل وَمَنْ تَابَعَهُ حُفَّاظ , وَالْحَافِظ تُقْبَل زِيَادَته , وَهَذِهِ الزِّيَادَة يَعْضُدهَا أُصُول , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجهنَّ " [ الْبَقَرَة : 232 ] . وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي مَعْقِل بْن يَسَار إِذْ عَضَلَ أُخْته عَنْ مُرَاجَعَة زَوْجهَا , قَالَهُ الْبُخَارِيّ . وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْإِنْكَاح مَا نُهِيَ عَنْ الْعَضْل . قُلْت : وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى هَذَا أَيْضًا مِنْ الْكِتَاب قَوْله : " فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلهنَّ " [ النِّسَاء : 25 ] وَقَوْل : " وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ " [ النُّور : 32 ] فَلَمْ يُخَاطِب تَعَالَى بِالنِّكَاحِ غَيْر الرِّجَال , وَلَوْ كَانَ إِلَى النِّسَاء لَذَكَرَهُنَّ . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي " النُّور " وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَنْ شُعَيْب فِي قِصَّة مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام : " إِنِّي أُرِيد أَنْ أُنْكِحك " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " الْقَصَص " . وَقَالَ تَعَالَى : " الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء " [ النِّسَاء : 34 ] , فَقَدْ تَعَاضَدَ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى أَنْ لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ . قَالَ الطَّبَرِيّ : فِي حَدِيث حَفْصَة حِين تَأَيَّمَتْ وَعَقَدَ عُمَر عَلَيْهَا النِّكَاح وَلَمْ تَعْقِدهُ هِيَ إِبْطَال قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ لِلْمَرْأَةِ الْبَالِغَة الْمَالِكَة لِنَفْسِهَا تَزْوِيج نَفْسهَا وَعَقْد النِّكَاح دُون وَلِيّهَا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَهَا لَمْ يَكُنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدَع خِطْبَة حَفْصَة لِنَفْسِهَا إِذَا كَانَتْ أَوْلَى بِنَفْسِهَا مِنْ أَبِيهَا , وَخَطَبَهَا إِلَى مَنْ لَا يَمْلِك أَمْرهَا وَلَا الْعَقْد عَلَيْهَا , وَفِيهِ بَيَان قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْأَيِّم أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا ) أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَحَقّ بِنَفْسِهَا فِي أَنَّهُ لَا يَعْقِد عَلَيْهَا إِلَّا بِرِضَاهَا , لَا أَنَّهَا أَحَقّ بِنَفْسِهَا فِي أَنْ تَعْقِد عَقْد النِّكَاح عَلَى نَفْسهَا دُون وَلِيّهَا . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُزَوِّج الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا تُزَوِّج الْمَرْأَة نَفْسهَا فَإِنَّ الزَّانِيَة هِيَ الَّتِي تُزَوِّج نَفْسهَا ) . قَالَ : حَدِيث صَحِيح . وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث سُفْيَان عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيّمَا اِمْرَأَة نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْن وَلِيّهَا فَنِكَاحهَا بَاطِل - ثَلَاث مَرَّات - فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْر لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَان وَلِيّ مَنْ لَا وَلِيّ لَهُ ) وَهَذَا الْحَدِيث صَحِيح . وَلَا اِعْتِبَار بِقَوْلِ اِبْن عُلَيَّة عَنْ اِبْن جُرَيْج أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْت عَنْهُ الزُّهْرِيّ فَلَمْ يَعْرِفهُ , وَلَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَد عَنْ اِبْن جُرَيْج غَيْر اِبْن عُلَيَّة , وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَة عَنْ الزُّهْرِيّ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ , وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيّ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّة ; لِأَنَّهُ قَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ ثِقَات , مِنْهُمْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى وَهُوَ ثِقَة إِمَام وَجَعْفَر بْن رَبِيعَة , فَلَوْ نَسِيَهُ الزُّهْرِيّ لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النِّسْيَان لَا يُعْصَم مِنْهُ اِبْن آدَم , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَسِيَ آدَم فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّته ) . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَى , فَمَنْ سِوَاهُ أَحْرَى أَنْ يَنْسَى , وَمَنْ حَفِظَ فَهُوَ حُجَّة عَلَى مَنْ نَسِيَ , فَإِذَا رَوَى الْخَبَر ثِقَة فَلَا يَضُرّهُ نِسْيَان مَنْ نَسِيَهُ , هَذَا لَوْ صَحَّ مَا حَكَى اِبْن عُلَيَّة عَنْ اِبْن جُرَيْج , فَكَيْف وَقَدْ أَنْكَرَ أَهْل الْعِلْم ذَلِكَ مِنْ حِكَايَته وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَيْهَا . قُلْت : وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيث أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بْن حِبَّان التَّمِيمِيّ الْبُسْتِيّ فِي الْمُسْنَد الصَّحِيح لَهُ - عَلَى التَّقَاسِيم وَالْأَنْوَاع مِنْ غَيْر وُجُود قَطْع فِي سَنَدهَا , وَلَا ثُبُوت جُرْح فِي نَاقِلهَا - عَنْ حَفْص بْن غِيَاث عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْل وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاح عَلَى غَيْر ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِل فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَان وَلِيّ مَنْ لَا وَلِيّ لَهُ ) . قَالَ أَبُو حَاتِم : لَمْ يَقُلْ أَحَد فِي خَبَر اِبْن جُرَيْج عَنْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيّ هَذَا : ( وَشَاهِدَيْ عَدْل ) إِلَّا ثَلَاثَة أَنْفُس : سُوَيْد بْن يَحْيَى الْأُمَوِيّ عَنْ حَفْص بْن غِيَاث وَعَبْد اللَّه بْن عَبْد الْوَهَّاب الْجُمَحِيّ عَنْ خَالِد بْن الْحَارِث وَعَبْد الرَّحْمَن بْن يُونُس الرَّقِّيّ عَنْ عِيسَى بْن يُونُس , وَلَا يَصِحّ فِي الشَّاهِدَيْنِ غَيْر هَذَا الْخَبَر , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْخَبَر فَقَدْ صَرَّحَ الْكِتَاب وَالسُّنَّة بِأَنْ لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ , فَلَا مَعْنَى لِمَا خَالَفَهُمَا . وَقَدْ كَانَ الزُّهْرِيّ وَالشَّعْبِيّ يَقُولَانِ : " إِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَة نَفْسهَا كُفُؤًا بِشَاهِدَيْنِ فَذَلِكَ نِكَاح جَائِز " . وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو حَنِيفَة يَقُول : إِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَة نَفْسهَا كُفُؤًا بِشَاهِدَيْنِ فَذَلِكَ نِكَاح جَائِز , وَهُوَ قَوْل زُفَر . وَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسهَا غَيْر كُفْء فَالنِّكَاح جَائِز , وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنهمَا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَأَمَّا مَا قَالَهُ النُّعْمَان فَمُخَالِف لِلسُّنَّةِ , خَارِج عَنْ قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعِلْم . وَبِالْخَبَرِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقُول . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : لَا يَجُوز النِّكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ , فَإِنْ سَلَّمَ الْوَلِيّ جَازَ , وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَلِّم وَالزَّوْج كُفْء أَجَازَهُ الْقَاضِي . وَإِنَّمَا يَتِمّ النِّكَاح فِي قَوْله حِين يُجِيزهُ الْقَاضِي , وَهُوَ قَوْل مُحَمَّد بْن الْحَسَن , وَقَدْ كَانَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن يَقُول : يَأْمُر الْقَاضِي الْوَلِيّ بِإِجَازَتِهِ , فَإِنْ لَمْ يَفْعَل اِسْتَأْنَفَ عَقْدًا . وَلَا خِلَاف بَيْن أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا وَلِيّهَا فَعَقَدَتْ النِّكَاح بِنَفْسِهَا جَازَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : " إِذَا وَلَّتْ أَمْرهَا رَجُلًا فَزَوَّجَهَا كُفُؤًا فَالنِّكَاح جَائِز , وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّق بَيْنهمَا , إِلَّا أَنْ تَكُون عَرَبِيَّة تَزَوَّجَتْ مَوْلًى " , وَهَذَا نَحْو مَذْهَب مَالِك عَلَى مَا يَأْتِي . وَحَمَلَ الْقَائِلُونَ بِمَذْهَبِ الزُّهْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّعْبِيّ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) عَلَى الْكَمَال لَا عَلَى الْوُجُوب , كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا صَلَاة لِجَارِ الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد ) /و ( لَا حَظّ فِي الْإِسْلَام لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاة ) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجهنَّ " [ الْبَقَرَة : 232 ] , وَقَوْله تَعَالَى : " فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ " [ الْبَقَرَة : 234 ] , وَبِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ سِمَاك بْن حَرْب قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ : اِمْرَأَة أَنَا وَلِيّهَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِي ؟ فَقَالَ عَلِيّ : يُنْظَر فِيمَا صَنَعَتْ , فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ كُفُؤًا أَجَزْنَا ذَلِكَ لَهَا , وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِكُفْءٍ جَعَلْنَا ذَلِكَ إِلَيْك . وَفِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوَّجَتْ بِنْت أَخِيهَا عَبْد الرَّحْمَن وَهُوَ غَائِب , الْحَدِيث . وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم بْن مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رِضَى اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا أَنْكَحَتْ رَجُلًا هُوَ الْمُنْذِر بْن الزُّبَيْر اِمْرَأَة مِنْ بَنِي أَخِيهَا فَضَرَبَتْ بَيْنهمْ بِسِتْرٍ , ثُمَّ تَكَلَّمَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْد أَمَرَتْ رَجُلًا فَأَنْكَحَ , ثُمَّ قَالَتْ : لَيْسَ عَلَى النِّسَاء إِنْكَاح . فَالْوَجْه فِي حَدِيث مَالِك أَنَّ عَائِشَة قَرَّرَتْ الْمَهْر وَأَحْوَال النِّكَاح , وَتَوَلَّى الْعَقْد أَحَد عَصَبَتهَا , وَنُسِبَ الْعَقْد إِلَى عَائِشَة لَمَّا كَانَ تَقْرِيره إِلَيْهَا .
ذَكَرَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي الْأَوْلِيَاء , مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ مَرَّة : كُلّ مَنْ وَضَعَ الْمَرْأَة فِي مَنْصِب حَسَن فَهُوَ وَلِيّهَا , سَوَاء كَانَ مِنْ الْعَصَبَة أَوْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَام أَوْ الْأَجَانِب أَوْ الْإِمَام أَوْ الْوَصِيّ . وَقَالَ مَرَّة : الْأَوْلِيَاء مِنْ الْعَصَبَة , فَمَنْ وَضَعَهَا مِنْهُمْ فِي مَنْصِب حَسَن فَهُوَ وَلِيّ . وَقَالَ أَبُو عُمَر : قَالَ مَالِك فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ : إِنَّ الْمَرْأَة إِذَا زَوَّجَهَا غَيْر وَلِيّهَا بِإِذْنِهَا فَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَة لَهَا فِي النَّاس حَال كَانَ وَلِيّهَا بِالْخِيَارِ فِي فَسْخ النِّكَاح وَإِقْرَاره , وَإِنْ كَانَتْ دَنِيئَة كَالْمُعْتَقَةِ وَالسَّوْدَاء وَالسِّعَايَة والْمَسْلَمَانِيّة , وَمَنْ لَا حَال لَهَا جَازَ نِكَاحهَا , وَلَا خِيَار لِوَلِيِّهَا لِأَنَّ كُلّ وَاحِد كُفْء لَهَا , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّ الشَّرِيفَة وَالدَّنِيئَة لَا يُزَوِّجهَا إِلَّا وَلِيّهَا أَوْ السُّلْطَان , وَهَذَا الْقَوْل اِخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر , قَالَ : وَأَمَّا تَفْرِيق مَالِك بَيْن الْمِسْكِينَة وَاَلَّتِي لَهَا قَدْر فَغَيْر جَائِز ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَوَّى بَيْن أَحْكَامهمْ فِي الدِّمَاء فَقَالَ : ( الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ ) . وَإِذَا كَانُوا فِي الدِّمَاء سَوَاء فَهُمْ فِي غَيْر ذَلِكَ شَيْء وَاحِد . وَقَالَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق : لَمَّا أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه بِالنِّكَاحِ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض فَقَالَ تَعَالَى : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض " [ التَّوْبَة : 71 ] وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْجُمْلَة هَكَذَا يَرِث بَعْضهمْ بَعْضًا , فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَا وَارِث لَهُ لَكَانَ مِيرَاثه لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ جَنَى جِنَايَة لَعَقَلَ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ , ثُمَّ تَكُون وِلَايَة أَقْرَب مِنْ وِلَايَة , وَقَرَابَة أَقْرَب مِنْ قَرَابَة . وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَة بِمَوْضِعٍ لَا سُلْطَان فِيهِ وَلَا وَلِيّ لَهَا فَإِنَّهَا تُصَيِّر أَمْرهَا إِلَى مَنْ يُوثَق بِهِ مِنْ جِيرَانهَا , فَيُزَوِّجهَا وَيَكُون هُوَ وَلِيّهَا فِي هَذِهِ الْحَال ; لِأَنَّ النَّاس لَا بُدّ لَهُمْ مِنْ التَّزْوِيج , وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ فِيهِ بِأَحْسَن مَا يُمْكِن , وَعَلَى هَذَا قَالَ مَالِك فِي الْمَرْأَة الضَّعِيفَة الْحَال : إِنَّهُ يُزَوِّجهَا مَنْ تُسْنِد أَمْرهَا إِلَيْهِ ; لِأَنَّهَا مِمَّنْ تَضْعُف عَنْ السُّلْطَان فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَا سُلْطَان بِحَضْرَتِهَا , فَرَجَعَتْ فِي الْجُمْلَة إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلِيَاؤُهَا , فَأَمَّا إِذَا صَيَّرَتْ أَمْرهَا إِلَى رَجُل وَتَرَكَتْ أَوْلِيَاءَهَا فَإِنَّهَا أَخَذَتْ الْأَمْر مِنْ غَيْر وَجْهه , وَفَعَلَتْ مَا يُنْكِرهُ الْحَاكِم عَلَيْهَا وَالْمُسْلِمُونَ , فَيُفْسَخ ذَلِكَ النِّكَاح مِنْ غَيْر أَنْ يُعْلَم أَنَّ حَقِيقَته حَرَام , لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض , وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَاف , وَلَكِنْ يُفْسَخ لِتَنَاوُلِ الْأَمْر مِنْ غَيْر وَجْهه , وَلِأَنَّهُ أَحْوَط لِلْفُرُوجِ وَلِتَحْصِينِهَا , فَإِذَا وَقَعَ الدُّخُول وَتَطَاوَلَ الْأَمْر وَوَلَدَتْ الْأَوْلَاد وَكَانَ صَوَابًا لَمْ يَجُزْ الْفَسْخ ; لِأَنَّ الْأُمُور إِذَا تَفَاوَتَتْ لَمْ يُرَدّ مِنْهَا إِلَّا الْحَرَام الَّذِي لَا يُشَكّ فِيهِ , وَيُشْبِه مَا فَاتَ مِنْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَاكِم إِذَا حَكَمَ بِحُكْمٍ لَمْ يُفْسَخ إِلَّا أَنْ يَكُون خَطَأ لَا شَكّ فِيهِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه فَالنِّكَاح عِنْدهمْ بِغَيْرِ وَلِيّ مَفْسُوخ أَبَدًا قَبْل الدُّخُول وَبَعْده , وَلَا يَتَوَارَثَانِ إِنْ مَاتَ أَحَدهمَا . وَالْوَلِيّ عِنْدهمْ مِنْ فَرَائِض النِّكَاح , لِقِيَامِ الدَّلِيل عِنْدهمْ مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة : قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ " [ النُّور : 32 ] كَمَا قَالَ : " فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلهنَّ " [ النِّسَاء : 25 ] , وَقَالَ مُخَاطِبًا لِلْأَوْلِيَاءِ : " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ " [ الْبَقَرَة : 232 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ ) . وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْن دَنِيَّة الْحَال وَبَيْن الشَّرِيفَة , لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنْ لَا فَرْق بَيْنهمْ فِي الدِّمَاء , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ ) . وَسَائِر الْأَحْكَام كَذَلِكَ . وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَرْق بَيْن الرَّفِيع وَالْوَضِيع فِي كِتَاب وَلَا سُنَّة .
وَاخْتَلَفُوا فِي النِّكَاح يَقَع عَلَى غَيْر وَلِيّ ثُمَّ يُجِيزهُ الْوَلِيّ قَبْل الدُّخُول , فَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه إِلَّا عَبْد الْمَلِك : ذَلِكَ جَائِز , إِذَا كَانَتْ إِجَازَته لِذَلِكَ بِالْقُرْبِ , وَسَوَاء دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُل . هَذَا إِذَا عَقَدَ النِّكَاح غَيْر وَلِيّ وَلَمْ تَعْقِدهُ الْمَرْأَة بِنَفْسِهَا , فَإِنْ زَوَّجَتْ الْمَرْأَة نَفْسهَا وَعَقَدَتْ عُقْدَة النِّكَاح مِنْ غَيْر وَلِيّ قَرِيب وَلَا بَعِيد مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ هَذَا النِّكَاح لَا يُقَرّ أَبَدًا عَلَى حَال وَإِنْ تَطَاوَلَ وَوَلَدَتْ الْأَوْلَاد , وَلَكِنَّهُ يَلْحَق الْوَلَد إِنْ دَخَلَ , وَيَسْقُط الْحَدّ , وَلَا بُدّ مِنْ فَسْخ ذَلِكَ النِّكَاح عَلَى كُلّ حَال . وَقَالَ اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك : الْفَسْخ فِيهِ بِغَيْرِ طَلَاق .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَنَازِل الْأَوْلِيَاء وَتَرْتِيبهمْ , فَكَانَ مَالِك يَقُول : أَوَّلهمْ الْبَنُونَ وَإِنْ سَفَلُوا , ثُمَّ الْآبَاء , ثُمَّ الْإِخْوَة لِلْأَبِ وَالْأُمّ , ثُمَّ لِلْأَبِ , ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَة لِلْأَبِ وَالْأُمّ , ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَة لِلْأَبِ , ثُمَّ الْأَجْدَاد لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَوْا , ثُمَّ الْعُمُومَة عَلَى تَرْتِيب الْإِخْوَة , ثُمَّ بَنُوهُمْ عَلَى تَرْتِيب بَنِي الْإِخْوَة وَإِنْ سَفَلُوا , ثُمَّ الْمَوْلَى ثُمَّ السُّلْطَان أَوْ قَاضِيه . وَالْوَصِيّ مُقَدَّم فِي إِنْكَاح الْأَيْتَام عَلَى الْأَوْلِيَاء , وَهُوَ خَلِيفَة الْأَب وَوَكِيله , فَأَشْبَهَ حَاله لَوْ كَانَ الْأَب حَيًّا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا وِلَايَة لِأَحَدٍ مَعَ الْأَب , فَإِنْ مَاتَ فَالْجَدّ , ثُمَّ أَب أَب الْجَدّ ; لِأَنَّهُمْ كُلّهمْ آبَاء . وَالْوِلَايَة بَعْد الْجَدّ لِلْإِخْوَةِ , ثُمَّ الْأَقْرَب . وَقَالَ الْمُزَنِيّ : قَالَ فِي الْجَدِيد : مَنْ اِنْفَرَدَ بِأُمٍّ كَانَ أَوْلَى بِالنِّكَاحِ , كَالْمِيرَاثِ . وَقَالَ فِي الْقَدِيم : هُمَا سَوَاء . قُلْت : وَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِك مِثْل قَوْل الشَّافِعِيّ , وَأَنَّ الْأَب أَوْلَى مِنْ الِابْن , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَة , حَكَاهُ الْبَاجِيّ . وَرُوِيَ عَنْ الْمُغِيرَة أَنَّهُ قَالَ : " الْجَدّ أَوْلَى مِنْ الْإِخْوَة " , وَالْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب مَا قَدَّمْنَاهُ . وَقَالَ أَحْمَد : أَحَقّهمْ بِالْمَرْأَةِ أَنْ يُزَوِّجهَا أَبُوهَا , ثُمَّ الِابْن , ثُمَّ الْأَخ , ثُمَّ اِبْنه , ثُمَّ الْعَمّ . وَقَالَ إِسْحَاق : الِابْن أَوْلَى مِنْ الْأَب , كَمَا قَالَهُ مَالِك , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر ; لِأَنَّ عُمَر اِبْن أُمّ سَلَمَة زَوَّجَهَا بِإِذْنِهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْت : أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ أُمّ سَلَمَة وَتَرْجَمَ لَهُ ( إِنْكَاح الِابْن أُمّه ) . قُلْت : وَكَثِيرًا مَا يُسْتَدَلّ بِهَذَا عُلَمَاؤُنَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ , وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاح أَنَّ عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة قَالَ : كُنْت غُلَامًا فِي حِجْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدَيَّ تَطِيش فِي الصَّحْفَة , فَقَالَ : ( يَا غُلَام سَمِّ اللَّه وَكُلْ بِيَمِينِك وَكُلْ مِمَّا يَلِيك ) . وَقَالَ أَبُو عُمَر فِي كِتَاب الِاسْتِيعَاب : عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة يُكَنَّى أَبَا حَفْص , وُلِدَ فِي السَّنَة الثَّانِيَة مِنْ الْهِجْرَة بِأَرْضِ الْحَبَشَة . وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ يَوْم قُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْن تِسْع سِنِينَ . قُلْت : وَمَنْ كَانَ سِنّه هَذَا لَا يَصْلُح أَنْ يَكُون وَلِيًّا , وَلَكِنْ ذَكَرَ أَبُو عُمَر أَنَّ لِأَبِي سَلَمَة مِنْ أُمّ سَلَمَة اِبْنًا آخَر اِسْمه سَلَمَة , وَهُوَ الَّذِي عَقَدَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمّه أُمّ سَلَمَة , وَكَانَ سَلَمَة أَسَنّ مِنْ أَخِيهِ عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة , وَلَا أَحْفَظ لَهُ رِوَايَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ رَوَى عَنْهُ عُمَر أَخُوهُ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يُزَوِّج الْمَرْأَة الْأَبْعَد مِنْ الْأَوْلِيَاء - كَذَا وَقَعَ , وَالْأَقْرَب عِبَارَة أَنْ يُقَال : اُخْتُلِفَ فِي الْمَرْأَة يُزَوِّجهَا مِنْ أَوْلِيَائِهَا الْأَبْعَد وَالْأَقْعَد حَاضِر , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : النِّكَاح بَاطِل . وَقَالَ مَالِك : النِّكَاح جَائِز . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : إِنْ لَمْ يُنْكِر الْأَقْعَد شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا رَدَّهُ نَفَذَ , وَإِنْ أَنْكَرَهُ وَهِيَ ثَيِّب أَوْ بِكْر بَالِغ يَتِيمَة وَلَا وَصِيّ لَهَا فَقَدْ اِخْتَلَفَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة فِي ذَلِكَ , فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : لَا يُرَدّ ذَلِكَ وَيَنْفُذ , لِأَنَّهُ نِكَاح اِنْعَقَدَ بِإِذْنِ وَلِيّ مِنْ الْفَخِذ وَالْعَشِيرَة . وَمَنْ قَالَ هَذَا مِنْهُمْ لَا يَنْفُذ قَالَ : إِنَّمَا جَاءَتْ الرُّتْبَة فِي الْأَوْلِيَاء عَلَى الْأَفْضَل وَالْأَوْلَى , وَذَلِكَ مُسْتَحَبّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَهَذَا تَحْصِيل مَذْهَب مَالِك عِنْد أَكْثَر أَصْحَابه , وَإِيَّاهُ اِخْتَارَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق وَأَتْبَاعه . وَقِيلَ : يَنْظُر السُّلْطَان فِي ذَلِكَ وَيَسْأَل الْوَلِيّ الْأَقْرَب عَلَى مَا يُنْكِرهُ , ثُمَّ إِنْ رَأَى إِمْضَاءَهُ أَمْضَاهُ , وَإِنْ رَأَى أَنْ يَرُدّهُ رَدَّهُ . وَقِيلَ : بَلْ لِلْأَقْعَدِ رَدّه عَلَى كُلّ حَال ; لِأَنَّهُ حَقّ لَهُ . وَقِيلَ : لَهُ رَدّه وَإِجَازَته مَا لَمْ يَطُلْ مُكْثهَا وَتَلِد الْأَوْلَاد , وَهَذِهِ كُلّهَا أَقَاوِيل أَهْل الْمَدِينَة . فَلَوْ كَانَ الْوَلِيّ الْأَقْرَب مَحْبُوسًا أَوْ سَفِيهًا زَوَّجَهَا مَنْ يَلِيه مِنْ أَوْلِيَائِهَا , وَعُدَّ كَالْمَيِّتِ مِنْهُمْ , وَكَذَلِكَ إِذَا غَابَ الْأَقْرَب مِنْ أَوْلِيَائِهَا غَيْبَة بَعِيدَة أَوْ غَيْبَة لَا يُرْجَى لَهَا أَوْبَة سَرِيعَة زَوَّجَهَا مَنْ يَلِيه مِنْ الْأَوْلِيَاء . وَقَدْ قِيلَ : إِذَا غَابَ أَقْرَب أَوْلِيَائِهَا لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي يَلِيه تَزْوِيجهَا , وَيُزَوِّجهَا الْحَاكِم , وَالْأَوَّل قَوْل مَالِك . وَإِذَا كَانَ الْوَلِيَّانِ قَدْ اِسْتَوَيَا فِي الْقُعْدُد وَغَابَ أَحَدهمَا وَفَوَّضَتْ الْمَرْأَة عَقْد نِكَاحهَا إِلَى الْحَاضِر لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِبِ إِنْ قَدِمَ نُكْرَتُهُ . وَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَفَوَّضَتْ أَمْرهَا إِلَى أَحَدهمَا لَمْ يُزَوِّجهَا إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبه , فَإِنْ اِخْتَلَفَا نَظَرَ الْحَاكِم فِي ذَلِكَ , وَأَجَازَ عَلَيْهَا رَأْي أَحْسَنهمَا نَظَرًا لَهَا , رَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك . وَأَمَّا الشَّهَادَة عَلَى النِّكَاح فَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه , وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ شُهْرَته وَالْإِعْلَان بِهِ , وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُون نِكَاح سِرّ . قَالَ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك : لَوْ زَوَّجَ بِبَيِّنَةٍ , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ النِّكَاح ; لِأَنَّهُ نِكَاح سِرّ . وَإِنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ بَيِّنَة عَلَى غَيْر اِسْتِسْرَار جَازَ , وَأَشْهَدَا فِيمَا يَسْتَقْبِلَانِ . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك فِي الرَّجُل يَتَزَوَّج الْمَرْأَة بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَيَسْتَكْتِمهُمَا قَالَ : يُفَرَّق بَيْنهمَا بِتَطْلِيقَةٍ وَلَا يَجُوز النِّكَاح , وَلَهَا صَدَاقهَا إِنْ كَانَ أَصَابَهَا , وَلَا يُعَاقَب الشَّاهِدَانِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا : إِذَا تَزَوَّجَهَا بِشَاهِدَيْنِ وَقَالَ لَهُمَا : اُكْتُمَا جَازَ النِّكَاح . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا قَوْل يَحْيَى بْن يَحْيَى اللَّيْثِيّ الْأَنْدَلُسِيّ صَاحِبنَا , قَالَ : كُلّ نِكَاح شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ حَدّ السِّرّ , وَأَظُنّهُ حَكَاهُ عَنْ اللَّيْث بْن سَعْد . وَالسِّرّ عِنْد الشَّافِعِيّ وَالْكُوفِيِّينَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ : كُلّ نِكَاح لَمْ يَشْهَد عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَصَاعِدًا , وَيُفْسَخ عَلَى كُلّ حَال . قُلْت : قَوْل الشَّافِعِيّ أَصَحّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : ( لَا نِكَاح إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْل وَوَلِيّ مُرْشِد ) , وَلَا مُخَالِف لَهُ مِنْ الصَّحَابَة فِيمَا عَلِمْته . وَاحْتَجَّ مَالِك لِمَذْهَبِهِ أَنَّ الْبُيُوع الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِيهَا الْإِشْهَاد عِنْد الْعَقْد , وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَة بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فَرَائِض الْبُيُوع . وَالنِّكَاح الَّذِي لَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى فِيهِ الْأَشْهَاد أَحْرَى بِأَلَّا يَكُون الْإِشْهَاد فِيهِ مِنْ شُرُوطه وَفَرَائِضه , وَإِنَّمَا الْغَرَض الْإِعْلَان وَالظُّهُور لِحِفْظِ الْأَنْسَاب . وَالْإِشْهَاد يَصْلُح بَعْد الْعَقْد لِلتَّدَاعِي وَالِاخْتِلَاف فِيمَا يَنْعَقِد بَيْن الْمُتَنَاكِحِينَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَعْلِنُوا النِّكَاح ) . وَقَوْل مَالِك هَذَا قَوْل اِبْن شِهَاب وَأَكْثَر أَهْل الْمَدِينَة . " وَلَعَبْد مُؤْمِن " أَيْ مَمْلُوك " خَيْر مِنْ مُشْرِك " أَيْ حَسِيب . " وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ " أَيْ حَسَبه وَمَاله , حَسَب مَا تَقَدَّمَ .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ↓
ذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ السُّدِّيّ أَنَّ السَّائِل ثَابِت بْن الدَّحْدَاح - وَقِيلَ : أُسَيْد بْن حُضَيْر وَعَبَّاد بْن بِشْر , وَهُوَ قَوْل الْأَكْثَرِينَ . وَسَبَب السُّؤَال فِيمَا قَالَ قَتَادَة وَغَيْره : أَنَّ الْعَرَب فِي الْمَدِينَة وَمَا وَالَاهَا كَانُوا قَدْ اِسْتَنُّوا بِسُنَّةِ بَنِي إِسْرَائِيل فِي تَجَنُّب مُؤَاكَلَة الْحَائِض وَمُسَاكَنَتهَا , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ مُجَاهِد : كَانُوا يَتَجَنَّبُونَ النِّسَاء فِي الْحَيْض , وَيَأْتُونَهُنَّ فِي أَدْبَارهنَّ مُدَّة زَمَن الْحَيْض , فَنَزَلَتْ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس : أَنَّ الْيَهُود كَانُوا إِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَة فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوت , فَسَأَلَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيض قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض " إِلَى آخِر الْآيَة , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِصْنَعُوا كُلّ شَيْء إِلَّا النِّكَاح ) فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُود , فَقَالُوا : مَا يُرِيد هَذَا الرَّجُل أَنْ يَدَع مِنْ أَمْرنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ , فَجَاءَ أُسَيْد بْن حُضَيْر وَعَبَّاد بْن بِشْر فَقَالَا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ الْيَهُود تَقُول كَذَا وَكَذَا , أَفَلَا نُجَامِعهُنَّ ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا , فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّة مِنْ لَبَنٍ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَرْسَلَ فِي آثَارهمَا فَسَقَاهُمَا , فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَتْ الْيَهُود وَالْمَجُوس تَجْتَنِب الْحَائِض , وَكَانَتْ النَّصَارَى يُجَامِعُونَ الْحَيْض , فَأَمَرَ اللَّه بِالْقَصْدِ بَيْن هَذَيْنِ . " عَنْ الْمَحِيض " الْمَحِيض : الْحَيْض وَهُوَ مَصْدَر , يُقَال : حَاضَتْ الْمَرْأَة حَيْضًا وَمَحَاضًا وَمَحِيضًا , فَهِيَ حَائِض , وَحَائِضَة أَيْضًا , عَنْ الْفَرَّاء وَأَنْشَدَ : كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْرَ طَاهِر وَنِسَاء حُيَّض وَحَوَائِض . وَالْحَيْضَة : الْمَرَّة الْوَاحِدَة . وَالْحِيضَة ( بِالْكَسْرِ ) الِاسْم , وَالْجَمْع الْحِيَض . وَالْحِيضَة أَيْضًا : الْخِرْقَة الَّتِي تَسْتَثْفِر بِهَا الْمَرْأَة . قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : لَيْتَنِي كُنْت حِيضَة مُلْقَاة . وَكَذَلِكَ الْمَحِيضَة , وَالْجَمْع الْمَحَائِض . وَقِيلَ : الْمَحِيض عِبَارَة عَنْ الزَّمَان وَالْمَكَان , وَعَنْ الْحَيْض نَفْسه , وَأَصْله فِي الزَّمَان وَالْمَكَان مَجَاز فِي الْحَيْض . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْمَحِيض اِسْم لِلْحَيْضِ , وَمِثْله قَوْل رُؤْبَة فِي الْعَيْش : إِلَيْك أَشْكُو شِدَّة الْمَعِيش وَمُرّ أَعْوَام نَتَفْنَ رِيشِي وَأَصْل الْكَلِمَة مِنْ السَّيَلَان وَالِانْفِجَار , يُقَال : حَاضَ السَّيْل وَفَاضَ , وَحَاضَتْ الشَّجَرَة أَيْ سَالَتْ رُطُوبَتهَا , وَمِنْهُ الْحَيْض أَيْ الْحَوْض ; لِأَنَّ الْمَاء يَحِيض إِلَيْهِ أَيْ يَسِيل , وَالْعَرَب تُدْخِل الْوَاو عَلَى الْيَاء وَالْيَاء عَلَى الْوَاو ; لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيِّز وَاحِد . قَالَ اِبْن عَرَفَة : الْمَحِيض وَالْحَيْض اِجْتِمَاع الدَّم إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِع , وَبِهِ سُمِّيَ الْحَوْض لِاجْتِمَاعِ الْمَاء فِيهِ , يُقَال : حَاضَتْ الْمَرْأَة وَتَحَيَّضَتْ , وَدَرَسَتْ وَعَرَكَتْ , وَطَمِثَتْ , تَحِيض حَيْضًا وَمَحَاضًا وَمَحِيضًا إِذَا سَالَ الدَّم مِنْهَا فِي أَوْقَات مَعْلُومَة . فَإِذَا سَالَ فِي غَيْر أَيَّام مَعْلُومَة , وَمِنْ غَيْر عِرْق الْمَحِيض قُلْت : اُسْتُحِيضَتْ , فَهِيَ مُسْتَحَاضَة . اِبْن الْعَرَبِيّ . وَلَهَا ثَمَانِيَة أَسْمَاء : الْأَوَّل : حَائِض . الثَّانِي : عَارِك . الثَّالِث : فَارِك . الرَّابِع : طَامِس . الْخَامِس : دَارِس . السَّادِس : كَابِر . السَّابِع : ضَاحِك . الثَّامِن : طَامِث . قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى : " فَضَحِكَتْ " يَعْنِي حَاضَتْ . وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : " فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ " [ يُوسُف : 31 ] يَعْنِي حِضْنَ . وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَة أَحْكَام فِي رُؤْيَتهَا الدَّم الظَّاهِر السَّائِل مِنْ فَرْجهَا , فَمِنْ ذَلِكَ الْحَيْض الْمَعْرُوف , وَدَمه أَسْوَد خَاثِر تَعْلُوهُ حُمْرَة , تُتْرَك لَهُ الصَّلَاة وَالصَّوْم , لَا خِلَاف فِي ذَلِكَ . وَقَدْ يَتَّصِل وَيَنْقَطِع , فَإِنْ اِتَّصَلَ فَالْحُكْم ثَابِت لَهُ , وَإِنْ اِنْقَطَعَ فَرَأَتْ الدَّم يَوْمًا وَالطُّهْر يَوْمًا , أَوْ رَأَتْ الدَّم يَوْمَيْنِ وَالطُّهْر يَوْمَيْنِ أَوْ يَوْمًا فَإِنَّهَا تَتْرُك الصَّلَاة فِي أَيَّام الدَّم , وَتَغْتَسِل عِنْد اِنْقِطَاعه وَتُصَلِّي , ثُمَّ تُلَفِّق أَيَّام الدَّم وَتُلْغِي أَيَّام الطُّهْر الْمُتَخَلِّلَة لَهَا , وَلَا تَحْتَسِب بِهَا طُهْرًا فِي عِدَّة وَلَا اِسْتِبْرَاء . وَالْحَيْض خِلْقَة فِي النِّسَاء , وَطَبْع مُعْتَاد مَعْرُوف مِنْهُنَّ . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْر إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاء فَقَالَ : ( يَا مَعْشَر النِّسَاء تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَر أَهْل النَّار - فَقُلْنَ وَبِمَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ - تُكْثِرْنَ اللَّعْن وَتَكْفُرْنَ الْعَشِير مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَات عَقْل وَدِين أَذْهَب لِلُبِّ الرَّجُل الْحَازِم مِنْ إِحْدَاكُنَّ - قُلْنَ : وَمَا نُقْصَان عَقْلنَا وَدِيننَا يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مِثْل نِصْف شَهَادَة الرَّجُل ؟ قُلْنَ : بَلَى , قَالَ : فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَان عَقْلهَا أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ ؟ قُلْنَ : بَلَى يَا رَسُول اللَّه , قَالَ : فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَان دِينهَا ) . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْحَائِض تَقْضِي الصَّوْم وَلَا تَقْضِي الصَّلَاة , لِحَدِيثِ مُعَاذَة قَالَتْ : سَأَلْت عَائِشَة فَقُلْت : مَا بَال الْحَائِض تَقْضِي الصَّوْم وَلَا تَقْضِي الصَّلَاة ؟ قَالَتْ : أَحَرُورِيَّة أَنْتَ ؟ قُلْت : لَسْت بِحَرُورِيَّة , وَلَكِنِّي أَسْأَل . قَالَتْ : كَانَ يُصِيبنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَر بِقَضَاءِ الصَّوْم وَلَا نُؤْمَر بِقَضَاءِ الصَّلَاة , خَرَّجَهُ مُسْلِم . فَإِذَا اِنْقَطَعَ عَنْهَا كَانَ طُهْرهَا مِنْهُ الْغُسْل , عَلَى مَا يَأْتِي .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مِقْدَار الْحَيْض , فَقَالَ فُقَهَاء الْمَدِينَة : إِنَّ الْحَيْض لَا يَكُون أَكْثَر مِنْ خَمْسَة عَشَر يَوْمًا , وَجَائِز أَنْ يَكُون خَمْسَة عَشَر يَوْمًا فَمَا دُون , وَمَا زَادَ عَلَى خَمْسَة عَشَر يَوْمًا لَا يَكُون حَيْضًا وَإِنَّمَا هُوَ اِسْتِحَاضَة , هَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا وَقْت لِقَلِيلِ الْحَيْض وَلَا لِكَثِيرِهِ إِلَّا مَا يُوجَد فِي النِّسَاء , فَكَأَنَّهُ تَرَكَ قَوْله الْأَوَّل وَرَجَعَ إِلَى عَادَة النِّسَاء . وَقَالَ مُحَمَّد بْن سَلَمَة : أَقَلّ الطُّهْر خَمْسَة عَشَر يَوْمًا , وَهُوَ اِخْتِيَار أَكْثَر الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا وَالثَّوْرِيّ , وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ جَعَلَ عِدَّة ذَوَات الْأَقْرَاء ثَلَاث حِيَض , وَجَعَلَ عِدَّة مَنْ لَا تَحِيض مِنْ كِبَر أَوْ صِغَر ثَلَاثَة أَشْهُر , فَكَانَ كُلّ قُرْء عِوَضًا مِنْ شَهْر , وَالشَّهْر يَجْمَع الطُّهْر وَالْحَيْض . فَإِذَا قَلَّ الْحَيْض كَثُرَ الطُّهْر , وَإِذَا كَثُرَ الْحَيْض قَلَّ الطُّهْر , فَلَمَّا كَانَ أَكْثَر الْحَيْض خَمْسَة عَشَر يَوْمًا وَجَبَ أَنْ يَكُون بِإِزَائِهِ أَقَلّ الطُّهْر خَمْسَة عَشَر يَوْمًا لِيَكْمُل فِي الشَّهْر الْوَاحِد حَيْض وَطُهْر , وَهُوَ الْمُتَعَارَف فِي الْأَغْلَب مِنْ خِلْقَة النِّسَاء وَجِبِلَّتهنَّ مَعَ دَلَائِل الْقُرْآن وَالسُّنَّة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : أَقَلّ الْحَيْض يَوْم وَلَيْلَة , وَأَكْثَره خَمْسَة عَشَر يَوْمًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْل قَوْل مَالِك : إِنَّ ذَلِكَ مَرْدُود إِلَى عُرْف النِّسَاء . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : أَقَلّ الْحَيْض ثَلَاثَة أَيَّام , وَأَكْثَره عَشَرَة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : مَا نَقَصَ عِنْد هَؤُلَاءِ عَنْ ثَلَاثَة أَيَّام فَهُوَ اِسْتِحَاضَة , لَا يَمْنَع مِنْ الصَّلَاة إِلَّا عِنْد أَوَّل ظُهُوره ; لِأَنَّهُ لَا يُعْلَم مَبْلَغ مُدَّته . ثُمَّ عَلَى الْمَرْأَة قَضَاء صَلَاة تِلْكَ الْأَوْقَات , وَكَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى عَشَرَة أَيَّام عِنْد الْكُوفِيِّينَ . وَعِنْد الْحِجَازِيِّينَ مَا زَادَ عَلَى خَمْسَة عَشَر يَوْمًا فَهُوَ اِسْتِحَاضَة . وَمَا كَانَ أَقَلّ مِنْ يَوْم وَلَيْلَة عِنْد الشَّافِعِيّ فَهُوَ اِسْتِحَاضَة , وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ وَالطَّبَرِيّ . وَمِمَّنْ قَالَ أَقَلّ الْحَيْض يَوْم وَلَيْلَة وَأَكْثَره خَمْسَة عَشَر يَوْمًا عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَأَبُو ثَوْر وَأَحْمَد بْن حَنْبَل . قَالَ الْأَوْزَاعِيّ : وَعِنْدنَا اِمْرَأَة تَحِيض غَدْوَة وَتَطْهُر عَشِيَّة وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْبَاب - مِنْ أَكْثَر الْحَيْض وَأَقَلّه وَأَقَلّ الطُّهْر , وَفَى الِاسْتِظْهَار , وَالْحُجَّة فِي ذَلِكَ - فِي " الْمُقْتَبَس فِي شَرْح مُوَطَّأ مَالِك بْن أَنَس " فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا مُبْتَدَأَة فَإِنَّهَا تَجْلِس أَوَّل مَا تَرَى الدَّم فِي قَوْل الشَّافِعِيّ خَمْسَة عَشَر يَوْمًا , ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُعِيد صَلَاة أَرْبَعَة عَشَر يَوْمًا . وَقَالَ مَالِك : لَا تَقْضِي الصَّلَاة وَيُمْسِك عَنْهَا زَوْجهَا . عَلِيّ بْن زِيَاد عَنْهُ : تَجْلِس قَدْر لِدَاتهَا , وَهَذَا قَوْل عَطَاء وَالثَّوْرِيّ وَغَيْرهمَا . اِبْن حَنْبَل : تَجْلِس يَوْمًا وَلَيْلَة , ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجهَا . أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف : تَدَع الصَّلَاة عَشْرًا , ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا , ثُمَّ تَتْرُك الصَّلَاة بَعْد الْعِشْرِينَ عَشْرًا , فَيَكُون هَذَا حَالهَا حَيْثُ يَنْقَطِع الدَّم عَنْهَا . أَمَّا الَّتِي لَهَا أَيَّام مَعْلُومَة فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِر عَلَى أَيَّامهَا الْمَعْلُومَة بِثَلَاثَةِ أَيَّام , عَنْ مَالِك : مَا لَمْ تُجَاوِز خَمْسَة عَشَر يَوْمًا . الشَّافِعِيّ : تَغْتَسِل إِذَا اِنْقَضَتْ أَيَّامهَا بِغَيْرِ اِسْتِظْهَار . وَالثَّانِي مِنْ الدِّمَاء : دَم النِّفَاس عِنْد الْوِلَادَة , وَلَهُ أَيْضًا عِنْد الْعُلَمَاء حَدّ مَعْلُوم اِخْتَلَفُوا فِيهِ , فَقِيلَ : شَهْرَانِ , وَهُوَ قَوْل مَالِك . وَقِيلَ : أَرْبَعُونَ يَوْمًا , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ . وَطُهْرهَا عِنْد اِنْقِطَاعه . وَالْغُسْل مِنْهُ كَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَة . قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب : وَدَم الْحَيْض وَالنِّفَاس يَمْنَعَانِ أَحَد عَشَر شَيْئًا : وَهِيَ وُجُوب الصَّلَاة وَصِحَّة فِعْلهَا وَفِعْل الصَّوْم دُون وُجُوبه - وَفَائِدَة الْفَرْق لُزُوم الْقَضَاء لِلصَّوْمِ وَنَفْيه فِي الصَّلَاة - وَالْجِمَاع فِي الْفَرْج وَمَا دُونه وَالْعِدَّة وَالطَّلَاق , وَالطَّوَاف وَمَسّ الْمُصْحَف وَدُخُول الْمَسْجِد وَالِاعْتِكَاف فِيهِ , وَفِي قِرَاءَة الْقُرْآن رِوَايَتَانِ . وَالثَّالِث مِنْ الدِّمَاء : دَم لَيْسَ بِعَادَةٍ وَلَا طَبْع مِنْهُنَّ وَلَا خِلْقَة , وَإِنَّمَا هُوَ عِرْق اِنْقَطَعَ , سَائِله دَم أَحْمَر لَا اِنْقِطَاع لَهُ إِلَّا عِنْد الْبُرْء مِنْهُ , فَهَذَا حُكْمه أَنْ تَكُون الْمَرْأَة مِنْهُ طَاهِرَة لَا يَمْنَعهَا مِنْ صَلَاة وَلَا صَوْم بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْعُلَمَاء وَاتِّفَاق مِنْ الْآثَار الْمَرْفُوعَة إِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ دَم عِرْق لَا دَم حَيْض . رَوَى مَالِك عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَتْ فَاطِمَة بِنْت أَبِي حُبَيْش : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي لَا أَطْهُر ! أَفَأَدَع الصَّلَاة ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْق وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ إِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَة فَدَعِي الصَّلَاة فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّم وَصَلِّي ) . وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَعَ صِحَّته وَقِلَّة أَلْفَاظه مَا يُفَسِّر لَك أَحْكَام الْحَائِض وَالْمُسْتَحَاضَة , وَهُوَ أَصَحّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب , وَهُوَ يَرُدّ مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر وَمَكْحُول أَنَّ الْحَائِض تَغْتَسِل وَتَتَوَضَّأ عِنْد كُلّ وَقْت صَلَاة , وَتَسْتَقْبِل الْقِبْلَة ذَاكِرَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جَالِسَة . وَفِيهِ أَنَّ الْحَائِض لَا تُصَلِّي , وَهُوَ إِجْمَاع مِنْ كَافَّة الْعُلَمَاء إِلَّا طَوَائِف مِنْ الْخَوَارِج يَرَوْنَ عَلَى الْحَائِض الصَّلَاة . وَفِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَة لَا يَلْزَمهَا غَيْر ذَلِكَ الْغُسْل الَّذِي تَغْتَسِل مِنْ حَيْضهَا , وَلَوْ لَزِمَهَا غَيْره لَأَمَرَهَا بِهِ , وَفِيهِ رَدّ لِقَوْلِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاة . وَلِقَوْلِ مَنْ رَأَى عَلَيْهَا أَنْ تَجْمَع بَيْن صَلَاتَيْ النَّهَار بِغُسْلٍ وَاحِد , وَصَلَاتَيْ اللَّيْل بِغُسْلٍ وَاحِد وَتَغْتَسِل لِلصُّبْحِ . وَلِقَوْلِ مَنْ قَالَ : تَغْتَسِل مِنْ طُهْر إِلَى طُهْر . وَلِقَوْلِ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب مِنْ طُهْر إِلَى طُهْر ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . وَفِيهِ رَدّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالِاسْتِظْهَارِ , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَتهَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَذَهَبَتْ أَنْ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي , وَلَمْ يَأْمُرهَا أَنْ تَتْرُك الصَّلَاة ثَلَاثَة أَيَّام لِانْتِظَارِ حَيْض يَجِيء أَوْ لَا يَجِيء , وَالِاحْتِيَاط إِنَّمَا يَكُون فِي عَمَل الصَّلَاة لَا فِي تَرْكهَا .
أَيْ هُوَ شَيْء تَتَأَذَّى بِهِ الْمَرْأَة وَغَيْرهَا أَيْ بِرَائِحَةِ دَم الْحَيْض . وَالْأَذَى كِنَايَة عَنْ الْقَذَر عَلَى الْجُمْلَة . وَيُطْلَق عَلَى الْقَوْل الْمَكْرُوه , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى " [ الْبَقَرَة : 264 ] أَيْ بِمَا تَسْمَعهُ مِنْ الْمَكْرُوه . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَدَعْ أَذَاهُمْ " [ الْأَحْزَاب : 48 ] أَيْ دَعْ أَذَى الْمُنَافِقِينَ لَا تُجَازِهِمْ إِلَّا أَنْ تُؤْمَر فِيهِمْ , وَفِي الْحَدِيث : ( وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى ) يَعْنِي ب " الْأَذَى " الشَّعْر الَّذِي يَكُون عَلَى رَأْس الصَّبِيّ حِين يُولَد , يُحْلَق عَنْهُ يَوْم أُسْبُوعه , وَهِيَ الْعَقِيقَة . وَفِي حَدِيث الْإِيمَان : ( وَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ الطَّرِيق ) أَيْ تَنْحِيَته , يَعْنِي الشَّوْك وَالْحَجَر , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ الْمَارّ . وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَر " [ النِّسَاء : 102 ] وَسَيَأْتِي .
اِسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ وَطْء الْمُسْتَحَاضَة بِسَيَلَانِ دَم الِاسْتِحَاضَة , فَقَالُوا : كُلّ دَم فَهُوَ أَذًى , يَجِب غَسْله مِنْ الثَّوْب وَالْبَدَن , فَلَا فَرْق فِي الْمُبَاشَرَة بَيْن دَم الْحَيْض وَالِاسْتِحَاضَة لِأَنَّهُ كُلّه رِجْس . وَأَمَّا الصَّلَاة فَرُخْصَة وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّة كَمَا يُصَلَّى بِسَلَسِ الْبَوْل , هَذَا قَوْل إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَسُلَيْمَان بْن يَسَار وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَة وَعَامِر الشَّعْبِيّ وَابْن سِيرِينَ وَالزُّهْرِيّ . وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ الْحَسَن , وَهُوَ قَوْل عَائِشَة : لَا يَأْتِيهَا زَوْجهَا , وَبِهِ قَالَ اِبْن عُلَيَّة وَالْمُغِيرَة بْن عَبْد الرَّحْمَن , وَكَانَ مِنْ أَعْلَى أَصْحَاب مَالِك , وَأَبُو مُصْعَب , وَبِهِ كَانَ يُفْتَى . وَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء : الْمُسْتَحَاضَة تَصُوم وَتُصَلِّي وَتَطُوف وَتَقْرَأ , وَيَأْتِيهَا زَوْجهَا . قَالَ مَالِك : أَمْر أَهْل الْفِقْه وَالْعِلْم عَلَى هَذَا , وَإِنْ كَانَ دَمهَا كَثِيرًا , رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن وَهْب . وَكَانَ أَحْمَد يَقُول : أَحَبّ إِلَيَّ أَلَّا يَطَأهَا إِلَّا أَنْ يَطُول ذَلِكَ بِهَا . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس فِي الْمُسْتَحَاضَة : ( لَا بَأْس أَنْ يُصِيبهَا زَوْجهَا وَإِنْ كَانَ الدَّم يَسِيل عَلَى عَقِبَيْهَا ) . وَقَالَ مَالِك : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْق وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ ) . فَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَيْضَة فَمَا يَمْنَعهُ أَنْ يُصِيبهَا وَهِيَ تُصَلِّي ! قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : لَمَّا حَكَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي دَم الْمُسْتَحَاضَة بِأَنَّهُ لَا يَمْنَع الصَّلَاة وَتُعُبِّدَ فِيهِ بِعِبَادَةٍ غَيْر عِبَادَة الْحَائِض وَجَبَ أَلَّا يُحْكَم لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حُكْم الْحَيْض إِلَّا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ غَسْله كَسَائِرِ الدِّمَاء .
أَيْ فِي زَمَن الْحَيْض , إِنْ حَمَلْت الْمَحِيض عَلَى الْمَصْدَر , أَوْ فِي مَحَلّ الْحَيْض إِنْ حَمَلْته عَلَى الِاسْم . وَمَقْصُود هَذَا النَّهْي تَرْك الْمُجَامَعَة . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مُبَاشَرَة الْحَائِض وَمَا يُسْتَبَاح مِنْهَا , فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعُبَيْدَة السَّلْمَانِيّ ( أَنَّهُ يَجِب أَنْ يَعْتَزِل الرَّجُل فِرَاش زَوْجَته إِذَا حَاضَتْ ) . وَهَذَا قَوْل شَاذّ خَارِج عَنْ قَوْل الْعُلَمَاء . وَإِنْ كَانَ عُمُوم الْآيَة يَقْتَضِيه فَالسُّنَّة الثَّابِتَة بِخِلَافِهِ , وَقَدْ وَقَفَتْ عَلَى اِبْن عَبَّاس خَالَته مَيْمُونَة وَقَالَتْ لَهُ : أَرَاغِب أَنْتَ عَنْ سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ! وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَجَمَاعَة عَظِيمَة مِنْ الْعُلَمَاء : لَهُ مِنْهَا مَا فَوْق الْإِزَار , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِلسَّائِلِ حِين سَأَلَهُ : مَا يَحِلّ لِي مِنْ اِمْرَأَتِي وَهِيَ حَائِض ؟ فَقَالَ - : ( لِتَشُدّ عَلَيْهَا إِزَارهَا ثُمَّ شَأْنك بِأَعْلَاهَا ) وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِعَائِشَة حِين حَاضَتْ : ( شُدِّي عَلَى نَفْسك إِزَارك ثُمَّ عُودِي إِلَى مَضْجَعك ) . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : يَجْتَنِب مَوْضِع الدَّم , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِصْنَعُوا كُلّ شَيْء إِلَّا النِّكَاح ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَهُوَ قَوْل دَاوُد , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَرَوَى أَبُو مَعْشَر عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ مَسْرُوق قَالَ : سَأَلْت عَائِشَة مَا يَحِلّ لِي مِنْ اِمْرَأَتِي وَهِيَ حَائِض ؟ فَقَالَتْ : كُلّ شَيْء إِلَّا الْفَرْج . قَالَ الْعُلَمَاء : مُبَاشَرَة الْحَائِض وَهِيَ مُتَّزِرَة عَلَى الِاحْتِيَاط وَالْقَطْع لِلذَّرِيعَةِ , وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبَاحَ فَخِذَيْهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذَرِيعَة إِلَى مَوْضِع الدَّم الْمُحَرَّم بِإِجْمَاعٍ فَأَمَرَ بِذَلِكَ اِحْتِيَاطًا , وَالْمُحَرَّم نَفْسه مَوْضِع الدَّم , فَتَتَّفِق بِذَلِكَ مَعَانِي الْآثَار , وَلَا تَضَادّ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق . وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي يَأْتِي اِمْرَأَته وَهِيَ حَائِض مَاذَا عَلَيْهِ , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : يَسْتَغْفِر اللَّه وَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل رَبِيعَة وَيَحْيَى بْن سَعِيد , وَبِهِ قَالَ دَاوُد . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن الْحَسَن : يَتَصَدَّق بِنِصْفِ دِينَار . وَقَالَ أَحْمَد : مَا أَحْسَن حَدِيث عَبْد الْحَمِيد عَنْ مِقْسَم عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَتَصَدَّق بِدِينَارٍ أَوْ نِصْف دِينَار ) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ : هَكَذَا الرِّوَايَة الصَّحِيحَة , قَالَ : دِينَار أَوْ نِصْف دِينَار , وَاسْتَحَبَّهُ الطَّبَرِيّ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ بِبَغْدَاد . وَقَالَتْ فِرْقَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث : إِنْ وَطِئَ فِي الدَّم فَعَلَيْهِ دِينَار , وَإِنْ وَطِئَ فِي اِنْقِطَاعه فَنِصْف دِينَار . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : مَنْ وَطِئَ اِمْرَأَته وَهِيَ حَائِض تَصَدَّقَ بِخُمُسَيّ دِينَار , وَالطُّرُق لِهَذَا كُلّه فِي " سُنَن أَبِي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ " وَغَيْرهمَا . وَفِي كِتَاب التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَر فَدِينَار وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَر فَنِصْف دِينَار ) . قَالَ أَبُو عُمَر : حُجَّة مَنْ لَمْ يُوجِب عَلَيْهِ كَفَّارَة إِلَّا الِاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة اِضْطِرَاب هَذَا الْحَدِيث عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَأَنَّ مِثْله لَا تَقُوم بِهِ حُجَّة , وَأَنَّ الذِّمَّة عَلَى الْبَرَاءَة , وَلَا يَجِب أَنْ يَثْبُت فِيهَا شَيْء لِمِسْكِينٍ وَلَا غَيْره إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا مَدْفَع فِيهِ وَلَا مَطْعَن عَلَيْهِ , وَذَلِكَ مَعْدُوم فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة .
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : سَمِعْت الشَّاشِيّ فِي مَجْلِس النَّظَر يَقُول : إِذَا قِيلَ لَا تَقْرَب ( بِفَتْحِ الرَّاء ) كَانَ مَعْنَاهُ : لَا تَلَبَّسْ بِالْفِعْلِ , وَإِنْ كَانَ بِضَمِّ الرَّاء كَانَ مَعْنَاهُ : لَا تَدْنُ مِنْهُ . وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَابْن عَامِر وَعَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص عَنْهُ " يَطْهُرْنَ " بِسُكُونِ الطَّاء وَضَمّ الْهَاء . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَالْمُفَضَّل " يَطَّهَّرْنَ " بِتَشْدِيدِ الطَّاء وَالْهَاء وَفَتْحهمَا . وَفِي مُصْحَف أُبَيّ وَعَبْد اللَّه " يَتَطَهَّرْنَ " . وَفِي مُصْحَف أَنَس بْن مَالِك " وَلَا تَقْرَبُوا النِّسَاء فِي مَحِيضهنَّ وَاعْتَزِلُوهُنَّ حَتَّى يَتَطَهَّرْنَ " . وَرَجَّحَ الطَّبَرِيّ قِرَاءَة تَشْدِيد الطَّاء , وَقَالَ : هِيَ بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ , لِإِجْمَاعِ الْجَمِيع عَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى الرَّجُل أَنْ يَقْرَب اِمْرَأَته بَعْد اِنْقِطَاع الدَّم حَتَّى تَطْهُر . قَالَ : وَإِنَّمَا الْخِلَاف فِي الطُّهْر مَا هُوَ , فَقَالَ قَوْم : هُوَ الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ . وَقَالَ قَوْم : هُوَ وُضُوء كَوُضُوءِ الصَّلَاة . وَقَالَ قَوْم : هُوَ غَسْل الْفَرْج , وَذَلِكَ يُحِلّهَا لِزَوْجِهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِل مِنْ الْحَيْضَة , وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ قِرَاءَة تَخْفِيف الطَّاء , إِذْ هُوَ ثُلَاثِيّ مُضَادّ لِطَمِثَ وَهُوَ ثُلَاثِيّ .
يَعْنِي بِالْمَاءِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِك وَجُمْهُور الْعُلَمَاء , وَأَنَّ الطُّهْر الَّذِي يَحِلّ بِهِ جِمَاع الْحَائِض الَّذِي يَذْهَب عَنْهَا الدَّم هُوَ تَطَهُّرهَا بِالْمَاءِ كَطُهْرِ الْجُنُب , وَلَا يُجْزِئ مِنْ ذَلِكَ تَيَمُّم وَلَا غَيْره , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالطَّبَرِيّ وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَأَهْل الْمَدِينَة وَغَيْرهمْ . وَقَالَ يَحْيَى بْن بُكَيْر وَمُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : إِذَا طَهُرَتْ الْحَائِض وَتَيَمَّمَتْ - حَيْثُ لَا مَاء حَلَّتْ لِزَوْجِهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِل . وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَطَاوُس : اِنْقِطَاع الدَّم يُحِلّهَا لِزَوْجِهَا . وَلَكِنْ بِأَنْ تَتَوَضَّأ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد : إِنْ اِنْقَطَعَ دَمهَا بَعْد مُضِيّ عَشَرَة أَيَّام جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأهَا قَبْل الْغُسْل , وَإِنْ كَانَ اِنْقِطَاعه قَبْل الْعَشَرَة لَمْ يَجُزْ حَتَّى تَغْتَسِل أَوْ يَدْخُل عَلَيْهَا وَقْت الصَّلَاة . وَهَذَا تَحَكُّم لَا وَجْه لَهُ , وَقَدْ حَكَمُوا لِلْحَائِضِ بَعْد اِنْقِطَاع دَمهَا بِحُكْمِ الْحَبْس فِي الْعِدَّة وَقَالُوا لِزَوْجِهَا : عَلَيْهَا الرَّجْعَة مَا لَمْ تَغْتَسِل مِنْ الْحَيْضَة الثَّالِثَة , فَعَلَى قِيَاس قَوْلهمْ هَذَا لَا يَجِب أَنْ تُوطَأ حَتَّى تَغْتَسِل , مَعَ مُوَافَقَة أَهْل الْمَدِينَة . وَدَلِيلنَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانه عَلَّقَ الْحُكْم فِيهَا عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدهمَا : اِنْقِطَاع الدَّم , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى يَطْهُرْنَ " . وَالثَّانِي : الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " أَيْ يَفْعَلْنَ الْغُسْل بِالْمَاءِ , وَهَذَا مِثْل قَوْله تَعَالَى : " وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح " [ النِّسَاء : 6 ] الْآيَة , فَعَلَّقَ الْحُكْم وَهُوَ جَوَاز دَفْع الْمَال عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدهمَا : بُلُوغ الْمُكَلَّف النِّكَاح . وَالثَّانِي : إِينَاس الرُّشْد , وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَة : " فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " [ الْبَقَرَة : 230 ] ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّة بِاشْتِرَاطِ الْعُسَيْلَة , فَوَقَفَ التَّحْلِيل عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا , وَهُوَ اِنْعِقَاد النِّكَاح وَوُجُود الْوَطْء . اِحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة فَقَالَ : إِنَّ مَعْنَى الْآيَة , الْغَايَة فِي الشَّرْط هُوَ الْمَذْكُور فِي الْغَايَة قَبْلهَا , فَيَكُون قَوْله : " حَتَّى يَطْهُرْنَ " مُخَفَّفًا هُوَ بِمَعْنَى قَوْله : " يَطَّهَّرْنَ " مُشَدَّدًا بِعَيْنِهِ , وَلَكِنَّهُ جَمَعَ بَيْن اللُّغَتَيْنِ فِي الْآيَة , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فِيهِ رِجَال يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّه يُحِبّ الْمُطَّهِرِينَ " [ التَّوْبَة : 108 ] . قَالَ الْكُمَيْت : وَمَا كَانَتْ الْأَنْصَار فِيهَا أَذِلَّة وَلَا غُيَّبًا فِيهَا إِذَا النَّاس غُيَّب وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فَيَجِب أَنْ يُعْمَل بِهِمَا . وَنَحْنُ نَحْمِل كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَلَى مَعْنًى , فَنَحْمِل الْمُخَفَّفَة عَلَى مَا إِذَا اِنْقَطَعَ دَمهَا لِلْأَقَلِّ , فَإِنَّا لَا نُجَوِّز وَطْأَهَا حَتَّى تَغْتَسِل ; لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن عَوْده : وَنَحْمِل الْقِرَاءَة الْأُخْرَى عَلَى مَا إِذَا اِنْقَطَعَ دَمهَا لِلْأَكْثَرِ فَيَجُوز وَطْؤُهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِل . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا أَقْوَى مَا لَهُمْ , فَالْجَوَاب عَنْ الْأَوَّل : أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ كَلَام الْفُصَحَاء , وَلَا أَلْسُن الْبُلَغَاء , فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّكْرَار فِي التَّعْدَاد , وَإِذَا أَمْكَنَ حُمِلَ اللَّفْظ عَلَى فَائِدَة مُجَرَّدَة لَمْ يُحْمَل عَلَى التَّكْرَار فِي كَلَام النَّاس , فَكَيْف فِي كَلَام الْعَلِيم الْحَكِيم ! وَعَنْ الثَّانِي : أَنَّ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا مَحْمُولَة عَلَى مَعْنًى دُون مَعْنَى الْأُخْرَى , فَيَلْزَمهُمْ إِذَا اِنْقَطَعَ الدَّم أَلَّا يُحْكَم لَهَا بِحُكْمِ الْحَيْض قَبْل أَنْ تَغْتَسِل فِي الرَّجْعَة , وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ , فَهِيَ إِذًا حَائِض , وَالْحَائِض لَا يَجُوز وَطْؤُهَا اِتِّفَاقًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا قَالُوهُ يَقْتَضِي إِبَاحَة الْوَطْء عِنْد اِنْقِطَاع الدَّم لِلْأَكْثَرِ وَمَا قُلْنَاهُ يَقْتَضِي الْحَظْر , وَإِذَا تَعَارَضَ مَا يَقْتَضِي الْحَظْر وَمَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَة وَيُغَلَّب بَاعِثَاهُمَا غُلِّبَ بَاعِث الْحَظْر , كَمَا قَالَ عَلِيّ وَعُثْمَان فِي الْجَمْع بَيْن الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِين , أَحَلَّتْهُمَا آيَة وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى , وَالتَّحْرِيم أَوْلَى . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْكِتَابِيَّة هَلْ تُجْبَر عَلَى الِاغْتِسَال أَمْ لَا , فَقَالَ مَالِك فِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم : نَعَمْ , لِيَحِلّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " يَقُول بِالْمَاءِ , وَلَمْ يَخُصّ مُسْلِمَة مِنْ غَيْرهَا . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك أَنَّهَا لَا تُجْبَر عَلَى الِاغْتِسَال مِنْ الْمَحِيض , لِأَنَّهَا غَيْر مُعْتَقِدَة لِذَلِكَ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا يَحِلّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّه فِي أَرْحَامهنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " [ الْبَقَرَة : 228 ] وَهُوَ الْحَيْض وَالْحَمْل , وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنَات , وَقَالَ : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " [ الْبَقَرَة : 256 ] وَبِهَذَا كَانَ يَقُول مَحْمُود بْن عَبْد الْحَكَم . وَصِفَة غُسْل الْحَائِض صِفَة غُسْلهَا مِنْ الْجَنَابَة , وَلَيْسَ عَلَيْهَا نَقْض شَعْرهَا فِي ذَلِكَ , لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي أَشُدّ ضَفْر رَأْسِي أَفَأَنْقُضهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَة ؟ قَالَ : ( لَا إِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسك ثَلَاث حَثَيَات ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْك الْمَاء فَتَطْهُرِينَ ) وَفِي رِوَايَة : أَفَأَنْقُضهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَة ؟ فَقَالَ : ( لَا ) زَادَ أَبُو دَاوُد : ( وَاغْمِزِي قُرُونك عِنْد كُلّ حَفْنَةٍ ) .
أَيْ فَجَامِعُوهُنَّ . وَهُوَ أَمْر إِبَاحَة , وَكَنَّى بِالْإِتْيَانِ عَنْ الْوَطْء , وَهَذَا الْأَمْر يُقَوِّي مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَاد بِالتَّطَهُّرِ الْغُسْل بِالْمَاءِ ; لِأَنَّ صِيغَة الْأَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى لَا تَقَع إِلَّا عَلَى الْوَجْه الْأَكْمَل . وَاَللَّه أَعْلَم . و " مِنْ " بِمَعْنَى فِي , أَيْ فِي حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ الْقُبُل , وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى : " أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْض " [ فَاطِر : 40 ] أَيْ فِي الْأَرْض , : وَقَوْله : " إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْم الْجُمُعَة " [ الْجُمُعَة : 9 ] أَيْ فِي يَوْم الْجُمُعَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى , أَيْ مِنْ الْوَجْه الَّذِي أُذِنَ لَكُمْ فِيهِ , أَيْ مِنْ غَيْر صَوْم وَإِحْرَام وَاعْتِكَاف , قَالَهُ الْأَصَمّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو رَزِين : ( مِنْ قِبَل الطُّهْر لَا مِنْ قِبَل الْحَيْض ) , وَقَالَهُ الضَّحَّاك . وَقَالَ مُحَمَّد اِبْن الْحَنَفِيَّة : الْمَعْنَى مِنْ قِبَل الْحَلَال لَا مِنْ قِبَل الزِّنَى .
اخْتُلِفَ فِيهِ , فَقِيلَ : التَّوَّابُونَ مِنْ الذُّنُوب وَالشِّرْك . وَالْمُتَطَهِّرُونَ أَيْ بِالْمَاءِ مِنْ الْجَنَابَة وَالْأَحْدَاث , قَالَهُ عَطَاء وَغَيْره . وَقَالَ مُجَاهِد : مِنْ الذُّنُوب , وَعَنْهُ أَيْضًا : مِنْ إِتْيَان النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ . اِبْن عَطِيَّة : كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْ قَوْم لُوط : " أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاس يَتَطَهَّرُونَ " [ الْأَعْرَاف : 82 ] . وَقِيلَ : الْمُتَطَهِّرُونَ الَّذِينَ لَمْ يُذْنِبُوا . فَإِنْ قِيلَ : كَيْف قَدَّمَ بِالذِّكْرِ الَّذِي أَذْنَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يُذْنِب , قِيلَ : قَدَّمَهُ لِئَلَّا يَقْنَط التَّائِب مِنْ الرَّحْمَة وَلَا يُعْجَب الْمُتَطَهِّر بِنَفْسِهِ , كَمَا ذَكَرَ فِي آيَة أُخْرَى : " فَمِنْهُمْ ظَالِم لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِد وَمِنْهُمْ سَابِق بِالْخَيْرَاتِ " [ الْمَلَائِكَة : 32 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَة أَحْكَام فِي رُؤْيَتهَا الدَّم الظَّاهِر السَّائِل مِنْ فَرْجهَا , فَمِنْ ذَلِكَ الْحَيْض الْمَعْرُوف , وَدَمه أَسْوَد خَاثِر تَعْلُوهُ حُمْرَة , تُتْرَك لَهُ الصَّلَاة وَالصَّوْم , لَا خِلَاف فِي ذَلِكَ . وَقَدْ يَتَّصِل وَيَنْقَطِع , فَإِنْ اِتَّصَلَ فَالْحُكْم ثَابِت لَهُ , وَإِنْ اِنْقَطَعَ فَرَأَتْ الدَّم يَوْمًا وَالطُّهْر يَوْمًا , أَوْ رَأَتْ الدَّم يَوْمَيْنِ وَالطُّهْر يَوْمَيْنِ أَوْ يَوْمًا فَإِنَّهَا تَتْرُك الصَّلَاة فِي أَيَّام الدَّم , وَتَغْتَسِل عِنْد اِنْقِطَاعه وَتُصَلِّي , ثُمَّ تُلَفِّق أَيَّام الدَّم وَتُلْغِي أَيَّام الطُّهْر الْمُتَخَلِّلَة لَهَا , وَلَا تَحْتَسِب بِهَا طُهْرًا فِي عِدَّة وَلَا اِسْتِبْرَاء . وَالْحَيْض خِلْقَة فِي النِّسَاء , وَطَبْع مُعْتَاد مَعْرُوف مِنْهُنَّ . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْر إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاء فَقَالَ : ( يَا مَعْشَر النِّسَاء تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَر أَهْل النَّار - فَقُلْنَ وَبِمَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ - تُكْثِرْنَ اللَّعْن وَتَكْفُرْنَ الْعَشِير مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَات عَقْل وَدِين أَذْهَب لِلُبِّ الرَّجُل الْحَازِم مِنْ إِحْدَاكُنَّ - قُلْنَ : وَمَا نُقْصَان عَقْلنَا وَدِيننَا يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مِثْل نِصْف شَهَادَة الرَّجُل ؟ قُلْنَ : بَلَى , قَالَ : فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَان عَقْلهَا أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ ؟ قُلْنَ : بَلَى يَا رَسُول اللَّه , قَالَ : فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَان دِينهَا ) . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْحَائِض تَقْضِي الصَّوْم وَلَا تَقْضِي الصَّلَاة , لِحَدِيثِ مُعَاذَة قَالَتْ : سَأَلْت عَائِشَة فَقُلْت : مَا بَال الْحَائِض تَقْضِي الصَّوْم وَلَا تَقْضِي الصَّلَاة ؟ قَالَتْ : أَحَرُورِيَّة أَنْتَ ؟ قُلْت : لَسْت بِحَرُورِيَّة , وَلَكِنِّي أَسْأَل . قَالَتْ : كَانَ يُصِيبنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَر بِقَضَاءِ الصَّوْم وَلَا نُؤْمَر بِقَضَاءِ الصَّلَاة , خَرَّجَهُ مُسْلِم . فَإِذَا اِنْقَطَعَ عَنْهَا كَانَ طُهْرهَا مِنْهُ الْغُسْل , عَلَى مَا يَأْتِي .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مِقْدَار الْحَيْض , فَقَالَ فُقَهَاء الْمَدِينَة : إِنَّ الْحَيْض لَا يَكُون أَكْثَر مِنْ خَمْسَة عَشَر يَوْمًا , وَجَائِز أَنْ يَكُون خَمْسَة عَشَر يَوْمًا فَمَا دُون , وَمَا زَادَ عَلَى خَمْسَة عَشَر يَوْمًا لَا يَكُون حَيْضًا وَإِنَّمَا هُوَ اِسْتِحَاضَة , هَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا وَقْت لِقَلِيلِ الْحَيْض وَلَا لِكَثِيرِهِ إِلَّا مَا يُوجَد فِي النِّسَاء , فَكَأَنَّهُ تَرَكَ قَوْله الْأَوَّل وَرَجَعَ إِلَى عَادَة النِّسَاء . وَقَالَ مُحَمَّد بْن سَلَمَة : أَقَلّ الطُّهْر خَمْسَة عَشَر يَوْمًا , وَهُوَ اِخْتِيَار أَكْثَر الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا وَالثَّوْرِيّ , وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ جَعَلَ عِدَّة ذَوَات الْأَقْرَاء ثَلَاث حِيَض , وَجَعَلَ عِدَّة مَنْ لَا تَحِيض مِنْ كِبَر أَوْ صِغَر ثَلَاثَة أَشْهُر , فَكَانَ كُلّ قُرْء عِوَضًا مِنْ شَهْر , وَالشَّهْر يَجْمَع الطُّهْر وَالْحَيْض . فَإِذَا قَلَّ الْحَيْض كَثُرَ الطُّهْر , وَإِذَا كَثُرَ الْحَيْض قَلَّ الطُّهْر , فَلَمَّا كَانَ أَكْثَر الْحَيْض خَمْسَة عَشَر يَوْمًا وَجَبَ أَنْ يَكُون بِإِزَائِهِ أَقَلّ الطُّهْر خَمْسَة عَشَر يَوْمًا لِيَكْمُل فِي الشَّهْر الْوَاحِد حَيْض وَطُهْر , وَهُوَ الْمُتَعَارَف فِي الْأَغْلَب مِنْ خِلْقَة النِّسَاء وَجِبِلَّتهنَّ مَعَ دَلَائِل الْقُرْآن وَالسُّنَّة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : أَقَلّ الْحَيْض يَوْم وَلَيْلَة , وَأَكْثَره خَمْسَة عَشَر يَوْمًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْل قَوْل مَالِك : إِنَّ ذَلِكَ مَرْدُود إِلَى عُرْف النِّسَاء . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : أَقَلّ الْحَيْض ثَلَاثَة أَيَّام , وَأَكْثَره عَشَرَة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : مَا نَقَصَ عِنْد هَؤُلَاءِ عَنْ ثَلَاثَة أَيَّام فَهُوَ اِسْتِحَاضَة , لَا يَمْنَع مِنْ الصَّلَاة إِلَّا عِنْد أَوَّل ظُهُوره ; لِأَنَّهُ لَا يُعْلَم مَبْلَغ مُدَّته . ثُمَّ عَلَى الْمَرْأَة قَضَاء صَلَاة تِلْكَ الْأَوْقَات , وَكَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى عَشَرَة أَيَّام عِنْد الْكُوفِيِّينَ . وَعِنْد الْحِجَازِيِّينَ مَا زَادَ عَلَى خَمْسَة عَشَر يَوْمًا فَهُوَ اِسْتِحَاضَة . وَمَا كَانَ أَقَلّ مِنْ يَوْم وَلَيْلَة عِنْد الشَّافِعِيّ فَهُوَ اِسْتِحَاضَة , وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ وَالطَّبَرِيّ . وَمِمَّنْ قَالَ أَقَلّ الْحَيْض يَوْم وَلَيْلَة وَأَكْثَره خَمْسَة عَشَر يَوْمًا عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَأَبُو ثَوْر وَأَحْمَد بْن حَنْبَل . قَالَ الْأَوْزَاعِيّ : وَعِنْدنَا اِمْرَأَة تَحِيض غَدْوَة وَتَطْهُر عَشِيَّة وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْبَاب - مِنْ أَكْثَر الْحَيْض وَأَقَلّه وَأَقَلّ الطُّهْر , وَفَى الِاسْتِظْهَار , وَالْحُجَّة فِي ذَلِكَ - فِي " الْمُقْتَبَس فِي شَرْح مُوَطَّأ مَالِك بْن أَنَس " فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا مُبْتَدَأَة فَإِنَّهَا تَجْلِس أَوَّل مَا تَرَى الدَّم فِي قَوْل الشَّافِعِيّ خَمْسَة عَشَر يَوْمًا , ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُعِيد صَلَاة أَرْبَعَة عَشَر يَوْمًا . وَقَالَ مَالِك : لَا تَقْضِي الصَّلَاة وَيُمْسِك عَنْهَا زَوْجهَا . عَلِيّ بْن زِيَاد عَنْهُ : تَجْلِس قَدْر لِدَاتهَا , وَهَذَا قَوْل عَطَاء وَالثَّوْرِيّ وَغَيْرهمَا . اِبْن حَنْبَل : تَجْلِس يَوْمًا وَلَيْلَة , ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجهَا . أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف : تَدَع الصَّلَاة عَشْرًا , ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا , ثُمَّ تَتْرُك الصَّلَاة بَعْد الْعِشْرِينَ عَشْرًا , فَيَكُون هَذَا حَالهَا حَيْثُ يَنْقَطِع الدَّم عَنْهَا . أَمَّا الَّتِي لَهَا أَيَّام مَعْلُومَة فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِر عَلَى أَيَّامهَا الْمَعْلُومَة بِثَلَاثَةِ أَيَّام , عَنْ مَالِك : مَا لَمْ تُجَاوِز خَمْسَة عَشَر يَوْمًا . الشَّافِعِيّ : تَغْتَسِل إِذَا اِنْقَضَتْ أَيَّامهَا بِغَيْرِ اِسْتِظْهَار . وَالثَّانِي مِنْ الدِّمَاء : دَم النِّفَاس عِنْد الْوِلَادَة , وَلَهُ أَيْضًا عِنْد الْعُلَمَاء حَدّ مَعْلُوم اِخْتَلَفُوا فِيهِ , فَقِيلَ : شَهْرَانِ , وَهُوَ قَوْل مَالِك . وَقِيلَ : أَرْبَعُونَ يَوْمًا , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ . وَطُهْرهَا عِنْد اِنْقِطَاعه . وَالْغُسْل مِنْهُ كَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَة . قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب : وَدَم الْحَيْض وَالنِّفَاس يَمْنَعَانِ أَحَد عَشَر شَيْئًا : وَهِيَ وُجُوب الصَّلَاة وَصِحَّة فِعْلهَا وَفِعْل الصَّوْم دُون وُجُوبه - وَفَائِدَة الْفَرْق لُزُوم الْقَضَاء لِلصَّوْمِ وَنَفْيه فِي الصَّلَاة - وَالْجِمَاع فِي الْفَرْج وَمَا دُونه وَالْعِدَّة وَالطَّلَاق , وَالطَّوَاف وَمَسّ الْمُصْحَف وَدُخُول الْمَسْجِد وَالِاعْتِكَاف فِيهِ , وَفِي قِرَاءَة الْقُرْآن رِوَايَتَانِ . وَالثَّالِث مِنْ الدِّمَاء : دَم لَيْسَ بِعَادَةٍ وَلَا طَبْع مِنْهُنَّ وَلَا خِلْقَة , وَإِنَّمَا هُوَ عِرْق اِنْقَطَعَ , سَائِله دَم أَحْمَر لَا اِنْقِطَاع لَهُ إِلَّا عِنْد الْبُرْء مِنْهُ , فَهَذَا حُكْمه أَنْ تَكُون الْمَرْأَة مِنْهُ طَاهِرَة لَا يَمْنَعهَا مِنْ صَلَاة وَلَا صَوْم بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْعُلَمَاء وَاتِّفَاق مِنْ الْآثَار الْمَرْفُوعَة إِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ دَم عِرْق لَا دَم حَيْض . رَوَى مَالِك عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَتْ فَاطِمَة بِنْت أَبِي حُبَيْش : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي لَا أَطْهُر ! أَفَأَدَع الصَّلَاة ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْق وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ إِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَة فَدَعِي الصَّلَاة فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّم وَصَلِّي ) . وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَعَ صِحَّته وَقِلَّة أَلْفَاظه مَا يُفَسِّر لَك أَحْكَام الْحَائِض وَالْمُسْتَحَاضَة , وَهُوَ أَصَحّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب , وَهُوَ يَرُدّ مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر وَمَكْحُول أَنَّ الْحَائِض تَغْتَسِل وَتَتَوَضَّأ عِنْد كُلّ وَقْت صَلَاة , وَتَسْتَقْبِل الْقِبْلَة ذَاكِرَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جَالِسَة . وَفِيهِ أَنَّ الْحَائِض لَا تُصَلِّي , وَهُوَ إِجْمَاع مِنْ كَافَّة الْعُلَمَاء إِلَّا طَوَائِف مِنْ الْخَوَارِج يَرَوْنَ عَلَى الْحَائِض الصَّلَاة . وَفِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَة لَا يَلْزَمهَا غَيْر ذَلِكَ الْغُسْل الَّذِي تَغْتَسِل مِنْ حَيْضهَا , وَلَوْ لَزِمَهَا غَيْره لَأَمَرَهَا بِهِ , وَفِيهِ رَدّ لِقَوْلِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاة . وَلِقَوْلِ مَنْ رَأَى عَلَيْهَا أَنْ تَجْمَع بَيْن صَلَاتَيْ النَّهَار بِغُسْلٍ وَاحِد , وَصَلَاتَيْ اللَّيْل بِغُسْلٍ وَاحِد وَتَغْتَسِل لِلصُّبْحِ . وَلِقَوْلِ مَنْ قَالَ : تَغْتَسِل مِنْ طُهْر إِلَى طُهْر . وَلِقَوْلِ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب مِنْ طُهْر إِلَى طُهْر ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . وَفِيهِ رَدّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالِاسْتِظْهَارِ , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَتهَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَذَهَبَتْ أَنْ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي , وَلَمْ يَأْمُرهَا أَنْ تَتْرُك الصَّلَاة ثَلَاثَة أَيَّام لِانْتِظَارِ حَيْض يَجِيء أَوْ لَا يَجِيء , وَالِاحْتِيَاط إِنَّمَا يَكُون فِي عَمَل الصَّلَاة لَا فِي تَرْكهَا .
أَيْ هُوَ شَيْء تَتَأَذَّى بِهِ الْمَرْأَة وَغَيْرهَا أَيْ بِرَائِحَةِ دَم الْحَيْض . وَالْأَذَى كِنَايَة عَنْ الْقَذَر عَلَى الْجُمْلَة . وَيُطْلَق عَلَى الْقَوْل الْمَكْرُوه , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى " [ الْبَقَرَة : 264 ] أَيْ بِمَا تَسْمَعهُ مِنْ الْمَكْرُوه . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَدَعْ أَذَاهُمْ " [ الْأَحْزَاب : 48 ] أَيْ دَعْ أَذَى الْمُنَافِقِينَ لَا تُجَازِهِمْ إِلَّا أَنْ تُؤْمَر فِيهِمْ , وَفِي الْحَدِيث : ( وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى ) يَعْنِي ب " الْأَذَى " الشَّعْر الَّذِي يَكُون عَلَى رَأْس الصَّبِيّ حِين يُولَد , يُحْلَق عَنْهُ يَوْم أُسْبُوعه , وَهِيَ الْعَقِيقَة . وَفِي حَدِيث الْإِيمَان : ( وَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ الطَّرِيق ) أَيْ تَنْحِيَته , يَعْنِي الشَّوْك وَالْحَجَر , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ الْمَارّ . وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَر " [ النِّسَاء : 102 ] وَسَيَأْتِي .
اِسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ وَطْء الْمُسْتَحَاضَة بِسَيَلَانِ دَم الِاسْتِحَاضَة , فَقَالُوا : كُلّ دَم فَهُوَ أَذًى , يَجِب غَسْله مِنْ الثَّوْب وَالْبَدَن , فَلَا فَرْق فِي الْمُبَاشَرَة بَيْن دَم الْحَيْض وَالِاسْتِحَاضَة لِأَنَّهُ كُلّه رِجْس . وَأَمَّا الصَّلَاة فَرُخْصَة وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّة كَمَا يُصَلَّى بِسَلَسِ الْبَوْل , هَذَا قَوْل إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَسُلَيْمَان بْن يَسَار وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَة وَعَامِر الشَّعْبِيّ وَابْن سِيرِينَ وَالزُّهْرِيّ . وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ الْحَسَن , وَهُوَ قَوْل عَائِشَة : لَا يَأْتِيهَا زَوْجهَا , وَبِهِ قَالَ اِبْن عُلَيَّة وَالْمُغِيرَة بْن عَبْد الرَّحْمَن , وَكَانَ مِنْ أَعْلَى أَصْحَاب مَالِك , وَأَبُو مُصْعَب , وَبِهِ كَانَ يُفْتَى . وَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء : الْمُسْتَحَاضَة تَصُوم وَتُصَلِّي وَتَطُوف وَتَقْرَأ , وَيَأْتِيهَا زَوْجهَا . قَالَ مَالِك : أَمْر أَهْل الْفِقْه وَالْعِلْم عَلَى هَذَا , وَإِنْ كَانَ دَمهَا كَثِيرًا , رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن وَهْب . وَكَانَ أَحْمَد يَقُول : أَحَبّ إِلَيَّ أَلَّا يَطَأهَا إِلَّا أَنْ يَطُول ذَلِكَ بِهَا . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس فِي الْمُسْتَحَاضَة : ( لَا بَأْس أَنْ يُصِيبهَا زَوْجهَا وَإِنْ كَانَ الدَّم يَسِيل عَلَى عَقِبَيْهَا ) . وَقَالَ مَالِك : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْق وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ ) . فَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَيْضَة فَمَا يَمْنَعهُ أَنْ يُصِيبهَا وَهِيَ تُصَلِّي ! قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : لَمَّا حَكَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي دَم الْمُسْتَحَاضَة بِأَنَّهُ لَا يَمْنَع الصَّلَاة وَتُعُبِّدَ فِيهِ بِعِبَادَةٍ غَيْر عِبَادَة الْحَائِض وَجَبَ أَلَّا يُحْكَم لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حُكْم الْحَيْض إِلَّا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ غَسْله كَسَائِرِ الدِّمَاء .
أَيْ فِي زَمَن الْحَيْض , إِنْ حَمَلْت الْمَحِيض عَلَى الْمَصْدَر , أَوْ فِي مَحَلّ الْحَيْض إِنْ حَمَلْته عَلَى الِاسْم . وَمَقْصُود هَذَا النَّهْي تَرْك الْمُجَامَعَة . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مُبَاشَرَة الْحَائِض وَمَا يُسْتَبَاح مِنْهَا , فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعُبَيْدَة السَّلْمَانِيّ ( أَنَّهُ يَجِب أَنْ يَعْتَزِل الرَّجُل فِرَاش زَوْجَته إِذَا حَاضَتْ ) . وَهَذَا قَوْل شَاذّ خَارِج عَنْ قَوْل الْعُلَمَاء . وَإِنْ كَانَ عُمُوم الْآيَة يَقْتَضِيه فَالسُّنَّة الثَّابِتَة بِخِلَافِهِ , وَقَدْ وَقَفَتْ عَلَى اِبْن عَبَّاس خَالَته مَيْمُونَة وَقَالَتْ لَهُ : أَرَاغِب أَنْتَ عَنْ سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ! وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَجَمَاعَة عَظِيمَة مِنْ الْعُلَمَاء : لَهُ مِنْهَا مَا فَوْق الْإِزَار , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِلسَّائِلِ حِين سَأَلَهُ : مَا يَحِلّ لِي مِنْ اِمْرَأَتِي وَهِيَ حَائِض ؟ فَقَالَ - : ( لِتَشُدّ عَلَيْهَا إِزَارهَا ثُمَّ شَأْنك بِأَعْلَاهَا ) وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِعَائِشَة حِين حَاضَتْ : ( شُدِّي عَلَى نَفْسك إِزَارك ثُمَّ عُودِي إِلَى مَضْجَعك ) . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : يَجْتَنِب مَوْضِع الدَّم , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِصْنَعُوا كُلّ شَيْء إِلَّا النِّكَاح ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَهُوَ قَوْل دَاوُد , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَرَوَى أَبُو مَعْشَر عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ مَسْرُوق قَالَ : سَأَلْت عَائِشَة مَا يَحِلّ لِي مِنْ اِمْرَأَتِي وَهِيَ حَائِض ؟ فَقَالَتْ : كُلّ شَيْء إِلَّا الْفَرْج . قَالَ الْعُلَمَاء : مُبَاشَرَة الْحَائِض وَهِيَ مُتَّزِرَة عَلَى الِاحْتِيَاط وَالْقَطْع لِلذَّرِيعَةِ , وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبَاحَ فَخِذَيْهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذَرِيعَة إِلَى مَوْضِع الدَّم الْمُحَرَّم بِإِجْمَاعٍ فَأَمَرَ بِذَلِكَ اِحْتِيَاطًا , وَالْمُحَرَّم نَفْسه مَوْضِع الدَّم , فَتَتَّفِق بِذَلِكَ مَعَانِي الْآثَار , وَلَا تَضَادّ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق . وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي يَأْتِي اِمْرَأَته وَهِيَ حَائِض مَاذَا عَلَيْهِ , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : يَسْتَغْفِر اللَّه وَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل رَبِيعَة وَيَحْيَى بْن سَعِيد , وَبِهِ قَالَ دَاوُد . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن الْحَسَن : يَتَصَدَّق بِنِصْفِ دِينَار . وَقَالَ أَحْمَد : مَا أَحْسَن حَدِيث عَبْد الْحَمِيد عَنْ مِقْسَم عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَتَصَدَّق بِدِينَارٍ أَوْ نِصْف دِينَار ) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ : هَكَذَا الرِّوَايَة الصَّحِيحَة , قَالَ : دِينَار أَوْ نِصْف دِينَار , وَاسْتَحَبَّهُ الطَّبَرِيّ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ بِبَغْدَاد . وَقَالَتْ فِرْقَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث : إِنْ وَطِئَ فِي الدَّم فَعَلَيْهِ دِينَار , وَإِنْ وَطِئَ فِي اِنْقِطَاعه فَنِصْف دِينَار . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : مَنْ وَطِئَ اِمْرَأَته وَهِيَ حَائِض تَصَدَّقَ بِخُمُسَيّ دِينَار , وَالطُّرُق لِهَذَا كُلّه فِي " سُنَن أَبِي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ " وَغَيْرهمَا . وَفِي كِتَاب التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَر فَدِينَار وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَر فَنِصْف دِينَار ) . قَالَ أَبُو عُمَر : حُجَّة مَنْ لَمْ يُوجِب عَلَيْهِ كَفَّارَة إِلَّا الِاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة اِضْطِرَاب هَذَا الْحَدِيث عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَأَنَّ مِثْله لَا تَقُوم بِهِ حُجَّة , وَأَنَّ الذِّمَّة عَلَى الْبَرَاءَة , وَلَا يَجِب أَنْ يَثْبُت فِيهَا شَيْء لِمِسْكِينٍ وَلَا غَيْره إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا مَدْفَع فِيهِ وَلَا مَطْعَن عَلَيْهِ , وَذَلِكَ مَعْدُوم فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة .
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : سَمِعْت الشَّاشِيّ فِي مَجْلِس النَّظَر يَقُول : إِذَا قِيلَ لَا تَقْرَب ( بِفَتْحِ الرَّاء ) كَانَ مَعْنَاهُ : لَا تَلَبَّسْ بِالْفِعْلِ , وَإِنْ كَانَ بِضَمِّ الرَّاء كَانَ مَعْنَاهُ : لَا تَدْنُ مِنْهُ . وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَابْن عَامِر وَعَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص عَنْهُ " يَطْهُرْنَ " بِسُكُونِ الطَّاء وَضَمّ الْهَاء . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَالْمُفَضَّل " يَطَّهَّرْنَ " بِتَشْدِيدِ الطَّاء وَالْهَاء وَفَتْحهمَا . وَفِي مُصْحَف أُبَيّ وَعَبْد اللَّه " يَتَطَهَّرْنَ " . وَفِي مُصْحَف أَنَس بْن مَالِك " وَلَا تَقْرَبُوا النِّسَاء فِي مَحِيضهنَّ وَاعْتَزِلُوهُنَّ حَتَّى يَتَطَهَّرْنَ " . وَرَجَّحَ الطَّبَرِيّ قِرَاءَة تَشْدِيد الطَّاء , وَقَالَ : هِيَ بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ , لِإِجْمَاعِ الْجَمِيع عَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى الرَّجُل أَنْ يَقْرَب اِمْرَأَته بَعْد اِنْقِطَاع الدَّم حَتَّى تَطْهُر . قَالَ : وَإِنَّمَا الْخِلَاف فِي الطُّهْر مَا هُوَ , فَقَالَ قَوْم : هُوَ الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ . وَقَالَ قَوْم : هُوَ وُضُوء كَوُضُوءِ الصَّلَاة . وَقَالَ قَوْم : هُوَ غَسْل الْفَرْج , وَذَلِكَ يُحِلّهَا لِزَوْجِهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِل مِنْ الْحَيْضَة , وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ قِرَاءَة تَخْفِيف الطَّاء , إِذْ هُوَ ثُلَاثِيّ مُضَادّ لِطَمِثَ وَهُوَ ثُلَاثِيّ .
يَعْنِي بِالْمَاءِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِك وَجُمْهُور الْعُلَمَاء , وَأَنَّ الطُّهْر الَّذِي يَحِلّ بِهِ جِمَاع الْحَائِض الَّذِي يَذْهَب عَنْهَا الدَّم هُوَ تَطَهُّرهَا بِالْمَاءِ كَطُهْرِ الْجُنُب , وَلَا يُجْزِئ مِنْ ذَلِكَ تَيَمُّم وَلَا غَيْره , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالطَّبَرِيّ وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَأَهْل الْمَدِينَة وَغَيْرهمْ . وَقَالَ يَحْيَى بْن بُكَيْر وَمُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : إِذَا طَهُرَتْ الْحَائِض وَتَيَمَّمَتْ - حَيْثُ لَا مَاء حَلَّتْ لِزَوْجِهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِل . وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَطَاوُس : اِنْقِطَاع الدَّم يُحِلّهَا لِزَوْجِهَا . وَلَكِنْ بِأَنْ تَتَوَضَّأ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد : إِنْ اِنْقَطَعَ دَمهَا بَعْد مُضِيّ عَشَرَة أَيَّام جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأهَا قَبْل الْغُسْل , وَإِنْ كَانَ اِنْقِطَاعه قَبْل الْعَشَرَة لَمْ يَجُزْ حَتَّى تَغْتَسِل أَوْ يَدْخُل عَلَيْهَا وَقْت الصَّلَاة . وَهَذَا تَحَكُّم لَا وَجْه لَهُ , وَقَدْ حَكَمُوا لِلْحَائِضِ بَعْد اِنْقِطَاع دَمهَا بِحُكْمِ الْحَبْس فِي الْعِدَّة وَقَالُوا لِزَوْجِهَا : عَلَيْهَا الرَّجْعَة مَا لَمْ تَغْتَسِل مِنْ الْحَيْضَة الثَّالِثَة , فَعَلَى قِيَاس قَوْلهمْ هَذَا لَا يَجِب أَنْ تُوطَأ حَتَّى تَغْتَسِل , مَعَ مُوَافَقَة أَهْل الْمَدِينَة . وَدَلِيلنَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانه عَلَّقَ الْحُكْم فِيهَا عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدهمَا : اِنْقِطَاع الدَّم , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى يَطْهُرْنَ " . وَالثَّانِي : الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " أَيْ يَفْعَلْنَ الْغُسْل بِالْمَاءِ , وَهَذَا مِثْل قَوْله تَعَالَى : " وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح " [ النِّسَاء : 6 ] الْآيَة , فَعَلَّقَ الْحُكْم وَهُوَ جَوَاز دَفْع الْمَال عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدهمَا : بُلُوغ الْمُكَلَّف النِّكَاح . وَالثَّانِي : إِينَاس الرُّشْد , وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَة : " فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " [ الْبَقَرَة : 230 ] ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّة بِاشْتِرَاطِ الْعُسَيْلَة , فَوَقَفَ التَّحْلِيل عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا , وَهُوَ اِنْعِقَاد النِّكَاح وَوُجُود الْوَطْء . اِحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة فَقَالَ : إِنَّ مَعْنَى الْآيَة , الْغَايَة فِي الشَّرْط هُوَ الْمَذْكُور فِي الْغَايَة قَبْلهَا , فَيَكُون قَوْله : " حَتَّى يَطْهُرْنَ " مُخَفَّفًا هُوَ بِمَعْنَى قَوْله : " يَطَّهَّرْنَ " مُشَدَّدًا بِعَيْنِهِ , وَلَكِنَّهُ جَمَعَ بَيْن اللُّغَتَيْنِ فِي الْآيَة , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فِيهِ رِجَال يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّه يُحِبّ الْمُطَّهِرِينَ " [ التَّوْبَة : 108 ] . قَالَ الْكُمَيْت : وَمَا كَانَتْ الْأَنْصَار فِيهَا أَذِلَّة وَلَا غُيَّبًا فِيهَا إِذَا النَّاس غُيَّب وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فَيَجِب أَنْ يُعْمَل بِهِمَا . وَنَحْنُ نَحْمِل كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَلَى مَعْنًى , فَنَحْمِل الْمُخَفَّفَة عَلَى مَا إِذَا اِنْقَطَعَ دَمهَا لِلْأَقَلِّ , فَإِنَّا لَا نُجَوِّز وَطْأَهَا حَتَّى تَغْتَسِل ; لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن عَوْده : وَنَحْمِل الْقِرَاءَة الْأُخْرَى عَلَى مَا إِذَا اِنْقَطَعَ دَمهَا لِلْأَكْثَرِ فَيَجُوز وَطْؤُهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِل . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا أَقْوَى مَا لَهُمْ , فَالْجَوَاب عَنْ الْأَوَّل : أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ كَلَام الْفُصَحَاء , وَلَا أَلْسُن الْبُلَغَاء , فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّكْرَار فِي التَّعْدَاد , وَإِذَا أَمْكَنَ حُمِلَ اللَّفْظ عَلَى فَائِدَة مُجَرَّدَة لَمْ يُحْمَل عَلَى التَّكْرَار فِي كَلَام النَّاس , فَكَيْف فِي كَلَام الْعَلِيم الْحَكِيم ! وَعَنْ الثَّانِي : أَنَّ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا مَحْمُولَة عَلَى مَعْنًى دُون مَعْنَى الْأُخْرَى , فَيَلْزَمهُمْ إِذَا اِنْقَطَعَ الدَّم أَلَّا يُحْكَم لَهَا بِحُكْمِ الْحَيْض قَبْل أَنْ تَغْتَسِل فِي الرَّجْعَة , وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ , فَهِيَ إِذًا حَائِض , وَالْحَائِض لَا يَجُوز وَطْؤُهَا اِتِّفَاقًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا قَالُوهُ يَقْتَضِي إِبَاحَة الْوَطْء عِنْد اِنْقِطَاع الدَّم لِلْأَكْثَرِ وَمَا قُلْنَاهُ يَقْتَضِي الْحَظْر , وَإِذَا تَعَارَضَ مَا يَقْتَضِي الْحَظْر وَمَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَة وَيُغَلَّب بَاعِثَاهُمَا غُلِّبَ بَاعِث الْحَظْر , كَمَا قَالَ عَلِيّ وَعُثْمَان فِي الْجَمْع بَيْن الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِين , أَحَلَّتْهُمَا آيَة وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى , وَالتَّحْرِيم أَوْلَى . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْكِتَابِيَّة هَلْ تُجْبَر عَلَى الِاغْتِسَال أَمْ لَا , فَقَالَ مَالِك فِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم : نَعَمْ , لِيَحِلّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " يَقُول بِالْمَاءِ , وَلَمْ يَخُصّ مُسْلِمَة مِنْ غَيْرهَا . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك أَنَّهَا لَا تُجْبَر عَلَى الِاغْتِسَال مِنْ الْمَحِيض , لِأَنَّهَا غَيْر مُعْتَقِدَة لِذَلِكَ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا يَحِلّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّه فِي أَرْحَامهنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " [ الْبَقَرَة : 228 ] وَهُوَ الْحَيْض وَالْحَمْل , وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنَات , وَقَالَ : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " [ الْبَقَرَة : 256 ] وَبِهَذَا كَانَ يَقُول مَحْمُود بْن عَبْد الْحَكَم . وَصِفَة غُسْل الْحَائِض صِفَة غُسْلهَا مِنْ الْجَنَابَة , وَلَيْسَ عَلَيْهَا نَقْض شَعْرهَا فِي ذَلِكَ , لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي أَشُدّ ضَفْر رَأْسِي أَفَأَنْقُضهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَة ؟ قَالَ : ( لَا إِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسك ثَلَاث حَثَيَات ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْك الْمَاء فَتَطْهُرِينَ ) وَفِي رِوَايَة : أَفَأَنْقُضهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَة ؟ فَقَالَ : ( لَا ) زَادَ أَبُو دَاوُد : ( وَاغْمِزِي قُرُونك عِنْد كُلّ حَفْنَةٍ ) .
أَيْ فَجَامِعُوهُنَّ . وَهُوَ أَمْر إِبَاحَة , وَكَنَّى بِالْإِتْيَانِ عَنْ الْوَطْء , وَهَذَا الْأَمْر يُقَوِّي مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَاد بِالتَّطَهُّرِ الْغُسْل بِالْمَاءِ ; لِأَنَّ صِيغَة الْأَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى لَا تَقَع إِلَّا عَلَى الْوَجْه الْأَكْمَل . وَاَللَّه أَعْلَم . و " مِنْ " بِمَعْنَى فِي , أَيْ فِي حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ الْقُبُل , وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى : " أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْض " [ فَاطِر : 40 ] أَيْ فِي الْأَرْض , : وَقَوْله : " إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْم الْجُمُعَة " [ الْجُمُعَة : 9 ] أَيْ فِي يَوْم الْجُمُعَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى , أَيْ مِنْ الْوَجْه الَّذِي أُذِنَ لَكُمْ فِيهِ , أَيْ مِنْ غَيْر صَوْم وَإِحْرَام وَاعْتِكَاف , قَالَهُ الْأَصَمّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو رَزِين : ( مِنْ قِبَل الطُّهْر لَا مِنْ قِبَل الْحَيْض ) , وَقَالَهُ الضَّحَّاك . وَقَالَ مُحَمَّد اِبْن الْحَنَفِيَّة : الْمَعْنَى مِنْ قِبَل الْحَلَال لَا مِنْ قِبَل الزِّنَى .
اخْتُلِفَ فِيهِ , فَقِيلَ : التَّوَّابُونَ مِنْ الذُّنُوب وَالشِّرْك . وَالْمُتَطَهِّرُونَ أَيْ بِالْمَاءِ مِنْ الْجَنَابَة وَالْأَحْدَاث , قَالَهُ عَطَاء وَغَيْره . وَقَالَ مُجَاهِد : مِنْ الذُّنُوب , وَعَنْهُ أَيْضًا : مِنْ إِتْيَان النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ . اِبْن عَطِيَّة : كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْ قَوْم لُوط : " أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاس يَتَطَهَّرُونَ " [ الْأَعْرَاف : 82 ] . وَقِيلَ : الْمُتَطَهِّرُونَ الَّذِينَ لَمْ يُذْنِبُوا . فَإِنْ قِيلَ : كَيْف قَدَّمَ بِالذِّكْرِ الَّذِي أَذْنَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يُذْنِب , قِيلَ : قَدَّمَهُ لِئَلَّا يَقْنَط التَّائِب مِنْ الرَّحْمَة وَلَا يُعْجَب الْمُتَطَهِّر بِنَفْسِهِ , كَمَا ذَكَرَ فِي آيَة أُخْرَى : " فَمِنْهُمْ ظَالِم لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِد وَمِنْهُمْ سَابِق بِالْخَيْرَاتِ " [ الْمَلَائِكَة : 32 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ↓
رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : ( كَانَتْ الْيَهُود تَقُول : إِذَا أَتَى الرَّجُل اِمْرَأَته مِنْ دُبُرهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَد أَحْوَل ) , فَنَزَلَتْ الْآيَة " نِسَائِكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " زَادَ فِي رِوَايَة عَنْ الزُّهْرِيّ : إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَة وَإِنْ شَاءَ غَيْر مُجَبِّيَةٍ غَيْر إِنَّ ذَلِكَ فِي صِمَام وَاحِد . وَيُرْوَى : فِي سِمَام وَاحِد بِالسِّينِ , قَالَهُ التِّرْمِذِيّ . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ نَافِع قَالَ : كَانَ اِبْن عُمَر إِذَا قَرَأَ الْقُرْآن لَمْ يَتَكَلَّم حَتَّى يَفْرُغ مِنْهُ , فَأَخَذْت عَلَيْهِ يَوْمًا , فَقَرَأَ سُورَة " الْبَقَرَة " حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى مَكَان قَالَ : أَتَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ ؟ قُلْت : لَا , قَالَ : نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا , ثُمَّ مَضَى . وَعَنْ عَبْد الصَّمَد قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي أَيُّوب عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر : " فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " قَالَ : يَأْتِيهَا فِي . قَالَ الْحُمَيْدِيّ : يَعْنِي الْفَرْج . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( إِنَّ اِبْن عُمَر وَاَللَّه يَغْفِر لَهُ وَهَمَ , إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَار , وَهُمْ أَهْل وَثَن , مَعَ هَذَا الْحَيّ مِنْ يَهُود , وَهُمْ أَهْل كِتَاب : وَكَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْم , فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلهمْ , وَكَانَ مِنْ أَمْر أَهْل الْكِتَاب أَلَّا يَأْتُوا النِّسَاء إِلَّا عَلَى حَرْف , وَذَلِكَ أَسْتَر مَا تَكُون الْمَرْأَة , فَكَانَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَار قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلهمْ , وَكَانَ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْش يَشْرَحُونَ النِّسَاء شَرْحًا مُنْكَرًا , وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَات وَمُدْبِرَات وَمُسْتَلْقِيَات , فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَة تَزَوَّجَ رَجُل مِنْهُمْ اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار , فَذَهَبَ يَصْنَع بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ , وَقَالَتْ : إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْف ! فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي , حَتَّى شَرِيَ أَمْرهمَا ) ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " , أَيْ مُقْبِلَات وَمُدْبِرَات وَمُسْتَلْقِيَات , يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْضِع الْوَلَد . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( جَاءَ عُمَر إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , هَلَكْت ! قَالَ : ( وَمَا أَهْلَكَك ؟ ) قَالَ : حَوَّلْت رَحْلِي اللَّيْلَة , قَالَ : فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا , قَالَ : فَأُوحِيَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَة : " نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُر وَالْحَيْضَة ) قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي النَّضْر أَنَّهُ قَالَ لِنَافِعٍ مَوْلَى اِبْن عُمَر : قَدْ أَكْثَرَ عَلَيْك الْقَوْل . إِنَّك تَقُول عَنْ اِبْن عُمَر : ( إِنَّهُ أَفْتَى بِأَنْ يُؤْتَى النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ ) . قَالَ نَافِع : لَقَدْ كَذَبُوا عَلَيَّ ! وَلَكِنْ سَأُخْبِرُك كَيْف كَانَ الْأَمْر : إِنَّ اِبْن عُمَر عَرَضَ عَلَيَّ الْمُصْحَف يَوْمًا وَأَنَا عِنْده حَتَّى بَلَغَ : " نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ " , قَالَ نَافِع : هَلْ تَدْرِي مَا أَمْر هَذِهِ الْآيَة ؟ إِنَّا كُنَّا مَعْشَر قُرَيْش نُجَبِّي النِّسَاء , فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَة وَنَكَحْنَا نِسَاء الْأَنْصَار أَرَدْنَا مِنْهُنَّ مَا كُنَّا نُرِيد مِنْ نِسَائِنَا , فَإِذَا هُنَّ قَدْ كَرِهْنَ ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَهُ , وَكَانَ نِسَاء الْأَنْصَار إِنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جُنُوبهنَّ , فَأَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانه : " نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " . هَذِهِ الْأَحَادِيث نَصّ فِي إِبَاحَة الْحَال وَالْهَيْئَات كُلّهَا إِذَا كَانَ الْوَطْء فِي مَوْضِع الْحَرْث , أَيْ كَيْف شِئْتُمْ مِنْ خَلْف وَمِنْ قُدَّام وَبَارِكَة وَمُسْتَلْقِيَة وَمُضْطَجِعَة , فَأَمَّا الْإِتْيَان فِي غَيْر الْمَأْتِيّ فَمَا كَانَ مُبَاحًا , وَلَا يُبَاح ! وَذِكْر الْحَرْث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْإِتْيَان فِي غَيْر الْمَأْتِيّ مُحَرَّم . و " حَرْث " تَشْبِيه , لِأَنَّهُنَّ مُزْدَرَع الذُّرِّيَّة , فَلَفْظ " الْحَرْث " يُعْطِي أَنَّ الْإِبَاحَة لَمْ تَقَع إِلَّا فِي الْفَرْج خَاصَّة إِذْ هُوَ الْمُزْدَرَع . وَأَنْشَدَ ثَعْلَب : إِنَّمَا الْأَرْحَام أَرْ ضُونَ لَنَا مُحْتَرَثَات فَعَلَيْنَا الزَّرْع فِيهَا وَعَلَى اللَّه النَّبَات فَفَرْج الْمَرْأَة كَالْأَرْضِ , وَالنُّطْفَة كَالْبَذْرِ , وَالْوَلَد كَالنَّبَاتِ , فَالْحَرْث بِمَعْنَى الْمُحْتَرَث . وَوُحِّدَ الْحَرْث لِأَنَّهُ مَصْدَر , كَمَا يُقَال : رَجُل صَوْم , وَقَوْم صَوْم . قَوْله تَعَالَى : " أَنَّى شِئْتُمْ " مَعْنَاهُ عِنْد الْجُمْهُور مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّة الْفَتْوَى : مِنْ أَيّ وَجْه شِئْتُمْ مُقْبِلَة وَمُدْبِرَة , كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا . و " أَنَّى " تَجِيء سُؤَالًا وَإِخْبَارًا عَنْ أَمْر لَهُ جِهَات , فَهُوَ أَعَمّ فِي اللُّغَة مِنْ " كَيْف " وَمِنْ " أَيْنَ " وَمِنْ " مَتَى " , هَذَا هُوَ الِاسْتِعْمَال الْعَرَبِيّ فِي " أَنَّى " . وَقَدْ فَسَّرَ النَّاس " أَنَّى " فِي هَذِهِ الْآيَة بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ . وَفَسَّرَهَا سِيبَوَيْهِ ب " كَيْف " وَمِنْ " أَيْنَ " بِاجْتِمَاعِهِمَا . وَذَهَبَتْ فِرْقَة مِمَّنْ فَسَّرَهَا ب " أَيْنَ " إِلَى أَنَّ الْوَطْء فِي الدُّبُر مُبَاح , وَمِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَوْل : سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَنَافِع وَابْن عُمَر وَمُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ وَعَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُونَ , وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِك فِي كِتَاب لَهُ يُسَمَّى " كِتَاب السِّرّ " . وَحُذَّاق أَصْحَاب مَالِك وَمَشَايِخهمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ الْكِتَاب , وَمَالِك أَجَلّ مِنْ أَنْ يَكُون لَهُ " كِتَاب سِرّ " . وَوَقَعَ هَذَا الْقَوْل فِي الْعُتْبِيَّة . وَذَكَرَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنَّ اِبْن شَعْبَان أَسْنَدَ جَوَاز هَذَا الْقَوْل إِلَى زُمْرَة كَبِيرَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ , وَإِلَى مَالِك مِنْ رِوَايَات كَثِيرَة فِي كِتَاب " جِمَاع النِّسْوَانِ وَأَحْكَام الْقُرْآن " . وَقَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا , وَيَتَأَوَّل فِيهِ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَان مِنْ الْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ أَزْوَاجكُمْ " [ الشُّعَرَاء : 165 - 166 ] . وَقَالَ : فَتَقْدِيره تَتْرُكُونَ مِثْل ذَلِكَ مِنْ أَزْوَاجكُمْ , وَلَوْ لَمْ يُبَحْ مِثْل ذَلِكَ مِنْ الْأَزْوَاج لَمَا صَحَّ ذَلِكَ , وَلَيْسَ الْمُبَاح مِنْ الْمَوْضِع الْآخَر مِثْلًا لَهُ , حَتَّى يُقَال : تَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَتَتْرُكُونَ مِثْله مِنْ الْمُبَاح . قَالَ الْكِيَا : وَهَذَا فِيهِ نَظَر , إِذْ مَعْنَاهُ : وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ أَزْوَاجكُمْ مِمَّا فِيهِ تَسْكِين شَهْوَتك , وَلَذَّة الْوَقَاع حَاصِلَة بِهِمَا جَمِيعًا , فَيَجُوز التَّوْبِيخ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . وَفِي قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّه " مَعَ قَوْله : " فَأْتُوا حَرْثكُمْ " مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَأْتِيّ اِخْتِصَاصًا , وَأَنَّهُ مَقْصُور عَلَى مَوْضِع الْوَلَد . قُلْت : هَذَا هُوَ الْحَقّ فِي الْمَسْأَلَة . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ أَنَّ الْعُلَمَاء لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الرَّتْقَاء الَّتِي لَا يُوصَل إِلَى وَطْئِهَا أَنَّهُ عَيْب تُرَدّ بِهِ , إِلَّا شَيْئًا جَاءَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز مِنْ وَجْه لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّهُ لَا تُرَدّ الرَّتْقَاء وَلَا غَيْرهَا , وَالْفُقَهَاء كُلّهمْ عَلَى خِلَاف ذَلِكَ , لِأَنَّ الْمَسِيس هُوَ الْمُبْتَغَى بِالنِّكَاحِ , وَفِي إِجْمَاعهمْ عَلَى هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الدُّبُر لَيْسَ بِمَوْضِعِ وَطْء , وَلَوْ كَانَ مَوْضِعًا لِلْوَطْءِ مَا رُدَّتْ مَنْ لَا يُوصَل إِلَى وَطْئِهَا فِي الْفَرْج . وَفِي إِجْمَاعهمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَقِيم الَّتِي لَا تَلِد لَا تُرَدّ . وَالصَّحِيح فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة مَا بَيَّنَّاهُ . وَمَا نُسِبَ إِلَى مَالِك وَأَصْحَابه مِنْ هَذَا بَاطِل وَهُمْ مُبَرَّءُونَ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ إِبَاحَة الْإِتْيَان مُخْتَصَّة بِمَوْضِعِ الْحَرْث , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَأْتُوا حَرْثكُمْ " , وَلِأَنَّ الْحِكْمَة فِي خَلْق الْأَزْوَاج بَثّ النَّسْل , فَغَيْر مَوْضِع النَّسْل لَا يَنَالهُ مَالِك النِّكَاح , وَهَذَا هُوَ الْحَقّ . وَقَدْ قَالَ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة : إِنَّهُ عِنْدنَا وَلَائِط الذَّكَر سَوَاء فِي الْحُكْم , وَلِأَنَّ الْقَذَر وَالْأَذَى فِي مَوْضِع النَّجْو أَكْثَر مِنْ دَم الْحَيْض , فَكَانَ أَشْنَع . وَأَمَّا صِمَام الْبَوْل فَغَيْر صِمَام الرَّحِم . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي قَبَسه : قَالَ لَنَا الشَّيْخ الْإِمَام فَخْر الْإِسْلَام أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن الْحُسَيْن فَقِيه الْوَقْت وَإِمَامه : الْفَرْج أَشْبَه شَيْء بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ , وَأَخْرَجَ يَده عَاقِدًا بِهَا . وَقَالَ : مَسْلَك الْبَوْل مَا تَحْت الثَّلَاثِينَ , وَمَسْلَك الذَّكَر وَالْفَرْج مَا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْخَمْسَة , وَقَدْ حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى الْفَرْج حَال الْحَيْض لِأَجْلِ النَّجَاسَة الْعَارِضَة . فَأَوْلَى أَنْ يُحَرَّم الدُّبُر لِأَجْلِ النَّجَاسَة اللَّازِمَة . وَقَالَ مَالِك لِابْنِ وَهْب وَعَلِيّ بْن زِيَاد لَمَّا أَخْبَرَاهُ أَنَّ نَاسًا بِمِصْر يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجِيز ذَلِكَ , فَنَفَّرَ مِنْ ذَلِكَ , وَبَادَرَ إِلَى تَكْذِيب النَّاقِل فَقَالَ : كَذَبُوا عَلَيَّ , كَذَبُوا عَلَيَّ , كَذَبُوا عَلَيَّ ! ثُمَّ قَالَ : أَلَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا ؟ أَلَمْ يَقُلْ اللَّه تَعَالَى : " نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ " وَهَلْ يَكُون الْحَرْث إِلَّا فِي مَوْضِع الْمَنْبَت ! وَمَا اِسْتَدَلَّ بِهِ الْمُخَالِف مِنْ أَنَّ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " أَنَّى شِئْتُمْ " شَامِل لِلْمَسَالِكِ بِحُكْمِ عُمُومهَا فَلَا حُجَّة فِيهَا , إِذْ هِيَ مُخَصَّصَة بِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَبِأَحَادِيث صَحِيحَة حِسَان وَشَهِيرَة رَوَاهَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِثْنَا عَشَر صَحَابِيًّا بِمُتُونٍ مُخْتَلِفَة , كُلّهَا مُتَوَارِدَة عَلَى تَحْرِيم إِتْيَان النِّسَاء فِي الْأَدْبَار , ذَكَرَهَا أَحْمَد بْن حَنْبَل فِي مُسْنَده , وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمْ . وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو الْفَرَج بْن الْجَوْزِيّ بِطُرُقِهَا فِي جُزْء سَمَّاهُ " تَحْرِيم الْمَحَلّ الْمَكْرُوه " . وَلِشَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاس أَيْضًا فِي ذَلِكَ جُزْء سَمَّاهُ ( إِظْهَار إِدْبَار , مَنْ أَجَازَ الْوَطْء فِي الْأَدْبَار " . قُلْت : وَهَذَا هُوَ الْحَقّ الْمُتَّبَع وَالصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة , وَلَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر أَنْ يَعْرُج فِي هَذِهِ النَّازِلَة عَلَى زَلَّة عَالِم بَعْد أَنْ تَصِحّ عَنْهُ . وَقَدْ حَذَّرْنَا مِنْ زَلَّة الْعَالِم . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر خِلَاف هَذَا , وَتَكْفِير مَنْ فَعَلَهُ , وَهَذَا هُوَ اللَّائِق بِهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَكَذَلِكَ كَذَّبَ نَافِع مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ , كَمَا ذَكَرَ النَّسَائِيّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِك وَاسْتَعْظَمَهُ , وَكَذَّبَ مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ . وَرَوَى الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده عَنْ سَعِيد بْن يَسَار أَبِي الْحُبَاب قَالَ : قُلْت لِابْنِ عُمَر : مَا تَقُول فِي الْجَوَارِي حِين أُحَمِّض بِهِنَّ ؟ قَالَ : وَمَا التَّحْمِيض ؟ فَذَكَرْت لَهُ الدُّبُر , فَقَالَ : هَلْ يَفْعَل ذَلِكَ أَحَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ ! وَأُسْنِدَ عَنْ خُزَيْمَة بْن ثَابِت : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( أَيّهَا النَّاس إِنَّ اللَّه لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقّ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أَعْجَازهنَّ ) . وَمِثْله عَنْ عَلِيّ بْن طَلْق . وَأُسْنِدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَتَى اِمْرَأَة فِي دُبُرهَا لَمْ يَنْظُر اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده عَنْ قَتَادَة عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( تِلْكَ اللُّوطِيَّة الصُّغْرَى ) يَعْنِي إِتْيَان الْمَرْأَة فِي دُبُرهَا . وَرُوِيَ عَنْ طَاوُس أَنَّهُ قَالَ : كَانَ بَدْء عَمَل قَوْم لُوط إِتْيَان النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْء عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُغْنِيَ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ .
أَيْ قَدِّمُوا مَا يَنْفَعكُمْ غَدًا , فَحَذَفَ الْمَفْعُول , وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْد اللَّه " [ الْبَقَرَة . 11 ] . فَالْمَعْنَى قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ الطَّاعَة وَالْعَمَل الصَّالِح . وَقِيلَ اِبْتِغَاء الْوَلَد وَالنَّسْل ; لِأَنَّ الْوَلَد خَيْر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , فَقَدْ يَكُون شَفِيعًا وَجُنَّة . وَقِيلَ : هُوَ التَّزَوُّج بِالْعَفَائِفِ , لِيَكُونَ الْوَلَد صَالِحًا طَاهِرًا . وَقِيلَ : هُوَ تَقَدُّم الْأَفْرَاط , كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَة مِنْ الْوَلَد لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْث لَمْ تَمَسّهُ النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقَسَم ) الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي فِي " مَرْيَم " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء : أَيْ قَدِّمُوا ذِكْر اللَّه عِنْد الْجِمَاع , كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَوْ أَنَّ أَحَدكُمْ إِذَا أَتَى اِمْرَأَته قَالَ بِسْمِ اللَّه اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَان وَجَنِّبْ الشَّيْطَان مَا رَزَقْتنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّر بَيْنهمَا وَلَد لَمْ يَضُرّهُ شَيْطَان أَبَدًا ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم .
تَحْذِير
خَبَر يَقْتَضِي الْمُبَالَغَة فِي التَّحْذِير , أَيْ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى الْبِرّ وَالْإِثْم . وَرَوَى اِبْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو بْن دِينَار قَالَ : سَمِعْت سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُب يَقُول : ( إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّه حُفَاة عُرَاة مُشَاة غُرْلًا ) - ثُمَّ تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَاتَّقُوا اللَّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ " . أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ .
تَأْنِيس لِفَاعِلِ الْبِرّ وَمُبْتَغِي سُنَن الْهُدَى .
أَيْ قَدِّمُوا مَا يَنْفَعكُمْ غَدًا , فَحَذَفَ الْمَفْعُول , وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْد اللَّه " [ الْبَقَرَة . 11 ] . فَالْمَعْنَى قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ الطَّاعَة وَالْعَمَل الصَّالِح . وَقِيلَ اِبْتِغَاء الْوَلَد وَالنَّسْل ; لِأَنَّ الْوَلَد خَيْر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , فَقَدْ يَكُون شَفِيعًا وَجُنَّة . وَقِيلَ : هُوَ التَّزَوُّج بِالْعَفَائِفِ , لِيَكُونَ الْوَلَد صَالِحًا طَاهِرًا . وَقِيلَ : هُوَ تَقَدُّم الْأَفْرَاط , كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَة مِنْ الْوَلَد لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْث لَمْ تَمَسّهُ النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقَسَم ) الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي فِي " مَرْيَم " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء : أَيْ قَدِّمُوا ذِكْر اللَّه عِنْد الْجِمَاع , كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَوْ أَنَّ أَحَدكُمْ إِذَا أَتَى اِمْرَأَته قَالَ بِسْمِ اللَّه اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَان وَجَنِّبْ الشَّيْطَان مَا رَزَقْتنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّر بَيْنهمَا وَلَد لَمْ يَضُرّهُ شَيْطَان أَبَدًا ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم .
تَحْذِير
خَبَر يَقْتَضِي الْمُبَالَغَة فِي التَّحْذِير , أَيْ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى الْبِرّ وَالْإِثْم . وَرَوَى اِبْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو بْن دِينَار قَالَ : سَمِعْت سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُب يَقُول : ( إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّه حُفَاة عُرَاة مُشَاة غُرْلًا ) - ثُمَّ تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَاتَّقُوا اللَّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ " . أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ .
تَأْنِيس لِفَاعِلِ الْبِرّ وَمُبْتَغِي سُنَن الْهُدَى .
وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ↓
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَالَ الْعُلَمَاء : لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ وَصُحْبَة الْأَيْتَام وَالنِّسَاء بِجَمِيلِ الْمُعَاشَرَة قَالَ : لَا تَمْتَنِعُوا عَنْ شَيْء مِنْ الْمَكَارِم تَعَلُّلًا بِأَنَّا حَلَفْنَا أَلَّا نَفْعَل كَذَا , قَالَ مَعْنَاهُ اِبْن عَبَّاس وَالنَّخَعِيّ وَمُجَاهِد وَالرَّبِيع وَغَيْرهمْ . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : ( هُوَ الرَّجُل يَحْلِف أَلَّا يَبِرّ وَلَا يَصِل وَلَا يُصْلِح بَيْن النَّاس , فَيُقَال لَهُ : بَرّ , فَيَقُول : قَدْ حَلَفْت ) . وَقَالَ بَعْض الْمُتَأَوِّلِينَ : الْمَعْنَى وَلَا تَحْلِفُوا بِاَللَّهِ كَاذِبِينَ إِذَا أَرَدْتُمْ الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاح , فَلَا يَحْتَاج إِلَى تَقْدِير " لَا " بَعْد " أَنْ " . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَسْتَكْثِرُوا مِنْ الْيَمِين بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ أَهْيَب لِلْقُلُوبِ , وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : " وَاحْفَظُوا أَيْمَانكُمْ " [ الْمَائِدَة : 89 ] . وَذَمَّ مَنْ كَثَّرَ الْيَمِين فَقَالَ تَعَالَى : " وَلَا تُطِعْ كُلّ حَلَّاف مَهِين " [ الْقَلَم : 10 ] . وَالْعَرَب تَمْتَدِح بِقِلَّةِ الْأَيْمَان , حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ : قَلِيل الْأَلَايَا حَافِظ لِيَمِينِهِ وَإِنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّة بَرَّت وَعَلَى هَذَا " أَنْ تَبَرُّوا " مَعْنَاهُ : أَقِلُّوا الْأَيْمَان لِمَا فِيهِ مِنْ الْبِرّ وَالتَّقْوَى , فَإِنَّ الْإِكْثَار يَكُون مَعَهُ الْحِنْث وَقِلَّة رَعْي لِحَقِّ اللَّه تَعَالَى , وَهَذَا تَأْوِيل حَسَن . مَالِك بْن أَنَس : بَلَغَنِي أَنَّهُ الْحَلِف بِاَللَّهِ فِي كُلّ شَيْء . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَجْعَلُوا الْيَمِين مُبْتَذَلَة فِي كُلّ حَقّ وَبَاطِل : وَقَالَ الزَّجَّاج وَغَيْره : مَعْنَى الْآيَة أَنْ يَكُون الرَّجُل إِذَا طُلِبَ مِنْهُ فِعْل خَيْر اِعْتَلَّ بِاَللَّهِ فَقَالَ : عَلَيَّ يَمِين , وَهُوَ لَمْ يَحْلِف الْقُتَبِيّ : الْمَعْنَى إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى أَلَّا تَصِلُوا أَرْحَامكُمْ وَلَا تَتَصَدَّقُوا وَلَا تُصْلِحُوا , وَعَلَى أَشْبَاه ذَلِكَ مِنْ أَبْوَاب الْبِرّ فَكَفِّرُوا الْيَمِين . قُلْت : وَهَذَا حَسَن لِمَا بَيَّنَّاهُ , وَهُوَ الَّذِي يَدُلّ عَلَى سَبَب النُّزُول , عَلَى مَا نُبَيِّنهُ فِي الْمَسْأَلَة بَعْد هَذَا .
الثَّانِيَة : قِيلَ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ الصِّدِّيق إِذْ حَلَفَ أَلَّا يُنْفِق عَلَى مِسْطَح حِين تَكَلَّمَ فِي عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , كَمَا فِي حَدِيث الْإِفْك , وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " النُّور " , عَنْ اِبْن جُرَيْج . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الصِّدِّيق أَيْضًا حِين حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل مَعَ الْأَضْيَاف . وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة حِين حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّم بَشِير بْن النُّعْمَان وَكَانَ خَتْنه عَلَى أُخْته , وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّالِثَة : " عُرْضَة لِأَيْمَانِكُمْ " أَيْ نَصْبًا , عَنْ الْجَوْهَرِيّ . وَفُلَان عُرْضَة ذَاكَ , أَيْ عُرْضَة لِذَلِكَ , أَيْ مُقْرِن لَهُ قَوِيّ عَلَيْهِ . وَالْعُرْضَة : الْهِمَّة . قَالَ : هُمْ الْأَنْصَار عُرْضَتهَا اللِّقَاء وَفُلَان عُرْضَة لِلنَّاسِ : لَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِيهِ . وَجَعَلْت فُلَانًا عُرْضَة لِكَذَا أَيْ نَصَبْته لَهُ , وَقِيلَ : الْعُرْضَة مِنْ الشِّدَّة وَالْقُوَّة , وَمِنْهُ قَوْلهمْ لِلْمَرْأَةِ : عُرْضَة لِلنِّكَاحِ , إِذَا صَلَحَتْ لَهُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ , وَلِفُلَانٍ عُرْضَةٌ : أَيْ قُوَّة عَلَى السَّفَر وَالْحَرْب , قَالَ كَعْب بْن زُهَيْر : مَنْ كَانَ نَضَّاخَة الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ عُرْضَتهَا طَامِس الْأَعْلَام مَجْهُول وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر : فَهَذِي لِأَيَّامِ الْحُرُوب وَهَذِهِ لِلْهَوِيِّ وَهَذِي عُرْضَة لِارْتِحَالِنَا أَيْ عُدَّة . وَقَالَ آخَر : فَلَا تَجْعَلنِي عُرْضَة لِلَّوَائِمِ وَقَالَ أَوْس بْن حَجَر : وَأَدْمَاء مِثْل الْفَحْل يَوْمًا عُرْضَتهَا لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّة وَتَقَاذُف وَالْمَعْنَى : لَا تَجْعَلُوا الْيَمِين بِاَللَّهِ قُوَّة لِأَنْفُسِكُمْ , وَعُدَّة فِي الِامْتِنَاع مِنْ الْبِرّ .
مُبْتَدَأ وَخَبَره مَحْذُوف , أَيْ الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاح أَوْلَى وَأَمْثَل , مِثْل " طَاعَة وَقَوْل مَعْرُوف " [ مُحَمَّد : 21 ] عَنْ الزَّجَّاج وَالنَّحَّاس . وَقِيلَ : مَحَلّه النَّصْب , أَيْ لَا تَمْنَعكُمْ الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاح , عَنْ الزَّجَّاج أَيْضًا . وَقِيلَ : مَفْعُول مِنْ أَجْله . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَلَّا تَبَرُّوا , فَحَذَفَ " لَا " , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا " [ النِّسَاء : 176 ] أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا , قَالَهُ الطَّبَرِيّ وَالنَّحَّاس . وَوَجْه رَابِع مِنْ وُجُوه النَّصْب : كَرَاهَة أَنْ تَبَرُّوا , ثُمَّ حُذِفَتْ , ذَكَرَهُ النَّحَّاس وَالْمَهْدَوِيّ . وَقِيلَ : هُوَ فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى قَوْل الْخَلِيل وَالْكِسَائِيّ , التَّقْدِير : فِي أَنْ تَبَرُّوا , فَأُضْمِرَتْ " فِي " وَخُفِضَتْ بِهَا .
أَيْ لِأَقْوَالِ الْعِبَاد .
بِنِيَّاتِهِمْ .
الثَّانِيَة : قِيلَ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ الصِّدِّيق إِذْ حَلَفَ أَلَّا يُنْفِق عَلَى مِسْطَح حِين تَكَلَّمَ فِي عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , كَمَا فِي حَدِيث الْإِفْك , وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " النُّور " , عَنْ اِبْن جُرَيْج . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الصِّدِّيق أَيْضًا حِين حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل مَعَ الْأَضْيَاف . وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة حِين حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّم بَشِير بْن النُّعْمَان وَكَانَ خَتْنه عَلَى أُخْته , وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّالِثَة : " عُرْضَة لِأَيْمَانِكُمْ " أَيْ نَصْبًا , عَنْ الْجَوْهَرِيّ . وَفُلَان عُرْضَة ذَاكَ , أَيْ عُرْضَة لِذَلِكَ , أَيْ مُقْرِن لَهُ قَوِيّ عَلَيْهِ . وَالْعُرْضَة : الْهِمَّة . قَالَ : هُمْ الْأَنْصَار عُرْضَتهَا اللِّقَاء وَفُلَان عُرْضَة لِلنَّاسِ : لَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِيهِ . وَجَعَلْت فُلَانًا عُرْضَة لِكَذَا أَيْ نَصَبْته لَهُ , وَقِيلَ : الْعُرْضَة مِنْ الشِّدَّة وَالْقُوَّة , وَمِنْهُ قَوْلهمْ لِلْمَرْأَةِ : عُرْضَة لِلنِّكَاحِ , إِذَا صَلَحَتْ لَهُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ , وَلِفُلَانٍ عُرْضَةٌ : أَيْ قُوَّة عَلَى السَّفَر وَالْحَرْب , قَالَ كَعْب بْن زُهَيْر : مَنْ كَانَ نَضَّاخَة الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ عُرْضَتهَا طَامِس الْأَعْلَام مَجْهُول وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر : فَهَذِي لِأَيَّامِ الْحُرُوب وَهَذِهِ لِلْهَوِيِّ وَهَذِي عُرْضَة لِارْتِحَالِنَا أَيْ عُدَّة . وَقَالَ آخَر : فَلَا تَجْعَلنِي عُرْضَة لِلَّوَائِمِ وَقَالَ أَوْس بْن حَجَر : وَأَدْمَاء مِثْل الْفَحْل يَوْمًا عُرْضَتهَا لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّة وَتَقَاذُف وَالْمَعْنَى : لَا تَجْعَلُوا الْيَمِين بِاَللَّهِ قُوَّة لِأَنْفُسِكُمْ , وَعُدَّة فِي الِامْتِنَاع مِنْ الْبِرّ .
مُبْتَدَأ وَخَبَره مَحْذُوف , أَيْ الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاح أَوْلَى وَأَمْثَل , مِثْل " طَاعَة وَقَوْل مَعْرُوف " [ مُحَمَّد : 21 ] عَنْ الزَّجَّاج وَالنَّحَّاس . وَقِيلَ : مَحَلّه النَّصْب , أَيْ لَا تَمْنَعكُمْ الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاح , عَنْ الزَّجَّاج أَيْضًا . وَقِيلَ : مَفْعُول مِنْ أَجْله . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَلَّا تَبَرُّوا , فَحَذَفَ " لَا " , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا " [ النِّسَاء : 176 ] أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا , قَالَهُ الطَّبَرِيّ وَالنَّحَّاس . وَوَجْه رَابِع مِنْ وُجُوه النَّصْب : كَرَاهَة أَنْ تَبَرُّوا , ثُمَّ حُذِفَتْ , ذَكَرَهُ النَّحَّاس وَالْمَهْدَوِيّ . وَقِيلَ : هُوَ فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى قَوْل الْخَلِيل وَالْكِسَائِيّ , التَّقْدِير : فِي أَنْ تَبَرُّوا , فَأُضْمِرَتْ " فِي " وَخُفِضَتْ بِهَا .
أَيْ لِأَقْوَالِ الْعِبَاد .
بِنِيَّاتِهِمْ .
لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ↓
" بِاللَّغْوِ " اللَّغْو : مَصْدَر لَغَا يَلْغُو وَيَلْغَى , وَلَغِيَ يَلْغَى لَغًا إِذَا أَتَى بِمَا لَا يُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْكَلَام , أَوْ بِمَا لَا خَيْر فِيهِ , أَوْ بِمَا يُلْغِي إِثْمه , وَفِي الْحَدِيث : ( إِذَا قُلْت لِصَاحِبِك وَالْإِمَام يَخْطُب يَوْم الْجُمُعَة أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْت ) . وَلُغَة أَبِي هُرَيْرَة " فَقَدْ لَغَيْت " وَقَالَ الشَّاعِر : وَرُبَّ أَسْرَاب حَجِيج كُظَّم عَنْ اللَّغَا وَرَفَث التَّكَلُّم وَقَالَ آخَر : وَلَسْت بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولهُ إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَات الْعَزَائِم وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْيَمِين الَّتِي هِيَ لَغْو , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( هُوَ قَوْل الرَّجُل فِي دَرَج كَلَامه وَاسْتِعْجَاله فِي الْمُحَاوَرَة : لَا وَاَللَّه , وَبَلَى وَاَللَّه , دُون قَصْد لِلْيَمِينِ ) . قَالَ الْمَرْوَزِيّ : لَغْو الْيَمِين الَّتِي اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهَا لَغْو هُوَ قَوْل الرَّجُل : لَا وَاَللَّه , وَبَلَى وَاَللَّه , فِي حَدِيثه وَكَلَامه غَيْر مُعْتَقِد لِلْيَمِينِ وَلَا مُرِيدهَا . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ عُرْوَة حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَة زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : ( أَيْمَان اللَّغْو مَا كَانَتْ فِي الْمِرَاء وَالْهَزْل وَالْمُزَاحَة وَالْحَدِيث الَّذِي لَا يَنْعَقِد عَلَيْهِ الْقَلْب ) . وَفَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : ( " لَا يُؤَاخِذكُمْ اللَّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُمْ " فِي قَوْل الرَّجُل : لَا وَاَللَّه , وَبَلَى وَاَللَّه ) . وَقِيلَ : اللَّغْو مَا يُحْلَف بِهِ عَلَى الظَّنّ , فَيَكُون بِخِلَافِهِ , قَالَهُ مَالِك , حَكَاهُ اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ , وَقَالَ بِهِ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : ( إِذَا حَلَفَ الرَّجُل عَلَى الشَّيْء لَا يَظُنّ إِلَّا أَنَّهُ إِيَّاهُ , فَإِذَا لَيْسَ هُوَ , فَهُوَ اللَّغْو , وَلَيْسَ فِيهِ كَفَّارَة ) , وَنَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَرُوِيَ : أَنَّ قَوْمًا تَرَاجَعُوا الْقَوْل عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَرْمُونَ بِحَضْرَتِهِ , فَحَلَفَ أَحَدهمْ لَقَدْ أَصَبْت وَأَخْطَأْت يَا فُلَان , فَإِذَا الْأَمْر بِخِلَافِ ذَلِكَ , فَقَالَ الرَّجُل : حَنِثَ يَا رَسُول اللَّه , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيْمَان الرُّمَاة لَغْو لَا حِنْث فِيهَا وَلَا كَفَّارَة ) . وَفِي الْمُوَطَّإِ قَالَ مَالِك : أَحْسَن مَا سَمِعْت فِي هَذَا أَنَّ اللَّغْو حَلِف الْإِنْسَان عَلَى الشَّيْء يَسْتَيْقِن أَنَّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ يُوجَد بِخِلَافِهِ , فَلَا كَفَّارَة فِيهِ . وَاَلَّذِي يَحْلِف عَلَى الشَّيْء وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُ فِيهِ آثِم كَاذِب لِيُرْضِيَ بِهِ أَحَدًا , أَوْ يَعْتَذِر لِمَخْلُوقٍ , أَوْ يَقْتَطِع بِهِ مَالًا , فَهَذَا أَعْظَم مِنْ أَنْ يَكُون فِيهِ كَفَّارَة , وَإِنَّمَا الْكَفَّارَة عَلَى مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَل الشَّيْء الْمُبَاح لَهُ فِعْلُهُ ثُمَّ يَفْعَلهُ , أَوْ أَنْ يَفْعَلهُ ثُمَّ لَا يَفْعَلهُ , مِثْل إِنْ حَلَفَ أَلَّا يَبِيع ثَوْبه بِعَشَرَةِ دَرَاهِم ثُمَّ يَبِيعهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ , أَوْ حَلَفَ لِيَضْرِبَن غُلَامه ثُمَّ لَا يَضْرِبهُ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس - إِنْ صَحَّ عَنْهُ - قَالَ : ( لَغْو الْيَمِين أَنْ تَحْلِف وَأَنْتَ غَضْبَان ) , وَقَالَهُ طَاوُس . وَرَوَى اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَمِين فِي غَضَب ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : هُوَ تَحْرِيم الْحَلَال , فَيَقُول : مَالِي عَلَيَّ حَرَام إِنْ فَعَلْت كَذَا , وَالْحَلَال عَلَيَّ حَرَام , وَقَالَهُ مَكْحُول الدِّمَشْقِيّ , وَمَالِك أَيْضًا , إِلَّا فِي الزَّوْجَة فَإِنَّهُ أَلْزَمَ فِيهَا التَّحْرِيم إِلَّا أَنْ يُخْرِجهَا الْحَالِف بِقَلْبِهِ . وَقِيلَ : هُوَ يَمِين الْمَعْصِيَة , قَالَهُ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب , وَأَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن وَعُرْوَة وَعَبْد اللَّه اِبْنَا الزُّبَيْر , كَاَلَّذِي يُقْسِم لَيَشْرَبَن الْخَمْر أَوْ لَيَقْطَعَن الرَّحِم فَبِرّه تَرْك ذَلِكَ الْفِعْل وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَحُجَّتهمْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنْ تَرَكَهَا كَفَّارَتهَا ) أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه , وَسَيَأْتِي فِي " الْمَائِدَة " أَيْضًا . وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم لَغْو الْيَمِين دُعَاء الرَّجُل عَلَى نَفْسه : أَعْمَى اللَّه بَصَره , أَذْهَبَ اللَّه مَاله , هُوَ يَهُودِيّ , هُوَ مُشْرِك , هُوَ لِغِيَّةٍ إِنْ فَعَلَ كَذَا . مُجَاهِد : هُمَا الرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ فَيَقُول أَحَدهمَا : وَاَللَّه لَا أَبِيعك بِكَذَا , وَيَقُول الْآخَر , وَاَللَّه لَا أَشْتَرِيه بِكَذَا . النَّخَعِيّ : هُوَ الرَّجُل يَحْلِف أَلَّا يَفْعَل الشَّيْء ثُمَّ يَنْسَى فَيَفْعَلهُ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَالضَّحَّاك : ( إِنَّ لَغْو الْيَمِين هِيَ الْمُكَفَّرَة , أَيْ إِذَا كُفِّرَتْ الْيَمِين سَقَطَتْ وَصَارَتْ لَغْوًا , وَلَا يُؤَاخِذ اللَّه بِتَكْفِيرِهَا وَالرُّجُوع إِلَى الَّذِي هُوَ خَيْر ) . وَحَكَى اِبْن عَبْد الْبَرّ قَوْلًا : إِنَّ اللَّغْو أَيْمَان الْمُكْرَه . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا الْيَمِين مَعَ النِّسْيَان فَلَا شَكّ فِي إِلْغَائِهَا . لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَاف قَصْده , فَهِيَ لَغْو مَحْض . قُلْت : وَيَمِين الْمُكْرَه بِمَثَابَتِهَا . وَسَيَأْتِي حُكْم مَنْ حَلَفَ مُكْرَهًا فِي " النَّحْل " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَمِين الْمَعْصِيَة فَبَاطِل ; لِأَنَّ الْحَالِف عَلَى تَرْك الْمَعْصِيَة تَنْعَقِد يَمِينه عِبَادَة , وَالْحَالِف عَلَى فِعْل الْمَعْصِيَة تَنْعَقِد يَمِينه مَعْصِيَة , وَيُقَال لَهُ : لَا تَفْعَل وَكَفِّرْ , فَإِنْ أَقْدَم عَلَى الْفِعْل أَثِمَ فِي إِقْدَامه وَبَرَّ فِي قَسَمه . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُ دُعَاء الْإِنْسَان عَلَى نَفْسه إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا فَيَنْزِل بِهِ كَذَا , فَهُوَ قَوْل لَغْو , فِي طَرِيق الْكَفَّارَة , وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِد فِي الْقَصْد , مَكْرُوه , وَرُبَّمَا يُؤَاخَذ بِهِ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَدْعُوَنَّ أَحَدكُمْ عَلَى نَفْسه فَرُبَّمَا صَادَفَ سَاعَة لَا يَسْأَل اللَّه أَحَد فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ) . وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَمِين الْغَضَب فَإِنَّهُ يَرُدّهُ حَلِف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضِبًا أَلَّا يَحْمِل الْأَشْعَرِيِّينَ وَحَمَلَهُمْ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينه . وَسَيَأْتِي فِي " بَرَاءَة " . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُ الْيَمِين الْمُكَفِّرَة فَلَا مُتَعَلَّق لَهُ يُحْكَى . وَضَعَّفَهُ اِبْن عَطِيَّة أَيْضًا وَقَالَ : قَدْ رَفَعَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤَاخَذَة بِالْإِطْلَاقِ فِي اللَّغْو , فَحَقِيقَتهَا لَا إِثْم فِيهِ وَلَا كَفَّارَة , وَالْمُؤَاخَذَة فِي الْأَيْمَان هِيَ بِعُقُوبَةِ الْآخِرَة فِي الْيَمِين الْغَمُوس الْمَصْبُورَة , وَفِيمَا تُرِكَ تَكْفِيره مِمَّا فِيهِ كَفَّارَة , وَبِعُقُوبَةِ الدُّنْيَا فِي إِلْزَام الْكَفَّارَة , فَيُضَعَّف الْقَوْل بِأَنَّهَا الْيَمِين الْمُكَفِّرَة ; لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَة قَدْ وَقَعَتْ فِيهَا , وَتَخْصِيص الْمُؤَاخَذَة بِأَنَّهَا فِي الْآخِرَة فَقَطْ تَحَكُّم .
الْأَيْمَان جَمْع يَمِين , وَالْيَمِين الْحَلِف , وَأَصْله أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ إِذَا تَحَالَفَتْ أَوْ تَعَاقَدَتْ أَخَذَ الرَّجُل يَمِين صَاحِبه بِيَمِينِهِ , ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى سُمِّيَ الْحِلْف وَالْعَهْد نَفْسه يَمِينًا . وَقِيلَ : يَمِين فَعِيل مِنْ الْيُمْن , وَهُوَ الْبَرَكَة , سَمَّاهَا اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَحْفَظ الْحُقُوق . وَيَمِين تُذَكَّر وَتُؤَنَّث , وَتُجْمَع أَيْمَان وَأَيْمُن , قَالَ زُهَيْر : . فَتُجْمَع أَيْمُن مِنَّا وَمِنْكُمْ
مِثْل قَوْله : " وَلَكِنْ يُؤَاخِذكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَان " [ الْمَائِدَة : 89 ] . وَهُنَاكَ يَأْتِي الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفًى , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : قَوْله تَعَالَى : " وَلَكِنْ يُؤَاخِذكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبكُمْ " هُوَ فِي الرَّجُل يَقُول : هُوَ مُشْرِك إِنْ فَعَلَ , أَيْ هَذَا اللَّغْو , إِلَّا أَنْ يَعْقِد الْإِشْرَاك بِقَلْبِهِ وَيَكْسِبهُ .
صِفَتَانِ لَائِقَتَانِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ طَرْح الْمُؤَاخَذَة , إِذْ هُوَ بَاب رِفْق وَتَوْسِعَة .
الْأَيْمَان جَمْع يَمِين , وَالْيَمِين الْحَلِف , وَأَصْله أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ إِذَا تَحَالَفَتْ أَوْ تَعَاقَدَتْ أَخَذَ الرَّجُل يَمِين صَاحِبه بِيَمِينِهِ , ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى سُمِّيَ الْحِلْف وَالْعَهْد نَفْسه يَمِينًا . وَقِيلَ : يَمِين فَعِيل مِنْ الْيُمْن , وَهُوَ الْبَرَكَة , سَمَّاهَا اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَحْفَظ الْحُقُوق . وَيَمِين تُذَكَّر وَتُؤَنَّث , وَتُجْمَع أَيْمَان وَأَيْمُن , قَالَ زُهَيْر : . فَتُجْمَع أَيْمُن مِنَّا وَمِنْكُمْ
مِثْل قَوْله : " وَلَكِنْ يُؤَاخِذكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَان " [ الْمَائِدَة : 89 ] . وَهُنَاكَ يَأْتِي الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفًى , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : قَوْله تَعَالَى : " وَلَكِنْ يُؤَاخِذكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبكُمْ " هُوَ فِي الرَّجُل يَقُول : هُوَ مُشْرِك إِنْ فَعَلَ , أَيْ هَذَا اللَّغْو , إِلَّا أَنْ يَعْقِد الْإِشْرَاك بِقَلْبِهِ وَيَكْسِبهُ .
صِفَتَانِ لَائِقَتَانِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ طَرْح الْمُؤَاخَذَة , إِذْ هُوَ بَاب رِفْق وَتَوْسِعَة .
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ↓
" يُؤْلُونَ " مَعْنَاهُ يَحْلِفُونَ , وَالْمَصْدَر إِيلَاء وَأَلِيَّة وَأَلْوَةٌ وَإِلْوَة . وَقَرَأَ أُبَيّ وَابْن عَبَّاس " لِلَّذِينَ يُقْسِمُونَ " . وَمَعْلُوم أَنَّ " يُقْسِمُونَ " تَفْسِير " يُؤْلُونَ " . وَقُرِئَ " لِلَّذِينَ آلَوْا " يُقَال : آلَى يُؤْلِي إِيلَاء , وَتَأَلَّى تَأَلِّيًا , وَائْتَلَى اِئْتِلَاء , أَيْ حَلَفَ , وَمِنْهُ " وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْل مِنْكُمْ " , وَقَالَ الشَّاعِر : فَآلَيْت لَا أَنْفَكّ أَحْدُو قَصِيدَة تَكُون وَإِيَّاهَا بِهَا مَثَلًا بَعْدِي وَقَالَ آخَر : قَلِيل الْأَلَايَا حَافِظ لِيَمِينِهِ وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّة بَرَّتِ وَقَالَ اِبْن دُرَيْد : أَلِيَّة بِالْيَعْمَلَات يَرْتَمِي بِهَا النَّجَاء بَيْن أَجْوَاز الْفَلَا قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس : كَانَ إِيلَاء الْجَاهِلِيَّة السَّنَة وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَر مِنْ ذَلِكَ , يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إِيذَاء الْمَرْأَة عِنْد الْمَسَاءَة , فَوَقَّتَ لَهُمْ أَرْبَعَة أَشْهُر , فَمَنْ آلَى بِأَقَلّ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ حُكْمِيّ . قُلْت : وَقَدْ آلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَّقَ , وَسَبَب إِيلَائِهِ سُؤَال نِسَائِهِ إِيَّاهُ مِنْ النَّفَقَة مَا لَيْسَ عِنْده , كَذَا فِي صَحِيح مُسْلِم . وَقِيلَ : لِأَنَّ زَيْنَب رَدَّتْ عَلَيْهِ هَدِيَّته , فَغَضِبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآلَى مِنْهُنَّ , ذَكَرَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَيَلْزَم الْإِيلَاء كُلّ مِنْ يَلْزَمهُ الطَّلَاق , فَالْحُرّ وَالْعَبْد وَالسَّكْرَان يَلْزَمهُ الْإِيلَاء . وَكَذَلِكَ السَّفِيه وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ بَالِغًا غَيْر مَجْنُون , وَكَذَلِكَ الْخَصِيّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَجْبُوبًا , وَالشَّيْخ إِذَا كَانَ فِيهِ بَقِيَّة رَمَق وَنَشَاط . وَاخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْمَجْبُوب إِذَا آلَى , فَفِي قَوْل : لَا إِيلَاء لَهُ . وَفِي قَوْل : يَصِحّ إِيلَاؤُهُ , وَالْأَوَّل أَصَحّ وَأَقْرَب إِلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة , فَإِنَّ الْفَيْء هُوَ الَّذِي يُسْقِط الْيَمِين , وَالْفَيْء بِالْقَوْلِ لَا يُسْقِطهَا , فَإِذَا بَقِيَتْ الْيَمِين الْمَانِعَة مِنْ الْحِنْث بَقِيَ حُكْم الْإِيلَاء . وَإِيلَاء الْأَخْرَس بِمَا يُفْهَم عَنْهُ مِنْ كِتَابَة أَوْ إِشَارَة مَفْهُومَة لَازِم لَهُ , وَكَذَلِكَ الْأَعْجَمِيّ إِذَا آلَى مِنْ نِسَائِهِ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا يَقَع بِهِ الْإِيلَاء مِنْ الْيَمِين , فَقَالَ قَوْم : لَا يَقَع الْإِيلَاء إِلَّا بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَحْده لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ) . وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( كُلّ يَمِين مَنَعَتْ جِمَاعًا فَهِيَ إِيلَاء ) , وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَمَالك وَأَهْل الْحِجَاز وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَهْل الْعِرَاق , وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر , وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد وَابْن الْمُنْذِر وَالْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَكُلّ يَمِين لَا يَقْدِر صَاحِبهَا عَلَى جِمَاع اِمْرَأَته مِنْ أَجْلهَا إِلَّا بِأَنْ يَحْنَث فَهُوَ بِهَا مُولٍ , إِذَا كَانَتْ يَمِينه عَلَى أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر , فَكُلّ مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاته أَوْ قَالَ : أُقْسِم بِاَللَّهِ , أَوْ أَشْهَد بِاَللَّهِ , أَوْ عَلَيَّ عَهْد اللَّه وَكَفَالَته وَمِيثَاقه وَذِمَّته فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ الْإِيلَاء . فَإِنْ قَالَ : أُقْسِم أَوْ أَعْزِم وَلَمْ يَذْكُر ب " اللَّه " فَقِيلَ : لَا يَدْخُل عَلَيْهِ الْإِيلَاء , إِلَّا أَنْ يَكُون أَرَادَ ب " اللَّه " وَنَوَاهُ . وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَمِين يَدْخُل عَلَيْهِ , وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَإِنْ حَلَفَ بِالصِّيَامِ أَلَّا يَطَأ اِمْرَأَته فَقَالَ : إِنْ وَطِئْتُك فَعَلَيَّ صِيَام شَهْر أَوْ سَنَة فَهُوَ مُولٍ . وَكَذَلِكَ كُلّ مَا يَلْزَمهُ مِنْ حَجّ أَوْ طَلَاق أَوْ عِتْق أَوْ صَلَاة أَوْ صَدَقَة . وَالْأَصْل فِي هَذِهِ الْجُمْلَة عُمُوم قَوْله تَعَالَى : " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ " وَلَمْ يُفَرِّق , فَإِذَا آلَى بِصَدَقَةٍ أَوْ عِتْق عَبْد مُعَيَّن أَوْ غَيْر مُعَيَّن لَزِمَ الْإِيلَاء . فَإِنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَلَّا يَطَأ وَاسْتَثْنَى فَقَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّه فَإِنَّهُ يَكُون مُولِيًا , فَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ فِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك . وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُونَ فِي الْمَبْسُوط : لَيْسَ بِمُولٍ , وَهُوَ أَصَحّ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاء يُحِلّ الْيَمِين وَيَجْعَل الْحَالِف كَأَنَّهُ لَمْ يَحْلِف , وَهُوَ مَذْهَب فُقَهَاء الْأَمْصَار ; لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ غَيْر عَازِم عَلَى الْفِعْل . وَوَجْه مَا رَوَاهُ اِبْن الْقَاسِم مَبْنِيّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاء لَا يُحِلّ الْيَمِين , وَلَكِنَّهُ يُؤْثَر فِي إِسْقَاط الْكَفَّارَة , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " فَلَمَّا كَانَتْ يَمِينه بَاقِيَة مُنْعَقِدَة لَزِمَهُ حُكْم الْإِيلَاء وَإِنْ لَمْ تَجِب عَلَيْهِ كَفَّارَة . فَإِنْ حَلَفَ بِالنَّبِيِّ أَوْ الْمَلَائِكَة أَوْ الْكَعْبَة أَلَّا يَطَأهَا , أَوْ قَالَ هُوَ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ أَوْ زَانٍ إِنْ وَطِئَهَا , فَهَذَا لَيْسَ بِمُولٍ , قَالَهُ مَالِك وَغَيْره . قَالَ الْبَاجِيّ : وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ أَوْرَدَهُ عَلَى غَيْر وَجْه الْقَسَم , وَأَمَّا لَوْ أَوْرَدَهُ عَلَى أَنَّهُ مُولٍ بِمَا قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ غَيْره , فَفِي الْمَبْسُوط : أَنَّ اِبْن الْقَاسِم سُئِلَ عَنْ الرَّجُل يَقُول لِامْرَأَتِهِ : لَا مَرْحَبًا , يُرِيد بِذَلِكَ الْإِيلَاء يَكُون مُولِيًا , قَالَ : قَالَ مَالِك : كُلّ كَلَام نُوِيَ بِهِ الطَّلَاق فَهُوَ طَلَاق , وَهَذَا وَالطَّلَاق سَوَاء . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْإِيلَاء الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( لَا يَكُون مُولِيًا حَتَّى يَحْلِف أَلَّا يَمَسّهَا أَبَدًا ) . وَقَالَ طَائِفَة : إِذَا حَلَفَ أَلَّا يَقْرَب اِمْرَأَته يَوْمًا أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر ثُمَّ لَمْ يَطَأ أَرْبَعَة أَشْهُر بَانَتْ مِنْهُ بِالْإِيلَاءِ , رُوِيَ هَذَا عَنْ اِبْن مَسْعُود وَالنَّخَعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالْحَكَم وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَقَتَادَة , وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْل كَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم . وَقَالَ الْجُمْهُور : الْإِيلَاء هُوَ أَنْ يَحْلِف أَلَّا يَطَأ أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر , فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَة فَمَا دُونهَا لَا يَكُون مُولِيًا , وَكَانَتْ عِنْدهمْ يَمِينًا مَحْضًا , لَوْ وَطِئَ فِي هَذِهِ الْمُدَّة لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْء كَسَائِرِ الْأَيْمَان , هَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبِي ثَوْر . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَالْكُوفِيُّونَ : الْإِيلَاء أَنْ يَحْلِف عَلَى أَرْبَعَة أَشْهُر فَصَاعِدًا , وَهُوَ قَوْل عَطَاء . قَالَ الْكُوفِيُّونَ : جَعَلَ اللَّه التَّرَبُّص فِي الْإِيلَاء أَرْبَعَة أَشْهُر كَمَا جَعَلَ عِدَّة الْوَفَاة أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا , وَفِي الْعِدَّة ثَلَاثَة قُرُوء , فَلَا تَرَبُّص بَعْد . قَالُوا : فَيَجِب بَعْد الْمُدَّة سُقُوط الْإِيلَاء , وَلَا يَسْقُط إِلَّا بِالْفَيْءِ وَهُوَ الْجِمَاع فِي دَاخِل الْمُدَّة , وَالطَّلَاق بَعْد اِنْقِضَاء الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر . وَاحْتَجَّ مَالِك وَالشَّافِعِيّ فَقَالَا : جَعَلَ اللَّه لِلْمُولِي أَرْبَعَة أَشْهُر , فَهِيَ لَهُ بِكَمَالِهَا لَا اِعْتِرَاض لِزَوْجَتِهِ عَلَيْهِ فِيهَا , كَمَا أَنَّ الدَّيْن الْمُؤَجَّل لَا يَسْتَحِقّ صَاحِبه الْمُطَالَبَة بِهِ إِلَّا بَعْد تَمَام الْأَجَل . وَوَجْه قَوْل إِسْحَاق - فِي قَلِيل الْأَمَد يَكُون صَاحِبه بِهِ مُولِيًا إِذَا لَمْ يَطَأ - الْقِيَاس عَلَى مَنْ حَلَفَ عَلَى أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر فَإِنَّهُ يَكُون مُولِيًا ; لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَار بِالْيَمِينِ , وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُود فِي الْمُدَّة الْقَصِيرَة . وَاخْتَلَفُوا أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأ اِمْرَأَته أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر فَانْقَضَتْ الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر وَلَمْ تُطَالِبهُ اِمْرَأَته وَلَا رَفَعَتْهُ إِلَى السُّلْطَان لِيُوقِفهُ , لَمْ يَلْزَمهُ شَيْء عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه وَأَكْثَر أَهْل الْمَدِينَة . وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ يَقُول : يَلْزَمهُ بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر طَلْقَة رَجْعِيَّة . وَمِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرهمْ مَنْ يَقُول : يَلْزَمهُ طَلْقَة بَائِنَة بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر . وَالصَّحِيح مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك وَأَصْحَابه , وَذَلِكَ أَنَّ الْمُولِي لَا يَلْزَمهُ طَلَاق حَتَّى يُوقِفهُ السُّلْطَان بِمُطَالَبَةِ زَوْجَته لَهُ لِيَفِيءَ فَيُرَاجِع اِمْرَأَته بِالْوَطْءِ وَيُكَفِّر يَمِينه أَوْ يُطَلِّق , وَلَا يَتْرُكهُ حَتَّى يَفِيء أَوْ يُطَلِّق . وَالْفَيْء : الْجِمَاع فِيمَنْ يُمْكِن مُجَامَعَتهَا . قَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار : كَانَ تِسْعَة رِجَال مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوقَفُونَ فِي الْإِيلَاء , قَالَ مَالِك : وَذَلِكَ الْأَمْر عِنْدنَا , وَبِهِ قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَأَجَل الْمُولِي مِنْ يَوْم حَلَفَ لَا مِنْ يَوْم تُخَاصِمهُ اِمْرَأَته وَتَرْفَعهُ إِلَى الْحَاكِم , فَإِنْ خَاصَمَتْهُ وَلَمْ تَرْضَ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْوَطْء ضَرَبَ لَهُ السُّلْطَان أَجَل أَرْبَعَة أَشْهُر مِنْ يَوْم حَلَفَ , فَإِنْ وَطِئَ فَقَدْ فَاءَ إِلَى حَقّ الزَّوْجَة وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينه , وَإِنْ لَمْ يَفِئْ طَلَّقَ عَلَيْهِ طَلْقَة رَجْعِيَّة . قَالَ مَالِك : فَإِنْ رَاجَعَ لَا تَصِحّ رَجْعَته حَتَّى يَطَأ فِي الْعِدَّة . قَالَ الْأَبْهَرِيّ : وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاق إِنَّمَا وَقَعَ لِدَفْعِ الضَّرَر , فَمَتَى لَمْ يَطَأ فَالضَّرَر بَاقٍ , فَلَا مَعْنَى لِلرَّجْعَةِ إِلَّا أَنْ يَكُون لَهُ عُذْر يَمْنَعهُ مِنْ الْوَطْء فَتَصِحّ رَجْعَته ; لِأَنَّ الضَّرَر قَدْ زَالَ , وَامْتِنَاعه مِنْ الْوَطْء لَيْسَ مِنْ أَجْل الضَّرَر وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْل الْعُذْر . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْإِيلَاء فِي غَيْر حَال الْغَضَب , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( لَا إِيلَاء إِلَّا بِغَضَبٍ ) , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي الْمَشْهُور عَنْهُ , وَقَالَهُ اللَّيْث وَالشَّعْبِيّ وَالْحَسَن وَعَطَاء , كُلّهمْ يَقُولُونَ : ( الْإِيلَاء لَا يَكُون إِلَّا عَلَى وَجْه مُغَاضَبَة وَمُشَادَّة وَحَرَجَة وَمُنَاكَدَة أَلَّا يُجَامِعهَا فِي فَرْجهَا إِضْرَارًا بِهَا , وَسَوَاء كَانَ فِي ضِمْن ذَلِكَ إِصْلَاح وَلَد أَمْ لَمْ يَكُنْ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ غَضَب فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ ) . وَقَالَ اِبْن سِيرِينَ : سَوَاء كَانَتْ الْيَمِين فِي غَضَب أَوْ غَيْر غَضَب هُوَ إِيلَاء , وَقَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَالثَّوْرِيّ وَمَالِك وَأَهْل الْعِرَاق وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَحْمَد , إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : مَا لَمْ يُرِدْ إِصْلَاح وَلَد . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا أَصَحّ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا أَنَّ الظِّهَار وَالطَّلَاق وَسَائِر الْأَيْمَان سَوَاء فِي حَال الْغَضَب وَالرِّضَا كَانَ الْإِيلَاء كَذَلِكَ . قُلْت : وَيَدُلّ عَلَيْهِ عُمُوم الْقُرْآن , وَتَخْصِيص حَالَة الْغَضَب يَحْتَاج إِلَى دَلِيل وَلَا يُؤْخَذ مِنْ وَجْه يَلْزَم . وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَمَنْ اِمْتَنَعَ مِنْ وَطْء اِمْرَأَته بِغَيْرِ يَمِين حَلَفَهَا إِضْرَارًا بِهَا أُمِرَ بِوَطْئِهَا , فَإِنْ أَبَى وَأَقَامَ عَلَى اِمْتِنَاعه مُضِرًّا بِهَا فُرِّقَ بَيْنه وَبَيْنهَا مِنْ غَيْر ضَرْب أَجَل . وَقَدْ قِيلَ : يَضْرِب أَجَل الْإِيلَاء . وَقَدْ قِيلَ : لَا يَدْخُل عَلَى الرَّجُل الْإِيلَاء فِي هِجْرَته مِنْ زَوْجَته وَإِنْ أَقَامَ سِنِينَ لَا يَغْشَاهَا , وَلَكِنَّهُ يُوعَظ وَيُؤْمَر بِتَقْوَى اللَّه تَعَالَى فِي أَلَّا يُمْسِكهَا ضِرَارًا . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأ اِمْرَأَته حَتَّى تَفْطِم وَلَدهَا لِئَلَّا يَمْغَل وَلَدهَا , وَلَمْ يُرِدْ إِضْرَارًا بِهَا حَتَّى يَنْقَضِي أَمَد الرَّضَاع لَمْ يَكُنْ لِزَوْجَتِهِ عِنْد مَالِك مُطَالَبَة لِقَصْدِ إِصْلَاح الْوَلَد . قَالَ مَالِك : وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَهُ إِيلَاء , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ , وَالْقَوْل الْآخَر يَكُون مُولِيًا , وَلَا اِعْتِبَار بِرَضَاعِ الْوَلَد , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُون مُولِيًا مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأ زَوْجَته فِي هَذَا الْبَيْت أَوْ فِي هَذِهِ الدَّار لِأَنَّهُ يَجِد السَّبِيل إِلَى وَطْئِهَا فِي غَيْر ذَلِكَ الْمَكَان . قَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاق : إِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَة أَشْهُر بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُوقَف عِنْد الْأَشْهُر الْأَرْبَعَة , فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأهَا فِي مِصْره أَوْ بَلَده فَهُوَ مُولٍ عِنْد مَالِك , وَهَذَا إِنَّمَا يَكُون فِي سَفَر يَتَكَلَّف الْمَئُونَة وَالْكُلْفَة دُون جَنَّته أَوْ مَزْرَعَته الْقَرِيبَة . قَوْله تَعَالَى : " مِنْ نِسَائِهِمْ " يَدْخُل فِيهِ الْحَرَائِر وَالذِّمِّيَّات وَالْإِمَاء إِذَا تَزَوَّجْنَ . وَالْعَبْد يَلْزَمهُ الْإِيلَاء مِنْ زَوْجَته . قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر : إِيلَاؤُهُ مِثْل إِيلَاء الْحُرّ , وَحُجَّتهمْ ظَاهِر قَوْله تَعَالَى : " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ " فَكَانَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْأَزْوَاج . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ أَقُول . وَقَالَ مَالِك وَالزُّهْرِيّ وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَإِسْحَاق : أَجَله شَهْرَانِ . وَقَالَ الْحَسَن وَالنَّخَعِيّ : إِيلَاؤُهُ مِنْ زَوْجَته الْأَمَة شَهْرَانِ , وَمِنْ الْحُرَّة أَرْبَعَة أَشْهُر , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : إِيلَاء الْأَمَة نِصْف إِيلَاء الْحُرَّة . قَالَ مَالِك وَأَصْحَابه وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ وَالنَّخَعِيّ وَغَيْرهمْ : الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْر الْمَدْخُول بِهَا سَوَاء فِي لُزُوم الْإِيلَاء فِيهِمَا . وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَعَطَاء وَالثَّوْرِيّ : لَا إِيلَاء إِلَّا بَعْد الدُّخُول . وَقَالَ مَالِك : وَلَا إِيلَاء مِنْ صَغِيرَة لَمْ تَبْلُغ , فَإِنْ آلَى مِنْهَا فَبَلَغَتْ لَزِمَ الْإِيلَاء مِنْ يَوْم بُلُوغهَا . وَأَمَّا الذِّمِّيّ فَلَا يَصِحّ إِيلَاؤُهُ , كَمَا لَا يَصِحّ ظِهَاره وَلَا طَلَاقه , وَذَلِكَ أَنَّ نِكَاح أَهْل الشِّرْك لَيْسَ عِنْدنَا بِنِكَاحٍ صَحِيح , وَإِنَّمَا لَهُمْ شُبْهَة يَد , وَلِأَنَّهُمْ لَا يُكَلَّفُونَ الشَّرَائِع فَتَلْزَمهُمْ كَفَّارَات الْأَيْمَان , فَلَوْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا فِي حُكْم الْإِيلَاء لَمْ يَنْبَغِ لِحَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُم بَيْنهمْ , وَيَذْهَبُونَ إِلَى حُكَّامهمْ , فَإِنْ جَرَى ذَلِكَ مَجْرَى التَّظَالُم بَيْنهمْ حُكِمَ بِحُكْمِ الْإِسْلَام , كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمُسْلِم وَطْء زَوْجَته ضِرَارًا مِنْ غَيْر يَمِين .
التَّرَبُّص : التَّأَنِّي وَالتَّأَخُّر , مَقْلُوب التَّصَبُّر , قَالَ الشَّاعِر : تَرَبَّص بِهَا رَيْب الْمَنُون لَعَلَّهَا تُطَلَّق يَوْمًا أَوْ يَمُوت حَلِيلهَا وَأَمَّا فَائِدَة تَوْقِيت الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر فِيمَا ذَكَرَ اِبْن عَبَّاس عَنْ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَمَا تَقَدَّمَ , فَمَنَعَ اللَّه مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلَ لِلزَّوْجِ مُدَّة أَرْبَعَة أَشْهُر فِي تَأْدِيب الْمَرْأَة بِالْهَجْرِ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع " [ النِّسَاء : 34 ] وَقَدْ آلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجه شَهْرًا تَأْدِيبًا لَهُنَّ . وَقَدْ قِيلَ : الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر هِيَ الَّتِي لَا تَسْتَطِيع ذَات الزَّوْج أَنْ تَصْبِر عَنْهُ أَكْثَر مِنْهَا , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يَطُوف لَيْلَة بِالْمَدِينَةِ فَسَمِعَ اِمْرَأَة تُنْشِد : أَلَا طَالَ هَذَا اللَّيْل وَاسْوَدَّ جَانِبه وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا حَبِيب أُلَاعِبهُ فَوَاَللَّهِ لَوْلَا اللَّه لَا شَيْء غَيْره لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِير جَوَانِبه مَخَافَة رَبِّي وَالْحَيَاء يَكُفّنِي وَإِكْرَام بَعْلِي أَنْ تُنَال مَرَاكِبه فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَد اِسْتَدْعَى عُمَر بِتِلْكَ الْمَرْأَة وَقَالَ لَهَا : أَيْنَ زَوْجك ؟ فَقَالَتْ : بَعَثْت بِهِ إِلَى الْعِرَاق ! فَاسْتَدْعَى نِسَاء فَسَأَلَهُنَّ عَنْ الْمَرْأَة كَمْ مِقْدَار مَا تَصْبِر عَنْ زَوْجهَا ؟ فَقُلْنَ : شَهْرَيْنِ , وَيَقِلّ صَبْرهَا فِي ثَلَاثَة أَشْهُر , وَيَنْفَد صَبْرهَا فِي أَرْبَعَة أَشْهُر , فَجَعَلَ عُمَر مُدَّة غَزْو الرَّجُل أَرْبَعَة أَشْهُر , فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر اِسْتَرَدَّ الْغَازِينَ وَوَجَّهَ بِقَوْمٍ آخَرِينَ , وَهَذَا وَاَللَّه أَعْلَم يُقَوِّي اِخْتِصَاص مُدَّة الْإِيلَاء بِأَرْبَعَةِ أَشْهُر .
مَعْنَاهُ رَجَعُوا , وَمِنْهُ " حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْر اللَّه " [ الْحُجُرَات : 9 ] وَمِنْهُ قِيلَ لِلظِّلِّ بَعْد الزَّوَال : فَيْء ; لِأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ جَانِب الْمَشْرِق إِلَى جَانِب الْمَغْرِب , يُقَال : فَاءَ يَفِيء فَيْئَة وَفُيُوءًا . وَإِنَّهُ لَسَرِيع الْفَيْئَة , يَعْنِي الرُّجُوع . قَالَ : فَفَاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ وَمِنْ حَاجَة الْإِنْسَان مَا لَيْسَ قَاضِيَا قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الْفَيْء الْجِمَاع لِمَنْ لَا عُذْر لَهُ , فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْر مَرَض أَوْ سِجْن أَوْ شِبْه ذَلِكَ فَإِنَّ اِرْتِجَاعه صَحِيح وَهِيَ اِمْرَأَته , فَإِذَا زَالَ الْعُذْر بِقُدُومِهِ مِنْ سَفَره أَوْ إِقَامَته مِنْ مَرَضه , أَوْ اِنْطِلَاقه مِنْ سِجْنه فَأَبَى الْوَطْء فُرِّقَ بَيْنهمَا إِنْ كَانَتْ الْمُدَّة قَدْ اِنْقَضَتْ , قَالَ مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة وَالْمَبْسُوط . وَقَالَ عَبْد الْمَلِك : وَتَكُون بَائِنًا مِنْهُ يَوْم اِنْقَضَتْ الْمُدَّة , فَإِنْ صَدَقَ عُذْره بِالْفَيْئَةِ إِذَا أَمْكَنَتْهُ حُكِمَ بِصِدْقِهِ فِيمَا مَضَى , فَإِنْ أَكْذَبَ مَا اِدَّعَاهُ مِنْ الْفَيْئَة بِالِامْتِنَاعِ حِين الْقُدْرَة عَلَيْهَا , حُمِلَ أَمْره عَلَى الْكَذِب فِيهَا وَاللَّدَد , وَأُمْضِيَتْ الْأَحْكَام عَلَى مَا كَانَتْ تَجِب فِي ذَلِكَ الْوَقْت . وَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَة بِفَيْئَتِهِ فِي حَال الْعُذْر أَجْزَأَهُ , قَالَهُ الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَالنَّخَعِيّ : وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ . وَقَالَ النَّخَعِيّ أَيْضًا : يَصِحّ الْفَيْء بِالْقَوْلِ وَالْإِشْهَاد فَقَطْ , وَيَسْقُط حُكْم الْإِيلَاء , أَرَأَيْت إِنْ لَمْ يَنْتَشِر لِلْوَطْءِ , قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيَرْجِع هَذَا الْقَوْل إِنْ لَمْ يَطَأ إِلَى بَاب الضَّرَر . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : إِذَا كَانَ لَهُ عُذْر يَفِيء بِقَلْبِهِ , وَبِهِ قَالَ أَبُو قِلَابَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ لَمْ يَقْدِر عَلَى الْجِمَاع فَيَقُول : قَدْ فِئْت إِلَيْهَا . قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : أَبُو حَنِيفَة يَقُول فِيمَنْ آلَى وَهُوَ مَرِيض وَبَيْنه وَبَيْنهَا مُدَّة أَرْبَعَة أَشْهُر , وَهِيَ رَتْقَاء أَوْ صَغِيرَة أَوْ هُوَ مَجْبُوب : إِنَّهُ إِذَا فَاءَ إِلَيْهَا بِلِسَانِهِ وَمَضَتْ الْمُدَّة وَالْعُذْر قَائِم فَذَلِكَ فَيْء صَحِيح , وَالشَّافِعِيّ يُخَالِفهُ عَلَى أَحَد مَذْهَبَيْهِ . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يَكُون الْفَيْء إِلَّا بِالْجِمَاعِ فِي حَال الْعُذْر وَغَيْره , وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر , قَالَ : وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي سَفَر أَوْ سِجْن . أَوْجَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء الْكَفَّارَة عَلَى الْمُولِي إِذَا فَاءَ بِجِمَاعِ اِمْرَأَته . وَقَالَ الْحَسَن : لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيّ , قَالَ النَّخَعِيّ : كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا فَاءَ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ . وَقَالَ إِسْحَاق : قَالَ بَعْض أَهْل التَّأْوِيل فِي قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ فَاءُوا " يَعْنِي لِلْيَمِينِ الَّتِي حَنِثُوا فِيهَا , وَهُوَ مَذْهَب فِي الْأَيْمَان لِبَعْضِ التَّابِعِينَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى بِرّ أَوْ تَقْوَى أَوْ بَاب مِنْ الْخَيْر أَلَّا يَفْعَلهُ فَإِنَّهُ يَفْعَلهُ وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَالْحُجَّة لَهُ قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم " , وَلَمْ يَذْكُر كَفَّارَة , وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا يَتَرَكَّب عَلَى أَنَّ لَغْو الْيَمِين مَا حُلِفَ عَلَى مَعْصِيَة , وَتَرْك وَطْء الزَّوْجَة مَعْصِيَة . قُلْت : وَقَدْ يُسْتَدَلّ لِهَذَا الْقَوْل مِنْ السُّنَّة بِحَدِيثِ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا ) خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه . وَسَيَأْتِي لَهَا مَزِيد بَيَان فِي آيَة الْأَيْمَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَحُجَّة الْجُمْهُور قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه ) . إِذَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينه سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاء , قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا . وَفِي ذَلِكَ دَلِيل عَلَى تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث فِي الْمَذْهَب , وَذَلِكَ إِجْمَاع فِي مَسْأَلَة الْإِيلَاء , وَدَلِيل عَلَى أَبِي حَنِيفَة فِي مَسْأَلَة الْأَيْمَان , إِذْ لَا يَرَى جَوَاز تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث , قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . قُلْت : بِهَذِهِ الْآيَة اِسْتَدَلَّ مُحَمَّد بْن الْحَسَن عَلَى اِمْتِنَاع جَوَاز الْكَفَّارَة قَبْل الْحِنْث فَقَالَ : لَمَّا حَكَمَ اللَّه تَعَالَى لِلْمُولِي بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ مِنْ فَيْء أَوْ عَزِيمَة الطَّلَاق , فَلَوْ جَازَ تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث لَبَطَلَ الْإِيلَاء بِغَيْرِ فَيْء أَوْ عَزِيمَة الطَّلَاق ; لِأَنَّهُ إِنْ حَنِثَ لَا يَلْزَمهُ بِالْحِنْثِ شَيْء , وَمَتَى لَمْ يَلْزَم الْحَانِثَ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا . وَفِي جَوَاز تَقْدِيم الْكَفَّارَة إِسْقَاط حُكْم الْإِيلَاء بِغَيْرِ مَا ذَكَرَ اللَّه , وَذَلِكَ خِلَاف الْكِتَاب .
التَّرَبُّص : التَّأَنِّي وَالتَّأَخُّر , مَقْلُوب التَّصَبُّر , قَالَ الشَّاعِر : تَرَبَّص بِهَا رَيْب الْمَنُون لَعَلَّهَا تُطَلَّق يَوْمًا أَوْ يَمُوت حَلِيلهَا وَأَمَّا فَائِدَة تَوْقِيت الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر فِيمَا ذَكَرَ اِبْن عَبَّاس عَنْ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَمَا تَقَدَّمَ , فَمَنَعَ اللَّه مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلَ لِلزَّوْجِ مُدَّة أَرْبَعَة أَشْهُر فِي تَأْدِيب الْمَرْأَة بِالْهَجْرِ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع " [ النِّسَاء : 34 ] وَقَدْ آلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجه شَهْرًا تَأْدِيبًا لَهُنَّ . وَقَدْ قِيلَ : الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر هِيَ الَّتِي لَا تَسْتَطِيع ذَات الزَّوْج أَنْ تَصْبِر عَنْهُ أَكْثَر مِنْهَا , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يَطُوف لَيْلَة بِالْمَدِينَةِ فَسَمِعَ اِمْرَأَة تُنْشِد : أَلَا طَالَ هَذَا اللَّيْل وَاسْوَدَّ جَانِبه وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا حَبِيب أُلَاعِبهُ فَوَاَللَّهِ لَوْلَا اللَّه لَا شَيْء غَيْره لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِير جَوَانِبه مَخَافَة رَبِّي وَالْحَيَاء يَكُفّنِي وَإِكْرَام بَعْلِي أَنْ تُنَال مَرَاكِبه فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَد اِسْتَدْعَى عُمَر بِتِلْكَ الْمَرْأَة وَقَالَ لَهَا : أَيْنَ زَوْجك ؟ فَقَالَتْ : بَعَثْت بِهِ إِلَى الْعِرَاق ! فَاسْتَدْعَى نِسَاء فَسَأَلَهُنَّ عَنْ الْمَرْأَة كَمْ مِقْدَار مَا تَصْبِر عَنْ زَوْجهَا ؟ فَقُلْنَ : شَهْرَيْنِ , وَيَقِلّ صَبْرهَا فِي ثَلَاثَة أَشْهُر , وَيَنْفَد صَبْرهَا فِي أَرْبَعَة أَشْهُر , فَجَعَلَ عُمَر مُدَّة غَزْو الرَّجُل أَرْبَعَة أَشْهُر , فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر اِسْتَرَدَّ الْغَازِينَ وَوَجَّهَ بِقَوْمٍ آخَرِينَ , وَهَذَا وَاَللَّه أَعْلَم يُقَوِّي اِخْتِصَاص مُدَّة الْإِيلَاء بِأَرْبَعَةِ أَشْهُر .
مَعْنَاهُ رَجَعُوا , وَمِنْهُ " حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْر اللَّه " [ الْحُجُرَات : 9 ] وَمِنْهُ قِيلَ لِلظِّلِّ بَعْد الزَّوَال : فَيْء ; لِأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ جَانِب الْمَشْرِق إِلَى جَانِب الْمَغْرِب , يُقَال : فَاءَ يَفِيء فَيْئَة وَفُيُوءًا . وَإِنَّهُ لَسَرِيع الْفَيْئَة , يَعْنِي الرُّجُوع . قَالَ : فَفَاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ وَمِنْ حَاجَة الْإِنْسَان مَا لَيْسَ قَاضِيَا قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الْفَيْء الْجِمَاع لِمَنْ لَا عُذْر لَهُ , فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْر مَرَض أَوْ سِجْن أَوْ شِبْه ذَلِكَ فَإِنَّ اِرْتِجَاعه صَحِيح وَهِيَ اِمْرَأَته , فَإِذَا زَالَ الْعُذْر بِقُدُومِهِ مِنْ سَفَره أَوْ إِقَامَته مِنْ مَرَضه , أَوْ اِنْطِلَاقه مِنْ سِجْنه فَأَبَى الْوَطْء فُرِّقَ بَيْنهمَا إِنْ كَانَتْ الْمُدَّة قَدْ اِنْقَضَتْ , قَالَ مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة وَالْمَبْسُوط . وَقَالَ عَبْد الْمَلِك : وَتَكُون بَائِنًا مِنْهُ يَوْم اِنْقَضَتْ الْمُدَّة , فَإِنْ صَدَقَ عُذْره بِالْفَيْئَةِ إِذَا أَمْكَنَتْهُ حُكِمَ بِصِدْقِهِ فِيمَا مَضَى , فَإِنْ أَكْذَبَ مَا اِدَّعَاهُ مِنْ الْفَيْئَة بِالِامْتِنَاعِ حِين الْقُدْرَة عَلَيْهَا , حُمِلَ أَمْره عَلَى الْكَذِب فِيهَا وَاللَّدَد , وَأُمْضِيَتْ الْأَحْكَام عَلَى مَا كَانَتْ تَجِب فِي ذَلِكَ الْوَقْت . وَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَة بِفَيْئَتِهِ فِي حَال الْعُذْر أَجْزَأَهُ , قَالَهُ الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَالنَّخَعِيّ : وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ . وَقَالَ النَّخَعِيّ أَيْضًا : يَصِحّ الْفَيْء بِالْقَوْلِ وَالْإِشْهَاد فَقَطْ , وَيَسْقُط حُكْم الْإِيلَاء , أَرَأَيْت إِنْ لَمْ يَنْتَشِر لِلْوَطْءِ , قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيَرْجِع هَذَا الْقَوْل إِنْ لَمْ يَطَأ إِلَى بَاب الضَّرَر . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : إِذَا كَانَ لَهُ عُذْر يَفِيء بِقَلْبِهِ , وَبِهِ قَالَ أَبُو قِلَابَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ لَمْ يَقْدِر عَلَى الْجِمَاع فَيَقُول : قَدْ فِئْت إِلَيْهَا . قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : أَبُو حَنِيفَة يَقُول فِيمَنْ آلَى وَهُوَ مَرِيض وَبَيْنه وَبَيْنهَا مُدَّة أَرْبَعَة أَشْهُر , وَهِيَ رَتْقَاء أَوْ صَغِيرَة أَوْ هُوَ مَجْبُوب : إِنَّهُ إِذَا فَاءَ إِلَيْهَا بِلِسَانِهِ وَمَضَتْ الْمُدَّة وَالْعُذْر قَائِم فَذَلِكَ فَيْء صَحِيح , وَالشَّافِعِيّ يُخَالِفهُ عَلَى أَحَد مَذْهَبَيْهِ . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يَكُون الْفَيْء إِلَّا بِالْجِمَاعِ فِي حَال الْعُذْر وَغَيْره , وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر , قَالَ : وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي سَفَر أَوْ سِجْن . أَوْجَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء الْكَفَّارَة عَلَى الْمُولِي إِذَا فَاءَ بِجِمَاعِ اِمْرَأَته . وَقَالَ الْحَسَن : لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيّ , قَالَ النَّخَعِيّ : كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا فَاءَ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ . وَقَالَ إِسْحَاق : قَالَ بَعْض أَهْل التَّأْوِيل فِي قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ فَاءُوا " يَعْنِي لِلْيَمِينِ الَّتِي حَنِثُوا فِيهَا , وَهُوَ مَذْهَب فِي الْأَيْمَان لِبَعْضِ التَّابِعِينَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى بِرّ أَوْ تَقْوَى أَوْ بَاب مِنْ الْخَيْر أَلَّا يَفْعَلهُ فَإِنَّهُ يَفْعَلهُ وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَالْحُجَّة لَهُ قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم " , وَلَمْ يَذْكُر كَفَّارَة , وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا يَتَرَكَّب عَلَى أَنَّ لَغْو الْيَمِين مَا حُلِفَ عَلَى مَعْصِيَة , وَتَرْك وَطْء الزَّوْجَة مَعْصِيَة . قُلْت : وَقَدْ يُسْتَدَلّ لِهَذَا الْقَوْل مِنْ السُّنَّة بِحَدِيثِ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا ) خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه . وَسَيَأْتِي لَهَا مَزِيد بَيَان فِي آيَة الْأَيْمَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَحُجَّة الْجُمْهُور قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه ) . إِذَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينه سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاء , قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا . وَفِي ذَلِكَ دَلِيل عَلَى تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث فِي الْمَذْهَب , وَذَلِكَ إِجْمَاع فِي مَسْأَلَة الْإِيلَاء , وَدَلِيل عَلَى أَبِي حَنِيفَة فِي مَسْأَلَة الْأَيْمَان , إِذْ لَا يَرَى جَوَاز تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث , قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . قُلْت : بِهَذِهِ الْآيَة اِسْتَدَلَّ مُحَمَّد بْن الْحَسَن عَلَى اِمْتِنَاع جَوَاز الْكَفَّارَة قَبْل الْحِنْث فَقَالَ : لَمَّا حَكَمَ اللَّه تَعَالَى لِلْمُولِي بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ مِنْ فَيْء أَوْ عَزِيمَة الطَّلَاق , فَلَوْ جَازَ تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث لَبَطَلَ الْإِيلَاء بِغَيْرِ فَيْء أَوْ عَزِيمَة الطَّلَاق ; لِأَنَّهُ إِنْ حَنِثَ لَا يَلْزَمهُ بِالْحِنْثِ شَيْء , وَمَتَى لَمْ يَلْزَم الْحَانِثَ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا . وَفِي جَوَاز تَقْدِيم الْكَفَّارَة إِسْقَاط حُكْم الْإِيلَاء بِغَيْرِ مَا ذَكَرَ اللَّه , وَذَلِكَ خِلَاف الْكِتَاب .
الْعَزِيمَة : تَتْمِيم الْعَقْد عَلَى الشَّيْء , يُقَال : عَزَمَ عَلَيْهِ يَعْزِم عُزْمًا ( بِالضَّمِّ ) وَعَزِيمَة وَعَزِيمًا وَعَزَمَانًا , وَاعْتَزَمَ اِعْتِزَامًا , وَعَزَمْت عَلَيْك لَتَفْعَلَن , أَيْ أَقْسَمْت عَلَيْك . قَالَ شَمِر : الْعَزِيمَة وَالْعَزْم مَا عَقَدْت عَلَيْهِ نَفْسك مِنْ أَمْر أَنَّك فَاعِله . وَالطَّلَاق مِنْ طَلَقَتْ الْمَرْأَة تَطْلُق ( عَلَى وَزْن نَصَرَ يَنْصُر ) طَلَاقًا , فَهِيَ طَالِق وَطَالِقَة أَيْضًا . قَالَ الْأَعْشَى : أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّك طَالِقَهْ وَيَجُوز طَلُقَتْ ( بِضَمِّ اللَّام ) مِثْل عَظُمَ يَعْظُم , وَأَنْكَرَهُ الْأَخْفَش . وَالطَّلَاق حَلّ عُقْدَة النِّكَاح , وَأَصْله الِانْطِلَاق , وَالْمُطَلَّقَات الْمُخْلَيَات , وَالطَّلَاق : التَّخْلِيَة , يُقَال : نَعْجَة طَالِق , وَنَاقَة طَالِق , أَيْ مُهْمَلَة قَدْ تُرِكَتْ فِي الْمَرْعَى لَا قَيْد عَلَيْهَا وَلَا رَاعِي , وَبَعِير طُلُق ( بِضَمِّ الطَّاء وَاللَّام ) غَيْر مُقَيَّد , وَالْجَمْع أَطْلَاق , وَحُبِسَ فُلَان فِي السِّجْن طَلْقًا أَيْ بِغَيْرِ قَيْد , وَالطَّالِق مِنْ الْإِبِل : الَّتِي يَتْرُكهَا الرَّاعِي لِنَفْسِهِ لَا يَحْتَلِبهَا عَلَى الْمَاء , يُقَال : اِسْتَطْلَقَ الرَّاعِي نَاقَة لِنَفْسِهِ . فَسُمِّيَتْ الْمَرْأَة الْمُخَلَّى سَبِيلهَا بِمَا سُمِّيَتْ بِهِ النَّعْجَة أَوْ النَّاقَة الْمُهْمَل أَمْرهَا . وَقِيلَ : إِنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ طَلَق الْفَرَس , وَهُوَ ذَهَابه شَوْطًا لَا يُمْنَع , فَسُمِّيَتْ الْمَرْأَة الْمُخَلَّاة طَالِقًا لَا تَمْنَع مِنْ نَفْسهَا بَعْد أَنْ كَانَتْ مَمْنُوعَة .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق " دَلِيل عَلَى أَنَّهَا لَا تَطْلُق بِمُضِيِّ مُدَّة أَرْبَعَة أَشْهُر , كَمَا قَالَ مَالِك : مَا لَمْ يَقَع إِنْشَاء تَطْلِيق بَعْد الْمُدَّة , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : " سَمِيع " وَسَمِيع يَقْتَضِي مَسْمُوعًا بَعْد الْمُضِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : " سَمِيع " لِإِيلَائِهِ , " عَلِيم " بِعَزْمِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مُضِيّ أَرْبَعَة أَشْهُر . وَرَوَى سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَأَلْت اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُل يُولِي مِنْ اِمْرَأَته , فَكُلّهمْ يَقُول : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء حَتَّى تَمْضِي أَرْبَعَة أَشْهُر فَيُوقَف , فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا طَلَّقَ . قَالَ الْقَاضِي اِبْن الْعَرَبِيّ : وَتَحْقِيق الْأَمْر أَنَّ تَقْدِير الْآيَة عِنْدنَا : " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّص أَرْبَعَة أَشْهُر فَإِنْ فَاءُوا " بَعْد اِنْقِضَائِهَا " فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم . وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق فَإِنَّ اللَّه سَمِيع عَلِيم " . وَتَقْدِيرهَا عِنْدهمْ : " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّص أَرْبَعَة أَشْهُر فَإِنْ فَاءُوا " فِيهَا " فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم . وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق " بِتَرْكِ الْفَيْئَة فِيهَا , يُرِيد مُدَّة التَّرَبُّص فِيهَا " فَإِنَّ اللَّه سَمِيع عَلِيم " . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا اِحْتِمَال مُتَسَاوٍ , وَلِأَجْلِ تَسَاوِيهِ تَوَقَّفَتْ الصَّحَابَة فِيهِ . قُلْت : وَإِذَا تَسَاوَى الِاحْتِمَال كَانَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ أَقْوَى قِيَاسًا عَلَى الْمُعْتَدَّة بِالشُّهُورِ وَالْأَقْرَاء , إِذْ كُلّ ذَلِكَ أَجَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى , فَبِانْقِضَائِهِ اِنْقَطَعَتْ الْعِصْمَة وَأُبِينَتْ مِنْ غَيْر خِلَاف , وَلَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا سَبِيل عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا , فَكَذَلِكَ الْإِيلَاء , حَتَّى لَوْ نَسِيَ الْفَيْء وَانْقَضَتْ الْمُدَّة لَوَقَعَ الطَّلَاق , وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَمَة بِمِلْكِ الْيَمِين لَا يَكُون فِيهَا إِيلَاء , إِذْ لَا يَقَع عَلَيْهَا طَلَاق , وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق " دَلِيل عَلَى أَنَّهَا لَا تَطْلُق بِمُضِيِّ مُدَّة أَرْبَعَة أَشْهُر , كَمَا قَالَ مَالِك : مَا لَمْ يَقَع إِنْشَاء تَطْلِيق بَعْد الْمُدَّة , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : " سَمِيع " وَسَمِيع يَقْتَضِي مَسْمُوعًا بَعْد الْمُضِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : " سَمِيع " لِإِيلَائِهِ , " عَلِيم " بِعَزْمِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مُضِيّ أَرْبَعَة أَشْهُر . وَرَوَى سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَأَلْت اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُل يُولِي مِنْ اِمْرَأَته , فَكُلّهمْ يَقُول : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء حَتَّى تَمْضِي أَرْبَعَة أَشْهُر فَيُوقَف , فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا طَلَّقَ . قَالَ الْقَاضِي اِبْن الْعَرَبِيّ : وَتَحْقِيق الْأَمْر أَنَّ تَقْدِير الْآيَة عِنْدنَا : " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّص أَرْبَعَة أَشْهُر فَإِنْ فَاءُوا " بَعْد اِنْقِضَائِهَا " فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم . وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق فَإِنَّ اللَّه سَمِيع عَلِيم " . وَتَقْدِيرهَا عِنْدهمْ : " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّص أَرْبَعَة أَشْهُر فَإِنْ فَاءُوا " فِيهَا " فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم . وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق " بِتَرْكِ الْفَيْئَة فِيهَا , يُرِيد مُدَّة التَّرَبُّص فِيهَا " فَإِنَّ اللَّه سَمِيع عَلِيم " . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا اِحْتِمَال مُتَسَاوٍ , وَلِأَجْلِ تَسَاوِيهِ تَوَقَّفَتْ الصَّحَابَة فِيهِ . قُلْت : وَإِذَا تَسَاوَى الِاحْتِمَال كَانَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ أَقْوَى قِيَاسًا عَلَى الْمُعْتَدَّة بِالشُّهُورِ وَالْأَقْرَاء , إِذْ كُلّ ذَلِكَ أَجَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى , فَبِانْقِضَائِهِ اِنْقَطَعَتْ الْعِصْمَة وَأُبِينَتْ مِنْ غَيْر خِلَاف , وَلَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا سَبِيل عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا , فَكَذَلِكَ الْإِيلَاء , حَتَّى لَوْ نَسِيَ الْفَيْء وَانْقَضَتْ الْمُدَّة لَوَقَعَ الطَّلَاق , وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَمَة بِمِلْكِ الْيَمِين لَا يَكُون فِيهَا إِيلَاء , إِذْ لَا يَقَع عَلَيْهَا طَلَاق , وَاَللَّه أَعْلَم .
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ↓
فِيهِ خَمْس مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات " لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى الْإِيلَاء وَأَنَّ الطَّلَاق قَدْ يَقَع فِيهِ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْم الْمَرْأَة بَعْد التَّطْلِيق . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " الْآيَة , وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل كَانَ إِذَا طَلَّقَ اِمْرَأَته فَهُوَ أَحَقّ بِهَا , وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ) , فَنَسَخَ ذَلِكَ وَقَالَ : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " الْآيَة . وَالْمُطَلَّقَات لَفْظ عُمُوم , وَالْمُرَاد بِهِ الْخُصُوص فِي الْمَدْخُول بِهِنَّ , وَخَرَجَتْ الْمُطَلَّقَة قَبْل الْبِنَاء بِآيَةِ " الْأَحْزَاب " : " فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة تَعْتَدُّونَهَا " [ الْأَحْزَاب : 49 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَكَذَلِكَ الْحَامِل بِقَوْلِهِ : " وَأُولَات الْأَحْمَال أَجَلهنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلهنَّ " [ الطَّلَاق : 4 ] . وَالْمَقْصُود مِنْ الْأَقْرَاء الِاسْتِبْرَاء , بِخِلَافِ عِدَّة الْوَفَاة الَّتِي هِيَ عِبَادَة . وَجَعَلَ اللَّه عِدَّة الصَّغِيرَة الَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالْكَبِيرَة الَّتِي قَدْ يَئِسَتْ الشُّهُور عَلَى مَا يَأْتِي . وَقَالَ قَوْم : إِنَّ الْعُمُوم فِي الْمُطَلَّقَات يَتَنَاوَل هَؤُلَاءِ ثُمَّ نُسِخْنَ , وَهُوَ ضَعِيف , وَإِنَّمَا الْآيَة فِيمَنْ تَحِيض خَاصَّة , وَهُوَ عُرْف النِّسَاء وَعَلَيْهِ مُعْظَمهنَّ .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " يَتَرَبَّصْنَ " التَّرَبُّص الِانْتِظَار , عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَهَذَا خَبَر وَالْمُرَاد الْأَمْر , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادهنَّ " [ الْبَقَرَة : 233 ] وَجَمَعَ رَجُل عَلَيْهِ ثِيَابه , وَحَسْبك دِرْهَم , أَيْ اِكْتَفِ بِدِرْهَمٍ , هَذَا قَوْل أَهْل اللِّسَان مِنْ غَيْر خِلَاف بَيْنهمْ فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الشَّجَرِيّ . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا بَاطِل , وَإِنَّمَا هُوَ خَبَر عَنْ حُكْم الشَّرْع , فَإِنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَة لَا تَتَرَبَّص فَلَيْسَ مِنْ الشَّرْع , وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ وُقُوع خَبَر اللَّه تَعَالَى عَلَى خِلَاف مَخْبَره . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لِيَتَرَبَّصْنَ , فَحَذَفَ اللَّام .
الثَّالِثَة : قَرَأَ جُمْهُور النَّاس " قُرُوء " عَلَى وَزْن فُعُول , اللَّام هَمْزَة . وَيُرْوَى عَنْ نَافِع " قُرُوٍّ " بِكَسْرِ الْوَاو وَشَدّهَا مِنْ غَيْر هَمْز . وَقَرَأَ الْحَسَن " قَرْء " بِفَتْحِ الْقَاف وَسُكُون الرَّاء وَالتَّنْوِين . وَقُرُوء جَمْع أَقْرُؤ وَأَقْرَاء , وَالْوَاحِد قُرْءٌ بِضَمِّ الْقَاف , قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ . وَقَالَ أَبُو زَيْد : " قُرْء " بِفَتْحِ الْقَاف , وَكِلَاهُمَا قَالَ : أَقْرَأَتْ الْمَرْأَة إِذَا حَاضَتْ , فَهِيَ مُقْرِئ . وَأَقْرَأَتْ طَهُرَتْ . وَقَالَ الْأَخْفَش : أَقْرَأَتْ الْمَرْأَة إِذَا صَارَتْ صَاحِبَة حَيْض , فَإِذَا حَاضَتْ قُلْت : قَرَأَتْ , بِلَا أَلِف . يُقَال : أَقْرَأَتْ الْمَرْأَة حَيْضَة أَوْ حَيْضَتَيْنِ . وَالْقُرْء : اِنْقِطَاع الْحَيْض . وَقَالَ بَعْضهمْ : مَا بَيْن الْحَيْضَتَيْنِ وَأَقْرَأَتْ حَاجَتك : دَنَتْ , عَنْ الْجَوْهَرِيّ . وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : مِنْ الْعَرَب مَنْ يُسَمِّي الْحَيْض قُرْءًا , وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الطُّهْر قُرْءًا , وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعهُمَا جَمِيعًا , فَيُسَمِّي الطُّهْر مَعَ الْحَيْض قُرْءًا , ذَكَرَهُ النَّحَّاس .
الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَقْرَاء , فَقَالَ أَهْل الْكُوفَة : هِيَ الْحَيْض , وَهُوَ قَوْل عُمَر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَأَبِي مُوسَى وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَعِكْرِمَة وَالسُّدِّيّ . وَقَالَ أَهْل الْحِجَاز : هِيَ الْأَطْهَار , وَهُوَ قَوْل عَائِشَة وَابْن عُمَر وَزَيْد بْن ثَابِت وَالزُّهْرِيّ وَأَبَان بْن عُثْمَان وَالشَّافِعِيّ . فَمَنْ جَعَلَ الْقُرْء اِسْمًا لِلْحَيْضِ سَمَّاهُ بِذَلِكَ , لِاجْتِمَاعِ الدَّم فِي الرَّحِم , وَمَنْ جَعَلَهُ اِسْمًا لِلطُّهْرِ فَلِاجْتِمَاعِهِ فِي الْبَدَن , وَاَلَّذِي يُحَقِّق لَك هَذَا الْأَصْل فِي الْقُرْء الْوَقْت , يُقَال : هَبَّتْ الرِّيح لِقُرْئِهَا وَقَارِئُهَا أَيْ لِوَقْتِهَا , قَالَ الشَّاعِر : كَرِهْت الْعَقْر عَقْر بَنِي شَلِيل إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاح فَقِيلَ لِلْحَيْضِ : وَقْت , وَلِلطُّهْرِ وَقْت , لِأَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ لِوَقْتٍ مَعْلُوم , وَقَالَ الْأَعْشَى فِي الْأَطْهَار : أَفِي كُلّ عَام أَنْتَ جَاشِم غَزْوَة تَشُدّ لِأَقْصَاهَا عَزِيم عَزَائِكَا مُوَرِّثَة عِزًّا وَفِي الْحَيّ رِفْعَة لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوء نِسَائِكَا وَقَالَ آخَر فِي الْحَيْض : يَا رَبّ ذِي ضِغْن عَلَيَّ فَارِض لَهُ قُرُوء كَقُرُوءِ الْحَائِض يَعْنِي أَنَّهُ طَعَنَهُ فَكَانَ لَهُ دَم كَدَمِ الْحَائِض . وَقَالَ قَوْم : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ قُرْء الْمَاء فِي الْحَوْض . وَهُوَ جَمْعه , وَمِنْهُ الْقُرْآن لِاجْتِمَاعِ الْمَعَانِي . وَيُقَال لِاجْتِمَاعِ حُرُوفه , وَيُقَال : مَا قَرَأَتْ النَّاقَة سَلًى قَطُّ , أَيْ لَمْ تَجْمَع فِي جَوْفهَا , وَقَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : ذِرَاعَيْ عَيْطَل أَدْمَاء بِكْر هِجَان اللَّوْن لَمْ تَقْرَأ جَنِينَا فَكَأَنَّ الرَّحِم يَجْمَع الدَّم وَقْت الْحَيْض , وَالْجِسْم يَجْمَعهُ وَقْت الطُّهْر . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْقُرْء مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : قَرَيْت الْمَاء فِي الْحَوْض لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقُرْء مَهْمُوز وَهَذَا غَيْر مَهْمُوز . قُلْت : هَذَا صَحِيح بِنَقْلِ أَهْل اللُّغَة : الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره . وَاسْم ذَلِكَ الْمَاء قِرًى ( بِكَسْرِ الْقَاف مَقْصُور ) . وَقِيلَ : الْقُرْء , الْخُرُوج إِمَّا مِنْ طُهْر إِلَى حَيْض أَوْ مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر , وَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ فِي قَوْل : الْقُرْء الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر إِلَى الْحَيْض , وَلَا يَرَى الْخُرُوج مِنْ الْحَيْض إِلَى الطُّهْر قُرْءًا . وَكَانَ يَلْزَم بِحُكْمِ الِاشْتِقَاق أَنْ يَكُون قُرْءًا , وَيَكُون مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " . أَيْ ثَلَاثَة أَدْوَار أَوْ ثَلَاثَة اِنْتِقَالَات , وَالْمُطَلَّقَة مُتَّصِفَة بِحَالَتَيْنِ فَقَطْ , فَتَارَة تَنْتَقِل مِنْ طُهْر إِلَى حَيْض , وَتَارَة مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر فَيَسْتَقِيم مَعْنَى الْكَلَام , وَدَلَالَته عَلَى الطُّهْر وَالْحَيْض جَمِيعًا , فَيَصِير الِاسْم مُشْتَرَكًا . وَيُقَال : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْء الِانْتِقَال فَخُرُوجهَا مِنْ طُهْر إِلَى حَيْض غَيْر مُرَاد بِالْآيَةِ أَصْلًا , وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الطَّلَاق فِي الْحَيْض طَلَاقًا سُنِّيًّا مَأْمُورًا بِهِ , وَهُوَ الطَّلَاق لِلْعِدَّةِ , فَإِنَّ الطَّلَاق لِلْعِدَّةِ مَا كَانَ فِي الطُّهْر , وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى كَوْن الْقُرْء مَأْخُوذًا مِنْ الِانْتِقَال , فَإِذَا كَانَ الطَّلَاق فِي الطُّهْر سُنِّيًّا فَتَقْدِير الْكَلَام : فَعِدَّتهنَّ ثَلَاثَة اِنْتِقَالَات , فَأَوَّلهَا الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاق , وَاَلَّذِي هُوَ الِانْتِقَال مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر لَمْ يُجْعَل قُرْءًا ; لِأَنَّ اللُّغَة لَا تَدُلّ عَلَيْهِ , وَلَكِنْ عَرَفْنَا بِدَلِيلٍ آخَر , إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُرِدْ الِانْتِقَال مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر , فَإِذَا خَرَجَ أَحَدهمَا عَنْ أَنْ يَكُون مُرَادًا بَقِيَ الْآخَر وَهُوَ الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر إِلَى الْحَيْض مُرَادًا , فَعَلَى هَذَا عِدَّتهَا ثَلَاثَة اِنْتِقَالَات , أَوَّلهَا الطُّهْر , وَعَلَى هَذَا يُمْكِن اِسْتِيفَاء ثَلَاثَة أَقْرَاء كَامِلَة إِذَا كَانَ الطَّلَاق فِي حَالَة الطُّهْر , وَلَا يَكُون ذَلِكَ حَمْلًا عَلَى الْمَجَاز بِوَجْهٍ مَا . قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَهَذَا نَظَر دَقِيق فِي غَايَة الِاتِّجَاه لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ , وَيُمْكِن أَنْ نَذْكُر فِي ذَلِكَ سِرًّا لَا يَبْعُد فَهْمه مِنْ دَقَائِق حُكْم الشَّرِيعَة , وَهُوَ أَنَّ الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر إِلَى الْحَيْض إِنَّمَا جُعِلَ قُرْءًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى بَرَاءَة الرَّحِم , فَإِنَّ الْحَامِل لَا تَحِيض فِي الْغَالِب فَبِحَيْضِهَا عُلِمَ بَرَاءَة رَحِمهَا . وَالِانْتِقَال مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر بِخِلَافِهِ , فَإِنَّ الْحَائِض يَجُوز أَنْ تَحْبَل فِي أَعْقَاب حَيْضهَا , وَإِذَا تَمَادَى أَمَد الْحَمْل وَقَوِيَ الْوَلَد اِنْقَطَعَ دَمهَا , وَلِذَلِكَ تَمْتَدِح الْعَرَب بِحَمْلِ نِسَائِهِمْ فِي حَالَة الطُّهْر , وَقَدْ مَدَحَتْ عَائِشَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ الشَّاعِر : وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلّ غُبَّر حَيْضَة وَفَسَاد مُرْضِعَة وَدَاء مُغْيَل يَعْنِي أَنَّ أُمّه لَمْ تَحْمِل بِهِ فِي بَقِيَّة حَيْضهَا . فَهَذَا مَا لِلْعُلَمَاءِ وَأَهْل اللِّسَان فِي تَأْوِيل الْقُرْء . وَقَالُوا : قَرَأَتْ الْمَرْأَة إِذَا حَاضَتْ أَوْ طَهُرَتْ . وَقَرَأَتْ أَيْضًا إِذَا حَمَلَتْ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْء الْوَقْت , فَإِذَا
قُلْت : وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة أَوْقَات , صَارَتْ الْآيَة مُفَسَّرَة فِي الْعَدَد مُحْتَمَلَة فِي الْمَعْدُود , فَوَجَبَ طَلَب الْبَيَان لِلْمَعْدُودِ مِنْ غَيْرهَا , فَدَلِيلنَا قَوْل اللَّه تَعَالَى : " فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ " [ الطَّلَاق : 1 ] وَلَا خِلَاف أَنَّهُ يُؤْمَر بِالطَّلَاقِ وَقْت الطُّهْر فَيَجِب أَنْ يَكُون هُوَ الْمُعْتَبَر فِي الْعِدَّة , فَإِنَّهُ قَالَ : " فَطَلِّقُوهُنَّ " يَعْنِي وَقْتًا تَعْتَدّ بِهِ , ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : " وَأَحْصُوا الْعِدَّة " . يُرِيد مَا تَعْتَدّ بِهِ الْمُطَلَّقَة وَهُوَ الطُّهْر الَّذِي تَطْلُق فِيهِ , وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَر : ( مَرَّة فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكهَا حَتَّى تَطْهُر ثُمَّ تَحِيض ثُمَّ تَطْهُر فَتِلْكَ الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ اللَّه أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَهُوَ نَصّ فِي أَنَّ زَمَن الطُّهْر هُوَ الَّذِي يُسَمَّى عِدَّة , وَهُوَ الَّذِي تُطَلَّق فِيهِ النِّسَاء . وَلَا خِلَاف أَنَّ مَنْ طَلَّقَ فِي حَال الْحَيْض لَمْ تَعْتَدّ بِذَلِكَ الْحَيْض , وَمَنْ طَلَّقَ فِي حَال الطُّهْر فَإِنَّهَا تَعْتَدّ عِنْد الْجُمْهُور بِذَلِكَ الطُّهْر , فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى . قَالَ أَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن : مَا أَدْرَكْنَا أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِنَا إِلَّا يَقُول بِقَوْلِ عَائِشَة فِي ( أَنَّ الْأَقْرَاء هِيَ الْأَطْهَار ) . فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُل فِي طُهْر لَمْ يَطَأ فِيهِ اِعْتَدَّتْ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَلَوْ سَاعَة وَلَوْ لَحْظَة , ثُمَّ اِسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثَانِيًا بَعْد حَيْضَة , ثُمَّ ثَالِثًا بَعْد حَيْضَة ثَانِيَة , فَإِذَا رَأَتْ الدَّم مِنْ الْحَيْضَة الثَّالِثَة حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَخَرَجَتْ مِنْ الْعِدَّة . فَإِنْ طَلَّقَ مُطَلِّق فِي طُهْر قَدْ مَسَّ فِيهِ لَزِمَهُ الطَّلَاق وَقَدْ أَسَاءَ , وَاعْتَدَّتْ بِمَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ الطُّهْر . وَقَالَ الزُّهْرِيّ فِي اِمْرَأَة طُلِّقَتْ فِي بَعْض طُهْرهَا : إِنَّهَا تَعْتَدّ بِثَلَاثَةِ أَطْهَار سِوَى بَقِيَّة ذَلِكَ الطُّهْر . قَالَ أَبُو عُمَر : لَا أَعْلَم أَحَدًا مِمَّنْ قَالَ : الْأَقْرَاء الْأَطْهَار يَقُول هَذَا غَيْر اِبْن شِهَاب الزُّهْرِيّ , فَإِنَّهُ قَالَ : تُلْغِي الطُّهْر الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ ثُمَّ تَعْتَدّ بِثَلَاثَةِ أَطْهَار ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول " ثَلَاثَة قُرُوء " .
قُلْت : فَعَلَى قَوْله لَا تَحِلّ الْمُطَلَّقَة حَتَّى تَدْخُل فِي الْحَيْضَة الرَّابِعَة , وَقَوْل اِبْن الْقَاسِم وَمَالِك وَجُمْهُور أَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَعُلَمَاء الْمَدِينَة : إِنَّ الْمُطَلَّقَة إِذَا رَأَتْ أَوَّل نُقْطَة مِنْ الْحَيْضَة الثَّالِثَة خَرَجَتْ مِنْ الْعِصْمَة , وَهُوَ مَذْهَب زَيْد بْن ثَابِت وَعَائِشَة وَابْن عُمَر , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُد بْن عَلِيّ وَأَصْحَابه . وَالْحُجَّة عَلَى الزُّهْرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي طَلَاق الطَّاهِر مِنْ غَيْر جِمَاع , وَلَمْ يَقُلْ أَوَّل الطُّهْر وَلَا آخِره . وَقَالَ أَشْهَب : لَا تَنْقَطِع الْعِصْمَة وَالْمِيرَاث حَتَّى يَتَحَقَّق أَنَّهُ دَم حَيْض , لِئَلَّا تَكُون دُفْعَة دَم مِنْ غَيْر الْحَيْض . اِحْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِفَاطِمَة بِنْت أَبِي حُبَيْش حِين شَكَتْ إِلَيْهِ الدَّم : ( إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْق فَانْظُرِي فَإِذَا أَتَى قُرْؤُك فَلَا تُصَلِّي وَإِذَا مَرَّ الْقُرْء فَتَطَهَّرِي ثُمَّ صَلِّي مِنْ الْقُرْء إِلَى الْقُرْء ) . وَقَالَ تَعَالَى : " وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيض مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتهنَّ ثَلَاثَة أَشْهُر " [ الطَّلَاق : 4 ] . فَجَعَلَ الْمَيْئُوس مِنْهُ الْمَحِيض , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْعِدَّة , وَجَعَلَ الْعِوَض مِنْهُ هُوَ الْأَشْهُر إِذَا كَانَ مَعْدُومًا . وَقَالَ عُمَر بِحَضْرَةِ الصَّحَابَة : ( عِدَّة الْأَمَة حَيْضَتَانِ , نِصْف عِدَّة الْحُرَّة , وَلَوْ قَدَرْت عَلَى أَنْ أَجْعَلهَا حَيْضَة وَنِصْفًا لَفَعَلْت ) , وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ أَحَد . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاع مِنْهُمْ , وَهُوَ قَوْل عَشَرَة مِنْ الصَّحَابَة مِنْهُمْ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة , وَحَسْبك مَا قَالُوا ! وَقَوْله تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَرَبَّصْنَ ثَلَاثَة أَقْرَاء , يُرِيد كَوَامِل , هَذَا لَا يُمْكِن أَنْ يَكُون إِلَّا عَلَى قَوْلنَا بِأَنَّ الْأَقْرَاء الْحَيْض ; لِأَنَّ مَنْ يَقُول : إِنَّهُ الطُّهْر يَجُوز أَنْ تَعْتَدّ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْض آخَر ; لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ حَال الطُّهْر اِعْتَدَّتْ عِنْده بِبَقِيَّةِ ذَلِكَ الطُّهْر قُرْءًا . وَعِنْدنَا تَسْتَأْنِف مِنْ أَوَّل الْحَيْض حَتَّى يَصْدُق الِاسْم , فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُل الْمَرْأَة فِي طُهْر لَمْ يَطَأ فِيهِ اِسْتَقْبَلَتْ حَيْضَة ثُمَّ حَيْضَة ثُمَّ حَيْضَة , فَإِذَا اِغْتَسَلَتْ مِنْ الثَّالِثَة خَرَجَتْ مِنْ الْعِدَّة . قُلْت : هَذَا يَرُدّهُ قَوْله تَعَالَى : " سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَة أَيَّام " [ الْحَاقَّة : 7 ] فَأَثْبَتَ الْهَاء فِي " ثَمَانِيَة أَيَّام " , لِأَنَّ الْيَوْم مُذَكَّر وَكَذَلِكَ الْقُرْء , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَاد . وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَة عَلَى أَنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ حَائِضًا أَنَّهَا لَا تَعْتَدّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طُلِّقَتْ فِيهَا وَلَا بِالطُّهْرِ الَّذِي بَعْدهَا , وَإِنَّمَا تَعْتَدّ بِالْحَيْضِ الَّذِي بَعْد الطُّهْر . وَعِنْدنَا تَعْتَدّ بِالطُّهْرِ , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ . وَقَدْ اِسْتَجَازَ أَهْل اللُّغَة أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ الْبَعْض بِاسْمِ الْجَمِيع , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " الْحَجّ أَشْهُر مَعْلُومَات " [ الْبَقَرَة : 197 ] وَالْمُرَاد بِهِ شَهْرَانِ وَبَعْض الثَّالِث , فَكَذَلِكَ قَوْله : " ثَلَاثَة قُرُوء " . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ بَعْض مَنْ يَقُول بِالْحَيْضِ : إِذَا طَهُرَتْ مِنْ الثَّالِثَة اِنْقَضَتْ الْعِدَّة بَعْد الْغُسْل وَبَطَلَتْ الرَّجْعَة , قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر وَطَاوُس وَابْن شُبْرُمَة وَالْأَوْزَاعِيّ . وَقَالَ شَرِيك : إِذَا فَرَّطَتْ الْمَرْأَة فِي الْغُسْل عِشْرِينَ سَنَة فَلِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَة مَا لَمْ تَغْتَسِل . وَرُوِيَ عَنْ إِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا طَعَنَتْ الْمَرْأَة فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة بَانَتْ وَانْقَطَعَتْ رَجْعَة الزَّوْج . إِلَّا أَنَّهَا لَا يَحِلّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّج حَتَّى تَغْتَسِل مِنْ حَيْضَتهَا ) . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَهُوَ قَوْل ضَعِيف بِدَلِيلِ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلهنَّ فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسهنَّ " [ الْبَقَرَة : 234 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيّ مِنْ أَنَّ نَفْس الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر إِلَى الْحَيْضَة يُسَمَّى قُرْءًا فَفَائِدَته تَقْصِير الْعِدَّة عَلَى الْمَرْأَة , وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الْمَرْأَة فِي آخِر سَاعَة مِنْ طُهْرهَا فَدَخَلَتْ فِي الْحَيْضَة عَدَّتْهُ قُرْءًا , وَبِنَفْسِ الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر الثَّالِث اِنْقَطَعَتْ الْعِصْمَة وَحَلَّتْ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الْخَامِسَة : وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ عِدَّة الْأَمَة الَّتِي تَحِيض مِنْ طَلَاق زَوْجهَا حَيْضَتَانِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَرَى عِدَّة الْأَمَة إِلَّا كَعِدَّةِ الْحُرَّة , إِلَّا أَنْ تَكُون مَضَتْ فِي ذَلِكَ سَنَة : فَإِنَّ السَّنَة أَحَقّ أَنْ تُتَّبَع . وَقَالَ الْأَصَمّ عَبْد الرَّحْمَن بْن كَيْسَان وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة أَهْل الظَّاهِر : إِنَّ الْآيَات فِي عِدَّة الطَّلَاق وَالْوَفَاة بِالْأَشْهُرِ وَالْأَقْرَاء عَامَّة فِي حَقّ الْأَمَة وَالْحُرَّة , فَعِدَّة الْحُرَّة وَالْأَمَة سَوَاء . وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( طَلَاق الْأَمَة تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتهَا حَيْضَتَانِ ) . رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء عَنْ مُظَاهِر بْن أَسْلَم عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( طَلَاق الْأَمَة تَطْلِيقَتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ ) فَأَضَافَ إِلَيْهَا الطَّلَاق وَالْعِدَّة جَمِيعًا , إِلَّا أَنَّ مُظَاهِر بْن أَسْلَم اِنْفَرَدَ بِهَذَا الْحَدِيث وَهُوَ ضَعِيف . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر : أَيّهمَا رَقَّ نَقَصَ طَلَاقه , وَقَالَتْ بِهِ فِرْقَة مِنْ الْعُلَمَاء .
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى " وَلَا يَحِلّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّه فِي أَرْحَامهنَّ " أَيْ مِنْ الْحَيْض , قَالَهُ عِكْرِمَة وَالزُّهْرِيّ وَالنَّخَعِيّ . وَقِيلَ : الْحَمْل , قَالَهُ عُمَر وَابْن عَبَّاس . وَقَالَ مُجَاهِد : الْحَيْض وَالْحَمْل مَعًا , وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْحَامِل تَحِيض . وَالْمَعْنَى الْمَقْصُود مِنْ الْآيَة أَنَّهُ لَمَّا دَارَ أَمْر الْعِدَّة عَلَى الْحَيْض وَالْأَطْهَار وَلَا اِطِّلَاع إِلَّا مِنْ جِهَة النِّسَاء جُعِلَ الْقَوْل قَوْلهَا إِذَا اِدَّعَتْ اِنْقِضَاء الْعِدَّة أَوْ عَدَمهَا , وَجَعَلَهُنَّ مُؤْتَمَنَات عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَحِلّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّه فِي أَرْحَامهنَّ " . وَقَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار : وَلَمْ نُؤْمَر أَنْ نَفْتَح النِّسَاء فَنَنْظُر إِلَى فُرُوجهنَّ , وَلَكِنْ وُكِّلَ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ إِذْ كُنَّ مُؤْتَمَنَات . وَمَعْنَى النَّهْي عَنْ الْكِتْمَان النَّهْي عَنْ الْإِضْرَار بِالزَّوْجِ وَإِذْهَاب حَقّه , فَإِذَا قَالَتْ الْمُطَلَّقَة : حِضْت , وَهِيَ لَمْ تَحِضْ , ذَهَبَتْ بِحَقِّهِ مِنْ الِارْتِجَاع , وَإِذَا قَالَتْ : لَمْ أَحِضْ , وَهِيَ قَدْ حَاضَتْ , أَلْزَمَتْهُ مِنْ النَّفَقَة مَا لَمْ يَلْزَمهُ فَأَضَرَّتْ بِهِ , أَوْ تَقْصِد بِكَذِبِهَا فِي نَفْي الْحَيْض أَلَّا تَرْتَجِع حَتَّى تَنْقَضِي الْعِدَّة وَيَقْطَع الشَّرْع حَقّه , وَكَذَلِكَ الْحَامِل تَكْتُم الْحَمْل , لِتَقْطَع حَقّه مِنْ الِارْتِجَاع . قَالَ قَتَادَة : كَانَتْ عَادَتهنَّ فِي الْجَاهِلِيَّة أَنْ يَكْتُمْنَ الْحَمْل لِيُلْحِقْنَ الْوَلَد بِالزَّوْجِ الْجَدِيد , فَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَة . وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَشْجَع أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي طَلَّقْت اِمْرَأَتِي وَهِيَ حُبْلَى , وَلَسْت آمَن أَنْ تَتَزَوَّج فَيَصِير وَلَدِي لِغَيْرِي فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة , وَرُدَّتْ اِمْرَأَة الْأَشْجَعِيّ عَلَيْهِ .
الثَّانِيَة : قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَالَ كُلّ مَنْ حَفِظْت عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم : إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَة فِي عَشَرَة أَيَّام : قَدْ حِضْت ثَلَاث حِيَض وَانْقَضَتْ عِدَّتِي إِنَّهَا لَا تُصَدَّق وَلَا يُقْبَل ذَلِكَ مِنْهَا , إِلَّا أَنْ تَقُول : قَدْ أَسْقَطْت سِقْطًا قَدْ اِسْتَبَانَ خَلْقه . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّة الَّتِي تُصَدَّق فِيهَا الْمَرْأَة , فَقَالَ مَالِك : إِذَا قَالَتْ اِنْقَضَتْ عِدَّتِي فِي أَمَد تَنْقَضِي فِي مِثْله الْعِدَّة قُبِلَ قَوْلهَا , فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّة فِي مُدَّة تَقَع نَادِرًا فَقَوْلَانِ . قَالَ فِي الْمُدَوَّنَة : إِذَا قَالَتْ حِضْت ثَلَاث حِيَض فِي شَهْر صُدِّقَتْ إِذَا صَدَّقَهَا النِّسَاء , وَبِهِ قَالَ شُرَيْح , وَقَالَ لَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : قَالُون ! أَيْ أَصَبْت وَأَحْسَنْت . وَقَالَ فِي كِتَاب مُحَمَّد : لَا تُصَدَّق إِلَّا فِي شَهْر وَنِصْف . وَنَحْوه قَوْل أَبِي ثَوْر , قَالَ أَبُو ثَوْر : أَقَلّ مَا يَكُون ذَلِكَ فِي سَبْعَة وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا , وَذَلِكَ أَنَّ أَقَلّ الطُّهْر خَمْسَة عَشَر يَوْمًا , وَأَقَلّ الْحَيْض يَوْم . وَقَالَ النُّعْمَان : لَا تُصَدَّق فِي أَقَلّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا , وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيّ
هَذَا وَعِيد عَظِيم شَدِيد لِتَأْكِيدِ تَحْرِيم الْكِتْمَان , وَإِيجَاب لِأَدَاءِ الْأَمَانَة فِي الْإِخْبَار عَنْ الرَّحِم بِحَقِيقَةِ مَا فِيهِ . أَيْ فَسَبِيل الْمُؤْمِنَات أَلَّا يَكْتُمْنَ الْحَقّ , وَلَيْسَ قَوْله : " إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ " عَلَى أَنَّهُ أُبِيحَ لِمَنْ لَا يُؤْمِن أَنْ يَكْتُم ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلّ لِمَنْ لَا يُؤْمِن , وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِك : إِنْ كُنْت أَخِي فَلَا تَظْلِمنِي , أَيْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْجِزك الْإِيمَان عَنْهُ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ فِعْل أَهْل الْإِيمَان .
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَة مَسْأَلَة : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَبُعُولَتهنَّ " الْبُعُولَةُ جَمْع الْبَعْل , وَهُوَ الزَّوْج , سُمِّيَ بَعْلًا لِعُلُوِّهِ عَلَى الزَّوْجَة بِمَا قَدْ مَلَكَهُ مِنْ زَوْجِيَّتهَا , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " أَتَدْعُونَ بَعْلًا " [ الصَّافَّات : 125 ] أَيْ رَبًّا , لِعُلُوِّهِ فِي الرُّبُوبِيَّة , يُقَال : بَعْل وَبُعُولَة , كَمَا يُقَال فِي جَمْع الذَّكَر : ذَكَر وَذُكُورَة , وَفِي جَمْع الْفَحْل : فَحْل وَفُحُولَة , وَهَذِهِ الْهَاء زَائِدَة مُؤَكِّدَة لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَة , وَهُوَ شَاذّ لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ , وَيُعْتَبَر فِيهَا السَّمَاع , فَلَا يُقَال فِي لَعْب : لُعُوبَة . وَقِيلَ : هِيَ هَاء تَأْنِيث دَخَلَتْ عَلَى فُعُول . وَالْبُعُولَة أَيْضًا مَصْدَر الْبَعْل . وَبَعَلَ الرَّجُل يَبْعَل ( مِثْل مَنَعَ يَمْنَع ) بُعُولَة , أَيْ صَارَ بَعْلًا : وَالْمُبَاعَلَة وَالْبِعَال : الْجِمَاع , وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِأَيَّامِ التَّشْرِيق : ( إِنَّهَا أَيَّام أَكْل وَشُرْب وَبِعَالٍ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ . فَالرَّجُل بَعْل الْمَرْأَة , وَالْمَرْأَة بَعْلَته . وَبَاعَلَ مُبَاعَلَة إِذَا بَاشَرَهَا . وَفُلَان بَعْل هَذَا , أَيْ مَالِكه وَرَبّه . وَلَهُ مَحَامِل كَثِيرَة تَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " أَحَقّ بِرَدِّهِنَّ " أَيْ بِمُرَاجَعَتِهِنَّ , فَالْمُرَاجَعَة عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُرَاجَعَة فِي الْعِدَّة عَلَى حَدِيث اِبْن عُمَر . وَمُرَاجَعَة بَعْد الْعِدَّة عَلَى حَدِيث مَعْقِل , وَإِذَا كَانَ هَذَا فَيَكُون فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى تَخْصِيص مَا شَمِلَهُ الْعُمُوم فِي الْمُسَمَّيَات ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " عَامّ فِي الْمُطَلَّقَات ثَلَاثًا , وَفِيمَا دُونهَا لَا خِلَاف فِيهِ . ثُمَّ قَوْله : " وَبُعُولَتهنَّ أَحَقّ " حُكْم خَاصّ فِيمَنْ كَانَ طَلَاقهَا دُون الثَّلَاث . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْحُرّ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَته الْحُرَّة , وَكَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا تَطْلِيقَة أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ , أَنَّهُ أَحَقّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتهَا وَإِنْ كَرِهَتْ الْمَرْأَة , فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعهَا الْمُطَلِّق حَتَّى اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا فَهِيَ أَحَقّ بِنَفْسِهَا وَتَصِير أَجْنَبِيَّة مِنْهُ , لَا تَحِلّ لَهُ إِلَّا بِخِطْبَةٍ وَنِكَاح مُسْتَأْنَف بِوَلِيٍّ وَإِشْهَاد , لَيْسَ عَلَى سُنَّة الْمُرَاجَعَة , وَهَذَا إِجْمَاع مِنْ الْعُلَمَاء . قَالَ الْمُهَلَّب : وَكُلّ مَنْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّة فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمهُ شَيْء مِنْ أَحْكَام النِّكَاح غَيْر الْإِشْهَاد عَلَى الْمُرَاجَعَة فَقَطْ , وَهَذَا إِجْمَاع مِنْ الْعُلَمَاء , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلهنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ " [ الطَّلَاق : 2 ] فَذَكَرَ الْإِشْهَاد فِي الرَّجْعَة وَلَمْ يَذْكُرهُ فِي النِّكَاح وَلَا فِي الطَّلَاق . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كِتَاب اللَّه مَعَ إِجْمَاع أَهْل الْعِلْم كِفَايَة عَنْ ذِكْر مَا رُوِيَ عَنْ الْأَوَائِل فِي هَذَا الْبَاب ,
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُون بِهِ الرَّجُل مُرَاجِعًا فِي الْعِدَّة , فَقَالَ مَالِك : إِذَا وَطِئَهَا فِي الْعِدَّة وَهُوَ يُرِيد الرَّجْعَة وَجَهِلَ أَنْ يُشْهِد فَهِيَ رَجْعَة . وَيَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعهُ الْوَطْء حَتَّى يُشْهِد , وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوَى ) . فَإِنْ وَطِئَ فِي الْعِدَّة لَا يَنْوِي الرَّجْعَة فَقَالَ مَالِك : يُرَاجِع فِي الْعِدَّة وَلَا يَطَأ حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِد . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : فَإِنْ اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا لَمْ يَنْكِحهَا هُوَ وَلَا غَيْره فِي بَقِيَّة مُدَّة الِاسْتِبْرَاء , فَإِنْ فَعَلَ فُسِخَ نِكَاحه , وَلَا يَتَأَبَّد تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَاء مَاؤُهُ . وَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا جَامَعَهَا فَقَدْ رَاجَعَهَا , وَهَكَذَا قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب . وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَابْن سِيرِينَ وَالزُّهْرِيّ وَعَطَاء وَطَاوُس وَالثَّوْرِيّ . قَالَ : وَيُشْهِد , وَبِهِ قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى , حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَقَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ قِيلَ : وَطْؤُهُ مُرَاجَعَة عَلَى كُلّ حَال , نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا , وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ طَائِفَة مِنْ أَصْحَاب مَالِك , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ اللَّيْث . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيمَنْ بَاعَ جَارِيَته بِالْخِيَارِ أَنَّ لَهُ وَطْأَهَا فِي مُدَّة الْخِيَار , وَأَنَّهُ قَدْ اِرْتَجَعَهَا بِذَلِكَ إِلَى مِلْكه وَاخْتَارَ نَقْض الْبَيْع بِفِعْلِهِ ذَلِكَ . وَلِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّة حُكْم مِنْ هَذَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
الرَّابِعَة : مَنْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ يَنْوِي بِذَلِكَ الرَّجْعَة كَانَتْ رَجْعَة , وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِالْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَة الرَّجْعَة كَانَ آثِمًا وَلَيْسَ بِمُرَاجِعٍ . وَالسُّنَّة أَنْ يُشْهِد قَبْل أَنْ يَطَأ أَوْ قَبْل أَنْ يُقَبِّل أَوْ يُبَاشِر . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : إِنْ وَطِئَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إِلَى فَرْجهَا بِشَهْوَةٍ فَهِيَ رَجْعَة , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِد . وَفِي قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأَبِي عُبَيْد وَأَبِي ثَوْر لَا يَكُون رَجْعَة , قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَفِي " الْمُنْتَقَى " قَالَ : وَلَا خِلَاف فِي صِحَّة الِارْتِجَاع بِالْقَوْلِ , فَأَمَّا بِالْفِعْلِ نَحْو الْجِمَاع وَالْقُبْلَة فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد : يَصِحّ بِهَا وَبِسَائِرِ الِاسْتِمْتَاع لِلَّذَّةِ . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَمِثْل الْجَسَّة لِلَّذَّةِ , أَوْ أَنْ يَنْظُر إِلَى فَرْجهَا أَوْ مَا قَارَبَ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنهَا إِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ الرَّجْعَة , خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْله : لَا تَصِحّ الرَّجْعَة إِلَّا بِالْقَوْلِ , وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ أَبِي ثَوْر وَجَابِر بْن زَيْد وَأَبِي قِلَابَة .
الْخَامِسَة : قَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ جَامَعَهَا يَنْوِي الرَّجْعَة , أَوْ لَا يَنْوِيهَا فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ , وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْر مِثْلهَا . وَقَالَ مَالِك : لَا شَيْء لَهَا ; لِأَنَّهُ لَوْ اِرْتَجَعَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَهْر , فَلَا يَكُون الْوَطْء دُون الرَّجْعَة أَوْلَى بِالْمَهْرِ مِنْ الرَّجْعَة . وَقَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا أَعْلَم أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَهْر الْمِثْل غَيْر الشَّافِعِيّ , وَلَيْسَ قَوْله بِالْقَوِيِّ , لِأَنَّهَا فِي حُكْم الزَّوْجَات وَتَرِثهُ وَيَرِثهَا , فَكَيْف يَجِب مَهْر الْمِثْل فِي وَطْء اِمْرَأَة حُكْمهَا فِي أَكْثَر أَحْكَامهَا حُكْم الزَّوْجَة ! إِلَّا أَنَّ الشُّبْهَة فِي قَوْل الشَّافِعِيّ قَوِيَّة ; لِأَنَّهَا عَلَيْهِ مُحَرَّمَة إِلَّا بِرَجْعَةٍ لَهَا . وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَةٍ يَجِب لَهَا الْمَهْر , وَحَسْبك بِهَذَا !
السَّادِسَة : وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَافِر بِهَا قَبْل أَنْ يَرْتَجِعهَا , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : لَا يُسَافِر بِهَا حَتَّى يُرَاجِعهَا , وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه إِلَّا زُفَر فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ الْحَسَن بْن زِيَاد أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِر بِهَا قَبْل الرَّجْعَة , وَرَوَى عَنْهُ عَمْرو بْن خَالِد , لَا يُسَافِر بِهَا حَتَّى يُرَاجِع .
السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا وَيَرَى شَيْئًا مِنْ مَحَاسِنهَا , وَهَلْ تَتَزَيَّن لَهُ وَتَتَشَرَّف , فَقَالَ مَالِك : لَا يَخْلُو مَعَهَا , وَلَا يَدْخُل عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ , وَلَا يَنْظُر إِلَيْهَا إِلَّا وَعَلَيْهَا ثِيَابهَا , وَلَا يَنْظُر إِلَى شَعْرهَا , وَلَا بَأْس أَنْ يَأْكُل مَعَهَا إِذَا كَانَ مَعَهُمَا غَيْرهمَا , وَلَا يَبِيت مَعَهَا فِي بَيْت وَيَنْتَقِل عَنْهَا . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : رَجَعَ مَالِك عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يَدْخُل عَلَيْهَا وَلَا يَرَى شَعْرهَا . وَلَمْ يَخْتَلِف أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه فِي أَنَّهَا تَتَزَيَّن لَهُ وَتَتَطَيَّب وَتَلْبَس الْحُلِيّ وَتَتَشَرَّف . وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل اِمْرَأَته تَطْلِيقَة فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِن عَلَيْهَا , وَتَلْبَس مَا شَاءَتْ مِنْ الثِّيَاب وَالْحُلِيّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا إِلَّا بَيْت وَاحِد فَلْيَجْعَلَا بَيْنهمَا سِتْرًا , وَيُسَلِّم إِذَا دَخَلَ , وَنَحْوه عَنْ قَتَادَة , وَيُشْعِرهَا إِذَا دَخَلَ بِالتَّنَخُّمِ وَالتَّنَحْنُح . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الْمُطَلَّقَة طَلَاقًا يَمْلِك رَجْعَتهَا مُحَرَّمَة عَلَى مُطَلِّقهَا تَحْرِيم الْمَبْتُوتَة حَتَّى يُرَاجِع , وَلَا يُرَاجِع إِلَّا بِالْكَلَامِ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
الثَّامِنَة : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُطَلِّق إِذَا قَالَ بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة : إِنِّي كُنْت رَاجَعْتُك فِي الْعِدَّة وَأَنْكَرَتْ أَنَّ الْقَوْل قَوْلهَا مَعَ يَمِينهَا , وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهَا , غَيْر أَنَّ النُّعْمَان كَانَ لَا يَرَى يَمِينًا فِي النِّكَاح وَلَا فِي الرَّجْمَة , وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا كَقَوْلِ سَائِر أَهْل الْعِلْم . وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ الزَّوْجَة أَمَة وَاخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَة , وَالزَّوْج يَدَّعِي الرَّجْعَة فِي الْعِدَّة بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْل قَوْل الزَّوْجَة الْأَمَة وَإِنْ كَذَّبَهَا مَوْلَاهَا , هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَالنُّعْمَان . وَقَالَ يَعْقُوب وَمُحَمَّد : الْقَوْل قَوْل الْمَوْلَى وَهُوَ أَحَقّ بِهَا .
التَّاسِعَة : لَفْظ الرَّدّ يَقْتَضِي زَوَال الْعِصْمَة , إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إِنَّ الرَّجْعِيَّة مُحَرَّمَة الْوَطْء , فَيَكُون الرَّدّ عَائِدًا إِلَى الْحِلّ . وَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد وَأَبُو حَنِيفَة وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا - فِي أَنَّ الرَّجْعَة مُحَلِّلَة الْوَطْء : إِنَّ الطَّلَاق فَائِدَته تَنْقِيص الْعَدَد الَّذِي جُعِلَ لَهُ خَاصَّة , وَإِنَّ أَحْكَام الزَّوْجِيَّة بَاقِيَة لَمْ يَنْحَلّ مِنْهَا شَيْء - قَالُوا : وَأَحْكَام الزَّوْجِيَّة وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَة فَالْمَرْأَة مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّة سَائِرَة فِي سَبِيل الزَّوَال بِانْقِضَاءِ الْعِدَّة , فَالرَّجْعَة رَدّ عَنْ هَذِهِ السَّبِيل الَّتِي أَخَذَتْ الْمَرْأَة فِي سُلُوكهَا , وَهَذَا رَدّ مَجَازِيّ , وَالرَّدّ الَّذِي حَكَمْنَا بِهِ رَدّ حَقِيقِيّ , فَإِنَّ هُنَاكَ زَوَال مُسْتَنْجِز وَهُوَ تَحْرِيم الْوَطْء , فَوَقَعَ الرَّدّ عَنْهُ حَقِيقَة , وَاَللَّه أَعْلَم .
الْعَاشِرَة : لَفْظ " أَحَقّ " يُطْلَق عِنْد تَعَارُض حَقَّيْنِ , وَيَتَرَجَّح أَحَدهمَا , فَالْمَعْنَى حَقّ الزَّوْج فِي مُدَّة التَّرَبُّص أَحَقّ مِنْ حَقّهَا بِنَفْسِهَا , فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَمْلِك نَفْسهَا بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة , وَمِثْل هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْأَيِّم أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْحَادِيَة عَشْرَة : الرَّجُل مَنْدُوب إِلَى الْمُرَاجَعَة , وَلَكِنْ إِذَا قَصَدَ الْإِصْلَاح بِإِصْلَاحِ حَاله مَعَهَا , وَإِزَالَة الْوَحْشَة بَيْنهمَا , فَأَمَّا إِذَا قَصَدَ الْإِضْرَار وَتَطْوِيل الْعِدَّة وَالْقَطْع بِهَا عَنْ الْخَلَاص مِنْ رِبْقَة النِّكَاح فَمُحَرَّم , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا " [ الْبَقَرَة : 231 ] ثُمَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالرَّجْعَة صَحِيحَة , وَإِنْ اِرْتَكَبَ النَّهْي وَظَلَمَ نَفْسه , وَلَوْ عَلِمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ الْمَقْصِد طَلَّقْنَا عَلَيْهِ .
قَوْله تَعَالَى : " وَلَهُنَّ " أَيْ لَهُنَّ مِنْ حُقُوق الزَّوْجِيَّة عَلَى الرِّجَال مِثْل مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ , وَلِهَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنِّي لَأَتَزَيَّن لِامْرَأَتِي كَمَا تَتَزَيَّن لِي , وَمَا أُحِبّ أَنْ أَسْتَنْظِف كُلّ حَقِّي الَّذِي لِي عَلَيْهَا فَتَسْتَوْجِب حَقّهَا الَّذِي لَهَا عَلَيَّ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ " أَيْ زِينَة مِنْ غَيْر مَأْثَم . وَعَنْهُ أَيْضًا : أَيْ لَهُنَّ مِنْ حُسْن الصُّحْبَة وَالْعِشْرَة بِالْمَعْرُوفِ عَلَى أَزْوَاجهنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ مِنْ الطَّاعَة فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ . وَقِيلَ : إِنَّ لَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجهنَّ تَرْك مُضَارَّتهنَّ كَمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ . قَالَهُ الطَّبَرِيّ : وَقَالَ اِبْن زَيْد : تَتَّقُونَ اللَّه فِيهِنَّ كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيكُمْ , وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَالْآيَة تَعُمّ جَمِيع ذَلِكَ مِنْ حُقُوق الزَّوْجِيَّة . قَوْل اِبْن عَبَّاس : ( إِنِّي لَأَتَزَيَّن لِامْرَأَتِي ) . قَالَ الْعُلَمَاء : أَمَّا زِينَة الرِّجَال فَعَلَى تَفَاوُت أَحْوَالهمْ , فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ عَلَى اللَّبَق وَالْوِفَاق , فَرُبَّمَا كَانَتْ زِينَة تَلِيق فِي وَقْت وَلَا تَلِيق فِي وَقْت , وَزِينَة تَلِيق بِالشَّبَابِ , وَزِينَة تَلِيق بِالشُّيُوخِ وَلَا تَلِيق بِالشَّبَابِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخ وَالْكَهْل إِذَا حَفَّ شَارِبه لِيقَ بِهِ ذَلِكَ وَزَانَهُ , وَالشَّابّ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَمُجَ وَمُقِتَ . لِأَنَّ اللِّحْيَة لَمْ تُوفِر بَعْدُ , فَإِذَا حَفَّ شَارِبه فِي أَوَّل مَا خَرَجَ وَجْهه سَمُج , وَإِذَا وَفَرَتْ لِحْيَته وَحُفَّ شَارِبه زَانَهُ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُعْفِي لِحْيَتِي وَأُحْفِي شَارِبِي ) . وَكَذَلِكَ فِي شَأْن الْكِسْوَة , فَفِي هَذَا كُلّه اِبْتِغَاء الْحُقُوق , فَإِنَّمَا يُعْمَل عَلَى اللَّبَق وَالْوِفَاق عِنْد اِمْرَأَته فِي زِينَة تَسُرّهَا وَيُعِفّهَا عَنْ غَيْره مِنْ الرِّجَال . وَكَذَلِكَ الْكُحْل مِنْ الرِّجَال مِنْهُمْ مَنْ يَلِيق بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلِيق بِهِ . فَأَمَّا الطَّيِّب وَالسِّوَاك وَالْخِلَال وَالرَّمْي بِالدَّرَنِ وَفُضُول الشَّعْر وَالتَّطْهِير وَقَلْم الْأَظْفَار فَهُوَ بَيِّن مُوَافِق لِلْجَمِيعِ . وَالْخِضَاب لِلشُّيُوخِ وَالْخَاتَم لِلْجَمِيعِ مِنْ الشَّبَاب وَالشُّيُوخ زِينَة , وَهُوَ حُلِيّ الرِّجَال عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " النَّحْل " . ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَخَّى أَوْقَات حَاجَتهَا إِلَى الرَّجُل فَيُعِفّهَا وَيُغْنِيهَا عَنْ التَّطَلُّع إِلَى غَيْره . وَإِنْ رَأَى الرَّجُل مِنْ نَفْسه عَجْزًا عَنْ إِقَامَة حَقّهَا فِي مَضْجَعهَا أَخَذَ مِنْ الْأَدْوِيَة الَّتِي تَزِيد فِي بَاهه وَتُقَوِّي شَهْوَته حَتَّى يُعِفّهَا .
أَيْ مَنْزِلَة . وَمَدْرَجَة الطَّرِيق : قَارِعَته , وَالْأَصْل فِيهِ الطَّيّ , يُقَال : دَرَجُوا , أَيْ طَوَوْا عُمْرهمْ , وَمِنْهَا الدَّرَجَة الَّتِي يُرْتَقَى عَلَيْهَا . وَيُقَال : رَجُل بَيِّن الرِّجْلَة , أَيْ الْقُوَّة . وَهُوَ أَرْجَل الرَّجُلَيْنِ , أَيْ أَقْوَاهُمَا . وَفَرَس رَجِيل , أَيْ قَوِيّ , وَمِنْهُ الرِّجْل , لِقُوَّتِهَا عَلَى الْمَشْي . فَزِيَادَة دَرَجَة الرَّجُل بِعَقْلِهِ وَقُوَّته عَلَى الْإِنْفَاق وَبِالدِّيَةِ وَالْمِيرَاث وَالْجِهَاد . وَقَالَ حُمَيْد : الدَّرَجَة اللِّحْيَة , وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ ضَعِيف لَا يَقْتَضِيه لَفْظ الْآيَة وَلَا مَعْنَاهَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَطُوبَى لِعَبْدٍ أَمْسَكَ عَمَّا لَا يَعْلَم , وَخُصُوصًا فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى ! وَلَا يَخْفَى عَلَى لَبِيب فَضْل الرِّجَال عَلَى النِّسَاء , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَة خُلِقَتْ مِنْ الرَّجُل فَهُوَ أَصْلهَا , وَلَهُ أَنْ يَمْنَعهَا مِنْ التَّصَرُّف إِلَّا بِإِذْنِهِ , فَلَا تَصُوم إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَحُجّ إِلَّا مَعَهُ . وَقِيلَ : الدَّرَجَة الصَّدَاق , قَالَهُ الشَّعْبِيّ . وَقِيلَ : جَوَاز الْأَدَب . وَعَلَى الْجُمْلَة فَدَرَجَة تَقْتَضِي التَّفْضِيل , وَتُشْعِر بِأَنَّ حَقّ الزَّوْج عَلَيْهَا أَوْجَب مِنْ حَقّهَا عَلَيْهِ , وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَلَوْ أَمَرْت أَحَدًا بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّه لَأَمَرْت الْمَرْأَة أَنْ تَسْجُد لِزَوْجِهَا ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( الدَّرَجَة إِشَارَة إِلَى حَضّ الرِّجَال عَلَى حُسْن الْعِشْرَة , وَالتَّوَسُّع لِلنِّسَاءِ فِي الْمَال وَالْخُلُق , أَيْ أَنَّ الْأَفْضَل يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَامَل عَلَى نَفْسه ) . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل حَسَن بَارِع . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : يُحْتَمَل أَنَّهَا فِي حُقُوق النِّكَاح , لَهُ رَفْع الْعَقْد دُونهَا , وَيَلْزَمهَا إِجَابَته إِلَى الْفِرَاش , وَلَا يَلْزَمهُ إِجَابَتهَا . قُلْت : وَمِنْ هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَيّمَا اِمْرَأَة دَعَاهَا زَوْجهَا إِلَى فِرَاشه فَأَبَتْ عَلَيْهِ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَة حَتَّى تُصْبِح ) .
أَيْ مَنِيع السُّلْطَان لَا مُعْتَرِض عَلَيْهِ .
أَيْ عَالِم مُصِيب فِيمَا يَفْعَل .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " يَتَرَبَّصْنَ " التَّرَبُّص الِانْتِظَار , عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَهَذَا خَبَر وَالْمُرَاد الْأَمْر , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادهنَّ " [ الْبَقَرَة : 233 ] وَجَمَعَ رَجُل عَلَيْهِ ثِيَابه , وَحَسْبك دِرْهَم , أَيْ اِكْتَفِ بِدِرْهَمٍ , هَذَا قَوْل أَهْل اللِّسَان مِنْ غَيْر خِلَاف بَيْنهمْ فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الشَّجَرِيّ . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا بَاطِل , وَإِنَّمَا هُوَ خَبَر عَنْ حُكْم الشَّرْع , فَإِنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَة لَا تَتَرَبَّص فَلَيْسَ مِنْ الشَّرْع , وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ وُقُوع خَبَر اللَّه تَعَالَى عَلَى خِلَاف مَخْبَره . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لِيَتَرَبَّصْنَ , فَحَذَفَ اللَّام .
الثَّالِثَة : قَرَأَ جُمْهُور النَّاس " قُرُوء " عَلَى وَزْن فُعُول , اللَّام هَمْزَة . وَيُرْوَى عَنْ نَافِع " قُرُوٍّ " بِكَسْرِ الْوَاو وَشَدّهَا مِنْ غَيْر هَمْز . وَقَرَأَ الْحَسَن " قَرْء " بِفَتْحِ الْقَاف وَسُكُون الرَّاء وَالتَّنْوِين . وَقُرُوء جَمْع أَقْرُؤ وَأَقْرَاء , وَالْوَاحِد قُرْءٌ بِضَمِّ الْقَاف , قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ . وَقَالَ أَبُو زَيْد : " قُرْء " بِفَتْحِ الْقَاف , وَكِلَاهُمَا قَالَ : أَقْرَأَتْ الْمَرْأَة إِذَا حَاضَتْ , فَهِيَ مُقْرِئ . وَأَقْرَأَتْ طَهُرَتْ . وَقَالَ الْأَخْفَش : أَقْرَأَتْ الْمَرْأَة إِذَا صَارَتْ صَاحِبَة حَيْض , فَإِذَا حَاضَتْ قُلْت : قَرَأَتْ , بِلَا أَلِف . يُقَال : أَقْرَأَتْ الْمَرْأَة حَيْضَة أَوْ حَيْضَتَيْنِ . وَالْقُرْء : اِنْقِطَاع الْحَيْض . وَقَالَ بَعْضهمْ : مَا بَيْن الْحَيْضَتَيْنِ وَأَقْرَأَتْ حَاجَتك : دَنَتْ , عَنْ الْجَوْهَرِيّ . وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : مِنْ الْعَرَب مَنْ يُسَمِّي الْحَيْض قُرْءًا , وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الطُّهْر قُرْءًا , وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعهُمَا جَمِيعًا , فَيُسَمِّي الطُّهْر مَعَ الْحَيْض قُرْءًا , ذَكَرَهُ النَّحَّاس .
الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَقْرَاء , فَقَالَ أَهْل الْكُوفَة : هِيَ الْحَيْض , وَهُوَ قَوْل عُمَر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَأَبِي مُوسَى وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَعِكْرِمَة وَالسُّدِّيّ . وَقَالَ أَهْل الْحِجَاز : هِيَ الْأَطْهَار , وَهُوَ قَوْل عَائِشَة وَابْن عُمَر وَزَيْد بْن ثَابِت وَالزُّهْرِيّ وَأَبَان بْن عُثْمَان وَالشَّافِعِيّ . فَمَنْ جَعَلَ الْقُرْء اِسْمًا لِلْحَيْضِ سَمَّاهُ بِذَلِكَ , لِاجْتِمَاعِ الدَّم فِي الرَّحِم , وَمَنْ جَعَلَهُ اِسْمًا لِلطُّهْرِ فَلِاجْتِمَاعِهِ فِي الْبَدَن , وَاَلَّذِي يُحَقِّق لَك هَذَا الْأَصْل فِي الْقُرْء الْوَقْت , يُقَال : هَبَّتْ الرِّيح لِقُرْئِهَا وَقَارِئُهَا أَيْ لِوَقْتِهَا , قَالَ الشَّاعِر : كَرِهْت الْعَقْر عَقْر بَنِي شَلِيل إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاح فَقِيلَ لِلْحَيْضِ : وَقْت , وَلِلطُّهْرِ وَقْت , لِأَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ لِوَقْتٍ مَعْلُوم , وَقَالَ الْأَعْشَى فِي الْأَطْهَار : أَفِي كُلّ عَام أَنْتَ جَاشِم غَزْوَة تَشُدّ لِأَقْصَاهَا عَزِيم عَزَائِكَا مُوَرِّثَة عِزًّا وَفِي الْحَيّ رِفْعَة لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوء نِسَائِكَا وَقَالَ آخَر فِي الْحَيْض : يَا رَبّ ذِي ضِغْن عَلَيَّ فَارِض لَهُ قُرُوء كَقُرُوءِ الْحَائِض يَعْنِي أَنَّهُ طَعَنَهُ فَكَانَ لَهُ دَم كَدَمِ الْحَائِض . وَقَالَ قَوْم : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ قُرْء الْمَاء فِي الْحَوْض . وَهُوَ جَمْعه , وَمِنْهُ الْقُرْآن لِاجْتِمَاعِ الْمَعَانِي . وَيُقَال لِاجْتِمَاعِ حُرُوفه , وَيُقَال : مَا قَرَأَتْ النَّاقَة سَلًى قَطُّ , أَيْ لَمْ تَجْمَع فِي جَوْفهَا , وَقَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : ذِرَاعَيْ عَيْطَل أَدْمَاء بِكْر هِجَان اللَّوْن لَمْ تَقْرَأ جَنِينَا فَكَأَنَّ الرَّحِم يَجْمَع الدَّم وَقْت الْحَيْض , وَالْجِسْم يَجْمَعهُ وَقْت الطُّهْر . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْقُرْء مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : قَرَيْت الْمَاء فِي الْحَوْض لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقُرْء مَهْمُوز وَهَذَا غَيْر مَهْمُوز . قُلْت : هَذَا صَحِيح بِنَقْلِ أَهْل اللُّغَة : الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره . وَاسْم ذَلِكَ الْمَاء قِرًى ( بِكَسْرِ الْقَاف مَقْصُور ) . وَقِيلَ : الْقُرْء , الْخُرُوج إِمَّا مِنْ طُهْر إِلَى حَيْض أَوْ مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر , وَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ فِي قَوْل : الْقُرْء الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر إِلَى الْحَيْض , وَلَا يَرَى الْخُرُوج مِنْ الْحَيْض إِلَى الطُّهْر قُرْءًا . وَكَانَ يَلْزَم بِحُكْمِ الِاشْتِقَاق أَنْ يَكُون قُرْءًا , وَيَكُون مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " . أَيْ ثَلَاثَة أَدْوَار أَوْ ثَلَاثَة اِنْتِقَالَات , وَالْمُطَلَّقَة مُتَّصِفَة بِحَالَتَيْنِ فَقَطْ , فَتَارَة تَنْتَقِل مِنْ طُهْر إِلَى حَيْض , وَتَارَة مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر فَيَسْتَقِيم مَعْنَى الْكَلَام , وَدَلَالَته عَلَى الطُّهْر وَالْحَيْض جَمِيعًا , فَيَصِير الِاسْم مُشْتَرَكًا . وَيُقَال : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْء الِانْتِقَال فَخُرُوجهَا مِنْ طُهْر إِلَى حَيْض غَيْر مُرَاد بِالْآيَةِ أَصْلًا , وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الطَّلَاق فِي الْحَيْض طَلَاقًا سُنِّيًّا مَأْمُورًا بِهِ , وَهُوَ الطَّلَاق لِلْعِدَّةِ , فَإِنَّ الطَّلَاق لِلْعِدَّةِ مَا كَانَ فِي الطُّهْر , وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى كَوْن الْقُرْء مَأْخُوذًا مِنْ الِانْتِقَال , فَإِذَا كَانَ الطَّلَاق فِي الطُّهْر سُنِّيًّا فَتَقْدِير الْكَلَام : فَعِدَّتهنَّ ثَلَاثَة اِنْتِقَالَات , فَأَوَّلهَا الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاق , وَاَلَّذِي هُوَ الِانْتِقَال مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر لَمْ يُجْعَل قُرْءًا ; لِأَنَّ اللُّغَة لَا تَدُلّ عَلَيْهِ , وَلَكِنْ عَرَفْنَا بِدَلِيلٍ آخَر , إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُرِدْ الِانْتِقَال مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر , فَإِذَا خَرَجَ أَحَدهمَا عَنْ أَنْ يَكُون مُرَادًا بَقِيَ الْآخَر وَهُوَ الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر إِلَى الْحَيْض مُرَادًا , فَعَلَى هَذَا عِدَّتهَا ثَلَاثَة اِنْتِقَالَات , أَوَّلهَا الطُّهْر , وَعَلَى هَذَا يُمْكِن اِسْتِيفَاء ثَلَاثَة أَقْرَاء كَامِلَة إِذَا كَانَ الطَّلَاق فِي حَالَة الطُّهْر , وَلَا يَكُون ذَلِكَ حَمْلًا عَلَى الْمَجَاز بِوَجْهٍ مَا . قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَهَذَا نَظَر دَقِيق فِي غَايَة الِاتِّجَاه لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ , وَيُمْكِن أَنْ نَذْكُر فِي ذَلِكَ سِرًّا لَا يَبْعُد فَهْمه مِنْ دَقَائِق حُكْم الشَّرِيعَة , وَهُوَ أَنَّ الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر إِلَى الْحَيْض إِنَّمَا جُعِلَ قُرْءًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى بَرَاءَة الرَّحِم , فَإِنَّ الْحَامِل لَا تَحِيض فِي الْغَالِب فَبِحَيْضِهَا عُلِمَ بَرَاءَة رَحِمهَا . وَالِانْتِقَال مِنْ حَيْض إِلَى طُهْر بِخِلَافِهِ , فَإِنَّ الْحَائِض يَجُوز أَنْ تَحْبَل فِي أَعْقَاب حَيْضهَا , وَإِذَا تَمَادَى أَمَد الْحَمْل وَقَوِيَ الْوَلَد اِنْقَطَعَ دَمهَا , وَلِذَلِكَ تَمْتَدِح الْعَرَب بِحَمْلِ نِسَائِهِمْ فِي حَالَة الطُّهْر , وَقَدْ مَدَحَتْ عَائِشَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ الشَّاعِر : وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلّ غُبَّر حَيْضَة وَفَسَاد مُرْضِعَة وَدَاء مُغْيَل يَعْنِي أَنَّ أُمّه لَمْ تَحْمِل بِهِ فِي بَقِيَّة حَيْضهَا . فَهَذَا مَا لِلْعُلَمَاءِ وَأَهْل اللِّسَان فِي تَأْوِيل الْقُرْء . وَقَالُوا : قَرَأَتْ الْمَرْأَة إِذَا حَاضَتْ أَوْ طَهُرَتْ . وَقَرَأَتْ أَيْضًا إِذَا حَمَلَتْ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْء الْوَقْت , فَإِذَا
قُلْت : وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة أَوْقَات , صَارَتْ الْآيَة مُفَسَّرَة فِي الْعَدَد مُحْتَمَلَة فِي الْمَعْدُود , فَوَجَبَ طَلَب الْبَيَان لِلْمَعْدُودِ مِنْ غَيْرهَا , فَدَلِيلنَا قَوْل اللَّه تَعَالَى : " فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ " [ الطَّلَاق : 1 ] وَلَا خِلَاف أَنَّهُ يُؤْمَر بِالطَّلَاقِ وَقْت الطُّهْر فَيَجِب أَنْ يَكُون هُوَ الْمُعْتَبَر فِي الْعِدَّة , فَإِنَّهُ قَالَ : " فَطَلِّقُوهُنَّ " يَعْنِي وَقْتًا تَعْتَدّ بِهِ , ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : " وَأَحْصُوا الْعِدَّة " . يُرِيد مَا تَعْتَدّ بِهِ الْمُطَلَّقَة وَهُوَ الطُّهْر الَّذِي تَطْلُق فِيهِ , وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَر : ( مَرَّة فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكهَا حَتَّى تَطْهُر ثُمَّ تَحِيض ثُمَّ تَطْهُر فَتِلْكَ الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ اللَّه أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَهُوَ نَصّ فِي أَنَّ زَمَن الطُّهْر هُوَ الَّذِي يُسَمَّى عِدَّة , وَهُوَ الَّذِي تُطَلَّق فِيهِ النِّسَاء . وَلَا خِلَاف أَنَّ مَنْ طَلَّقَ فِي حَال الْحَيْض لَمْ تَعْتَدّ بِذَلِكَ الْحَيْض , وَمَنْ طَلَّقَ فِي حَال الطُّهْر فَإِنَّهَا تَعْتَدّ عِنْد الْجُمْهُور بِذَلِكَ الطُّهْر , فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى . قَالَ أَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن : مَا أَدْرَكْنَا أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِنَا إِلَّا يَقُول بِقَوْلِ عَائِشَة فِي ( أَنَّ الْأَقْرَاء هِيَ الْأَطْهَار ) . فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُل فِي طُهْر لَمْ يَطَأ فِيهِ اِعْتَدَّتْ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَلَوْ سَاعَة وَلَوْ لَحْظَة , ثُمَّ اِسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثَانِيًا بَعْد حَيْضَة , ثُمَّ ثَالِثًا بَعْد حَيْضَة ثَانِيَة , فَإِذَا رَأَتْ الدَّم مِنْ الْحَيْضَة الثَّالِثَة حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَخَرَجَتْ مِنْ الْعِدَّة . فَإِنْ طَلَّقَ مُطَلِّق فِي طُهْر قَدْ مَسَّ فِيهِ لَزِمَهُ الطَّلَاق وَقَدْ أَسَاءَ , وَاعْتَدَّتْ بِمَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ الطُّهْر . وَقَالَ الزُّهْرِيّ فِي اِمْرَأَة طُلِّقَتْ فِي بَعْض طُهْرهَا : إِنَّهَا تَعْتَدّ بِثَلَاثَةِ أَطْهَار سِوَى بَقِيَّة ذَلِكَ الطُّهْر . قَالَ أَبُو عُمَر : لَا أَعْلَم أَحَدًا مِمَّنْ قَالَ : الْأَقْرَاء الْأَطْهَار يَقُول هَذَا غَيْر اِبْن شِهَاب الزُّهْرِيّ , فَإِنَّهُ قَالَ : تُلْغِي الطُّهْر الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ ثُمَّ تَعْتَدّ بِثَلَاثَةِ أَطْهَار ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول " ثَلَاثَة قُرُوء " .
قُلْت : فَعَلَى قَوْله لَا تَحِلّ الْمُطَلَّقَة حَتَّى تَدْخُل فِي الْحَيْضَة الرَّابِعَة , وَقَوْل اِبْن الْقَاسِم وَمَالِك وَجُمْهُور أَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَعُلَمَاء الْمَدِينَة : إِنَّ الْمُطَلَّقَة إِذَا رَأَتْ أَوَّل نُقْطَة مِنْ الْحَيْضَة الثَّالِثَة خَرَجَتْ مِنْ الْعِصْمَة , وَهُوَ مَذْهَب زَيْد بْن ثَابِت وَعَائِشَة وَابْن عُمَر , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُد بْن عَلِيّ وَأَصْحَابه . وَالْحُجَّة عَلَى الزُّهْرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي طَلَاق الطَّاهِر مِنْ غَيْر جِمَاع , وَلَمْ يَقُلْ أَوَّل الطُّهْر وَلَا آخِره . وَقَالَ أَشْهَب : لَا تَنْقَطِع الْعِصْمَة وَالْمِيرَاث حَتَّى يَتَحَقَّق أَنَّهُ دَم حَيْض , لِئَلَّا تَكُون دُفْعَة دَم مِنْ غَيْر الْحَيْض . اِحْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِفَاطِمَة بِنْت أَبِي حُبَيْش حِين شَكَتْ إِلَيْهِ الدَّم : ( إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْق فَانْظُرِي فَإِذَا أَتَى قُرْؤُك فَلَا تُصَلِّي وَإِذَا مَرَّ الْقُرْء فَتَطَهَّرِي ثُمَّ صَلِّي مِنْ الْقُرْء إِلَى الْقُرْء ) . وَقَالَ تَعَالَى : " وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيض مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتهنَّ ثَلَاثَة أَشْهُر " [ الطَّلَاق : 4 ] . فَجَعَلَ الْمَيْئُوس مِنْهُ الْمَحِيض , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْعِدَّة , وَجَعَلَ الْعِوَض مِنْهُ هُوَ الْأَشْهُر إِذَا كَانَ مَعْدُومًا . وَقَالَ عُمَر بِحَضْرَةِ الصَّحَابَة : ( عِدَّة الْأَمَة حَيْضَتَانِ , نِصْف عِدَّة الْحُرَّة , وَلَوْ قَدَرْت عَلَى أَنْ أَجْعَلهَا حَيْضَة وَنِصْفًا لَفَعَلْت ) , وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ أَحَد . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاع مِنْهُمْ , وَهُوَ قَوْل عَشَرَة مِنْ الصَّحَابَة مِنْهُمْ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة , وَحَسْبك مَا قَالُوا ! وَقَوْله تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَرَبَّصْنَ ثَلَاثَة أَقْرَاء , يُرِيد كَوَامِل , هَذَا لَا يُمْكِن أَنْ يَكُون إِلَّا عَلَى قَوْلنَا بِأَنَّ الْأَقْرَاء الْحَيْض ; لِأَنَّ مَنْ يَقُول : إِنَّهُ الطُّهْر يَجُوز أَنْ تَعْتَدّ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْض آخَر ; لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ حَال الطُّهْر اِعْتَدَّتْ عِنْده بِبَقِيَّةِ ذَلِكَ الطُّهْر قُرْءًا . وَعِنْدنَا تَسْتَأْنِف مِنْ أَوَّل الْحَيْض حَتَّى يَصْدُق الِاسْم , فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُل الْمَرْأَة فِي طُهْر لَمْ يَطَأ فِيهِ اِسْتَقْبَلَتْ حَيْضَة ثُمَّ حَيْضَة ثُمَّ حَيْضَة , فَإِذَا اِغْتَسَلَتْ مِنْ الثَّالِثَة خَرَجَتْ مِنْ الْعِدَّة . قُلْت : هَذَا يَرُدّهُ قَوْله تَعَالَى : " سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَة أَيَّام " [ الْحَاقَّة : 7 ] فَأَثْبَتَ الْهَاء فِي " ثَمَانِيَة أَيَّام " , لِأَنَّ الْيَوْم مُذَكَّر وَكَذَلِكَ الْقُرْء , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَاد . وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَة عَلَى أَنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ حَائِضًا أَنَّهَا لَا تَعْتَدّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طُلِّقَتْ فِيهَا وَلَا بِالطُّهْرِ الَّذِي بَعْدهَا , وَإِنَّمَا تَعْتَدّ بِالْحَيْضِ الَّذِي بَعْد الطُّهْر . وَعِنْدنَا تَعْتَدّ بِالطُّهْرِ , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ . وَقَدْ اِسْتَجَازَ أَهْل اللُّغَة أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ الْبَعْض بِاسْمِ الْجَمِيع , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " الْحَجّ أَشْهُر مَعْلُومَات " [ الْبَقَرَة : 197 ] وَالْمُرَاد بِهِ شَهْرَانِ وَبَعْض الثَّالِث , فَكَذَلِكَ قَوْله : " ثَلَاثَة قُرُوء " . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ بَعْض مَنْ يَقُول بِالْحَيْضِ : إِذَا طَهُرَتْ مِنْ الثَّالِثَة اِنْقَضَتْ الْعِدَّة بَعْد الْغُسْل وَبَطَلَتْ الرَّجْعَة , قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر وَطَاوُس وَابْن شُبْرُمَة وَالْأَوْزَاعِيّ . وَقَالَ شَرِيك : إِذَا فَرَّطَتْ الْمَرْأَة فِي الْغُسْل عِشْرِينَ سَنَة فَلِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَة مَا لَمْ تَغْتَسِل . وَرُوِيَ عَنْ إِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا طَعَنَتْ الْمَرْأَة فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة بَانَتْ وَانْقَطَعَتْ رَجْعَة الزَّوْج . إِلَّا أَنَّهَا لَا يَحِلّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّج حَتَّى تَغْتَسِل مِنْ حَيْضَتهَا ) . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَهُوَ قَوْل ضَعِيف بِدَلِيلِ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلهنَّ فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسهنَّ " [ الْبَقَرَة : 234 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيّ مِنْ أَنَّ نَفْس الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر إِلَى الْحَيْضَة يُسَمَّى قُرْءًا فَفَائِدَته تَقْصِير الْعِدَّة عَلَى الْمَرْأَة , وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الْمَرْأَة فِي آخِر سَاعَة مِنْ طُهْرهَا فَدَخَلَتْ فِي الْحَيْضَة عَدَّتْهُ قُرْءًا , وَبِنَفْسِ الِانْتِقَال مِنْ الطُّهْر الثَّالِث اِنْقَطَعَتْ الْعِصْمَة وَحَلَّتْ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الْخَامِسَة : وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ عِدَّة الْأَمَة الَّتِي تَحِيض مِنْ طَلَاق زَوْجهَا حَيْضَتَانِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَرَى عِدَّة الْأَمَة إِلَّا كَعِدَّةِ الْحُرَّة , إِلَّا أَنْ تَكُون مَضَتْ فِي ذَلِكَ سَنَة : فَإِنَّ السَّنَة أَحَقّ أَنْ تُتَّبَع . وَقَالَ الْأَصَمّ عَبْد الرَّحْمَن بْن كَيْسَان وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة أَهْل الظَّاهِر : إِنَّ الْآيَات فِي عِدَّة الطَّلَاق وَالْوَفَاة بِالْأَشْهُرِ وَالْأَقْرَاء عَامَّة فِي حَقّ الْأَمَة وَالْحُرَّة , فَعِدَّة الْحُرَّة وَالْأَمَة سَوَاء . وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( طَلَاق الْأَمَة تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتهَا حَيْضَتَانِ ) . رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء عَنْ مُظَاهِر بْن أَسْلَم عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( طَلَاق الْأَمَة تَطْلِيقَتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ ) فَأَضَافَ إِلَيْهَا الطَّلَاق وَالْعِدَّة جَمِيعًا , إِلَّا أَنَّ مُظَاهِر بْن أَسْلَم اِنْفَرَدَ بِهَذَا الْحَدِيث وَهُوَ ضَعِيف . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر : أَيّهمَا رَقَّ نَقَصَ طَلَاقه , وَقَالَتْ بِهِ فِرْقَة مِنْ الْعُلَمَاء .
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى " وَلَا يَحِلّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّه فِي أَرْحَامهنَّ " أَيْ مِنْ الْحَيْض , قَالَهُ عِكْرِمَة وَالزُّهْرِيّ وَالنَّخَعِيّ . وَقِيلَ : الْحَمْل , قَالَهُ عُمَر وَابْن عَبَّاس . وَقَالَ مُجَاهِد : الْحَيْض وَالْحَمْل مَعًا , وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْحَامِل تَحِيض . وَالْمَعْنَى الْمَقْصُود مِنْ الْآيَة أَنَّهُ لَمَّا دَارَ أَمْر الْعِدَّة عَلَى الْحَيْض وَالْأَطْهَار وَلَا اِطِّلَاع إِلَّا مِنْ جِهَة النِّسَاء جُعِلَ الْقَوْل قَوْلهَا إِذَا اِدَّعَتْ اِنْقِضَاء الْعِدَّة أَوْ عَدَمهَا , وَجَعَلَهُنَّ مُؤْتَمَنَات عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَحِلّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّه فِي أَرْحَامهنَّ " . وَقَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار : وَلَمْ نُؤْمَر أَنْ نَفْتَح النِّسَاء فَنَنْظُر إِلَى فُرُوجهنَّ , وَلَكِنْ وُكِّلَ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ إِذْ كُنَّ مُؤْتَمَنَات . وَمَعْنَى النَّهْي عَنْ الْكِتْمَان النَّهْي عَنْ الْإِضْرَار بِالزَّوْجِ وَإِذْهَاب حَقّه , فَإِذَا قَالَتْ الْمُطَلَّقَة : حِضْت , وَهِيَ لَمْ تَحِضْ , ذَهَبَتْ بِحَقِّهِ مِنْ الِارْتِجَاع , وَإِذَا قَالَتْ : لَمْ أَحِضْ , وَهِيَ قَدْ حَاضَتْ , أَلْزَمَتْهُ مِنْ النَّفَقَة مَا لَمْ يَلْزَمهُ فَأَضَرَّتْ بِهِ , أَوْ تَقْصِد بِكَذِبِهَا فِي نَفْي الْحَيْض أَلَّا تَرْتَجِع حَتَّى تَنْقَضِي الْعِدَّة وَيَقْطَع الشَّرْع حَقّه , وَكَذَلِكَ الْحَامِل تَكْتُم الْحَمْل , لِتَقْطَع حَقّه مِنْ الِارْتِجَاع . قَالَ قَتَادَة : كَانَتْ عَادَتهنَّ فِي الْجَاهِلِيَّة أَنْ يَكْتُمْنَ الْحَمْل لِيُلْحِقْنَ الْوَلَد بِالزَّوْجِ الْجَدِيد , فَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَة . وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَشْجَع أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي طَلَّقْت اِمْرَأَتِي وَهِيَ حُبْلَى , وَلَسْت آمَن أَنْ تَتَزَوَّج فَيَصِير وَلَدِي لِغَيْرِي فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة , وَرُدَّتْ اِمْرَأَة الْأَشْجَعِيّ عَلَيْهِ .
الثَّانِيَة : قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَالَ كُلّ مَنْ حَفِظْت عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم : إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَة فِي عَشَرَة أَيَّام : قَدْ حِضْت ثَلَاث حِيَض وَانْقَضَتْ عِدَّتِي إِنَّهَا لَا تُصَدَّق وَلَا يُقْبَل ذَلِكَ مِنْهَا , إِلَّا أَنْ تَقُول : قَدْ أَسْقَطْت سِقْطًا قَدْ اِسْتَبَانَ خَلْقه . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّة الَّتِي تُصَدَّق فِيهَا الْمَرْأَة , فَقَالَ مَالِك : إِذَا قَالَتْ اِنْقَضَتْ عِدَّتِي فِي أَمَد تَنْقَضِي فِي مِثْله الْعِدَّة قُبِلَ قَوْلهَا , فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّة فِي مُدَّة تَقَع نَادِرًا فَقَوْلَانِ . قَالَ فِي الْمُدَوَّنَة : إِذَا قَالَتْ حِضْت ثَلَاث حِيَض فِي شَهْر صُدِّقَتْ إِذَا صَدَّقَهَا النِّسَاء , وَبِهِ قَالَ شُرَيْح , وَقَالَ لَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : قَالُون ! أَيْ أَصَبْت وَأَحْسَنْت . وَقَالَ فِي كِتَاب مُحَمَّد : لَا تُصَدَّق إِلَّا فِي شَهْر وَنِصْف . وَنَحْوه قَوْل أَبِي ثَوْر , قَالَ أَبُو ثَوْر : أَقَلّ مَا يَكُون ذَلِكَ فِي سَبْعَة وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا , وَذَلِكَ أَنَّ أَقَلّ الطُّهْر خَمْسَة عَشَر يَوْمًا , وَأَقَلّ الْحَيْض يَوْم . وَقَالَ النُّعْمَان : لَا تُصَدَّق فِي أَقَلّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا , وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيّ
هَذَا وَعِيد عَظِيم شَدِيد لِتَأْكِيدِ تَحْرِيم الْكِتْمَان , وَإِيجَاب لِأَدَاءِ الْأَمَانَة فِي الْإِخْبَار عَنْ الرَّحِم بِحَقِيقَةِ مَا فِيهِ . أَيْ فَسَبِيل الْمُؤْمِنَات أَلَّا يَكْتُمْنَ الْحَقّ , وَلَيْسَ قَوْله : " إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ " عَلَى أَنَّهُ أُبِيحَ لِمَنْ لَا يُؤْمِن أَنْ يَكْتُم ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلّ لِمَنْ لَا يُؤْمِن , وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِك : إِنْ كُنْت أَخِي فَلَا تَظْلِمنِي , أَيْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْجِزك الْإِيمَان عَنْهُ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ فِعْل أَهْل الْإِيمَان .
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَة مَسْأَلَة : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَبُعُولَتهنَّ " الْبُعُولَةُ جَمْع الْبَعْل , وَهُوَ الزَّوْج , سُمِّيَ بَعْلًا لِعُلُوِّهِ عَلَى الزَّوْجَة بِمَا قَدْ مَلَكَهُ مِنْ زَوْجِيَّتهَا , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " أَتَدْعُونَ بَعْلًا " [ الصَّافَّات : 125 ] أَيْ رَبًّا , لِعُلُوِّهِ فِي الرُّبُوبِيَّة , يُقَال : بَعْل وَبُعُولَة , كَمَا يُقَال فِي جَمْع الذَّكَر : ذَكَر وَذُكُورَة , وَفِي جَمْع الْفَحْل : فَحْل وَفُحُولَة , وَهَذِهِ الْهَاء زَائِدَة مُؤَكِّدَة لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَة , وَهُوَ شَاذّ لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ , وَيُعْتَبَر فِيهَا السَّمَاع , فَلَا يُقَال فِي لَعْب : لُعُوبَة . وَقِيلَ : هِيَ هَاء تَأْنِيث دَخَلَتْ عَلَى فُعُول . وَالْبُعُولَة أَيْضًا مَصْدَر الْبَعْل . وَبَعَلَ الرَّجُل يَبْعَل ( مِثْل مَنَعَ يَمْنَع ) بُعُولَة , أَيْ صَارَ بَعْلًا : وَالْمُبَاعَلَة وَالْبِعَال : الْجِمَاع , وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِأَيَّامِ التَّشْرِيق : ( إِنَّهَا أَيَّام أَكْل وَشُرْب وَبِعَالٍ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ . فَالرَّجُل بَعْل الْمَرْأَة , وَالْمَرْأَة بَعْلَته . وَبَاعَلَ مُبَاعَلَة إِذَا بَاشَرَهَا . وَفُلَان بَعْل هَذَا , أَيْ مَالِكه وَرَبّه . وَلَهُ مَحَامِل كَثِيرَة تَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " أَحَقّ بِرَدِّهِنَّ " أَيْ بِمُرَاجَعَتِهِنَّ , فَالْمُرَاجَعَة عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُرَاجَعَة فِي الْعِدَّة عَلَى حَدِيث اِبْن عُمَر . وَمُرَاجَعَة بَعْد الْعِدَّة عَلَى حَدِيث مَعْقِل , وَإِذَا كَانَ هَذَا فَيَكُون فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى تَخْصِيص مَا شَمِلَهُ الْعُمُوم فِي الْمُسَمَّيَات ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " عَامّ فِي الْمُطَلَّقَات ثَلَاثًا , وَفِيمَا دُونهَا لَا خِلَاف فِيهِ . ثُمَّ قَوْله : " وَبُعُولَتهنَّ أَحَقّ " حُكْم خَاصّ فِيمَنْ كَانَ طَلَاقهَا دُون الثَّلَاث . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْحُرّ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَته الْحُرَّة , وَكَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا تَطْلِيقَة أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ , أَنَّهُ أَحَقّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتهَا وَإِنْ كَرِهَتْ الْمَرْأَة , فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعهَا الْمُطَلِّق حَتَّى اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا فَهِيَ أَحَقّ بِنَفْسِهَا وَتَصِير أَجْنَبِيَّة مِنْهُ , لَا تَحِلّ لَهُ إِلَّا بِخِطْبَةٍ وَنِكَاح مُسْتَأْنَف بِوَلِيٍّ وَإِشْهَاد , لَيْسَ عَلَى سُنَّة الْمُرَاجَعَة , وَهَذَا إِجْمَاع مِنْ الْعُلَمَاء . قَالَ الْمُهَلَّب : وَكُلّ مَنْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّة فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمهُ شَيْء مِنْ أَحْكَام النِّكَاح غَيْر الْإِشْهَاد عَلَى الْمُرَاجَعَة فَقَطْ , وَهَذَا إِجْمَاع مِنْ الْعُلَمَاء , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلهنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ " [ الطَّلَاق : 2 ] فَذَكَرَ الْإِشْهَاد فِي الرَّجْعَة وَلَمْ يَذْكُرهُ فِي النِّكَاح وَلَا فِي الطَّلَاق . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كِتَاب اللَّه مَعَ إِجْمَاع أَهْل الْعِلْم كِفَايَة عَنْ ذِكْر مَا رُوِيَ عَنْ الْأَوَائِل فِي هَذَا الْبَاب ,
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُون بِهِ الرَّجُل مُرَاجِعًا فِي الْعِدَّة , فَقَالَ مَالِك : إِذَا وَطِئَهَا فِي الْعِدَّة وَهُوَ يُرِيد الرَّجْعَة وَجَهِلَ أَنْ يُشْهِد فَهِيَ رَجْعَة . وَيَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعهُ الْوَطْء حَتَّى يُشْهِد , وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوَى ) . فَإِنْ وَطِئَ فِي الْعِدَّة لَا يَنْوِي الرَّجْعَة فَقَالَ مَالِك : يُرَاجِع فِي الْعِدَّة وَلَا يَطَأ حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِد . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : فَإِنْ اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا لَمْ يَنْكِحهَا هُوَ وَلَا غَيْره فِي بَقِيَّة مُدَّة الِاسْتِبْرَاء , فَإِنْ فَعَلَ فُسِخَ نِكَاحه , وَلَا يَتَأَبَّد تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَاء مَاؤُهُ . وَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا جَامَعَهَا فَقَدْ رَاجَعَهَا , وَهَكَذَا قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب . وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَابْن سِيرِينَ وَالزُّهْرِيّ وَعَطَاء وَطَاوُس وَالثَّوْرِيّ . قَالَ : وَيُشْهِد , وَبِهِ قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى , حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَقَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ قِيلَ : وَطْؤُهُ مُرَاجَعَة عَلَى كُلّ حَال , نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا , وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ طَائِفَة مِنْ أَصْحَاب مَالِك , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ اللَّيْث . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيمَنْ بَاعَ جَارِيَته بِالْخِيَارِ أَنَّ لَهُ وَطْأَهَا فِي مُدَّة الْخِيَار , وَأَنَّهُ قَدْ اِرْتَجَعَهَا بِذَلِكَ إِلَى مِلْكه وَاخْتَارَ نَقْض الْبَيْع بِفِعْلِهِ ذَلِكَ . وَلِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّة حُكْم مِنْ هَذَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
الرَّابِعَة : مَنْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ يَنْوِي بِذَلِكَ الرَّجْعَة كَانَتْ رَجْعَة , وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِالْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَة الرَّجْعَة كَانَ آثِمًا وَلَيْسَ بِمُرَاجِعٍ . وَالسُّنَّة أَنْ يُشْهِد قَبْل أَنْ يَطَأ أَوْ قَبْل أَنْ يُقَبِّل أَوْ يُبَاشِر . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : إِنْ وَطِئَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إِلَى فَرْجهَا بِشَهْوَةٍ فَهِيَ رَجْعَة , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِد . وَفِي قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأَبِي عُبَيْد وَأَبِي ثَوْر لَا يَكُون رَجْعَة , قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَفِي " الْمُنْتَقَى " قَالَ : وَلَا خِلَاف فِي صِحَّة الِارْتِجَاع بِالْقَوْلِ , فَأَمَّا بِالْفِعْلِ نَحْو الْجِمَاع وَالْقُبْلَة فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد : يَصِحّ بِهَا وَبِسَائِرِ الِاسْتِمْتَاع لِلَّذَّةِ . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَمِثْل الْجَسَّة لِلَّذَّةِ , أَوْ أَنْ يَنْظُر إِلَى فَرْجهَا أَوْ مَا قَارَبَ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنهَا إِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ الرَّجْعَة , خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْله : لَا تَصِحّ الرَّجْعَة إِلَّا بِالْقَوْلِ , وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ أَبِي ثَوْر وَجَابِر بْن زَيْد وَأَبِي قِلَابَة .
الْخَامِسَة : قَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ جَامَعَهَا يَنْوِي الرَّجْعَة , أَوْ لَا يَنْوِيهَا فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ , وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْر مِثْلهَا . وَقَالَ مَالِك : لَا شَيْء لَهَا ; لِأَنَّهُ لَوْ اِرْتَجَعَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَهْر , فَلَا يَكُون الْوَطْء دُون الرَّجْعَة أَوْلَى بِالْمَهْرِ مِنْ الرَّجْعَة . وَقَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا أَعْلَم أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَهْر الْمِثْل غَيْر الشَّافِعِيّ , وَلَيْسَ قَوْله بِالْقَوِيِّ , لِأَنَّهَا فِي حُكْم الزَّوْجَات وَتَرِثهُ وَيَرِثهَا , فَكَيْف يَجِب مَهْر الْمِثْل فِي وَطْء اِمْرَأَة حُكْمهَا فِي أَكْثَر أَحْكَامهَا حُكْم الزَّوْجَة ! إِلَّا أَنَّ الشُّبْهَة فِي قَوْل الشَّافِعِيّ قَوِيَّة ; لِأَنَّهَا عَلَيْهِ مُحَرَّمَة إِلَّا بِرَجْعَةٍ لَهَا . وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَةٍ يَجِب لَهَا الْمَهْر , وَحَسْبك بِهَذَا !
السَّادِسَة : وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَافِر بِهَا قَبْل أَنْ يَرْتَجِعهَا , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : لَا يُسَافِر بِهَا حَتَّى يُرَاجِعهَا , وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه إِلَّا زُفَر فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ الْحَسَن بْن زِيَاد أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِر بِهَا قَبْل الرَّجْعَة , وَرَوَى عَنْهُ عَمْرو بْن خَالِد , لَا يُسَافِر بِهَا حَتَّى يُرَاجِع .
السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا وَيَرَى شَيْئًا مِنْ مَحَاسِنهَا , وَهَلْ تَتَزَيَّن لَهُ وَتَتَشَرَّف , فَقَالَ مَالِك : لَا يَخْلُو مَعَهَا , وَلَا يَدْخُل عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ , وَلَا يَنْظُر إِلَيْهَا إِلَّا وَعَلَيْهَا ثِيَابهَا , وَلَا يَنْظُر إِلَى شَعْرهَا , وَلَا بَأْس أَنْ يَأْكُل مَعَهَا إِذَا كَانَ مَعَهُمَا غَيْرهمَا , وَلَا يَبِيت مَعَهَا فِي بَيْت وَيَنْتَقِل عَنْهَا . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : رَجَعَ مَالِك عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يَدْخُل عَلَيْهَا وَلَا يَرَى شَعْرهَا . وَلَمْ يَخْتَلِف أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه فِي أَنَّهَا تَتَزَيَّن لَهُ وَتَتَطَيَّب وَتَلْبَس الْحُلِيّ وَتَتَشَرَّف . وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل اِمْرَأَته تَطْلِيقَة فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِن عَلَيْهَا , وَتَلْبَس مَا شَاءَتْ مِنْ الثِّيَاب وَالْحُلِيّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا إِلَّا بَيْت وَاحِد فَلْيَجْعَلَا بَيْنهمَا سِتْرًا , وَيُسَلِّم إِذَا دَخَلَ , وَنَحْوه عَنْ قَتَادَة , وَيُشْعِرهَا إِذَا دَخَلَ بِالتَّنَخُّمِ وَالتَّنَحْنُح . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الْمُطَلَّقَة طَلَاقًا يَمْلِك رَجْعَتهَا مُحَرَّمَة عَلَى مُطَلِّقهَا تَحْرِيم الْمَبْتُوتَة حَتَّى يُرَاجِع , وَلَا يُرَاجِع إِلَّا بِالْكَلَامِ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
الثَّامِنَة : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُطَلِّق إِذَا قَالَ بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة : إِنِّي كُنْت رَاجَعْتُك فِي الْعِدَّة وَأَنْكَرَتْ أَنَّ الْقَوْل قَوْلهَا مَعَ يَمِينهَا , وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهَا , غَيْر أَنَّ النُّعْمَان كَانَ لَا يَرَى يَمِينًا فِي النِّكَاح وَلَا فِي الرَّجْمَة , وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا كَقَوْلِ سَائِر أَهْل الْعِلْم . وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ الزَّوْجَة أَمَة وَاخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَة , وَالزَّوْج يَدَّعِي الرَّجْعَة فِي الْعِدَّة بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْل قَوْل الزَّوْجَة الْأَمَة وَإِنْ كَذَّبَهَا مَوْلَاهَا , هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَالنُّعْمَان . وَقَالَ يَعْقُوب وَمُحَمَّد : الْقَوْل قَوْل الْمَوْلَى وَهُوَ أَحَقّ بِهَا .
التَّاسِعَة : لَفْظ الرَّدّ يَقْتَضِي زَوَال الْعِصْمَة , إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إِنَّ الرَّجْعِيَّة مُحَرَّمَة الْوَطْء , فَيَكُون الرَّدّ عَائِدًا إِلَى الْحِلّ . وَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد وَأَبُو حَنِيفَة وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا - فِي أَنَّ الرَّجْعَة مُحَلِّلَة الْوَطْء : إِنَّ الطَّلَاق فَائِدَته تَنْقِيص الْعَدَد الَّذِي جُعِلَ لَهُ خَاصَّة , وَإِنَّ أَحْكَام الزَّوْجِيَّة بَاقِيَة لَمْ يَنْحَلّ مِنْهَا شَيْء - قَالُوا : وَأَحْكَام الزَّوْجِيَّة وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَة فَالْمَرْأَة مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّة سَائِرَة فِي سَبِيل الزَّوَال بِانْقِضَاءِ الْعِدَّة , فَالرَّجْعَة رَدّ عَنْ هَذِهِ السَّبِيل الَّتِي أَخَذَتْ الْمَرْأَة فِي سُلُوكهَا , وَهَذَا رَدّ مَجَازِيّ , وَالرَّدّ الَّذِي حَكَمْنَا بِهِ رَدّ حَقِيقِيّ , فَإِنَّ هُنَاكَ زَوَال مُسْتَنْجِز وَهُوَ تَحْرِيم الْوَطْء , فَوَقَعَ الرَّدّ عَنْهُ حَقِيقَة , وَاَللَّه أَعْلَم .
الْعَاشِرَة : لَفْظ " أَحَقّ " يُطْلَق عِنْد تَعَارُض حَقَّيْنِ , وَيَتَرَجَّح أَحَدهمَا , فَالْمَعْنَى حَقّ الزَّوْج فِي مُدَّة التَّرَبُّص أَحَقّ مِنْ حَقّهَا بِنَفْسِهَا , فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَمْلِك نَفْسهَا بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة , وَمِثْل هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْأَيِّم أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْحَادِيَة عَشْرَة : الرَّجُل مَنْدُوب إِلَى الْمُرَاجَعَة , وَلَكِنْ إِذَا قَصَدَ الْإِصْلَاح بِإِصْلَاحِ حَاله مَعَهَا , وَإِزَالَة الْوَحْشَة بَيْنهمَا , فَأَمَّا إِذَا قَصَدَ الْإِضْرَار وَتَطْوِيل الْعِدَّة وَالْقَطْع بِهَا عَنْ الْخَلَاص مِنْ رِبْقَة النِّكَاح فَمُحَرَّم , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا " [ الْبَقَرَة : 231 ] ثُمَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالرَّجْعَة صَحِيحَة , وَإِنْ اِرْتَكَبَ النَّهْي وَظَلَمَ نَفْسه , وَلَوْ عَلِمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ الْمَقْصِد طَلَّقْنَا عَلَيْهِ .
قَوْله تَعَالَى : " وَلَهُنَّ " أَيْ لَهُنَّ مِنْ حُقُوق الزَّوْجِيَّة عَلَى الرِّجَال مِثْل مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ , وَلِهَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنِّي لَأَتَزَيَّن لِامْرَأَتِي كَمَا تَتَزَيَّن لِي , وَمَا أُحِبّ أَنْ أَسْتَنْظِف كُلّ حَقِّي الَّذِي لِي عَلَيْهَا فَتَسْتَوْجِب حَقّهَا الَّذِي لَهَا عَلَيَّ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ " أَيْ زِينَة مِنْ غَيْر مَأْثَم . وَعَنْهُ أَيْضًا : أَيْ لَهُنَّ مِنْ حُسْن الصُّحْبَة وَالْعِشْرَة بِالْمَعْرُوفِ عَلَى أَزْوَاجهنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ مِنْ الطَّاعَة فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ . وَقِيلَ : إِنَّ لَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجهنَّ تَرْك مُضَارَّتهنَّ كَمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ . قَالَهُ الطَّبَرِيّ : وَقَالَ اِبْن زَيْد : تَتَّقُونَ اللَّه فِيهِنَّ كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيكُمْ , وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَالْآيَة تَعُمّ جَمِيع ذَلِكَ مِنْ حُقُوق الزَّوْجِيَّة . قَوْل اِبْن عَبَّاس : ( إِنِّي لَأَتَزَيَّن لِامْرَأَتِي ) . قَالَ الْعُلَمَاء : أَمَّا زِينَة الرِّجَال فَعَلَى تَفَاوُت أَحْوَالهمْ , فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ عَلَى اللَّبَق وَالْوِفَاق , فَرُبَّمَا كَانَتْ زِينَة تَلِيق فِي وَقْت وَلَا تَلِيق فِي وَقْت , وَزِينَة تَلِيق بِالشَّبَابِ , وَزِينَة تَلِيق بِالشُّيُوخِ وَلَا تَلِيق بِالشَّبَابِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخ وَالْكَهْل إِذَا حَفَّ شَارِبه لِيقَ بِهِ ذَلِكَ وَزَانَهُ , وَالشَّابّ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَمُجَ وَمُقِتَ . لِأَنَّ اللِّحْيَة لَمْ تُوفِر بَعْدُ , فَإِذَا حَفَّ شَارِبه فِي أَوَّل مَا خَرَجَ وَجْهه سَمُج , وَإِذَا وَفَرَتْ لِحْيَته وَحُفَّ شَارِبه زَانَهُ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُعْفِي لِحْيَتِي وَأُحْفِي شَارِبِي ) . وَكَذَلِكَ فِي شَأْن الْكِسْوَة , فَفِي هَذَا كُلّه اِبْتِغَاء الْحُقُوق , فَإِنَّمَا يُعْمَل عَلَى اللَّبَق وَالْوِفَاق عِنْد اِمْرَأَته فِي زِينَة تَسُرّهَا وَيُعِفّهَا عَنْ غَيْره مِنْ الرِّجَال . وَكَذَلِكَ الْكُحْل مِنْ الرِّجَال مِنْهُمْ مَنْ يَلِيق بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلِيق بِهِ . فَأَمَّا الطَّيِّب وَالسِّوَاك وَالْخِلَال وَالرَّمْي بِالدَّرَنِ وَفُضُول الشَّعْر وَالتَّطْهِير وَقَلْم الْأَظْفَار فَهُوَ بَيِّن مُوَافِق لِلْجَمِيعِ . وَالْخِضَاب لِلشُّيُوخِ وَالْخَاتَم لِلْجَمِيعِ مِنْ الشَّبَاب وَالشُّيُوخ زِينَة , وَهُوَ حُلِيّ الرِّجَال عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " النَّحْل " . ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَخَّى أَوْقَات حَاجَتهَا إِلَى الرَّجُل فَيُعِفّهَا وَيُغْنِيهَا عَنْ التَّطَلُّع إِلَى غَيْره . وَإِنْ رَأَى الرَّجُل مِنْ نَفْسه عَجْزًا عَنْ إِقَامَة حَقّهَا فِي مَضْجَعهَا أَخَذَ مِنْ الْأَدْوِيَة الَّتِي تَزِيد فِي بَاهه وَتُقَوِّي شَهْوَته حَتَّى يُعِفّهَا .
أَيْ مَنْزِلَة . وَمَدْرَجَة الطَّرِيق : قَارِعَته , وَالْأَصْل فِيهِ الطَّيّ , يُقَال : دَرَجُوا , أَيْ طَوَوْا عُمْرهمْ , وَمِنْهَا الدَّرَجَة الَّتِي يُرْتَقَى عَلَيْهَا . وَيُقَال : رَجُل بَيِّن الرِّجْلَة , أَيْ الْقُوَّة . وَهُوَ أَرْجَل الرَّجُلَيْنِ , أَيْ أَقْوَاهُمَا . وَفَرَس رَجِيل , أَيْ قَوِيّ , وَمِنْهُ الرِّجْل , لِقُوَّتِهَا عَلَى الْمَشْي . فَزِيَادَة دَرَجَة الرَّجُل بِعَقْلِهِ وَقُوَّته عَلَى الْإِنْفَاق وَبِالدِّيَةِ وَالْمِيرَاث وَالْجِهَاد . وَقَالَ حُمَيْد : الدَّرَجَة اللِّحْيَة , وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ ضَعِيف لَا يَقْتَضِيه لَفْظ الْآيَة وَلَا مَعْنَاهَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَطُوبَى لِعَبْدٍ أَمْسَكَ عَمَّا لَا يَعْلَم , وَخُصُوصًا فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى ! وَلَا يَخْفَى عَلَى لَبِيب فَضْل الرِّجَال عَلَى النِّسَاء , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَة خُلِقَتْ مِنْ الرَّجُل فَهُوَ أَصْلهَا , وَلَهُ أَنْ يَمْنَعهَا مِنْ التَّصَرُّف إِلَّا بِإِذْنِهِ , فَلَا تَصُوم إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَحُجّ إِلَّا مَعَهُ . وَقِيلَ : الدَّرَجَة الصَّدَاق , قَالَهُ الشَّعْبِيّ . وَقِيلَ : جَوَاز الْأَدَب . وَعَلَى الْجُمْلَة فَدَرَجَة تَقْتَضِي التَّفْضِيل , وَتُشْعِر بِأَنَّ حَقّ الزَّوْج عَلَيْهَا أَوْجَب مِنْ حَقّهَا عَلَيْهِ , وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَلَوْ أَمَرْت أَحَدًا بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّه لَأَمَرْت الْمَرْأَة أَنْ تَسْجُد لِزَوْجِهَا ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( الدَّرَجَة إِشَارَة إِلَى حَضّ الرِّجَال عَلَى حُسْن الْعِشْرَة , وَالتَّوَسُّع لِلنِّسَاءِ فِي الْمَال وَالْخُلُق , أَيْ أَنَّ الْأَفْضَل يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَامَل عَلَى نَفْسه ) . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل حَسَن بَارِع . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : يُحْتَمَل أَنَّهَا فِي حُقُوق النِّكَاح , لَهُ رَفْع الْعَقْد دُونهَا , وَيَلْزَمهَا إِجَابَته إِلَى الْفِرَاش , وَلَا يَلْزَمهُ إِجَابَتهَا . قُلْت : وَمِنْ هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَيّمَا اِمْرَأَة دَعَاهَا زَوْجهَا إِلَى فِرَاشه فَأَبَتْ عَلَيْهِ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَة حَتَّى تُصْبِح ) .
أَيْ مَنِيع السُّلْطَان لَا مُعْتَرِض عَلَيْهِ .
أَيْ عَالِم مُصِيب فِيمَا يَفْعَل .
الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ↑
فِيهِ سَبْع مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " ثَبَتَ أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة لَمْ يَكُنْ عِنْدهمْ لِلطَّلَاقِ عَدَد , وَكَانَتْ عِنْدهمْ الْعِدَّة مَعْلُومَة مُقَدَّرَة , وَكَانَ هَذَا فِي أَوَّل الْإِسْلَام بُرْهَة , يُطَلِّق الرَّجُل اِمْرَأَته مَا شَاءَ مِنْ الطَّلَاق , فَإِذَا كَادَتْ تَحِلّ مِنْ طَلَاقه رَاجَعَهَا مَا شَاءَ , فَقَالَ رَجُل لِامْرَأَتِهِ عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا آوِيك وَلَا أَدَعُك تَحِلِّينَ , قَالَتْ : وَكَيْف ؟ قَالَ : أُطَلِّقك فَإِذَا دَنَا مُضِيّ عِدَّتِك رَاجَعْتُك . فَشَكَتْ الْمَرْأَة ذَلِكَ إِلَى عَائِشَة , فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة بَيَانًا لِعَدَدِ الطَّلَاق الَّذِي لِلْمَرْءِ فِيهِ أَنْ يَرْتَجِع دُون تَجْدِيد مَهْر وَوَلِيّ , وَنَسَخَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ . قَالَ مَعْنَاهُ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَقَتَادَة وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمْ : ( الْمُرَاد بِالْآيَةِ التَّعْرِيف بِسُنَّةِ الطَّلَاق , أَيْ مَنْ طَلَّقَ اِثْنَتَيْنِ فَلْيَتَّقِ اللَّه فِي الثَّالِثَة , فَإِمَّا تَرَكَهَا غَيْر مَظْلُومَة شَيْئًا مِنْ حَقّهَا , وَإِمَّا أَمْسَكَهَا مُحْسِنًا عِشْرَتهَا , وَالْآيَة تَتَضَمَّن هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ) .
الثَّانِيَة : الطَّلَاق هُوَ حَلّ الْعِصْمَة الْمُنْعَقِدَة بَيْن الْأَزْوَاج بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَة . وَالطَّلَاق مُبَاح بِهَذِهِ الْآيَة وَبِغَيْرِهَا , وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث اِبْن عُمَر : ( فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ ) وَقَدْ طَلَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَة ثُمَّ رَاجَعَهَا , خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ اِمْرَأَته طَاهِرًا فِي طُهْر لَمْ يَمَسّهَا فِيهِ أَنَّهُ مُطَلِّق لِلسُّنَّةِ , وَلِلْعِدَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهَا , وَأَنَّ لَهُ الرَّجْعَة إِذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتهَا , فَإِذَا اِنْقَضَتْ فَهُوَ خَاطِب مِنْ الْخُطَّاب . فَدَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاع الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الطَّلَاق مُبَاح غَيْر مَحْظُور . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَيْسَ فِي الْمَنْع مِنْهُ خَبَر يَثْبُت .
الثَّالِثَة : رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن عَلِيّ الدُّولَابِيّ وَيَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم , قَالَا : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَرَفَة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش بْن حُمَيْد بْن مَالِك اللَّخْمِيّ عَنْ مَكْحُول عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ : قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا مُعَاذ مَا خَلَقَ اللَّه شَيْئًا عَلَى وَجْه الْأَرْض أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَتَاق وَلَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى شَيْئًا عَلَى وَجْه الْأَرْض أَبْغَض إِلَيْهِ مِنْ الطَّلَاق فَإِذَا قَالَ الرَّجُل لِمَمْلُوكِهِ أَنْتَ حُرّ إِنْ شَاءَ اللَّه فَهُوَ حُرّ وَلَا اِسْتِثْنَاء لَهُ وَإِذَا قَالَ الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِق إِنْ شَاءَ اللَّه فَلَهُ اِسْتِثْنَاؤُهُ وَلَا طَلَاق عَلَيْهِ ) . حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن عَلِيّ حَدَّثَنَا حُمَيْد بْن الرَّبِيع حَدَّثَنَا يَزِيد بْن هَارُون أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش بِإِسْنَادِهِ نَحْوه . قَالَ حُمَيْد قَالَ لِي يَزِيد بْن هَارُون : وَأَيّ حَدِيث لَوْ كَانَ حُمَيْد بْن مَالِك اللَّخْمِيّ مَعْرُوفًا ! قُلْت : هُوَ جَدِّي ! قَالَ يَزِيد : سَرَرْتنِي , الْآن صَارَ حَدِيثًا ! . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَمِمَّنْ رَأَى الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق طَاوُس وَحَمَّاد وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَلَا يَجُوز الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق فِي قَوْل مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ , وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَة فِي الطَّلَاق خَاصَّة . قَالَ : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّل أَقُول .
الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ " اِبْتِدَاء , وَالْخَبَر أَمْثَل أَوْ أَحْسَن , وَيَصِحّ أَنْ يَرْتَفِع عَلَى خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف , أَيْ فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ , أَوْ فَالْوَاجِب عَلَيْكُمْ إِمْسَاك بِمَا يُعْرَف أَنَّهُ الْحَقّ . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن " فَإِمْسَاكًا " عَلَى الْمَصْدَر . وَمَعْنَى " بِإِحْسَانٍ " أَيْ لَا يَظْلِمهَا شَيْئًا مِنْ حَقّهَا , وَلَا يَتَعَدَّى فِي قَوْل . وَالْإِمْسَاك : خِلَاف الْإِطْلَاق . وَالتَّسْرِيح : إِرْسَال الشَّيْء , وَمِنْهُ تَسْرِيح الشَّعْر , لِيَخْلُص الْبَعْض مِنْ الْبَعْض . وَسَرَّحَ الْمَاشِيَة : أَرْسَلَهَا . وَالتَّسْرِيح يَحْتَمِل لَفْظه مَعْنَيَيْنِ : أَحَدهمَا : تَرْكهَا حَتَّى تَتِمّ الْعِدَّة مِنْ الطَّلْقَة الثَّانِيَة , وَتَكُون أَمْلَك لِنَفْسِهَا , وَهَذَا قَوْل السُّدِّيّ وَالضَّحَّاك . وَالْمَعْنَى الْآخَر أَنْ يُطَلِّقهَا ثَالِثَة فَيُسَرِّحهَا , هَذَا قَوْل مُجَاهِد وَعَطَاء وَغَيْرهمَا , وَهُوَ أَصَحّ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَة :
أَحَدهَا : مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَنَس أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " فَلِمَ صَارَ ثَلَاثًا ؟ قَالَ : ( إِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ - فِي رِوَايَة - هِيَ الثَّالِثَة ) . ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر .
الثَّانِي : إِنَّ التَّسْرِيح مِنْ أَلْفَاظ الطَّلَاق , أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ قُرِئَ " إِنْ عَزَمُوا السَّرَاح " .
الثَّالِثَة : أَنَّ فَعَّلَ تَفْعِيلًا يُعْطِي أَنَّهُ أَحْدَثَ فِعْلًا مُكَرَّرًا عَلَى الطَّلْقَة الثَّانِيَة , وَلَيْسَ فِي التَّرْك إِحْدَاث فِعْل يُعَبَّر عَنْهُ بِالتَّفْعِيلِ , قَالَ أَبُو عُمَر : وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " هِيَ الطَّلْقَة الثَّالِثَة بَعْد الطَّلْقَتَيْنِ , وَإِيَّاهَا عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " [ الْبَقَرَة : 230 ] . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ اِمْرَأَته طَلْقَة أَوْ طَلْقَتَيْنِ فَلَهُ مُرَاجَعَتهَا , فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَة لَمْ تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره , وَكَانَ هَذَا مِنْ مُحْكَم الْقُرْآن الَّذِي لَمْ يُخْتَلَف فِي تَأْوِيله . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَخْبَار الْعُدُول مِثْل ذَلِكَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن نَصْر قَالَ حَدَّثَنَا قَاسِم بْن أَصْبَغ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن وَضَّاح قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ إِسْمَاعِيل بْن سُمَيْع عَنْ أَبِي رَزِين قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَرَأَيْت قَوْل اللَّه تَعَالَى : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " فَأَيْنَ الثَّالِثَة ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ ) . وَرَوَاهُ الثَّوْرِيّ وَغَيْره عَنْ إِسْمَاعِيل بْن سُمَيْع عَنْ أَبِي رَزِين مِثْله . قُلْت : وَذَكَرَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ هَذَا الْخَبَر وَقَالَ : إِنَّهُ غَيْر ثَابِت مِنْ جِهَة النَّقْل , وَرَجَّحَ قَوْل الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ , وَأَنَّ الطَّلْقَة الثَّالِثَة إِنَّمَا هِيَ مَذْكُورَة فِي مَسَاق الْخِطَاب فِي قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " [ الْبَقَرَة : 230 ] . فَالثَّالِثَة مَذْكُورَة فِي صُلْب هَذَا الْخِطَاب , مُفِيدَة لِلْبَيْنُونَةِ الْمُوجِبَة لِلتَّحْرِيمِ إِلَّا بَعْد زَوْج , فَوَجَبَ حَمْل قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " عَلَى فَائِدَة مُجَدَّدَة , وَهُوَ وُقُوع الْبَيْنُونَة بِالثِّنْتَيْنِ عِنْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة , وَعَلَى أَنَّ الْمَقْصُود مِنْ الْآيَة بَيَان عَدَد الطَّلَاق الْمُوجِب لِلتَّحْرِيمِ , وَنُسِخَ مَا كَانَ جَائِزًا مِنْ إِيقَاع الطَّلَاق بِلَا عَدَد مَحْصُور , فَلَوْ كَانَ قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " هُوَ الثَّالِثَة لَمَا أَبَانَ عَنْ الْمَقْصِد فِي إِيقَاع التَّحْرِيم بِالثَّلَاثِ , إِذْ لَوْ اِقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَمَا دَلَّ عَلَى وُقُوع الْبَيْنُونَة الْمُحَرِّمَة لَهَا إِلَّا بَعْد زَوْج , وَإِنَّمَا عُلِمَ التَّحْرِيم بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " . فَوَجَبَ أَلَّا يَكُون مَعْنَى قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " الثَّالِثَة , وَلَوْ كَانَ قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " بِمَعْنَى الثَّالِثَة كَانَ قَوْله عَقِيب ذَلِكَ : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " الرَّابِعَة , لِأَنَّ الْفَاء لِلتَّعْقِيبِ , وَقَدْ اِقْتَضَى طَلَاقًا مُسْتَقْبِلًا بَعْد مَا تَقَدَّمَ ذِكْره , فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " هُوَ تَرْكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا .
الْخَامِسَة : تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذِهِ الْآيَة " بَاب مَنْ أَجَازَ الطَّلَاق الثَّلَاث بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " وَهَذَا إِشَارَة مِنْهُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّعْدِيد إِنَّمَا هُوَ فُسْحَة لَهُمْ , فَمَنْ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسه لَزِمَهُ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَاتَّفَقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى عَلَى لُزُوم إِيقَاع الطَّلَاق الثَّلَاث فِي كَلِمَة وَاحِدَة , وَهُوَ قَوْل جُمْهُور السَّلَف , وَشَذَّ طَاوُس وَبَعْض أَهْل الظَّاهِر إِلَى أَنَّ طَلَاق الثَّلَاث فِي كَلِمَة وَاحِدَة يَقَع وَاحِدَة , وَيُرْوَى هَذَا عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَالْحَجَّاج بْن أَرْطَاة . وَقِيلَ عَنْهُمَا : لَا يَلْزَم مِنْهُ شَيْء , وَهُوَ قَوْل مُقَاتِل . وَيُحْكَى عَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ لَا يَقَع . وَالْمَشْهُور عَنْ الْحَجَّاج بْن أَرْطَاة وَجُمْهُور السَّلَف وَالْأَئِمَّة أَنَّهُ لَازِم وَاقِع ثَلَاثًا . وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ يُوقِع ثَلَاثًا مُجْتَمِعَة فِي كَلِمَة أَوْ مُتَفَرِّقَة فِي كَلِمَات , فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْهُ شَيْء فَاحْتَجَّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " [ الْبَقَرَة : 228 ] . وَهَذَا يَعُمّ كُلّ مُطَلَّقَة إِلَّا مَا خَصَّ مِنْهُ , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَالَ : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " وَالثَّالِثَة " فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " . وَمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي كَلِمَة فَلَا يَلْزَم , إِذْ هُوَ غَيْر مَذْكُور فِي الْقُرْآن . وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَاقِع وَاحِدَة فَاسْتَدَلَّ بِأَحَادِيث ثَلَاثَة : أَحَدهَا : حَدِيث اِبْن عَبَّاس مِنْ رِوَايَة طَاوُس وَأَبِي الصَّهْبَاء وَعِكْرِمَة . وَثَانِيهَا : حَدِيث اِبْن عُمَر عَلَى رِوَايَة مَنْ رَوَى ( أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا , وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَمَرَهُ بِرَجْعَتِهَا وَاحْتُسِبَتْ لَهُ وَاحِدَة ) . وَثَالِثهَا : ( أَنَّ رُكَانَة طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا فَأَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْعَتِهَا , وَالرَّجْعَة تَقْتَضِي وُقُوع وَاحِدَة ) . وَالْجَوَاب عَنْ الْأَحَادِيث مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيّ أَنَّ سَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِدًا وَعَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار وَمَالِك بْن الْحُوَيْرِث وَمُحَمَّد بْن إِيَاس بْن الْبُكَيْر وَالنُّعْمَان بْن أَبِي عَيَّاش رَوَوْا عَنْ اِبْن عَبَّاس ( فِيمَنْ طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا أَنَّهُ قَدْ عَصَى رَبّه وَبَانَتْ مِنْهُ اِمْرَأَته , وَلَا يَنْكِحهَا إِلَّا بَعْد زَوْج ) , وَفِيمَا رَوَاهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة عَنْ اِبْن عَبَّاس مِمَّا يُوَافِق الْجَمَاعَة مَا يَدُلّ عَلَى وَهْن رِوَايَة طَاوُس وَغَيْره , وَمَا كَانَ اِبْن عَبَّاس لِيُخَالِف الصَّحَابَة إِلَى رَأْي نَفْسه . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَرِوَايَة طَاوُس وَهْمٌ وَغَلَط لَمْ يَعْرُج عَلَيْهَا أَحَد مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار بِالْحِجَازِ وَالشَّام وَالْعِرَاق وَالْمَشْرِق وَالْمَغْرِب , وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ أَبَا الصَّهْبَاء لَا يُعْرَف فِي مَوَالِي اِبْن عَبَّاس . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ : " وَعِنْدِي أَنَّ الرِّوَايَة عَنْ اِبْن طَاوُس بِذَلِكَ صَحِيحَة , فَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْأَئِمَّة : مَعْمَر وَابْن جُرَيْج وَغَيْرهمَا , وَابْن طَاوُس إِمَام . وَالْحَدِيث الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ هُوَ مَا رَوَاهُ اِبْن طَاوُس عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( كَانَ الطَّلَاق عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَة عُمَر بْن الْخَطَّاب طَلَاق الثَّلَاث وَاحِدَة , فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ النَّاس قَدْ اِسْتَعْجَلُوا فِي أَمْر كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاة , فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ ! فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ ) . وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُمْ كَانُوا يُوقِعُونَ طَلْقَة وَاحِدَة بَدَل إِيقَاع النَّاس الْآن ثَلَاث تَطْلِيقَات , وَيَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا التَّأْوِيل أَنَّ عُمَر قَالَ : إِنَّ النَّاس قَدْ اِسْتَعْجَلُوا فِي أَمْر كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاة , فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ أَحْدَثُوا فِي الطَّلَاق اِسْتِعْجَال أَمْر كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاة , فَلَوْ كَانَ حَالهمْ ذَلِكَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ , وَلَا عَابَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ اِسْتَعْجَلُوا فِي أَمْر كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاة . وَتَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا التَّأْوِيل مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس مِنْ غَيْر طَرِيق أَنَّهُ ( أَفْتَى بِلُزُومِ الطَّلَاق الثَّلَاث لِمَنْ أَوْقَعهَا مُجْتَمِعَة ) , فَإِنْ كَانَ هَذَا مَعْنَى حَدِيث اِبْن طَاوُس فَهُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ , وَإِنْ حُمِلَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس عَلَى مَا يَتَأَوَّل فِيهِ مَنْ لَا يَعْبَأ بِقَوْلِهِ فَقَدْ رَجَعَ اِبْن عَبَّاس إِلَى قَوْل الْجَمَاعَة وَانْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاع , وَدَلِيلنَا مِنْ جِهَة الْقِيَاس أَنَّ هَذَا طَلَاق أَوْقَعَهُ مَنْ يَمْلِكهُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمهُ , أَصْل ذَلِكَ إِذَا أَوْقَعَهُ مُفْرَدًا " . قُلْت : مَا تَأَوَّلَهُ الْبَاجِيّ هُوَ الَّذِي ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْكِيَا الطَّبَرِيّ عَنْ عُلَمَاء الْحَدِيث , أَيْ إِنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ طَلْقَة وَاحِدَة هَذَا الَّذِي يُطَلِّقُونَ ثَلَاثًا , أَيْ مَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي كُلّ قُرْء طَلْقَة , وَإِنَّمَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي جَمِيع الْعِدَّة وَاحِدَة إِلَى أَنْ تَبِين وَتَنْقَضِي الْعِدَّة . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب : مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاس كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى طَلْقَة وَاحِدَة , ثُمَّ أَكْثَرُوا أَيَّام عُمَر مِنْ إِيقَاع الثَّلَاث . قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَه بِقَوْلِ الرَّاوِي : إِنَّ النَّاس فِي أَيَّام عُمَر اِسْتَعْجَلُوا الثَّلَاث فَعَجَّلَ عَلَيْهِمْ , مَعْنَاهُ أَلْزَمَهُمْ حُكْمهَا . وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عُمَر فَإِنَّ الدَّارَقُطْنِيّ رَوَى عَنْ أَحْمَد بْن صُبَيْح عَنْ طَرِيف بْن نَاصِح عَنْ مُعَاوِيَة بْن عَمَّار الدُّهْنِيّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْر قَالَ : سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ رَجُل طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِض , فَقَالَ لِي : أَتَعْرِفُ اِبْن عُمَر ؟ قُلْت : نَعَمْ , قَالَ : طَلَّقْت اِمْرَأَتِي ثَلَاثًا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَائِض فَرَدَّهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السُّنَّة . فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : كُلّهمْ مِنْ الشِّيعَة , وَالْمَحْفُوظ أَنَّ اِبْن عُمَر طَلَّقَ اِمْرَأَته وَاحِدَة فِي الْحَيْض . قَالَ عُبَيْد اللَّه : وَكَانَ تَطْلِيقه إِيَّاهَا فِي الْحَيْض وَاحِدَة غَيْر أَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّة . وَكَذَلِكَ قَالَ صَالِح بْن كَيْسَان وَمُوسَى بْن عُقْبَة وَإِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة وَلَيْث بْن سَعْد وَابْن أَبِي ذِئْب وَابْن جُرَيْج وَجَابِر وَإِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم بْن عُقْبَة عَنْ نَافِع : أَنَّ اِبْن عُمَر طَلَّقَ تَطْلِيقَة وَاحِدَة . وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيّ عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ وَيُونُس بْن جُبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَالْحَسَن . وَأَمَّا حَدِيث رُكَانَة فَقِيلَ : إِنَّهُ حَدِيث مُضْطَرِب مُنْقَطِع , لَا يَسْتَنِد مِنْ وَجْه يُحْتَجّ بِهِ , رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث اِبْن جُرَيْج عَنْ بَعْض بَنِي أَبِي رَافِع , وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُحْتَجّ بِهِ , عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ فِيهِ : إِنَّ رُكَانَة بْن عَبْد يَزِيد طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَرْجِعْهَا ) . وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طُرُق عَنْ نَافِع بْن عُجَيْر أَنَّ رُكَانَة بْن عَبْد يَزِيد طَلَّقَ اِمْرَأَته الْبَتَّة فَاسْتَحْلَفَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَادَ بِهَا ؟ فَحَلَفَ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَة , فَرَدَّهَا إِلَيْهِ . فَهَذَا اِضْطِرَاب فِي الِاسْم وَالْفِعْل , وَلَا يُحْتَجّ بِشَيْءٍ مِنْ مِثْل هَذَا . قُلْت : قَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيث مِنْ طُرُق الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه , قَالَ فِي بَعْضهَا : " حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن مِرْدَاس حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيّ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَمْرو بْن السَّرْح وَأَبُو ثَوْر إِبْرَاهِيم بْن خَالِد الْكَلْبِيّ وَآخَرُونَ قَالُوا : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِدْرِيس الشَّافِعِيّ حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن شَافِع عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن السَّائِب عَنْ نَافِع بْن عُجَيْر بْن عَبْد يَزِيد : أَنَّ رُكَانَة بْن عَبْد يَزِيد طَلَّقَ اِمْرَأَته سُهَيْمَة الْمُزَنِيَّة الْبَتَّة , فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , فَقَالَ : وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة ) ؟ فَقَالَ رُكَانَة : وَاَللَّه مَا أَرَدْت بِهَا إِلَّا وَاحِدَة , فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَة فِي زَمَان عُمَر بْن الْخَطَّاب , وَالثَّالِثَة فِي زَمَان عُثْمَان . قَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا حَدِيث صَحِيح . فَاَلَّذِي صَحَّ مِنْ حَدِيث رُكَانَة أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته الْبَتَّة لَا ثَلَاثًا , وَطَلَاق الْبَتَّة قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فَسَقَطَ الِاحْتِجَاج وَالْحَمْد لِلَّهِ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ أَبُو عُمَر : رِوَايَة الشَّافِعِيّ لِحَدِيثِ رُكَانَة عَنْ عَمّه أَتَمّ , وَقَدْ زَادَ زِيَادَة لَا تَرُدّهَا الْأُصُول , فَوَجَبَ قَبُولهَا لِثِقَةِ نَاقِلِيهَا , وَالشَّافِعِيّ وَعَمّه وَجَدّه أَهْل بَيْت رُكَانَة , كُلّهمْ مِنْ بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب بْن عَبْد مَنَاف وَهُمْ أَعْلَم بِالْقِصَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُمْ . [ فَصْل ] ذَكَرَ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مُغِيث الطُّلَيْطِلِيّ هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي وَثَائِقه فَقَالَ : الطَّلَاق يَنْقَسِم عَلَى ضَرْبَيْنِ : طَلَاق سُنَّة , وَطَلَاق بِدْعَة . فَطَلَاق السُّنَّة هُوَ الْوَاقِع عَلَى الْوَجْه الَّذِي نَدَبَ الشَّرْع إِلَيْهِ . وَطَلَاق الْبِدْعَة نَقِيضه , وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقهَا فِي حَيْض أَوْ نِفَاس أَوْ ثَلَاثًا فِي كَلِمَة وَاحِدَة , فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الطَّلَاق . ثُمَّ اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّهُ مُطَلِّق , كَمْ يَلْزَمهُ مِنْ الطَّلَاق , فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود : ( يَلْزَمهُ طَلْقَة وَاحِدَة ) , وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَ : ( قَوْله ثَلَاثًا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّق ثَلَاث مَرَّات وَإِنَّمَا يَجُوز قَوْله فِي ثَلَاث إِذَا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا مَضَى فَيَقُول : طَلَّقْت ثَلَاثًا فَيَكُون مُخْبِرًا عَنْ ثَلَاثَة أَفْعَال كَانَتْ مِنْهُ فِي ثَلَاثَة أَوْقَات , كَرَجُلٍ قَالَ : قَرَأْت أَمْس سُورَة كَذَا ثَلَاث مَرَّات فَذَلِكَ يَصِحّ , وَلَوْ قَرَأَهَا مَرَّة وَاحِدَة فَقَالَ : قَرَأْتهَا ثَلَاث مَرَّات كَانَ كَاذِبًا . وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا يُرَدِّد الْحَلِف كَانَتْ ثَلَاثَة أَيْمَان , وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ فَقَالَ : أَحْلِف بِاَللَّهِ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ حَلَفَ إِلَّا يَمِينًا وَاحِدَة وَالطَّلَاق مِثْله ) . وَقَالَهُ الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف . وَرُوِّينَا ذَلِكَ كُلّه عَنْ اِبْن وَضَّاح , وَبِهِ قَالَ مِنْ شُيُوخ قُرْطُبَة اِبْن زِنْبَاع شَيْخ هَدْي وَمُحَمَّد بْن تَقِيّ بْن مَخْلَد وَمُحَمَّد بْن عَبْد السَّلَام الْحُسَنِيّ فَرِيد وَقْته وَفَقِيه عَصْره وَأَصْبَغ بْن الْحُبَاب وَجَمَاعَة سِوَاهُمْ . وَكَانَ مِنْ حُجَّة اِبْن عَبَّاس أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَّقَ فِي كِتَابه لَفْظ الطَّلَاق فَقَالَ عَزَّ اِسْمه : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " يُرِيد أَكْثَر الطَّلَاق الَّذِي يَكُون بَعْده الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الرَّجْعَة فِي الْعِدَّة . وَمَعْنَى قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " يُرِيد تَرْكهَا بِلَا اِرْتِجَاع حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا , وَفِي ذَلِكَ إِحْسَان إِلَيْهَا إِنْ وَقَعَ نَدَم بَيْنهمَا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّه يُحْدِث بَعْد ذَلِكَ أَمْرًا " [ الطَّلَاق : 1 ] يُرِيد النَّدَم عَلَى الْفُرْقَة وَالرَّغْبَة فِي الرَّجْعَة , وَمَوْقِع الثَّلَاث غَيْر حَسَن ; لِأَنَّ فِيهِ تَرْك الْمَنْدُوحَة الَّتِي وَسَّعَ اللَّه بِهَا وَنَبَّهَ عَلَيْهَا , فَذِكْر اللَّه سُبْحَانه الطَّلَاقَ مُفَرَّقًا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا جُمِعَ أَنَّهُ لَفْظ وَاحِد , وَقَدْ يُخَرَّج بِقِيَاسٍ مِنْ غَيْر مَا مَسْأَلَة مِنْ الْمُدَوَّنَة مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ , مِنْ ذَلِكَ قَوْل الْإِنْسَان : مَالِي صَدَقَة فِي الْمَسَاكِين أَنَّ الثُّلُث يُجْزِيه مِنْ ذَلِكَ . وَفِي الْإِشْرَاف لِابْنِ الْمُنْذِر : وَكَانَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَطَاوُس وَأَبُو الشَّعْثَاء وَعَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار يَقُولُونَ : مَنْ طَلَّقَ الْبِكْر ثَلَاثًا فَهِيَ وَاحِدَة . قُلْت : وَرُبَّمَا اِعْتَلُّوا فَقَالُوا : غَيْر الْمَدْخُول بِهَا لَا عِدَّة عَلَيْهَا , فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِق ثَلَاثًا فَقَدْ بَانَتْ بِنَفْسِ فَرَاغه مِنْ قَوْله : أَنْتِ طَالِق , فَيَرِد " ثَلَاثًا " عَلَيْهَا وَهَى بَائِن فَلَا يُؤَثِّر شَيْئًا , وَلِأَنَّ قَوْله : أَنْتِ طَالِق مُسْتَقِلّ بِنَفْسِهِ , فَوَجَبَ أَلَّا تَقِف الْبَيْنُونَة فِي غَيْر الْمَدْخُول بِهَا عَلَى مَا يَرِد بَعْده , أَصْله إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِق .
السَّادِسَة : اِسْتَدَلَّ الشَّافِعِيّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " وَقَوْله : " وَسَرِّحُوهُنَّ " [ الْأَحْزَاب : 49 ] عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظ مِنْ صَرِيح الطَّلَاق . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْمَعْنَى , فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد إِلَى أَنَّ الصَّرِيح مَا تَضَمَّنَ لَفْظ الطَّلَاق عَلَى أَيّ وَجْه , مِثْل أَنْ يَقُول : أَنْتِ طَالِق , أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَة , أَوْ قَدْ طَلَّقْتُك , أَوْ الطَّلَاق لَهُ لَازِم , وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظ الطَّلَاق مِمَّا يُسْتَعْمَل فِيهِ فَهُوَ كِنَايَة , وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن : صَرِيح أَلْفَاظ الطَّلَاق كَثِيرَة , وَبَعْضهَا أَبْيَن مِنْ بَعْض : الطَّلَاق وَالسَّرَاح وَالْفِرَاق وَالْحَرَام وَالْخَلِيَّة وَالْبَرِّيَّة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الصَّرِيح ثَلَاثَة أَلْفَاظ , وَهُوَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآن مِنْ لَفْظ الطَّلَاق وَالسَّرَاح وَالْفِرَاق , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ " [ الطَّلَاق : 2 ] وَقَالَ : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " وَقَالَ : " فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ " [ الطَّلَاق : 1 ] . قُلْت : , وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالطَّلَاق عَلَى ضَرْبَيْنِ : صَرِيح وَكِنَايَة , فَالصَّرِيح مَا ذَكَرْنَا , وَالْكِنَايَة مَا عَدَاهُ , وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الصَّرِيح لَا يَفْتَقِر إِلَى نِيَّة , بَلْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظ يَقَع الطَّلَاق , وَالْكِنَايَة تَفْتَقِر إِلَى نِيَّة , وَالْحُجَّة لِمَنْ قَالَ : إِنَّ الْحَرَام وَالْخَلِيَّة وَالْبَرِّيَّة مِنْ صَرِيح الطَّلَاق كَثْرَة اِسْتِعْمَالهَا فِي الطَّلَاق حَتَّى عُرِفَتْ بِهِ , فَصَارَتْ بَيِّنَة وَاضِحَة فِي إِيقَاع الطَّلَاق , كَالْغَائِطِ الَّذِي وُضِعَ لِلْمُطْمَئِنِّ مِنْ الْأَرْض , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْه الْمَجَاز فِي إِتْيَان قَضَاء الْحَاجَة , فَكَانَ فِيهِ أَبْيَن وَأَظْهَر وَأَشْهَر مِنْهُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ , وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتنَا مِثْله . ثُمَّ إِنَّ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز قَدْ قَالَ : " لَوْ كَانَ الطَّلَاق أَلْفًا مَا أَبْقَتْ الْبَتَّة مِنْهُ شَيْئًا , فَمَنْ قَالَ : الْبَتَّة , فَقَدْ رَمَى الْغَايَة الْقُصْوَى " أَخْرَجَهُ مَالِك . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَلِيّ قَالَ : ( الْخَلِيَّة وَالْبَرِّيَّة وَالْبَتَّة وَالْبَائِن وَالْحَرَام ثَلَاث , لَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره ) . وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنَّ الْبَتَّة ثَلَاث , مِنْ طَرِيق فِيهِ لِين ) , خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَسَيَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات اللَّه هُزُوًا " [ الْبَقَرَة : 231 ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
السَّابِعَة : لَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : قَدْ طَلَّقْتُك , إِنَّهُ مِنْ صَرِيح الطَّلَاق فِي الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْر الْمَدْخُول بِهَا , فَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِق فَهِيَ وَاحِدَة إِلَّا أَنْ يَنْوِي أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ نَوَى اِثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ , فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهِيَ وَاحِدَة تَمْلِك الرَّجْعَة . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِق , وَقَالَ : أَرَدْت مِنْ وَثَاق لَمْ يُقْبَل قَوْله وَلَزِمَهُ , إِلَّا أَنْ يَكُون هُنَاكَ مَا يَدُلّ عَلَى صِدْقه . وَمَنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِق وَاحِدَة , لَا رَجْعَة لِي عَلَيْك فَقَوْله : " لَا رَجْعَة لِي عَلَيْك " بَاطِل , وَلَهُ الرَّجْعَة لِقَوْلِهِ وَاحِدَة ; لِأَنَّ الْوَاحِدَة لَا تَكُون ثَلَاثًا , فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ : " لَا رَجْعَة لِي عَلَيْك " ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاث عِنْد مَالِك . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : قَدْ فَارَقْتُك , أَوْ سَرَّحْتُك , أَوْ أَنْتِ خَلِيَّة , أَوْ بَرِّيَّة , أَوْ بَائِن , أَوْ حَبْلك عَلَى غَارِبك , أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام , أَوْ اِلْحَقِي بِأَهْلِك , أَوْ قَدْ وَهَبْتُك لِأَهْلِك , أَوْ قَدْ خَلَّيْت سَبِيلك , أَوْ لَا سَبِيل لِي عَلَيْك , فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف : هُوَ طَلَاق بَائِن , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَقَالَ : ( إِذَا قَالَ الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ اِسْتَقِلِّي بِأَمْرِك , أَوْ أَمْرك لَك , أَوْ اِلْحَقِي بِأَهْلِك فَقَبِلُوهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة ) . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : قَدْ فَارَقْتُك , أَوْ سَرَّحْتُك , أَنَّهُ مِنْ صَرِيح الطَّلَاق , كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِق . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كِنَايَة يُرْجَع فِيهَا إِلَى نِيَّة قَائِلهَا , وَيُسْأَل مَا أَرَادَ مِنْ الْعَدَد , مَدْخُولًا بِهَا كَانَتْ أَوْ غَيْر مَدْخُول بِهَا . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَأَصَحّ قَوْلَيْهِ فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَل بِهَا أَنَّهَا وَاحِدَة , إِلَّا أَنْ يَنْوِي أَكْثَر , وَقَالَهُ اِبْن الْقَاسِم وَابْن عَبْد الْحَكَم . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : هِيَ ثَلَاث , وَمِثْله خَلَعْتُك , أَوْ لَا مِلْك لِي عَلَيْك . وَأَمَّا سَائِر الْكِنَايَات فَهِيَ ثَلَاث عِنْد مَالِك فِي كُلّ مَنْ دُخِلَ بِهَا لَا يَنْوِي فِيهَا قَائِلهَا , وَيُنْوَى فِي غَيْر الْمَدْخُول بِهَا . فَإِنْ حَلَفَ وَقَالَ أَرَدْت وَاحِدَة كَانَ خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّاب , لِأَنَّهُ لَا يُخَلِّي الْمَرْأَة الَّتِي قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجهَا وَلَا يُبِينهَا وَلَا يُبْرِيهَا إِلَّا ثَلَاث تَطْلِيقَات . وَاَلَّتِي لَمْ يُدْخَل بِهَا يُخَلِّيهَا وَيُبْرِيهَا وَيُبِينهَا الْوَاحِدَة . وَقَدْ رَوَى مَالِك وَطَائِفَة مِنْ أَصْحَابه , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة , أَنَّهُ يَنْوِي فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظ كُلّهَا وَيَلْزَمهُ مِنْ الطَّلَاق مَا نَوَى . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي الْبَتَّة خَاصَّة مِنْ بَيْن سَائِر الْكِنَايَات أَنَّهُ لَا يَنْوِي فِيهَا لَا فِي الْمَدْخُول بِهَا وَلَا فِي غَيْر الْمَدْخُول بِهَا . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَهُ نِيَّته فِي ذَلِكَ كُلّه , فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاث , وَإِنْ نَوَى وَاحِدَة فَهِيَ وَاحِدَة بَائِنَة وَهِيَ أَحَقّ بِنَفْسِهَا . وَإِنْ نَوَى اِثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَة . وَقَالَ زُفَر : إِنْ نَوَى اِثْنَتَيْنِ فَهِيَ اِثْنَتَانِ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : هُوَ فِي ذَلِكَ كُلّه غَيْر مُطَلِّق حَتَّى يَقُول : أَرَدْت بِمَخْرَجِ الْكَلَام مِنِّي طَلَاقًا فَيَكُون مَا نَوَى . فَإِنْ نَوَى دُون الثَّلَاث كَانَ رَجْعِيًّا , وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَة بَائِنَة كَانَتْ رَجْعِيَّة . وَقَالَ إِسْحَاق : كُلّ كَلَام يُشْبِه الطَّلَاق فَهُوَ مَا نَوَى مِنْ الطَّلَاق . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : هِيَ تَطْلِيقَة رَجْعِيَّة وَلَا يُسْأَل عَنْ نِيَّته . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود ( أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقًا بَائِنًا إِلَّا فِي خُلْع أَوْ إِيلَاء ) وَهُوَ الْمَحْفُوظ عَنْهُ , قَالَهُ أَبُو عُبَيْد . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ " بَاب إِذَا قَالَ فَارَقْتُك أَوْ سَرَّحْتُك أَوْ الْبَرِّيَّة أَوْ الْخَلِيَّة أَوْ مَا عَنَى بِهِ الطَّلَاق فَهُوَ عَلَى نِيَّته " . وَهَذَا مِنْهُ إِشَارَة إِلَى قَوْل الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق فِي قَوْله : أَوْ مَا عَنَى بِهِ مِنْ الطَّلَاق " وَالْحُجَّة فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلّ كَلِمَة تَحْتَمِل أَنْ تَكُون طَلَاقًا أَوْ غَيْر طَلَاق فَلَا يَجُوز أَنْ يَلْزَم بِهَا الطَّلَاق إِلَّا أَنْ يَقُول الْمُتَكَلِّم : إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا الطَّلَاق فَيَلْزَمهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ , وَلَا يَجُوز إِبْطَال النِّكَاح لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّته بِيَقِينٍ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي مَعْنَى قَوْل الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ : اِعْتَدِّي , أَوْ قَدْ خَلَّيْتُك , أَوْ حَبْلك عَلَى غَارِبك , فَقَالَ مَرَّة : لَا يَنْوِي فِيهَا وَهِيَ ثَلَاث . وَقَالَ مَرَّة : يَنْوِي فِيهَا كُلّهَا , فِي الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْر الْمَدْخُول بِهَا , وَبِهِ أَقُول . قُلْت : مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُور , وَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ يَنْوِي فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظ وَيُحْكَم عَلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ الصَّحِيح , لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلِيل , وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيح الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرهمْ عَنْ يَزِيد بْن رُكَانَة : أَنَّ رُكَانَة بْن عَبْد يَزِيد طَلَّقَ اِمْرَأَته سُهَيْمَة الْبَتَّة فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , فَقَالَ : ( آللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة ) ؟ فَقَالَ رُكَانَة : وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة , فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ اِبْن مَاجَهْ : سَمِعْت أَبَا الْحَسَن الطَّنَافِسِيّ يَقُول : مَا أَشْرَف هَذَا الْحَدِيث ! وَقَالَ مَالِك فِي الرَّجُل يَقُول لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير : أَرَاهَا الْبَتَّة وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة , فَلَا تَحِلّ إِلَّا بَعْد زَوْج . وَفِي قَوْل الشَّافِعِيّ : إِنْ أَرَادَ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاق , وَمَا أَرَادَ مِنْ عَدَد الطَّلَاق , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ طَلَاقًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ بَعْد أَنْ يَحْلِف . وَقَالَ أَبُو عُمَر : أَصْل هَذَا الْبَاب فِي كُلّ كِنَايَة عَنْ الطَّلَاق , مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ - لِلَّتِي تَزَوَّجَهَا حِين قَالَتْ : أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْك - : ( قَدْ عُذْت بِمُعَاذٍ اِلْحَقِي بِأَهْلِك ) . فَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا . وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك لِامْرَأَتِهِ حِين أَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِزَالِهَا : اِلْحَقِي بِأَهْلِك فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة مُفْتَقِرَة إِلَى النِّيَّة , وَأَنَّهَا لَا يُقْضَى فِيهَا إِلَّا بِمَا يَنْوِي اللَّافِظ بِهَا , وَكَذَلِكَ سَائِر الْكِنَايَات الْمُحْتَمَلَات لِلْفِرَاقِ وَغَيْره . وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَمَّا الْأَلْفَاظ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ أَلْفَاظ الطَّلَاق وَلَا يُكَنَّى بِهَا عَنْ الْفِرَاق , فَأَكْثَر الْعُلَمَاء لَا يُوقِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْهَا طَلَاقًا وَإِنْ قَصَدَهُ الْقَائِل . وَقَالَ مَالِك : كُلّ مَنْ أَرَادَ الطَّلَاق بِأَيِّ لَفْظ كَانَ لَزِمَهُ الطَّلَاق حَتَّى بِقَوْلِهِ كُلِي وَاشْرَبِي وَقُومِي وَاقْعُدِي , وَلَمْ يُتَابِع مَالِكًا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَصْحَابه .
" أَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع ب " لَا يَحِلّ " . وَالْآيَة خِطَاب لِلْأَزْوَاجِ , نُهُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَزْوَاجهمْ شَيْئًا عَلَى وَجْه الْمُضَارَّة , وَهَذَا هُوَ الْخُلْع الَّذِي لَا يَصِحّ إِلَّا بِأَلَّا يَنْفَرِد الرَّجُل بِالضَّرَرِ , وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مَا آتَى الْأَزْوَاج نِسَاءَهُمْ ; لِأَنَّ الْعُرْف بَيْن النَّاس أَنْ يَطْلُب الرَّجُل عِنْد الشِّقَاق وَالْفَسَاد مَا خَرَجَ مِنْ يَده لَهَا صَدَاقًا وَجِهَازًا , فَلِذَلِكَ خُصَّ بِالذِّكْرِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْله " وَلَا يَحِلّ " فَصْل مُعْتَرِض بَيْن قَوْله تَعَالَى : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " وَبَيْن قَوْله : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ أَخْذ الْفِدْيَة عَلَى الطَّلَاق جَائِز . وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْظِير أَخْذ مَا لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُون النُّشُوز وَفَسَاد الْعِشْرَة مِنْ قِبَلِهَا . وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر عَنْ النُّعْمَان أَنَّهُ قَالَ : إِذَا جَاءَ الظُّلْم وَالنُّشُوز مِنْ قِبَله وَخَالَعَتْهُ فَهُوَ جَائِز مَاضٍ وَهُوَ آثِم , لَا يَحِلّ لَهُ مَا صَنَعَ , وَلَا يُجْبَر عَلَى رَدّ مَا أَخَذَهُ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا مِنْ قَوْله خِلَاف ظَاهِر كِتَاب اللَّه , وَخِلَاف الْخَبَر الثَّابِت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَخِلَاف مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عَامَّة أَهْل الْعِلْم مِنْ ذَلِكَ , وَلَا أَحْسَب أَنْ لَوْ قِيلَ لِأَحَدٍ : اِجْهَدْ نَفْسك فِي طَلَب الْخَطَإِ مَا وَجَدَ أَمْرًا أَعْظَم مِنْ أَنْ يَنْطِق الْكِتَاب بِتَحْرِيمِ شَيْء ثُمَّ يُقَابِلهُ مُقَابِل بِالْخِلَافِ نَصًّا , فَيَقُول : بَلْ يَجُوز ذَلِكَ : وَلَا يُجْبَر عَلَى رَدّ مَا أَخَذَ . قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن بَطَّال : وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك مِثْله . وَهَذَا الْقَوْل خِلَاف ظَاهِر كِتَاب اللَّه تَعَالَى , وَخِلَاف حَدِيث اِمْرَأَة ثَابِت , وَسَيَأْتِي .
حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة أَلَّا يَأْخُذ إِلَّا بَعْد الْخَوْف أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه , وَأَكَّدَ التَّحْرِيم بِالْوَعِيدِ لِمَنْ تَعَدَّى الْحَدّ . وَالْمَعْنَى أَنْ يَظُنّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ أَلَّا يُقِيم حَقّ النِّكَاح لِصَاحِبِهِ حَسَب مَا يَجِب عَلَيْهِ فِيهِ لِكَرَاهَةٍ يَعْتَقِدهَا , فَلَا حَرَج عَلَى الْمَرْأَة أَنْ تَفْتَدِي , وَلَا حَرَج عَلَى الزَّوْج أَنْ يَأْخُذ . وَالْخِطَاب لِلزَّوْجَيْنِ . وَالضَّمِير فِي " أَنْ يَخَافَا " لَهُمَا , و " أَلَّا يُقِيمَا " مَفْعُول بِهِ . و " خِفْت " يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُول وَاحِد . ثُمَّ قِيلَ : هَذَا الْخَوْف هُوَ بِمَعْنَى الْعِلْم , أَيْ أَنْ يَعْلَمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه , وَهُوَ مِنْ الْخَوْف الْحَقِيقِيّ , وَهُوَ الْإِشْفَاق مِنْ وُقُوع الْمَكْرُوه , وَهُوَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى الظَّنّ . ثُمَّ قِيلَ : " إِلَّا أَنْ يَخَافَا " اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع , أَيْ لَكِنْ إِنْ كَانَ مِنْهُنَّ نُشُوز فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِي أَخْذ الْفِدْيَة . وَقَرَأَ حَمْزَة " إِلَّا أَنْ يُخَافَا " بِضَمِّ الْيَاء عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله , وَالْفَاعِل مَحْذُوف وَهُوَ الْوُلَاة وَالْحُكَّام , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد . قَالَ : لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَإِنْ خِفْتُمْ " قَالَ : فَجَعَلَ الْخَوْف لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ , وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجَيْنِ لَقَالَ : فَإِنْ خَافَا , وَفِي هَذَا حُجَّة لِمَنْ جَعَلَ الْخُلْع إِلَى السُّلْطَان . قُلْت : وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ . وَقَالَ شُعْبَة : قُلْت لِقَتَادَة : عَمَّنْ أَخَذَ الْحَسَن الْخُلْع إِلَى السُّلْطَان ؟ قَالَ : عَنْ زِيَاد , وَكَانَ وَالِيًا لِعُمَر وَعَلِيّ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مَعْرُوف عَنْ زِيَاد , وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْقَوْل لِأَنَّ الرَّجُل إِذَا خَالَعَ اِمْرَأَته فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يَتَرَاضَيَانِ بِهِ , وَلَا يُجْبِرهُ السُّلْطَان عَلَى ذَلِكَ , وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : هَذَا إِلَى السُّلْطَان . وَقَدْ أُنْكِرَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَرُدَّ , وَمَا عَلِمْت فِي اِخْتِيَاره شَيْئًا أَبْعَد مِنْ هَذَا الْحَرْف ; لِأَنَّهُ لَا يُوجِبهُ الْإِعْرَاب وَلَا اللَّفْظ وَلَا الْمَعْنَى . أَمَّا الْإِعْرَاب فَإِنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَرَأَ " إِلَّا أَنْ يَخَافَا " تَخَافُوا , فَهَذَا فِي الْعَرَبِيَّة إِذَا رُدَّ إِلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله قِيلَ : إِلَّا أَنْ يَخَاف . وَأَمَّا اللَّفْظ فَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظ " يَخَافَا " وَجَبَ أَنْ يُقَال : فَإِنْ خِيفَ . وَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظ " فَإِنْ خِفْتُمْ " وَجَبَ أَنْ يُقَال : إِلَّا أَنْ تَخَافُوا . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَبْعُد أَنْ يُقَال : لَا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا , إِلَّا أَنْ يَخَاف غَيْركُمْ وَلَمْ يَقُلْ جَلَّ وَعَزَّ : فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ مِنْهَا فِدْيَة , فَيَكُون الْخُلْع إِلَى السُّلْطَان . قَالَ الطَّحَاوِيّ : وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن عُمَر جَوَازه دُون السُّلْطَان , وَكَمَا جَازَ الطَّلَاق وَالنِّكَاح دُون السُّلْطَان فَكَذَلِكَ الْخُلْع , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء .
أَيْ عَلَى أَنْ لَا يُقِيمَا .
أَيْ فِيمَا يَجِب عَلَيْهِمَا مِنْ حُسْن الصُّحْبَة وَجَمِيل الْعِشْرَة . وَالْمُخَاطَبَة لِلْحُكَّامِ وَالْمُتَوَسِّطِينَ لِمِثْلِ هَذَا الْأَمْر وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا . وَتَرْك إِقَامَة حُدُود اللَّه هُوَ اِسْتِخْفَاف الْمَرْأَة بِحَقِّ زَوْجهَا , وَسُوء طَاعَتهَا إِيَّاهُ , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمَالِك بْن أَنَس وَجُمْهُور الْفُقَهَاء . وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن وَقَوْم مَعَهُ : إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَة لَا أُطِيع لَك أَمْرًا , وَلَا أَغْتَسِل لَك مِنْ جَنَابَة , وَلَا أَبَرّ لَك قَسَمًا , حَلَّ الْخُلْع . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : " أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه " أَلَّا يُطِيعَا اللَّه , وَذَلِكَ أَنَّ الْمُغَاضَبَة تَدْعُو إِلَى تَرْك الطَّاعَة . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : يَحِلّ الْخُلْع وَالْأَخْذ أَنْ تَقُول الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا : إِنِّي أَكْرَهك وَلَا أُحِبّك , وَنَحْو هَذَا
رَوَى الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَيُّوب عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ اِمْرَأَة ثَابِت بْن قَيْس أَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , ثَابِت بْن قَيْس مَا أَعْتِب عَلَيْهِ فِي خُلُق وَلَا دِين وَلَكِنْ لَا أُطِيقهُ ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَته ) ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ قَتَادَة عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ جَمِيلَة بِنْت سَلُول أَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : وَاَللَّه مَا أَعِيب عَلَى ثَابِت فِي دِين وَلَا خُلُق وَلَكِنِّي أَكْرَه الْكُفْر فِي الْإِسْلَام , لَا أُطِيقهُ بُغْضًا ! فَقَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَته ) ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . فَأَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذ مِنْهَا حَدِيقَته وَلَا يَزْدَاد . فَيُقَال : إِنَّهَا كَانَتْ تُبْغِضهُ أَشَدّ الْبُغْض , وَكَانَ يُحِبّهَا أَشَدّ الْحُبّ , فَفَرَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنهمَا بِطَرِيقِ الْخُلْع , فَكَانَ أَوَّل خُلْع فِي الْإِسْلَام . رَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْ
الثَّانِيَة : الطَّلَاق هُوَ حَلّ الْعِصْمَة الْمُنْعَقِدَة بَيْن الْأَزْوَاج بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَة . وَالطَّلَاق مُبَاح بِهَذِهِ الْآيَة وَبِغَيْرِهَا , وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث اِبْن عُمَر : ( فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ ) وَقَدْ طَلَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَة ثُمَّ رَاجَعَهَا , خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ اِمْرَأَته طَاهِرًا فِي طُهْر لَمْ يَمَسّهَا فِيهِ أَنَّهُ مُطَلِّق لِلسُّنَّةِ , وَلِلْعِدَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهَا , وَأَنَّ لَهُ الرَّجْعَة إِذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتهَا , فَإِذَا اِنْقَضَتْ فَهُوَ خَاطِب مِنْ الْخُطَّاب . فَدَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاع الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الطَّلَاق مُبَاح غَيْر مَحْظُور . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَيْسَ فِي الْمَنْع مِنْهُ خَبَر يَثْبُت .
الثَّالِثَة : رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن عَلِيّ الدُّولَابِيّ وَيَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم , قَالَا : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَرَفَة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش بْن حُمَيْد بْن مَالِك اللَّخْمِيّ عَنْ مَكْحُول عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ : قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا مُعَاذ مَا خَلَقَ اللَّه شَيْئًا عَلَى وَجْه الْأَرْض أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَتَاق وَلَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى شَيْئًا عَلَى وَجْه الْأَرْض أَبْغَض إِلَيْهِ مِنْ الطَّلَاق فَإِذَا قَالَ الرَّجُل لِمَمْلُوكِهِ أَنْتَ حُرّ إِنْ شَاءَ اللَّه فَهُوَ حُرّ وَلَا اِسْتِثْنَاء لَهُ وَإِذَا قَالَ الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِق إِنْ شَاءَ اللَّه فَلَهُ اِسْتِثْنَاؤُهُ وَلَا طَلَاق عَلَيْهِ ) . حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن عَلِيّ حَدَّثَنَا حُمَيْد بْن الرَّبِيع حَدَّثَنَا يَزِيد بْن هَارُون أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش بِإِسْنَادِهِ نَحْوه . قَالَ حُمَيْد قَالَ لِي يَزِيد بْن هَارُون : وَأَيّ حَدِيث لَوْ كَانَ حُمَيْد بْن مَالِك اللَّخْمِيّ مَعْرُوفًا ! قُلْت : هُوَ جَدِّي ! قَالَ يَزِيد : سَرَرْتنِي , الْآن صَارَ حَدِيثًا ! . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَمِمَّنْ رَأَى الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق طَاوُس وَحَمَّاد وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَلَا يَجُوز الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق فِي قَوْل مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ , وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَة فِي الطَّلَاق خَاصَّة . قَالَ : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّل أَقُول .
الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ " اِبْتِدَاء , وَالْخَبَر أَمْثَل أَوْ أَحْسَن , وَيَصِحّ أَنْ يَرْتَفِع عَلَى خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف , أَيْ فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ , أَوْ فَالْوَاجِب عَلَيْكُمْ إِمْسَاك بِمَا يُعْرَف أَنَّهُ الْحَقّ . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن " فَإِمْسَاكًا " عَلَى الْمَصْدَر . وَمَعْنَى " بِإِحْسَانٍ " أَيْ لَا يَظْلِمهَا شَيْئًا مِنْ حَقّهَا , وَلَا يَتَعَدَّى فِي قَوْل . وَالْإِمْسَاك : خِلَاف الْإِطْلَاق . وَالتَّسْرِيح : إِرْسَال الشَّيْء , وَمِنْهُ تَسْرِيح الشَّعْر , لِيَخْلُص الْبَعْض مِنْ الْبَعْض . وَسَرَّحَ الْمَاشِيَة : أَرْسَلَهَا . وَالتَّسْرِيح يَحْتَمِل لَفْظه مَعْنَيَيْنِ : أَحَدهمَا : تَرْكهَا حَتَّى تَتِمّ الْعِدَّة مِنْ الطَّلْقَة الثَّانِيَة , وَتَكُون أَمْلَك لِنَفْسِهَا , وَهَذَا قَوْل السُّدِّيّ وَالضَّحَّاك . وَالْمَعْنَى الْآخَر أَنْ يُطَلِّقهَا ثَالِثَة فَيُسَرِّحهَا , هَذَا قَوْل مُجَاهِد وَعَطَاء وَغَيْرهمَا , وَهُوَ أَصَحّ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَة :
أَحَدهَا : مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَنَس أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " فَلِمَ صَارَ ثَلَاثًا ؟ قَالَ : ( إِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ - فِي رِوَايَة - هِيَ الثَّالِثَة ) . ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر .
الثَّانِي : إِنَّ التَّسْرِيح مِنْ أَلْفَاظ الطَّلَاق , أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ قُرِئَ " إِنْ عَزَمُوا السَّرَاح " .
الثَّالِثَة : أَنَّ فَعَّلَ تَفْعِيلًا يُعْطِي أَنَّهُ أَحْدَثَ فِعْلًا مُكَرَّرًا عَلَى الطَّلْقَة الثَّانِيَة , وَلَيْسَ فِي التَّرْك إِحْدَاث فِعْل يُعَبَّر عَنْهُ بِالتَّفْعِيلِ , قَالَ أَبُو عُمَر : وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " هِيَ الطَّلْقَة الثَّالِثَة بَعْد الطَّلْقَتَيْنِ , وَإِيَّاهَا عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " [ الْبَقَرَة : 230 ] . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ اِمْرَأَته طَلْقَة أَوْ طَلْقَتَيْنِ فَلَهُ مُرَاجَعَتهَا , فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَة لَمْ تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره , وَكَانَ هَذَا مِنْ مُحْكَم الْقُرْآن الَّذِي لَمْ يُخْتَلَف فِي تَأْوِيله . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَخْبَار الْعُدُول مِثْل ذَلِكَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن نَصْر قَالَ حَدَّثَنَا قَاسِم بْن أَصْبَغ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن وَضَّاح قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ إِسْمَاعِيل بْن سُمَيْع عَنْ أَبِي رَزِين قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَرَأَيْت قَوْل اللَّه تَعَالَى : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " فَأَيْنَ الثَّالِثَة ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ ) . وَرَوَاهُ الثَّوْرِيّ وَغَيْره عَنْ إِسْمَاعِيل بْن سُمَيْع عَنْ أَبِي رَزِين مِثْله . قُلْت : وَذَكَرَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ هَذَا الْخَبَر وَقَالَ : إِنَّهُ غَيْر ثَابِت مِنْ جِهَة النَّقْل , وَرَجَّحَ قَوْل الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ , وَأَنَّ الطَّلْقَة الثَّالِثَة إِنَّمَا هِيَ مَذْكُورَة فِي مَسَاق الْخِطَاب فِي قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " [ الْبَقَرَة : 230 ] . فَالثَّالِثَة مَذْكُورَة فِي صُلْب هَذَا الْخِطَاب , مُفِيدَة لِلْبَيْنُونَةِ الْمُوجِبَة لِلتَّحْرِيمِ إِلَّا بَعْد زَوْج , فَوَجَبَ حَمْل قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " عَلَى فَائِدَة مُجَدَّدَة , وَهُوَ وُقُوع الْبَيْنُونَة بِالثِّنْتَيْنِ عِنْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة , وَعَلَى أَنَّ الْمَقْصُود مِنْ الْآيَة بَيَان عَدَد الطَّلَاق الْمُوجِب لِلتَّحْرِيمِ , وَنُسِخَ مَا كَانَ جَائِزًا مِنْ إِيقَاع الطَّلَاق بِلَا عَدَد مَحْصُور , فَلَوْ كَانَ قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " هُوَ الثَّالِثَة لَمَا أَبَانَ عَنْ الْمَقْصِد فِي إِيقَاع التَّحْرِيم بِالثَّلَاثِ , إِذْ لَوْ اِقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَمَا دَلَّ عَلَى وُقُوع الْبَيْنُونَة الْمُحَرِّمَة لَهَا إِلَّا بَعْد زَوْج , وَإِنَّمَا عُلِمَ التَّحْرِيم بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " . فَوَجَبَ أَلَّا يَكُون مَعْنَى قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " الثَّالِثَة , وَلَوْ كَانَ قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " بِمَعْنَى الثَّالِثَة كَانَ قَوْله عَقِيب ذَلِكَ : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " الرَّابِعَة , لِأَنَّ الْفَاء لِلتَّعْقِيبِ , وَقَدْ اِقْتَضَى طَلَاقًا مُسْتَقْبِلًا بَعْد مَا تَقَدَّمَ ذِكْره , فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " هُوَ تَرْكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا .
الْخَامِسَة : تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذِهِ الْآيَة " بَاب مَنْ أَجَازَ الطَّلَاق الثَّلَاث بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " وَهَذَا إِشَارَة مِنْهُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّعْدِيد إِنَّمَا هُوَ فُسْحَة لَهُمْ , فَمَنْ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسه لَزِمَهُ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَاتَّفَقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى عَلَى لُزُوم إِيقَاع الطَّلَاق الثَّلَاث فِي كَلِمَة وَاحِدَة , وَهُوَ قَوْل جُمْهُور السَّلَف , وَشَذَّ طَاوُس وَبَعْض أَهْل الظَّاهِر إِلَى أَنَّ طَلَاق الثَّلَاث فِي كَلِمَة وَاحِدَة يَقَع وَاحِدَة , وَيُرْوَى هَذَا عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَالْحَجَّاج بْن أَرْطَاة . وَقِيلَ عَنْهُمَا : لَا يَلْزَم مِنْهُ شَيْء , وَهُوَ قَوْل مُقَاتِل . وَيُحْكَى عَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ لَا يَقَع . وَالْمَشْهُور عَنْ الْحَجَّاج بْن أَرْطَاة وَجُمْهُور السَّلَف وَالْأَئِمَّة أَنَّهُ لَازِم وَاقِع ثَلَاثًا . وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ يُوقِع ثَلَاثًا مُجْتَمِعَة فِي كَلِمَة أَوْ مُتَفَرِّقَة فِي كَلِمَات , فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْهُ شَيْء فَاحْتَجَّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " [ الْبَقَرَة : 228 ] . وَهَذَا يَعُمّ كُلّ مُطَلَّقَة إِلَّا مَا خَصَّ مِنْهُ , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَالَ : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " وَالثَّالِثَة " فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " . وَمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي كَلِمَة فَلَا يَلْزَم , إِذْ هُوَ غَيْر مَذْكُور فِي الْقُرْآن . وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَاقِع وَاحِدَة فَاسْتَدَلَّ بِأَحَادِيث ثَلَاثَة : أَحَدهَا : حَدِيث اِبْن عَبَّاس مِنْ رِوَايَة طَاوُس وَأَبِي الصَّهْبَاء وَعِكْرِمَة . وَثَانِيهَا : حَدِيث اِبْن عُمَر عَلَى رِوَايَة مَنْ رَوَى ( أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا , وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَمَرَهُ بِرَجْعَتِهَا وَاحْتُسِبَتْ لَهُ وَاحِدَة ) . وَثَالِثهَا : ( أَنَّ رُكَانَة طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا فَأَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْعَتِهَا , وَالرَّجْعَة تَقْتَضِي وُقُوع وَاحِدَة ) . وَالْجَوَاب عَنْ الْأَحَادِيث مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيّ أَنَّ سَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِدًا وَعَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار وَمَالِك بْن الْحُوَيْرِث وَمُحَمَّد بْن إِيَاس بْن الْبُكَيْر وَالنُّعْمَان بْن أَبِي عَيَّاش رَوَوْا عَنْ اِبْن عَبَّاس ( فِيمَنْ طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا أَنَّهُ قَدْ عَصَى رَبّه وَبَانَتْ مِنْهُ اِمْرَأَته , وَلَا يَنْكِحهَا إِلَّا بَعْد زَوْج ) , وَفِيمَا رَوَاهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة عَنْ اِبْن عَبَّاس مِمَّا يُوَافِق الْجَمَاعَة مَا يَدُلّ عَلَى وَهْن رِوَايَة طَاوُس وَغَيْره , وَمَا كَانَ اِبْن عَبَّاس لِيُخَالِف الصَّحَابَة إِلَى رَأْي نَفْسه . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَرِوَايَة طَاوُس وَهْمٌ وَغَلَط لَمْ يَعْرُج عَلَيْهَا أَحَد مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار بِالْحِجَازِ وَالشَّام وَالْعِرَاق وَالْمَشْرِق وَالْمَغْرِب , وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ أَبَا الصَّهْبَاء لَا يُعْرَف فِي مَوَالِي اِبْن عَبَّاس . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ : " وَعِنْدِي أَنَّ الرِّوَايَة عَنْ اِبْن طَاوُس بِذَلِكَ صَحِيحَة , فَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْأَئِمَّة : مَعْمَر وَابْن جُرَيْج وَغَيْرهمَا , وَابْن طَاوُس إِمَام . وَالْحَدِيث الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ هُوَ مَا رَوَاهُ اِبْن طَاوُس عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( كَانَ الطَّلَاق عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَة عُمَر بْن الْخَطَّاب طَلَاق الثَّلَاث وَاحِدَة , فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ النَّاس قَدْ اِسْتَعْجَلُوا فِي أَمْر كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاة , فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ ! فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ ) . وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُمْ كَانُوا يُوقِعُونَ طَلْقَة وَاحِدَة بَدَل إِيقَاع النَّاس الْآن ثَلَاث تَطْلِيقَات , وَيَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا التَّأْوِيل أَنَّ عُمَر قَالَ : إِنَّ النَّاس قَدْ اِسْتَعْجَلُوا فِي أَمْر كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاة , فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ أَحْدَثُوا فِي الطَّلَاق اِسْتِعْجَال أَمْر كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاة , فَلَوْ كَانَ حَالهمْ ذَلِكَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ , وَلَا عَابَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ اِسْتَعْجَلُوا فِي أَمْر كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاة . وَتَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا التَّأْوِيل مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس مِنْ غَيْر طَرِيق أَنَّهُ ( أَفْتَى بِلُزُومِ الطَّلَاق الثَّلَاث لِمَنْ أَوْقَعهَا مُجْتَمِعَة ) , فَإِنْ كَانَ هَذَا مَعْنَى حَدِيث اِبْن طَاوُس فَهُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ , وَإِنْ حُمِلَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس عَلَى مَا يَتَأَوَّل فِيهِ مَنْ لَا يَعْبَأ بِقَوْلِهِ فَقَدْ رَجَعَ اِبْن عَبَّاس إِلَى قَوْل الْجَمَاعَة وَانْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاع , وَدَلِيلنَا مِنْ جِهَة الْقِيَاس أَنَّ هَذَا طَلَاق أَوْقَعَهُ مَنْ يَمْلِكهُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمهُ , أَصْل ذَلِكَ إِذَا أَوْقَعَهُ مُفْرَدًا " . قُلْت : مَا تَأَوَّلَهُ الْبَاجِيّ هُوَ الَّذِي ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْكِيَا الطَّبَرِيّ عَنْ عُلَمَاء الْحَدِيث , أَيْ إِنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ طَلْقَة وَاحِدَة هَذَا الَّذِي يُطَلِّقُونَ ثَلَاثًا , أَيْ مَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي كُلّ قُرْء طَلْقَة , وَإِنَّمَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي جَمِيع الْعِدَّة وَاحِدَة إِلَى أَنْ تَبِين وَتَنْقَضِي الْعِدَّة . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب : مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاس كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى طَلْقَة وَاحِدَة , ثُمَّ أَكْثَرُوا أَيَّام عُمَر مِنْ إِيقَاع الثَّلَاث . قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَه بِقَوْلِ الرَّاوِي : إِنَّ النَّاس فِي أَيَّام عُمَر اِسْتَعْجَلُوا الثَّلَاث فَعَجَّلَ عَلَيْهِمْ , مَعْنَاهُ أَلْزَمَهُمْ حُكْمهَا . وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عُمَر فَإِنَّ الدَّارَقُطْنِيّ رَوَى عَنْ أَحْمَد بْن صُبَيْح عَنْ طَرِيف بْن نَاصِح عَنْ مُعَاوِيَة بْن عَمَّار الدُّهْنِيّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْر قَالَ : سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ رَجُل طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِض , فَقَالَ لِي : أَتَعْرِفُ اِبْن عُمَر ؟ قُلْت : نَعَمْ , قَالَ : طَلَّقْت اِمْرَأَتِي ثَلَاثًا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَائِض فَرَدَّهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السُّنَّة . فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : كُلّهمْ مِنْ الشِّيعَة , وَالْمَحْفُوظ أَنَّ اِبْن عُمَر طَلَّقَ اِمْرَأَته وَاحِدَة فِي الْحَيْض . قَالَ عُبَيْد اللَّه : وَكَانَ تَطْلِيقه إِيَّاهَا فِي الْحَيْض وَاحِدَة غَيْر أَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّة . وَكَذَلِكَ قَالَ صَالِح بْن كَيْسَان وَمُوسَى بْن عُقْبَة وَإِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة وَلَيْث بْن سَعْد وَابْن أَبِي ذِئْب وَابْن جُرَيْج وَجَابِر وَإِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم بْن عُقْبَة عَنْ نَافِع : أَنَّ اِبْن عُمَر طَلَّقَ تَطْلِيقَة وَاحِدَة . وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيّ عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ وَيُونُس بْن جُبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَالْحَسَن . وَأَمَّا حَدِيث رُكَانَة فَقِيلَ : إِنَّهُ حَدِيث مُضْطَرِب مُنْقَطِع , لَا يَسْتَنِد مِنْ وَجْه يُحْتَجّ بِهِ , رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث اِبْن جُرَيْج عَنْ بَعْض بَنِي أَبِي رَافِع , وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُحْتَجّ بِهِ , عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ فِيهِ : إِنَّ رُكَانَة بْن عَبْد يَزِيد طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَرْجِعْهَا ) . وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طُرُق عَنْ نَافِع بْن عُجَيْر أَنَّ رُكَانَة بْن عَبْد يَزِيد طَلَّقَ اِمْرَأَته الْبَتَّة فَاسْتَحْلَفَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَادَ بِهَا ؟ فَحَلَفَ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَة , فَرَدَّهَا إِلَيْهِ . فَهَذَا اِضْطِرَاب فِي الِاسْم وَالْفِعْل , وَلَا يُحْتَجّ بِشَيْءٍ مِنْ مِثْل هَذَا . قُلْت : قَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيث مِنْ طُرُق الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه , قَالَ فِي بَعْضهَا : " حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن مِرْدَاس حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيّ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَمْرو بْن السَّرْح وَأَبُو ثَوْر إِبْرَاهِيم بْن خَالِد الْكَلْبِيّ وَآخَرُونَ قَالُوا : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِدْرِيس الشَّافِعِيّ حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن شَافِع عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن السَّائِب عَنْ نَافِع بْن عُجَيْر بْن عَبْد يَزِيد : أَنَّ رُكَانَة بْن عَبْد يَزِيد طَلَّقَ اِمْرَأَته سُهَيْمَة الْمُزَنِيَّة الْبَتَّة , فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , فَقَالَ : وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة ) ؟ فَقَالَ رُكَانَة : وَاَللَّه مَا أَرَدْت بِهَا إِلَّا وَاحِدَة , فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَة فِي زَمَان عُمَر بْن الْخَطَّاب , وَالثَّالِثَة فِي زَمَان عُثْمَان . قَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا حَدِيث صَحِيح . فَاَلَّذِي صَحَّ مِنْ حَدِيث رُكَانَة أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته الْبَتَّة لَا ثَلَاثًا , وَطَلَاق الْبَتَّة قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فَسَقَطَ الِاحْتِجَاج وَالْحَمْد لِلَّهِ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ أَبُو عُمَر : رِوَايَة الشَّافِعِيّ لِحَدِيثِ رُكَانَة عَنْ عَمّه أَتَمّ , وَقَدْ زَادَ زِيَادَة لَا تَرُدّهَا الْأُصُول , فَوَجَبَ قَبُولهَا لِثِقَةِ نَاقِلِيهَا , وَالشَّافِعِيّ وَعَمّه وَجَدّه أَهْل بَيْت رُكَانَة , كُلّهمْ مِنْ بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب بْن عَبْد مَنَاف وَهُمْ أَعْلَم بِالْقِصَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُمْ . [ فَصْل ] ذَكَرَ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مُغِيث الطُّلَيْطِلِيّ هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي وَثَائِقه فَقَالَ : الطَّلَاق يَنْقَسِم عَلَى ضَرْبَيْنِ : طَلَاق سُنَّة , وَطَلَاق بِدْعَة . فَطَلَاق السُّنَّة هُوَ الْوَاقِع عَلَى الْوَجْه الَّذِي نَدَبَ الشَّرْع إِلَيْهِ . وَطَلَاق الْبِدْعَة نَقِيضه , وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقهَا فِي حَيْض أَوْ نِفَاس أَوْ ثَلَاثًا فِي كَلِمَة وَاحِدَة , فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الطَّلَاق . ثُمَّ اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّهُ مُطَلِّق , كَمْ يَلْزَمهُ مِنْ الطَّلَاق , فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود : ( يَلْزَمهُ طَلْقَة وَاحِدَة ) , وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَ : ( قَوْله ثَلَاثًا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّق ثَلَاث مَرَّات وَإِنَّمَا يَجُوز قَوْله فِي ثَلَاث إِذَا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا مَضَى فَيَقُول : طَلَّقْت ثَلَاثًا فَيَكُون مُخْبِرًا عَنْ ثَلَاثَة أَفْعَال كَانَتْ مِنْهُ فِي ثَلَاثَة أَوْقَات , كَرَجُلٍ قَالَ : قَرَأْت أَمْس سُورَة كَذَا ثَلَاث مَرَّات فَذَلِكَ يَصِحّ , وَلَوْ قَرَأَهَا مَرَّة وَاحِدَة فَقَالَ : قَرَأْتهَا ثَلَاث مَرَّات كَانَ كَاذِبًا . وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا يُرَدِّد الْحَلِف كَانَتْ ثَلَاثَة أَيْمَان , وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ فَقَالَ : أَحْلِف بِاَللَّهِ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ حَلَفَ إِلَّا يَمِينًا وَاحِدَة وَالطَّلَاق مِثْله ) . وَقَالَهُ الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف . وَرُوِّينَا ذَلِكَ كُلّه عَنْ اِبْن وَضَّاح , وَبِهِ قَالَ مِنْ شُيُوخ قُرْطُبَة اِبْن زِنْبَاع شَيْخ هَدْي وَمُحَمَّد بْن تَقِيّ بْن مَخْلَد وَمُحَمَّد بْن عَبْد السَّلَام الْحُسَنِيّ فَرِيد وَقْته وَفَقِيه عَصْره وَأَصْبَغ بْن الْحُبَاب وَجَمَاعَة سِوَاهُمْ . وَكَانَ مِنْ حُجَّة اِبْن عَبَّاس أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَّقَ فِي كِتَابه لَفْظ الطَّلَاق فَقَالَ عَزَّ اِسْمه : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " يُرِيد أَكْثَر الطَّلَاق الَّذِي يَكُون بَعْده الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الرَّجْعَة فِي الْعِدَّة . وَمَعْنَى قَوْله : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " يُرِيد تَرْكهَا بِلَا اِرْتِجَاع حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا , وَفِي ذَلِكَ إِحْسَان إِلَيْهَا إِنْ وَقَعَ نَدَم بَيْنهمَا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّه يُحْدِث بَعْد ذَلِكَ أَمْرًا " [ الطَّلَاق : 1 ] يُرِيد النَّدَم عَلَى الْفُرْقَة وَالرَّغْبَة فِي الرَّجْعَة , وَمَوْقِع الثَّلَاث غَيْر حَسَن ; لِأَنَّ فِيهِ تَرْك الْمَنْدُوحَة الَّتِي وَسَّعَ اللَّه بِهَا وَنَبَّهَ عَلَيْهَا , فَذِكْر اللَّه سُبْحَانه الطَّلَاقَ مُفَرَّقًا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا جُمِعَ أَنَّهُ لَفْظ وَاحِد , وَقَدْ يُخَرَّج بِقِيَاسٍ مِنْ غَيْر مَا مَسْأَلَة مِنْ الْمُدَوَّنَة مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ , مِنْ ذَلِكَ قَوْل الْإِنْسَان : مَالِي صَدَقَة فِي الْمَسَاكِين أَنَّ الثُّلُث يُجْزِيه مِنْ ذَلِكَ . وَفِي الْإِشْرَاف لِابْنِ الْمُنْذِر : وَكَانَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَطَاوُس وَأَبُو الشَّعْثَاء وَعَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار يَقُولُونَ : مَنْ طَلَّقَ الْبِكْر ثَلَاثًا فَهِيَ وَاحِدَة . قُلْت : وَرُبَّمَا اِعْتَلُّوا فَقَالُوا : غَيْر الْمَدْخُول بِهَا لَا عِدَّة عَلَيْهَا , فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِق ثَلَاثًا فَقَدْ بَانَتْ بِنَفْسِ فَرَاغه مِنْ قَوْله : أَنْتِ طَالِق , فَيَرِد " ثَلَاثًا " عَلَيْهَا وَهَى بَائِن فَلَا يُؤَثِّر شَيْئًا , وَلِأَنَّ قَوْله : أَنْتِ طَالِق مُسْتَقِلّ بِنَفْسِهِ , فَوَجَبَ أَلَّا تَقِف الْبَيْنُونَة فِي غَيْر الْمَدْخُول بِهَا عَلَى مَا يَرِد بَعْده , أَصْله إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِق .
السَّادِسَة : اِسْتَدَلَّ الشَّافِعِيّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " وَقَوْله : " وَسَرِّحُوهُنَّ " [ الْأَحْزَاب : 49 ] عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظ مِنْ صَرِيح الطَّلَاق . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْمَعْنَى , فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد إِلَى أَنَّ الصَّرِيح مَا تَضَمَّنَ لَفْظ الطَّلَاق عَلَى أَيّ وَجْه , مِثْل أَنْ يَقُول : أَنْتِ طَالِق , أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَة , أَوْ قَدْ طَلَّقْتُك , أَوْ الطَّلَاق لَهُ لَازِم , وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظ الطَّلَاق مِمَّا يُسْتَعْمَل فِيهِ فَهُوَ كِنَايَة , وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن : صَرِيح أَلْفَاظ الطَّلَاق كَثِيرَة , وَبَعْضهَا أَبْيَن مِنْ بَعْض : الطَّلَاق وَالسَّرَاح وَالْفِرَاق وَالْحَرَام وَالْخَلِيَّة وَالْبَرِّيَّة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الصَّرِيح ثَلَاثَة أَلْفَاظ , وَهُوَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآن مِنْ لَفْظ الطَّلَاق وَالسَّرَاح وَالْفِرَاق , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ " [ الطَّلَاق : 2 ] وَقَالَ : " أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ " وَقَالَ : " فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ " [ الطَّلَاق : 1 ] . قُلْت : , وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالطَّلَاق عَلَى ضَرْبَيْنِ : صَرِيح وَكِنَايَة , فَالصَّرِيح مَا ذَكَرْنَا , وَالْكِنَايَة مَا عَدَاهُ , وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الصَّرِيح لَا يَفْتَقِر إِلَى نِيَّة , بَلْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظ يَقَع الطَّلَاق , وَالْكِنَايَة تَفْتَقِر إِلَى نِيَّة , وَالْحُجَّة لِمَنْ قَالَ : إِنَّ الْحَرَام وَالْخَلِيَّة وَالْبَرِّيَّة مِنْ صَرِيح الطَّلَاق كَثْرَة اِسْتِعْمَالهَا فِي الطَّلَاق حَتَّى عُرِفَتْ بِهِ , فَصَارَتْ بَيِّنَة وَاضِحَة فِي إِيقَاع الطَّلَاق , كَالْغَائِطِ الَّذِي وُضِعَ لِلْمُطْمَئِنِّ مِنْ الْأَرْض , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْه الْمَجَاز فِي إِتْيَان قَضَاء الْحَاجَة , فَكَانَ فِيهِ أَبْيَن وَأَظْهَر وَأَشْهَر مِنْهُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ , وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتنَا مِثْله . ثُمَّ إِنَّ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز قَدْ قَالَ : " لَوْ كَانَ الطَّلَاق أَلْفًا مَا أَبْقَتْ الْبَتَّة مِنْهُ شَيْئًا , فَمَنْ قَالَ : الْبَتَّة , فَقَدْ رَمَى الْغَايَة الْقُصْوَى " أَخْرَجَهُ مَالِك . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَلِيّ قَالَ : ( الْخَلِيَّة وَالْبَرِّيَّة وَالْبَتَّة وَالْبَائِن وَالْحَرَام ثَلَاث , لَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره ) . وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنَّ الْبَتَّة ثَلَاث , مِنْ طَرِيق فِيهِ لِين ) , خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَسَيَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات اللَّه هُزُوًا " [ الْبَقَرَة : 231 ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
السَّابِعَة : لَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : قَدْ طَلَّقْتُك , إِنَّهُ مِنْ صَرِيح الطَّلَاق فِي الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْر الْمَدْخُول بِهَا , فَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِق فَهِيَ وَاحِدَة إِلَّا أَنْ يَنْوِي أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ نَوَى اِثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ , فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهِيَ وَاحِدَة تَمْلِك الرَّجْعَة . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِق , وَقَالَ : أَرَدْت مِنْ وَثَاق لَمْ يُقْبَل قَوْله وَلَزِمَهُ , إِلَّا أَنْ يَكُون هُنَاكَ مَا يَدُلّ عَلَى صِدْقه . وَمَنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِق وَاحِدَة , لَا رَجْعَة لِي عَلَيْك فَقَوْله : " لَا رَجْعَة لِي عَلَيْك " بَاطِل , وَلَهُ الرَّجْعَة لِقَوْلِهِ وَاحِدَة ; لِأَنَّ الْوَاحِدَة لَا تَكُون ثَلَاثًا , فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ : " لَا رَجْعَة لِي عَلَيْك " ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاث عِنْد مَالِك . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : قَدْ فَارَقْتُك , أَوْ سَرَّحْتُك , أَوْ أَنْتِ خَلِيَّة , أَوْ بَرِّيَّة , أَوْ بَائِن , أَوْ حَبْلك عَلَى غَارِبك , أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام , أَوْ اِلْحَقِي بِأَهْلِك , أَوْ قَدْ وَهَبْتُك لِأَهْلِك , أَوْ قَدْ خَلَّيْت سَبِيلك , أَوْ لَا سَبِيل لِي عَلَيْك , فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف : هُوَ طَلَاق بَائِن , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَقَالَ : ( إِذَا قَالَ الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ اِسْتَقِلِّي بِأَمْرِك , أَوْ أَمْرك لَك , أَوْ اِلْحَقِي بِأَهْلِك فَقَبِلُوهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة ) . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : قَدْ فَارَقْتُك , أَوْ سَرَّحْتُك , أَنَّهُ مِنْ صَرِيح الطَّلَاق , كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِق . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كِنَايَة يُرْجَع فِيهَا إِلَى نِيَّة قَائِلهَا , وَيُسْأَل مَا أَرَادَ مِنْ الْعَدَد , مَدْخُولًا بِهَا كَانَتْ أَوْ غَيْر مَدْخُول بِهَا . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَأَصَحّ قَوْلَيْهِ فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَل بِهَا أَنَّهَا وَاحِدَة , إِلَّا أَنْ يَنْوِي أَكْثَر , وَقَالَهُ اِبْن الْقَاسِم وَابْن عَبْد الْحَكَم . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : هِيَ ثَلَاث , وَمِثْله خَلَعْتُك , أَوْ لَا مِلْك لِي عَلَيْك . وَأَمَّا سَائِر الْكِنَايَات فَهِيَ ثَلَاث عِنْد مَالِك فِي كُلّ مَنْ دُخِلَ بِهَا لَا يَنْوِي فِيهَا قَائِلهَا , وَيُنْوَى فِي غَيْر الْمَدْخُول بِهَا . فَإِنْ حَلَفَ وَقَالَ أَرَدْت وَاحِدَة كَانَ خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّاب , لِأَنَّهُ لَا يُخَلِّي الْمَرْأَة الَّتِي قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجهَا وَلَا يُبِينهَا وَلَا يُبْرِيهَا إِلَّا ثَلَاث تَطْلِيقَات . وَاَلَّتِي لَمْ يُدْخَل بِهَا يُخَلِّيهَا وَيُبْرِيهَا وَيُبِينهَا الْوَاحِدَة . وَقَدْ رَوَى مَالِك وَطَائِفَة مِنْ أَصْحَابه , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة , أَنَّهُ يَنْوِي فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظ كُلّهَا وَيَلْزَمهُ مِنْ الطَّلَاق مَا نَوَى . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي الْبَتَّة خَاصَّة مِنْ بَيْن سَائِر الْكِنَايَات أَنَّهُ لَا يَنْوِي فِيهَا لَا فِي الْمَدْخُول بِهَا وَلَا فِي غَيْر الْمَدْخُول بِهَا . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَهُ نِيَّته فِي ذَلِكَ كُلّه , فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاث , وَإِنْ نَوَى وَاحِدَة فَهِيَ وَاحِدَة بَائِنَة وَهِيَ أَحَقّ بِنَفْسِهَا . وَإِنْ نَوَى اِثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَة . وَقَالَ زُفَر : إِنْ نَوَى اِثْنَتَيْنِ فَهِيَ اِثْنَتَانِ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : هُوَ فِي ذَلِكَ كُلّه غَيْر مُطَلِّق حَتَّى يَقُول : أَرَدْت بِمَخْرَجِ الْكَلَام مِنِّي طَلَاقًا فَيَكُون مَا نَوَى . فَإِنْ نَوَى دُون الثَّلَاث كَانَ رَجْعِيًّا , وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَة بَائِنَة كَانَتْ رَجْعِيَّة . وَقَالَ إِسْحَاق : كُلّ كَلَام يُشْبِه الطَّلَاق فَهُوَ مَا نَوَى مِنْ الطَّلَاق . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : هِيَ تَطْلِيقَة رَجْعِيَّة وَلَا يُسْأَل عَنْ نِيَّته . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود ( أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقًا بَائِنًا إِلَّا فِي خُلْع أَوْ إِيلَاء ) وَهُوَ الْمَحْفُوظ عَنْهُ , قَالَهُ أَبُو عُبَيْد . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ " بَاب إِذَا قَالَ فَارَقْتُك أَوْ سَرَّحْتُك أَوْ الْبَرِّيَّة أَوْ الْخَلِيَّة أَوْ مَا عَنَى بِهِ الطَّلَاق فَهُوَ عَلَى نِيَّته " . وَهَذَا مِنْهُ إِشَارَة إِلَى قَوْل الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق فِي قَوْله : أَوْ مَا عَنَى بِهِ مِنْ الطَّلَاق " وَالْحُجَّة فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلّ كَلِمَة تَحْتَمِل أَنْ تَكُون طَلَاقًا أَوْ غَيْر طَلَاق فَلَا يَجُوز أَنْ يَلْزَم بِهَا الطَّلَاق إِلَّا أَنْ يَقُول الْمُتَكَلِّم : إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا الطَّلَاق فَيَلْزَمهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ , وَلَا يَجُوز إِبْطَال النِّكَاح لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّته بِيَقِينٍ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي مَعْنَى قَوْل الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ : اِعْتَدِّي , أَوْ قَدْ خَلَّيْتُك , أَوْ حَبْلك عَلَى غَارِبك , فَقَالَ مَرَّة : لَا يَنْوِي فِيهَا وَهِيَ ثَلَاث . وَقَالَ مَرَّة : يَنْوِي فِيهَا كُلّهَا , فِي الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْر الْمَدْخُول بِهَا , وَبِهِ أَقُول . قُلْت : مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُور , وَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ يَنْوِي فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظ وَيُحْكَم عَلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ الصَّحِيح , لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلِيل , وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيح الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرهمْ عَنْ يَزِيد بْن رُكَانَة : أَنَّ رُكَانَة بْن عَبْد يَزِيد طَلَّقَ اِمْرَأَته سُهَيْمَة الْبَتَّة فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , فَقَالَ : ( آللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة ) ؟ فَقَالَ رُكَانَة : وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة , فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ اِبْن مَاجَهْ : سَمِعْت أَبَا الْحَسَن الطَّنَافِسِيّ يَقُول : مَا أَشْرَف هَذَا الْحَدِيث ! وَقَالَ مَالِك فِي الرَّجُل يَقُول لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير : أَرَاهَا الْبَتَّة وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة , فَلَا تَحِلّ إِلَّا بَعْد زَوْج . وَفِي قَوْل الشَّافِعِيّ : إِنْ أَرَادَ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاق , وَمَا أَرَادَ مِنْ عَدَد الطَّلَاق , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ طَلَاقًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ بَعْد أَنْ يَحْلِف . وَقَالَ أَبُو عُمَر : أَصْل هَذَا الْبَاب فِي كُلّ كِنَايَة عَنْ الطَّلَاق , مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ - لِلَّتِي تَزَوَّجَهَا حِين قَالَتْ : أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْك - : ( قَدْ عُذْت بِمُعَاذٍ اِلْحَقِي بِأَهْلِك ) . فَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا . وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك لِامْرَأَتِهِ حِين أَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِزَالِهَا : اِلْحَقِي بِأَهْلِك فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة مُفْتَقِرَة إِلَى النِّيَّة , وَأَنَّهَا لَا يُقْضَى فِيهَا إِلَّا بِمَا يَنْوِي اللَّافِظ بِهَا , وَكَذَلِكَ سَائِر الْكِنَايَات الْمُحْتَمَلَات لِلْفِرَاقِ وَغَيْره . وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَمَّا الْأَلْفَاظ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ أَلْفَاظ الطَّلَاق وَلَا يُكَنَّى بِهَا عَنْ الْفِرَاق , فَأَكْثَر الْعُلَمَاء لَا يُوقِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْهَا طَلَاقًا وَإِنْ قَصَدَهُ الْقَائِل . وَقَالَ مَالِك : كُلّ مَنْ أَرَادَ الطَّلَاق بِأَيِّ لَفْظ كَانَ لَزِمَهُ الطَّلَاق حَتَّى بِقَوْلِهِ كُلِي وَاشْرَبِي وَقُومِي وَاقْعُدِي , وَلَمْ يُتَابِع مَالِكًا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَصْحَابه .
" أَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع ب " لَا يَحِلّ " . وَالْآيَة خِطَاب لِلْأَزْوَاجِ , نُهُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَزْوَاجهمْ شَيْئًا عَلَى وَجْه الْمُضَارَّة , وَهَذَا هُوَ الْخُلْع الَّذِي لَا يَصِحّ إِلَّا بِأَلَّا يَنْفَرِد الرَّجُل بِالضَّرَرِ , وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مَا آتَى الْأَزْوَاج نِسَاءَهُمْ ; لِأَنَّ الْعُرْف بَيْن النَّاس أَنْ يَطْلُب الرَّجُل عِنْد الشِّقَاق وَالْفَسَاد مَا خَرَجَ مِنْ يَده لَهَا صَدَاقًا وَجِهَازًا , فَلِذَلِكَ خُصَّ بِالذِّكْرِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْله " وَلَا يَحِلّ " فَصْل مُعْتَرِض بَيْن قَوْله تَعَالَى : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " وَبَيْن قَوْله : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ أَخْذ الْفِدْيَة عَلَى الطَّلَاق جَائِز . وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْظِير أَخْذ مَا لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُون النُّشُوز وَفَسَاد الْعِشْرَة مِنْ قِبَلِهَا . وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر عَنْ النُّعْمَان أَنَّهُ قَالَ : إِذَا جَاءَ الظُّلْم وَالنُّشُوز مِنْ قِبَله وَخَالَعَتْهُ فَهُوَ جَائِز مَاضٍ وَهُوَ آثِم , لَا يَحِلّ لَهُ مَا صَنَعَ , وَلَا يُجْبَر عَلَى رَدّ مَا أَخَذَهُ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا مِنْ قَوْله خِلَاف ظَاهِر كِتَاب اللَّه , وَخِلَاف الْخَبَر الثَّابِت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَخِلَاف مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عَامَّة أَهْل الْعِلْم مِنْ ذَلِكَ , وَلَا أَحْسَب أَنْ لَوْ قِيلَ لِأَحَدٍ : اِجْهَدْ نَفْسك فِي طَلَب الْخَطَإِ مَا وَجَدَ أَمْرًا أَعْظَم مِنْ أَنْ يَنْطِق الْكِتَاب بِتَحْرِيمِ شَيْء ثُمَّ يُقَابِلهُ مُقَابِل بِالْخِلَافِ نَصًّا , فَيَقُول : بَلْ يَجُوز ذَلِكَ : وَلَا يُجْبَر عَلَى رَدّ مَا أَخَذَ . قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن بَطَّال : وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك مِثْله . وَهَذَا الْقَوْل خِلَاف ظَاهِر كِتَاب اللَّه تَعَالَى , وَخِلَاف حَدِيث اِمْرَأَة ثَابِت , وَسَيَأْتِي .
حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة أَلَّا يَأْخُذ إِلَّا بَعْد الْخَوْف أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه , وَأَكَّدَ التَّحْرِيم بِالْوَعِيدِ لِمَنْ تَعَدَّى الْحَدّ . وَالْمَعْنَى أَنْ يَظُنّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ أَلَّا يُقِيم حَقّ النِّكَاح لِصَاحِبِهِ حَسَب مَا يَجِب عَلَيْهِ فِيهِ لِكَرَاهَةٍ يَعْتَقِدهَا , فَلَا حَرَج عَلَى الْمَرْأَة أَنْ تَفْتَدِي , وَلَا حَرَج عَلَى الزَّوْج أَنْ يَأْخُذ . وَالْخِطَاب لِلزَّوْجَيْنِ . وَالضَّمِير فِي " أَنْ يَخَافَا " لَهُمَا , و " أَلَّا يُقِيمَا " مَفْعُول بِهِ . و " خِفْت " يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُول وَاحِد . ثُمَّ قِيلَ : هَذَا الْخَوْف هُوَ بِمَعْنَى الْعِلْم , أَيْ أَنْ يَعْلَمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه , وَهُوَ مِنْ الْخَوْف الْحَقِيقِيّ , وَهُوَ الْإِشْفَاق مِنْ وُقُوع الْمَكْرُوه , وَهُوَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى الظَّنّ . ثُمَّ قِيلَ : " إِلَّا أَنْ يَخَافَا " اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع , أَيْ لَكِنْ إِنْ كَانَ مِنْهُنَّ نُشُوز فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِي أَخْذ الْفِدْيَة . وَقَرَأَ حَمْزَة " إِلَّا أَنْ يُخَافَا " بِضَمِّ الْيَاء عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله , وَالْفَاعِل مَحْذُوف وَهُوَ الْوُلَاة وَالْحُكَّام , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد . قَالَ : لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَإِنْ خِفْتُمْ " قَالَ : فَجَعَلَ الْخَوْف لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ , وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجَيْنِ لَقَالَ : فَإِنْ خَافَا , وَفِي هَذَا حُجَّة لِمَنْ جَعَلَ الْخُلْع إِلَى السُّلْطَان . قُلْت : وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ . وَقَالَ شُعْبَة : قُلْت لِقَتَادَة : عَمَّنْ أَخَذَ الْحَسَن الْخُلْع إِلَى السُّلْطَان ؟ قَالَ : عَنْ زِيَاد , وَكَانَ وَالِيًا لِعُمَر وَعَلِيّ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مَعْرُوف عَنْ زِيَاد , وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْقَوْل لِأَنَّ الرَّجُل إِذَا خَالَعَ اِمْرَأَته فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يَتَرَاضَيَانِ بِهِ , وَلَا يُجْبِرهُ السُّلْطَان عَلَى ذَلِكَ , وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : هَذَا إِلَى السُّلْطَان . وَقَدْ أُنْكِرَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَرُدَّ , وَمَا عَلِمْت فِي اِخْتِيَاره شَيْئًا أَبْعَد مِنْ هَذَا الْحَرْف ; لِأَنَّهُ لَا يُوجِبهُ الْإِعْرَاب وَلَا اللَّفْظ وَلَا الْمَعْنَى . أَمَّا الْإِعْرَاب فَإِنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَرَأَ " إِلَّا أَنْ يَخَافَا " تَخَافُوا , فَهَذَا فِي الْعَرَبِيَّة إِذَا رُدَّ إِلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله قِيلَ : إِلَّا أَنْ يَخَاف . وَأَمَّا اللَّفْظ فَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظ " يَخَافَا " وَجَبَ أَنْ يُقَال : فَإِنْ خِيفَ . وَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظ " فَإِنْ خِفْتُمْ " وَجَبَ أَنْ يُقَال : إِلَّا أَنْ تَخَافُوا . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَبْعُد أَنْ يُقَال : لَا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا , إِلَّا أَنْ يَخَاف غَيْركُمْ وَلَمْ يَقُلْ جَلَّ وَعَزَّ : فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ مِنْهَا فِدْيَة , فَيَكُون الْخُلْع إِلَى السُّلْطَان . قَالَ الطَّحَاوِيّ : وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن عُمَر جَوَازه دُون السُّلْطَان , وَكَمَا جَازَ الطَّلَاق وَالنِّكَاح دُون السُّلْطَان فَكَذَلِكَ الْخُلْع , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء .
أَيْ عَلَى أَنْ لَا يُقِيمَا .
أَيْ فِيمَا يَجِب عَلَيْهِمَا مِنْ حُسْن الصُّحْبَة وَجَمِيل الْعِشْرَة . وَالْمُخَاطَبَة لِلْحُكَّامِ وَالْمُتَوَسِّطِينَ لِمِثْلِ هَذَا الْأَمْر وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا . وَتَرْك إِقَامَة حُدُود اللَّه هُوَ اِسْتِخْفَاف الْمَرْأَة بِحَقِّ زَوْجهَا , وَسُوء طَاعَتهَا إِيَّاهُ , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمَالِك بْن أَنَس وَجُمْهُور الْفُقَهَاء . وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن وَقَوْم مَعَهُ : إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَة لَا أُطِيع لَك أَمْرًا , وَلَا أَغْتَسِل لَك مِنْ جَنَابَة , وَلَا أَبَرّ لَك قَسَمًا , حَلَّ الْخُلْع . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : " أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه " أَلَّا يُطِيعَا اللَّه , وَذَلِكَ أَنَّ الْمُغَاضَبَة تَدْعُو إِلَى تَرْك الطَّاعَة . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : يَحِلّ الْخُلْع وَالْأَخْذ أَنْ تَقُول الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا : إِنِّي أَكْرَهك وَلَا أُحِبّك , وَنَحْو هَذَا
رَوَى الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَيُّوب عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ اِمْرَأَة ثَابِت بْن قَيْس أَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , ثَابِت بْن قَيْس مَا أَعْتِب عَلَيْهِ فِي خُلُق وَلَا دِين وَلَكِنْ لَا أُطِيقهُ ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَته ) ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ قَتَادَة عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ جَمِيلَة بِنْت سَلُول أَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : وَاَللَّه مَا أَعِيب عَلَى ثَابِت فِي دِين وَلَا خُلُق وَلَكِنِّي أَكْرَه الْكُفْر فِي الْإِسْلَام , لَا أُطِيقهُ بُغْضًا ! فَقَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَته ) ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . فَأَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذ مِنْهَا حَدِيقَته وَلَا يَزْدَاد . فَيُقَال : إِنَّهَا كَانَتْ تُبْغِضهُ أَشَدّ الْبُغْض , وَكَانَ يُحِبّهَا أَشَدّ الْحُبّ , فَفَرَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنهمَا بِطَرِيقِ الْخُلْع , فَكَانَ أَوَّل خُلْع فِي الْإِسْلَام . رَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْ
فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ↓
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَة مَسْأَلَة : الْأُولَى : اِحْتَجَّ بَعْض مَشَايِخ خُرَاسَان مِنْ الْحَنَفِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَة يَلْحَقهَا الطَّلَاق , قَالُوا : فَشَرَعَ اللَّه سُبْحَانه صَرِيح الطَّلَاق بَعْد الْمُفَادَاة بِالطَّلَاقِ ; لِأَنَّ الْفَاء حَرْف تَعْقِيب , فَيَبْعُد أَنْ يَرْجِع إِلَى قَوْله : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " لِأَنَّ الَّذِي تَخَلَّلَ مِنْ الْكَلَام يَمْنَع بِنَاء قَوْله " فَإِنْ طَلَّقَهَا " عَلَى قَوْله " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " بَلْ الْأَقْرَب عَوْده عَلَى مَا يَلِيه كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء وَلَا يَعُود إِلَى مَا تَقَدَّمَهُ إِلَّا بِدَلَالَةٍ , كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " وَرَبَائِبكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُوركُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ " [ النِّسَاء : 23 ] فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيه غَيْر عَائِد عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ حَتَّى لَا يُشْتَرَط الدُّخُول فِي أُمَّهَات النِّسَاء . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الطَّلَاق بَعْد الْخُلْع فِي الْعِدَّة , فَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا خَالَعَ الرَّجُل زَوْجَته ثُمَّ طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّة لَحِقَهَا الطَّلَاق مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّة , كَذَلِكَ قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَشُرَيْح وَطَاوُس وَالنَّخَعِيّ وَالزُّهْرِيّ وَالْحَكَم وَحَمَّاد وَالثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ وَهُوَ ( أَنَّ الطَّلَاق لَا يَلْزَمهَا ) , وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن الزُّبَيْر وَعِكْرِمَة وَالْحَسَن وَجَابِر بْن زَيْد وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر , وَهُوَ قَوْل مَالِك إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : إِنْ اِفْتَدَتْ مِنْهُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقهَا ثَلَاثًا مُتَتَابِعًا نَسَقًا حِين طَلَّقَهَا فَذَلِكَ ثَابِت عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ بَيْن ذَلِكَ صُمَات فَمَا أَتْبَعَهُ بَعْد الصُّمَات فَلَيْسَ بِشَيْءٍ , وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَسَق الْكَلَام بَعْضه عَلَى بَعْض مُتَّصِلًا يُوجِب لَهُ حُكْمًا وَاحِدًا , وَكَذَلِكَ إِذَا اِتَّصَلَ الِاسْتِثْنَاء بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ أَثَّر وَثَبَتَ لَهُ حُكْم الِاسْتِثْنَاء , وَإِذَا اِنْفَصَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّق بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكَلَام .
الثَّانِيَة : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " الطَّلْقَة الثَّالِثَة " فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " . وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ لَا خِلَاف فِيهِ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكْفِي مِنْ النِّكَاح , وَمَا الَّذِي يُبِيح التَّحْلِيل , فَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَمَنْ وَافَقَهُ : مُجَرَّد الْعَقْد كَافٍ . وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن : لَا يَكْفِي مُجَرَّد الْوَطْء حَتَّى يَكُون إِنْزَال . وَذَهَبَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَالْكَافَّة مِنْ الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الْوَطْء كَافٍ فِي ذَلِكَ , وَهُوَ اِلْتِقَاء الْخِتَانَيْنِ الَّذِي يُوجِب الْحَدّ وَالْغُسْل , وَيُفْسِد الصَّوْم وَالْحَجّ وَيُحْصِن الزَّوْجَيْنِ وَيُوجِب كَمَال الصَّدَاق . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : مَا مَرَّتْ بِي فِي الْفِقْه مَسْأَلَة أَعْسَر مِنْهَا , وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أُصُول الْفِقْه أَنَّ الْحُكْم هَلْ يَتَعَلَّق بِأَوَائِل الْأَسْمَاء أَوْ بِأَوَاخِرِهَا ؟ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحُكْم يَتَعَلَّق بِأَوَائِل الْأَسْمَاء لَزِمَنَا أَنْ نَقُول بِقَوْلِ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحُكْم يَتَعَلَّق بِأَوَاخِر الْأَسْمَاء لَزِمَنَا أَنْ نَشْتَرِط الْإِنْزَال مَعَ مَغِيب الْحَشَفَة فِي الْإِحْلَال , لِأَنَّهُ آخِر ذَوْق الْعُسَيْلَة عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَن . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَمَعْنَى ذَوْق الْعُسَيْلَة هُوَ الْوَطْء , وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء إِلَّا سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : أَمَّا النَّاس فَيَقُولُونَ : لَا تَحِلّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يُجَامِعهَا الثَّانِي , وَأَنَا أَقُول : إِذَا تَزَوَّجَهَا زَوَاجًا صَحِيحًا لَا يُرِيد بِذَلِكَ إِحْلَالهَا فَلَا بَأْس أَنْ يَتَزَوَّجهَا الْأَوَّل . وَهَذَا قَوْل لَا نَعْلَم أَحَدًا وَافَقَهُ عَلَيْهِ إِلَّا طَائِفَة مِنْ الْخَوَارِج , وَالسُّنَّة مُسْتَغْنًى بِهَا عَمَّا سِوَاهَا . قُلْت : وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب سَعِيد بْن جُبَيْر , ذَكَرَهُ النَّحَّاس فِي كِتَاب " مَعَانِي الْقُرْآن " لَهُ . قَالَ : وَأَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ النِّكَاح هَاهُنَا الْجِمَاع ; لِأَنَّهُ قَالَ : " زَوْجًا غَيْره " فَقَدْ تَقَدَّمَتْ الزَّوْجِيَّة فَصَارَ النِّكَاح الْجِمَاع , إِلَّا سَعِيد بْن جُبَيْر فَإِنَّهُ قَالَ : النِّكَاح هَاهُنَا التَّزَوُّج الصَّحِيح إِذَا لَمْ يُرِدْ إِحْلَالهَا . قُلْت : وَأَظُنّهُمَا لَمْ يَبْلُغهُمَا حَدِيث الْعُسَيْلَة أَوْ لَمْ يَصِحّ عِنْدهمَا فَأَخَذَا بِظَاهِرِ الْقُرْآن , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " وَاَللَّه أَعْلَم . رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل اِمْرَأَته ثَلَاثًا لَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره وَيَذُوق كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عُسَيْلَة صَاحِبه ) . قَالَ بَعْض عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة : مَنْ عَقَدَ عَلَى مَذْهَب سَعِيد بْن الْمُسَيِّب فَلِلْقَاضِي أَنْ يَفْسَخهُ , وَلَا يُعْتَبَر فِيهِ خِلَافه لِأَنَّهُ خَارِج عَنْ إِجْمَاع الْعُلَمَاء . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيُفْهَم مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( حَتَّى يَذُوق كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عُسَيْلَة صَاحِبه ) اِسْتِوَاؤُهُمَا فِي إِدْرَاك لَذَّة الْجِمَاع , وَهُوَ حُجَّة لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدنَا فِي أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا نَائِمَة أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَمْ تَحِلّ لِمُطَلِّقِهَا ; لِأَنَّهَا لَمْ تُذَقْ الْعُسَيْلَة إِذْ لَمْ تُدْرِكهَا .
الثَّالِثَة : رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : ( لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَة وَالْمُسْتَوْشِمَة وَالْوَاصِلَة وَالْمُسْتَوْصِلَة وَآكِل الرِّبَا وَمُؤَكِّله وَالْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : ( لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ ) . وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْر وَجْه . وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مِنْهُمْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن عَفَّان وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَغَيْرهمْ , وَهُوَ قَوْل الْفُقَهَاء مِنْ التَّابِعِينَ , وَبِهِ يَقُول سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَابْن الْمُبَارَك وَالشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَسَمِعْت الْجَارُود يَذْكُر عَنْ وَكِيع أَنَّهُ قَالَ بِهَذَا , وَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُرْمَى بِهَذَا الْبَاب مِنْ قَوْل أَصْحَاب الرَّأْي . وَقَالَ سُفْيَان : إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَة لِيُحِلّهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى يُزَوِّجهَا بِنِكَاحٍ جَدِيد . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي نِكَاح الْمُحَلِّل , فَقَالَ مَالِك , الْمُحَلِّل لَا يُقِيم عَلَى نِكَاحه حَتَّى يَسْتَقْبِل نِكَاحًا جَدِيدًا , فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْر مِثْلهَا , وَلَا تَحِلّهَا إِصَابَته لِزَوْجِهَا الْأَوَّل , وَسَوَاء عَلِمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلّهَا , وَلَا يَقَرّ عَلَى نِكَاحه وَيُفْسَخ , وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ رُوِيَ عَنْ الثَّوْرِيّ فِي نِكَاح الْخِيَار وَالْمُحَلِّل أَنَّ النِّكَاح جَائِز وَالشَّرْط بَاطِل , وَهُوَ قَوْل اِبْن أَبِي لَيْلَى فِي ذَلِكَ وَفِي نِكَاح الْمُتْعَة . وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ فِي نِكَاح الْمُحَلِّل : بِئْسَ مَا صَنَعَ وَالنِّكَاح جَائِز . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد : النِّكَاح جَائِز إِنْ دَخَلَ بِهَا , وَلَهُ أَنْ يُمْسِكهَا إِنْ شَاءَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة مَرَّة هُوَ وَأَصْحَابه : لَا تَحِلّ لِلْأَوَّلِ إِنْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلّهَا , وَمَرَّة قَالُوا : تَحِلّ لَهُ بِهَذَا النِّكَاح إِذَا جَامَعَهَا وَطَلَّقَهَا . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ نِكَاح هَذَا الزَّوْج صَحِيح , وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُقِيم عَلَيْهِ . وَفِيهِ قَوْل ثَالِث - قَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا قَالَ أَتَزَوَّجك لِأُحِلّك ثُمَّ لَا نِكَاح بَيْننَا بَعْد ذَلِكَ فَهَذَا ضَرْب مِنْ نِكَاح الْمُتْعَة , وَهُوَ فَاسِد لَا يَقَرّ عَلَيْهِ وَيُفْسَخ , وَلَوْ وَطِئَ عَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ تَحْلِيلًا . فَإِنْ تَزَوَّجَهَا تَزَوُّجًا مُطْلَقًا لَمْ يَشْتَرِط وَلَا اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ التَّحْلِيل فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فِي كِتَابه الْقَدِيم : أَحَدهمَا مِثْل قَوْل مَالِك , وَالْآخَر مِثْل قَوْل أَبِي حَنِيفَة . وَلَمْ يَخْتَلِف قَوْله فِي كِتَابه الْجَدِيد الْمِصْرِيّ أَنَّ النِّكَاح صَحِيح إِذَا لَمْ يُشْتَرَط , وَهُوَ قَوْل دَاوُد . قُلْت : وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ التَّحْلِيل قَبْل الْعَقْد صَحَّ النِّكَاح وَأَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ , وَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْعَقْد بَطَلَ النِّكَاح وَلَمْ يُحِلّهَا لِلْأَوَّلِ , قَالَ : وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم : إِذَا هَمَّ أَحَد الثَّلَاثَة بِالتَّحْلِيلِ فَسَدَ النِّكَاح , وَهَذَا تَشْدِيد . وَقَالَ سَالِم وَالْقَاسِم : لَا بَأْس أَنْ يَتَزَوَّجهَا لِيُحِلّهَا إِذَا لَمْ يَعْلَم الزَّوْجَانِ وَهُوَ مَأْجُور , وَبِهِ قَالَ رَبِيعَة وَيَحْيَى بْن سَعِيد , وَقَالَهُ دَاوُد بْن عَلِيّ لَمْ يَظْهَر ذَلِكَ فِي اِشْتِرَاطه فِي حِين الْعَقْد .
الرَّابِعَة : مَدَار جَوَاز نِكَاح التَّحْلِيل عِنْد عُلَمَائِنَا عَلَى الزَّوْج النَّاكِح , وَسَوَاء شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ نَوَاهُ , وَمَتَى كَانَ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَسَدَ نِكَاحه وَلَمْ يُقَرّ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَحْلِلْ وَطْؤُهُ الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا . وَعِلْمُ الزَّوْج الْمُطَلِّق وَجَهْله فِي ذَلِكَ سَوَاء . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ النَّاكِح لَهَا لِذَلِكَ تَزَوَّجَهَا أَنْ يَتَنَزَّه عَنْ مُرَاجَعَتهَا , وَلَا يُحِلّهَا عِنْد مَالِك إِلَّا نِكَاح رَغْبَة لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا , وَلَا يُقْصَد بِهِ التَّحْلِيل , وَيَكُون وَطْؤُهُ لَهَا وَطْئًا مُبَاحًا : لَا تَكُون صَائِمَة وَلَا مُحْرِمَة وَلَا فِي حَيْضَتهَا , وَيَكُون الزَّوْج بَالِغًا مُسْلِمًا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيح وَغَيَّبَ الْحَشَفَة فِي فَرْجهَا فَقَدْ ذَاقَا الْعُسَيْلَة , وَسَوَاء فِي ذَلِكَ قَوِيّ النِّكَاح وَضَعِيفه , وَسَوَاء أَدْخَلَهُ بِيَدِهِ أَمْ بِيَدِهَا , وَكَانَ مِنْ صَبِيّ أَوْ مُرَاهِق أَوْ مَجْبُوب بَقِيَ لَهُ مَا يُغَيِّبهُ كَمَا يُغَيِّب غَيْر الْخَصِيّ , وَسَوَاء أَصَابَهَا الزَّوْج مُحْرِمَة أَوْ صَائِمَة , وَهَذَا كُلّه - عَلَى مَا وَصَفَ الشَّافِعِيّ - قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن بْن صَالِح , وَقَوْل بَعْض أَصْحَاب مَالِك .
الْخَامِسَة : قَالَ اِبْن حَبِيب : وَإِنْ تَزَوَّجَهَا فَإِنْ أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا , وَإِلَّا كَانَ قَدْ اِحْتَسَبَ فِي تَحْلِيلهَا الْأَجْر لَمْ يَجُزْ , لِمَا خَالَطَ نِكَاحه مِنْ نِيَّة التَّحْلِيل , وَلَا تَحِلّ بِذَلِكَ لِلْأَوَّلِ .
السَّادِسَة : وَطْء السَّيِّد لِأَمَتِهِ الَّتِي قَدْ بَتَّ زَوْجهَا طَلَاقهَا لَا يُحِلّهَا , إِذْ لَيْسَ بِزَوْجٍ , رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب , وَهُوَ قَوْل عُبَيْدَة وَمَسْرُوق وَالشَّعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم وَجَابِر بْن زَيْد وَسُلَيْمَان بْن يَسَار وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَأَبِي الزِّنَاد , وَعَلَيْهِ جَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار . وَيُرْوَى عَنْ عُثْمَان وَزَيْد بْن ثَابِت وَالزُّبَيْر خِلَاف ذَلِكَ , وَأَنَّهُ يُحِلّهَا إِذَا غَشِيَهَا سَيِّدهَا غَشَيَانًا لَا يُرِيد بِذَلِكَ مُخَادَعَة وَلَا إِحْلَالًا , وَتَرْجِع إِلَى زَوْجهَا بِخِطْبَةٍ وَصَدَاق . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " وَالسَّيِّد إِنَّمَا تَسَلَّطَ بِمِلْكِ الْيَمِين وَهَذَا وَاضِح .
السَّابِعَة : فِي مُوَطَّإِ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَسُلَيْمَان بْن يَسَار سُئِلَا عَنْ رَجُل زَوَّجَ عَبْدًا لَهُ جَارِيَة لَهُ فَطَلَّقَهَا الْعَبْد الْبَتَّة ثُمَّ وَهَبَهَا سَيِّدهَا لَهُ هَلْ تَحِلّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِين ؟ فَقَالَا : لَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره .
الثَّامِنَة : رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ سَأَلَ اِبْن شِهَاب عَنْ رَجُل كَانَتْ تَحْته أَمَة مَمْلُوكَة فَاشْتَرَاهَا وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا وَاحِدَة , فَقَالَ : تَحِلّ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينه مَا لَمْ يَبِتّ طَلَاقهَا , فَإِنْ بَتَّ طَلَاقهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينه حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره . قَالَ أَبُو عُمَر : وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء وَأَئِمَّة الْفَتْوَى : مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر . وَكَانَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَطَاوُس وَالْحَسَن يَقُولُونَ : ( إِذَا اِشْتَرَاهَا الَّذِي بَتَّ طَلَاقهَا حَلَّتْ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِين ) , عَلَى عُمُوم قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " [ النِّسَاء : 3 ] . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا خَطَأ مِنْ الْقَوْل ; لِأَنَّ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " لَا يُبِيح الْأُمَّهَات وَلَا الْأَخَوَات , فَكَذَلِكَ سَائِر الْمُحَرَّمَات .
التَّاسِعَة : إِذَا طَلَّقَ الْمُسْلِم زَوْجَته الذِّمِّيَّة ثَلَاثًا فَنَكَحَهَا ذِمِّيّ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا , فَقَالَتْ طَائِفَة : الذِّمِّيّ زَوْج لَهَا , وَلَهَا أَنْ تَرْجِع إِلَى الْأَوَّل , هَكَذَا قَالَ الْحَسَن وَالزُّهْرِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو عُبَيْد وَأَصْحَاب الرَّأْي . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَذَلِكَ نَقُول ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " وَالنَّصْرَانِيّ زَوْج . وَقَالَ مَالِك وَرَبِيعَة : لَا يُحِلّهَا .
الْعَاشِرَة : النِّكَاح الْفَاسِد لَا يُحِلّ الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا فِي قَوْل الْجُمْهُور . مَالِك وَالثَّوْرِيّ . وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي عُبَيْد , كُلّهمْ يَقُولُونَ : لَا تَحِلّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّل إِلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيح , وَكَانَ الْحَكَم يَقُول : هُوَ زَوْج . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَيْسَ بِزَوْجٍ ; لِأَنَّ أَحْكَام الْأَزْوَاج فِي الظِّهَار وَالْإِيلَاء وَاللِّعَان غَيْر ثَابِتَة بَيْنهمَا . وَأَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّ الْمَرْأَة إِذَا قَالَتْ لِلزَّوْجِ الْأَوَّل : قَدْ تَزَوَّجْت وَدَخَلَ عَلَيَّ زَوْجِي وَصَدَّقَهَا أَنَّهَا تَحِلّ لِلْأَوَّلِ . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَالْوَرَع أَلَّا يَفْعَل إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسه أَنَّهَا كَذَبَتْهُ .
الْحَادِيَة عَشْرَة : جَاءَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي هَذَا الْبَاب تَغْلِيظ شَدِيد وَهُوَ قَوْله : ( لَا أَوُتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّل لَهُ إِلَّا رَجَمْتهمَا ) . وَقَالَ اِبْن عُمَر : التَّحْلِيل سِفَاح , وَلَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَلَوْ أَقَامَا عِشْرِينَ سَنَة . قَالَ أَبُو عُمَر : لَا يَحْتَمِل قَوْل عُمَر إِلَّا التَّغْلِيظ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ وَضَعَ الْحَدّ عَنْ الْوَاطِئ فَرْجًا حَرَامًا قَدْ جَهِلَ تَحْرِيمه وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ , فَالتَّأْوِيل أَوْلَى بِذَلِكَ وَلَا خِلَاف أَنَّهُ لَا رَجْم عَلَيْهِ .
قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " يُرِيد الزَّوْج الثَّانِي . " فَلَا جُنَاح عَلَيْهِمَا " أَيْ الْمَرْأَة وَالزَّوْج الْأَوَّل , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَلَا خِلَاف فِيهِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الْحُرّ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَته ثَلَاثًا ثُمَّ اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا وَنَكَحَتْ زَوْجًا آخَر وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَارَقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتهَا ثُمَّ نَكَحَتْ زَوْجهَا الْأَوَّل أَنَّهَا تَكُون عِنْده عَلَى ثَلَاث تَطْلِيقَات . وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يُطَلِّق اِمْرَأَته تَطْلِيقَة أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ تَتَزَوَّج غَيْره ثُمَّ تَرْجِع إِلَى زَوْجهَا الْأَوَّل , فَقَالَتْ طَائِفَة : تَكُون عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقهَا , وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَكَابِر مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَأُبَيّ بْن كَعْب وَعِمْرَان بْن حُصَيْن وَأَبُو هُرَيْرَة . وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت وَمُعَاذ بْن جَبَل وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص , وَبِهِ قَالَ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيّ وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَمَالِك وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَأَبُو ثَوْر وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَابْن نَصْر . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ وَهُوَ ( أَنَّ النِّكَاح جَدِيد وَالطَّلَاق جَدِيد ) , هَذَا قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس , وَبِهِ قَالَ عَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَشُرَيْح وَالنُّعْمَان وَيَعْقُوب . وَذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة وَوَكِيع عَنْ الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم قَالَ : كَانَ أَصْحَاب عَبْد اللَّه يَقُولُونَ : أَيَهْدِمُ الزَّوْج الثَّلَاث , وَلَا يَهْدِم الْوَاحِدَة وَالِاثْنَتَيْنِ ! قَالَ : وَحَدَّثَنَا حَفْص عَنْ حَجَّاج عَنْ طَلْحَة عَنْ إِبْرَاهِيم أَنَّ أَصْحَاب عَبْد اللَّه كَانُوا يَقُولُونَ : يَهْدِم الزَّوْج الْوَاحِدَة وَالِاثْنَتَيْنِ كَمَا يَهْدِم الثَّلَاث , إِلَّا عُبَيْدَة فَإِنَّهُ قَالَ : هِيَ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقهَا , ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّل أَقُول . وَفِيهِ قَوْل ثَالِث وَهُوَ : إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا الْأَخِير فَطَلَاق جَدِيد وَنِكَاح جَدِيد , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَى مَا بَقِيَ , هَذَا قَوْل إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ .
شَرْط . قَالَ طَاوُس : إِنْ ظَنَّا أَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يُحْسِن عِشْرَة صَاحِبه . وَقِيلَ : حُدُود اللَّه فَرَائِضه , أَيْ إِذَا عَلِمَا أَنَّهُ يَكُون بَيْنهمَا الصَّلَاح بِالنِّكَاحِ الثَّانِي , فَمَتَى عَلِمَ الزَّوْج أَنَّهُ يَعْجِز عَنْ نَفَقَة زَوْجَته أَوْ صَدَاقهَا أَوْ شَيْء مِنْ حُقُوقهَا الْوَاجِبَة عَلَيْهِ فَلَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجهَا حَتَّى يُبَيِّنْ لَهَا , أَوْ يَعْلَم مِنْ نَفْسه الْقُدْرَة عَلَى أَدَاء حُقُوقهَا , وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ بِهِ عِلَّة تَمْنَعهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاع كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّن , كَيْلَا يَغُرّ الْمَرْأَة مِنْ نَفْسه . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوز أَنْ يَغُرّهَا بِنَسَبٍ يَدَّعِيه وَلَا مَال لَهُ وَلَا صِنَاعَة يَذْكُرهَا وَهُوَ كَاذِب فِيهَا . وَكَذَلِكَ يَجِب عَلَى الْمَرْأَة إِذَا عَلِمَتْ مِنْ نَفْسهَا الْعَجْز عَنْ قِيَامهَا بِحُقُوقِ الزَّوْج , أَوْ كَانَ بِهَا عِلَّة تَمْنَع الِاسْتِمْتَاع مِنْ جُنُون أَوْ جُذَام أَوْ بَرَص أَوْ دَاء فِي الْفَرْج لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَغُرّهُ , وَعَلَيْهَا أَنْ تُبَيِّن لَهُ مَا بِهَا مِنْ ذَلِكَ , كَمَا يَجِب عَلَى بَائِع السِّلْعَة أَنْ يُبَيِّن مَا بِسِلْعَتِهِ مِنْ الْعُيُوب , وَمَتَى وَجَدَ أَحَد الزَّوْجَيْنِ بِصَاحِبِهِ عَيْبًا فَلَهُ الرَّدّ , فَإِنْ كَانَ الْعَيْب بِالرَّجُلِ فَلَهَا الصَّدَاق إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا , وَإِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا فَلَهَا نِصْفه . وَإِنْ كَانَ الْعَيْب بِالْمَرْأَةِ رَدَّهَا الزَّوْج وَأَخَذَ مَا كَانَ أَعْطَاهَا مِنْ الصَّدَاق , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي بَيَاضَة فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَرَصًا فَرَدَّهَا وَقَالَ : ( دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ ) . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي اِمْرَأَة الْعِنِّين إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسهَا ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنهمَا بِالْعُنَّةِ , فَقَالَ مَرَّة : لَهَا جَمِيع الصَّدَاق , وَقَالَ مَرَّة : لَهَا نِصْف الصَّدَاق , وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى اِخْتِلَاف قَوْله : بِمَ تَسْتَحِقّ الصَّدَاق بِالتَّسْلِيمِ أَوْ الدُّخُول ؟ قَوْلَانِ . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا هَلْ عَلَى الزَّوْجَة خِدْمَة أَوْ لَا ؟ فَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : لَيْسَ عَلَى الزَّوْجَة خِدْمَة , وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْد يَتَنَاوَل الِاسْتِمْتَاع لَا الْخِدْمَة , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدِ إِجَارَة وَلَا تَمَلّك رَقَبَة , وَإِنَّمَا هُوَ عَقْد عَلَى الِاسْتِمْتَاع , وَالْمُسْتَحَقّ بِالْعَقْدِ هُوَ الِاسْتِمْتَاع دُون غَيْره , فَلَا تُطَالَب بِأَكْثَر مِنْهُ , أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا " [ النِّسَاء : 34 ] . وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : عَلَيْهَا خِدْمَة مِثْلهَا , فَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَة الْمَحَلّ لِيَسَارِ أُبُوَّة أَوْ تَرَفُّه فَعَلَيْهَا التَّدْبِير لِلْمَنْزِلِ وَأَمْر الْخَادِم , وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَسِّطَة الْحَال فَعَلَيْهَا أَنْ تَفْرِش الْفِرَاش وَنَحْو ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَتْ دُون ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَقُمّ الْبَيْت وَتَطْبُخ وَتَغْسِل . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاء الْكُرْد وَالدَّيْلَم وَالْجَبَل فِي بَلَدهنَّ كُلِّفَتْ مَا يُكَلَّفهُ نِسَاؤُهُمْ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ " [ الْبَقَرَة : 228 ] . وَقَدْ جَرَى عُرْف الْمُسْلِمِينَ فِي بُلْدَانهمْ فِي قَدِيم الْأَمْر وَحَدِيثه بِمَا ذَكَرْنَا , أَلَا تَرَى أَنَّ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه كَانُوا يَتَكَلَّفُونَ الطَّحِين وَالْخَبِيز وَالطَّبْخ وَفَرْش الْفِرَاش وَتَقْرِيب الطَّعَام وَأَشْبَاه ذَلِكَ , وَلَا نَعْلَم اِمْرَأَة اِمْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ , وَلَا يَسُوغ لَهَا الِامْتِنَاع , بَلْ كَانُوا يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ إِذَا قَصَّرْنَ فِي ذَلِكَ , وَيَأْخُذُونَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ , فَلَوْلَا أَنَّهَا مُسْتَحِقَّة لَمَا طَالَبُوهُنَّ ذَلِكَ .
حُدُود اللَّه : مَا مَنَعَ مِنْهُ , وَالْحَدّ مَانِع مِنْ الِاجْتِزَاء عَلَى الْفَوَاحِش , وَأَحَدَّتْ الْمَرْأَة : اِمْتَنَعَتْ مِنْ الزِّينَة , وَرَجُل مَحْدُود : مَمْنُوع مِنْ الْخَيْر , وَالْبَوَّاب حَدَّاد أَيْ مَانِع . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُسْتَوْفًى . وَإِنَّمَا قَالَ : " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " لِأَنَّ الْجَاهِل إِذَا كَثُرَ لَهُ أَمْره وَنَهْيه فَإِنَّهُ لَا يَحْفَظهُ وَلَا يَتَعَاهَدهُ . وَالْعَالِم يَحْفَظ وَيَتَعَاهَد , فَلِهَذَا الْمَعْنَى خَاطَبَ الْعُلَمَاء وَلَمْ يُخَاطِب الْجُهَّال .
الثَّانِيَة : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " الطَّلْقَة الثَّالِثَة " فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " . وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ لَا خِلَاف فِيهِ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكْفِي مِنْ النِّكَاح , وَمَا الَّذِي يُبِيح التَّحْلِيل , فَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَمَنْ وَافَقَهُ : مُجَرَّد الْعَقْد كَافٍ . وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن : لَا يَكْفِي مُجَرَّد الْوَطْء حَتَّى يَكُون إِنْزَال . وَذَهَبَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَالْكَافَّة مِنْ الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الْوَطْء كَافٍ فِي ذَلِكَ , وَهُوَ اِلْتِقَاء الْخِتَانَيْنِ الَّذِي يُوجِب الْحَدّ وَالْغُسْل , وَيُفْسِد الصَّوْم وَالْحَجّ وَيُحْصِن الزَّوْجَيْنِ وَيُوجِب كَمَال الصَّدَاق . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : مَا مَرَّتْ بِي فِي الْفِقْه مَسْأَلَة أَعْسَر مِنْهَا , وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أُصُول الْفِقْه أَنَّ الْحُكْم هَلْ يَتَعَلَّق بِأَوَائِل الْأَسْمَاء أَوْ بِأَوَاخِرِهَا ؟ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحُكْم يَتَعَلَّق بِأَوَائِل الْأَسْمَاء لَزِمَنَا أَنْ نَقُول بِقَوْلِ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحُكْم يَتَعَلَّق بِأَوَاخِر الْأَسْمَاء لَزِمَنَا أَنْ نَشْتَرِط الْإِنْزَال مَعَ مَغِيب الْحَشَفَة فِي الْإِحْلَال , لِأَنَّهُ آخِر ذَوْق الْعُسَيْلَة عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَن . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَمَعْنَى ذَوْق الْعُسَيْلَة هُوَ الْوَطْء , وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء إِلَّا سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : أَمَّا النَّاس فَيَقُولُونَ : لَا تَحِلّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يُجَامِعهَا الثَّانِي , وَأَنَا أَقُول : إِذَا تَزَوَّجَهَا زَوَاجًا صَحِيحًا لَا يُرِيد بِذَلِكَ إِحْلَالهَا فَلَا بَأْس أَنْ يَتَزَوَّجهَا الْأَوَّل . وَهَذَا قَوْل لَا نَعْلَم أَحَدًا وَافَقَهُ عَلَيْهِ إِلَّا طَائِفَة مِنْ الْخَوَارِج , وَالسُّنَّة مُسْتَغْنًى بِهَا عَمَّا سِوَاهَا . قُلْت : وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب سَعِيد بْن جُبَيْر , ذَكَرَهُ النَّحَّاس فِي كِتَاب " مَعَانِي الْقُرْآن " لَهُ . قَالَ : وَأَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ النِّكَاح هَاهُنَا الْجِمَاع ; لِأَنَّهُ قَالَ : " زَوْجًا غَيْره " فَقَدْ تَقَدَّمَتْ الزَّوْجِيَّة فَصَارَ النِّكَاح الْجِمَاع , إِلَّا سَعِيد بْن جُبَيْر فَإِنَّهُ قَالَ : النِّكَاح هَاهُنَا التَّزَوُّج الصَّحِيح إِذَا لَمْ يُرِدْ إِحْلَالهَا . قُلْت : وَأَظُنّهُمَا لَمْ يَبْلُغهُمَا حَدِيث الْعُسَيْلَة أَوْ لَمْ يَصِحّ عِنْدهمَا فَأَخَذَا بِظَاهِرِ الْقُرْآن , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " وَاَللَّه أَعْلَم . رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل اِمْرَأَته ثَلَاثًا لَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره وَيَذُوق كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عُسَيْلَة صَاحِبه ) . قَالَ بَعْض عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة : مَنْ عَقَدَ عَلَى مَذْهَب سَعِيد بْن الْمُسَيِّب فَلِلْقَاضِي أَنْ يَفْسَخهُ , وَلَا يُعْتَبَر فِيهِ خِلَافه لِأَنَّهُ خَارِج عَنْ إِجْمَاع الْعُلَمَاء . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيُفْهَم مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( حَتَّى يَذُوق كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عُسَيْلَة صَاحِبه ) اِسْتِوَاؤُهُمَا فِي إِدْرَاك لَذَّة الْجِمَاع , وَهُوَ حُجَّة لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدنَا فِي أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا نَائِمَة أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَمْ تَحِلّ لِمُطَلِّقِهَا ; لِأَنَّهَا لَمْ تُذَقْ الْعُسَيْلَة إِذْ لَمْ تُدْرِكهَا .
الثَّالِثَة : رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : ( لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَة وَالْمُسْتَوْشِمَة وَالْوَاصِلَة وَالْمُسْتَوْصِلَة وَآكِل الرِّبَا وَمُؤَكِّله وَالْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : ( لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ ) . وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْر وَجْه . وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مِنْهُمْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن عَفَّان وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَغَيْرهمْ , وَهُوَ قَوْل الْفُقَهَاء مِنْ التَّابِعِينَ , وَبِهِ يَقُول سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَابْن الْمُبَارَك وَالشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَسَمِعْت الْجَارُود يَذْكُر عَنْ وَكِيع أَنَّهُ قَالَ بِهَذَا , وَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُرْمَى بِهَذَا الْبَاب مِنْ قَوْل أَصْحَاب الرَّأْي . وَقَالَ سُفْيَان : إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَة لِيُحِلّهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى يُزَوِّجهَا بِنِكَاحٍ جَدِيد . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي نِكَاح الْمُحَلِّل , فَقَالَ مَالِك , الْمُحَلِّل لَا يُقِيم عَلَى نِكَاحه حَتَّى يَسْتَقْبِل نِكَاحًا جَدِيدًا , فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْر مِثْلهَا , وَلَا تَحِلّهَا إِصَابَته لِزَوْجِهَا الْأَوَّل , وَسَوَاء عَلِمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلّهَا , وَلَا يَقَرّ عَلَى نِكَاحه وَيُفْسَخ , وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ رُوِيَ عَنْ الثَّوْرِيّ فِي نِكَاح الْخِيَار وَالْمُحَلِّل أَنَّ النِّكَاح جَائِز وَالشَّرْط بَاطِل , وَهُوَ قَوْل اِبْن أَبِي لَيْلَى فِي ذَلِكَ وَفِي نِكَاح الْمُتْعَة . وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ فِي نِكَاح الْمُحَلِّل : بِئْسَ مَا صَنَعَ وَالنِّكَاح جَائِز . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد : النِّكَاح جَائِز إِنْ دَخَلَ بِهَا , وَلَهُ أَنْ يُمْسِكهَا إِنْ شَاءَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة مَرَّة هُوَ وَأَصْحَابه : لَا تَحِلّ لِلْأَوَّلِ إِنْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلّهَا , وَمَرَّة قَالُوا : تَحِلّ لَهُ بِهَذَا النِّكَاح إِذَا جَامَعَهَا وَطَلَّقَهَا . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ نِكَاح هَذَا الزَّوْج صَحِيح , وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُقِيم عَلَيْهِ . وَفِيهِ قَوْل ثَالِث - قَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا قَالَ أَتَزَوَّجك لِأُحِلّك ثُمَّ لَا نِكَاح بَيْننَا بَعْد ذَلِكَ فَهَذَا ضَرْب مِنْ نِكَاح الْمُتْعَة , وَهُوَ فَاسِد لَا يَقَرّ عَلَيْهِ وَيُفْسَخ , وَلَوْ وَطِئَ عَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ تَحْلِيلًا . فَإِنْ تَزَوَّجَهَا تَزَوُّجًا مُطْلَقًا لَمْ يَشْتَرِط وَلَا اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ التَّحْلِيل فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فِي كِتَابه الْقَدِيم : أَحَدهمَا مِثْل قَوْل مَالِك , وَالْآخَر مِثْل قَوْل أَبِي حَنِيفَة . وَلَمْ يَخْتَلِف قَوْله فِي كِتَابه الْجَدِيد الْمِصْرِيّ أَنَّ النِّكَاح صَحِيح إِذَا لَمْ يُشْتَرَط , وَهُوَ قَوْل دَاوُد . قُلْت : وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ التَّحْلِيل قَبْل الْعَقْد صَحَّ النِّكَاح وَأَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ , وَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْعَقْد بَطَلَ النِّكَاح وَلَمْ يُحِلّهَا لِلْأَوَّلِ , قَالَ : وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم : إِذَا هَمَّ أَحَد الثَّلَاثَة بِالتَّحْلِيلِ فَسَدَ النِّكَاح , وَهَذَا تَشْدِيد . وَقَالَ سَالِم وَالْقَاسِم : لَا بَأْس أَنْ يَتَزَوَّجهَا لِيُحِلّهَا إِذَا لَمْ يَعْلَم الزَّوْجَانِ وَهُوَ مَأْجُور , وَبِهِ قَالَ رَبِيعَة وَيَحْيَى بْن سَعِيد , وَقَالَهُ دَاوُد بْن عَلِيّ لَمْ يَظْهَر ذَلِكَ فِي اِشْتِرَاطه فِي حِين الْعَقْد .
الرَّابِعَة : مَدَار جَوَاز نِكَاح التَّحْلِيل عِنْد عُلَمَائِنَا عَلَى الزَّوْج النَّاكِح , وَسَوَاء شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ نَوَاهُ , وَمَتَى كَانَ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَسَدَ نِكَاحه وَلَمْ يُقَرّ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَحْلِلْ وَطْؤُهُ الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا . وَعِلْمُ الزَّوْج الْمُطَلِّق وَجَهْله فِي ذَلِكَ سَوَاء . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ النَّاكِح لَهَا لِذَلِكَ تَزَوَّجَهَا أَنْ يَتَنَزَّه عَنْ مُرَاجَعَتهَا , وَلَا يُحِلّهَا عِنْد مَالِك إِلَّا نِكَاح رَغْبَة لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا , وَلَا يُقْصَد بِهِ التَّحْلِيل , وَيَكُون وَطْؤُهُ لَهَا وَطْئًا مُبَاحًا : لَا تَكُون صَائِمَة وَلَا مُحْرِمَة وَلَا فِي حَيْضَتهَا , وَيَكُون الزَّوْج بَالِغًا مُسْلِمًا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيح وَغَيَّبَ الْحَشَفَة فِي فَرْجهَا فَقَدْ ذَاقَا الْعُسَيْلَة , وَسَوَاء فِي ذَلِكَ قَوِيّ النِّكَاح وَضَعِيفه , وَسَوَاء أَدْخَلَهُ بِيَدِهِ أَمْ بِيَدِهَا , وَكَانَ مِنْ صَبِيّ أَوْ مُرَاهِق أَوْ مَجْبُوب بَقِيَ لَهُ مَا يُغَيِّبهُ كَمَا يُغَيِّب غَيْر الْخَصِيّ , وَسَوَاء أَصَابَهَا الزَّوْج مُحْرِمَة أَوْ صَائِمَة , وَهَذَا كُلّه - عَلَى مَا وَصَفَ الشَّافِعِيّ - قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن بْن صَالِح , وَقَوْل بَعْض أَصْحَاب مَالِك .
الْخَامِسَة : قَالَ اِبْن حَبِيب : وَإِنْ تَزَوَّجَهَا فَإِنْ أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا , وَإِلَّا كَانَ قَدْ اِحْتَسَبَ فِي تَحْلِيلهَا الْأَجْر لَمْ يَجُزْ , لِمَا خَالَطَ نِكَاحه مِنْ نِيَّة التَّحْلِيل , وَلَا تَحِلّ بِذَلِكَ لِلْأَوَّلِ .
السَّادِسَة : وَطْء السَّيِّد لِأَمَتِهِ الَّتِي قَدْ بَتَّ زَوْجهَا طَلَاقهَا لَا يُحِلّهَا , إِذْ لَيْسَ بِزَوْجٍ , رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب , وَهُوَ قَوْل عُبَيْدَة وَمَسْرُوق وَالشَّعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم وَجَابِر بْن زَيْد وَسُلَيْمَان بْن يَسَار وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَأَبِي الزِّنَاد , وَعَلَيْهِ جَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار . وَيُرْوَى عَنْ عُثْمَان وَزَيْد بْن ثَابِت وَالزُّبَيْر خِلَاف ذَلِكَ , وَأَنَّهُ يُحِلّهَا إِذَا غَشِيَهَا سَيِّدهَا غَشَيَانًا لَا يُرِيد بِذَلِكَ مُخَادَعَة وَلَا إِحْلَالًا , وَتَرْجِع إِلَى زَوْجهَا بِخِطْبَةٍ وَصَدَاق . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " وَالسَّيِّد إِنَّمَا تَسَلَّطَ بِمِلْكِ الْيَمِين وَهَذَا وَاضِح .
السَّابِعَة : فِي مُوَطَّإِ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَسُلَيْمَان بْن يَسَار سُئِلَا عَنْ رَجُل زَوَّجَ عَبْدًا لَهُ جَارِيَة لَهُ فَطَلَّقَهَا الْعَبْد الْبَتَّة ثُمَّ وَهَبَهَا سَيِّدهَا لَهُ هَلْ تَحِلّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِين ؟ فَقَالَا : لَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره .
الثَّامِنَة : رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ سَأَلَ اِبْن شِهَاب عَنْ رَجُل كَانَتْ تَحْته أَمَة مَمْلُوكَة فَاشْتَرَاهَا وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا وَاحِدَة , فَقَالَ : تَحِلّ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينه مَا لَمْ يَبِتّ طَلَاقهَا , فَإِنْ بَتَّ طَلَاقهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينه حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره . قَالَ أَبُو عُمَر : وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء وَأَئِمَّة الْفَتْوَى : مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر . وَكَانَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَطَاوُس وَالْحَسَن يَقُولُونَ : ( إِذَا اِشْتَرَاهَا الَّذِي بَتَّ طَلَاقهَا حَلَّتْ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِين ) , عَلَى عُمُوم قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " [ النِّسَاء : 3 ] . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا خَطَأ مِنْ الْقَوْل ; لِأَنَّ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " لَا يُبِيح الْأُمَّهَات وَلَا الْأَخَوَات , فَكَذَلِكَ سَائِر الْمُحَرَّمَات .
التَّاسِعَة : إِذَا طَلَّقَ الْمُسْلِم زَوْجَته الذِّمِّيَّة ثَلَاثًا فَنَكَحَهَا ذِمِّيّ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا , فَقَالَتْ طَائِفَة : الذِّمِّيّ زَوْج لَهَا , وَلَهَا أَنْ تَرْجِع إِلَى الْأَوَّل , هَكَذَا قَالَ الْحَسَن وَالزُّهْرِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو عُبَيْد وَأَصْحَاب الرَّأْي . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَذَلِكَ نَقُول ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " وَالنَّصْرَانِيّ زَوْج . وَقَالَ مَالِك وَرَبِيعَة : لَا يُحِلّهَا .
الْعَاشِرَة : النِّكَاح الْفَاسِد لَا يُحِلّ الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا فِي قَوْل الْجُمْهُور . مَالِك وَالثَّوْرِيّ . وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي عُبَيْد , كُلّهمْ يَقُولُونَ : لَا تَحِلّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّل إِلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيح , وَكَانَ الْحَكَم يَقُول : هُوَ زَوْج . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَيْسَ بِزَوْجٍ ; لِأَنَّ أَحْكَام الْأَزْوَاج فِي الظِّهَار وَالْإِيلَاء وَاللِّعَان غَيْر ثَابِتَة بَيْنهمَا . وَأَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّ الْمَرْأَة إِذَا قَالَتْ لِلزَّوْجِ الْأَوَّل : قَدْ تَزَوَّجْت وَدَخَلَ عَلَيَّ زَوْجِي وَصَدَّقَهَا أَنَّهَا تَحِلّ لِلْأَوَّلِ . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَالْوَرَع أَلَّا يَفْعَل إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسه أَنَّهَا كَذَبَتْهُ .
الْحَادِيَة عَشْرَة : جَاءَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي هَذَا الْبَاب تَغْلِيظ شَدِيد وَهُوَ قَوْله : ( لَا أَوُتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّل لَهُ إِلَّا رَجَمْتهمَا ) . وَقَالَ اِبْن عُمَر : التَّحْلِيل سِفَاح , وَلَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَلَوْ أَقَامَا عِشْرِينَ سَنَة . قَالَ أَبُو عُمَر : لَا يَحْتَمِل قَوْل عُمَر إِلَّا التَّغْلِيظ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ وَضَعَ الْحَدّ عَنْ الْوَاطِئ فَرْجًا حَرَامًا قَدْ جَهِلَ تَحْرِيمه وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ , فَالتَّأْوِيل أَوْلَى بِذَلِكَ وَلَا خِلَاف أَنَّهُ لَا رَجْم عَلَيْهِ .
قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " يُرِيد الزَّوْج الثَّانِي . " فَلَا جُنَاح عَلَيْهِمَا " أَيْ الْمَرْأَة وَالزَّوْج الْأَوَّل , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَلَا خِلَاف فِيهِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الْحُرّ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَته ثَلَاثًا ثُمَّ اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا وَنَكَحَتْ زَوْجًا آخَر وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَارَقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتهَا ثُمَّ نَكَحَتْ زَوْجهَا الْأَوَّل أَنَّهَا تَكُون عِنْده عَلَى ثَلَاث تَطْلِيقَات . وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يُطَلِّق اِمْرَأَته تَطْلِيقَة أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ تَتَزَوَّج غَيْره ثُمَّ تَرْجِع إِلَى زَوْجهَا الْأَوَّل , فَقَالَتْ طَائِفَة : تَكُون عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقهَا , وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَكَابِر مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَأُبَيّ بْن كَعْب وَعِمْرَان بْن حُصَيْن وَأَبُو هُرَيْرَة . وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت وَمُعَاذ بْن جَبَل وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص , وَبِهِ قَالَ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيّ وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَمَالِك وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَأَبُو ثَوْر وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَابْن نَصْر . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ وَهُوَ ( أَنَّ النِّكَاح جَدِيد وَالطَّلَاق جَدِيد ) , هَذَا قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس , وَبِهِ قَالَ عَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَشُرَيْح وَالنُّعْمَان وَيَعْقُوب . وَذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة وَوَكِيع عَنْ الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم قَالَ : كَانَ أَصْحَاب عَبْد اللَّه يَقُولُونَ : أَيَهْدِمُ الزَّوْج الثَّلَاث , وَلَا يَهْدِم الْوَاحِدَة وَالِاثْنَتَيْنِ ! قَالَ : وَحَدَّثَنَا حَفْص عَنْ حَجَّاج عَنْ طَلْحَة عَنْ إِبْرَاهِيم أَنَّ أَصْحَاب عَبْد اللَّه كَانُوا يَقُولُونَ : يَهْدِم الزَّوْج الْوَاحِدَة وَالِاثْنَتَيْنِ كَمَا يَهْدِم الثَّلَاث , إِلَّا عُبَيْدَة فَإِنَّهُ قَالَ : هِيَ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقهَا , ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّل أَقُول . وَفِيهِ قَوْل ثَالِث وَهُوَ : إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا الْأَخِير فَطَلَاق جَدِيد وَنِكَاح جَدِيد , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَى مَا بَقِيَ , هَذَا قَوْل إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ .
شَرْط . قَالَ طَاوُس : إِنْ ظَنَّا أَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يُحْسِن عِشْرَة صَاحِبه . وَقِيلَ : حُدُود اللَّه فَرَائِضه , أَيْ إِذَا عَلِمَا أَنَّهُ يَكُون بَيْنهمَا الصَّلَاح بِالنِّكَاحِ الثَّانِي , فَمَتَى عَلِمَ الزَّوْج أَنَّهُ يَعْجِز عَنْ نَفَقَة زَوْجَته أَوْ صَدَاقهَا أَوْ شَيْء مِنْ حُقُوقهَا الْوَاجِبَة عَلَيْهِ فَلَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجهَا حَتَّى يُبَيِّنْ لَهَا , أَوْ يَعْلَم مِنْ نَفْسه الْقُدْرَة عَلَى أَدَاء حُقُوقهَا , وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ بِهِ عِلَّة تَمْنَعهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاع كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّن , كَيْلَا يَغُرّ الْمَرْأَة مِنْ نَفْسه . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوز أَنْ يَغُرّهَا بِنَسَبٍ يَدَّعِيه وَلَا مَال لَهُ وَلَا صِنَاعَة يَذْكُرهَا وَهُوَ كَاذِب فِيهَا . وَكَذَلِكَ يَجِب عَلَى الْمَرْأَة إِذَا عَلِمَتْ مِنْ نَفْسهَا الْعَجْز عَنْ قِيَامهَا بِحُقُوقِ الزَّوْج , أَوْ كَانَ بِهَا عِلَّة تَمْنَع الِاسْتِمْتَاع مِنْ جُنُون أَوْ جُذَام أَوْ بَرَص أَوْ دَاء فِي الْفَرْج لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَغُرّهُ , وَعَلَيْهَا أَنْ تُبَيِّن لَهُ مَا بِهَا مِنْ ذَلِكَ , كَمَا يَجِب عَلَى بَائِع السِّلْعَة أَنْ يُبَيِّن مَا بِسِلْعَتِهِ مِنْ الْعُيُوب , وَمَتَى وَجَدَ أَحَد الزَّوْجَيْنِ بِصَاحِبِهِ عَيْبًا فَلَهُ الرَّدّ , فَإِنْ كَانَ الْعَيْب بِالرَّجُلِ فَلَهَا الصَّدَاق إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا , وَإِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا فَلَهَا نِصْفه . وَإِنْ كَانَ الْعَيْب بِالْمَرْأَةِ رَدَّهَا الزَّوْج وَأَخَذَ مَا كَانَ أَعْطَاهَا مِنْ الصَّدَاق , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي بَيَاضَة فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَرَصًا فَرَدَّهَا وَقَالَ : ( دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ ) . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي اِمْرَأَة الْعِنِّين إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسهَا ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنهمَا بِالْعُنَّةِ , فَقَالَ مَرَّة : لَهَا جَمِيع الصَّدَاق , وَقَالَ مَرَّة : لَهَا نِصْف الصَّدَاق , وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى اِخْتِلَاف قَوْله : بِمَ تَسْتَحِقّ الصَّدَاق بِالتَّسْلِيمِ أَوْ الدُّخُول ؟ قَوْلَانِ . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا هَلْ عَلَى الزَّوْجَة خِدْمَة أَوْ لَا ؟ فَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : لَيْسَ عَلَى الزَّوْجَة خِدْمَة , وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْد يَتَنَاوَل الِاسْتِمْتَاع لَا الْخِدْمَة , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدِ إِجَارَة وَلَا تَمَلّك رَقَبَة , وَإِنَّمَا هُوَ عَقْد عَلَى الِاسْتِمْتَاع , وَالْمُسْتَحَقّ بِالْعَقْدِ هُوَ الِاسْتِمْتَاع دُون غَيْره , فَلَا تُطَالَب بِأَكْثَر مِنْهُ , أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا " [ النِّسَاء : 34 ] . وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : عَلَيْهَا خِدْمَة مِثْلهَا , فَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَة الْمَحَلّ لِيَسَارِ أُبُوَّة أَوْ تَرَفُّه فَعَلَيْهَا التَّدْبِير لِلْمَنْزِلِ وَأَمْر الْخَادِم , وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَسِّطَة الْحَال فَعَلَيْهَا أَنْ تَفْرِش الْفِرَاش وَنَحْو ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَتْ دُون ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَقُمّ الْبَيْت وَتَطْبُخ وَتَغْسِل . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاء الْكُرْد وَالدَّيْلَم وَالْجَبَل فِي بَلَدهنَّ كُلِّفَتْ مَا يُكَلَّفهُ نِسَاؤُهُمْ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ " [ الْبَقَرَة : 228 ] . وَقَدْ جَرَى عُرْف الْمُسْلِمِينَ فِي بُلْدَانهمْ فِي قَدِيم الْأَمْر وَحَدِيثه بِمَا ذَكَرْنَا , أَلَا تَرَى أَنَّ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه كَانُوا يَتَكَلَّفُونَ الطَّحِين وَالْخَبِيز وَالطَّبْخ وَفَرْش الْفِرَاش وَتَقْرِيب الطَّعَام وَأَشْبَاه ذَلِكَ , وَلَا نَعْلَم اِمْرَأَة اِمْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ , وَلَا يَسُوغ لَهَا الِامْتِنَاع , بَلْ كَانُوا يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ إِذَا قَصَّرْنَ فِي ذَلِكَ , وَيَأْخُذُونَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ , فَلَوْلَا أَنَّهَا مُسْتَحِقَّة لَمَا طَالَبُوهُنَّ ذَلِكَ .
حُدُود اللَّه : مَا مَنَعَ مِنْهُ , وَالْحَدّ مَانِع مِنْ الِاجْتِزَاء عَلَى الْفَوَاحِش , وَأَحَدَّتْ الْمَرْأَة : اِمْتَنَعَتْ مِنْ الزِّينَة , وَرَجُل مَحْدُود : مَمْنُوع مِنْ الْخَيْر , وَالْبَوَّاب حَدَّاد أَيْ مَانِع . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُسْتَوْفًى . وَإِنَّمَا قَالَ : " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " لِأَنَّ الْجَاهِل إِذَا كَثُرَ لَهُ أَمْره وَنَهْيه فَإِنَّهُ لَا يَحْفَظهُ وَلَا يَتَعَاهَدهُ . وَالْعَالِم يَحْفَظ وَيَتَعَاهَد , فَلِهَذَا الْمَعْنَى خَاطَبَ الْعُلَمَاء وَلَمْ يُخَاطِب الْجُهَّال .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ↓
مَعْنَى " بَلَغْنَ " قَارَبْنَ , بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْعُلَمَاء , وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يُضْطَرّ إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ بَعْد بُلُوغ الْأَجَل لَا خِيَار لَهُ فِي الْإِمْسَاك , وَهُوَ فِي الْآيَة الَّتِي بَعْدهَا بِمَعْنَى التَّنَاهِي ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ , فَهُوَ حَقِيقَة فِي الثَّانِيَة مَجَاز فِي الْأُولَى .
الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْقِيَام بِمَا يَجِب لَهَا مِنْ حَقّ عَلَى زَوْجهَا , وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّ مِنْ الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ أَنَّ الزَّوْج إِذَا لَمْ يَجِد مَا يُنْفِق عَلَى الزَّوْجَة أَنْ يُطَلِّقهَا , فَإِنْ لَمْ يَفْعَل خَرَجَ عَنْ حَدّ الْمَعْرُوف , فَيُطَلِّق عَلَيْهِ الْحَاكِم مِنْ أَجْل الضَّرَر اللَّاحِق لَهَا مِنْ بَقَائِهَا عِنْد مَنْ لَا يَقْدِر عَلَى نَفَقَتهَا , وَالْجُوع لَا صَبْر عَلَيْهِ , وَبِهَذَا قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد وَيَحْيَى الْقَطَّان وَعَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ , وَقَالَهُ مِنْ الصَّحَابَة عُمَر وَعَلِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة , وَمِنْ التَّابِعِينَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَقَالَ : إِنَّ ذَلِكَ سُنَّة . وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يُفَرَّق بَيْنهمَا , وَيَلْزَمهَا الصَّبْر عَلَيْهِ , وَتَتَعَلَّق النَّفَقَة بِذِمَّتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِم , وَهَذَا قَوْل عَطَاء وَالزُّهْرِيّ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيّ , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَة إِلَى مَيْسَرَة " [ الْبَقَرَة : 280 ] وَقَالَ : " وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ " [ النُّور : 32 ] الْآيَة , فَنَدَبَ تَعَالَى إِلَى إِنْكَاح الْفَقِير , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْفَقْر سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ , وَهُوَ مَنْدُوب مَعَهُ إِلَى النِّكَاح . وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاح بَيْن الزَّوْجَيْنِ قَدْ اِنْعَقَدَ بِإِجْمَاعٍ فَلَا يُفَرَّق بَيْنهمَا إِلَّا بِإِجْمَاعٍ مِثْله , أَوْ بِسُنَّةٍ عَنْ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مُعَارِض لَهَا . وَالْحُجَّة لِلْأَوَّلِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ : ( تَقُول الْمَرْأَة إِمَّا أَنْ تُطْعِمنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقنِي ) فَهَذَا نَصّ فِي مَوْضِع الْخِلَاف . وَالْفُرْقَة بِالْإِعْسَارِ عِنْدنَا طَلْقَة رَجْعِيَّة خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْله : إِنَّهَا طَلْقَة بَائِنَة ; لِأَنَّ هَذِهِ فُرْقَة بَعْد الْبِنَاء لَمْ يُسْتَكْمَل بِهَا عَدَد الطَّلَاق وَلَا كَانَتْ لِعِوَضٍ وَلَا لِضَرَرٍ بِالزَّوْجِ فَكَانَتْ رَجْعِيَّة , أَصْله طَلَاق الْمُولِي .
يَعْنِي فَطَلِّقُوهُنَّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
رَوَى مَالِك عَنْ ثَوْر بْن زَيْد الدِّيلِيّ : أَنَّ الرَّجُل كَانَ يُطَلِّق اِمْرَأَته ثُمَّ يُرَاجِعهَا وَلَا حَاجَة لَهُ بِهَا وَلَا يُرِيد إِمْسَاكهَا , كَيْمَا يُطَوِّل بِذَلِكَ الْعِدَّة عَلَيْهَا وَلِيُضَارّهَا , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسه " يَعِظهُمْ اللَّه بِهِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : " فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسه " يَعْنِي عَرَّضَ نَفْسه لِلْعَذَابِ ; لِأَنَّ إِتْيَان مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ تَعَرُّض لِعَذَابِ اللَّه . وَهَذَا الْخَبَر مُوَافِق لِلْخَبَرِ الَّذِي نَزَلَ بِتَرْكِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ الطَّلَاق وَالِارْتِجَاع حَسَب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه عِنْد قَوْله تَعَالَى : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " . فَأَفَادَنَا هَذَانِ الْخَبَرَانِ أَنَّ نُزُول الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ كَانَ فِي مَعْنًى وَاحِد مُتَقَارِب وَذَلِكَ حَبْس الرَّجُل الْمَرْأَة وَمُرَاجَعَته لَهَا قَاصِدًا إِلَى الْإِضْرَار بِهَا , وَهَذَا ظَاهِر .
مَعْنَاهُ لَا تَتَّخِذُوا أَحْكَام اللَّه تَعَالَى فِي طَرِيق الْهُزْو بِالْهُزْوِ فَإِنَّهَا جِدّ كُلّهَا , فَمَنْ هَزَلَ فِيهَا لَزِمَتْهُ . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء : كَانَ الرَّجُل يُطَلِّق فِي الْجَاهِلِيَّة وَيَقُول : إِنَّمَا طَلَّقْت وَأَنَا لَاعِب , وَكَانَ يُعْتِق وَيَنْكِح وَيَقُول : كُنْت لَاعِبًا , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ أَوْ أَنْكَحَ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَاعِب فَهُوَ جِدّ ) . رَوَاهُ مَعْمَر قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن يُونُس عَنْ عَمْرو عَنْ الْحَسَن عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ . وَفِي مُوَطَّإِ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاس : إِنِّي طَلَّقْت اِمْرَأَتِي مِائَة مَرَّة فَمَاذَا تَرَى عَلَيَّ ؟ فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( طُلِّقَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ , وَسَبْع وَتِسْعُونَ اِتَّخَذْت بِهَا آيَات اللَّه هُزُوًا ) . وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة الْقُرَشِيّ عَنْ عَلِيّ قَالَ : سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا طَلَّقَ الْبَتَّة فَغَضِبَ وَقَالَ : ( تَتَّخِذُونَ آيَات اللَّه هُزُوًا - أَوْ دِين اللَّه هُزُوًا وَلَعِبًا مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّة أَلْزَمْنَاهُ ثَلَاثًا لَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره ) . إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة هَذَا كُوفِيّ ضَعِيف الْحَدِيث . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة : ( أَنَّ الرَّجُل كَانَ يُطَلِّق اِمْرَأَته ثُمَّ يَقُول : وَاَللَّه لَا أُوَرِّثك وَلَا أَدَعك . قَالَتْ : وَكَيْف ذَاكَ ؟ قَالَ : إِذَا كِدْت تَقْضِينَ عِدَّتك رَاجَعْتُك ) , فَنَزَلَتْ : " وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات اللَّه هُزُوًا " . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْأَقْوَال كُلّهَا دَاخِلَة فِي مَعْنَى الْآيَة ; لِأَنَّهُ يُقَال لِمَنْ سَخِرَ مِنْ آيَات اللَّه : اِتَّخَذَهَا هُزُوًا . وَيُقَال ذَلِكَ لِمَنْ كَفَرَ بِهَا , وَيُقَال ذَلِكَ لِمَنْ طَرَحَهَا وَلَمْ يَأْخُذ بِهَا وَعَمِلَ بِغَيْرِهَا , فَعَلَى هَذَا تَدْخُل هَذِهِ الْأَقْوَال فِي الْآيَة . وَآيَات اللَّه : دَلَائِله وَأَمْره وَنَهْيه . وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ مَنْ طَلَّقَ هَازِلًا أَنَّ الطَّلَاق يَلْزَمهُ , وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْره عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ثَلَاث جِدّهنَّ جِدّ وَهَزْلهنَّ جِدّ النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة ) . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود وَأَبِي الدَّرْدَاء كُلّهمْ قَالُوا : ( ثَلَاث لَا لَعِب فِيهِنَّ وَاللَّاعِب فِيهِنَّ جَادّ : النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعَتَاق ) . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَتْرُكُوا أَوَامِر اللَّه فَتَكُونُوا مُقَصِّرِينَ لَاعِبِينَ . وَيَدْخُل فِي هَذِهِ الْآيَة الِاسْتِغْفَار مِنْ الذَّنْب قَوْلًا مَعَ الْإِصْرَار فِعْلًا , وَكَذَا كُلّ مَا كَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَاعْلَمْهُ .
أَيْ بِالْإِسْلَامِ وَبَيَان الْأَحْكَام .
" وَالْحِكْمَة " هِيَ السُّنَّة الْمُبَيِّنَة عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَ اللَّه فِيمَا لَمْ يَنُصّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَاب .
أَيْ يُخَوِّفكُمْ .
أَيْ فِي مَا فَرَضَهُ عَلَيْكُمْ وَقِيلَ هُوَ أَمْر بِالتَّقْوَى عَلَى الْعُمُوم وَتَحْذِير مِنْ شِدَّة عِقَابه
أَيْ بِمَا خَلَقَ وَهُوَ خَالِق كُلّ شَيْء , فَوَجَبَ أَنْ يَكُون عَالِمًا بِكُلِّ شَيْء , وَقَدْ قَالَ : " أَلَا يَعْلَم مَنْ خَلَقَ " [ الْمُلْك : 14 ] فَهُوَ الْعَالِم وَالْعَلِيم بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَات بِعِلْمٍ قَدِيم أَزَلِيّ وَاحِد قَائِم بِذَاتِهِ , وَوَافَقَنَا الْمُعْتَزِلَة عَلَى الْعَالِمِيَّة دُون الْعِلْمِيَّة . وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة : عَالِم بِعِلْمٍ قَائِم لَا فِي مَحَلّ , تَعَالَى اللَّه عَنْ قَوْل أَهْل الزَّيْغ وَالضَّلَالَات , وَالرَّدّ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي كُتُب الدِّيَانَات . وَقَدْ وَصَفَ نَفْسه سُبْحَانه بِالْعِلْمِ فَقَالَ : " أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة يَشْهَدُونَ " [ النِّسَاء : 166 ] , وَقَالَ : " فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه " [ هُود : 14 ] , وَقَالَ : " فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ " [ الْأَعْرَاف : 7 ] , وَقَالَ : " وَمَا تَحْمِل مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَع إِلَّا بِعِلْمِهِ " [ فَاطِر : 11 ] , وَقَالَ : " وَعِنْده مَفَاتِح الْغَيْب لَا يَعْلَمهَا إِلَّا هُوَ " [ الْأَنْعَام : 59 ] الْآيَة . وَسَنَدُلُّ عَلَى ثُبُوت عِلْمه وَسَائِر صِفَاته فِي هَذِهِ السُّورَة عِنْد قَوْله : " يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر " [ الْبَقَرَة : 185 ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَقَالُون عَنْ نَافِع بِإِسْكَانِ الْهَاء مِنْ : هُو وَهِي , إِذَا كَانَ قَبْلهَا فَاء أَوْ وَاو أَوْ لَام أَوْ ثُمَّ , وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو عَمْرو إِلَّا مَعَ ثُمَّ . وَزَادَ أَبُو عَوْن عَنْ الْحَلْوَانِيّ عَنْ قَالُون إِسْكَان الْهَاء مِنْ " أَنْ يُمِلّ هُو " وَالْبَاقُونَ بِالتَّحْرِيكِ .
الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْقِيَام بِمَا يَجِب لَهَا مِنْ حَقّ عَلَى زَوْجهَا , وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّ مِنْ الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ أَنَّ الزَّوْج إِذَا لَمْ يَجِد مَا يُنْفِق عَلَى الزَّوْجَة أَنْ يُطَلِّقهَا , فَإِنْ لَمْ يَفْعَل خَرَجَ عَنْ حَدّ الْمَعْرُوف , فَيُطَلِّق عَلَيْهِ الْحَاكِم مِنْ أَجْل الضَّرَر اللَّاحِق لَهَا مِنْ بَقَائِهَا عِنْد مَنْ لَا يَقْدِر عَلَى نَفَقَتهَا , وَالْجُوع لَا صَبْر عَلَيْهِ , وَبِهَذَا قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد وَيَحْيَى الْقَطَّان وَعَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ , وَقَالَهُ مِنْ الصَّحَابَة عُمَر وَعَلِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة , وَمِنْ التَّابِعِينَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَقَالَ : إِنَّ ذَلِكَ سُنَّة . وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يُفَرَّق بَيْنهمَا , وَيَلْزَمهَا الصَّبْر عَلَيْهِ , وَتَتَعَلَّق النَّفَقَة بِذِمَّتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِم , وَهَذَا قَوْل عَطَاء وَالزُّهْرِيّ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيّ , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَة إِلَى مَيْسَرَة " [ الْبَقَرَة : 280 ] وَقَالَ : " وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ " [ النُّور : 32 ] الْآيَة , فَنَدَبَ تَعَالَى إِلَى إِنْكَاح الْفَقِير , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْفَقْر سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ , وَهُوَ مَنْدُوب مَعَهُ إِلَى النِّكَاح . وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاح بَيْن الزَّوْجَيْنِ قَدْ اِنْعَقَدَ بِإِجْمَاعٍ فَلَا يُفَرَّق بَيْنهمَا إِلَّا بِإِجْمَاعٍ مِثْله , أَوْ بِسُنَّةٍ عَنْ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مُعَارِض لَهَا . وَالْحُجَّة لِلْأَوَّلِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ : ( تَقُول الْمَرْأَة إِمَّا أَنْ تُطْعِمنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقنِي ) فَهَذَا نَصّ فِي مَوْضِع الْخِلَاف . وَالْفُرْقَة بِالْإِعْسَارِ عِنْدنَا طَلْقَة رَجْعِيَّة خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْله : إِنَّهَا طَلْقَة بَائِنَة ; لِأَنَّ هَذِهِ فُرْقَة بَعْد الْبِنَاء لَمْ يُسْتَكْمَل بِهَا عَدَد الطَّلَاق وَلَا كَانَتْ لِعِوَضٍ وَلَا لِضَرَرٍ بِالزَّوْجِ فَكَانَتْ رَجْعِيَّة , أَصْله طَلَاق الْمُولِي .
يَعْنِي فَطَلِّقُوهُنَّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
رَوَى مَالِك عَنْ ثَوْر بْن زَيْد الدِّيلِيّ : أَنَّ الرَّجُل كَانَ يُطَلِّق اِمْرَأَته ثُمَّ يُرَاجِعهَا وَلَا حَاجَة لَهُ بِهَا وَلَا يُرِيد إِمْسَاكهَا , كَيْمَا يُطَوِّل بِذَلِكَ الْعِدَّة عَلَيْهَا وَلِيُضَارّهَا , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسه " يَعِظهُمْ اللَّه بِهِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : " فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسه " يَعْنِي عَرَّضَ نَفْسه لِلْعَذَابِ ; لِأَنَّ إِتْيَان مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ تَعَرُّض لِعَذَابِ اللَّه . وَهَذَا الْخَبَر مُوَافِق لِلْخَبَرِ الَّذِي نَزَلَ بِتَرْكِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ الطَّلَاق وَالِارْتِجَاع حَسَب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه عِنْد قَوْله تَعَالَى : " الطَّلَاق مَرَّتَانِ " . فَأَفَادَنَا هَذَانِ الْخَبَرَانِ أَنَّ نُزُول الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ كَانَ فِي مَعْنًى وَاحِد مُتَقَارِب وَذَلِكَ حَبْس الرَّجُل الْمَرْأَة وَمُرَاجَعَته لَهَا قَاصِدًا إِلَى الْإِضْرَار بِهَا , وَهَذَا ظَاهِر .
مَعْنَاهُ لَا تَتَّخِذُوا أَحْكَام اللَّه تَعَالَى فِي طَرِيق الْهُزْو بِالْهُزْوِ فَإِنَّهَا جِدّ كُلّهَا , فَمَنْ هَزَلَ فِيهَا لَزِمَتْهُ . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء : كَانَ الرَّجُل يُطَلِّق فِي الْجَاهِلِيَّة وَيَقُول : إِنَّمَا طَلَّقْت وَأَنَا لَاعِب , وَكَانَ يُعْتِق وَيَنْكِح وَيَقُول : كُنْت لَاعِبًا , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ أَوْ أَنْكَحَ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَاعِب فَهُوَ جِدّ ) . رَوَاهُ مَعْمَر قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن يُونُس عَنْ عَمْرو عَنْ الْحَسَن عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ . وَفِي مُوَطَّإِ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاس : إِنِّي طَلَّقْت اِمْرَأَتِي مِائَة مَرَّة فَمَاذَا تَرَى عَلَيَّ ؟ فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( طُلِّقَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ , وَسَبْع وَتِسْعُونَ اِتَّخَذْت بِهَا آيَات اللَّه هُزُوًا ) . وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة الْقُرَشِيّ عَنْ عَلِيّ قَالَ : سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا طَلَّقَ الْبَتَّة فَغَضِبَ وَقَالَ : ( تَتَّخِذُونَ آيَات اللَّه هُزُوًا - أَوْ دِين اللَّه هُزُوًا وَلَعِبًا مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّة أَلْزَمْنَاهُ ثَلَاثًا لَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره ) . إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة هَذَا كُوفِيّ ضَعِيف الْحَدِيث . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة : ( أَنَّ الرَّجُل كَانَ يُطَلِّق اِمْرَأَته ثُمَّ يَقُول : وَاَللَّه لَا أُوَرِّثك وَلَا أَدَعك . قَالَتْ : وَكَيْف ذَاكَ ؟ قَالَ : إِذَا كِدْت تَقْضِينَ عِدَّتك رَاجَعْتُك ) , فَنَزَلَتْ : " وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات اللَّه هُزُوًا " . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْأَقْوَال كُلّهَا دَاخِلَة فِي مَعْنَى الْآيَة ; لِأَنَّهُ يُقَال لِمَنْ سَخِرَ مِنْ آيَات اللَّه : اِتَّخَذَهَا هُزُوًا . وَيُقَال ذَلِكَ لِمَنْ كَفَرَ بِهَا , وَيُقَال ذَلِكَ لِمَنْ طَرَحَهَا وَلَمْ يَأْخُذ بِهَا وَعَمِلَ بِغَيْرِهَا , فَعَلَى هَذَا تَدْخُل هَذِهِ الْأَقْوَال فِي الْآيَة . وَآيَات اللَّه : دَلَائِله وَأَمْره وَنَهْيه . وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ مَنْ طَلَّقَ هَازِلًا أَنَّ الطَّلَاق يَلْزَمهُ , وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْره عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ثَلَاث جِدّهنَّ جِدّ وَهَزْلهنَّ جِدّ النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة ) . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود وَأَبِي الدَّرْدَاء كُلّهمْ قَالُوا : ( ثَلَاث لَا لَعِب فِيهِنَّ وَاللَّاعِب فِيهِنَّ جَادّ : النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعَتَاق ) . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَتْرُكُوا أَوَامِر اللَّه فَتَكُونُوا مُقَصِّرِينَ لَاعِبِينَ . وَيَدْخُل فِي هَذِهِ الْآيَة الِاسْتِغْفَار مِنْ الذَّنْب قَوْلًا مَعَ الْإِصْرَار فِعْلًا , وَكَذَا كُلّ مَا كَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَاعْلَمْهُ .
أَيْ بِالْإِسْلَامِ وَبَيَان الْأَحْكَام .
" وَالْحِكْمَة " هِيَ السُّنَّة الْمُبَيِّنَة عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَ اللَّه فِيمَا لَمْ يَنُصّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَاب .
أَيْ يُخَوِّفكُمْ .
أَيْ فِي مَا فَرَضَهُ عَلَيْكُمْ وَقِيلَ هُوَ أَمْر بِالتَّقْوَى عَلَى الْعُمُوم وَتَحْذِير مِنْ شِدَّة عِقَابه
أَيْ بِمَا خَلَقَ وَهُوَ خَالِق كُلّ شَيْء , فَوَجَبَ أَنْ يَكُون عَالِمًا بِكُلِّ شَيْء , وَقَدْ قَالَ : " أَلَا يَعْلَم مَنْ خَلَقَ " [ الْمُلْك : 14 ] فَهُوَ الْعَالِم وَالْعَلِيم بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَات بِعِلْمٍ قَدِيم أَزَلِيّ وَاحِد قَائِم بِذَاتِهِ , وَوَافَقَنَا الْمُعْتَزِلَة عَلَى الْعَالِمِيَّة دُون الْعِلْمِيَّة . وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة : عَالِم بِعِلْمٍ قَائِم لَا فِي مَحَلّ , تَعَالَى اللَّه عَنْ قَوْل أَهْل الزَّيْغ وَالضَّلَالَات , وَالرَّدّ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي كُتُب الدِّيَانَات . وَقَدْ وَصَفَ نَفْسه سُبْحَانه بِالْعِلْمِ فَقَالَ : " أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة يَشْهَدُونَ " [ النِّسَاء : 166 ] , وَقَالَ : " فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه " [ هُود : 14 ] , وَقَالَ : " فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ " [ الْأَعْرَاف : 7 ] , وَقَالَ : " وَمَا تَحْمِل مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَع إِلَّا بِعِلْمِهِ " [ فَاطِر : 11 ] , وَقَالَ : " وَعِنْده مَفَاتِح الْغَيْب لَا يَعْلَمهَا إِلَّا هُوَ " [ الْأَنْعَام : 59 ] الْآيَة . وَسَنَدُلُّ عَلَى ثُبُوت عِلْمه وَسَائِر صِفَاته فِي هَذِهِ السُّورَة عِنْد قَوْله : " يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر " [ الْبَقَرَة : 185 ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَقَالُون عَنْ نَافِع بِإِسْكَانِ الْهَاء مِنْ : هُو وَهِي , إِذَا كَانَ قَبْلهَا فَاء أَوْ وَاو أَوْ لَام أَوْ ثُمَّ , وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو عَمْرو إِلَّا مَعَ ثُمَّ . وَزَادَ أَبُو عَوْن عَنْ الْحَلْوَانِيّ عَنْ قَالُون إِسْكَان الْهَاء مِنْ " أَنْ يُمِلّ هُو " وَالْبَاقُونَ بِالتَّحْرِيكِ .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ↓
" فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ " رُوِيَ أَنَّ مَعْقِل بْن يَسَار كَانَتْ أُخْته تَحْت أَبِي الْبَدَّاح فَطَلَّقَهَا وَتَرَكَهَا حَتَّى اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا , ثُمَّ نَدِمَ فَخَطَبَهَا فَرَضِيَتْ وَأَبَى أَخُوهَا أَنْ يُزَوِّجهَا وَقَالَ : وَجْهِي مِنْ وَجْهك حَرَام إِنْ تَزَوَّجْتِيهِ . فَنَزَلَتْ الْآيَة . قَالَ مُقَاتِل : فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْقِلًا فَقَالَ : ( إِنْ كُنْت مُؤْمِنًا فَلَا تَمْنَع أُخْتك عَنْ أَبِي الْبَدَّاح ) فَقَالَ : آمَنْت بِاَللَّهِ , وَزَوَّجَهَا مِنْهُ . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ الْحَسَن أَنَّ أُخْت مَعْقِل بْن يَسَار طَلَّقَهَا زَوْجهَا حَتَّى اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا فَخَطَبَهَا فَأَبَى مَعْقِلٌ فَنَزَلَتْ : " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجهنَّ " . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ الْحَسَن قَالَ : حَدَّثَنِي مَعْقِل بْن يَسَار قَالَ : كَانَتْ لِي أُخْت فَخُطِبَتْ إِلَيَّ فَكُنْت أَمْنَعهَا النَّاس , فَأَتَى اِبْن عَمّ لِي فَخَطَبَهَا فَأَنْكَحْتهَا إِيَّاهُ , فَاصْطَحَبَا مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا فَخَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّاب , فَقُلْت : مَنَعْتُهَا النَّاسَ وَزَوَّجْتُك إِيَّاهَا ثُمَّ طَلَّقْتَهَا طَلَاقًا لَهُ رَجْعَة ثُمَّ تَرَكْتهَا حَتَّى اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا فَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَيَّ أَتَيْتنِي تَخْطُبهَا مَعَ الْخُطَّاب لَا أُزَوِّجك أَبَدًا فَأَنْزَلَ اللَّه , أَوْ قَالَ أُنْزِلَتْ : " وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلهنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجهنَّ " فَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَأَنْكَحْتهَا إِيَّاهُ . فِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ : فَحَمِيَ مَعْقِل مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا , وَقَالَ : خَلَّى عَنْهَا وَهُوَ يَقْدِر عَلَيْهَا ثُمَّ يَخْطُبهَا فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة , فَدَعَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْآيَة فَتَرَكَ الْحَمِيَّة وَانْقَادَ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : هُوَ مَعْقِل بْن سِنَان ( بِالنُّونِ ) . قَالَ النَّحَّاس : رَوَاهُ الشَّافِعِيّ فِي كُتُبه عَنْ مَعْقِل بْن يَسَار أَوْ سِنَان . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : هُوَ مَعْقِل بْن سِنَان .
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز النِّكَاح بِغَيْرِ وَلِيّ لِأَنَّ أُخْت مَعْقِل كَانَتْ ثَيِّبًا , وَلَوْ كَانَ الْأَمْر إِلَيْهَا دُون وَلِيّهَا لَزَوَّجَتْ نَفْسهَا , وَلَمْ تَحْتَجْ إِلَى وَلِيّهَا مَعْقِل , فَالْخِطَاب إِذًا فِي قَوْله تَعَالَى : " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ " لِلْأَوْلِيَاءِ , وَأَنَّ الْأَمْر إِلَيْهِمْ فِي التَّزْوِيج مَعَ رِضَاهُنَّ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْخِطَاب فِي ذَلِكَ لِلْأَزْوَاجِ , وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُون الِارْتِجَاع مُضَارَّة عَضْلًا عَنْ نِكَاح الْغَيْر بِتَطْوِيلِ الْعِدَّة عَلَيْهَا . وَاحْتَجَّ بِهَا أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة عَلَى أَنْ تُزَوِّج الْمَرْأَة نَفْسهَا قَالُوا : لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهَا كَمَا قَالَ : " فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " [ الْبَقَرَة : 230 ] وَلَمْ يَذْكُر الْوَلِيّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُسْتَوْفًى . وَالْأَوَّل أَصَحّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبَب النُّزُول . وَاَللَّه أَعْلَم .
" فَبَلَغْنَ أَجَلهنَّ " بُلُوغ الْأَجَل فِي هَذَا الْمَوْضِع : تَنَاهِيهِ ; لِأَنَّ اِبْتِدَاء النِّكَاح إِنَّمَا يُتَصَوَّر بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة . و " تَعْضُلُوهُنَّ " مَعْنَاهُ تَحْبِسُوهُنَّ . وَحَكَى الْخَلِيل : دَجَاجَة مُعْضِلٌ : قَدْ اِحْتَبَسَ بِيضهَا . وَقِيلَ : الْعَضْل التَّضْيِيق وَالْمَنْع وَهُوَ رَاجِع إِلَى مَعْنَى الْحَبْس , يُقَال : أَرَدْت أَمْرًا فَعَضَلْتنِي عَنْهُ أَيْ مَنَعْتنِي عَنْهُ وَضَيَّقْت عَلَيَّ . وَأَعْضَلَ الْأَمْر : إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْك فِيهِ الْحِيَل , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : إِنَّهُ لَعُضْلَة مِنْ الْعُضَل إِذَا كَانَ لَا يُقْدَر عَلَى وَجْه الْحِيلَة فِيهِ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : أَصْل الْعَضْل مِنْ قَوْلهمْ : عَضَلَتْ النَّاقَة إِذَا نَشِبَ وَلَدهَا فَلَمْ يَسْهُل خُرُوجه , وَعَضَلَتْ الدَّجَاجَة : نَشِبَ بِيضهَا . وَفِي حَدِيث مُعَاوِيَة : ( مُعْضِلَة وَلَا أَبَا حَسَن ) , أَيْ مَسْأَلَة صَعْبَة ضَيِّقَة الْمَخَارِج . وَقَالَ طَاوُس : لَقَدْ وَرَدَتْ عُضَل أَقْضِيَة مَا قَامَ بِهَا إِلَّا اِبْن عَبَّاس . وَكُلّ مُشْكِل عِنْد الْعَرَب مُعْضِل , وَمِنْهُ قَوْل الشَّافِعِيّ : إِذَا الْمُعْضِلَات تَصَدَّيْنَنِي كَشَفْت حَقَائِقهَا بِالنَّظَرْ وَيُقَال : أَعْضَلَ الْأَمْر إِذَا اِشْتَدَّ . وَدَاء عُضَال أَيْ شَدِيد عَسِرُ الْبُرْءِ أَعْيَا الْأَطِبَّاء . وَعَضَلَ فُلَانٌ أَيِّمه أَيْ مَنَعَهَا , يَعْضُلهَا وَيَعْضِلُهَا ( بِالضَّمِّ وَالْكَسْر ) لُغَتَانِ .
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَر وَاَللَّه يَعْلَم وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " " ذَلِكَ يُوعَظ بِهِ مَنْ كَانَ " وَلَمْ يَقُلْ " ذَلِكُمْ " لِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَعْنَى الْجَمْع . وَلَوْ كَانَ " ذَلِكُمْ " لَجَازَ , مِثْل " ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَر وَاَللَّه يَعْلَم " أَيْ مَا لَكُمْ فِيهِ مِنْ الصَّلَاح . " وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " ذَلِكَ .
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز النِّكَاح بِغَيْرِ وَلِيّ لِأَنَّ أُخْت مَعْقِل كَانَتْ ثَيِّبًا , وَلَوْ كَانَ الْأَمْر إِلَيْهَا دُون وَلِيّهَا لَزَوَّجَتْ نَفْسهَا , وَلَمْ تَحْتَجْ إِلَى وَلِيّهَا مَعْقِل , فَالْخِطَاب إِذًا فِي قَوْله تَعَالَى : " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ " لِلْأَوْلِيَاءِ , وَأَنَّ الْأَمْر إِلَيْهِمْ فِي التَّزْوِيج مَعَ رِضَاهُنَّ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْخِطَاب فِي ذَلِكَ لِلْأَزْوَاجِ , وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُون الِارْتِجَاع مُضَارَّة عَضْلًا عَنْ نِكَاح الْغَيْر بِتَطْوِيلِ الْعِدَّة عَلَيْهَا . وَاحْتَجَّ بِهَا أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة عَلَى أَنْ تُزَوِّج الْمَرْأَة نَفْسهَا قَالُوا : لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهَا كَمَا قَالَ : " فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره " [ الْبَقَرَة : 230 ] وَلَمْ يَذْكُر الْوَلِيّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُسْتَوْفًى . وَالْأَوَّل أَصَحّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبَب النُّزُول . وَاَللَّه أَعْلَم .
" فَبَلَغْنَ أَجَلهنَّ " بُلُوغ الْأَجَل فِي هَذَا الْمَوْضِع : تَنَاهِيهِ ; لِأَنَّ اِبْتِدَاء النِّكَاح إِنَّمَا يُتَصَوَّر بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة . و " تَعْضُلُوهُنَّ " مَعْنَاهُ تَحْبِسُوهُنَّ . وَحَكَى الْخَلِيل : دَجَاجَة مُعْضِلٌ : قَدْ اِحْتَبَسَ بِيضهَا . وَقِيلَ : الْعَضْل التَّضْيِيق وَالْمَنْع وَهُوَ رَاجِع إِلَى مَعْنَى الْحَبْس , يُقَال : أَرَدْت أَمْرًا فَعَضَلْتنِي عَنْهُ أَيْ مَنَعْتنِي عَنْهُ وَضَيَّقْت عَلَيَّ . وَأَعْضَلَ الْأَمْر : إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْك فِيهِ الْحِيَل , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : إِنَّهُ لَعُضْلَة مِنْ الْعُضَل إِذَا كَانَ لَا يُقْدَر عَلَى وَجْه الْحِيلَة فِيهِ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : أَصْل الْعَضْل مِنْ قَوْلهمْ : عَضَلَتْ النَّاقَة إِذَا نَشِبَ وَلَدهَا فَلَمْ يَسْهُل خُرُوجه , وَعَضَلَتْ الدَّجَاجَة : نَشِبَ بِيضهَا . وَفِي حَدِيث مُعَاوِيَة : ( مُعْضِلَة وَلَا أَبَا حَسَن ) , أَيْ مَسْأَلَة صَعْبَة ضَيِّقَة الْمَخَارِج . وَقَالَ طَاوُس : لَقَدْ وَرَدَتْ عُضَل أَقْضِيَة مَا قَامَ بِهَا إِلَّا اِبْن عَبَّاس . وَكُلّ مُشْكِل عِنْد الْعَرَب مُعْضِل , وَمِنْهُ قَوْل الشَّافِعِيّ : إِذَا الْمُعْضِلَات تَصَدَّيْنَنِي كَشَفْت حَقَائِقهَا بِالنَّظَرْ وَيُقَال : أَعْضَلَ الْأَمْر إِذَا اِشْتَدَّ . وَدَاء عُضَال أَيْ شَدِيد عَسِرُ الْبُرْءِ أَعْيَا الْأَطِبَّاء . وَعَضَلَ فُلَانٌ أَيِّمه أَيْ مَنَعَهَا , يَعْضُلهَا وَيَعْضِلُهَا ( بِالضَّمِّ وَالْكَسْر ) لُغَتَانِ .
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَر وَاَللَّه يَعْلَم وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " " ذَلِكَ يُوعَظ بِهِ مَنْ كَانَ " وَلَمْ يَقُلْ " ذَلِكُمْ " لِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَعْنَى الْجَمْع . وَلَوْ كَانَ " ذَلِكُمْ " لَجَازَ , مِثْل " ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَر وَاَللَّه يَعْلَم " أَيْ مَا لَكُمْ فِيهِ مِنْ الصَّلَاح . " وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " ذَلِكَ .
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ↓
" وَالْوَالِدَات " اِبْتِدَاء . " يُرْضِعْنَ أَوْلَادهنَّ " فِي مَوْضِع الْخَبَر . " حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ " ظَرْف زَمَان . وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه النِّكَاح وَالطَّلَاق ذَكَرَ الْوَلَد ; لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَفْتَرِقَانِ وَثَمَّ وَلَد , فَالْآيَة إِذًا فِي الْمُطَلَّقَات اللَّاتِي لَهُنَّ أَوْلَاد مِنْ أَزْوَاجهنَّ , قَالَهُ السُّدِّيّ وَالضَّحَّاك وَغَيْرهمَا , أَيْ هُنَّ أَحَقّ بِرَضَاعِ أَوْلَادهنَّ مِنْ الْأَجْنَبِيَّات لِأَنَّهُنَّ أَحْنَى وَأَرَقّ , وَانْتِزَاع الْوَلَد الصَّغِير إِضْرَار بِهِ وَبِهَا , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْوَلَد وَإِنْ فُطِمَ فَالْأُمّ أَحَقّ بِحَضَانَتِهِ لِفَضْلِ حُنُوّهَا وَشَفَقَتهَا , وَإِنَّمَا تَكُون أَحَقّ بِالْحَضَانَةِ إِذَا لَمْ تَتَزَوَّج عَلَى مَا يَأْتِي . وَعَلَى هَذَا يُشْكِل قَوْله : " وَعَلَى الْمَوْلُود لَهُ رِزْقهنَّ وَكِسْوَتهنَّ بِالْمَعْرُوفِ " لِأَنَّ الْمُطَلَّقَة لَا تَسْتَحِقّ الْكِسْوَة إِذَا لَمْ تَكُنْ رَجْعِيَّة بَلْ تَسْتَحِقّ الْأُجْرَة إِلَّا أَنْ يُحْمَل عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق فَيُقَال : الْأَوْلَى أَلَّا تَنْقُص الْأُجْرَة عَمَّا يَكْفِيهَا لِقُوتِهَا وَكِسْوَتهَا . وَقِيلَ : الْآيَة عَامَّة فِي الْمُطَلَّقَات اللَّوَاتِي لَهُنَّ أَوْلَاد وَفِي الزَّوْجَات . وَالْأَظْهَر أَنَّهَا فِي الزَّوْجَات فِي حَال بَقَاء النِّكَاح , لِأَنَّهُنَّ الْمُسْتَحِقَّات لِلنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَة , وَالزَّوْجَة تَسْتَحِقّ النَّفَقَة وَالْكِسْوَة أَرْضَعَتْ أَوْ لَمْ تُرْضِع , وَالنَّفَقَة وَالْكِسْوَة مُقَابِلَة التَّمْكِين , فَإِذَا اِشْتَغَلَتْ بِالْإِرْضَاعِ لَمْ يَكْمُل التَّمْكِين , فَقَدْ يُتَوَهَّم أَنَّ النَّفَقَة تَسْقُط فَأَزَالَ ذَلِكَ الْوَهْم بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَعَلَى الْمَوْلُود لَهُ " أَيْ الزَّوْج " رِزْقهنَّ وَكِسْوَتهنَّ " فِي حَال الرَّضَاع لِأَنَّهُ اِشْتِغَال فِي مَصَالِح الزَّوْج , فَصَارَتْ كَمَا لَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَةِ الزَّوْج بِإِذْنِهِ فَإِنَّ النَّفَقَة لَا تَسْقُط .
" يُرْضِعْنَ " خَبَر مَعْنَاهُ الْأَمْر عَلَى الْوُجُوب لِبَعْضِ الْوَالِدَات , وَعَلَى جِهَة النَّدْب لِبَعْضِهِنَّ عَلَى مَا يَأْتِي . وَقِيلَ : هُوَ خَبَر عَنْ الْمَشْرُوعِيَّة كَمَا تَقَدَّمَ .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الرَّضَاع هَلْ هُوَ حَقّ لِلْأُمِّ أَوْ هُوَ حَقّ عَلَيْهَا , وَاللَّفْظ مُحْتَمَل , لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّصْرِيح بِكَوْنِهِ عَلَيْهَا لَقَالَ : وَعَلَى الْوَالِدَات رَضَاع أَوْلَادهنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَعَلَى الْمَوْلُود لَهُ رِزْقهنَّ وَكِسْوَتهنَّ " وَلَكِنْ هُوَ عَلَيْهَا فِي حَال الزَّوْجِيَّة , وَهُوَ عُرْف يَلْزَم إِذْ قَدْ صَارَ كَالشَّرْطِ , إِلَّا أَنْ تَكُون شَرِيفَة ذَات تَرَفُّه فَعَرَفَهَا أَلَّا تُرْضِع وَذَلِكَ كَالشَّرْطِ . وَعَلَيْهَا إِنْ لَمْ يَقْبَل الْوَلَد غَيْرهَا وَاجِب . وَهُوَ عَلَيْهَا إِذَا عُدِمَ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ . فَإِنْ مَاتَ الْأَب وَلَا مَال لِلصَّبِيِّ فَمَذْهَب مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة أَنَّ الرَّضَاع لَازِم لِلْأُمِّ بِخِلَافِ النَّفَقَة . وَفِي كِتَاب اِبْن الْجَلَّاب : رَضَاعه فِي بَيْت الْمَال . وَقَالَ عَبْد الْوَهَّاب : هُوَ فَقِير مِنْ فُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا الْمُطَلَّقَة طَلَاق بَيْنُونَة فَلَا رَضَاع عَلَيْهَا , وَالرَّضَاع عَلَى الزَّوْج إِلَّا أَنْ تَشَاء هِيَ , فَهِيَ أَحَقّ بِأُجْرَةِ الْمِثْل , هَذَا مَعَ يُسْر الزَّوْج فَإِنْ كَانَ مُعْدِمًا لَمْ يَلْزَمهَا الرَّضَاع إِلَّا أَنْ يَكُون الْمَوْلُود لَا يَقْبَل غَيْرهَا فَتُجْبَر حِينَئِذٍ عَلَى الْإِرْضَاع . وَكُلّ مَنْ يَلْزَمهَا الْإِرْضَاع فَإِنْ أَصَابَهَا عُذْر يَمْنَعهَا مِنْهُ عَادَ الْإِرْضَاع عَلَى الْأَب . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّ الْأَب إِذَا كَانَ مُعْدِمًا وَلَا مَال لِلصَّبِيِّ أَنَّ الرَّضَاع عَلَى الْأُمّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَن وَلَهَا مَال فَالْإِرْضَاع عَلَيْهَا فِي مَالهَا . قَالَ الشَّافِعِيّ , : لَا يَلْزَم الرَّضَاع إِلَّا وَالِدًا أَوْ جَدًّا وَإِنْ عَلَا , وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " . يُقَال : رَضِعَ يَرْضَع رَضَاعَة وَرَضَاعًا , وَرَضَعَ يَرْضِع رِضَاعًا وَرَضَاعَة ( بِكَسْرِ الرَّاء فِي الْأَوَّل وَفَتْحهَا فِي الثَّانِي ) وَاسْم الْفَاعِل رَاضِع فِيهِمَا . وَالرَّضَاعَة : اللُّؤْم ( مَفْتُوح الرَّاء لَا غَيْر ) .
" حَوْلَيْنِ " أَيْ سَنَتَيْنِ , مِنْ حَالَ الشَّيْء إِذَا اِنْقَلَبَ , فَالْحَوْل مُنْقَلِب مِنْ الْوَقْت الْأَوَّل إِلَى الثَّانِي . وَقِيلَ : سُمِّيَ الْعَام حَوْلًا لِاسْتِحَالَةِ الْأُمُور فِيهِ فِي الْأَغْلَب . " كَامِلَيْنِ " قُيِّدَ بِالْكَمَالِ لِأَنَّ الْقَائِل قَدْ يَقُول : أَقَمْت عِنْد فُلَان حَوْلَيْنِ وَهُوَ يُرِيد حَوْلًا وَبَعْض حَوْل آخَر , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ " [ الْبَقَرَة : 203 ] وَإِنَّمَا يَتَعَجَّل فِي يَوْم وَبَعْض الثَّانِي .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل لِمَالِك عَلَى أَنَّ الْحَضَانَة لِلْأُمِّ , فَهِيَ فِي الْغُلَام إِلَى الْبُلُوغ , وَفِي الْجَارِيَة إِلَى النِّكَاح , وَذَلِكَ حَقّ لَهَا , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا بَلَغَ الْوَلَد ثَمَانِي سِنِينَ وَهُوَ سِنّ التَّمْيِيز , خُيِّرَ بَيْن أَبَوَيْهِ , فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَة تَتَحَرَّك هِمَّته لِتَعَلُّمِ الْقُرْآن وَالْأَدَب وَوَظَائِف الْعِبَادَات , وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغُلَام وَالْجَارِيَة . وَرَوَى النَّسَائِيّ وَغَيْره عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ اِمْرَأَة جَاءَتْ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَهُ : زَوْجِي يُرِيد أَنْ يَذْهَب بِابْنِي , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذَا أَبُوك وَهَذِهِ أُمّك فَخُذْ أَيّهمَا شِئْت ) فَأَخَذَ بِيَدِ أُمّه . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : جَاءَتْ اِمْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا قَاعِد عِنْده فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ زَوْجِي يُرِيد أَنْ يَذْهَب بِابْنِي , وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْر أَبِي عِنَبَة , وَقَدْ نَفَعَنِي , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِسْتَهِمَا عَلَيْهِ ) فَقَالَ زَوْجهَا : مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذَا أَبُوك وَهَذِهِ أُمّك فَخُذْ بِيَدِ أَحَدهمَا شِئْت ) فَأَخَذَ بِيَدِ أُمّه فَانْطَلَقَتْ بِهِ . وَدَلِيلنَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ الْأَوْزَاعِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّ اِمْرَأَة جَاءَتْ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ اِبْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاء , وَثَدْيِي لَهُ سِقَاء , وَحِجْرِي لَهُ حِوَاء , وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعهُ مِنِّي , فَقَالَ لَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْتِ أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا اِفْتَرَقَا وَلَهُمَا وَلَد أَنَّ الْأُمّ أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِح . وَكَذَا قَالَ أَبُو عُمَر : لَا أَعْلَم خِلَافًا بَيْن السَّلَف مِنْ الْعُلَمَاء فِي الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة إِذَا لَمْ تَتَزَوَّج أَنَّهَا أَحَقّ بِوَلَدِهَا مِنْ أَبِيهِ مَا دَامَ طِفْلًا صَغِيرًا لَا يُمَيِّز شَيْئًا إِذَا كَانَ عِنْدهَا فِي حِرْز وَكِفَايَة وَلَمْ يَثْبُت فِيهَا فِسْق وَلَا تَبَرُّج .
ثُمَّ اِخْتَلَفُوا بَعْد ذَلِكَ فِي تَخْيِيره إِذَا مَيَّزَ وَعَقَلَ بَيْن أَبِيهِ وَأُمّه وَفِيمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ , قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي اِبْنَة حَمْزَة لِلْخَالَةِ مِنْ غَيْر تَخْيِير . رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَلِيّ قَالَ : خَرَجَ زَيْد بْن حَارِثَة إِلَى مَكَّة فَقَدِمَ بِابْنَةِ حَمْزَة , فَقَالَ جَعْفَر : أَنَا آخُذهَا أَنَا أَحَقّ بِهَا , اِبْنَة عَمِّي وَخَالَتهَا عِنْدِي وَالْخَالَة أُمّ . فَقَالَ عَلِيّ : أَنَا أَحَقّ بِهَا , اِبْنَة عَمِّي وَعِنْدِي اِبْنَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهِيَ أَحَقّ بِهَا . فَقَالَ زَيْد : أَنَا أَحَقّ بِهَا , أَنَا خَرَجْت إِلَيْهَا وَسَافَرْت وَقَدِمْت بِهَا . فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ حَدِيثًا قَالَ : ( وَأَمَّا الْجَارِيَة فَأَقْضِي بِهَا لِجَعْفَرٍ تَكُون مَعَ خَالَتهَا وَإِنَّمَا الْخَالَة أُمّ ) .
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ أَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَلَّا حَقّ لِلْأُمِّ فِي الْوَلَد إِذَا تَزَوَّجَتْ .
قُلْت : كَذَا قَالَ فِي كِتَاب الْأَشْرَاف لَهُ . وَذَكَرَ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب فِي شَرْح الرِّسَالَة لَهُ عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ لَا يَسْقُط حَقّهَا مِنْ الْحَضَانَة بِالتَّزَوُّجِ . وَأَجْمَعَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالنُّعْمَان وَأَبُو ثَوْر عَلَى أَنَّ الْجَدَّة أُمّ الْأُمّ أَحَقّ بِحَضَانَةِ الْوَلَد . وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أُمّ وَكَانَ لَهَا جَدَّة هِيَ أُمّ الْأَب , فَقَالَ مَالِك : أُمّ الْأَب أَحَقّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ خَالَة . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : قَالَ مَالِك : وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْخَالَة أَوْلَى مِنْ الْجَدَّة أُمّ الْأَب . وَفِي قَوْل الشَّافِعِيّ وَالنُّعْمَان : أُمّ الْأَب أَحَقّ مِنْ الْخَالَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْأَب أَوْلَى بِابْنِهِ مِنْ الْجَدَّة أُمّ الْأَب . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا عِنْدِي إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَة أَجْنَبِيَّة . ثُمَّ الْأُخْت بَعْد الْأَب ثُمَّ الْعَمَّة . وَهَذَا إِذَا كَانَ كُلّ وَاحِد مِنْ هَؤُلَاءِ مَأْمُونًا عَلَى الْوَلَد , وَكَانَ عِنْده فِي حِرْز وَكِفَايَة , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقّ فِي الْحَضَانَة , وَإِنَّمَا يُنْظَر فِي ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَحُوط الصَّبِيّ وَمَنْ يُحْسِن إِلَيْهِ فِي حِفْظه وَتَعَلُّمه الْخَيْر . وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّ الْحَضَانَة حَقّ الْوَلَد , وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِك وَقَالَ بِهِ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابه , وَكَذَلِكَ لَا يَرَوْنَ حَضَانَة لِفَاجِرَةٍ وَلَا لِضَعِيفَةٍ عَاجِزَة عَنْ الْقِيَام بِحَقِّ الصَّبِيّ لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَة . وَذَكَرَ اِبْن حَبِيب عَنْ مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُونَ عَنْ مَالِك أَنَّ الْحَضَانَة لِلْأُمِّ ثُمَّ الْجَدَّة لِلْأُمِّ ثُمَّ الْخَالَة ثُمَّ الْجَدَّة لِلْأَبِ ثُمَّ أُخْت الصَّبِيّ ثُمَّ عَمَّة الصَّبِيّ ثُمَّ اِبْنَة أَخِي الصَّبِيّ ثُمَّ الْأَب . وَالْجَدَّة لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْت وَالْأُخْت أَوْلَى مِنْ الْعَمَّة وَالْعَمَّةُ أَوْلَى مِمَّنْ بَعْدهَا , وَأَوْلَى مِنْ جَمِيع الرِّجَال الْأَوْلِيَاء . وَلَيْسَ لِابْنَةِ الْخَالَة وَلَا لِابْنَةِ الْعَمَّة وَلَا لِبَنَاتِ أَخَوَات الصَّبِيّ مِنْ حَضَانَته شَيْء . فَإِذَا كَانَ الْحَاضِن لَا يُخَاف مِنْهُ عَلَى الطِّفْل تَضْيِيع أَوْ دُخُول فَسَاد كَانَ حَاضِنًا لَهُ أَبَدًا حَتَّى يَبْلُغ الْحُلُم . وَقَدْ قِيلَ : حَتَّى يُثْغِر , وَحَتَّى تَتَزَوَّج الْجَارِيَة , إِلَّا أَنْ يُرِيد الْأَب نَقْلَة سَفَر وَإِيطَان فَيَكُون حِينَئِذٍ أَحَقّ بِوَلَدِهِ مِنْ أُمّه وَغَيْرهَا إِنْ لَمْ تُرِدْ الِانْتِقَال . وَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوج لِتِجَارَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاء الصَّبِيّ الَّذِينَ يَكُون مَآله إِذَا اِنْتَقَلُوا لِلِاسْتِيطَانِ . وَلَيْسَ لِلْأُمِّ أَنْ تَنْقُل وَلَدهَا عَنْ مَوْضِع سُكْنَى الْأَب إِلَّا فِيمَا يَقْرَب نَحْو الْمَسَافَة الَّتِي لَا تُقْصَر فِيهَا الصَّلَاة . وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا فِي حِين اِنْتِقَاله عَنْ بَلَدهَا أَنَّهُ لَا يَتْرُك وَلَده عِنْدهَا إِلَّا أَنْ تَلْتَزِم نَفَقَته وَمَئُونَته سِنِينَ مَعْلُومَة فَإِنْ اِلْتَزَمَتْ ذَلِكَ لَزِمَهَا : فَإِنْ مَاتَتْ لَمْ تُتْبَع بِذَلِكَ وَرَثَتهَا فِي تَرِكَتهَا . وَقَدْ قِيلَ : ذَلِكَ دَيْن يُؤْخَذ مِنْ تَرِكَتهَا , وَالْأَوَّل أَصَحّ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَالِد أَوْ كَمَا لَوْ صَالَحَهَا عَلَى نَفَقَة الْحَمْل وَالرَّضَاع فَأَسْقَطَتْ لَمْ تُتْبَع بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
إِذَا تَزَوَّجَتْ الْأُمّ لَمْ يُنْزَع مِنْهَا وَلَدهَا حَتَّى يَدْخُل بِهَا زَوْجهَا عِنْد مَالِك . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا نُكِحَتْ فَقَدْ اِنْقَطَعَ حَقّهَا . فَإِنْ طَلَّقَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا الرُّجُوع فِيهِ عِنْد مَالِك فِي الْأَشْهَر عِنْدنَا مِنْ مَذْهَبه . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل وَذَكَرَهُ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد أَيْضًا عَنْ مَالِك أَنَّهُ اِخْتَلَفَ قَوْله فِي ذَلِكَ , فَقَالَ مَرَّة : يُرَدّ إِلَيْهَا . وَقَالَ مَرَّة : لَا يُرَدّ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فَإِذَا خَرَجَتْ الْأُمّ عَنْ الْبَلَد الَّذِي بِهِ وَلَدهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيْهِ فَهِيَ أَحَقّ بِوَلَدِهَا فِي قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ طُلِّقَتْ أَوْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجهَا رَجَعَتْ فِي حَقّهَا مِنْ الْوَلَد .
قُلْت وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب , فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْج أَوْ مَاتَ عَنْهَا كَانَ لَهَا أَخْذه لِزَوَالِ الْعُذْر الَّذِي جَازَ لَهُ تَرْكه .
فَإِنْ تَرَكَتْ الْمَرْأَة حَضَانَة وَلَدهَا وَلَمْ تُرِدْ أَخْذه وَهِيَ فَارِغَة غَيْر مَشْغُولَة بِزَوْجٍ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْد ذَلِكَ أَخْذه نُظِرَ لَهَا , فَإِنْ كَانَ تَرْكهَا لَهُ مِنْ عُذْر كَانَ لَهَا أَخْذه , وَإِنْ كَانَتْ تَرَكَتْهُ رَفْضًا لَهُ وَمَقْتًا لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْد ذَلِكَ أَخْذه .
وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجَيْنِ يَفْتَرِقَانِ بِطَلَاقٍ وَالزَّوْجَة ذِمِّيَّة , فَقَالَتْ طَائِفَة : لَا فَرْق بَيْن الذِّمِّيَّة وَالْمُسْلِمَة وَهِيَ أَحَقّ بِوَلَدِهَا , هَذَا قَوْل أَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي وَابْن الْقَاسِم صَاحِب مَالِك . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ رُوِّينَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا مُوَافِقًا لِهَذَا الْقَوْل , وَفِي إِسْنَاده مَقَال . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ إِنَّ الْوَلَد مَعَ الْمُسْلِم مِنْهُمَا , هَذَا قَوْل مَالِك وَسَوَّار وَعَبْد اللَّه بْن الْحَسَن , وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيّ . وَكَذَلِكَ اِخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجَيْنِ يَفْتَرِقَانِ , أَحَدهمَا حُرّ وَالْآخَر مَمْلُوك , فَقَالَتْ طَائِفَة : الْحُرّ أَوْلَى , هَذَا قَوْل عَطَاء وَالثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَقَالَ مَالِك : فِي الْأَب إِذَا كَانَ حُرًّا وَلَهُ وَلَد حُرّ وَالْأُمّ مَمْلُوكَة : إِنَّ الْأُمّ أَحَقّ بِهِ إِلَّا أَنْ تُبَاع فَتَنْتَقِل فَيَكُون الْأَب أَحَقّ بِهِ .
دَلِيل عَلَى أَنَّ إِرْضَاع الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ حَتْمًا فَإِنَّهُ يَجُوز الْفِطَام قَبْل الْحَوْلَيْنِ , وَلَكِنَّهُ تَحْدِيد لِقَطْعِ التَّنَازُع بَيْن الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّة الرَّضَاع , فَلَا يَجِب عَلَى الزَّوْج إِعْطَاء الْأُجْرَة لِأَكْثَر مِنْ حَوْلَيْنِ . وَإِنْ أَرَادَ الْأَب الْفَطْم قَبْل هَذِهِ الْمُدَّة وَلَمْ تَرْضَ الْأُمّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ . وَالزِّيَادَة عَلَى الْحَوْلَيْنِ أَوْ النُّقْصَان إِنَّمَا يَكُون عِنْد عَدَم الْإِضْرَار بِالْمَوْلُودِ وَعِنْد رِضَا الْوَالِدَيْنِ . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَابْن مُحَيْصِن " لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تَتِمّ الرَّضَاعَةُ " بِفَتْحِ التَّاء وَرَفْع " الرَّضَاعَة " عَلَى إِسْنَاد الْفِعْل إِلَيْهَا . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة وَابْن أَبِي عَبْلَة وَالْجَارُود بْن أَبِي سَبْرَة بِكَسْرِ الرَّاء مِنْ " الرِّضَاعَة " وَهِيَ لُغَة كَالْحَضَارَةِ وَالْحِضَارَة . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَرَأَ " الرَّضْعَة " عَلَى وَزْن الْفَعْلَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَرَأَ " أَنْ يُكْمِل الرَّضَاعَة " . النَّحَّاس : لَا يَعْرِف الْبَصْرِيُّونَ " الرَّضَاعَة " إِلَّا بِفَتْحِ الرَّاء , وَلَا " الرِّضَاع " إِلَّا بِكَسْرِ الرَّاء , مِثْل الْقِتَال . وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ كَسْر الرَّاء مَعَ الْهَاء وَفَتْحهَا بِغَيْرِ هَاء .
اِنْتَزَعَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَمَنْ تَابَعَهُ وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الرَّضَاعَة الْمُحَرِّمَة الْجَارِيَة مَجْرَى النَّسَب إِنَّمَا هِيَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ ; لِأَنَّهُ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلَيْنِ تَمَّتْ الرَّضَاعَة , وَلَا رَضَاعَة بَعْد الْحَوْلَيْنِ مُعْتَبَرَة . هَذَا قَوْله فِي مُوَطَّئِهِ , وَهِيَ رِوَايَة مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم عَنْهُ , وَهُوَ قَوْل عُمَر وَابْن عَبَّاس , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود , وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَالشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَأَبُو ثَوْر . وَرَوَى اِبْن عَبْد الْحَكَم عَنْهُ الْحَوْلَيْنِ وَزِيَادَة أَيَّام يَسِيرَة . عَبْد الْمَلِك : كَالشَّهْرِ وَنَحْوه . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : الرَّضَاع الْحَوْلَيْنِ وَالشَّهْرَيْنِ بَعْد الْحَوْلَيْنِ , وَحُكِيَ عَنْهُ الْوَلِيد بْن مُسْلِم أَنَّهُ قَالَ : مَا كَانَ بَعْد الْحَوْلَيْنِ مِنْ رَضَاع بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة فَهُوَ مِنْ الْحَوْلَيْنِ , وَمَا كَانَ بَعْد ذَلِكَ فَهُوَ عَبَث . وَحُكِيَ عَنْ النُّعْمَان أَنَّهُ قَالَ : وَمَا كَانَ بَعْد الْحَوْلَيْنِ إِلَى سِتَّة أَشْهُر فَهُوَ رَضَاع , وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَلَّا حُكْم لِمَا اِرْتَضَعَ الْمَوْلُود بَعْد الْحَوْلَيْنِ . وَرَوَى سُفْيَان عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا رَضَاع إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَمْ يُسْنِدهُ عَنْ اِبْن عُيَيْنَة غَيْر الْهَيْثَم بْن جَمِيل , وَهُوَ ثِقَة حَافِظ .
قُلْت : وَهَذَا الْخَبَر مَعَ الْآيَة وَالْمَعْنَى , يَنْفِي رَضَاعَة الْكَبِير وَأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَة الْقَوْل بِهِ . وَبِهِ يَقُول اللَّيْث بْن سَعْد مِنْ بَيْن الْعُلَمَاء . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَضَاع الْكَبِير . وَرُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوع عَنْهُ . وَسَيَأْتِي فِي سُورَة [ النِّسَاء ] مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَالَ جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ هَذَيْنِ الْحَوْلَيْنِ لِكُلِّ وَلَد . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : هِيَ فِي الْوَلَد يَمْكُث فِي الْبَطْن سِتَّة أَشْهُر , فَإِنْ مَكَثَ سَبْعَة أَشْهُر فَرَضَاعه ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ شَهْرًا فَإِنْ مَكَثَ ثَمَانِيَة أَشْهُر فَرَضَاعه اِثْنَانِ وَعِشْرُونَ شَهْرًا , فَإِنْ مَكَثَ تِسْعَة أَشْهُر فَرَضَاعه أَحَد وَعِشْرُونَ شَهْرًا , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَحَمْله وَفِصَاله ثَلَاثُونَ شَهْرًا " [ الْأَحْقَاف : 15 ] . وَعَلَى هَذَا تَتَدَاخَل مُدَّة الْحَمْل وَمُدَّة الرَّضَاع وَيَأْخُذ الْوَاحِد مِنْ الْآخَر .
أَيْ وَعَلَى الْأَب . وَيَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة " وَعَلَى الْمَوْلُود لَهُمْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْك " [ يُونُس : 42 ] لِأَنَّ الْمَعْنَى وَعَلَى الَّذِي وُلِدَ لَهُ و " الَّذِي " يُعَبَّر بِهِ عَنْ الْوَاحِد وَالْجَمْع كَمَا تَقَدَّمَ .
الرِّزْق فِي هَذَا الْحُكْم الطَّعَام الْكَافِي , وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى وُجُوب نَفَقَة الْوَلَد عَلَى الْوَالِد لِضَعْفِهِ وَعَجْزه . وَسَمَّاهُ اللَّه سُبْحَانه لِلْأُمِّ ; لِأَنَّ الْغِذَاء يَصِل إِلَيْهِ بِوَاسِطَتِهَا فِي الرَّضَاع كَمَا قَالَ : " وَإِنْ كُنَّ أُولَات حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ " [ الطَّلَاق : 6 ] لِأَنَّ الْغِذَاء لَا يَصِل إِلَّا بِسَبَبِهَا .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْء نَفَقَة وَلَده الْأَطْفَال الَّذِينَ لَا مَال لَهُمْ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْد بِنْت عُتْبَة وَقَدْ قَالَتْ لَهُ : إِنَّ أَبَا سُفْيَان رَجُل شَحِيح وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَة مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْت مِنْ مَاله بِغَيْرِ عِلْمه فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ جُنَاح ؟ فَقَالَ : ( خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدك بِالْمَعْرُوفِ ) . وَالْكِسْوَة : اللِّبَاس .
وَقَوْله : " بِالْمَعْرُوفِ " أَيْ بِالْمُتَعَارَفِ فِي عُرْف الشَّرْع مِنْ غَيْر تَفْرِيط وَلَا إِفْرَاط .
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْفَاق عَلَى قَدْر غِنَى الزَّوْج وَمَنْصِبهَا مِنْ غَيْر تَقْدِير مَدّ وَلَا غَيْره بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَا تُكَلَّف نَفْس إِلَّا وُسْعهَا " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي الطَّلَاق إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ الْمَعْنَى : أَيْ لَا تُكَلَّف الْمَرْأَة الصَّبْر عَلَى التَّقْتِير فِي الْأُجْرَة , وَلَا يُكَلَّف الزَّوْج مَا هُوَ إِسْرَاف بَلْ يُرَاعَى الْقَصْد .
الْمَعْنَى : لَا تَأْبَى الْأُمّ أَنْ تُرْضِعهُ إِضْرَارًا بِأَبِيهِ أَوْ تَطْلُب أَكْثَر مِنْ أَجْر مِثْلهَا , وَلَا يَحِلّ لِلْأَبِ أَنْ يَمْنَع الْأُمّ مِنْ ذَلِكَ مَعَ رَغْبَتهَا فِي الْإِرْضَاع , هَذَا قَوْل جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ . وَقَرَأَ نَافِع وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تُضَارَّ " بِفَتْحِ الرَّاء الْمُشَدَّدَة وَمَوْضِعه جَزْم عَلَى النَّهْي , وَأَصْله لَا تُضَارَرُ عَلَى الْأَصْل , فَأُدْغِمَتْ الرَّاء الْأُولَى فِي الثَّانِيَة وَفُتِحَتْ الثَّانِيَة لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَهَكَذَا يُفْعَل فِي الْمُضَاعَف إِذَا كَانَ قَبْله فَتْح أَوْ أَلِف , تَقُول : عَضّ يَا رَجُل , وَضَارّ فُلَانًا يَا رَجُل . أَيْ لَا يُنْزَع الْوَلَد مِنْهَا إِذَا رَضِيَتْ بِالْإِرْضَاعِ وَأَلِفَهَا الصَّبِيّ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَأَبَان بْن عَاصِم وَجَمَاعَة " تُضَارّ " بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْله : " تُكَلَّف نَفْس " وَهُوَ خَبَر وَالْمُرَاد بِهِ الْأَمْر . وَرَوَى يُونُس عَنْ الْحَسَن قَالَ يَقُول : لَا تُضَارّ زَوْجهَا , تَقُول : لَا أُرْضِعهُ , وَلَا يُضَارّهَا فَيَنْزِعهُ مِنْهَا وَهِيَ تَقُول : أَنَا أُرْضِعهُ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْأَصْل " تُضَارِرْ " بِكَسْرِ الرَّاء الْأُولَى , وَرَوَاهَا أَبَان عَنْ عَاصِم , وَهِيَ لُغَة أَهْل الْحِجَاز . ف " وَالِدَة " فَاعِلَة , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون " تُضَارَر " ف " وَالِدَة " مَفْعُول مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رِضَى اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ " لَا تُضَارَر " بِرَاءَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَة . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بْن الْقَعْقَاع " تُضَارْ " بِإِسْكَانِ الرَّاء وَتَخْفِيفهَا . وَكَذَلِكَ " لَا يُضَارْ كَاتِبٌ " وَهَذَا بَعِيد لِأَنَّ الْمِثْلَيْنِ إِذَا اِجْتَمَعَا وَهُمَا أَصْلِيَّانِ لَمْ يَجُزْ حَذْف أَحَدهمَا لِلتَّخْفِيفِ , فَإِمَّا الْإِدْغَام وَإِمَّا الْإِظْهَار . وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِسْكَان وَالتَّشْدِيد . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن " لَا تُضَارِرْ " بِكَسْرِ الرَّاء الْأُولَى .
هُوَ مَعْطُوف عَلَى قَوْله : " وَعَلَى الْمَوْلُود " وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيل قَوْله : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " فَقَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَالْحَسَن وَعُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُوَ وَارِث الصَّبِيّ أَنْ لَوْ مَاتَ . قَالَ بَعْضهمْ : وَارِثه مِنْ الرِّجَال خَاصَّة يَلْزَمهُ الْإِرْضَاع , كَمَا كَانَ يَلْزَم أَبَا الصَّبِيّ لَوْ كَانَ حَيًّا , وَقَالَهُ مُجَاهِد وَعَطَاء . وَقَالَ قَتَادَة وَغَيْره : هُوَ وَارِث الصَّبِيّ مَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء , وَيَلْزَمهُمْ إِرْضَاعه عَلَى قَدْر مَوَارِيثهمْ مِنْهُ , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق فِي كِتَاب " مَعَانِي الْقُرْآن " لَهُ : فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَة فَإِنَّهُ قَالَ : تَجِب نَفَقَة الصَّغِير وَرَضَاعه عَلَى كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم , مِثْل أَنْ يَكُون رَجُل لَهُ اِبْن أُخْت صَغِير مُحْتَاج وَابْن عَمّ صَغِير مُحْتَاج وَهُوَ وَارِثه , فَإِنَّ النَّفَقَة تَجِب عَلَى الْخَال لِابْنِ أُخْته الَّذِي لَا يَرِثهُ , وَتَسْقُط عَنْ اِبْن الْعَمّ لِابْنِ عَمّه الْوَارِث . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : فَقَالُوا قَوْلًا لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه وَلَا نَعْلَم أَحَدًا قَالَهُ . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ أَبِي حَنِيفَة وَصَاحِبَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْوَارِث الَّذِي يَلْزَمهُ الْإِرْضَاع هُوَ وَارِثه إِذَا كَانَ ذَا رَحِم مُحَرَّم مِنْهُ , فَإِنْ كَانَ اِبْن عَمّ وَغَيْره لَيْسَ بِذِي رَحِم مُحَرَّم فَلَا يَلْزَمهُ شَيْء . وَقِيلَ : الْمُرَاد عَصَبَة الْأَب عَلَيْهِمْ النَّفَقَة وَالْكِسْوَة . قَالَ الضَّحَّاك : إِنْ مَاتَ أَبُو الصَّبِيّ وَلِلصَّبِيِّ مَال أُخِذَ رَضَاعه مِنْ الْمَال , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال أُخِذَ مِنْ الْعَصَبَة , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَصَبَةِ مَال أُجْبِرَتْ الْأُمّ عَلَى إِرْضَاعه . وَقَالَ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب وَالضَّحَّاك وَبَشِير بْن نَصْر قَاضِي عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : الْوَارِث هُوَ الصَّبِيّ نَفْسه , وَتَأَوَّلُوا قَوْله : " وَعَلَى الْوَارِث " الْمَوْلُود , مِثْل مَا عَلَى الْمَوْلُود لَهُ , أَيْ عَلَيْهِ فِي مَاله إِذَا وَرِثَ أَبَاهُ إِرْضَاع نَفْسه . وَقَالَ سُفْيَان : الْوَارِث هُنَا هُوَ الْبَاقِي مِنْ وَالِدَيْ الْمَوْلُود بَعْد وَفَاة الْآخَر مِنْهُمَا فَإِنْ مَاتَ الْأَب فَعَلَى الْأُمّ كِفَايَة الطِّفْل إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال , وَيُشَارِكهَا الْعَاصِب فِي إِرْضَاع الْمَوْلُود عَلَى قَدْر حَظّه مِنْ الْمِيرَاث . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلَوْ كَانَ الْيَتِيم فَقِيرًا لَا مَال لَهُ , وَجَبَ عَلَى الْإِمَام الْقِيَام بِهِ مِنْ بَيْت الْمَال , فَإِنْ لَمْ يَفْعَل الْإِمَام وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , الْأَخَصّ بِهِ فَالْأَخَصّ , وَالْأُمّ أَخَصّ بِهِ فَيَجِب عَلَيْهَا إِرْضَاعه وَالْقِيَام بِهِ , وَلَا تَرْجِع عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَحَد . وَالرَّضَاع وَاجِب وَالنَّفَقَة اِسْتِحْبَاب : وَوَجْه الِاسْتِحْبَاب قَوْله تَعَالَى : " وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ " وَوَاجِب عَلَى الْأَزْوَاج الْقِيَام بِهِنَّ , فَإِذَا تَعَذَّرَ اِسْتِيفَاء الْحَقّ لَهُنَّ بِمَوْتِ الزَّوْج أَوْ إِعْسَاره لَمْ يَسْقُط الْحَقّ عَنْهُنَّ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّة وَاجِبَة عَلَيْهِنَّ وَالنَّفَقَة وَالسُّكْنَى عَلَى أَزْوَاجهنَّ , وَإِذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَة لَهُنَّ لَمْ تَسْقُط الْعِدَّة عَنْهُنَّ . وَرَوَى عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم فِي الْأَسَدِيَّة عَنْ مَالِك بْن أَنَس رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ قَالَ : لَا يَلْزَم الرَّجُل نَفَقَة أَخ وَلَا ذِي قَرَابَة وَلَا ذِي رَحِم مِنْهُ . قَالَ : وَقَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " هُوَ مَنْسُوخ . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا لَفْظ مَالِك , وَلَمْ يُبَيِّن مَا النَّاسِخ لَهَا وَلَا عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم , وَلَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابهمْ بَيَّنَ ذَلِكَ , وَاَلَّذِي يُشْبِه أَنْ يَكُون النَّاسِخ لَهَا عِنْده وَاَللَّه أَعْلَم , أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا مِنْ مَال الْمُتَوَفَّى نَفَقَة حَوْل وَالسُّكْنَى ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَرَفَعَهُ , نَسَخَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ الْوَارِث .
قُلْت : فَعَلَى هَذَا تَكُون النَّفَقَة عَلَى الصَّبِيّ نَفْسه مِنْ مَاله , لَا يَكُون عَلَى الْوَارِث مِنْهَا شَيْء عَلَى مَا يَأْتِي . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَوْله " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " قَالَ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك هِيَ مَنْسُوخَة , وَهَذَا كَلَام تَشْمَئِزّ مِنْهُ قُلُوب الْغَافِلِينَ , وَتَحْتَار فِيهِ أَلْبَاب الشَّاذِّينَ , وَالْأَمْر فِيهِ قَرِيب , وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاء الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُفَسِّرِينَ كَانُوا يُسَمُّونَ التَّخْصِيص نَسْخًا ; لِأَنَّهُ رَفْع لِبَعْضِ مَا يَتَنَاوَلهُ الْعُمُوم مُسَامَحَة , وَجَرَى ذَلِكَ فِي أَلْسِنَتهمْ حَتَّى أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدهمْ , وَتَحْقِيق الْقَوْل فِيهِ : أَنَّ قَوْله تَعَالَى " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " إِشَارَة إِلَى مَا تَقَدَّمَ , فَمِنْ النَّاس مَنْ رَدَّهُ إِلَى جَمِيعه مِنْ إِيجَاب النَّفَقَة وَتَحْرِيم الْإِضْرَار , مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة مِنْ الْفُقَهَاء , وَمِنْ السَّلَف قَتَادَة وَالْحَسَن وَيُسْنَد إِلَى عُمَر وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " لَا يَرْجِع إِلَى جَمِيع مَا تَقَدَّم وَإِنَّمَا يَرْجِع إِلَى تَحْرِيم الْإِضْرَار , وَالْمَعْنَى : وَعَلَى الْوَارِث مِنْ تَحْرِيم الْإِضْرَار بِالْأُمِّ مَا عَلَى الْأَب , وَهَذَا هُوَ الْأَصْل , فَمَنْ اِدَّعَى أَنَّهُ يَرْجِع الْعَطْف فِيهِ إِلَى جَمِيع مَا تَقَدَّمَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيل .
قُلْت : قَوْله : وَهَذَا هُوَ الْأَصْل , يُرِيد فِي رُجُوع الضَّمِير إِلَى أَقْرَب مَذْكُور , وَهُوَ صَحِيح , إِذْ لَوْ أَرَادَ الْجَمِيع الَّذِي هُوَ الْإِرْضَاع وَالْإِنْفَاق وَعَدَم الضَّرَر لَقَالَ : وَعَلَى الْوَارِث مِثْل هَؤُلَاءِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوف عَلَى الْمَنْع مِنْ الْمُضَارَّة , وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَهُ كَافَّة الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا حَكَى الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب , وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد بِهِ أَنَّ الْوَالِدَة لَا تُضَارّ وَلَدهَا فِي أَنَّ الْأَب إِذَا بَذَلَ لَهَا أُجْرَة الْمِثْل أَلَّا تُرْضِعهُ , " وَلَا مَوْلُود لَهُ بِوَلَدِهِ " فِي أَنَّ الْأُمّ إِذَا بَذَلَتْ أَنْ تُرْضِعهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل كَانَ لَهَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأُمّ أَرْفَق وَأَحَنّ عَلَيْهِ , وَلَبَنهَا خَيْر لَهُ مِنْ لَبَن الْأَجْنَبِيَّة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه وَجَمِيع أَصْحَابه وَالشَّعْبِيّ أَيْضًا وَالزُّهْرِيّ وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " مِثْل ذَلِكَ " أَلَّا تُضَارّ , وَأَمَّا الرِّزْق وَالْكِسْوَة فَلَا يَجِب شَيْء مِنْهُ . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ الْآيَة تَضَمَّنَتْ أَنَّ الرِّزْق وَالْكِسْوَة عَلَى الْوَارِث , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْأُمَّة فِي أَلَّا يُضَارّ الْوَارِث , وَالْخِلَاف هَلْ عَلَيْهِ رِزْق وَكِسْوَة أَمْ لَا ؟ وَقَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمَر " وَعَلَى الْوَرَثَة " بِالْجَمْعِ , وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُوم , فَإِنْ اِسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَقْبَل اللَّه صَدَقَة وَذُو رَحِم مُحْتَاج ) قِيلَ لَهُمْ الرَّحِم عُمُوم فِي كُلّ ذِي رَحِم , مُحَرَّمًا كَانَ أَوْ غَيْر مُحَرَّم , وَلَا خِلَاف أَنَّ صَرْف الصَّدَقَة إِلَى ذِي الرَّحِم أَوْلَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِجْعَلْهَا فِي الْأَقْرَبِينَ ) فَحُمِلَ الْحَدِيث عَلَى هَذَا , وَلَا حُجَّة فِيهِ عَلَى مَا رَامُوهُ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ النَّحَّاس : وَأَمَّا قَوْله مَنْ قَالَ " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " أَلَّا يُضَارّ فَقَوْله حَسَن ; لِأَنَّ أَمْوَال النَّاس مَحْظُورَة فَلَا يَخْرُج شَيْء مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِع . وَأَمَّا قَوْله مَنْ قَالَ عَلَى وَرَثَة الْأَب فَالْحُجَّة أَنَّ النَّفَقَة كَانَتْ عَلَى الْأَب , فَوَرَثَته أَوْلَى مِنْ وَرَثَة الِابْن وَأَمَّا حُجَّة مَنْ قَالَ عَلَى وَرَثَة الِابْن فَيَقُول : كَمَا يَرِثُونَهُ يَقُومُونَ بِهِ . قَالَ النَّحَّاس : وَكَانَ مُحَمَّد بْن جَرِير يَخْتَار قَوْل مَنْ قَالَ : الْوَارِث هُنَا الِابْن , وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا غَرِيبًا فَالِاسْتِدْلَال بِهِ صَحِيح وَالْحُجَّة بِهِ ظَاهِرَة ; لِأَنَّ مَاله أَوْلَى بِهِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاء إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ أَنَّ رَجُلًا لَوْ كَانَ لَهُ وَلَد طِفْل وَلِلْوَلَدِ مَال , وَالْأَب مُوسِر أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَى الْأَب نَفَقَة وَلَا رَضَاع , وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَال الصَّبِيّ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَعَلَى الْمَوْلُود لَهُ رِزْقهنَّ وَكِسْوَتهنَّ بِالْمَعْرُوفِ " , قِيلَ : هَذَا الضَّمِير لِلْمُؤَنَّثِ , وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الْإِجْمَاع حَدٌّ لِلْآيَةِ مُبَيِّن لَهَا , لَا يَسَع مُسْلِمًا الْخُرُوج عَنْهُ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ , فَحُجَّته أَنَّهُ لَا يَجُوز لِلْأُمِّ تَضْيِيع وَلَدهَا , وَقَدْ مَاتَ مَنْ كَانَ يُنْفِق عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى رَدّ هَذَا الْقَوْل [ بَاب - وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ , وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَة مِنْهُ شَيْء ] وَسَاقَ حَدِيث أُمّ سَلَمَة وَهِنْد . وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ أُمّ سَلَمَة كَانَ لَهَا أَبْنَاء مِنْ أَبِي سَلَمَة وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَال , فَسَأَلَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهَا أَنَّ لَهَا فِي ذَلِكَ أَجْرًا . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ نَفَقَة بَنِيهَا لَا تَجِب عَلَيْهَا , وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا لَمْ تَقُلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَسْت بِتَارِكَتِهِمْ . وَأَمَّا حَدِيث هِنْد فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَهَا عَلَى أَخْذ نَفَقَتهَا وَنَفَقَة بَنِيهَا مِنْ مَال الْأَب , وَلَمْ يُوجِبهَا عَلَيْهَا كَمَا أَوْجَبَهَا عَلَى الْأَب . فَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيّ مِنْ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَم الْأُمَّهَات نَفَقَات الْأَبْنَاء فِي حَيَاة الْآبَاء فَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمهُنَّ بِمَوْتِ الْآبَاء . وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّ النَّفَقَة وَالْكِسْوَة عَلَى كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم فَحُجَّته أَنَّ عَلَى الرَّجُل أَنْ يُنْفِق عَلَى كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم إِذَا كَانَ فَقِيرًا . قَالَ النَّحَّاس : وَقَدْ عُورِضَ هَذَا الْقَوْل بِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذ مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَلَا مِنْ إِجْمَاع وَلَا مِنْ سُنَّة صَحِيحَة , بَلْ لَا يُعْرَف مِنْ قَوْلٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ . فَأَمَّا الْقُرْآن فَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَارِث النَّفَقَة وَالْكِسْوَة فَقَدْ خَالَفُوا ذَلِكَ فَقَالُوا : إِذَا تَرَكَ خَاله وَابْن عَمّه فَالنَّفَقَة عَلَى خَاله وَلَيْسَ عَلَى اِبْن عَمّه شَيْء , فَهَذَا مُخَالِف نَصّ الْقُرْآن لِأَنَّ الْخَال لَا يَرِث مَعَ اِبْن الْعَمّ فِي قَوْل أَحَد , وَلَا يَرِث وَحْده فِي قَوْل كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء , وَاَلَّذِي اِحْتَجُّوا بِهِ مِنْ النَّفَقَة عَلَى كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم , أَكْثَر أَهْل الْعِلْم عَلَى خِلَافه .
" الضَّمِير فِي " أَرَادَا " لِلْوَالِدَيْنِ . و " فِصَالًا " مَعْنَاهُ فِطَامًا عَنْ الرَّضَاع , أَيْ عَنْ الِاغْتِذَاء بِلَبَنِ أُمّه إِلَى غَيْره مِنْ الْأَقْوَات . وَالْفِصَال وَالْفَصْل : الْفِطَام , وَأَصْله التَّفْرِيق , فَهُوَ تَفْرِيق بَيْن الصَّبِيّ وَالثَّدْي , وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَصِيل , لِأَنَّهُ مَفْصُول عَنْ أُمّه . " عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا " أَيْ قَبْل الْحَوْلَيْنِ . " فَلَا جُنَاح عَلَيْهِمَا " أَيْ فِي فَصْله , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمَّا جَعَلَ مُدَّة الرَّضَاع حَوْلَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ فِطَامهمَا هُوَ الْفِطَام , وَفِصَالهمَا هُوَ الْفِصَال لَيْسَ لِأَحَدٍ عَنْهُ مَنْزَع , إِلَّا أَنْ يَتَّفِق الْأَبَوَانِ عَلَى أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَد مِنْ غَيْر مُضَارَّة بِالْوَلَدِ , فَذَلِكَ جَائِز بِهَذَا الْبَيَان . وَقَالَ قَتَادَة : كَانَ الرَّضَاع وَاجِبًا فِي الْحَوْلَيْنِ وَكَانَ يَحْرُم الْفِطَام قَبْله , ثُمَّ خُفِّفَ وَأُبِيحَ الرَّضَاع أَقَلّ مِنْ الْحَوْلَيْنِ بِقَوْلِهِ : " فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا " الْآيَة . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام بِإِبَاحَةِ اللَّه تَعَالَى لِلْوَالِدَيْنِ التَّشَاوُر فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى صَلَاح الصَّغِير , وَذَلِكَ مَوْقُوف عَلَى غَالِب ظُنُونهمَا لَا عَلَى الْحَقِيقَة وَالْيَقِين , وَالتَّشَاوُر : اِسْتِخْرَاج الرَّأْي , وَكَذَلِكَ الْمُشَاوَرَة , وَالْمَشُورَة كَالْمَعُونَةِ , وَشُرْتُ الْعَسَل : اِسْتَخْرَجْته , وَشُرْتُ الدَّابَّة وَشَوَّرْتُهَا أَيْ أَجْرَيْتهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيهَا , وَالشَّوَار : مَتَاع الْبَيْت ; لِأَنَّهُ يَظْهَر لِلنَّاظِرِ , وَالشَّارَة : هَيْئَة الرَّجُل , وَالْإِشَارَة : إِخْرَاج مَا فِي نَفْسك وَإِظْهَاره .
أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ غَيْر الْوَالِدَة , قَالَهُ الزَّجَّاج . قَالَ النَّحَّاس : التَّقْدِير فِي الْعَرَبِيَّة أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَجْنَبِيَّة لِأَوْلَادِكُمْ , مِثْل " كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 3 ] أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ , وَحُذِفَتْ اللَّام لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا بِحَرْفٍ , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : أَمَرْتُك الْخَيْر فَافْعَلْ مَا أُمِرْت بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُك ذَا مَال وَذَا نَسَب وَلَا يَجُوز : دَعَوْت زَيْدًا , أَيْ دَعَوْت لِزَيْدٍ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّلْبِيس , فَيُعْتَبَر فِي هَذَا النَّوْع السَّمَاع .
قُلْت : وَعَلَى هَذَا يَكُون فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذ الظِّئْر إِذَا اِتَّفَقَ الْآبَاء وَالْأُمَّهَات عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَة فِي قَوْله تَعَالَى : " لَا تُضَارّ وَالِدَة " مَعْنَاهُ الظِّئْر , حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة . وَالْأَصْل أَنَّ كُلّ أُمّ يَلْزَمهَا رَضَاع وَلَدهَا كَمَا أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , فَأَمَرَ الزَّوْجَات بِإِرْضَاعِ أَوْلَادهنَّ , وَأَوْجَبَ لَهُنَّ عَلَى الْأَزْوَاج النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَالزَّوْجِيَّة قَائِمَة , فَلَوْ كَانَ الرَّضَاع عَلَى الْأَب لِذِكْرِهِ مَعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ رِزْقهنَّ وَكِسْوَتهنَّ , إِلَّا أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّه دُون فُقَهَاء الْأَمْصَار اِسْتَثْنَى الْحَسِيبَة فَقَالَ : لَا يَلْزَمهَا رَضَاعَة . فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْآيَة وَخَصَّصَهَا بِأَصْلٍ مِنْ أُصُول الْفِقْه وَهُوَ الْعَمَل بِالْعَادَةِ . وَهَذَا أَصْل لَمْ يَتَفَطَّن لَهُ إِلَّا مَالِك . وَالْأَصْل الْبَدِيع فِيهِ أَنَّ هَذَا أَمْر كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة فِي ذَوِي الْحَسَب وَجَاءَ الْإِسْلَام فَلَمْ يُغَيِّرهُ , وَتَمَادَى ذَوُو الثَّرْوَة وَالْأَحْسَاب عَلَى تَفْرِيغ الْأُمَّهَات لِلْمُتْعَةِ بِدَفْعِ الرُّضَعَاء لِلْمَرَاضِعِ إِلَى زَمَانه فَقَالَ بِهِ , وَإِلَى زَمَاننَا فَتَحَقَّقْنَاهُ شَرْعًا .
يَعْنِي الْآبَاء , أَيْ سَلَّمْتُمْ الْأُجْرَة إِلَى الْمُرْضِعَة الظِّئْر , قَالَهُ سُفْيَان . مُجَاهِد : سَلَّمْتُمْ إِلَى الْأُمَّهَات أَجْرهنَّ بِحِسَابِ مَا أَرْضَعْنَ إِلَى وَقْت إِرَادَة الِاسْتِرْضَاع . وَقَرَأَ السِّتَّة مِنْ السَّبْعَة " مَا آتَيْتُمْ " بِمَعْنَى مَا أَعْطَيْتُمْ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير " أَتَيْتُمْ " بِمَعْنَى مَا جِئْتُمْ وَفَعَلْتُمْ , كَمَا قَالَ زُهَيْر : وَمَا كَانَ مِنْ خَيْر أَتَوْهُ فَإِنَّمَا تَوَارَثَهُ آبَاء آبَائِهِمْ قَبْلُ قَالَ قَتَادَة وَالزُّهْرِيّ : الْمَعْنَى سَلَّمْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ مِنْ إِرَادَة الِاسْتِرْضَاع , أَيْ سَلَّمَ كُلّ وَاحِد مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَرَضِيَ , وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اِتِّفَاق مِنْهُمَا وَقَصْد خَيْر وَإِرَادَة مَعْرُوف مِنْ الْأَمْر . وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَال فَيَدْخُل فِي الْخِطَاب " سَلَّمْتُمْ " الرِّجَال وَالنِّسَاء , وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْخِطَاب لِلرِّجَالِ . قَالَ أَبُو عَلِيّ : الْمَعْنَى إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ نَقْده أَوْ إِعْطَاءَهُ , فَحُذِفَ الْمُضَاف وَأُقِيمَ الضَّمِير مَقَامه , فَكَانَ التَّقْدِير : مَا آتَيْتُمُوهُ , ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِير مِنْ الصِّلَة , وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل فَالْخِطَاب لِلرِّجَالِ ; لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يُعْطُونَ أَجْر الرَّضَاع . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون " مَا " مَصْدَرِيَّة , أَيْ إِذَا سَلَّمْتُمْ الْإِتْيَان , وَالْمَعْنَى كَالْأَوَّلِ , لَكِنْ يَسْتَغْنِي عَنْ الصِّفَة مَنْ حَذَفَ الْمُضَاف ثُمَّ حَذَفَ الضَّمِير .
قَالَ الْعُلَمَاء : وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَالِم بِخَفِيَّاتِ الْأُمُور . وَالْبَصِير فِي كَلَام الْعَرَب : الْعَالِم بِالشَّيْءِ الْخَبِير بِهِ , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : فُلَان بَصِير بِالطِّبِّ , وَبَصِير بِالْفِقْهِ , وَبَصِير بِمُلَاقَاةِ الرِّجَال , قَالَ : فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي بَصِير بِأَدْوَاءِ النِّسَاء طَبِيب قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْبَصِير الْعَالِم , وَالْبَصِير الْمُبْصِر . وَقِيلَ : وَصَفَ تَعَالَى نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى جَاعِل الْأَشْيَاء الْمُبْصِرَة ذَوَات إِبْصَار , أَيْ مُدْرِكَة لِلْمُبْصِرَاتِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنْ الْآلَة الْمُدْرِكَة وَالْقُوَّة , فَاَللَّه بَصِير بِعِبَادِهِ , أَيْ جَاعِل عِبَاده مُبْصِرِينَ .
" يُرْضِعْنَ " خَبَر مَعْنَاهُ الْأَمْر عَلَى الْوُجُوب لِبَعْضِ الْوَالِدَات , وَعَلَى جِهَة النَّدْب لِبَعْضِهِنَّ عَلَى مَا يَأْتِي . وَقِيلَ : هُوَ خَبَر عَنْ الْمَشْرُوعِيَّة كَمَا تَقَدَّمَ .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الرَّضَاع هَلْ هُوَ حَقّ لِلْأُمِّ أَوْ هُوَ حَقّ عَلَيْهَا , وَاللَّفْظ مُحْتَمَل , لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّصْرِيح بِكَوْنِهِ عَلَيْهَا لَقَالَ : وَعَلَى الْوَالِدَات رَضَاع أَوْلَادهنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَعَلَى الْمَوْلُود لَهُ رِزْقهنَّ وَكِسْوَتهنَّ " وَلَكِنْ هُوَ عَلَيْهَا فِي حَال الزَّوْجِيَّة , وَهُوَ عُرْف يَلْزَم إِذْ قَدْ صَارَ كَالشَّرْطِ , إِلَّا أَنْ تَكُون شَرِيفَة ذَات تَرَفُّه فَعَرَفَهَا أَلَّا تُرْضِع وَذَلِكَ كَالشَّرْطِ . وَعَلَيْهَا إِنْ لَمْ يَقْبَل الْوَلَد غَيْرهَا وَاجِب . وَهُوَ عَلَيْهَا إِذَا عُدِمَ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ . فَإِنْ مَاتَ الْأَب وَلَا مَال لِلصَّبِيِّ فَمَذْهَب مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة أَنَّ الرَّضَاع لَازِم لِلْأُمِّ بِخِلَافِ النَّفَقَة . وَفِي كِتَاب اِبْن الْجَلَّاب : رَضَاعه فِي بَيْت الْمَال . وَقَالَ عَبْد الْوَهَّاب : هُوَ فَقِير مِنْ فُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا الْمُطَلَّقَة طَلَاق بَيْنُونَة فَلَا رَضَاع عَلَيْهَا , وَالرَّضَاع عَلَى الزَّوْج إِلَّا أَنْ تَشَاء هِيَ , فَهِيَ أَحَقّ بِأُجْرَةِ الْمِثْل , هَذَا مَعَ يُسْر الزَّوْج فَإِنْ كَانَ مُعْدِمًا لَمْ يَلْزَمهَا الرَّضَاع إِلَّا أَنْ يَكُون الْمَوْلُود لَا يَقْبَل غَيْرهَا فَتُجْبَر حِينَئِذٍ عَلَى الْإِرْضَاع . وَكُلّ مَنْ يَلْزَمهَا الْإِرْضَاع فَإِنْ أَصَابَهَا عُذْر يَمْنَعهَا مِنْهُ عَادَ الْإِرْضَاع عَلَى الْأَب . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّ الْأَب إِذَا كَانَ مُعْدِمًا وَلَا مَال لِلصَّبِيِّ أَنَّ الرَّضَاع عَلَى الْأُمّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَن وَلَهَا مَال فَالْإِرْضَاع عَلَيْهَا فِي مَالهَا . قَالَ الشَّافِعِيّ , : لَا يَلْزَم الرَّضَاع إِلَّا وَالِدًا أَوْ جَدًّا وَإِنْ عَلَا , وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " . يُقَال : رَضِعَ يَرْضَع رَضَاعَة وَرَضَاعًا , وَرَضَعَ يَرْضِع رِضَاعًا وَرَضَاعَة ( بِكَسْرِ الرَّاء فِي الْأَوَّل وَفَتْحهَا فِي الثَّانِي ) وَاسْم الْفَاعِل رَاضِع فِيهِمَا . وَالرَّضَاعَة : اللُّؤْم ( مَفْتُوح الرَّاء لَا غَيْر ) .
" حَوْلَيْنِ " أَيْ سَنَتَيْنِ , مِنْ حَالَ الشَّيْء إِذَا اِنْقَلَبَ , فَالْحَوْل مُنْقَلِب مِنْ الْوَقْت الْأَوَّل إِلَى الثَّانِي . وَقِيلَ : سُمِّيَ الْعَام حَوْلًا لِاسْتِحَالَةِ الْأُمُور فِيهِ فِي الْأَغْلَب . " كَامِلَيْنِ " قُيِّدَ بِالْكَمَالِ لِأَنَّ الْقَائِل قَدْ يَقُول : أَقَمْت عِنْد فُلَان حَوْلَيْنِ وَهُوَ يُرِيد حَوْلًا وَبَعْض حَوْل آخَر , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ " [ الْبَقَرَة : 203 ] وَإِنَّمَا يَتَعَجَّل فِي يَوْم وَبَعْض الثَّانِي .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل لِمَالِك عَلَى أَنَّ الْحَضَانَة لِلْأُمِّ , فَهِيَ فِي الْغُلَام إِلَى الْبُلُوغ , وَفِي الْجَارِيَة إِلَى النِّكَاح , وَذَلِكَ حَقّ لَهَا , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا بَلَغَ الْوَلَد ثَمَانِي سِنِينَ وَهُوَ سِنّ التَّمْيِيز , خُيِّرَ بَيْن أَبَوَيْهِ , فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَة تَتَحَرَّك هِمَّته لِتَعَلُّمِ الْقُرْآن وَالْأَدَب وَوَظَائِف الْعِبَادَات , وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغُلَام وَالْجَارِيَة . وَرَوَى النَّسَائِيّ وَغَيْره عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ اِمْرَأَة جَاءَتْ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَهُ : زَوْجِي يُرِيد أَنْ يَذْهَب بِابْنِي , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذَا أَبُوك وَهَذِهِ أُمّك فَخُذْ أَيّهمَا شِئْت ) فَأَخَذَ بِيَدِ أُمّه . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : جَاءَتْ اِمْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا قَاعِد عِنْده فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ زَوْجِي يُرِيد أَنْ يَذْهَب بِابْنِي , وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْر أَبِي عِنَبَة , وَقَدْ نَفَعَنِي , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِسْتَهِمَا عَلَيْهِ ) فَقَالَ زَوْجهَا : مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذَا أَبُوك وَهَذِهِ أُمّك فَخُذْ بِيَدِ أَحَدهمَا شِئْت ) فَأَخَذَ بِيَدِ أُمّه فَانْطَلَقَتْ بِهِ . وَدَلِيلنَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ الْأَوْزَاعِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّ اِمْرَأَة جَاءَتْ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ اِبْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاء , وَثَدْيِي لَهُ سِقَاء , وَحِجْرِي لَهُ حِوَاء , وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعهُ مِنِّي , فَقَالَ لَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْتِ أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا اِفْتَرَقَا وَلَهُمَا وَلَد أَنَّ الْأُمّ أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِح . وَكَذَا قَالَ أَبُو عُمَر : لَا أَعْلَم خِلَافًا بَيْن السَّلَف مِنْ الْعُلَمَاء فِي الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة إِذَا لَمْ تَتَزَوَّج أَنَّهَا أَحَقّ بِوَلَدِهَا مِنْ أَبِيهِ مَا دَامَ طِفْلًا صَغِيرًا لَا يُمَيِّز شَيْئًا إِذَا كَانَ عِنْدهَا فِي حِرْز وَكِفَايَة وَلَمْ يَثْبُت فِيهَا فِسْق وَلَا تَبَرُّج .
ثُمَّ اِخْتَلَفُوا بَعْد ذَلِكَ فِي تَخْيِيره إِذَا مَيَّزَ وَعَقَلَ بَيْن أَبِيهِ وَأُمّه وَفِيمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ , قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي اِبْنَة حَمْزَة لِلْخَالَةِ مِنْ غَيْر تَخْيِير . رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَلِيّ قَالَ : خَرَجَ زَيْد بْن حَارِثَة إِلَى مَكَّة فَقَدِمَ بِابْنَةِ حَمْزَة , فَقَالَ جَعْفَر : أَنَا آخُذهَا أَنَا أَحَقّ بِهَا , اِبْنَة عَمِّي وَخَالَتهَا عِنْدِي وَالْخَالَة أُمّ . فَقَالَ عَلِيّ : أَنَا أَحَقّ بِهَا , اِبْنَة عَمِّي وَعِنْدِي اِبْنَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهِيَ أَحَقّ بِهَا . فَقَالَ زَيْد : أَنَا أَحَقّ بِهَا , أَنَا خَرَجْت إِلَيْهَا وَسَافَرْت وَقَدِمْت بِهَا . فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ حَدِيثًا قَالَ : ( وَأَمَّا الْجَارِيَة فَأَقْضِي بِهَا لِجَعْفَرٍ تَكُون مَعَ خَالَتهَا وَإِنَّمَا الْخَالَة أُمّ ) .
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ أَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَلَّا حَقّ لِلْأُمِّ فِي الْوَلَد إِذَا تَزَوَّجَتْ .
قُلْت : كَذَا قَالَ فِي كِتَاب الْأَشْرَاف لَهُ . وَذَكَرَ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب فِي شَرْح الرِّسَالَة لَهُ عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ لَا يَسْقُط حَقّهَا مِنْ الْحَضَانَة بِالتَّزَوُّجِ . وَأَجْمَعَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالنُّعْمَان وَأَبُو ثَوْر عَلَى أَنَّ الْجَدَّة أُمّ الْأُمّ أَحَقّ بِحَضَانَةِ الْوَلَد . وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أُمّ وَكَانَ لَهَا جَدَّة هِيَ أُمّ الْأَب , فَقَالَ مَالِك : أُمّ الْأَب أَحَقّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ خَالَة . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : قَالَ مَالِك : وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْخَالَة أَوْلَى مِنْ الْجَدَّة أُمّ الْأَب . وَفِي قَوْل الشَّافِعِيّ وَالنُّعْمَان : أُمّ الْأَب أَحَقّ مِنْ الْخَالَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْأَب أَوْلَى بِابْنِهِ مِنْ الْجَدَّة أُمّ الْأَب . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا عِنْدِي إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَة أَجْنَبِيَّة . ثُمَّ الْأُخْت بَعْد الْأَب ثُمَّ الْعَمَّة . وَهَذَا إِذَا كَانَ كُلّ وَاحِد مِنْ هَؤُلَاءِ مَأْمُونًا عَلَى الْوَلَد , وَكَانَ عِنْده فِي حِرْز وَكِفَايَة , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقّ فِي الْحَضَانَة , وَإِنَّمَا يُنْظَر فِي ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَحُوط الصَّبِيّ وَمَنْ يُحْسِن إِلَيْهِ فِي حِفْظه وَتَعَلُّمه الْخَيْر . وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّ الْحَضَانَة حَقّ الْوَلَد , وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِك وَقَالَ بِهِ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابه , وَكَذَلِكَ لَا يَرَوْنَ حَضَانَة لِفَاجِرَةٍ وَلَا لِضَعِيفَةٍ عَاجِزَة عَنْ الْقِيَام بِحَقِّ الصَّبِيّ لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَة . وَذَكَرَ اِبْن حَبِيب عَنْ مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُونَ عَنْ مَالِك أَنَّ الْحَضَانَة لِلْأُمِّ ثُمَّ الْجَدَّة لِلْأُمِّ ثُمَّ الْخَالَة ثُمَّ الْجَدَّة لِلْأَبِ ثُمَّ أُخْت الصَّبِيّ ثُمَّ عَمَّة الصَّبِيّ ثُمَّ اِبْنَة أَخِي الصَّبِيّ ثُمَّ الْأَب . وَالْجَدَّة لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْت وَالْأُخْت أَوْلَى مِنْ الْعَمَّة وَالْعَمَّةُ أَوْلَى مِمَّنْ بَعْدهَا , وَأَوْلَى مِنْ جَمِيع الرِّجَال الْأَوْلِيَاء . وَلَيْسَ لِابْنَةِ الْخَالَة وَلَا لِابْنَةِ الْعَمَّة وَلَا لِبَنَاتِ أَخَوَات الصَّبِيّ مِنْ حَضَانَته شَيْء . فَإِذَا كَانَ الْحَاضِن لَا يُخَاف مِنْهُ عَلَى الطِّفْل تَضْيِيع أَوْ دُخُول فَسَاد كَانَ حَاضِنًا لَهُ أَبَدًا حَتَّى يَبْلُغ الْحُلُم . وَقَدْ قِيلَ : حَتَّى يُثْغِر , وَحَتَّى تَتَزَوَّج الْجَارِيَة , إِلَّا أَنْ يُرِيد الْأَب نَقْلَة سَفَر وَإِيطَان فَيَكُون حِينَئِذٍ أَحَقّ بِوَلَدِهِ مِنْ أُمّه وَغَيْرهَا إِنْ لَمْ تُرِدْ الِانْتِقَال . وَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوج لِتِجَارَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاء الصَّبِيّ الَّذِينَ يَكُون مَآله إِذَا اِنْتَقَلُوا لِلِاسْتِيطَانِ . وَلَيْسَ لِلْأُمِّ أَنْ تَنْقُل وَلَدهَا عَنْ مَوْضِع سُكْنَى الْأَب إِلَّا فِيمَا يَقْرَب نَحْو الْمَسَافَة الَّتِي لَا تُقْصَر فِيهَا الصَّلَاة . وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا فِي حِين اِنْتِقَاله عَنْ بَلَدهَا أَنَّهُ لَا يَتْرُك وَلَده عِنْدهَا إِلَّا أَنْ تَلْتَزِم نَفَقَته وَمَئُونَته سِنِينَ مَعْلُومَة فَإِنْ اِلْتَزَمَتْ ذَلِكَ لَزِمَهَا : فَإِنْ مَاتَتْ لَمْ تُتْبَع بِذَلِكَ وَرَثَتهَا فِي تَرِكَتهَا . وَقَدْ قِيلَ : ذَلِكَ دَيْن يُؤْخَذ مِنْ تَرِكَتهَا , وَالْأَوَّل أَصَحّ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَالِد أَوْ كَمَا لَوْ صَالَحَهَا عَلَى نَفَقَة الْحَمْل وَالرَّضَاع فَأَسْقَطَتْ لَمْ تُتْبَع بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
إِذَا تَزَوَّجَتْ الْأُمّ لَمْ يُنْزَع مِنْهَا وَلَدهَا حَتَّى يَدْخُل بِهَا زَوْجهَا عِنْد مَالِك . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا نُكِحَتْ فَقَدْ اِنْقَطَعَ حَقّهَا . فَإِنْ طَلَّقَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا الرُّجُوع فِيهِ عِنْد مَالِك فِي الْأَشْهَر عِنْدنَا مِنْ مَذْهَبه . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل وَذَكَرَهُ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد أَيْضًا عَنْ مَالِك أَنَّهُ اِخْتَلَفَ قَوْله فِي ذَلِكَ , فَقَالَ مَرَّة : يُرَدّ إِلَيْهَا . وَقَالَ مَرَّة : لَا يُرَدّ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فَإِذَا خَرَجَتْ الْأُمّ عَنْ الْبَلَد الَّذِي بِهِ وَلَدهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيْهِ فَهِيَ أَحَقّ بِوَلَدِهَا فِي قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ طُلِّقَتْ أَوْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجهَا رَجَعَتْ فِي حَقّهَا مِنْ الْوَلَد .
قُلْت وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب , فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْج أَوْ مَاتَ عَنْهَا كَانَ لَهَا أَخْذه لِزَوَالِ الْعُذْر الَّذِي جَازَ لَهُ تَرْكه .
فَإِنْ تَرَكَتْ الْمَرْأَة حَضَانَة وَلَدهَا وَلَمْ تُرِدْ أَخْذه وَهِيَ فَارِغَة غَيْر مَشْغُولَة بِزَوْجٍ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْد ذَلِكَ أَخْذه نُظِرَ لَهَا , فَإِنْ كَانَ تَرْكهَا لَهُ مِنْ عُذْر كَانَ لَهَا أَخْذه , وَإِنْ كَانَتْ تَرَكَتْهُ رَفْضًا لَهُ وَمَقْتًا لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْد ذَلِكَ أَخْذه .
وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجَيْنِ يَفْتَرِقَانِ بِطَلَاقٍ وَالزَّوْجَة ذِمِّيَّة , فَقَالَتْ طَائِفَة : لَا فَرْق بَيْن الذِّمِّيَّة وَالْمُسْلِمَة وَهِيَ أَحَقّ بِوَلَدِهَا , هَذَا قَوْل أَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي وَابْن الْقَاسِم صَاحِب مَالِك . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ رُوِّينَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا مُوَافِقًا لِهَذَا الْقَوْل , وَفِي إِسْنَاده مَقَال . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ إِنَّ الْوَلَد مَعَ الْمُسْلِم مِنْهُمَا , هَذَا قَوْل مَالِك وَسَوَّار وَعَبْد اللَّه بْن الْحَسَن , وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيّ . وَكَذَلِكَ اِخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجَيْنِ يَفْتَرِقَانِ , أَحَدهمَا حُرّ وَالْآخَر مَمْلُوك , فَقَالَتْ طَائِفَة : الْحُرّ أَوْلَى , هَذَا قَوْل عَطَاء وَالثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَقَالَ مَالِك : فِي الْأَب إِذَا كَانَ حُرًّا وَلَهُ وَلَد حُرّ وَالْأُمّ مَمْلُوكَة : إِنَّ الْأُمّ أَحَقّ بِهِ إِلَّا أَنْ تُبَاع فَتَنْتَقِل فَيَكُون الْأَب أَحَقّ بِهِ .
دَلِيل عَلَى أَنَّ إِرْضَاع الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ حَتْمًا فَإِنَّهُ يَجُوز الْفِطَام قَبْل الْحَوْلَيْنِ , وَلَكِنَّهُ تَحْدِيد لِقَطْعِ التَّنَازُع بَيْن الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّة الرَّضَاع , فَلَا يَجِب عَلَى الزَّوْج إِعْطَاء الْأُجْرَة لِأَكْثَر مِنْ حَوْلَيْنِ . وَإِنْ أَرَادَ الْأَب الْفَطْم قَبْل هَذِهِ الْمُدَّة وَلَمْ تَرْضَ الْأُمّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ . وَالزِّيَادَة عَلَى الْحَوْلَيْنِ أَوْ النُّقْصَان إِنَّمَا يَكُون عِنْد عَدَم الْإِضْرَار بِالْمَوْلُودِ وَعِنْد رِضَا الْوَالِدَيْنِ . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَابْن مُحَيْصِن " لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تَتِمّ الرَّضَاعَةُ " بِفَتْحِ التَّاء وَرَفْع " الرَّضَاعَة " عَلَى إِسْنَاد الْفِعْل إِلَيْهَا . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة وَابْن أَبِي عَبْلَة وَالْجَارُود بْن أَبِي سَبْرَة بِكَسْرِ الرَّاء مِنْ " الرِّضَاعَة " وَهِيَ لُغَة كَالْحَضَارَةِ وَالْحِضَارَة . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَرَأَ " الرَّضْعَة " عَلَى وَزْن الْفَعْلَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَرَأَ " أَنْ يُكْمِل الرَّضَاعَة " . النَّحَّاس : لَا يَعْرِف الْبَصْرِيُّونَ " الرَّضَاعَة " إِلَّا بِفَتْحِ الرَّاء , وَلَا " الرِّضَاع " إِلَّا بِكَسْرِ الرَّاء , مِثْل الْقِتَال . وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ كَسْر الرَّاء مَعَ الْهَاء وَفَتْحهَا بِغَيْرِ هَاء .
اِنْتَزَعَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَمَنْ تَابَعَهُ وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الرَّضَاعَة الْمُحَرِّمَة الْجَارِيَة مَجْرَى النَّسَب إِنَّمَا هِيَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ ; لِأَنَّهُ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلَيْنِ تَمَّتْ الرَّضَاعَة , وَلَا رَضَاعَة بَعْد الْحَوْلَيْنِ مُعْتَبَرَة . هَذَا قَوْله فِي مُوَطَّئِهِ , وَهِيَ رِوَايَة مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم عَنْهُ , وَهُوَ قَوْل عُمَر وَابْن عَبَّاس , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود , وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَالشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَأَبُو ثَوْر . وَرَوَى اِبْن عَبْد الْحَكَم عَنْهُ الْحَوْلَيْنِ وَزِيَادَة أَيَّام يَسِيرَة . عَبْد الْمَلِك : كَالشَّهْرِ وَنَحْوه . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : الرَّضَاع الْحَوْلَيْنِ وَالشَّهْرَيْنِ بَعْد الْحَوْلَيْنِ , وَحُكِيَ عَنْهُ الْوَلِيد بْن مُسْلِم أَنَّهُ قَالَ : مَا كَانَ بَعْد الْحَوْلَيْنِ مِنْ رَضَاع بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة فَهُوَ مِنْ الْحَوْلَيْنِ , وَمَا كَانَ بَعْد ذَلِكَ فَهُوَ عَبَث . وَحُكِيَ عَنْ النُّعْمَان أَنَّهُ قَالَ : وَمَا كَانَ بَعْد الْحَوْلَيْنِ إِلَى سِتَّة أَشْهُر فَهُوَ رَضَاع , وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَلَّا حُكْم لِمَا اِرْتَضَعَ الْمَوْلُود بَعْد الْحَوْلَيْنِ . وَرَوَى سُفْيَان عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا رَضَاع إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَمْ يُسْنِدهُ عَنْ اِبْن عُيَيْنَة غَيْر الْهَيْثَم بْن جَمِيل , وَهُوَ ثِقَة حَافِظ .
قُلْت : وَهَذَا الْخَبَر مَعَ الْآيَة وَالْمَعْنَى , يَنْفِي رَضَاعَة الْكَبِير وَأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَة الْقَوْل بِهِ . وَبِهِ يَقُول اللَّيْث بْن سَعْد مِنْ بَيْن الْعُلَمَاء . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَضَاع الْكَبِير . وَرُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوع عَنْهُ . وَسَيَأْتِي فِي سُورَة [ النِّسَاء ] مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَالَ جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ هَذَيْنِ الْحَوْلَيْنِ لِكُلِّ وَلَد . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : هِيَ فِي الْوَلَد يَمْكُث فِي الْبَطْن سِتَّة أَشْهُر , فَإِنْ مَكَثَ سَبْعَة أَشْهُر فَرَضَاعه ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ شَهْرًا فَإِنْ مَكَثَ ثَمَانِيَة أَشْهُر فَرَضَاعه اِثْنَانِ وَعِشْرُونَ شَهْرًا , فَإِنْ مَكَثَ تِسْعَة أَشْهُر فَرَضَاعه أَحَد وَعِشْرُونَ شَهْرًا , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَحَمْله وَفِصَاله ثَلَاثُونَ شَهْرًا " [ الْأَحْقَاف : 15 ] . وَعَلَى هَذَا تَتَدَاخَل مُدَّة الْحَمْل وَمُدَّة الرَّضَاع وَيَأْخُذ الْوَاحِد مِنْ الْآخَر .
أَيْ وَعَلَى الْأَب . وَيَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة " وَعَلَى الْمَوْلُود لَهُمْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْك " [ يُونُس : 42 ] لِأَنَّ الْمَعْنَى وَعَلَى الَّذِي وُلِدَ لَهُ و " الَّذِي " يُعَبَّر بِهِ عَنْ الْوَاحِد وَالْجَمْع كَمَا تَقَدَّمَ .
الرِّزْق فِي هَذَا الْحُكْم الطَّعَام الْكَافِي , وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى وُجُوب نَفَقَة الْوَلَد عَلَى الْوَالِد لِضَعْفِهِ وَعَجْزه . وَسَمَّاهُ اللَّه سُبْحَانه لِلْأُمِّ ; لِأَنَّ الْغِذَاء يَصِل إِلَيْهِ بِوَاسِطَتِهَا فِي الرَّضَاع كَمَا قَالَ : " وَإِنْ كُنَّ أُولَات حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ " [ الطَّلَاق : 6 ] لِأَنَّ الْغِذَاء لَا يَصِل إِلَّا بِسَبَبِهَا .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْء نَفَقَة وَلَده الْأَطْفَال الَّذِينَ لَا مَال لَهُمْ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْد بِنْت عُتْبَة وَقَدْ قَالَتْ لَهُ : إِنَّ أَبَا سُفْيَان رَجُل شَحِيح وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَة مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْت مِنْ مَاله بِغَيْرِ عِلْمه فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ جُنَاح ؟ فَقَالَ : ( خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدك بِالْمَعْرُوفِ ) . وَالْكِسْوَة : اللِّبَاس .
وَقَوْله : " بِالْمَعْرُوفِ " أَيْ بِالْمُتَعَارَفِ فِي عُرْف الشَّرْع مِنْ غَيْر تَفْرِيط وَلَا إِفْرَاط .
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْفَاق عَلَى قَدْر غِنَى الزَّوْج وَمَنْصِبهَا مِنْ غَيْر تَقْدِير مَدّ وَلَا غَيْره بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَا تُكَلَّف نَفْس إِلَّا وُسْعهَا " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي الطَّلَاق إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ الْمَعْنَى : أَيْ لَا تُكَلَّف الْمَرْأَة الصَّبْر عَلَى التَّقْتِير فِي الْأُجْرَة , وَلَا يُكَلَّف الزَّوْج مَا هُوَ إِسْرَاف بَلْ يُرَاعَى الْقَصْد .
الْمَعْنَى : لَا تَأْبَى الْأُمّ أَنْ تُرْضِعهُ إِضْرَارًا بِأَبِيهِ أَوْ تَطْلُب أَكْثَر مِنْ أَجْر مِثْلهَا , وَلَا يَحِلّ لِلْأَبِ أَنْ يَمْنَع الْأُمّ مِنْ ذَلِكَ مَعَ رَغْبَتهَا فِي الْإِرْضَاع , هَذَا قَوْل جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ . وَقَرَأَ نَافِع وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تُضَارَّ " بِفَتْحِ الرَّاء الْمُشَدَّدَة وَمَوْضِعه جَزْم عَلَى النَّهْي , وَأَصْله لَا تُضَارَرُ عَلَى الْأَصْل , فَأُدْغِمَتْ الرَّاء الْأُولَى فِي الثَّانِيَة وَفُتِحَتْ الثَّانِيَة لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَهَكَذَا يُفْعَل فِي الْمُضَاعَف إِذَا كَانَ قَبْله فَتْح أَوْ أَلِف , تَقُول : عَضّ يَا رَجُل , وَضَارّ فُلَانًا يَا رَجُل . أَيْ لَا يُنْزَع الْوَلَد مِنْهَا إِذَا رَضِيَتْ بِالْإِرْضَاعِ وَأَلِفَهَا الصَّبِيّ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَأَبَان بْن عَاصِم وَجَمَاعَة " تُضَارّ " بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْله : " تُكَلَّف نَفْس " وَهُوَ خَبَر وَالْمُرَاد بِهِ الْأَمْر . وَرَوَى يُونُس عَنْ الْحَسَن قَالَ يَقُول : لَا تُضَارّ زَوْجهَا , تَقُول : لَا أُرْضِعهُ , وَلَا يُضَارّهَا فَيَنْزِعهُ مِنْهَا وَهِيَ تَقُول : أَنَا أُرْضِعهُ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْأَصْل " تُضَارِرْ " بِكَسْرِ الرَّاء الْأُولَى , وَرَوَاهَا أَبَان عَنْ عَاصِم , وَهِيَ لُغَة أَهْل الْحِجَاز . ف " وَالِدَة " فَاعِلَة , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون " تُضَارَر " ف " وَالِدَة " مَفْعُول مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رِضَى اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ " لَا تُضَارَر " بِرَاءَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَة . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بْن الْقَعْقَاع " تُضَارْ " بِإِسْكَانِ الرَّاء وَتَخْفِيفهَا . وَكَذَلِكَ " لَا يُضَارْ كَاتِبٌ " وَهَذَا بَعِيد لِأَنَّ الْمِثْلَيْنِ إِذَا اِجْتَمَعَا وَهُمَا أَصْلِيَّانِ لَمْ يَجُزْ حَذْف أَحَدهمَا لِلتَّخْفِيفِ , فَإِمَّا الْإِدْغَام وَإِمَّا الْإِظْهَار . وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِسْكَان وَالتَّشْدِيد . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن " لَا تُضَارِرْ " بِكَسْرِ الرَّاء الْأُولَى .
هُوَ مَعْطُوف عَلَى قَوْله : " وَعَلَى الْمَوْلُود " وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيل قَوْله : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " فَقَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَالْحَسَن وَعُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُوَ وَارِث الصَّبِيّ أَنْ لَوْ مَاتَ . قَالَ بَعْضهمْ : وَارِثه مِنْ الرِّجَال خَاصَّة يَلْزَمهُ الْإِرْضَاع , كَمَا كَانَ يَلْزَم أَبَا الصَّبِيّ لَوْ كَانَ حَيًّا , وَقَالَهُ مُجَاهِد وَعَطَاء . وَقَالَ قَتَادَة وَغَيْره : هُوَ وَارِث الصَّبِيّ مَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء , وَيَلْزَمهُمْ إِرْضَاعه عَلَى قَدْر مَوَارِيثهمْ مِنْهُ , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق فِي كِتَاب " مَعَانِي الْقُرْآن " لَهُ : فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَة فَإِنَّهُ قَالَ : تَجِب نَفَقَة الصَّغِير وَرَضَاعه عَلَى كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم , مِثْل أَنْ يَكُون رَجُل لَهُ اِبْن أُخْت صَغِير مُحْتَاج وَابْن عَمّ صَغِير مُحْتَاج وَهُوَ وَارِثه , فَإِنَّ النَّفَقَة تَجِب عَلَى الْخَال لِابْنِ أُخْته الَّذِي لَا يَرِثهُ , وَتَسْقُط عَنْ اِبْن الْعَمّ لِابْنِ عَمّه الْوَارِث . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : فَقَالُوا قَوْلًا لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه وَلَا نَعْلَم أَحَدًا قَالَهُ . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ أَبِي حَنِيفَة وَصَاحِبَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْوَارِث الَّذِي يَلْزَمهُ الْإِرْضَاع هُوَ وَارِثه إِذَا كَانَ ذَا رَحِم مُحَرَّم مِنْهُ , فَإِنْ كَانَ اِبْن عَمّ وَغَيْره لَيْسَ بِذِي رَحِم مُحَرَّم فَلَا يَلْزَمهُ شَيْء . وَقِيلَ : الْمُرَاد عَصَبَة الْأَب عَلَيْهِمْ النَّفَقَة وَالْكِسْوَة . قَالَ الضَّحَّاك : إِنْ مَاتَ أَبُو الصَّبِيّ وَلِلصَّبِيِّ مَال أُخِذَ رَضَاعه مِنْ الْمَال , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال أُخِذَ مِنْ الْعَصَبَة , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَصَبَةِ مَال أُجْبِرَتْ الْأُمّ عَلَى إِرْضَاعه . وَقَالَ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب وَالضَّحَّاك وَبَشِير بْن نَصْر قَاضِي عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : الْوَارِث هُوَ الصَّبِيّ نَفْسه , وَتَأَوَّلُوا قَوْله : " وَعَلَى الْوَارِث " الْمَوْلُود , مِثْل مَا عَلَى الْمَوْلُود لَهُ , أَيْ عَلَيْهِ فِي مَاله إِذَا وَرِثَ أَبَاهُ إِرْضَاع نَفْسه . وَقَالَ سُفْيَان : الْوَارِث هُنَا هُوَ الْبَاقِي مِنْ وَالِدَيْ الْمَوْلُود بَعْد وَفَاة الْآخَر مِنْهُمَا فَإِنْ مَاتَ الْأَب فَعَلَى الْأُمّ كِفَايَة الطِّفْل إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال , وَيُشَارِكهَا الْعَاصِب فِي إِرْضَاع الْمَوْلُود عَلَى قَدْر حَظّه مِنْ الْمِيرَاث . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلَوْ كَانَ الْيَتِيم فَقِيرًا لَا مَال لَهُ , وَجَبَ عَلَى الْإِمَام الْقِيَام بِهِ مِنْ بَيْت الْمَال , فَإِنْ لَمْ يَفْعَل الْإِمَام وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , الْأَخَصّ بِهِ فَالْأَخَصّ , وَالْأُمّ أَخَصّ بِهِ فَيَجِب عَلَيْهَا إِرْضَاعه وَالْقِيَام بِهِ , وَلَا تَرْجِع عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَحَد . وَالرَّضَاع وَاجِب وَالنَّفَقَة اِسْتِحْبَاب : وَوَجْه الِاسْتِحْبَاب قَوْله تَعَالَى : " وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ " وَوَاجِب عَلَى الْأَزْوَاج الْقِيَام بِهِنَّ , فَإِذَا تَعَذَّرَ اِسْتِيفَاء الْحَقّ لَهُنَّ بِمَوْتِ الزَّوْج أَوْ إِعْسَاره لَمْ يَسْقُط الْحَقّ عَنْهُنَّ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّة وَاجِبَة عَلَيْهِنَّ وَالنَّفَقَة وَالسُّكْنَى عَلَى أَزْوَاجهنَّ , وَإِذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَة لَهُنَّ لَمْ تَسْقُط الْعِدَّة عَنْهُنَّ . وَرَوَى عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم فِي الْأَسَدِيَّة عَنْ مَالِك بْن أَنَس رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ قَالَ : لَا يَلْزَم الرَّجُل نَفَقَة أَخ وَلَا ذِي قَرَابَة وَلَا ذِي رَحِم مِنْهُ . قَالَ : وَقَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " هُوَ مَنْسُوخ . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا لَفْظ مَالِك , وَلَمْ يُبَيِّن مَا النَّاسِخ لَهَا وَلَا عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم , وَلَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابهمْ بَيَّنَ ذَلِكَ , وَاَلَّذِي يُشْبِه أَنْ يَكُون النَّاسِخ لَهَا عِنْده وَاَللَّه أَعْلَم , أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا مِنْ مَال الْمُتَوَفَّى نَفَقَة حَوْل وَالسُّكْنَى ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَرَفَعَهُ , نَسَخَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ الْوَارِث .
قُلْت : فَعَلَى هَذَا تَكُون النَّفَقَة عَلَى الصَّبِيّ نَفْسه مِنْ مَاله , لَا يَكُون عَلَى الْوَارِث مِنْهَا شَيْء عَلَى مَا يَأْتِي . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَوْله " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " قَالَ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك هِيَ مَنْسُوخَة , وَهَذَا كَلَام تَشْمَئِزّ مِنْهُ قُلُوب الْغَافِلِينَ , وَتَحْتَار فِيهِ أَلْبَاب الشَّاذِّينَ , وَالْأَمْر فِيهِ قَرِيب , وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاء الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُفَسِّرِينَ كَانُوا يُسَمُّونَ التَّخْصِيص نَسْخًا ; لِأَنَّهُ رَفْع لِبَعْضِ مَا يَتَنَاوَلهُ الْعُمُوم مُسَامَحَة , وَجَرَى ذَلِكَ فِي أَلْسِنَتهمْ حَتَّى أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدهمْ , وَتَحْقِيق الْقَوْل فِيهِ : أَنَّ قَوْله تَعَالَى " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " إِشَارَة إِلَى مَا تَقَدَّمَ , فَمِنْ النَّاس مَنْ رَدَّهُ إِلَى جَمِيعه مِنْ إِيجَاب النَّفَقَة وَتَحْرِيم الْإِضْرَار , مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة مِنْ الْفُقَهَاء , وَمِنْ السَّلَف قَتَادَة وَالْحَسَن وَيُسْنَد إِلَى عُمَر وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " لَا يَرْجِع إِلَى جَمِيع مَا تَقَدَّم وَإِنَّمَا يَرْجِع إِلَى تَحْرِيم الْإِضْرَار , وَالْمَعْنَى : وَعَلَى الْوَارِث مِنْ تَحْرِيم الْإِضْرَار بِالْأُمِّ مَا عَلَى الْأَب , وَهَذَا هُوَ الْأَصْل , فَمَنْ اِدَّعَى أَنَّهُ يَرْجِع الْعَطْف فِيهِ إِلَى جَمِيع مَا تَقَدَّمَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيل .
قُلْت : قَوْله : وَهَذَا هُوَ الْأَصْل , يُرِيد فِي رُجُوع الضَّمِير إِلَى أَقْرَب مَذْكُور , وَهُوَ صَحِيح , إِذْ لَوْ أَرَادَ الْجَمِيع الَّذِي هُوَ الْإِرْضَاع وَالْإِنْفَاق وَعَدَم الضَّرَر لَقَالَ : وَعَلَى الْوَارِث مِثْل هَؤُلَاءِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوف عَلَى الْمَنْع مِنْ الْمُضَارَّة , وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَهُ كَافَّة الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا حَكَى الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب , وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد بِهِ أَنَّ الْوَالِدَة لَا تُضَارّ وَلَدهَا فِي أَنَّ الْأَب إِذَا بَذَلَ لَهَا أُجْرَة الْمِثْل أَلَّا تُرْضِعهُ , " وَلَا مَوْلُود لَهُ بِوَلَدِهِ " فِي أَنَّ الْأُمّ إِذَا بَذَلَتْ أَنْ تُرْضِعهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل كَانَ لَهَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأُمّ أَرْفَق وَأَحَنّ عَلَيْهِ , وَلَبَنهَا خَيْر لَهُ مِنْ لَبَن الْأَجْنَبِيَّة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه وَجَمِيع أَصْحَابه وَالشَّعْبِيّ أَيْضًا وَالزُّهْرِيّ وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " مِثْل ذَلِكَ " أَلَّا تُضَارّ , وَأَمَّا الرِّزْق وَالْكِسْوَة فَلَا يَجِب شَيْء مِنْهُ . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ الْآيَة تَضَمَّنَتْ أَنَّ الرِّزْق وَالْكِسْوَة عَلَى الْوَارِث , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْأُمَّة فِي أَلَّا يُضَارّ الْوَارِث , وَالْخِلَاف هَلْ عَلَيْهِ رِزْق وَكِسْوَة أَمْ لَا ؟ وَقَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمَر " وَعَلَى الْوَرَثَة " بِالْجَمْعِ , وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُوم , فَإِنْ اِسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَقْبَل اللَّه صَدَقَة وَذُو رَحِم مُحْتَاج ) قِيلَ لَهُمْ الرَّحِم عُمُوم فِي كُلّ ذِي رَحِم , مُحَرَّمًا كَانَ أَوْ غَيْر مُحَرَّم , وَلَا خِلَاف أَنَّ صَرْف الصَّدَقَة إِلَى ذِي الرَّحِم أَوْلَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِجْعَلْهَا فِي الْأَقْرَبِينَ ) فَحُمِلَ الْحَدِيث عَلَى هَذَا , وَلَا حُجَّة فِيهِ عَلَى مَا رَامُوهُ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ النَّحَّاس : وَأَمَّا قَوْله مَنْ قَالَ " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " أَلَّا يُضَارّ فَقَوْله حَسَن ; لِأَنَّ أَمْوَال النَّاس مَحْظُورَة فَلَا يَخْرُج شَيْء مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِع . وَأَمَّا قَوْله مَنْ قَالَ عَلَى وَرَثَة الْأَب فَالْحُجَّة أَنَّ النَّفَقَة كَانَتْ عَلَى الْأَب , فَوَرَثَته أَوْلَى مِنْ وَرَثَة الِابْن وَأَمَّا حُجَّة مَنْ قَالَ عَلَى وَرَثَة الِابْن فَيَقُول : كَمَا يَرِثُونَهُ يَقُومُونَ بِهِ . قَالَ النَّحَّاس : وَكَانَ مُحَمَّد بْن جَرِير يَخْتَار قَوْل مَنْ قَالَ : الْوَارِث هُنَا الِابْن , وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا غَرِيبًا فَالِاسْتِدْلَال بِهِ صَحِيح وَالْحُجَّة بِهِ ظَاهِرَة ; لِأَنَّ مَاله أَوْلَى بِهِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاء إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ أَنَّ رَجُلًا لَوْ كَانَ لَهُ وَلَد طِفْل وَلِلْوَلَدِ مَال , وَالْأَب مُوسِر أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَى الْأَب نَفَقَة وَلَا رَضَاع , وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَال الصَّبِيّ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَعَلَى الْمَوْلُود لَهُ رِزْقهنَّ وَكِسْوَتهنَّ بِالْمَعْرُوفِ " , قِيلَ : هَذَا الضَّمِير لِلْمُؤَنَّثِ , وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الْإِجْمَاع حَدٌّ لِلْآيَةِ مُبَيِّن لَهَا , لَا يَسَع مُسْلِمًا الْخُرُوج عَنْهُ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ , فَحُجَّته أَنَّهُ لَا يَجُوز لِلْأُمِّ تَضْيِيع وَلَدهَا , وَقَدْ مَاتَ مَنْ كَانَ يُنْفِق عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى رَدّ هَذَا الْقَوْل [ بَاب - وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ , وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَة مِنْهُ شَيْء ] وَسَاقَ حَدِيث أُمّ سَلَمَة وَهِنْد . وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ أُمّ سَلَمَة كَانَ لَهَا أَبْنَاء مِنْ أَبِي سَلَمَة وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَال , فَسَأَلَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهَا أَنَّ لَهَا فِي ذَلِكَ أَجْرًا . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ نَفَقَة بَنِيهَا لَا تَجِب عَلَيْهَا , وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا لَمْ تَقُلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَسْت بِتَارِكَتِهِمْ . وَأَمَّا حَدِيث هِنْد فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَهَا عَلَى أَخْذ نَفَقَتهَا وَنَفَقَة بَنِيهَا مِنْ مَال الْأَب , وَلَمْ يُوجِبهَا عَلَيْهَا كَمَا أَوْجَبَهَا عَلَى الْأَب . فَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيّ مِنْ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَم الْأُمَّهَات نَفَقَات الْأَبْنَاء فِي حَيَاة الْآبَاء فَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمهُنَّ بِمَوْتِ الْآبَاء . وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّ النَّفَقَة وَالْكِسْوَة عَلَى كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم فَحُجَّته أَنَّ عَلَى الرَّجُل أَنْ يُنْفِق عَلَى كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم إِذَا كَانَ فَقِيرًا . قَالَ النَّحَّاس : وَقَدْ عُورِضَ هَذَا الْقَوْل بِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذ مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَلَا مِنْ إِجْمَاع وَلَا مِنْ سُنَّة صَحِيحَة , بَلْ لَا يُعْرَف مِنْ قَوْلٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ . فَأَمَّا الْقُرْآن فَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَعَلَى الْوَارِث مِثْل ذَلِكَ " فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَارِث النَّفَقَة وَالْكِسْوَة فَقَدْ خَالَفُوا ذَلِكَ فَقَالُوا : إِذَا تَرَكَ خَاله وَابْن عَمّه فَالنَّفَقَة عَلَى خَاله وَلَيْسَ عَلَى اِبْن عَمّه شَيْء , فَهَذَا مُخَالِف نَصّ الْقُرْآن لِأَنَّ الْخَال لَا يَرِث مَعَ اِبْن الْعَمّ فِي قَوْل أَحَد , وَلَا يَرِث وَحْده فِي قَوْل كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء , وَاَلَّذِي اِحْتَجُّوا بِهِ مِنْ النَّفَقَة عَلَى كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم , أَكْثَر أَهْل الْعِلْم عَلَى خِلَافه .
" الضَّمِير فِي " أَرَادَا " لِلْوَالِدَيْنِ . و " فِصَالًا " مَعْنَاهُ فِطَامًا عَنْ الرَّضَاع , أَيْ عَنْ الِاغْتِذَاء بِلَبَنِ أُمّه إِلَى غَيْره مِنْ الْأَقْوَات . وَالْفِصَال وَالْفَصْل : الْفِطَام , وَأَصْله التَّفْرِيق , فَهُوَ تَفْرِيق بَيْن الصَّبِيّ وَالثَّدْي , وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَصِيل , لِأَنَّهُ مَفْصُول عَنْ أُمّه . " عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا " أَيْ قَبْل الْحَوْلَيْنِ . " فَلَا جُنَاح عَلَيْهِمَا " أَيْ فِي فَصْله , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمَّا جَعَلَ مُدَّة الرَّضَاع حَوْلَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ فِطَامهمَا هُوَ الْفِطَام , وَفِصَالهمَا هُوَ الْفِصَال لَيْسَ لِأَحَدٍ عَنْهُ مَنْزَع , إِلَّا أَنْ يَتَّفِق الْأَبَوَانِ عَلَى أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَد مِنْ غَيْر مُضَارَّة بِالْوَلَدِ , فَذَلِكَ جَائِز بِهَذَا الْبَيَان . وَقَالَ قَتَادَة : كَانَ الرَّضَاع وَاجِبًا فِي الْحَوْلَيْنِ وَكَانَ يَحْرُم الْفِطَام قَبْله , ثُمَّ خُفِّفَ وَأُبِيحَ الرَّضَاع أَقَلّ مِنْ الْحَوْلَيْنِ بِقَوْلِهِ : " فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا " الْآيَة . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام بِإِبَاحَةِ اللَّه تَعَالَى لِلْوَالِدَيْنِ التَّشَاوُر فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى صَلَاح الصَّغِير , وَذَلِكَ مَوْقُوف عَلَى غَالِب ظُنُونهمَا لَا عَلَى الْحَقِيقَة وَالْيَقِين , وَالتَّشَاوُر : اِسْتِخْرَاج الرَّأْي , وَكَذَلِكَ الْمُشَاوَرَة , وَالْمَشُورَة كَالْمَعُونَةِ , وَشُرْتُ الْعَسَل : اِسْتَخْرَجْته , وَشُرْتُ الدَّابَّة وَشَوَّرْتُهَا أَيْ أَجْرَيْتهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيهَا , وَالشَّوَار : مَتَاع الْبَيْت ; لِأَنَّهُ يَظْهَر لِلنَّاظِرِ , وَالشَّارَة : هَيْئَة الرَّجُل , وَالْإِشَارَة : إِخْرَاج مَا فِي نَفْسك وَإِظْهَاره .
أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ غَيْر الْوَالِدَة , قَالَهُ الزَّجَّاج . قَالَ النَّحَّاس : التَّقْدِير فِي الْعَرَبِيَّة أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَجْنَبِيَّة لِأَوْلَادِكُمْ , مِثْل " كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 3 ] أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ , وَحُذِفَتْ اللَّام لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا بِحَرْفٍ , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : أَمَرْتُك الْخَيْر فَافْعَلْ مَا أُمِرْت بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُك ذَا مَال وَذَا نَسَب وَلَا يَجُوز : دَعَوْت زَيْدًا , أَيْ دَعَوْت لِزَيْدٍ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّلْبِيس , فَيُعْتَبَر فِي هَذَا النَّوْع السَّمَاع .
قُلْت : وَعَلَى هَذَا يَكُون فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذ الظِّئْر إِذَا اِتَّفَقَ الْآبَاء وَالْأُمَّهَات عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَة فِي قَوْله تَعَالَى : " لَا تُضَارّ وَالِدَة " مَعْنَاهُ الظِّئْر , حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة . وَالْأَصْل أَنَّ كُلّ أُمّ يَلْزَمهَا رَضَاع وَلَدهَا كَمَا أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , فَأَمَرَ الزَّوْجَات بِإِرْضَاعِ أَوْلَادهنَّ , وَأَوْجَبَ لَهُنَّ عَلَى الْأَزْوَاج النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَالزَّوْجِيَّة قَائِمَة , فَلَوْ كَانَ الرَّضَاع عَلَى الْأَب لِذِكْرِهِ مَعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ رِزْقهنَّ وَكِسْوَتهنَّ , إِلَّا أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّه دُون فُقَهَاء الْأَمْصَار اِسْتَثْنَى الْحَسِيبَة فَقَالَ : لَا يَلْزَمهَا رَضَاعَة . فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْآيَة وَخَصَّصَهَا بِأَصْلٍ مِنْ أُصُول الْفِقْه وَهُوَ الْعَمَل بِالْعَادَةِ . وَهَذَا أَصْل لَمْ يَتَفَطَّن لَهُ إِلَّا مَالِك . وَالْأَصْل الْبَدِيع فِيهِ أَنَّ هَذَا أَمْر كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة فِي ذَوِي الْحَسَب وَجَاءَ الْإِسْلَام فَلَمْ يُغَيِّرهُ , وَتَمَادَى ذَوُو الثَّرْوَة وَالْأَحْسَاب عَلَى تَفْرِيغ الْأُمَّهَات لِلْمُتْعَةِ بِدَفْعِ الرُّضَعَاء لِلْمَرَاضِعِ إِلَى زَمَانه فَقَالَ بِهِ , وَإِلَى زَمَاننَا فَتَحَقَّقْنَاهُ شَرْعًا .
يَعْنِي الْآبَاء , أَيْ سَلَّمْتُمْ الْأُجْرَة إِلَى الْمُرْضِعَة الظِّئْر , قَالَهُ سُفْيَان . مُجَاهِد : سَلَّمْتُمْ إِلَى الْأُمَّهَات أَجْرهنَّ بِحِسَابِ مَا أَرْضَعْنَ إِلَى وَقْت إِرَادَة الِاسْتِرْضَاع . وَقَرَأَ السِّتَّة مِنْ السَّبْعَة " مَا آتَيْتُمْ " بِمَعْنَى مَا أَعْطَيْتُمْ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير " أَتَيْتُمْ " بِمَعْنَى مَا جِئْتُمْ وَفَعَلْتُمْ , كَمَا قَالَ زُهَيْر : وَمَا كَانَ مِنْ خَيْر أَتَوْهُ فَإِنَّمَا تَوَارَثَهُ آبَاء آبَائِهِمْ قَبْلُ قَالَ قَتَادَة وَالزُّهْرِيّ : الْمَعْنَى سَلَّمْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ مِنْ إِرَادَة الِاسْتِرْضَاع , أَيْ سَلَّمَ كُلّ وَاحِد مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَرَضِيَ , وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اِتِّفَاق مِنْهُمَا وَقَصْد خَيْر وَإِرَادَة مَعْرُوف مِنْ الْأَمْر . وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَال فَيَدْخُل فِي الْخِطَاب " سَلَّمْتُمْ " الرِّجَال وَالنِّسَاء , وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْخِطَاب لِلرِّجَالِ . قَالَ أَبُو عَلِيّ : الْمَعْنَى إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ نَقْده أَوْ إِعْطَاءَهُ , فَحُذِفَ الْمُضَاف وَأُقِيمَ الضَّمِير مَقَامه , فَكَانَ التَّقْدِير : مَا آتَيْتُمُوهُ , ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِير مِنْ الصِّلَة , وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل فَالْخِطَاب لِلرِّجَالِ ; لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يُعْطُونَ أَجْر الرَّضَاع . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون " مَا " مَصْدَرِيَّة , أَيْ إِذَا سَلَّمْتُمْ الْإِتْيَان , وَالْمَعْنَى كَالْأَوَّلِ , لَكِنْ يَسْتَغْنِي عَنْ الصِّفَة مَنْ حَذَفَ الْمُضَاف ثُمَّ حَذَفَ الضَّمِير .
قَالَ الْعُلَمَاء : وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَالِم بِخَفِيَّاتِ الْأُمُور . وَالْبَصِير فِي كَلَام الْعَرَب : الْعَالِم بِالشَّيْءِ الْخَبِير بِهِ , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : فُلَان بَصِير بِالطِّبِّ , وَبَصِير بِالْفِقْهِ , وَبَصِير بِمُلَاقَاةِ الرِّجَال , قَالَ : فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي بَصِير بِأَدْوَاءِ النِّسَاء طَبِيب قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْبَصِير الْعَالِم , وَالْبَصِير الْمُبْصِر . وَقِيلَ : وَصَفَ تَعَالَى نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى جَاعِل الْأَشْيَاء الْمُبْصِرَة ذَوَات إِبْصَار , أَيْ مُدْرِكَة لِلْمُبْصِرَاتِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنْ الْآلَة الْمُدْرِكَة وَالْقُوَّة , فَاَللَّه بَصِير بِعِبَادِهِ , أَيْ جَاعِل عِبَاده مُبْصِرِينَ .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ↓
فِيهِ خَمْس وَعِشْرُونَ مَسْأَلَة : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ " لَمَّا ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ عِدَّة الطَّلَاق وَاتَّصَلَ بِذِكْرِهَا ذِكْر الْإِرْضَاع , ذَكَرَ عِدَّة الْوَفَاة أَيْضًا , لِئَلَّا يُتَوَهَّم أَنَّ عِدَّة الْوَفَاة مِثْل عِدَّة الطَّلَاق . " وَاَلَّذِينَ " أَيْ وَالرِّجَال الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ . " وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا " أَيْ يَتْرُكُونَ أَزْوَاجًا , أَيْ وَلَهُمْ زَوْجَات , فَالزَّوْجَات " يَتَرَبَّصْنَ " , قَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاج وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس . وَحَذْف الْمُبْتَدَأ فِي الْكَلَام كَثِير , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " قُلْ أَفَأُنَبِّئكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّار " [ الْحَجّ : 72 ] أَيْ هُوَ النَّار . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ : تَقْدِيره وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بَعْدهمْ , وَهُوَ كَقَوْلِك : السَّمْن مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ , أَيْ مَنَوَانِ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ . وَقِيلَ : التَّقْدِير وَأَزْوَاج الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يَتَرَبَّصْنَ , فَجَاءَتْ الْعِبَارَة فِي غَايَة الْإِيجَاز وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَعْنَى : وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ . وَقَالَ بَعْض نُحَاة الْكُوفَة : الْخَبَر عَنْ " الَّذِينَ " مَتْرُوك , وَالْقَصْد الْإِخْبَار عَنْ أَزْوَاجهمْ بِأَنَّهُنَّ يَتَرَبَّصْنَ , وَهَذَا اللَّفْظ مَعْنَاهُ الْخَبَر عَنْ الْمَشْرُوعِيَّة فِي أَحَد الْوَجْهَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة فِي عِدَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , وَظَاهِرهَا الْعُمُوم وَمَعْنَاهَا الْخُصُوص . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ الْآيَة تَنَاوَلَتْ الْحَوَامِل ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ " وَأُولَات الْأَحْمَال أَجَلهنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلهنَّ " [ الطَّلَاق : 4 ] . وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْر إِخْرَاج " [ الْبَقَرَة : 240 ] لِأَنَّ النَّاس أَقَامُوا بُرْهَة مِنْ الْإِسْلَام إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُل وَخَلَّفَ اِمْرَأَته حَامِلًا أَوْصَى لَهَا زَوْجهَا بِنَفَقَةِ سَنَة وَبِالسُّكْنَى مَا لَمْ تَخْرُج فَتَتَزَوَّج , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُر وَعَشْر وَبِالْمِيرَاثِ . وَقَالَ قَوْم : لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخ وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَان مِنْ الْحَوْل , كَصَلَاةِ الْمُسَافِر لَمَّا نَقَصَتْ مِنْ الْأَرْبَع إِلَى الِاثْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا . وَهَذَا غَلَط بَيِّن ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حُكْمهَا أَنْ تَعْتَدّ سَنَة إِذَا لَمْ تَخْرُج , فَإِنْ خَرَجَتْ لَمْ تُمْنَع , ثُمَّ أُزِيلَ هَذَا وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّة أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا . وَهَذَا هُوَ النَّسْخ , وَلَيْسَتْ صَلَاة الْمُسَافِر مِنْ هَذَا فِي شَيْء . وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : فُرِضَتْ الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ , فَزِيدَ فِي صَلَاة الْحَضَر وَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَر بِحَالِهَا , وَسَيَأْتِي .
الثَّالِثَة : عِدَّة الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا وَضْع حَمْلهَا عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس أَنَّ تَمَام عِدَّتهَا آخِر الْأَجَلَيْنِ , وَاخْتَارَهُ سَحْنُون مِنْ عُلَمَائِنَا . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا . وَالْحُجَّة لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس رَوْم الْجَمْع بَيْن قَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " وَبَيْن قَوْله : " وَأُولَات الْأَحْمَال أَجَلهنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلهنَّ " [ الطَّلَاق : 4 ] وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا قَعَدَتْ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فَقَدْ عَمِلَتْ بِمُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ , وَإِنْ اِعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْل فَقَدْ تَرَكَتْ الْعَمَل بِآيَةِ عِدَّة الْوَفَاة , وَالْجَمْع أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيح بِاتِّفَاقِ أَهْل الْأُصُول . وَهَذَا نَظَر حَسَن لَوْلَا مَا يُعَكِّر عَلَيْهِ مِنْ حَدِيث سُبَيْعَة الْأَسْلَمِيَّة وَأَنَّهَا نَفِسَتْ بَعْد وَفَاة زَوْجهَا بِلَيَالٍ , وَأَنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّج , أَخْرَجَهُ فِي الصَّحِيح . فَبَيَّنَ الْحَدِيث أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " وَأُولَات الْأَحْمَال أَجَلهنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلهنَّ " مَحْمُول عَلَى عُمُومه فِي الْمُطَلَّقَات وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجهنَّ , وَأَنَّ عِدَّة الْوَفَاة مُخْتَصَّة بِالْحَائِلِ مِنْ الصِّنْفَيْنِ , وَيَعْتَضِد هَذَا بِقَوْلِ اِبْن مَسْعُود : وَمَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ إِنَّ آيَة النِّسَاء الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْد آيَة عِدَّة الْوَفَاة . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَظَاهِر كَلَامه أَنَّهَا نَاسِخَة لَهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَاده . وَاَللَّه أَعْلَم . وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهَا مُخَصَّصَة لَهَا , فَإِنَّهَا أَخْرَجَتْ مِنْهَا بَعْض مُتَنَاوَلَاتهَا . وَكَذَلِكَ حَدِيث سُبَيْعَة مُتَأَخِّر عَنْ عِدَّة الْوَفَاة , لِأَنَّ قِصَّة سُبَيْعَة كَانَتْ بَعْد حَجَّة الْوَدَاع , وَزَوْجهَا هُوَ سَعْد بْن خَوْلَة وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا , تُوُفِّيَ بِمَكَّة حِينَئِذٍ وَهِيَ حَامِل , وَهُوَ الَّذِي رَثَى لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّة , وَوَلَدَتْ بَعْده بِنِصْفِ شَهْر . وَقَالَ الْبُخَارِيّ : بِأَرْبَعِينَ لَيْلَة . وَرَوَى مُسْلِم مِنْ حَدِيث عُمَر بْن عَبْد اللَّه بْن الْأَرْقَم أَنَّ سُبَيْعَة سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ قَالَتْ : فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْت حِين وَضَعْت حَمْلِي , وَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إِنْ بَدَا لِي . قَالَ اِبْن شِهَاب : وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّج حِين وَضَعَتْ وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمهَا , غَيْر أَنَّ زَوْجهَا لَا يَقْرَبهَا حَتَّى تَطْهُر , وَعَلَى هَذَا جُمْهُور الْعُلَمَاء وَأَئِمَّة الْفُقَهَاء . وَقَالَ الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَحَمَّاد : لَا تُنْكَح النُّفَسَاء مَا دَامَتْ فِي دَم نِفَاسهَا . فَاشْتَرَطُوا شَرْطَيْنِ : وَضْع الْحَمْل , وَالطُّهْر مِنْ دَم النِّفَاس . وَالْحَدِيث حُجَّة عَلَيْهِمْ , وَلَا حُجَّة لَهُمْ فِي قَوْله : ( فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ ) كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم وَأَبِي دَاوُد ; لِأَنَّ ( تَعَلَّتْ ) وَإِنْ كَانَ أَصْله طَهُرَتْ مِنْ دَم نِفَاسهَا - عَلَى مَا قَالَهُ الْخَلِيل - فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهِ هَاهُنَا تَعَلَّتْ مِنْ آلَام نِفَاسهَا , أَيْ اِسْتَقَلَّتْ مِنْ أَوْجَاعهَا . وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا قَالَ الْخَلِيل فَلَا حُجَّة فِيهِ , وَإِنَّمَا الْحُجَّة فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِسُبَيْعَة : ( قَدْ حَلَلْت حِين وَضَعْت ) فَأَوْقَعَ الْحِلّ فِي حِين الْوَضْع وَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَقُلْ إِذَا اِنْقَطَعَ دَمك وَلَا إِذَا طَهُرْت , فَصَحَّ مَا قَالَهُ الْجُمْهُور .
الرَّابِعَة : وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ أَجَل كُلّ حَامِل مُطَلَّقَة يَمْلِك الزَّوْج رَجْعَتهَا أَوْ لَا يَمْلِك , حُرَّة كَانَتْ أَوْ أَمَة أَوْ مُدَبَّرَة أَوْ مُكَاتَبَة أَنْ تَضَع حَمْلهَا .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَجَل الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيع بِلَا خِلَاف بَيْنهمْ أَنَّ رَجُلًا لَوْ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ اِمْرَأَة حَامِلًا فَانْقَضَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر أَنَّهَا لَا تَحِلّ حَتَّى تَلِد , فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُود الْوِلَادَة .
الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : " يَتَرَبَّصْنَ " التَّرَبُّص : التَّأَنِّي وَالتَّصَبُّر عَنْ النِّكَاح , وَتَرْك الْخُرُوج عَنْ مَسْكَن النِّكَاح وَذَلِكَ بِأَلَّا تُفَارِقهُ لَيْلًا . وَلَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي كِتَابه كَمَا ذَكَرَهَا لِلْمُطَلَّقَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَسْكِنُوهُنَّ " وَلَيْسَ فِي لَفْظ الْعِدَّة فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى مَا يَدُلّ عَلَى الْإِحْدَاد , وَإِنَّمَا قَالَ : " يَتَرَبَّصْنَ " فَبَيَّنَتْ السُّنَّة جَمِيع ذَلِكَ . وَالْأَحَادِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَظَاهِرَة بِأَنَّ التَّرَبُّص فِي الْوَفَاة إِنَّمَا هُوَ بِإِحْدَادٍ , وَهُوَ الِامْتِنَاع عَنْ الزِّينَة وَلُبْس الْمَصْبُوغ الْجَمِيل وَالطِّيب وَنَحْوه , وَهَذَا قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء . وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن : لَيْسَ الْإِحْدَاد بِشَيْءٍ , إِنَّمَا تَتَرَبَّص عَنْ الزَّوْج , وَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّن وَتَتَطَيَّب , وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ خِلَاف السُّنَّة عَلَى مَا نُبَيِّنهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْفُرَيْعَةِ بِنْت مَالِك بْن سِنَان وَكَانَتْ مُتَوَفًّى عَنْهَا : ( اُمْكُثِي فِي بَيْتك حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله ) قَالَتْ : فَاعْتَدَدْت فِيهِ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا , وَهَذَا حَدِيث ثَابِت أَخْرَجَهُ مَالِك عَنْ سَعِيد بْن إِسْحَاق بْن كَعْب بْن عُجْرَة , رَوَاهُ عَنْهُ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَوُهَيْب بْن خَالِد وَحَمَّاد بْن زَيْد وَعِيسَى بْن يُونُس وَعَدَد كَثِير وَابْن عُيَيْنَة وَالْقَطَّان وَشُعْبَة , وَقَدْ رَوَاهُ مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب وَحَسْبك , قَالَ الْبَاجِيّ : لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْره , وَقَدْ أَخَذَ بِهِ عُثْمَان بْن عَفَّان . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَضَى بِهِ فِي اِعْتِدَاد الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي بَيْتهَا , وَهُوَ حَدِيث مَعْرُوف مَشْهُور عِنْد عُلَمَاء الْحِجَاز وَالْعِرَاق أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدّ فِي بَيْتهَا وَلَا تَخْرُج عَنْهُ , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار بِالْحِجَازِ وَالشَّام وَالْعِرَاق وَمِصْر . وَكَانَ دَاوُد يَذْهَب إِلَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدّ فِي بَيْتهَا وَتَعْتَدّ حَيْثُ شَاءَتْ ; لِأَنَّ السُّكْنَى إِنَّمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآن فِي الْمُطَلَّقَات , وَمِنْ حُجَّته أَنَّ الْمَسْأَلَة مَسْأَلَة خِلَاف . قَالُوا : وَهَذَا الْحَدِيث إِنَّمَا تَرْوِيه اِمْرَأَة غَيْر مَعْرُوفَة بِحَمْلِ الْعِلْم , وَإِيجَاب السُّكْنَى إِيجَاب حُكْم , وَالْأَحْكَام لَا تَجِب إِلَّا بِنَصِّ كِتَاب اللَّه أَوْ سُنَّة أَوْ إِجْمَاع . قَالَ أَبُو عُمَر : أَمَّا السُّنَّة فَثَابِتَة بِحَمْدِ اللَّه , وَأَمَّا الْإِجْمَاع فَمُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالسُّنَّةِ ; لِأَنَّ الِاخْتِلَاف إِذَا نَزَلَ فِي مَسْأَلَة كَانَتْ الْحُجَّة فِي قَوْل مَنْ وَافَقَتْهُ السُّنَّة , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق : وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَعَائِشَة مِثْل قَوْل دَاوُد , وَبِهِ قَالَ جَابِر بْن زَيْد وَعَطَاء وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " وَلَمْ يَقُلْ يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتهنَّ , وَلْتَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة قَالَ : خَرَجَتْ عَائِشَة بِأُخْتِهَا أُمّ كُلْثُوم - حِين قُتِلَ عَنْهَا زَوْجهَا طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه - إِلَى مَكَّة فِي عُمْرَة , وَكَانَتْ تُفْتِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا بِالْخُرُوجِ فِي عِدَّتهَا . قَالَ : وَحَدَّثَنَا الثَّوْرِيّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد يَقُول : أَبَى النَّاس ذَلِكَ عَلَيْهَا . قَالَ : وَحَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ : أَخَذَ الْمُتَرَخِّصُونَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا بِقَوْلِ عَائِشَة , وَأَخَذَ أَهْل الْوَرَع وَالْعَزْم بِقَوْلِ اِبْن عُمَر . وَفِي الْمُوَطَّإِ : أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب كَانَ يَرُدّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجهنَّ مِنْ الْبَيْدَاء يَمْنَعهُنَّ الْحَجّ . وَهَذَا مِنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِجْتِهَاد , لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى اِعْتِدَاد الْمَرْأَة فِي مَنْزِل زَوْجهَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لَازِمًا لَهَا , وَهُوَ مُقْتَضَى الْقُرْآن وَالسُّنَّة , فَلَا يَجُوز لَهَا أَنْ تَخْرُج فِي حَجّ وَلَا عُمْرَة حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا . وَقَالَ مَالِك : تُرَدّ مَا لَمْ تُحْرِم .
السَّادِسَة : إِذَا كَانَ الزَّوْج يَمْلِك رَقَبَة الْمَسْكَن فَإِنَّ لِلزَّوْجَةِ الْعِدَّة فِيهِ , وَعَلَيْهِ أَكْثَر الْفُقَهَاء : مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَغَيْرهمْ لِحَدِيثِ الْفُرَيْعَة . وَهَلْ يَجُوز بَيْع الدَّار إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُتَوَفَّى وَأَرَادَ ذَلِكَ الْوَرَثَة , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور أَصْحَابنَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِز , وَيُشْتَرَط فِيهِ الْعِدَّة لِلْمَرْأَةِ . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : لِأَنَّهَا أَحَقّ بِالسُّكْنَى مِنْ الْغُرَمَاء . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَكَم : الْبَيْع فَاسِد ; لِأَنَّهَا قَدْ تَرْتَاب فَتَمْتَدّ عِدَّتهَا . وَجْه قَوْل اِبْن الْقَاسِم : أَنَّ الْغَالِب السَّلَامَة , وَالرِّيبَة نَادِرَة وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّر فِي فَسَاد الْعُقُود , فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْع فِيهِ بِهَذَا الشَّرْط فَارْتَابَتْ , قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : هِيَ أَحَقّ بِالْمَقَامِ حَتَّى تَنْقَضِي الرِّيبَة , وَأَحَبّ إِلَيْنَا أَنْ يَكُون لِلْمُشْتَرِي الْخِيَار فِي فَسْخ الْبَيْع أَوْ إِمْضَائِهِ وَلَا يَرْجِع بِشَيْءٍ , لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْعِدَّة الْمُعْتَادَة , وَلَوْ وَقَعَ الْبَيْع بِشَرْطِ زَوَال الرِّيبَة كَانَ فَاسِدًا . وَقَالَ سَحْنُون : لَا حُجَّة لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ تَمَادَتْ الرِّيبَة إِلَى خَمْس سِنِينَ ; لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْعِدَّة وَالْعِدَّة قَدْ تَكُون خَمْس سِنِينَ , وَنَحْو هَذَا رَوَى أَبُو زَيْد عَنْ اِبْن الْقَاسِم .
السَّابِعَة : فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ السُّكْنَى دُون الرَّقَبَة , فَلَهَا السُّكْنَى فِي مُدَّة الْعِدَّة , خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِلْفُرَيْعَةِ - وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ زَوْجهَا لَا يَمْلِك رَقَبَة الْمَسْكَن - : ( اُمْكُثِي فِي بَيْتك حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله ) . لَا يُقَال إِنَّ الْمَنْزِل كَانَ لَهَا , فَلِذَلِكَ قَالَ لَهَا : ( اُمْكُثِي فِي بَيْتك ) فَإِنَّ مَعْمَرًا رَوَى عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهَا ذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ زَوْجهَا قُتِلَ , وَأَنَّهُ تَرَكَهَا فِي مَسْكَن لَيْسَ لَهَا وَاسْتَأْذَنَتْهُ , وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَلَنَا مِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّهُ تَرَكَ دَارًا يَمْلِك سُكْنَاهَا مِلْكًا لَا تَبِعَة عَلَيْهِ فِيهِ , فَلَزِمَ أَنْ تَعْتَدّ الزَّوْجَة فِيهِ , أَصْل ذَلِكَ إِذَا مَلَكَ رَقَبَتهَا .
الثَّامِنَة : وَهَذَا إِذَا كَانَ قَدْ أَدَّى الْكِرَاء , وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَمْ يُؤَدِّ الْكِرَاء فَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَة : إِنَّهُ لَا سُكْنَى لَهَا فِي مَال الْمَيِّت وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ; لِأَنَّ حَقّهَا إِنَّمَا يَتَعَلَّق بِمَا يَمْلِكهُ مِنْ السُّكْنَى مِلْكًا تَامًّا , وَمَا لَمْ يَنْقُد عِوَضه لَمْ يَمْلِكهُ مِلْكًا تَامًّا , وَإِنَّمَا مَلَكَ الْعِوَض الَّذِي بِيَدِهِ , وَلَا حَقّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجَةِ إِلَّا بِالْمِيرَاثِ دُون السُّكْنَى ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَال وَلَيْسَ بِسُكْنَى . وَرَوَى مُحَمَّد عَنْ مَالِك أَنَّ الْكِرَاء لَازِم لِلْمَيِّتِ فِي مَاله .
التَّاسِعَة : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفُرَيْعَةِ : ( اُمْكُثِي فِي بَيْتك حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله ) يُحْتَمَل أَنَّهُ أَمَرَهَا بِذَلِكَ لَمَّا كَانَ زَوْجهَا قَدْ أَدَّى كِرَاء الْمَسْكَن , أَوْ كَانَ أَسْكَنَ فِيهِ إِلَى وَفَاته , أَوْ أَنَّ أَهْل الْمَنْزِل أَبَاحُوا لَهَا الْعِدَّة فِيهِ بِكِرَاءٍ أَوْ غَيْر كِرَاء , أَوْ مَا شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مِمَّا رَأَى بِهِ أَنَّ الْمُقَام لَازِم لَهَا فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا .
الْعَاشِرَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَة يَأْتِيهَا نَعْي زَوْجهَا وَهِيَ فِي بَيْت غَيْر بَيْت زَوْجهَا , فَأَمَرَهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَسْكَنِهِ وَقَرَارِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالنَّخَعِيّ : تَعْتَدّ حَيْثُ أَتَاهَا الْخَبَر , لَا تَبْرَح مِنْهُ حَتَّى تَنْقَضِي الْعِدَّة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : قَوْل مَالِك صَحِيح , إِلَّا أَنْ يَكُون نَقَلَهَا الزَّوْج إِلَى مَكَان فَتَلْزَم ذَلِكَ الْمَكَان .
الْحَادِيَة عَشْرَة : وَيَجُوز لَهَا أَنْ تَخْرُج فِي حَوَائِجهَا مِنْ وَقْت اِنْتِشَار النَّاس بَكْرَة إِلَى وَقْت هُدُوئِهِمْ بَعْد الْعَتَمَة , وَلَا تَبِيت إِلَّا فِي ذَلِكَ الْمَنْزِل . وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أُمّ عَطِيَّة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تُحِدّ اِمْرَأَة عَلَى مَيِّت فَوْق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زَوْج أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا , وَلَا تَلْبَس ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْب عَصْبٍ , وَلَا تَكْتَحِل , وَلَا تَمَسّ طِيبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَة مِنْ قُسْط أَوْ أَظْفَار ) . وَفِي حَدِيث أُمّ حَبِيبَة : ( لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر تُحِدّ عَلَى مَيِّت فَوْق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زَوْج أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ) الْحَدِيث . الْإِحْدَاد : تَرْك الْمَرْأَة الزِّينَة كُلّهَا مِنْ اللِّبَاس وَالطِّيب وَالْحُلِيّ وَالْكُحْل وَالْخِضَاب بِالْحِنَّاءِ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتهَا ; لِأَنَّ الزِّينَة دَاعِيَة إِلَى الْأَزْوَاج , فَنُهِيَتْ عَنْ ذَلِكَ قَطْعًا لِلذَّرَائِعِ , وَحِمَايَة لِحُرُمَاتِ اللَّه تَعَالَى أَنْ تُنْتَهَك , وَلَيْسَ دَهْن الْمَرْأَة رَأْسهَا بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَج مِنْ الطِّيب فِي شَيْء . يُقَال : اِمْرَأَة حَادّ وَمُحِدٌّ . قَالَ الْأَصْمَعِيّ : وَلَمْ نَعْرِف ( حَدَّتْ ) . وَفَاعِل ( لَا يَحِلّ ) الْمَصْدَر الَّذِي يُمْكِن صِيَاغَته مِنْ ( تُحِدّ ) مَعَ ( أَنْ ) الْمُرَادَة , فَكَأَنَّهُ قَالَ : الْإِحْدَاد .
الثَّانِيَة عَشْرَة : وَصْفه عَلَيْهِ السَّلَام الْمَرْأَة بِالْإِيمَانِ يَدُلّ عَلَى صِحَّة أَحَد الْقَوْلَيْنِ عِنْدنَا فِي الْكِتَابِيَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا أَنَّهَا لَا إِحْدَاد عَلَيْهَا , وَهُوَ قَوْل اِبْن كِنَانَة وَابْن نَافِع , وَرَوَاهُ أَشْهَب عَنْ مَالِك , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَابْن الْمُنْذِر , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّ عَلَيْهَا الْإِحْدَاد كَالْمُسْلِمَةِ , وَبِهِ قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَعَامَّة أَصْحَابنَا ; لِأَنَّهُ حُكْم مِنْ أَحْكَام الْعِدَّة فَلَزِمَتْ الْكِتَابِيَّة لِلْمُسْلِمِ كَلُزُومِ الْمَسْكَن وَالْعِدَّة .
الثَّالِثَة عَشْرَة : وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَوْق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زَوْج ) دَلِيل عَلَى تَحْرِيم إِحْدَاد الْمُسْلِمَات عَلَى غَيْر أَزْوَاجهنَّ فَوْق ثَلَاث , وَإِبَاحَة الْإِحْدَاد عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا تَبْدَأ بِالْعَدَدِ مِنْ اللَّيْلَة الَّتِي تَسْتَقْبِلهَا إِلَى آخِر ثَالِثهَا , فَإِنْ مَاتَ حَمِيمهَا فِي بَقِيَّة يَوْم أَوْ لَيْلَة أَلْغَتْهُ وَحَسَبَتْ مِنْ اللَّيْلَة الْقَابِلَة .
الرَّابِعَة عَشْرَة : هَذَا الْحَدِيث بِحُكْمِ عُمُومه يَتَنَاوَل الزَّوْجَات كُلّهنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجهنَّ , فَيَدْخُل فِيهِ الْإِمَاء وَالْحَرَائِر وَالْكِبَار وَالصِّغَار , وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة إِلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَاد عَلَى أَمَة وَلَا عَلَى صَغِيرَة , حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَمَّا الْأَمَة الزَّوْجَة فَهِيَ دَاخِلَة فِي جُمْلَة الْأَزْوَاج وَفِي عُمُوم الْأَخْبَار , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي , وَلَا أَحْفَظ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحَد خِلَافًا , وَلَا أَعْلَمهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْإِحْدَاد عَلَى أُمّ الْوَلَد إِذَا مَاتَ سَيِّدهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ , وَالْأَحَادِيث إِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْأَزْوَاج . قَالَ الْبَاجِيّ : الصَّغِيرَة إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَعْقِل الْأَمْر وَالنَّهْي وَتَلْتَزِم مَا حُدَّ لَهَا أُمِرَتْ بِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَتْ لَا تَدْرِك شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِصِغَرِهَا فَرَوَى اِبْن مُزَيْن عَنْ عِيسَى يُجَنِّبهَا أَهْلهَا جَمِيع مَا تَجْتَنِبهُ الْكَبِيرَة , وَذَلِكَ لَازِم لَهَا . وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوب الْإِحْدَاد عَلَى الصَّغِيرَة مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَتْهُ اِمْرَأَة عَنْ بِنْت لَهَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنهَا أَفَتُكَحِّلهَا ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا ) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا , كُلّ ذَلِكَ يَقُول ( لَا ) وَلَمْ يَسْأَل عَنْ سِنّهَا , وَلَوْ كَانَ الْحُكْم يَفْتَرِق بِالصِّغَرِ وَالْكِبَر لَسَأَلَ عَنْ سِنّهَا حَتَّى يُبَيِّن الْحُكْم , وَتَأْخِير الْبَيَان فِي مِثْل هَذَا لَا يَجُوز , وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلّ مَنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّة بِالْوَفَاةِ لَزِمَهَا الْإِحْدَاد كَالْكَبِيرَةِ .
الْخَامِسَة عَشْرَة : قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَا أَعْلَم خِلَافًا أَنَّ الْخِضَاب دَاخِل فِي جُمْلَة الزِّينَة الْمَنْهِيّ عَنْهَا . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهَا لِبَاس الثِّيَاب الْمُصْبَغَة وَالْمُعَصْفَرَة , إِلَّا مَا صُبِغَ بِالسَّوَادِ فَإِنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ , وَكَرِهَهُ الزُّهْرِيّ . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : لَا تَلْبَس ثَوْب عَصْب , وَهُوَ خِلَاف الْحَدِيث . وَفِي الْمُدَوَّنَة قَالَ مَالِك : لَا تَلْبَس رَقِيق عَصْب الْيَمَن , وَوَسَّعَ فِي غَلِيظه . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : لِأَنَّ رَقِيقه بِمَنْزِلَةِ الثِّيَاب الْمُصْبَغَة وَتَلْبَس رَقِيق الثِّيَاب وَغَلِيظه مِنْ الْحَرِير وَالْكَتَّان وَالْقُطْن . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَرَخَّصَ كُلّ مَنْ أَحْفَظ عَنْهُ فِي لِبَاس الْبَيَاض , قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : ذَهَبَ الشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّ كُلّ صَبْغ كَانَ زِينَة لَا تَمَسّهُ الْحَادّ رَقِيقًا كَانَ أَوْ غَلِيظًا . وَنَحْوه لِلْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب قَالَ : كُلّ مَا كَانَ مِنْ الْأَلْوَان تَتَزَيَّن بِهِ النِّسَاء لِأَزْوَاجِهِنَّ فَلْتَمْتَنِعْ مِنْهُ الْحَادّ . وَمَنَعَ بَعْض مَشَايِخنَا الْمُتَأَخِّرِينَ جَيِّد الْبَيَاض الَّذِي يُتَزَيَّن بِهِ , وَكَذَلِكَ الرَّفِيع مِنْ السَّوَاد . وَرَوَى اِبْن الْمَوَّاز عَنْ مَالِك : لَا تَلْبَس حُلِيًّا وَإِنْ كَانَ حَدِيدًا , وَفِي الْجُمْلَة أَنَّ كُلّ مَا تَلْبَسهُ الْمَرْأَة عَلَى وَجْه مَا يُسْتَعْمَل عَلَيْهِ الْحُلِيّ مِنْ التَّجَمُّل فَلَا تَلْبَسهُ الْحَادّ . وَلَمْ يَنُصّ أَصْحَابنَا عَلَى الْجَوَاهِر وَالْيَوَاقِيت وَالزُّمُرُّد وَهُوَ دَاخِل فِي مَعْنَى الْحُلِيّ . وَاَللَّه أَعْلَم .
السَّادِسَة عَشْرَة : وَأَجْمَعَ النَّاس عَلَى وُجُوب الْإِحْدَاد عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , إِلَّا الْحَسَن فَإِنَّهُ قَالَ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ , وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد بْن الْهَادِ عَنْ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس قَالَتْ : لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَسَلَّبِي ثَلَاثًا ثُمَّ اِصْنَعِي مَا شِئْت ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : كَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ مِنْ بَيْن سَائِر أَهْل الْعِلْم لَا يَرَى الْإِحْدَاد , وَقَالَ : الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا تَكْتَحِلَانِ وَتَخْتَضِبَانِ وَتَصْنَعَانِ مَا شَاءَا . وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْدَادِ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَلَغَتْهُ إِلَّا التَّسْلِيم , وَلَعَلَّ الْحَسَن لَمْ تَبْلُغهُ , أَوْ بَلَغَتْهُ فَتَأَوَّلَهَا بِحَدِيثِ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس أَنَّهَا اِسْتَأْذَنَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُحِدّ عَلَى جَعْفَر وَهَى اِمْرَأَته , فَأَذِنَ لَهَا ثَلَاثَة أَيَّام ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهَا بَعْد ثَلَاثَة أَيَّام أَنْ تَطَهَّرِي وَاكْتَحِلِي . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر , وَقَدْ دَفَعَ أَهْل الْعِلْم هَذَا الْحَدِيث بِوُجُوهٍ , وَكَانَ أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول : هَذَا الشَّاذّ مِنْ الْحَدِيث لَا يُؤْخَذ بِهِ , وَقَالَهُ إِسْحَاق .
السَّابِعَة عَشْرَة : ذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنْ لَا إِحْدَاد عَلَى مُطَلَّقَة رَجْعِيَّة كَانَتْ أَوْ بَائِنَة وَاحِدَة أَوْ أَكْثَر , وَهُوَ قَوْل رَبِيعَة وَعَطَاء . وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ : أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن بْن حَيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد إِلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا عَلَيْهَا الْإِحْدَاد , وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَسُلَيْمَان بْن يَسَار وَابْن سِيرِينَ وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَة . قَالَ الْحَكَم : هُوَ عَلَيْهَا أَوْكَد وَأَشَدّ مِنْهُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي عِدَّة يُحْفَظ بِهَا النَّسَب . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : الِاحْتِيَاط أَنْ تَتَّقِي الْمُطَلَّقَة الزِّينَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَفِي قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر أَنْ تُحِدّ عَلَى مَيِّت فَوْق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زَوْج أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ) دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا وَالْمُطْلِق حَيُّ لَا إِحْدَاد عَلَيْهَا .
الثَّامِنَة عَشْرَة : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَته طَلَاقًا يَمْلِك رَجْعَتهَا ثُمَّ تُوُفِّيَ قَبْل اِنْقِضَاء الْعِدَّة أَنَّ عَلَيْهَا عِدَّة الْوَفَاة وَتَرِثهُ . وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّة الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا فِي الْمَرَض , فَقَالَتْ طَائِفَة تَعْتَدّ عِدَّة الطَّلَاق , هَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَيَعْقُوب وَأَبِي عُبَيْد وَأَبِي ثَوْر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ عِدَّة الْمُطَلَّقَات الْأَقْرَاء , وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثهَا الْمُطَلِّق , وَذَلِكَ لِأَنَّهَا غَيْر زَوْجَة , وَإِذَا كَانَتْ غَيْر زَوْجَة فَهُوَ غَيْر زَوْج لَهَا . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : تَعْتَدّ بِأَقْصَى الْعِدَّتَيْنِ . وَقَالَ النُّعْمَان وَمُحَمَّد : عَلَيْهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر تَسْتَكْمِل فِي ذَلِكَ ثَلَاث حِيَض .
التَّاسِعَة عَشْرَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَة يَبْلُغهَا وَفَاة زَوْجهَا أَوْ طَلَاقه , فَقَالَتْ طَائِفَة : الْعِدَّة فِي الطَّلَاق وَالْوَفَاة مِنْ يَوْم يَمُوت أَوْ يُطَلِّق , هَذَا قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس , وَبِهِ قَالَ مَسْرُوق وَعَطَاء وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي وَابْن الْمُنْذِر . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ عِدَّتهَا مِنْ يَوْم يَبْلُغهَا الْخَبَر , رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَلِيّ , وَبِهِ قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَجُلَاس بْن عَمْرو . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : إِنْ قَامَتْ بَيِّنَة فَعِدَّتهَا مِنْ يَوْم مَاتَ أَوْ طَلَّقَ , وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَة فَمِنْ يَوْم يَأْتِيهَا الْخَبَر , وَالصَّحِيح الْأَوَّل , لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْعِدَّة بِالْوَفَاةِ أَوْ الطَّلَاق , وَلِأَنَّهَا لَوْ عَلِمَتْ بِمَوْتِهِ فَتَرَكَتْ الْإِحْدَاد اِنْقَضَتْ الْعِدَّة , فَإِذَا تَرَكَتْهُ مَعَ عَدَم الْعِلْم فَهُوَ أَهْوَن , أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَة تَنْقَضِي عِدَّتهَا وَلَا إِحْدَاد عَلَيْهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لَا تَعْلَم طَلَاق الزَّوْج أَوْ وَفَاته ثُمَّ وَضَعَتْ حَمْلهَا أَنَّ عِدَّتهَا مُنْقَضِيَة . وَلَا فَرْق بَيْن هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَبَيْن الْمَسْأَلَة الْمُخْتَلَف فِيهَا . وَوَجْه مَنْ قَالَ بِالْعِدَّةِ مِنْ يَوْم يَبْلُغهَا الْخَبَر , أَوْ الْعِدَّة عِبَادَة بِتَرْكِ الزِّينَة وَذَلِكَ لَا يَصِحّ إِلَّا بِقَصْدٍ وَنِيَّة , وَالْقَصْد لَا يَكُون إِلَّا بَعْد الْعِلْم . وَاَللَّه أَعْلَم .
الْمُوَفِّيَة عِشْرِينَ : عِدَّة الْوَفَاة تَلْزَم الْحُرَّة وَالْأَمَة وَالصَّغِيرَة وَالْكَبِيرَة وَاَلَّتِي لَمْ تَبْلُغ الْمَحِيض , وَاَلَّتِي حَاضَتْ وَالْيَائِسَة مِنْ الْمَحِيض وَالْكِتَابِيَّة - دُخِلَ بِهَا أَوْ لَمْ يُدْخَل بِهَا إِذَا كَانَتْ غَيْر حَامِل - وَعِدَّة جَمِيعهنَّ إِلَّا الْأَمَة أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشَرَة أَيَّام , لِعُمُومِ الْآيَة فِي قَوْله تَعَالَى : " يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " . وَعِدَّة الْأَمَة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا شَهْرَانِ وَخَمْس لَيَالٍ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : نِصْف عِدَّة الْحُرَّة إِجْمَاعًا , إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ الْأَصَمّ فَإِنَّهُ سَوَّى فِيهَا بَيْن الْحُرَّة وَالْأَمَة وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِجْمَاع , لَكِنْ لِصَمَمِهِ لَمْ يَسْمَع . قَالَ الْبَاجِيّ : وَلَا نَعْلَم فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ اِبْن سِيرِينَ , وَلَيْسَ بِالثَّابِتِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : عِدَّتهَا عِدَّة الْحُرَّة .
قُلْت : قَوْل الْأَصَمّ صَحِيح مِنْ حَيْثُ النَّظَر , فَإِنَّ الْآيَات الْوَارِدَة فِي عِدَّة الْوَفَاة وَالطَّلَاق بِالْأَشْهُرِ وَالْأَقْرَاء عَامَّة فِي حَقّ الْأَمَة وَالْحُرَّة , فَعِدَّة الْحُرَّة وَالْأَمَة سَوَاء عَلَى هَذَا النَّظَر , فَإِنَّ الْعُمُومَات لَا فَصْل فِيهَا بَيْن الْحُرَّة وَالْأَمَة , وَكَمَا اِسْتَوَتْ الْأَمَة وَالْحُرَّة فِي النِّكَاح فَكَذَلِكَ تَسْتَوِي مَعَهَا فِي الْعِدَّة . وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَرُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّ الْكِتَابِيَّة تَعْتَدّ بِثَلَاثِ حِيَض إِذْ يَبْرَأ الرَّحِم , وَهَذَا مِنْهُ فَاسِد جِدًّا , لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مِنْ عُمُوم آيَة الْوَفَاة وَهِيَ مِنْهَا وَأَدْخَلَهَا فِي عُمُوم آيَة الطَّلَاق وَلَيْسَتْ مِنْهَا .
قُلْت : وَعَلَيْهِ بِنَاء مَا فِي الْمُدَوَّنَة لَا عِدَّة عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ غَيْر مَدْخُول بِهَا ; لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بَرَاءَة رَحِمهَا , هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَتَزَوَّج مُسْلِمًا أَوْ غَيْره إِثْر وَفَاته ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّة لِلْوَفَاةِ وَلَا اِسْتِبْرَاء لِلدُّخُولِ فَقَدْ حَلَّتْ لِلزَّوَاجِ .
الْحَادِيَة وَالْعِشْرُونَ : وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّة أُمّ الْوَلَد إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدهَا , فَقَالَتْ طَائِفَة : عِدَّتهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر , قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيد وَالزُّهْرِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَغَيْرهمْ , وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عِدَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر , يَعْنِي فِي أُمّ الْوَلَد , لَفْظ أَبِي دَاوُد . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : مَوْقُوف . وَهُوَ الصَّوَاب , وَهُوَ مُرْسَل لِأَنَّ قَبِيصَة لَمْ يَسْمَع مِنْ عَمْرو . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَضَعَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْد هَذَا الْحَدِيث . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود أَنَّ عِدَّتهَا ثَلَاث حِيَض , وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي , قَالُوا : لِأَنَّهَا عِدَّة تَجِب فِي حَال الْحُرِّيَّة , فَوَجَبَ أَنْ تَكُون عِدَّة كَامِلَة , أَصْله عِدَّة الْحُرَّة . وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر : عِدَّتهَا حَيْضَة , وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر . وَرُوِيَ عَنْ طَاوُس أَنَّ عِدَّتهَا نِصْف عِدَّة الْحُرَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا , وَبِهِ قَالَ قَتَادَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِقَوْلِ اِبْن عُمَر أَقُول ; لِأَنَّهُ الْأَقَلّ مِمَّا قِيلَ فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ سُنَّة تُتَّبَع وَلَا إِجْمَاع يُعْتَمَد عَلَيْهِ . وَذِكْر اِخْتِلَافهمْ فِي عِدَّتهَا فِي الْعِتْق كَهُوَ فِي الْوَفَاة سَوَاء , إِلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيّ جَعَلَ عِدَّتهَا فِي الْعِتْق ثَلَاث حِيَض .
قُلْت : أَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال قَوْل مَالِك ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه قَالَ : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " [ الْبَقَرَة : 228 ] فَشَرَطَ فِي تَرَبُّص الْأَقْرَاء أَنْ يَكُون عَنْ طَلَاق , فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُون عَنْ غَيْره . وَقَالَ : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " فَعَلَّقَ وُجُوب ذَلِكَ بِكَوْنِ الْمُتَرَبِّصَة زَوْجَة , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمَة بِخِلَافِهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ أَمَة مَوْطُوءَة بِمِلْكِ الْيَمِين فَكَانَ اِسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ , أَصْل ذَلِكَ الْأَمَة .
الثَّانِيَة وَالْعِشْرُونَ : إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ عِدَّة أُمّ الْوَلَد اِسْتِبْرَاء مَحْض أَوْ عِدَّة , فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّد فِي مَعُونَته أَنَّ الْحَيْضَة اِسْتِبْرَاء وَلَيْسَتْ بِعِدَّةٍ . وَفِي الْمُدَوَّنَة أَنَّ أُمّ الْوَلَد عَلَيْهَا الْعِدَّة , وَأَنَّ عِدَّتهَا حَيْضَة كَعِدَّةِ الْحُرَّة ثَلَاث حِيَض . وَفَائِدَة الْخِلَاف أَنَّا إِذَا قُلْنَا هِيَ عِدَّة فَقَدْ قَالَ مَالِك : لَا أُحِبّ أَنْ تُوَاعِد أَحَدًا يَنْكِحهَا حَتَّى تَحِيض حَيْضَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَبِيت إِلَّا فِي بَيْتهَا , فَأَثْبَتَ لِمُدَّةِ اِسْتِبْرَائِهَا حُكْم الْعِدَّة .
الثَّالِثَة وَالْعِشْرُونَ : أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ نَفَقَة الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا أَوْ مُطَلَّقَة لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَة وَهِيَ حَامِل وَاجِبَة , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ كُنَّ أُولَات حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلهنَّ " [ الطَّلَاق : 6 ] .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوب نَفَقَة الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , فَقَالَتْ طَائِفَة : لَا نَفَقَة لَهَا , كَذَلِكَ قَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَطَاء وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة وَعَبْد الْمَلِك بْن يَعْلَى وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيّ وَرَبِيعَة وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَحَكَى أَبُو عُبَيْد ذَلِكَ عَنْ أَصْحَاب الرَّأْي . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَة مِنْ جَمِيع الْمَال , وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَلِيّ وَعَبْد اللَّه وَبِهِ قَالَ اِبْن عُمَر وَشُرَيْح وَابْن سِيرِينَ وَالشَّعْبِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة وَالنَّخَعِيّ وَجُلَاس بْن عَمْرو وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَأَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَبُو عُبَيْد . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّل أَقُول ; لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَفَقَة كُلّ مَنْ كَانَ يُجْبَر عَلَى نَفَقَته وَهُوَ حَيّ مِثْل أَوْلَاده الْأَطْفَال وَزَوْجَته وَوَالِدَيْهِ تَسْقُط عَنْهُ , فَكَذَلِكَ تَسْقُط عَنْهُ نَفَقَة الْحَامِل مِنْ أَزْوَاجه . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد : لِأَنَّ نَفَقَة الْحَمْل لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ثَابِت فَتَتَعَلَّق بِمَالِهِ بَعْد مَوْته , بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَسْقُط عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ فَبِأَنْ تَسْقُط بِالْمَوْتِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
الرَّابِعَة وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : " أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر وَالْعَشْر الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه مِيقَاتًا لِعِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , هَلْ تَحْتَاج فِيهَا إِلَى حَيْضَة أَمْ لَا , فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا تَبْرَأ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تُوطَأ إِلَّا بِحَيْضَةٍ تَأْتِي بِهَا فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر وَالْعَشْر , وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَرَابَة . وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ عَلَيْهَا أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر , إِلَّا أَنْ تَسْتَرِيب نَفْسهَا رِيبَة بَيِّنَة ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّة لَا بُدّ فِيهَا مِنْ الْحَيْض فِي الْأَغْلَب مِنْ أَمْر النِّسَاء إِلَّا أَنْ تَكُون الْمَرْأَة مِمَّنْ لَا تَحِيض أَوْ مِمَّنْ عَرَفَتْ مِنْ نَفْسهَا أَوْ عُرِفَ مِنْهَا أَنَّ حَيْضَتهَا لَا تَأْتِيهَا إِلَّا فِي أَكْثَر مِنْ هَذِهِ الْمُدَّة .
الْخَامِسَة وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : " وَعَشْرًا " رَوَى وَكِيع عَنْ أَبِي جَعْفَر الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَبِي الْعَالِيَة أَنَّهُ سُئِلَ : لِمَ ضُمَّتْ الْعَشْر إِلَى الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر ؟ قَالَ : لِأَنَّ الرُّوح تُنْفَخ فِيهَا , وَسَيَأْتِي فِي الْحَجّ بَيَان هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : وَيُقَال إِنَّ وَلَد كُلّ حَامِل يَرْتَكِض فِي نِصْف حَمْلهَا فَهِيَ مُرْكِض . وَقَالَ غَيْره : أَرْكَضَتْ فَهِيَ مُرْكِضَة وَأَنْشَدَ : وَمُرْكِضَة صَرِيحِيّ أَبُوهَا تُهَان لَهَا الْغُلَامَة وَالْغُلَام وَقَالَ الْخَطَّابِيّ : قَوْله " وَعَشْرًا " يُرِيد - وَاَللَّه أَعْلَم - الْأَيَّام بِلَيَالِيِهَا . وَقَالَ الْمُبَرِّد : إِنَّمَا أَنَّثَ الْعَشْر لِأَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمُدَّة . الْمَعْنَى وَعَشْر مُدَد , كُلّ مُدَّة مِنْ يَوْم وَلَيْلَة , فَاللَّيْلَة مَعَ يَوْمهَا مُدَّة مَعْلُومَة مِنْ الدَّهْر . وَقِيلَ : لَمْ يَقُلْ عَشَرَة تَغْلِيبًا لِحُكْمِ اللَّيَالِي إِذْ اللَّيْلَة أَسْبَق مِنْ الْيَوْم وَالْأَيَّام فِي ضِمْنهَا . " وَعَشْرًا " أَخَفّ فِي اللَّفْظ , فَتَغْلِب اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّام إِذَا اِجْتَمَعَتْ فِي التَّارِيخ ; لِأَنَّ اِبْتِدَاء الشُّهُور بِاللَّيْلِ عِنْد الِاسْتِهْلَال , فَلَمَّا كَانَ أَوَّل الشَّهْر اللَّيْلَة غَلَّبَ اللَّيْلَة , تَقُول : صُمْنَا خَمْسًا مِنْ الشَّهْر , فَتَغْلِب اللَّيَالِي وَإِنْ كَانَ الصَّوْم بِالنَّهَارِ . وَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهَا الْأَيَّام وَاللَّيَالِي . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فَلَوْ عَقَدَ عَاقِد عَلَيْهَا النِّكَاح عَلَى هَذَا الْقَوْل وَقَدْ مَضَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر لَيَالٍ كَانَ بَاطِلًا حَتَّى يَمْضِي الْيَوْم الْعَاشِر . وَذَهَبَ بَعْض الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّهُ إِذَا اِنْقَضَى لَهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر لَيَالٍ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى الْعِدَّة مُبْهَمَة فَغَلَّبَ التَّأْنِيث وَتَأَوَّلَهَا عَلَى اللَّيَالِي . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيّ مِنْ الْفُقَهَاء وَأَبُو بَكْر الْأَصَمّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَرَأَ " أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر لَيَالٍ " .
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : أَضَافَ تَعَالَى الْأَجَل إِلَيْهِنَّ إِذْ هُوَ مَحْدُود مَضْرُوب فِي أَمْرهنَّ , وَهُوَ عِبَارَة عَنْ اِنْقِضَاء الْعِدَّة .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ " خِطَاب لِجَمِيعِ النَّاس , وَالتَّلَبُّس بِهَذَا الْحُكْم هُوَ لِلْحُكَّامِ وَالْأَوْلِيَاء . " فِيمَا فَعَلْنَ " يُرِيد بِهِ التَّزَوُّج فَمَا دُونه مِنْ التَّزَيُّن وَاطِّرَاح الْإِحْدَاد . " بِالْمَعْرُوفِ " أَيْ بِمَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْع مِنْ اِخْتِيَار أَعْيَان الْأَزْوَاج وَتَقْدِير الصَّدَاق دُون مُبَاشَرَة الْعَقْد ; لِأَنَّهُ حَقّ لِلْأَوْلِيَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّالِثَة : وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ مَنْعهنَّ مِنْ التَّبَرُّج وَالتَّشَوُّف لِلزَّوْجِ فِي زَمَان الْعِدَّة . وَفِيهَا رَدّ عَلَى إِسْحَاق فِي قَوْله : إِنَّ الْمُطَلَّقَة إِذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة بَانَتْ وَانْقَطَعَتْ رَجْعَة الزَّوْج الْأَوَّل , إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّج حَتَّى تَغْتَسِل . وَعَنْ شَرِيك أَنَّ لِزَوْجِهَا الرَّجْعَة مَا لَمْ تَغْتَسِل وَلَوْ بَعْد عِشْرِينَ سَنَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلهنَّ فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسهنَّ " وَبُلُوغ الْأَجَل هُنَا اِنْقِضَاء الْعِدَّة بِدُخُولِهَا فِي الدَّم مِنْ الْحَيْضَة الثَّالِثَة وَلَمْ يَذْكُر غُسْلًا , فَإِذَا اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَلَا جُنَاح عَلَيْهَا فِيمَا فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ . وَالْحَدِيث عَنْ اِبْن عَبَّاس لَوْ صَحَّ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَاب , وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة فِي عِدَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , وَظَاهِرهَا الْعُمُوم وَمَعْنَاهَا الْخُصُوص . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ الْآيَة تَنَاوَلَتْ الْحَوَامِل ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ " وَأُولَات الْأَحْمَال أَجَلهنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلهنَّ " [ الطَّلَاق : 4 ] . وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْر إِخْرَاج " [ الْبَقَرَة : 240 ] لِأَنَّ النَّاس أَقَامُوا بُرْهَة مِنْ الْإِسْلَام إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُل وَخَلَّفَ اِمْرَأَته حَامِلًا أَوْصَى لَهَا زَوْجهَا بِنَفَقَةِ سَنَة وَبِالسُّكْنَى مَا لَمْ تَخْرُج فَتَتَزَوَّج , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُر وَعَشْر وَبِالْمِيرَاثِ . وَقَالَ قَوْم : لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخ وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَان مِنْ الْحَوْل , كَصَلَاةِ الْمُسَافِر لَمَّا نَقَصَتْ مِنْ الْأَرْبَع إِلَى الِاثْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا . وَهَذَا غَلَط بَيِّن ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حُكْمهَا أَنْ تَعْتَدّ سَنَة إِذَا لَمْ تَخْرُج , فَإِنْ خَرَجَتْ لَمْ تُمْنَع , ثُمَّ أُزِيلَ هَذَا وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّة أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا . وَهَذَا هُوَ النَّسْخ , وَلَيْسَتْ صَلَاة الْمُسَافِر مِنْ هَذَا فِي شَيْء . وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : فُرِضَتْ الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ , فَزِيدَ فِي صَلَاة الْحَضَر وَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَر بِحَالِهَا , وَسَيَأْتِي .
الثَّالِثَة : عِدَّة الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا وَضْع حَمْلهَا عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس أَنَّ تَمَام عِدَّتهَا آخِر الْأَجَلَيْنِ , وَاخْتَارَهُ سَحْنُون مِنْ عُلَمَائِنَا . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا . وَالْحُجَّة لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس رَوْم الْجَمْع بَيْن قَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " وَبَيْن قَوْله : " وَأُولَات الْأَحْمَال أَجَلهنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلهنَّ " [ الطَّلَاق : 4 ] وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا قَعَدَتْ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فَقَدْ عَمِلَتْ بِمُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ , وَإِنْ اِعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْل فَقَدْ تَرَكَتْ الْعَمَل بِآيَةِ عِدَّة الْوَفَاة , وَالْجَمْع أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيح بِاتِّفَاقِ أَهْل الْأُصُول . وَهَذَا نَظَر حَسَن لَوْلَا مَا يُعَكِّر عَلَيْهِ مِنْ حَدِيث سُبَيْعَة الْأَسْلَمِيَّة وَأَنَّهَا نَفِسَتْ بَعْد وَفَاة زَوْجهَا بِلَيَالٍ , وَأَنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّج , أَخْرَجَهُ فِي الصَّحِيح . فَبَيَّنَ الْحَدِيث أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " وَأُولَات الْأَحْمَال أَجَلهنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلهنَّ " مَحْمُول عَلَى عُمُومه فِي الْمُطَلَّقَات وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجهنَّ , وَأَنَّ عِدَّة الْوَفَاة مُخْتَصَّة بِالْحَائِلِ مِنْ الصِّنْفَيْنِ , وَيَعْتَضِد هَذَا بِقَوْلِ اِبْن مَسْعُود : وَمَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ إِنَّ آيَة النِّسَاء الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْد آيَة عِدَّة الْوَفَاة . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَظَاهِر كَلَامه أَنَّهَا نَاسِخَة لَهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَاده . وَاَللَّه أَعْلَم . وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهَا مُخَصَّصَة لَهَا , فَإِنَّهَا أَخْرَجَتْ مِنْهَا بَعْض مُتَنَاوَلَاتهَا . وَكَذَلِكَ حَدِيث سُبَيْعَة مُتَأَخِّر عَنْ عِدَّة الْوَفَاة , لِأَنَّ قِصَّة سُبَيْعَة كَانَتْ بَعْد حَجَّة الْوَدَاع , وَزَوْجهَا هُوَ سَعْد بْن خَوْلَة وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا , تُوُفِّيَ بِمَكَّة حِينَئِذٍ وَهِيَ حَامِل , وَهُوَ الَّذِي رَثَى لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّة , وَوَلَدَتْ بَعْده بِنِصْفِ شَهْر . وَقَالَ الْبُخَارِيّ : بِأَرْبَعِينَ لَيْلَة . وَرَوَى مُسْلِم مِنْ حَدِيث عُمَر بْن عَبْد اللَّه بْن الْأَرْقَم أَنَّ سُبَيْعَة سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ قَالَتْ : فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْت حِين وَضَعْت حَمْلِي , وَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إِنْ بَدَا لِي . قَالَ اِبْن شِهَاب : وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّج حِين وَضَعَتْ وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمهَا , غَيْر أَنَّ زَوْجهَا لَا يَقْرَبهَا حَتَّى تَطْهُر , وَعَلَى هَذَا جُمْهُور الْعُلَمَاء وَأَئِمَّة الْفُقَهَاء . وَقَالَ الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَحَمَّاد : لَا تُنْكَح النُّفَسَاء مَا دَامَتْ فِي دَم نِفَاسهَا . فَاشْتَرَطُوا شَرْطَيْنِ : وَضْع الْحَمْل , وَالطُّهْر مِنْ دَم النِّفَاس . وَالْحَدِيث حُجَّة عَلَيْهِمْ , وَلَا حُجَّة لَهُمْ فِي قَوْله : ( فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ ) كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم وَأَبِي دَاوُد ; لِأَنَّ ( تَعَلَّتْ ) وَإِنْ كَانَ أَصْله طَهُرَتْ مِنْ دَم نِفَاسهَا - عَلَى مَا قَالَهُ الْخَلِيل - فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهِ هَاهُنَا تَعَلَّتْ مِنْ آلَام نِفَاسهَا , أَيْ اِسْتَقَلَّتْ مِنْ أَوْجَاعهَا . وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا قَالَ الْخَلِيل فَلَا حُجَّة فِيهِ , وَإِنَّمَا الْحُجَّة فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِسُبَيْعَة : ( قَدْ حَلَلْت حِين وَضَعْت ) فَأَوْقَعَ الْحِلّ فِي حِين الْوَضْع وَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَقُلْ إِذَا اِنْقَطَعَ دَمك وَلَا إِذَا طَهُرْت , فَصَحَّ مَا قَالَهُ الْجُمْهُور .
الرَّابِعَة : وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ أَجَل كُلّ حَامِل مُطَلَّقَة يَمْلِك الزَّوْج رَجْعَتهَا أَوْ لَا يَمْلِك , حُرَّة كَانَتْ أَوْ أَمَة أَوْ مُدَبَّرَة أَوْ مُكَاتَبَة أَنْ تَضَع حَمْلهَا .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَجَل الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيع بِلَا خِلَاف بَيْنهمْ أَنَّ رَجُلًا لَوْ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ اِمْرَأَة حَامِلًا فَانْقَضَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر أَنَّهَا لَا تَحِلّ حَتَّى تَلِد , فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُود الْوِلَادَة .
الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : " يَتَرَبَّصْنَ " التَّرَبُّص : التَّأَنِّي وَالتَّصَبُّر عَنْ النِّكَاح , وَتَرْك الْخُرُوج عَنْ مَسْكَن النِّكَاح وَذَلِكَ بِأَلَّا تُفَارِقهُ لَيْلًا . وَلَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي كِتَابه كَمَا ذَكَرَهَا لِلْمُطَلَّقَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَسْكِنُوهُنَّ " وَلَيْسَ فِي لَفْظ الْعِدَّة فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى مَا يَدُلّ عَلَى الْإِحْدَاد , وَإِنَّمَا قَالَ : " يَتَرَبَّصْنَ " فَبَيَّنَتْ السُّنَّة جَمِيع ذَلِكَ . وَالْأَحَادِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَظَاهِرَة بِأَنَّ التَّرَبُّص فِي الْوَفَاة إِنَّمَا هُوَ بِإِحْدَادٍ , وَهُوَ الِامْتِنَاع عَنْ الزِّينَة وَلُبْس الْمَصْبُوغ الْجَمِيل وَالطِّيب وَنَحْوه , وَهَذَا قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء . وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن : لَيْسَ الْإِحْدَاد بِشَيْءٍ , إِنَّمَا تَتَرَبَّص عَنْ الزَّوْج , وَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّن وَتَتَطَيَّب , وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ خِلَاف السُّنَّة عَلَى مَا نُبَيِّنهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْفُرَيْعَةِ بِنْت مَالِك بْن سِنَان وَكَانَتْ مُتَوَفًّى عَنْهَا : ( اُمْكُثِي فِي بَيْتك حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله ) قَالَتْ : فَاعْتَدَدْت فِيهِ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا , وَهَذَا حَدِيث ثَابِت أَخْرَجَهُ مَالِك عَنْ سَعِيد بْن إِسْحَاق بْن كَعْب بْن عُجْرَة , رَوَاهُ عَنْهُ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَوُهَيْب بْن خَالِد وَحَمَّاد بْن زَيْد وَعِيسَى بْن يُونُس وَعَدَد كَثِير وَابْن عُيَيْنَة وَالْقَطَّان وَشُعْبَة , وَقَدْ رَوَاهُ مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب وَحَسْبك , قَالَ الْبَاجِيّ : لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْره , وَقَدْ أَخَذَ بِهِ عُثْمَان بْن عَفَّان . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَضَى بِهِ فِي اِعْتِدَاد الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي بَيْتهَا , وَهُوَ حَدِيث مَعْرُوف مَشْهُور عِنْد عُلَمَاء الْحِجَاز وَالْعِرَاق أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدّ فِي بَيْتهَا وَلَا تَخْرُج عَنْهُ , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار بِالْحِجَازِ وَالشَّام وَالْعِرَاق وَمِصْر . وَكَانَ دَاوُد يَذْهَب إِلَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدّ فِي بَيْتهَا وَتَعْتَدّ حَيْثُ شَاءَتْ ; لِأَنَّ السُّكْنَى إِنَّمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآن فِي الْمُطَلَّقَات , وَمِنْ حُجَّته أَنَّ الْمَسْأَلَة مَسْأَلَة خِلَاف . قَالُوا : وَهَذَا الْحَدِيث إِنَّمَا تَرْوِيه اِمْرَأَة غَيْر مَعْرُوفَة بِحَمْلِ الْعِلْم , وَإِيجَاب السُّكْنَى إِيجَاب حُكْم , وَالْأَحْكَام لَا تَجِب إِلَّا بِنَصِّ كِتَاب اللَّه أَوْ سُنَّة أَوْ إِجْمَاع . قَالَ أَبُو عُمَر : أَمَّا السُّنَّة فَثَابِتَة بِحَمْدِ اللَّه , وَأَمَّا الْإِجْمَاع فَمُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالسُّنَّةِ ; لِأَنَّ الِاخْتِلَاف إِذَا نَزَلَ فِي مَسْأَلَة كَانَتْ الْحُجَّة فِي قَوْل مَنْ وَافَقَتْهُ السُّنَّة , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق : وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَعَائِشَة مِثْل قَوْل دَاوُد , وَبِهِ قَالَ جَابِر بْن زَيْد وَعَطَاء وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " وَلَمْ يَقُلْ يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتهنَّ , وَلْتَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة قَالَ : خَرَجَتْ عَائِشَة بِأُخْتِهَا أُمّ كُلْثُوم - حِين قُتِلَ عَنْهَا زَوْجهَا طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه - إِلَى مَكَّة فِي عُمْرَة , وَكَانَتْ تُفْتِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا بِالْخُرُوجِ فِي عِدَّتهَا . قَالَ : وَحَدَّثَنَا الثَّوْرِيّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد يَقُول : أَبَى النَّاس ذَلِكَ عَلَيْهَا . قَالَ : وَحَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ : أَخَذَ الْمُتَرَخِّصُونَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا بِقَوْلِ عَائِشَة , وَأَخَذَ أَهْل الْوَرَع وَالْعَزْم بِقَوْلِ اِبْن عُمَر . وَفِي الْمُوَطَّإِ : أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب كَانَ يَرُدّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجهنَّ مِنْ الْبَيْدَاء يَمْنَعهُنَّ الْحَجّ . وَهَذَا مِنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِجْتِهَاد , لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى اِعْتِدَاد الْمَرْأَة فِي مَنْزِل زَوْجهَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لَازِمًا لَهَا , وَهُوَ مُقْتَضَى الْقُرْآن وَالسُّنَّة , فَلَا يَجُوز لَهَا أَنْ تَخْرُج فِي حَجّ وَلَا عُمْرَة حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا . وَقَالَ مَالِك : تُرَدّ مَا لَمْ تُحْرِم .
السَّادِسَة : إِذَا كَانَ الزَّوْج يَمْلِك رَقَبَة الْمَسْكَن فَإِنَّ لِلزَّوْجَةِ الْعِدَّة فِيهِ , وَعَلَيْهِ أَكْثَر الْفُقَهَاء : مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَغَيْرهمْ لِحَدِيثِ الْفُرَيْعَة . وَهَلْ يَجُوز بَيْع الدَّار إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُتَوَفَّى وَأَرَادَ ذَلِكَ الْوَرَثَة , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور أَصْحَابنَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِز , وَيُشْتَرَط فِيهِ الْعِدَّة لِلْمَرْأَةِ . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : لِأَنَّهَا أَحَقّ بِالسُّكْنَى مِنْ الْغُرَمَاء . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَكَم : الْبَيْع فَاسِد ; لِأَنَّهَا قَدْ تَرْتَاب فَتَمْتَدّ عِدَّتهَا . وَجْه قَوْل اِبْن الْقَاسِم : أَنَّ الْغَالِب السَّلَامَة , وَالرِّيبَة نَادِرَة وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّر فِي فَسَاد الْعُقُود , فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْع فِيهِ بِهَذَا الشَّرْط فَارْتَابَتْ , قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : هِيَ أَحَقّ بِالْمَقَامِ حَتَّى تَنْقَضِي الرِّيبَة , وَأَحَبّ إِلَيْنَا أَنْ يَكُون لِلْمُشْتَرِي الْخِيَار فِي فَسْخ الْبَيْع أَوْ إِمْضَائِهِ وَلَا يَرْجِع بِشَيْءٍ , لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْعِدَّة الْمُعْتَادَة , وَلَوْ وَقَعَ الْبَيْع بِشَرْطِ زَوَال الرِّيبَة كَانَ فَاسِدًا . وَقَالَ سَحْنُون : لَا حُجَّة لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ تَمَادَتْ الرِّيبَة إِلَى خَمْس سِنِينَ ; لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْعِدَّة وَالْعِدَّة قَدْ تَكُون خَمْس سِنِينَ , وَنَحْو هَذَا رَوَى أَبُو زَيْد عَنْ اِبْن الْقَاسِم .
السَّابِعَة : فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ السُّكْنَى دُون الرَّقَبَة , فَلَهَا السُّكْنَى فِي مُدَّة الْعِدَّة , خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِلْفُرَيْعَةِ - وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ زَوْجهَا لَا يَمْلِك رَقَبَة الْمَسْكَن - : ( اُمْكُثِي فِي بَيْتك حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله ) . لَا يُقَال إِنَّ الْمَنْزِل كَانَ لَهَا , فَلِذَلِكَ قَالَ لَهَا : ( اُمْكُثِي فِي بَيْتك ) فَإِنَّ مَعْمَرًا رَوَى عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهَا ذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ زَوْجهَا قُتِلَ , وَأَنَّهُ تَرَكَهَا فِي مَسْكَن لَيْسَ لَهَا وَاسْتَأْذَنَتْهُ , وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَلَنَا مِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّهُ تَرَكَ دَارًا يَمْلِك سُكْنَاهَا مِلْكًا لَا تَبِعَة عَلَيْهِ فِيهِ , فَلَزِمَ أَنْ تَعْتَدّ الزَّوْجَة فِيهِ , أَصْل ذَلِكَ إِذَا مَلَكَ رَقَبَتهَا .
الثَّامِنَة : وَهَذَا إِذَا كَانَ قَدْ أَدَّى الْكِرَاء , وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَمْ يُؤَدِّ الْكِرَاء فَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَة : إِنَّهُ لَا سُكْنَى لَهَا فِي مَال الْمَيِّت وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ; لِأَنَّ حَقّهَا إِنَّمَا يَتَعَلَّق بِمَا يَمْلِكهُ مِنْ السُّكْنَى مِلْكًا تَامًّا , وَمَا لَمْ يَنْقُد عِوَضه لَمْ يَمْلِكهُ مِلْكًا تَامًّا , وَإِنَّمَا مَلَكَ الْعِوَض الَّذِي بِيَدِهِ , وَلَا حَقّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجَةِ إِلَّا بِالْمِيرَاثِ دُون السُّكْنَى ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَال وَلَيْسَ بِسُكْنَى . وَرَوَى مُحَمَّد عَنْ مَالِك أَنَّ الْكِرَاء لَازِم لِلْمَيِّتِ فِي مَاله .
التَّاسِعَة : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفُرَيْعَةِ : ( اُمْكُثِي فِي بَيْتك حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله ) يُحْتَمَل أَنَّهُ أَمَرَهَا بِذَلِكَ لَمَّا كَانَ زَوْجهَا قَدْ أَدَّى كِرَاء الْمَسْكَن , أَوْ كَانَ أَسْكَنَ فِيهِ إِلَى وَفَاته , أَوْ أَنَّ أَهْل الْمَنْزِل أَبَاحُوا لَهَا الْعِدَّة فِيهِ بِكِرَاءٍ أَوْ غَيْر كِرَاء , أَوْ مَا شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مِمَّا رَأَى بِهِ أَنَّ الْمُقَام لَازِم لَهَا فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا .
الْعَاشِرَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَة يَأْتِيهَا نَعْي زَوْجهَا وَهِيَ فِي بَيْت غَيْر بَيْت زَوْجهَا , فَأَمَرَهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَسْكَنِهِ وَقَرَارِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالنَّخَعِيّ : تَعْتَدّ حَيْثُ أَتَاهَا الْخَبَر , لَا تَبْرَح مِنْهُ حَتَّى تَنْقَضِي الْعِدَّة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : قَوْل مَالِك صَحِيح , إِلَّا أَنْ يَكُون نَقَلَهَا الزَّوْج إِلَى مَكَان فَتَلْزَم ذَلِكَ الْمَكَان .
الْحَادِيَة عَشْرَة : وَيَجُوز لَهَا أَنْ تَخْرُج فِي حَوَائِجهَا مِنْ وَقْت اِنْتِشَار النَّاس بَكْرَة إِلَى وَقْت هُدُوئِهِمْ بَعْد الْعَتَمَة , وَلَا تَبِيت إِلَّا فِي ذَلِكَ الْمَنْزِل . وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أُمّ عَطِيَّة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تُحِدّ اِمْرَأَة عَلَى مَيِّت فَوْق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زَوْج أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا , وَلَا تَلْبَس ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْب عَصْبٍ , وَلَا تَكْتَحِل , وَلَا تَمَسّ طِيبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَة مِنْ قُسْط أَوْ أَظْفَار ) . وَفِي حَدِيث أُمّ حَبِيبَة : ( لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر تُحِدّ عَلَى مَيِّت فَوْق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زَوْج أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ) الْحَدِيث . الْإِحْدَاد : تَرْك الْمَرْأَة الزِّينَة كُلّهَا مِنْ اللِّبَاس وَالطِّيب وَالْحُلِيّ وَالْكُحْل وَالْخِضَاب بِالْحِنَّاءِ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتهَا ; لِأَنَّ الزِّينَة دَاعِيَة إِلَى الْأَزْوَاج , فَنُهِيَتْ عَنْ ذَلِكَ قَطْعًا لِلذَّرَائِعِ , وَحِمَايَة لِحُرُمَاتِ اللَّه تَعَالَى أَنْ تُنْتَهَك , وَلَيْسَ دَهْن الْمَرْأَة رَأْسهَا بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَج مِنْ الطِّيب فِي شَيْء . يُقَال : اِمْرَأَة حَادّ وَمُحِدٌّ . قَالَ الْأَصْمَعِيّ : وَلَمْ نَعْرِف ( حَدَّتْ ) . وَفَاعِل ( لَا يَحِلّ ) الْمَصْدَر الَّذِي يُمْكِن صِيَاغَته مِنْ ( تُحِدّ ) مَعَ ( أَنْ ) الْمُرَادَة , فَكَأَنَّهُ قَالَ : الْإِحْدَاد .
الثَّانِيَة عَشْرَة : وَصْفه عَلَيْهِ السَّلَام الْمَرْأَة بِالْإِيمَانِ يَدُلّ عَلَى صِحَّة أَحَد الْقَوْلَيْنِ عِنْدنَا فِي الْكِتَابِيَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا أَنَّهَا لَا إِحْدَاد عَلَيْهَا , وَهُوَ قَوْل اِبْن كِنَانَة وَابْن نَافِع , وَرَوَاهُ أَشْهَب عَنْ مَالِك , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَابْن الْمُنْذِر , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّ عَلَيْهَا الْإِحْدَاد كَالْمُسْلِمَةِ , وَبِهِ قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَعَامَّة أَصْحَابنَا ; لِأَنَّهُ حُكْم مِنْ أَحْكَام الْعِدَّة فَلَزِمَتْ الْكِتَابِيَّة لِلْمُسْلِمِ كَلُزُومِ الْمَسْكَن وَالْعِدَّة .
الثَّالِثَة عَشْرَة : وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَوْق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زَوْج ) دَلِيل عَلَى تَحْرِيم إِحْدَاد الْمُسْلِمَات عَلَى غَيْر أَزْوَاجهنَّ فَوْق ثَلَاث , وَإِبَاحَة الْإِحْدَاد عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا تَبْدَأ بِالْعَدَدِ مِنْ اللَّيْلَة الَّتِي تَسْتَقْبِلهَا إِلَى آخِر ثَالِثهَا , فَإِنْ مَاتَ حَمِيمهَا فِي بَقِيَّة يَوْم أَوْ لَيْلَة أَلْغَتْهُ وَحَسَبَتْ مِنْ اللَّيْلَة الْقَابِلَة .
الرَّابِعَة عَشْرَة : هَذَا الْحَدِيث بِحُكْمِ عُمُومه يَتَنَاوَل الزَّوْجَات كُلّهنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجهنَّ , فَيَدْخُل فِيهِ الْإِمَاء وَالْحَرَائِر وَالْكِبَار وَالصِّغَار , وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة إِلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَاد عَلَى أَمَة وَلَا عَلَى صَغِيرَة , حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَمَّا الْأَمَة الزَّوْجَة فَهِيَ دَاخِلَة فِي جُمْلَة الْأَزْوَاج وَفِي عُمُوم الْأَخْبَار , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي , وَلَا أَحْفَظ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحَد خِلَافًا , وَلَا أَعْلَمهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْإِحْدَاد عَلَى أُمّ الْوَلَد إِذَا مَاتَ سَيِّدهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ , وَالْأَحَادِيث إِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْأَزْوَاج . قَالَ الْبَاجِيّ : الصَّغِيرَة إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَعْقِل الْأَمْر وَالنَّهْي وَتَلْتَزِم مَا حُدَّ لَهَا أُمِرَتْ بِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَتْ لَا تَدْرِك شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِصِغَرِهَا فَرَوَى اِبْن مُزَيْن عَنْ عِيسَى يُجَنِّبهَا أَهْلهَا جَمِيع مَا تَجْتَنِبهُ الْكَبِيرَة , وَذَلِكَ لَازِم لَهَا . وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوب الْإِحْدَاد عَلَى الصَّغِيرَة مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَتْهُ اِمْرَأَة عَنْ بِنْت لَهَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنهَا أَفَتُكَحِّلهَا ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا ) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا , كُلّ ذَلِكَ يَقُول ( لَا ) وَلَمْ يَسْأَل عَنْ سِنّهَا , وَلَوْ كَانَ الْحُكْم يَفْتَرِق بِالصِّغَرِ وَالْكِبَر لَسَأَلَ عَنْ سِنّهَا حَتَّى يُبَيِّن الْحُكْم , وَتَأْخِير الْبَيَان فِي مِثْل هَذَا لَا يَجُوز , وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلّ مَنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّة بِالْوَفَاةِ لَزِمَهَا الْإِحْدَاد كَالْكَبِيرَةِ .
الْخَامِسَة عَشْرَة : قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَا أَعْلَم خِلَافًا أَنَّ الْخِضَاب دَاخِل فِي جُمْلَة الزِّينَة الْمَنْهِيّ عَنْهَا . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهَا لِبَاس الثِّيَاب الْمُصْبَغَة وَالْمُعَصْفَرَة , إِلَّا مَا صُبِغَ بِالسَّوَادِ فَإِنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ , وَكَرِهَهُ الزُّهْرِيّ . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : لَا تَلْبَس ثَوْب عَصْب , وَهُوَ خِلَاف الْحَدِيث . وَفِي الْمُدَوَّنَة قَالَ مَالِك : لَا تَلْبَس رَقِيق عَصْب الْيَمَن , وَوَسَّعَ فِي غَلِيظه . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : لِأَنَّ رَقِيقه بِمَنْزِلَةِ الثِّيَاب الْمُصْبَغَة وَتَلْبَس رَقِيق الثِّيَاب وَغَلِيظه مِنْ الْحَرِير وَالْكَتَّان وَالْقُطْن . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَرَخَّصَ كُلّ مَنْ أَحْفَظ عَنْهُ فِي لِبَاس الْبَيَاض , قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : ذَهَبَ الشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّ كُلّ صَبْغ كَانَ زِينَة لَا تَمَسّهُ الْحَادّ رَقِيقًا كَانَ أَوْ غَلِيظًا . وَنَحْوه لِلْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب قَالَ : كُلّ مَا كَانَ مِنْ الْأَلْوَان تَتَزَيَّن بِهِ النِّسَاء لِأَزْوَاجِهِنَّ فَلْتَمْتَنِعْ مِنْهُ الْحَادّ . وَمَنَعَ بَعْض مَشَايِخنَا الْمُتَأَخِّرِينَ جَيِّد الْبَيَاض الَّذِي يُتَزَيَّن بِهِ , وَكَذَلِكَ الرَّفِيع مِنْ السَّوَاد . وَرَوَى اِبْن الْمَوَّاز عَنْ مَالِك : لَا تَلْبَس حُلِيًّا وَإِنْ كَانَ حَدِيدًا , وَفِي الْجُمْلَة أَنَّ كُلّ مَا تَلْبَسهُ الْمَرْأَة عَلَى وَجْه مَا يُسْتَعْمَل عَلَيْهِ الْحُلِيّ مِنْ التَّجَمُّل فَلَا تَلْبَسهُ الْحَادّ . وَلَمْ يَنُصّ أَصْحَابنَا عَلَى الْجَوَاهِر وَالْيَوَاقِيت وَالزُّمُرُّد وَهُوَ دَاخِل فِي مَعْنَى الْحُلِيّ . وَاَللَّه أَعْلَم .
السَّادِسَة عَشْرَة : وَأَجْمَعَ النَّاس عَلَى وُجُوب الْإِحْدَاد عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , إِلَّا الْحَسَن فَإِنَّهُ قَالَ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ , وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد بْن الْهَادِ عَنْ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس قَالَتْ : لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَسَلَّبِي ثَلَاثًا ثُمَّ اِصْنَعِي مَا شِئْت ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : كَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ مِنْ بَيْن سَائِر أَهْل الْعِلْم لَا يَرَى الْإِحْدَاد , وَقَالَ : الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا تَكْتَحِلَانِ وَتَخْتَضِبَانِ وَتَصْنَعَانِ مَا شَاءَا . وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْدَادِ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَلَغَتْهُ إِلَّا التَّسْلِيم , وَلَعَلَّ الْحَسَن لَمْ تَبْلُغهُ , أَوْ بَلَغَتْهُ فَتَأَوَّلَهَا بِحَدِيثِ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس أَنَّهَا اِسْتَأْذَنَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُحِدّ عَلَى جَعْفَر وَهَى اِمْرَأَته , فَأَذِنَ لَهَا ثَلَاثَة أَيَّام ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهَا بَعْد ثَلَاثَة أَيَّام أَنْ تَطَهَّرِي وَاكْتَحِلِي . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر , وَقَدْ دَفَعَ أَهْل الْعِلْم هَذَا الْحَدِيث بِوُجُوهٍ , وَكَانَ أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول : هَذَا الشَّاذّ مِنْ الْحَدِيث لَا يُؤْخَذ بِهِ , وَقَالَهُ إِسْحَاق .
السَّابِعَة عَشْرَة : ذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنْ لَا إِحْدَاد عَلَى مُطَلَّقَة رَجْعِيَّة كَانَتْ أَوْ بَائِنَة وَاحِدَة أَوْ أَكْثَر , وَهُوَ قَوْل رَبِيعَة وَعَطَاء . وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ : أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن بْن حَيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد إِلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا عَلَيْهَا الْإِحْدَاد , وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَسُلَيْمَان بْن يَسَار وَابْن سِيرِينَ وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَة . قَالَ الْحَكَم : هُوَ عَلَيْهَا أَوْكَد وَأَشَدّ مِنْهُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي عِدَّة يُحْفَظ بِهَا النَّسَب . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : الِاحْتِيَاط أَنْ تَتَّقِي الْمُطَلَّقَة الزِّينَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَفِي قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر أَنْ تُحِدّ عَلَى مَيِّت فَوْق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زَوْج أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ) دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا وَالْمُطْلِق حَيُّ لَا إِحْدَاد عَلَيْهَا .
الثَّامِنَة عَشْرَة : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَته طَلَاقًا يَمْلِك رَجْعَتهَا ثُمَّ تُوُفِّيَ قَبْل اِنْقِضَاء الْعِدَّة أَنَّ عَلَيْهَا عِدَّة الْوَفَاة وَتَرِثهُ . وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّة الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا فِي الْمَرَض , فَقَالَتْ طَائِفَة تَعْتَدّ عِدَّة الطَّلَاق , هَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَيَعْقُوب وَأَبِي عُبَيْد وَأَبِي ثَوْر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ عِدَّة الْمُطَلَّقَات الْأَقْرَاء , وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثهَا الْمُطَلِّق , وَذَلِكَ لِأَنَّهَا غَيْر زَوْجَة , وَإِذَا كَانَتْ غَيْر زَوْجَة فَهُوَ غَيْر زَوْج لَهَا . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : تَعْتَدّ بِأَقْصَى الْعِدَّتَيْنِ . وَقَالَ النُّعْمَان وَمُحَمَّد : عَلَيْهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر تَسْتَكْمِل فِي ذَلِكَ ثَلَاث حِيَض .
التَّاسِعَة عَشْرَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَة يَبْلُغهَا وَفَاة زَوْجهَا أَوْ طَلَاقه , فَقَالَتْ طَائِفَة : الْعِدَّة فِي الطَّلَاق وَالْوَفَاة مِنْ يَوْم يَمُوت أَوْ يُطَلِّق , هَذَا قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس , وَبِهِ قَالَ مَسْرُوق وَعَطَاء وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي وَابْن الْمُنْذِر . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ عِدَّتهَا مِنْ يَوْم يَبْلُغهَا الْخَبَر , رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَلِيّ , وَبِهِ قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَجُلَاس بْن عَمْرو . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : إِنْ قَامَتْ بَيِّنَة فَعِدَّتهَا مِنْ يَوْم مَاتَ أَوْ طَلَّقَ , وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَة فَمِنْ يَوْم يَأْتِيهَا الْخَبَر , وَالصَّحِيح الْأَوَّل , لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْعِدَّة بِالْوَفَاةِ أَوْ الطَّلَاق , وَلِأَنَّهَا لَوْ عَلِمَتْ بِمَوْتِهِ فَتَرَكَتْ الْإِحْدَاد اِنْقَضَتْ الْعِدَّة , فَإِذَا تَرَكَتْهُ مَعَ عَدَم الْعِلْم فَهُوَ أَهْوَن , أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَة تَنْقَضِي عِدَّتهَا وَلَا إِحْدَاد عَلَيْهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لَا تَعْلَم طَلَاق الزَّوْج أَوْ وَفَاته ثُمَّ وَضَعَتْ حَمْلهَا أَنَّ عِدَّتهَا مُنْقَضِيَة . وَلَا فَرْق بَيْن هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَبَيْن الْمَسْأَلَة الْمُخْتَلَف فِيهَا . وَوَجْه مَنْ قَالَ بِالْعِدَّةِ مِنْ يَوْم يَبْلُغهَا الْخَبَر , أَوْ الْعِدَّة عِبَادَة بِتَرْكِ الزِّينَة وَذَلِكَ لَا يَصِحّ إِلَّا بِقَصْدٍ وَنِيَّة , وَالْقَصْد لَا يَكُون إِلَّا بَعْد الْعِلْم . وَاَللَّه أَعْلَم .
الْمُوَفِّيَة عِشْرِينَ : عِدَّة الْوَفَاة تَلْزَم الْحُرَّة وَالْأَمَة وَالصَّغِيرَة وَالْكَبِيرَة وَاَلَّتِي لَمْ تَبْلُغ الْمَحِيض , وَاَلَّتِي حَاضَتْ وَالْيَائِسَة مِنْ الْمَحِيض وَالْكِتَابِيَّة - دُخِلَ بِهَا أَوْ لَمْ يُدْخَل بِهَا إِذَا كَانَتْ غَيْر حَامِل - وَعِدَّة جَمِيعهنَّ إِلَّا الْأَمَة أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشَرَة أَيَّام , لِعُمُومِ الْآيَة فِي قَوْله تَعَالَى : " يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " . وَعِدَّة الْأَمَة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا شَهْرَانِ وَخَمْس لَيَالٍ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : نِصْف عِدَّة الْحُرَّة إِجْمَاعًا , إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ الْأَصَمّ فَإِنَّهُ سَوَّى فِيهَا بَيْن الْحُرَّة وَالْأَمَة وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِجْمَاع , لَكِنْ لِصَمَمِهِ لَمْ يَسْمَع . قَالَ الْبَاجِيّ : وَلَا نَعْلَم فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ اِبْن سِيرِينَ , وَلَيْسَ بِالثَّابِتِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : عِدَّتهَا عِدَّة الْحُرَّة .
قُلْت : قَوْل الْأَصَمّ صَحِيح مِنْ حَيْثُ النَّظَر , فَإِنَّ الْآيَات الْوَارِدَة فِي عِدَّة الْوَفَاة وَالطَّلَاق بِالْأَشْهُرِ وَالْأَقْرَاء عَامَّة فِي حَقّ الْأَمَة وَالْحُرَّة , فَعِدَّة الْحُرَّة وَالْأَمَة سَوَاء عَلَى هَذَا النَّظَر , فَإِنَّ الْعُمُومَات لَا فَصْل فِيهَا بَيْن الْحُرَّة وَالْأَمَة , وَكَمَا اِسْتَوَتْ الْأَمَة وَالْحُرَّة فِي النِّكَاح فَكَذَلِكَ تَسْتَوِي مَعَهَا فِي الْعِدَّة . وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَرُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّ الْكِتَابِيَّة تَعْتَدّ بِثَلَاثِ حِيَض إِذْ يَبْرَأ الرَّحِم , وَهَذَا مِنْهُ فَاسِد جِدًّا , لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مِنْ عُمُوم آيَة الْوَفَاة وَهِيَ مِنْهَا وَأَدْخَلَهَا فِي عُمُوم آيَة الطَّلَاق وَلَيْسَتْ مِنْهَا .
قُلْت : وَعَلَيْهِ بِنَاء مَا فِي الْمُدَوَّنَة لَا عِدَّة عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ غَيْر مَدْخُول بِهَا ; لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بَرَاءَة رَحِمهَا , هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَتَزَوَّج مُسْلِمًا أَوْ غَيْره إِثْر وَفَاته ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّة لِلْوَفَاةِ وَلَا اِسْتِبْرَاء لِلدُّخُولِ فَقَدْ حَلَّتْ لِلزَّوَاجِ .
الْحَادِيَة وَالْعِشْرُونَ : وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّة أُمّ الْوَلَد إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدهَا , فَقَالَتْ طَائِفَة : عِدَّتهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر , قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيد وَالزُّهْرِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَغَيْرهمْ , وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عِدَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر , يَعْنِي فِي أُمّ الْوَلَد , لَفْظ أَبِي دَاوُد . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : مَوْقُوف . وَهُوَ الصَّوَاب , وَهُوَ مُرْسَل لِأَنَّ قَبِيصَة لَمْ يَسْمَع مِنْ عَمْرو . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَضَعَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْد هَذَا الْحَدِيث . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود أَنَّ عِدَّتهَا ثَلَاث حِيَض , وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي , قَالُوا : لِأَنَّهَا عِدَّة تَجِب فِي حَال الْحُرِّيَّة , فَوَجَبَ أَنْ تَكُون عِدَّة كَامِلَة , أَصْله عِدَّة الْحُرَّة . وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر : عِدَّتهَا حَيْضَة , وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر . وَرُوِيَ عَنْ طَاوُس أَنَّ عِدَّتهَا نِصْف عِدَّة الْحُرَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا , وَبِهِ قَالَ قَتَادَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِقَوْلِ اِبْن عُمَر أَقُول ; لِأَنَّهُ الْأَقَلّ مِمَّا قِيلَ فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ سُنَّة تُتَّبَع وَلَا إِجْمَاع يُعْتَمَد عَلَيْهِ . وَذِكْر اِخْتِلَافهمْ فِي عِدَّتهَا فِي الْعِتْق كَهُوَ فِي الْوَفَاة سَوَاء , إِلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيّ جَعَلَ عِدَّتهَا فِي الْعِتْق ثَلَاث حِيَض .
قُلْت : أَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال قَوْل مَالِك ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه قَالَ : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " [ الْبَقَرَة : 228 ] فَشَرَطَ فِي تَرَبُّص الْأَقْرَاء أَنْ يَكُون عَنْ طَلَاق , فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُون عَنْ غَيْره . وَقَالَ : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " فَعَلَّقَ وُجُوب ذَلِكَ بِكَوْنِ الْمُتَرَبِّصَة زَوْجَة , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمَة بِخِلَافِهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ أَمَة مَوْطُوءَة بِمِلْكِ الْيَمِين فَكَانَ اِسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ , أَصْل ذَلِكَ الْأَمَة .
الثَّانِيَة وَالْعِشْرُونَ : إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ عِدَّة أُمّ الْوَلَد اِسْتِبْرَاء مَحْض أَوْ عِدَّة , فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّد فِي مَعُونَته أَنَّ الْحَيْضَة اِسْتِبْرَاء وَلَيْسَتْ بِعِدَّةٍ . وَفِي الْمُدَوَّنَة أَنَّ أُمّ الْوَلَد عَلَيْهَا الْعِدَّة , وَأَنَّ عِدَّتهَا حَيْضَة كَعِدَّةِ الْحُرَّة ثَلَاث حِيَض . وَفَائِدَة الْخِلَاف أَنَّا إِذَا قُلْنَا هِيَ عِدَّة فَقَدْ قَالَ مَالِك : لَا أُحِبّ أَنْ تُوَاعِد أَحَدًا يَنْكِحهَا حَتَّى تَحِيض حَيْضَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَبِيت إِلَّا فِي بَيْتهَا , فَأَثْبَتَ لِمُدَّةِ اِسْتِبْرَائِهَا حُكْم الْعِدَّة .
الثَّالِثَة وَالْعِشْرُونَ : أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ نَفَقَة الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا أَوْ مُطَلَّقَة لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَة وَهِيَ حَامِل وَاجِبَة , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ كُنَّ أُولَات حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلهنَّ " [ الطَّلَاق : 6 ] .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوب نَفَقَة الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , فَقَالَتْ طَائِفَة : لَا نَفَقَة لَهَا , كَذَلِكَ قَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَطَاء وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة وَعَبْد الْمَلِك بْن يَعْلَى وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيّ وَرَبِيعَة وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَحَكَى أَبُو عُبَيْد ذَلِكَ عَنْ أَصْحَاب الرَّأْي . وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَة مِنْ جَمِيع الْمَال , وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَلِيّ وَعَبْد اللَّه وَبِهِ قَالَ اِبْن عُمَر وَشُرَيْح وَابْن سِيرِينَ وَالشَّعْبِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة وَالنَّخَعِيّ وَجُلَاس بْن عَمْرو وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَأَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَبُو عُبَيْد . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّل أَقُول ; لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَفَقَة كُلّ مَنْ كَانَ يُجْبَر عَلَى نَفَقَته وَهُوَ حَيّ مِثْل أَوْلَاده الْأَطْفَال وَزَوْجَته وَوَالِدَيْهِ تَسْقُط عَنْهُ , فَكَذَلِكَ تَسْقُط عَنْهُ نَفَقَة الْحَامِل مِنْ أَزْوَاجه . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد : لِأَنَّ نَفَقَة الْحَمْل لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ثَابِت فَتَتَعَلَّق بِمَالِهِ بَعْد مَوْته , بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَسْقُط عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ فَبِأَنْ تَسْقُط بِالْمَوْتِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
الرَّابِعَة وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : " أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر وَالْعَشْر الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه مِيقَاتًا لِعِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا , هَلْ تَحْتَاج فِيهَا إِلَى حَيْضَة أَمْ لَا , فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا تَبْرَأ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تُوطَأ إِلَّا بِحَيْضَةٍ تَأْتِي بِهَا فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر وَالْعَشْر , وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَرَابَة . وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ عَلَيْهَا أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر , إِلَّا أَنْ تَسْتَرِيب نَفْسهَا رِيبَة بَيِّنَة ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّة لَا بُدّ فِيهَا مِنْ الْحَيْض فِي الْأَغْلَب مِنْ أَمْر النِّسَاء إِلَّا أَنْ تَكُون الْمَرْأَة مِمَّنْ لَا تَحِيض أَوْ مِمَّنْ عَرَفَتْ مِنْ نَفْسهَا أَوْ عُرِفَ مِنْهَا أَنَّ حَيْضَتهَا لَا تَأْتِيهَا إِلَّا فِي أَكْثَر مِنْ هَذِهِ الْمُدَّة .
الْخَامِسَة وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : " وَعَشْرًا " رَوَى وَكِيع عَنْ أَبِي جَعْفَر الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَبِي الْعَالِيَة أَنَّهُ سُئِلَ : لِمَ ضُمَّتْ الْعَشْر إِلَى الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر ؟ قَالَ : لِأَنَّ الرُّوح تُنْفَخ فِيهَا , وَسَيَأْتِي فِي الْحَجّ بَيَان هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : وَيُقَال إِنَّ وَلَد كُلّ حَامِل يَرْتَكِض فِي نِصْف حَمْلهَا فَهِيَ مُرْكِض . وَقَالَ غَيْره : أَرْكَضَتْ فَهِيَ مُرْكِضَة وَأَنْشَدَ : وَمُرْكِضَة صَرِيحِيّ أَبُوهَا تُهَان لَهَا الْغُلَامَة وَالْغُلَام وَقَالَ الْخَطَّابِيّ : قَوْله " وَعَشْرًا " يُرِيد - وَاَللَّه أَعْلَم - الْأَيَّام بِلَيَالِيِهَا . وَقَالَ الْمُبَرِّد : إِنَّمَا أَنَّثَ الْعَشْر لِأَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمُدَّة . الْمَعْنَى وَعَشْر مُدَد , كُلّ مُدَّة مِنْ يَوْم وَلَيْلَة , فَاللَّيْلَة مَعَ يَوْمهَا مُدَّة مَعْلُومَة مِنْ الدَّهْر . وَقِيلَ : لَمْ يَقُلْ عَشَرَة تَغْلِيبًا لِحُكْمِ اللَّيَالِي إِذْ اللَّيْلَة أَسْبَق مِنْ الْيَوْم وَالْأَيَّام فِي ضِمْنهَا . " وَعَشْرًا " أَخَفّ فِي اللَّفْظ , فَتَغْلِب اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّام إِذَا اِجْتَمَعَتْ فِي التَّارِيخ ; لِأَنَّ اِبْتِدَاء الشُّهُور بِاللَّيْلِ عِنْد الِاسْتِهْلَال , فَلَمَّا كَانَ أَوَّل الشَّهْر اللَّيْلَة غَلَّبَ اللَّيْلَة , تَقُول : صُمْنَا خَمْسًا مِنْ الشَّهْر , فَتَغْلِب اللَّيَالِي وَإِنْ كَانَ الصَّوْم بِالنَّهَارِ . وَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهَا الْأَيَّام وَاللَّيَالِي . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فَلَوْ عَقَدَ عَاقِد عَلَيْهَا النِّكَاح عَلَى هَذَا الْقَوْل وَقَدْ مَضَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر لَيَالٍ كَانَ بَاطِلًا حَتَّى يَمْضِي الْيَوْم الْعَاشِر . وَذَهَبَ بَعْض الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّهُ إِذَا اِنْقَضَى لَهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر لَيَالٍ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى الْعِدَّة مُبْهَمَة فَغَلَّبَ التَّأْنِيث وَتَأَوَّلَهَا عَلَى اللَّيَالِي . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيّ مِنْ الْفُقَهَاء وَأَبُو بَكْر الْأَصَمّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَرَأَ " أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر لَيَالٍ " .
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : أَضَافَ تَعَالَى الْأَجَل إِلَيْهِنَّ إِذْ هُوَ مَحْدُود مَضْرُوب فِي أَمْرهنَّ , وَهُوَ عِبَارَة عَنْ اِنْقِضَاء الْعِدَّة .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ " خِطَاب لِجَمِيعِ النَّاس , وَالتَّلَبُّس بِهَذَا الْحُكْم هُوَ لِلْحُكَّامِ وَالْأَوْلِيَاء . " فِيمَا فَعَلْنَ " يُرِيد بِهِ التَّزَوُّج فَمَا دُونه مِنْ التَّزَيُّن وَاطِّرَاح الْإِحْدَاد . " بِالْمَعْرُوفِ " أَيْ بِمَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْع مِنْ اِخْتِيَار أَعْيَان الْأَزْوَاج وَتَقْدِير الصَّدَاق دُون مُبَاشَرَة الْعَقْد ; لِأَنَّهُ حَقّ لِلْأَوْلِيَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّالِثَة : وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ مَنْعهنَّ مِنْ التَّبَرُّج وَالتَّشَوُّف لِلزَّوْجِ فِي زَمَان الْعِدَّة . وَفِيهَا رَدّ عَلَى إِسْحَاق فِي قَوْله : إِنَّ الْمُطَلَّقَة إِذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة بَانَتْ وَانْقَطَعَتْ رَجْعَة الزَّوْج الْأَوَّل , إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّج حَتَّى تَغْتَسِل . وَعَنْ شَرِيك أَنَّ لِزَوْجِهَا الرَّجْعَة مَا لَمْ تَغْتَسِل وَلَوْ بَعْد عِشْرِينَ سَنَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلهنَّ فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسهنَّ " وَبُلُوغ الْأَجَل هُنَا اِنْقِضَاء الْعِدَّة بِدُخُولِهَا فِي الدَّم مِنْ الْحَيْضَة الثَّالِثَة وَلَمْ يَذْكُر غُسْلًا , فَإِذَا اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَلَا جُنَاح عَلَيْهَا فِيمَا فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ . وَالْحَدِيث عَنْ اِبْن عَبَّاس لَوْ صَحَّ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَاب , وَاَللَّه أَعْلَم .
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ↓
أَيْ لَا إِثْم , وَالْجُنَاح الْإِثْم , وَهُوَ أَصَحّ فِي الشَّرْع وَقِيلَ : بَلْ هُوَ الْأَمْر الشَّاقّ , وَهُوَ أَصَحّ فِي اللُّغَة , قَالَ الشَّمَّاخ : إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجًا تَذَكَّرَ مَا لَدَيْهِ مِنْ الْجُنَاح
الْمُخَاطَبَة لِجَمِيعِ النَّاس , وَالْمُرَاد بِحُكْمِهَا هُوَ الرَّجُل الَّذِي فِي نَفْسه تَزَوُّج مُعْتَدَّة , أَيْ لَا وِزْر عَلَيْكُمْ فِي التَّعْرِيض بِالْخِطْبَةِ فِي عِدَّة الْوَفَاة . وَالتَّعْرِيض : ضِدّ التَّصْرِيح , وَهُوَ إِفْهَام الْمَعْنَى بِالشَّيْءِ الْمُحْتَمَل لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ عُرْض الشَّيْء وَهُوَ جَانِبه , كَأَنَّهُ يُحَوَّم بِهِ عَلَى الشَّيْء وَلَا يُظْهِرهُ . وَقِيلَ , هُوَ مِنْ قَوْلك عَرَّضْت الرَّجُل , أَيْ أَهْدَيْت إِلَيْهِ تُحْفَة , وَفِي الْحَدِيث : أَنَّ رَكْبًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَرَّضُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْر ثِيَابًا بِيضًا , أَيْ أَهْدَوْا لَهُمَا . فَالْمُعَرِّض بِالْكَلَامِ يُوصِل إِلَى صَاحِبه كَلَامًا يُفْهَم مَعْنَاهُ .
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْكَلَام مَعَ الْمُعْتَدَّة بِمَا هُوَ نَصّ فِي تَزَوُّجهَا وَتَنْبِيه عَلَيْهِ لَا يَجُوز , وَكَذَلِكَ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْكَلَام مَعَهَا بِمَا هُوَ رَفَث وَذِكْر جِمَاع أَوْ تَحْرِيض عَلَيْهِ لَا يَجُوز , وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ , وَجُوِّزَ مَا عَدَا ذَلِكَ . وَمِنْ أَعْظَمه قُرْبًا إِلَى التَّصْرِيح قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَة بِنْت قَيْس : ( كُونِي عِنْد أُمّ شَرِيك وَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك ) . وَلَا يَجُوز التَّعْرِيض لِخِطْبَةِ الرَّجْعِيَّة إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا كَالزَّوْجَةِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ فِي عِدَّة الْبَيْنُونَة فَالصَّحِيح جَوَاز التَّعْرِيض لِخِطْبَتِهَا وَاَللَّه أَعْلَم . وَرُوِيَ فِي تَفْسِير التَّعْرِيض أَلْفَاظ كَثِيرَة جِمَاعهَا يَرْجِع إِلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّل : أَنْ يَذْكُرهَا لِوَلِيِّهَا يَقُول لَهُ لَا تَسْبِقنِي بِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يُشِير بِذَلِكَ إِلَيْهَا دُون وَاسِطَة , فَيَقُول لَهَا : إِنِّي أُرِيد التَّزْوِيج , أَوْ إِنَّك لَجَمِيلَة , إِنَّك لَصَالِحَة , إِنَّ اللَّه لَسَائِق إِلَيْك خَيْرًا , إِنِّي فِيك لَرَاغِب , وَمَنْ يَرْغَب عَنْك , إِنَّك لَنَافِقَة , وَإِنَّ حَاجَتِي فِي النِّسَاء , وَإِنْ يُقَدِّر اللَّه أَمْرًا يَكُنْ . هَذَا هُوَ تَمْثِيل مَالِك وَابْن شِهَاب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَا بَأْس أَنْ يَقُول : لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك , وَلَا بَأْس أَنْ يُهْدِي إِلَيْهَا , وَأَنْ يَقُوم بِشُغْلِهَا فِي الْعِدَّة إِذَا كَانَتْ مِنْ شَأْنه , قَالَهُ إِبْرَاهِيم . وَجَائِز أَنْ يَمْدَح نَفْسه وَيَذْكُر مَآثِره عَلَى وَجْه التَّعْرِيض بِالزَّوَاجِ , وَقَدْ فَعَلَهُ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن حُسَيْن , قَالَتْ سَكِينَة بِنْت حَنْظَلَة اِسْتَأْذَنَ عَلَيَّ مُحَمَّد بْن عَلِيّ وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي مِنْ مَهْلك زَوْجِي فَقَالَ : قَدْ عَرَفْت قَرَابَتِي مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَابَتِي مِنْ عَلِيّ وَمَوْضِعِي فِي الْعَرَب . قُلْت غَفَرَ اللَّه لَك يَا أَبَا جَعْفَر , إِنَّك رَجُل يُؤْخَذ عَنْك , تَخْطُبنِي فِي عِدَّتِي , قَالَ : إِنَّمَا أَخْبَرْتُك بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ عَلِيّ . وَقَدْ دَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمّ سَلَمَة وَهِيَ مُتَأَيِّمَة مِنْ أَبِي سَلَمَة فَقَالَ : ( لَقَدْ عَلِمْت أَنِّي رَسُول اللَّه وَخِيرَته وَمَوْضِعِي فِي قَوْمِي ) كَانَتْ تِلْكَ خِطْبَة , أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَالْهَدِيَّة إِلَى الْمُعْتَدَّة جَائِزَة , وَهَى مِنْ التَّعْرِيض , قَالَهُ سَحْنُون وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء وَقَالَهُ إِبْرَاهِيم . وَكَرِهَ مُجَاهِد أَنْ يَقُول لَهَا : لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك وَرَآهُ مِنْ الْمُوَاعَدَة سِرًّا . قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة : وَهَذَا عِنْدِي عَلَى أَنْ يُتَأَوَّل قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَة أَنَّهُ عَلَى جِهَة الرَّأْي لَهَا فِيمَنْ يَتَزَوَّجهَا لَا أَنَّهُ أَرَادَهَا لِنَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ خِلَاف لِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْخِطْبَة ( بِكَسْرِ الْخَاء ) : فِعْل الْخَاطِب مِنْ كَلَام وَقَصْد وَاسْتِلْطَاف بِفِعْلٍ أَوْ قَوْل . يُقَال : خَطَبَهَا يَخْطُبهَا خَطْبًا وَخِطْبَةً . وَرَجُل خَطَّاب كَثِير التَّصَرُّف فِي الْخِطْبَة , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : بَرَّحَ بِالْعَيْنَيْنِ خَطَّاب الْكُثَب يَقُول إِنِّي خَاطِب وَقَدْ كَذَبْ وَإِنَّمَا يَخْطُب عُسًّا مَنْ حَلَبْ وَالْخَطِيب : الْخَاطِب . وَالْخِطِّيبَى : الْخِطْبَة , قَالَ : عَدِيّ بْن زَيْد يَذْكُر قَصْد جَذِيمَة الْأَبْرَش لِخِطْبَةِ الزَّبَّاء : لَخِطِّيبَى الَّتِي غَدَرَتْ وَخَانَتْ وَهُنَّ ذَوَات غَائِلَة لِحُينَا وَالْخِطْب , الرَّجُل الَّذِي يَخْطُب الْمَرْأَة , وَيُقَال أَيْضًا : هِيَ خِطْبه وَخِطْبَتُهُ الَّتِي يَخْطُبهَا . وَالْخِطْبَة فِعْلَة كَجِلْسَةٍ وَقِعْدَة : وَالْخُطْبَة ( بِضَمِّ الْخَاء ) هِيَ الْكَلَام الَّذِي يُقَال فِي النِّكَاح وَغَيْره . قَالَ النَّحَّاس : وَالْخُطْبَة مَا كَانَ لَهَا أَوَّل وَآخِر , وَكَذَا مَا كَانَ عَلَى فُعْلَة نَحْو الْأُكْلَة وَالضُّغْطَة .
مَعْنَاهُ سَتَرْتُمْ وَأَضْمَرْتُمْ مِنْ التَّزَوُّج بِهَا بَعْد اِنْقِضَاء عِدَّتهَا . وَالْإِكْنَان : السَّتْر وَالْإِخْفَاء , يُقَال : كَنَنْته وَأَكْنَنْته بِمَعْنًى وَاحِد . وَقِيلَ : كَنَنْته أَيْ صُنْته حَتَّى لَا تُصِيبهُ آفَة وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْتُورًا , وَمِنْهُ بَيْض مَكْنُون وَدُرّ مَكْنُون . وَأَكْنَنْته أَسْرَرْته وَسَتَرْته . وَقِيلَ : كَنَنْت الشَّيْء مِنْ الْأَجْرَام إِذَا سَتَرْته بِثَوْبٍ أَوْ بَيْت أَوْ أَرْض وَنَحْوه . وَأَكْنَنْت الْأَمْر فِي نَفْسِي . وَلَمْ يُسْمَع مِنْ الْعَرَب كَنَنْته فِي نَفْسِي . وَيُقَال : أَكَنَّ الْبَيْتُ الْإِنْسَانَ , وَنَحْو هَذَا . فَرَفَعَ اللَّه الْجُنَاح عَمَّنْ أَرَادَ تَزَوُّج الْمُعْتَدَّة مَعَ التَّعْرِيض وَمَعَ الْإِكْنَان , وَنَهَى عَنْ الْمُوَاعَدَة الَّتِي هِيَ تَصْرِيح بِالتَّزْوِيجِ وَبِنَاء عَلَيْهِ وَاتِّفَاق عَلَى وَعْد . وَرَخَّصَ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِغَلَبَةِ النُّفُوس وَطَمَحِهَا وَضَعْف الْبَشَر عَنْ مِلْكهَا .
اِسْتَدَلَّتْ الشَّافِعِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ التَّعْرِيض لَا يَجِب فِيهِ حَدّ , وَقَالُوا : لَمَّا رَفَعَ اللَّه تَعَالَى الْحَرَج فِي التَّعْرِيض فِي النِّكَاح دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيض بِالْقَذْفِ لَا يُوجِب الْحَدّ , لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَجْعَل التَّعْرِيض فِي النِّكَاح مَقَام التَّصْرِيح .
قُلْنَا : هَذَا سَاقِط لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَمْ يَأْذَن فِي التَّصْرِيح بِالنِّكَاحِ فِي الْخِطْبَة , وَأَذِنَ فِي التَّعْرِيض الَّذِي يُفْهَم مِنْهُ النِّكَاح , فَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ التَّعْرِيض يُفْهَم مِنْهُ الْقَذْف , وَالْأَعْرَاض يَجِب صِيَانَتهَا , وَذَلِكَ يُوجِب حَدّ الْمُعَرِّض , لِئَلَّا يَتَطَرَّق الْفَسَقَة إِلَى أَخْذ الْأَعْرَاض بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَم مِنْهُ مَا يُفْهَم بِالتَّصْرِيحِ .
أَيْ إِمَّا سِرًّا وَإِمَّا إِعْلَانًا فِي نُفُوسكُمْ وَبِأَلْسِنَتِكُمْ , فَرَخَّصَ فِي التَّعْرِيض دُون التَّصْرِيح . الْحَسَن : مَعْنَاهُ سَتَخْطُبُونَهُنَّ .
أَيْ عَلَى سِرّ فَحُذِفَ الْحَرْف ; لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا بِحَرْفِ جَرّ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " سِرًّا " فَقِيلَ , مَعْنَاهُ نِكَاحًا , أَيْ لَا يَقُلْ الرَّجُل لِهَذِهِ الْمُعْتَدَّة تَزَوَّجِينِي , بَلْ يُعَرِّض إِنْ أَرَادَ , وَلَا يَأْخُذ مِيثَاقهَا وَعَهْدهَا أَلَّا تَنْكِح غَيْره فِي اِسْتِسْرَار وَخُفْيَة , هَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَمَالِك وَأَصْحَابه وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالسُّدِّيّ وَجُمْهُور أَهْل الْعِلْم . " وَسِرًّا " عَلَى هَذَا التَّأْوِيل نُصِبَ عَلَى الْحَال , أَيْ مُسْتَسِرِّينَ . وَقِيلَ : السِّرّ الزِّنَا , أَيْ لَا يَكُونَن مِنْكُمْ مُوَاعَدَة عَلَى الزِّنَا فِي الْعِدَّة ثُمَّ التَّزَوُّج بَعْدهَا . قَالَ مَعْنَاهُ جَابِر بْن زَيْد وَأَبُو مِجْلَز لَاحَقَ بْن حُمَيْد , وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالنَّخَعِيّ وَالضَّحَّاك , وَأَنَّ السِّرّ فِي هَذِهِ الْآيَة الزِّنَا , أَيْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ زِنًا , وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ , وَمِنْهُ قَوْل الْأَعْشَى : فَلَا تَقْرَبَن جَارَة إِنَّ سِرّهَا عَلَيْك حَرَام فَانْكِحْنَ أَوْ تَأَبَّدَا وَقَالَ الْحُطَيْئَة : وَيَحْرُم سِرّ جَارَتهمْ عَلَيْهِمْ وَيَأْكُل جَارهمْ أَنْف الْقِصَاع وَقِيلَ : السِّرّ الْجِمَاع , أَيْ لَا تَصِفُوا أَنْفُسكُمْ لَهُنَّ بِكَثْرَةِ الْجِمَاع تَرْغِيبًا لَهُنَّ فِي النِّكَاح فَإِنَّ ذِكْر الْجِمَاع مَعَ غَيْر الزَّوْج فُحْش , هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَة الْيَوْم أَنَّنِي كَبِرْت وَأَلَّا يُحْسِن السِّرّ أَمْثَالِي وَقَالَ رُؤْبَة : فَكُفَّ عَنْ إِسْرَارهَا بَعْد الْغَسَق أَيْ كُفَّ عَنْ جِمَاعهَا بَعْد مُلَازَمَته لِذَلِكَ . وَقَدْ يَكُون السِّرّ عُقْدَة النِّكَاح , سِرًّا كَانَ أَوْ جَهْرًا , قَالَ الْأَعْشَى : فَلَنْ يَطْلُبُوا سِرّهَا لِلْغِنَى وَلَنْ يُسْلِمُوهَا لِإِزْهَادِهَا وَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبُوا نِكَاحهَا لِكَثْرَةِ مَالهَا , وَلَنْ يُسْلِمُوهَا لِقِلَّةِ مَالهَا . وَقَالَ اِبْن زَيْد : مَعْنَى قَوْله " وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا " أَنْ لَا تَنْكِحُوهُنَّ وَتَكْتُمُونَ ذَلِكَ , فَإِذَا حَلَّتْ أَظْهَرْتُمُوهُ وَدَخَلْتُمْ بِهِنَّ , وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَوْل الْأَوَّل , فَابْن زَيْد عَلَى هَذَا قَائِل بِالْقَوْلِ الْأَوَّل , وَإِنَّمَا شَذَّ فِي أَنْ سَمَّى الْعَقْد مُوَاعَدَة , وَذَلِكَ قَلِقٌ . وَحَكَى مَكِّيّ وَالثَّعْلَبِيّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَة النِّكَاح " .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة : أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى كَرَاهَة الْمُوَاعَدَة فِي الْعِدَّة لِلْمَرْأَةِ فِي نَفْسهَا , وَلِلْأَبِ فِي اِبْنَته الْبِكْر , وَلِلسَّيِّدِ فِي أَمَته . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَأَمَّا الْوَلِيّ الَّذِي لَا يَمْلِك الْجَبْر فَأَكْرَههُ وَإِنْ نَزَلَ لَمْ أَفْسَخهُ . وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه فِيمَنْ يُوَاعِد فِي الْعِدَّة ثُمَّ يَتَزَوَّج بَعْدهَا : فِرَاقهَا أَحَبّ إِلَيَّ , دُخِلَ بِهَا أَوْ لَمْ يُدْخَل , وَتَكُون تَطْلِيقَة وَاحِدَة , فَإِذَا حَلَّتْ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّاب , هَذِهِ رِوَايَة اِبْن وَهْب . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك أَنَّهُ يُفَرَّق بَيْنهمَا إِيجَابًا , وَقَالَهُ اِبْن الْقَاسِم . وَحَكَى اِبْن الْحَارِث مِثْله عَنْ اِبْن الْمَاجِشُونَ , وَزَادَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّحْرِيم يَتَأَبَّد . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ وَصَرَّحَتْ لَهُ بِالْإِجَابَةِ وَلَمْ يُعْقَد النِّكَاح حَتَّى تَنْقَضِي الْعِدَّة فَالنِّكَاح ثَابِت وَالتَّصْرِيح لَهُمَا مَكْرُوه لِأَنَّ النِّكَاح حَادِث بَعْد الْخِطْبَة , قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر .
اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع بِمَعْنَى لَكِنْ , كَقَوْلِهِ " إِلَّا خَطَأ " [ النِّسَاء : 92 ] أَيْ لَكِنْ خَطَأ . وَالْقَوْل الْمَعْرُوف هُوَ مَا أُبِيحَ مِنْ التَّعْرِيض . وَقَدْ ذَكَرَ الضَّحَّاك أَنَّ مِنْ الْقَوْل الْمَعْرُوف أَنْ يَقُول لِلْمُعْتَدَّةِ : اِحْبِسِي عَلَيَّ نَفْسك فَإِنَّ لِي بِك رَغْبَة , فَتَقُول هِيَ : وَأَنَا مِثْل ذَلِكَ , وَهَذَا شِبْه الْمُوَاعَدَة .
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي مَعْنَى الْعَزْم , يُقَال : عَزَمَ الشَّيْء وَعَزَمَ عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى هُنَا : وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَة النِّكَاح . وَمِنْ الْأَمْر الْبَيِّن أَنَّ الْقُرْآن أَفْصَح كَلَام , فَمَا وَرَدَ فِيهِ فَلَا مُعْتَرَض عَلَيْهِ , وَلَا يُشَكّ فِي صِحَّته وَفَصَاحَته , وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق " [ الْبَقَرَة : 227 ] وَقَالَ هُنَا : " وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَة النِّكَاح " وَالْمَعْنَى : لَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَة النِّكَاح فِي زَمَان الْعِدَّة ثُمَّ حُذِفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : ضَرَبَ فُلَان الظَّهْر وَالْبَطْن , أَيْ عَلَى . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَالْحَذْف فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء لَا يُقَاس عَلَيْهِ . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز أَنْ يَكُون " وَلَا تَعْقِدُوا عُقْدَة النِّكَاح " , لِأَنَّ مَعْنَى " تَعْزِمُوا " وَتَعْقِدُوا وَاحِد . وَيُقَال : " تَعْزُمُوا " بِضَمِّ الزَّاي .
يُرِيد تَمَام الْعِدَّة . وَالْكِتَاب هُنَا هُوَ الْحَدّ الَّذِي جُعِلَ وَالْقَدْر الَّذِي رُسِمَ مِنْ الْمُدَّة , سَمَّاهَا كِتَابًا إِذْ قَدْ حَدَّهُ وَفَرَضَهُ كِتَاب اللَّه كَمَا قَالَ " كِتَاب اللَّه عَلَيْكُمْ " وَكَمَا قَالَ : " إِنَّ الصَّلَاة كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا " [ النِّسَاء : 103 ] . فَالْكِتَاب : الْفَرْض , أَيْ حَتَّى يَبْلُغ الْفَرْض أَجَله , " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام " [ الْبَقَرَة : 183 ] أَيْ فُرِضَ . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , أَيْ حَتَّى يَبْلُغ فَرْض الْكِتَاب أَجَله , فَالْكِتَاب عَلَى هَذَا التَّأْوِيل بِمَعْنَى الْقُرْآن . وَعَلَى الْأَوَّل لَا حَذْف فَهُوَ أَوْلَى , وَاَللَّه أَعْلَم .
حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى عَقْد النِّكَاح فِي الْعِدَّة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَة النِّكَاح حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله " وَهَذَا مِنْ الْمُحْكَم الْمُجْمَع عَلَى تَأْوِيله , أَنَّ بُلُوغ أَجَله اِنْقِضَاء الْعِدَّة . وَأَبَاحَ التَّعْرِيض فِي الْعِدَّة بِقَوْلِهِ : " وَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَة النِّسَاء " الْآيَة . وَلَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء فِي إِبَاحَة ذَلِكَ , وَاخْتَلَفُوا فِي أَلْفَاظ التَّعْرِيض عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يَخْطُب اِمْرَأَة فِي عِدَّتهَا جَاهِلًا , أَوْ يُوَاعَدهَا وَيَعْقِد بَعْد الْعِدَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا . وَاخْتَلَفُوا إِنْ عَزَمَ الْعُقْدَة فِي الْعِدَّة وَعُثِرَ عَلَيْهِ فَفَسَخَ الْحَاكِم نِكَاحه , وَذَلِكَ قَبْل الدُّخُول .
فَقَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَبِّد تَحْرِيمًا , وَأَنَّهُ يَكُون خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّاب , وَقَالَهُ مَالِك وَابْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة فِي آخِر الْبَاب الَّذِي يَلِيه [ ضَرْب أَجَل الْمَفْقُود ] . وَحَكَى اِبْن الْجَلَّاب عَنْ مَالِك رِوَايَة أَنَّ التَّحْرِيم يَتَأَبَّد فِي الْعَقْد وَإِنْ فُسِخَ قَبْل الدُّخُول , وَوَجْهه أَنَّهُ نِكَاح فِي الْعِدَّة فَوَجَبَ أَنْ يَتَأَبَّد بِهِ التَّحْرِيم , أَصْله إِذَا بَنَى بِهَا . وَأَمَّا إِنْ عَقَدَ فِي الْعِدَّة وَدَخَلَ بَعْد اِنْقِضَائِهَا :
فَقَالَ قَوْم مِنْ أَهْل الْعِلْم : ذَلِكَ كَالدُّخُولِ فِي الْعِدَّة , يَتَأَبَّد التَّحْرِيم بَيْنهمَا . وَقَالَ قَوْم مِنْ أَهْل الْعِلْم : لَا يَتَأَبَّد بِذَلِكَ تَحْرِيم . وَقَالَ مَالِك : يَتَأَبَّد التَّحْرِيم . وَقَالَ مَرَّة : وَمَا التَّحْرِيم بِذَلِكَ بِالْبَيِّنِ , وَالْقَوْلَانِ لَهُ فِي الْمُدَوَّنَة فِي طَلَاق السُّنَّة . وَأَمَّا إِنْ دَخَلَ فِي الْعِدَّة :
فَقَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ : يُفَرَّق بَيْنهمَا وَلَا تَحِلّ لَهُ أَبَدًا . قَالَ مَالِك وَاللَّيْث : وَلَا بِمِلْكِ الْيَمِين , مَعَ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا التَّزْوِيج بِالْمَزْنِيِّ بِهَا . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالَ : لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . قَالَ سَعِيد : وَلَهَا مَهْرهَا بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجهَا , أَخْرَجَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَسَيَأْتِي . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَالْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ : يُفَرَّق بَيْنهمَا وَلَا يَتَأَبَّد التَّحْرِيم بَلْ يُفْسَخ بَيْنهمَا ثُمَّ تَعْتَدّ مِنْهُ , ثُمَّ يَكُون خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّاب . وَاحْتَجُّوا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِهَا لَمْ يَحْرُم عَلَيْهِ تَزْوِيجهَا , فَكَذَلِكَ وَطْؤُهُ إِيَّاهَا فِي الْعِدَّة . قَالُوا : وَهُوَ قَوْل عَلِيّ . ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق . وَذُكِرَ عَنْ اِبْن مَسْعُود مِثْله , وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ أَشْعَث عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق أَنَّ عُمَر رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَجَعَلَهُمَا يَجْتَمِعَانِ . وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى فَقَالَ : لَا يَخْلُو النَّاكِح فِي الْعِدَّة إِذَا بَنَى بِهَا أَنْ يَبْنِي بِهَا فِي الْعِدَّة أَوْ بَعْدهَا , فَإِنْ كَانَ بَنَى بِهَا فِي الْعِدَّة فَإِنَّ الْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب أَنَّ التَّحْرِيم يَتَأَبَّد , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل . وَرَوَى الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم فِي تَفْرِيعه أَنَّ فِي الَّتِي يَتَزَوَّجهَا الرَّجُل فِي عِدَّة مِنْ طَلَاق أَوْ وَفَاة عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ رِوَايَتَيْنِ , إِحْدَاهُمَا : أَنَّ تَحْرِيمه يَتَأَبَّد عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالثَّانِيَة : أَنَّهُ زَانٍ وَعَلَيْهِ الْحَدّ , وَلَا يُلْحَق بِهِ الْوَلَد , وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجهَا إِذَا اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة . وَوَجْه الرِّوَايَة الْأُولَى - وَهِيَ الْمَشْهُورَة - مَا ثَبَتَ مِنْ قَضَاء عُمَر بِذَلِكَ , وَقِيَامه بِذَلِكَ فِي النَّاس , وَكَانَتْ قَضَايَاهُ تَسِير وَتَنْتَشِر وَتُنْقَل فِي الْأَمْصَار , وَلَمْ يُعْلَم لَهُ مُخَالِف , فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاع . قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد : وَقَدْ رُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَلَا مُخَالِف لَهُمَا مَعَ شُهْرَة ذَلِكَ وَانْتِشَاره , وَهَذَا حُكْم الْإِجْمَاع . وَوَجْه الرِّوَايَة الثَّانِيَة أَنَّ هَذَا وَطْء مَمْنُوع فَلَمْ يَتَأَبَّد تَحْرِيمه , كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسهَا أَوْ تَزَوَّجَتْ مُتْعَة أَوْ زَنَتْ . وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن : إِنَّ مَذْهَب مَالِك الْمَشْهُور فِي ذَلِكَ ضَعِيف مِنْ جِهَة النَّظَر . وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَسْنَدَ أَبُو عُمَر : حَدَّثَنَا عَبْد الْوَارِث بْن سُفْيَان حَدَّثَنَا قَاسِم بْن أَصْبَغ عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل عَنْ نُعَيْم بْن حَمَّاد عَنْ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ أَشْعَث عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق قَالَ : بَلَغَ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّ اِمْرَأَة مِنْ قُرَيْش تَزَوَّجَهَا رَجُل مِنْ ثَقِيف فِي عِدَّتهَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَفَرَّقَ بَيْنهمَا وَعَاقَبَهُمَا وَقَالَ : لَا تَنْكِحهَا أَبَدًا وَجَعَلَ صَدَاقهَا فِي بَيْت الْمَال , وَفَشَا ذَلِكَ فِي النَّاس فَبَلَغَ عَلِيًّا فَقَالَ : يَرْحَم اللَّه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , مَا بَال الصَّدَاق وَبَيْت الْمَال , إِنَّمَا جَهِلَا فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدّهُمَا إِلَى السُّنَّة . قِيلَ : فَمَا تَقُول أَنْتَ فِيهِمَا ؟ فَقَالَ : لَهَا الصَّدَاق بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجهَا , وَيُفَرَّق بَيْنهمَا وَلَا جَلْد عَلَيْهِمَا , وَتُكْمِل عِدَّتهَا مِنْ الْأَوَّل , ثُمَّ تَعْتَدّ مِنْ الثَّانِي عِدَّة كَامِلَة ثَلَاثَة أَقْرَاء ثُمَّ يَخْطُبهَا إِنْ شَاءَ . فَبَلَغَ عُمَر فَخَطَبَ النَّاس فَقَالَ : أَيّهَا النَّاس , رُدُّوا الْجَهَالَات إِلَى السُّنَّة . قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَلَا خِلَاف بَيْن الْفُقَهَاء أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى اِمْرَأَة نِكَاحهَا وَهِيَ فِي عِدَّة مِنْ غَيْره أَنَّ النِّكَاح فَاسِد . وَفِي اِتِّفَاق عُمَر وَعَلِيّ عَلَى نَفْي الْحَدّ عَنْهُمَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النِّكَاح الْفَاسِد لَا يُوجِب الْحَدّ , إِلَّا أَنَّهُ مَعَ الْجَهْل بِالتَّحْرِيمِ مُتَّفَق عَلَيْهِ , وَمَعَ الْعِلْم بِهِ مُخْتَلَف فِيهِ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَعْتَدّ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
وَهَذِهِ مَسْأَلَة الْعِدَّتَيْنِ فَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِك أَنَّهَا تُتِمّ بَقِيَّة عِدَّتهَا مِنْ الْأَوَّل , وَتَسْتَأْنِف عِدَّة أُخْرَى مِنْ الْآخَر , وَهُوَ قَوْل اللَّيْث وَالْحَسَن بْن حَيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ كَمَا ذَكَرْنَا , وَعَنْ عُمَر عَلَى مَا يَأْتِي . وَرَوَى مُحَمَّد بْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب عَنْ مَالِك : إِنَّ عِدَّتهَا مِنْ الثَّانِي تَكْفِيهَا مِنْ يَوْم فُرِّقَ بَيْنه وَبَيْنهَا , سَوَاء كَانَتْ بِالْحَمْلِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالشُّهُورِ , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة . وَحُجَّتهمْ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الْأَوَّل لَا يَنْكِحهَا فِي بَقِيَّة الْعِدَّة مِنْهُ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي عِدَّة مِنْ الثَّانِي , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَكَحَهَا فِي عِدَّتهَا مِنْهُ . أَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : هَذَا غَيْر لَازِم لِأَنَّ مَنْع الْأَوَّل مِنْ أَنْ يَنْكِحهَا فِي بَقِيَّة عِدَّتهَا إِنَّمَا وَجَبَ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ عِدَّة الثَّانِي , وَهُمَا حَقَّانِ قَدْ وَجَبَا عَلَيْهَا لِزَوْجَيْنِ كَسَائِرِ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ , لَا يَدْخُل أَحَدهمَا فِي صَاحِبه . وَخَرَّجَ مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَار أَنَّ طُلَيْحَة الْأَسَدِيَّة كَانَتْ تَحْت رَشِيد الثَّقَفِيّ فَطَلَّقَهَا فَنُكِحَتْ فِي عِدَّتهَا فَضَرَبَهَا عُمَر بْن الْخَطَّاب وَضَرَبَ زَوْجهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَات وَفَرَّقَ بَيْنهمَا , ثُمَّ قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَيّمَا اِمْرَأَة نَكَحَتْ فِي عِدَّتهَا فَإِنْ كَانَ زَوْجهَا الَّذِي تَزَوَّجَ بِهَا لَمْ يَدْخُل بِهَا فُرِّقَ بَيْنهمَا ثُمَّ اِعْتَدَّتْ بَقِيَّة عِدَّتهَا مِنْ الزَّوْج الْأَوَّل , ثُمَّ كَانَ الْآخَر خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّاب , وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنهمَا ثُمَّ اِعْتَدَّتْ بَقِيَّة عِدَّتهَا مِنْ الْأَوَّل , ثُمَّ اِعْتَدَّتْ مِنْ الْآخَر ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . قَالَ مَالِك : وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : وَلَهَا مَهْرهَا بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجهَا . قَالَ أَبُو عُمَر : وَأَمَّا طُلَيْحَة هَذِهِ فَهِيَ طُلَيْحَة بِنْت عُبَيْد اللَّه أُخْت طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه التَّيْمِيّ , وَفِي بَعْض نُسَخ الْمُوَطَّإِ مِنْ رِوَايَة يَحْيَى : طُلَيْحَة الْأَسَدِيَّة وَذَلِكَ خَطَأ وَجَهْل , وَلَا أَعْلَم أَحَدًا قَالَهُ .
قَوْله ( فَضَرَبَهَا عُمَر بِالْمِخْفَقَةِ وَضَرَبَ زَوْجهَا ضَرَبَات ) يُرِيد عَلَى وَجْه الْعُقُوبَة لِمَا اِرْتَكَبَاهُ مِنْ الْمَحْظُور وَهُوَ النِّكَاح فِي الْعِدَّة . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : فَلَا أَدْرِي كَمْ بَلَغَ ذَلِكَ الْجَلْد . قَالَ : وَجَلَدَ عَبْد الْمَلِك فِي ذَلِكَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ جَلْدَة . قَالَ : فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب فَقَالَ : لَوْ كُنْتُمْ خَفَّفْتُمْ فَجَلَدْتُمْ عِشْرِينَ , وَقَالَ اِبْن حَبِيب فِي الَّتِي تَتَزَوَّج فِي الْعِدَّة فَيَمَسّهَا الرَّجُل أَوْ يُقَبِّل أَوْ يُبَاشِر أَوْ يَغْمِز أَوْ يَنْظُر عَلَى وَجْه اللَّذَّة أَنَّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْعُقُوبَة وَعَلَى الْوَلِيّ وَعَلَى الشُّهُود وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهَا فِي عِدَّة , وَمَنْ جَهِلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ فَلَا عُقُوبَة عَلَيْهِ . وَقَالَ اِبْن الْمَوَّاز : يُجْلَد الزَّوْجَانِ الْحَدّ إِنْ كَانَا تَعَمَّدَا ذَلِكَ , فَيُحْمَل قَوْل اِبْن حَبِيب عَلَى مَنْ عَلِمَ بِالْعِدَّةِ , وَلَعَلَّهُ جَهِلَ التَّحْرِيم وَلَمْ يَتَعَمَّد اِرْتِكَاب الْمَحْظُور فَذَلِكَ الَّذِي يُعَاقَب , وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ ضَرْب عُمَرَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَات . وَتَكُون الْعُقُوبَة وَالْأَدَب فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ حَال الْمُعَاقَب . وَيُحْمَل قَوْل اِبْن الْمَوَّاز عَلَى أَنَّهُمَا عَلِمَا التَّحْرِيم وَاقْتَحَمَا اِرْتِكَاب الْمَحْظُور جُرْأَة وَإِقْدَامًا . وَقَدْ قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم : إِنَّهُمَا رِوَايَتَانِ فِي التَّعَمُّد , إِحْدَاهُمَا يُحَدّ , وَالثَّانِيَة يُعَاقَب وَلَا يُحَدّ .
هَذَا نِهَايَة التَّحْذِير مِنْ الْوُقُوع فِيمَا نَهَى عَنْهُ .
الْمُخَاطَبَة لِجَمِيعِ النَّاس , وَالْمُرَاد بِحُكْمِهَا هُوَ الرَّجُل الَّذِي فِي نَفْسه تَزَوُّج مُعْتَدَّة , أَيْ لَا وِزْر عَلَيْكُمْ فِي التَّعْرِيض بِالْخِطْبَةِ فِي عِدَّة الْوَفَاة . وَالتَّعْرِيض : ضِدّ التَّصْرِيح , وَهُوَ إِفْهَام الْمَعْنَى بِالشَّيْءِ الْمُحْتَمَل لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ عُرْض الشَّيْء وَهُوَ جَانِبه , كَأَنَّهُ يُحَوَّم بِهِ عَلَى الشَّيْء وَلَا يُظْهِرهُ . وَقِيلَ , هُوَ مِنْ قَوْلك عَرَّضْت الرَّجُل , أَيْ أَهْدَيْت إِلَيْهِ تُحْفَة , وَفِي الْحَدِيث : أَنَّ رَكْبًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَرَّضُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْر ثِيَابًا بِيضًا , أَيْ أَهْدَوْا لَهُمَا . فَالْمُعَرِّض بِالْكَلَامِ يُوصِل إِلَى صَاحِبه كَلَامًا يُفْهَم مَعْنَاهُ .
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْكَلَام مَعَ الْمُعْتَدَّة بِمَا هُوَ نَصّ فِي تَزَوُّجهَا وَتَنْبِيه عَلَيْهِ لَا يَجُوز , وَكَذَلِكَ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْكَلَام مَعَهَا بِمَا هُوَ رَفَث وَذِكْر جِمَاع أَوْ تَحْرِيض عَلَيْهِ لَا يَجُوز , وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ , وَجُوِّزَ مَا عَدَا ذَلِكَ . وَمِنْ أَعْظَمه قُرْبًا إِلَى التَّصْرِيح قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَة بِنْت قَيْس : ( كُونِي عِنْد أُمّ شَرِيك وَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك ) . وَلَا يَجُوز التَّعْرِيض لِخِطْبَةِ الرَّجْعِيَّة إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا كَالزَّوْجَةِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ فِي عِدَّة الْبَيْنُونَة فَالصَّحِيح جَوَاز التَّعْرِيض لِخِطْبَتِهَا وَاَللَّه أَعْلَم . وَرُوِيَ فِي تَفْسِير التَّعْرِيض أَلْفَاظ كَثِيرَة جِمَاعهَا يَرْجِع إِلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّل : أَنْ يَذْكُرهَا لِوَلِيِّهَا يَقُول لَهُ لَا تَسْبِقنِي بِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يُشِير بِذَلِكَ إِلَيْهَا دُون وَاسِطَة , فَيَقُول لَهَا : إِنِّي أُرِيد التَّزْوِيج , أَوْ إِنَّك لَجَمِيلَة , إِنَّك لَصَالِحَة , إِنَّ اللَّه لَسَائِق إِلَيْك خَيْرًا , إِنِّي فِيك لَرَاغِب , وَمَنْ يَرْغَب عَنْك , إِنَّك لَنَافِقَة , وَإِنَّ حَاجَتِي فِي النِّسَاء , وَإِنْ يُقَدِّر اللَّه أَمْرًا يَكُنْ . هَذَا هُوَ تَمْثِيل مَالِك وَابْن شِهَاب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَا بَأْس أَنْ يَقُول : لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك , وَلَا بَأْس أَنْ يُهْدِي إِلَيْهَا , وَأَنْ يَقُوم بِشُغْلِهَا فِي الْعِدَّة إِذَا كَانَتْ مِنْ شَأْنه , قَالَهُ إِبْرَاهِيم . وَجَائِز أَنْ يَمْدَح نَفْسه وَيَذْكُر مَآثِره عَلَى وَجْه التَّعْرِيض بِالزَّوَاجِ , وَقَدْ فَعَلَهُ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن حُسَيْن , قَالَتْ سَكِينَة بِنْت حَنْظَلَة اِسْتَأْذَنَ عَلَيَّ مُحَمَّد بْن عَلِيّ وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي مِنْ مَهْلك زَوْجِي فَقَالَ : قَدْ عَرَفْت قَرَابَتِي مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَابَتِي مِنْ عَلِيّ وَمَوْضِعِي فِي الْعَرَب . قُلْت غَفَرَ اللَّه لَك يَا أَبَا جَعْفَر , إِنَّك رَجُل يُؤْخَذ عَنْك , تَخْطُبنِي فِي عِدَّتِي , قَالَ : إِنَّمَا أَخْبَرْتُك بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ عَلِيّ . وَقَدْ دَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمّ سَلَمَة وَهِيَ مُتَأَيِّمَة مِنْ أَبِي سَلَمَة فَقَالَ : ( لَقَدْ عَلِمْت أَنِّي رَسُول اللَّه وَخِيرَته وَمَوْضِعِي فِي قَوْمِي ) كَانَتْ تِلْكَ خِطْبَة , أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَالْهَدِيَّة إِلَى الْمُعْتَدَّة جَائِزَة , وَهَى مِنْ التَّعْرِيض , قَالَهُ سَحْنُون وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء وَقَالَهُ إِبْرَاهِيم . وَكَرِهَ مُجَاهِد أَنْ يَقُول لَهَا : لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك وَرَآهُ مِنْ الْمُوَاعَدَة سِرًّا . قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة : وَهَذَا عِنْدِي عَلَى أَنْ يُتَأَوَّل قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَة أَنَّهُ عَلَى جِهَة الرَّأْي لَهَا فِيمَنْ يَتَزَوَّجهَا لَا أَنَّهُ أَرَادَهَا لِنَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ خِلَاف لِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْخِطْبَة ( بِكَسْرِ الْخَاء ) : فِعْل الْخَاطِب مِنْ كَلَام وَقَصْد وَاسْتِلْطَاف بِفِعْلٍ أَوْ قَوْل . يُقَال : خَطَبَهَا يَخْطُبهَا خَطْبًا وَخِطْبَةً . وَرَجُل خَطَّاب كَثِير التَّصَرُّف فِي الْخِطْبَة , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : بَرَّحَ بِالْعَيْنَيْنِ خَطَّاب الْكُثَب يَقُول إِنِّي خَاطِب وَقَدْ كَذَبْ وَإِنَّمَا يَخْطُب عُسًّا مَنْ حَلَبْ وَالْخَطِيب : الْخَاطِب . وَالْخِطِّيبَى : الْخِطْبَة , قَالَ : عَدِيّ بْن زَيْد يَذْكُر قَصْد جَذِيمَة الْأَبْرَش لِخِطْبَةِ الزَّبَّاء : لَخِطِّيبَى الَّتِي غَدَرَتْ وَخَانَتْ وَهُنَّ ذَوَات غَائِلَة لِحُينَا وَالْخِطْب , الرَّجُل الَّذِي يَخْطُب الْمَرْأَة , وَيُقَال أَيْضًا : هِيَ خِطْبه وَخِطْبَتُهُ الَّتِي يَخْطُبهَا . وَالْخِطْبَة فِعْلَة كَجِلْسَةٍ وَقِعْدَة : وَالْخُطْبَة ( بِضَمِّ الْخَاء ) هِيَ الْكَلَام الَّذِي يُقَال فِي النِّكَاح وَغَيْره . قَالَ النَّحَّاس : وَالْخُطْبَة مَا كَانَ لَهَا أَوَّل وَآخِر , وَكَذَا مَا كَانَ عَلَى فُعْلَة نَحْو الْأُكْلَة وَالضُّغْطَة .
مَعْنَاهُ سَتَرْتُمْ وَأَضْمَرْتُمْ مِنْ التَّزَوُّج بِهَا بَعْد اِنْقِضَاء عِدَّتهَا . وَالْإِكْنَان : السَّتْر وَالْإِخْفَاء , يُقَال : كَنَنْته وَأَكْنَنْته بِمَعْنًى وَاحِد . وَقِيلَ : كَنَنْته أَيْ صُنْته حَتَّى لَا تُصِيبهُ آفَة وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْتُورًا , وَمِنْهُ بَيْض مَكْنُون وَدُرّ مَكْنُون . وَأَكْنَنْته أَسْرَرْته وَسَتَرْته . وَقِيلَ : كَنَنْت الشَّيْء مِنْ الْأَجْرَام إِذَا سَتَرْته بِثَوْبٍ أَوْ بَيْت أَوْ أَرْض وَنَحْوه . وَأَكْنَنْت الْأَمْر فِي نَفْسِي . وَلَمْ يُسْمَع مِنْ الْعَرَب كَنَنْته فِي نَفْسِي . وَيُقَال : أَكَنَّ الْبَيْتُ الْإِنْسَانَ , وَنَحْو هَذَا . فَرَفَعَ اللَّه الْجُنَاح عَمَّنْ أَرَادَ تَزَوُّج الْمُعْتَدَّة مَعَ التَّعْرِيض وَمَعَ الْإِكْنَان , وَنَهَى عَنْ الْمُوَاعَدَة الَّتِي هِيَ تَصْرِيح بِالتَّزْوِيجِ وَبِنَاء عَلَيْهِ وَاتِّفَاق عَلَى وَعْد . وَرَخَّصَ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِغَلَبَةِ النُّفُوس وَطَمَحِهَا وَضَعْف الْبَشَر عَنْ مِلْكهَا .
اِسْتَدَلَّتْ الشَّافِعِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ التَّعْرِيض لَا يَجِب فِيهِ حَدّ , وَقَالُوا : لَمَّا رَفَعَ اللَّه تَعَالَى الْحَرَج فِي التَّعْرِيض فِي النِّكَاح دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيض بِالْقَذْفِ لَا يُوجِب الْحَدّ , لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَجْعَل التَّعْرِيض فِي النِّكَاح مَقَام التَّصْرِيح .
قُلْنَا : هَذَا سَاقِط لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَمْ يَأْذَن فِي التَّصْرِيح بِالنِّكَاحِ فِي الْخِطْبَة , وَأَذِنَ فِي التَّعْرِيض الَّذِي يُفْهَم مِنْهُ النِّكَاح , فَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ التَّعْرِيض يُفْهَم مِنْهُ الْقَذْف , وَالْأَعْرَاض يَجِب صِيَانَتهَا , وَذَلِكَ يُوجِب حَدّ الْمُعَرِّض , لِئَلَّا يَتَطَرَّق الْفَسَقَة إِلَى أَخْذ الْأَعْرَاض بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَم مِنْهُ مَا يُفْهَم بِالتَّصْرِيحِ .
أَيْ إِمَّا سِرًّا وَإِمَّا إِعْلَانًا فِي نُفُوسكُمْ وَبِأَلْسِنَتِكُمْ , فَرَخَّصَ فِي التَّعْرِيض دُون التَّصْرِيح . الْحَسَن : مَعْنَاهُ سَتَخْطُبُونَهُنَّ .
أَيْ عَلَى سِرّ فَحُذِفَ الْحَرْف ; لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا بِحَرْفِ جَرّ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " سِرًّا " فَقِيلَ , مَعْنَاهُ نِكَاحًا , أَيْ لَا يَقُلْ الرَّجُل لِهَذِهِ الْمُعْتَدَّة تَزَوَّجِينِي , بَلْ يُعَرِّض إِنْ أَرَادَ , وَلَا يَأْخُذ مِيثَاقهَا وَعَهْدهَا أَلَّا تَنْكِح غَيْره فِي اِسْتِسْرَار وَخُفْيَة , هَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَمَالِك وَأَصْحَابه وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالسُّدِّيّ وَجُمْهُور أَهْل الْعِلْم . " وَسِرًّا " عَلَى هَذَا التَّأْوِيل نُصِبَ عَلَى الْحَال , أَيْ مُسْتَسِرِّينَ . وَقِيلَ : السِّرّ الزِّنَا , أَيْ لَا يَكُونَن مِنْكُمْ مُوَاعَدَة عَلَى الزِّنَا فِي الْعِدَّة ثُمَّ التَّزَوُّج بَعْدهَا . قَالَ مَعْنَاهُ جَابِر بْن زَيْد وَأَبُو مِجْلَز لَاحَقَ بْن حُمَيْد , وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالنَّخَعِيّ وَالضَّحَّاك , وَأَنَّ السِّرّ فِي هَذِهِ الْآيَة الزِّنَا , أَيْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ زِنًا , وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ , وَمِنْهُ قَوْل الْأَعْشَى : فَلَا تَقْرَبَن جَارَة إِنَّ سِرّهَا عَلَيْك حَرَام فَانْكِحْنَ أَوْ تَأَبَّدَا وَقَالَ الْحُطَيْئَة : وَيَحْرُم سِرّ جَارَتهمْ عَلَيْهِمْ وَيَأْكُل جَارهمْ أَنْف الْقِصَاع وَقِيلَ : السِّرّ الْجِمَاع , أَيْ لَا تَصِفُوا أَنْفُسكُمْ لَهُنَّ بِكَثْرَةِ الْجِمَاع تَرْغِيبًا لَهُنَّ فِي النِّكَاح فَإِنَّ ذِكْر الْجِمَاع مَعَ غَيْر الزَّوْج فُحْش , هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَة الْيَوْم أَنَّنِي كَبِرْت وَأَلَّا يُحْسِن السِّرّ أَمْثَالِي وَقَالَ رُؤْبَة : فَكُفَّ عَنْ إِسْرَارهَا بَعْد الْغَسَق أَيْ كُفَّ عَنْ جِمَاعهَا بَعْد مُلَازَمَته لِذَلِكَ . وَقَدْ يَكُون السِّرّ عُقْدَة النِّكَاح , سِرًّا كَانَ أَوْ جَهْرًا , قَالَ الْأَعْشَى : فَلَنْ يَطْلُبُوا سِرّهَا لِلْغِنَى وَلَنْ يُسْلِمُوهَا لِإِزْهَادِهَا وَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبُوا نِكَاحهَا لِكَثْرَةِ مَالهَا , وَلَنْ يُسْلِمُوهَا لِقِلَّةِ مَالهَا . وَقَالَ اِبْن زَيْد : مَعْنَى قَوْله " وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا " أَنْ لَا تَنْكِحُوهُنَّ وَتَكْتُمُونَ ذَلِكَ , فَإِذَا حَلَّتْ أَظْهَرْتُمُوهُ وَدَخَلْتُمْ بِهِنَّ , وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَوْل الْأَوَّل , فَابْن زَيْد عَلَى هَذَا قَائِل بِالْقَوْلِ الْأَوَّل , وَإِنَّمَا شَذَّ فِي أَنْ سَمَّى الْعَقْد مُوَاعَدَة , وَذَلِكَ قَلِقٌ . وَحَكَى مَكِّيّ وَالثَّعْلَبِيّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَة النِّكَاح " .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة : أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى كَرَاهَة الْمُوَاعَدَة فِي الْعِدَّة لِلْمَرْأَةِ فِي نَفْسهَا , وَلِلْأَبِ فِي اِبْنَته الْبِكْر , وَلِلسَّيِّدِ فِي أَمَته . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَأَمَّا الْوَلِيّ الَّذِي لَا يَمْلِك الْجَبْر فَأَكْرَههُ وَإِنْ نَزَلَ لَمْ أَفْسَخهُ . وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه فِيمَنْ يُوَاعِد فِي الْعِدَّة ثُمَّ يَتَزَوَّج بَعْدهَا : فِرَاقهَا أَحَبّ إِلَيَّ , دُخِلَ بِهَا أَوْ لَمْ يُدْخَل , وَتَكُون تَطْلِيقَة وَاحِدَة , فَإِذَا حَلَّتْ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّاب , هَذِهِ رِوَايَة اِبْن وَهْب . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك أَنَّهُ يُفَرَّق بَيْنهمَا إِيجَابًا , وَقَالَهُ اِبْن الْقَاسِم . وَحَكَى اِبْن الْحَارِث مِثْله عَنْ اِبْن الْمَاجِشُونَ , وَزَادَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّحْرِيم يَتَأَبَّد . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ وَصَرَّحَتْ لَهُ بِالْإِجَابَةِ وَلَمْ يُعْقَد النِّكَاح حَتَّى تَنْقَضِي الْعِدَّة فَالنِّكَاح ثَابِت وَالتَّصْرِيح لَهُمَا مَكْرُوه لِأَنَّ النِّكَاح حَادِث بَعْد الْخِطْبَة , قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر .
اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع بِمَعْنَى لَكِنْ , كَقَوْلِهِ " إِلَّا خَطَأ " [ النِّسَاء : 92 ] أَيْ لَكِنْ خَطَأ . وَالْقَوْل الْمَعْرُوف هُوَ مَا أُبِيحَ مِنْ التَّعْرِيض . وَقَدْ ذَكَرَ الضَّحَّاك أَنَّ مِنْ الْقَوْل الْمَعْرُوف أَنْ يَقُول لِلْمُعْتَدَّةِ : اِحْبِسِي عَلَيَّ نَفْسك فَإِنَّ لِي بِك رَغْبَة , فَتَقُول هِيَ : وَأَنَا مِثْل ذَلِكَ , وَهَذَا شِبْه الْمُوَاعَدَة .
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي مَعْنَى الْعَزْم , يُقَال : عَزَمَ الشَّيْء وَعَزَمَ عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى هُنَا : وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَة النِّكَاح . وَمِنْ الْأَمْر الْبَيِّن أَنَّ الْقُرْآن أَفْصَح كَلَام , فَمَا وَرَدَ فِيهِ فَلَا مُعْتَرَض عَلَيْهِ , وَلَا يُشَكّ فِي صِحَّته وَفَصَاحَته , وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق " [ الْبَقَرَة : 227 ] وَقَالَ هُنَا : " وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَة النِّكَاح " وَالْمَعْنَى : لَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَة النِّكَاح فِي زَمَان الْعِدَّة ثُمَّ حُذِفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : ضَرَبَ فُلَان الظَّهْر وَالْبَطْن , أَيْ عَلَى . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَالْحَذْف فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء لَا يُقَاس عَلَيْهِ . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز أَنْ يَكُون " وَلَا تَعْقِدُوا عُقْدَة النِّكَاح " , لِأَنَّ مَعْنَى " تَعْزِمُوا " وَتَعْقِدُوا وَاحِد . وَيُقَال : " تَعْزُمُوا " بِضَمِّ الزَّاي .
يُرِيد تَمَام الْعِدَّة . وَالْكِتَاب هُنَا هُوَ الْحَدّ الَّذِي جُعِلَ وَالْقَدْر الَّذِي رُسِمَ مِنْ الْمُدَّة , سَمَّاهَا كِتَابًا إِذْ قَدْ حَدَّهُ وَفَرَضَهُ كِتَاب اللَّه كَمَا قَالَ " كِتَاب اللَّه عَلَيْكُمْ " وَكَمَا قَالَ : " إِنَّ الصَّلَاة كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا " [ النِّسَاء : 103 ] . فَالْكِتَاب : الْفَرْض , أَيْ حَتَّى يَبْلُغ الْفَرْض أَجَله , " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام " [ الْبَقَرَة : 183 ] أَيْ فُرِضَ . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , أَيْ حَتَّى يَبْلُغ فَرْض الْكِتَاب أَجَله , فَالْكِتَاب عَلَى هَذَا التَّأْوِيل بِمَعْنَى الْقُرْآن . وَعَلَى الْأَوَّل لَا حَذْف فَهُوَ أَوْلَى , وَاَللَّه أَعْلَم .
حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى عَقْد النِّكَاح فِي الْعِدَّة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَة النِّكَاح حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله " وَهَذَا مِنْ الْمُحْكَم الْمُجْمَع عَلَى تَأْوِيله , أَنَّ بُلُوغ أَجَله اِنْقِضَاء الْعِدَّة . وَأَبَاحَ التَّعْرِيض فِي الْعِدَّة بِقَوْلِهِ : " وَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَة النِّسَاء " الْآيَة . وَلَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء فِي إِبَاحَة ذَلِكَ , وَاخْتَلَفُوا فِي أَلْفَاظ التَّعْرِيض عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يَخْطُب اِمْرَأَة فِي عِدَّتهَا جَاهِلًا , أَوْ يُوَاعَدهَا وَيَعْقِد بَعْد الْعِدَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا . وَاخْتَلَفُوا إِنْ عَزَمَ الْعُقْدَة فِي الْعِدَّة وَعُثِرَ عَلَيْهِ فَفَسَخَ الْحَاكِم نِكَاحه , وَذَلِكَ قَبْل الدُّخُول .
فَقَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَبِّد تَحْرِيمًا , وَأَنَّهُ يَكُون خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّاب , وَقَالَهُ مَالِك وَابْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة فِي آخِر الْبَاب الَّذِي يَلِيه [ ضَرْب أَجَل الْمَفْقُود ] . وَحَكَى اِبْن الْجَلَّاب عَنْ مَالِك رِوَايَة أَنَّ التَّحْرِيم يَتَأَبَّد فِي الْعَقْد وَإِنْ فُسِخَ قَبْل الدُّخُول , وَوَجْهه أَنَّهُ نِكَاح فِي الْعِدَّة فَوَجَبَ أَنْ يَتَأَبَّد بِهِ التَّحْرِيم , أَصْله إِذَا بَنَى بِهَا . وَأَمَّا إِنْ عَقَدَ فِي الْعِدَّة وَدَخَلَ بَعْد اِنْقِضَائِهَا :
فَقَالَ قَوْم مِنْ أَهْل الْعِلْم : ذَلِكَ كَالدُّخُولِ فِي الْعِدَّة , يَتَأَبَّد التَّحْرِيم بَيْنهمَا . وَقَالَ قَوْم مِنْ أَهْل الْعِلْم : لَا يَتَأَبَّد بِذَلِكَ تَحْرِيم . وَقَالَ مَالِك : يَتَأَبَّد التَّحْرِيم . وَقَالَ مَرَّة : وَمَا التَّحْرِيم بِذَلِكَ بِالْبَيِّنِ , وَالْقَوْلَانِ لَهُ فِي الْمُدَوَّنَة فِي طَلَاق السُّنَّة . وَأَمَّا إِنْ دَخَلَ فِي الْعِدَّة :
فَقَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ : يُفَرَّق بَيْنهمَا وَلَا تَحِلّ لَهُ أَبَدًا . قَالَ مَالِك وَاللَّيْث : وَلَا بِمِلْكِ الْيَمِين , مَعَ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا التَّزْوِيج بِالْمَزْنِيِّ بِهَا . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالَ : لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . قَالَ سَعِيد : وَلَهَا مَهْرهَا بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجهَا , أَخْرَجَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَسَيَأْتِي . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَالْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ : يُفَرَّق بَيْنهمَا وَلَا يَتَأَبَّد التَّحْرِيم بَلْ يُفْسَخ بَيْنهمَا ثُمَّ تَعْتَدّ مِنْهُ , ثُمَّ يَكُون خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّاب . وَاحْتَجُّوا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِهَا لَمْ يَحْرُم عَلَيْهِ تَزْوِيجهَا , فَكَذَلِكَ وَطْؤُهُ إِيَّاهَا فِي الْعِدَّة . قَالُوا : وَهُوَ قَوْل عَلِيّ . ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق . وَذُكِرَ عَنْ اِبْن مَسْعُود مِثْله , وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ أَشْعَث عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق أَنَّ عُمَر رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَجَعَلَهُمَا يَجْتَمِعَانِ . وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى فَقَالَ : لَا يَخْلُو النَّاكِح فِي الْعِدَّة إِذَا بَنَى بِهَا أَنْ يَبْنِي بِهَا فِي الْعِدَّة أَوْ بَعْدهَا , فَإِنْ كَانَ بَنَى بِهَا فِي الْعِدَّة فَإِنَّ الْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب أَنَّ التَّحْرِيم يَتَأَبَّد , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل . وَرَوَى الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم فِي تَفْرِيعه أَنَّ فِي الَّتِي يَتَزَوَّجهَا الرَّجُل فِي عِدَّة مِنْ طَلَاق أَوْ وَفَاة عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ رِوَايَتَيْنِ , إِحْدَاهُمَا : أَنَّ تَحْرِيمه يَتَأَبَّد عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالثَّانِيَة : أَنَّهُ زَانٍ وَعَلَيْهِ الْحَدّ , وَلَا يُلْحَق بِهِ الْوَلَد , وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجهَا إِذَا اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة . وَوَجْه الرِّوَايَة الْأُولَى - وَهِيَ الْمَشْهُورَة - مَا ثَبَتَ مِنْ قَضَاء عُمَر بِذَلِكَ , وَقِيَامه بِذَلِكَ فِي النَّاس , وَكَانَتْ قَضَايَاهُ تَسِير وَتَنْتَشِر وَتُنْقَل فِي الْأَمْصَار , وَلَمْ يُعْلَم لَهُ مُخَالِف , فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاع . قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد : وَقَدْ رُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَلَا مُخَالِف لَهُمَا مَعَ شُهْرَة ذَلِكَ وَانْتِشَاره , وَهَذَا حُكْم الْإِجْمَاع . وَوَجْه الرِّوَايَة الثَّانِيَة أَنَّ هَذَا وَطْء مَمْنُوع فَلَمْ يَتَأَبَّد تَحْرِيمه , كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسهَا أَوْ تَزَوَّجَتْ مُتْعَة أَوْ زَنَتْ . وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن : إِنَّ مَذْهَب مَالِك الْمَشْهُور فِي ذَلِكَ ضَعِيف مِنْ جِهَة النَّظَر . وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَسْنَدَ أَبُو عُمَر : حَدَّثَنَا عَبْد الْوَارِث بْن سُفْيَان حَدَّثَنَا قَاسِم بْن أَصْبَغ عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل عَنْ نُعَيْم بْن حَمَّاد عَنْ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ أَشْعَث عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق قَالَ : بَلَغَ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّ اِمْرَأَة مِنْ قُرَيْش تَزَوَّجَهَا رَجُل مِنْ ثَقِيف فِي عِدَّتهَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَفَرَّقَ بَيْنهمَا وَعَاقَبَهُمَا وَقَالَ : لَا تَنْكِحهَا أَبَدًا وَجَعَلَ صَدَاقهَا فِي بَيْت الْمَال , وَفَشَا ذَلِكَ فِي النَّاس فَبَلَغَ عَلِيًّا فَقَالَ : يَرْحَم اللَّه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , مَا بَال الصَّدَاق وَبَيْت الْمَال , إِنَّمَا جَهِلَا فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدّهُمَا إِلَى السُّنَّة . قِيلَ : فَمَا تَقُول أَنْتَ فِيهِمَا ؟ فَقَالَ : لَهَا الصَّدَاق بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجهَا , وَيُفَرَّق بَيْنهمَا وَلَا جَلْد عَلَيْهِمَا , وَتُكْمِل عِدَّتهَا مِنْ الْأَوَّل , ثُمَّ تَعْتَدّ مِنْ الثَّانِي عِدَّة كَامِلَة ثَلَاثَة أَقْرَاء ثُمَّ يَخْطُبهَا إِنْ شَاءَ . فَبَلَغَ عُمَر فَخَطَبَ النَّاس فَقَالَ : أَيّهَا النَّاس , رُدُّوا الْجَهَالَات إِلَى السُّنَّة . قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَلَا خِلَاف بَيْن الْفُقَهَاء أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى اِمْرَأَة نِكَاحهَا وَهِيَ فِي عِدَّة مِنْ غَيْره أَنَّ النِّكَاح فَاسِد . وَفِي اِتِّفَاق عُمَر وَعَلِيّ عَلَى نَفْي الْحَدّ عَنْهُمَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النِّكَاح الْفَاسِد لَا يُوجِب الْحَدّ , إِلَّا أَنَّهُ مَعَ الْجَهْل بِالتَّحْرِيمِ مُتَّفَق عَلَيْهِ , وَمَعَ الْعِلْم بِهِ مُخْتَلَف فِيهِ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَعْتَدّ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
وَهَذِهِ مَسْأَلَة الْعِدَّتَيْنِ فَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِك أَنَّهَا تُتِمّ بَقِيَّة عِدَّتهَا مِنْ الْأَوَّل , وَتَسْتَأْنِف عِدَّة أُخْرَى مِنْ الْآخَر , وَهُوَ قَوْل اللَّيْث وَالْحَسَن بْن حَيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ كَمَا ذَكَرْنَا , وَعَنْ عُمَر عَلَى مَا يَأْتِي . وَرَوَى مُحَمَّد بْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب عَنْ مَالِك : إِنَّ عِدَّتهَا مِنْ الثَّانِي تَكْفِيهَا مِنْ يَوْم فُرِّقَ بَيْنه وَبَيْنهَا , سَوَاء كَانَتْ بِالْحَمْلِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالشُّهُورِ , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة . وَحُجَّتهمْ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الْأَوَّل لَا يَنْكِحهَا فِي بَقِيَّة الْعِدَّة مِنْهُ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي عِدَّة مِنْ الثَّانِي , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَكَحَهَا فِي عِدَّتهَا مِنْهُ . أَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : هَذَا غَيْر لَازِم لِأَنَّ مَنْع الْأَوَّل مِنْ أَنْ يَنْكِحهَا فِي بَقِيَّة عِدَّتهَا إِنَّمَا وَجَبَ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ عِدَّة الثَّانِي , وَهُمَا حَقَّانِ قَدْ وَجَبَا عَلَيْهَا لِزَوْجَيْنِ كَسَائِرِ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ , لَا يَدْخُل أَحَدهمَا فِي صَاحِبه . وَخَرَّجَ مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَار أَنَّ طُلَيْحَة الْأَسَدِيَّة كَانَتْ تَحْت رَشِيد الثَّقَفِيّ فَطَلَّقَهَا فَنُكِحَتْ فِي عِدَّتهَا فَضَرَبَهَا عُمَر بْن الْخَطَّاب وَضَرَبَ زَوْجهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَات وَفَرَّقَ بَيْنهمَا , ثُمَّ قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَيّمَا اِمْرَأَة نَكَحَتْ فِي عِدَّتهَا فَإِنْ كَانَ زَوْجهَا الَّذِي تَزَوَّجَ بِهَا لَمْ يَدْخُل بِهَا فُرِّقَ بَيْنهمَا ثُمَّ اِعْتَدَّتْ بَقِيَّة عِدَّتهَا مِنْ الزَّوْج الْأَوَّل , ثُمَّ كَانَ الْآخَر خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّاب , وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنهمَا ثُمَّ اِعْتَدَّتْ بَقِيَّة عِدَّتهَا مِنْ الْأَوَّل , ثُمَّ اِعْتَدَّتْ مِنْ الْآخَر ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . قَالَ مَالِك : وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : وَلَهَا مَهْرهَا بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجهَا . قَالَ أَبُو عُمَر : وَأَمَّا طُلَيْحَة هَذِهِ فَهِيَ طُلَيْحَة بِنْت عُبَيْد اللَّه أُخْت طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه التَّيْمِيّ , وَفِي بَعْض نُسَخ الْمُوَطَّإِ مِنْ رِوَايَة يَحْيَى : طُلَيْحَة الْأَسَدِيَّة وَذَلِكَ خَطَأ وَجَهْل , وَلَا أَعْلَم أَحَدًا قَالَهُ .
قَوْله ( فَضَرَبَهَا عُمَر بِالْمِخْفَقَةِ وَضَرَبَ زَوْجهَا ضَرَبَات ) يُرِيد عَلَى وَجْه الْعُقُوبَة لِمَا اِرْتَكَبَاهُ مِنْ الْمَحْظُور وَهُوَ النِّكَاح فِي الْعِدَّة . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : فَلَا أَدْرِي كَمْ بَلَغَ ذَلِكَ الْجَلْد . قَالَ : وَجَلَدَ عَبْد الْمَلِك فِي ذَلِكَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ جَلْدَة . قَالَ : فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب فَقَالَ : لَوْ كُنْتُمْ خَفَّفْتُمْ فَجَلَدْتُمْ عِشْرِينَ , وَقَالَ اِبْن حَبِيب فِي الَّتِي تَتَزَوَّج فِي الْعِدَّة فَيَمَسّهَا الرَّجُل أَوْ يُقَبِّل أَوْ يُبَاشِر أَوْ يَغْمِز أَوْ يَنْظُر عَلَى وَجْه اللَّذَّة أَنَّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْعُقُوبَة وَعَلَى الْوَلِيّ وَعَلَى الشُّهُود وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهَا فِي عِدَّة , وَمَنْ جَهِلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ فَلَا عُقُوبَة عَلَيْهِ . وَقَالَ اِبْن الْمَوَّاز : يُجْلَد الزَّوْجَانِ الْحَدّ إِنْ كَانَا تَعَمَّدَا ذَلِكَ , فَيُحْمَل قَوْل اِبْن حَبِيب عَلَى مَنْ عَلِمَ بِالْعِدَّةِ , وَلَعَلَّهُ جَهِلَ التَّحْرِيم وَلَمْ يَتَعَمَّد اِرْتِكَاب الْمَحْظُور فَذَلِكَ الَّذِي يُعَاقَب , وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ ضَرْب عُمَرَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَات . وَتَكُون الْعُقُوبَة وَالْأَدَب فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ حَال الْمُعَاقَب . وَيُحْمَل قَوْل اِبْن الْمَوَّاز عَلَى أَنَّهُمَا عَلِمَا التَّحْرِيم وَاقْتَحَمَا اِرْتِكَاب الْمَحْظُور جُرْأَة وَإِقْدَامًا . وَقَدْ قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم : إِنَّهُمَا رِوَايَتَانِ فِي التَّعَمُّد , إِحْدَاهُمَا يُحَدّ , وَالثَّانِيَة يُعَاقَب وَلَا يُحَدّ .
هَذَا نِهَايَة التَّحْذِير مِنْ الْوُقُوع فِيمَا نَهَى عَنْهُ .
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ↓
هَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْكَام الْمُطَلَّقَات , وَهُوَ اِبْتِدَاء إِخْبَار بِرَفْعِ الْحَرَج عَنْ الْمُطَلِّق قَبْل الْبِنَاء وَالْجِمَاع , فَرَضَ مَهْرًا أَوْ لَمْ يَفْرِض , وَلَمَّا نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّزَوُّج لِمَعْنَى الذَّوْق وَقَضَاء الشَّهْوَة , وَأَمَرَ بِالتَّزَوُّجِ لِطَلَبِ الْعِصْمَة وَالْتِمَاس ثَوَاب اللَّه وَقَصْد دَوَام الصُّحْبَة وَقَعَ فِي نُفُوس الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ قَبْل الْبِنَاء قَدْ وَاقَعَ جُزْءًا مِنْ هَذَا الْمَكْرُوه فَنَزَلَتْ الْآيَة رَافِعَة لِلْجُنَاحِ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ أَصْل النِّكَاح عَلَى الْمَقْصِد الْحَسَن . وَقَالَ قَوْم : " لَا جُنَاح عَلَيْكُمْ " مَعْنَاهُ لَا طَلَب لِجَمِيعِ الْمَهْر بَلْ عَلَيْكُمْ نِصْف الْمَفْرُوض لِمَنْ فَرَضَ لَهَا , وَالْمُتْعَة لِمَنْ لَمْ يَفْرِض لَهَا . وَقِيلَ : لَمَّا كَانَ أَمْر الْمَهْر مُؤَكَّدًا فِي الشَّرْع فَقَدْ يُتَوَهَّم أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ مَهْر إِمَّا مُسَمًّى وَإِمَّا مَهْر الْمِثْل , فَرَفَعَ الْحَرَج عَنْ الْمُطَلِّق فِي وَقْت التَّطْلِيق وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاح مَهْر . وَقَالَ قَوْم : " لَا جُنَاح عَلَيْكُمْ " مَعْنَاهُ فِي أَنْ تُرْسِلُوا الطَّلَاق فِي وَقْت الْحَيْض , بِخِلَافِ الْمَدْخُول بِهَا إِذْ غَيْر الْمَدْخُول بِهَا لَا عِدَّة عَلَيْهَا .
الْمُطَلَّقَات أَرْبَع : مُطَلَّقَة مَدْخُول بِهَا مَفْرُوض لَهَا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه حُكْمهَا قَبْل هَذِهِ الْآيَة وَأَنَّهُ لَا يُسْتَرَدّ مِنْهَا شَيْء مِنْ الْمَهْر , وَأَنَّ عِدَّتهَا ثَلَاثَة قُرُوء . وَمُطَلَّقَة غَيْر مَفْرُوض لَهَا وَلَا مَدْخُول بِهَا فَهَذِهِ الْآيَة فِي شَأْنهَا وَلَا مَهْر لَهَا بَلْ أَمَرَ الرَّبّ تَعَالَى بِإِمْتَاعِهَا وَبَيَّنَ فِي سُورَة [ الْأَحْزَاب ] أَنَّ غَيْر الْمَدْخُول بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فَلَا عِدَّة عَلَيْهَا , وَسَيَأْتِي . وَمُطَلَّقَة مَفْرُوض لَهَا غَيْر مَدْخُول بِهَا ذَكَرَهَا بَعْد هَذِهِ الْآيَة إِذْ قَالَ : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة " [ الْبَقَرَة : 237 ] وَمُطَلَّقَة مَدْخُول بِهَا غَيْر مَفْرُوض لَهَا ذَكَرَهَا اللَّه فِي قَوْله : " فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ " [ النِّسَاء : 24 ] , فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي بَعْدهَا مُطَلَّقَة قَبْل الْمَسِيس وَقَبْل الْفَرْض , وَمُطَلَّقَة قَبْل الْمَسِيس وَبَعْد الْفَرْض , فَجَعَلَ لِلْأُولَى الْمُتْعَة , وَجَعَلَ لِلثَّانِيَةِ نِصْف الصَّدَاق لِمَا لِحَقِّ الزَّوْجَة مِنْ دَحْض الْعَقْد , وَوَصْم الْحِلّ الْحَاصِل لِلزَّوْجِ بِالْعَقْدِ , وَقَابَلَ الْمَسِيس بِالْمَهْرِ الْوَاجِب .
لَمَّا قَسَّمَ اللَّه تَعَالَى حَال الْمُطَلَّقَة هُنَا قِسْمَيْنِ : مُطَلَّقَة مُسَمًّى لَهَا الْمَهْر , وَمُطَلَّقَة لَمْ يُسَمَّ لَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ نِكَاح التَّفْوِيض جَائِز وَهُوَ كُلّ نِكَاح عُقِدَ مِنْ غَيْر ذِكْر الصَّدَاق وَلَا خِلَاف فِيهِ , وَيُفْرَض بَعْد ذَلِكَ الصَّدَاق فَإِنْ فُرِضَ اِلْتَحَقَ بِالْعَقْدِ وَجَازَ وَإِنْ لَمْ يُفْرَض لَهَا وَكَانَ الطَّلَاق لَمْ يَجِب صَدَاق إِجْمَاعًا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يَدْخُل بِهَا وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا أُجْبِرَ عَلَى نِصْف صَدَاق مِثْلهَا . وَإِنْ فَرَضَ بَعْد عَقْد النِّكَاح وَقَبْل وُقُوع الطَّلَاق فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَتَنَصَّف بِالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِب بِالْعَقْدِ وَهَذَا خِلَاف الظَّاهِر مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة " [ الْبَقَرَة : 237 ] وَخِلَاف الْقِيَاس أَيْضًا , فَإِنَّ الْفَرْض بَعْد الْعَقْد يَلْحَق بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّف بِالطَّلَاقِ , أَصْله الْفَرْض الْمُقْتَرِن بِالْعَقْدِ .
إِنْ وَقَعَ الْمَوْت قَبْل الْفَرْض فَذَكَرَ التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن مَسْعُود ( أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُل تَزَوَّجَ اِمْرَأَة لَمْ يَفْرِض لَهَا وَلَمْ يَدْخُل بِهَا حَتَّى مَاتَ فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : لَهَا مِثْل صَدَاق نِسَائِهَا لَا وَكْس وَلَا شَطَط وَعَلَيْهَا الْعِدَّة وَلَهَا الْمِيرَاث فَقَامَ مَعْقِل بْن سِنَان الْأَشْجَعِيّ فَقَالَ : قَضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرْوَع بِنْت وَاشِق اِمْرَأَة مِنَّا مِثْل الَّذِي قَضَيْت فَفَرِحَ بِهَا اِبْن مَسْعُود ) . قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث اِبْن مَسْعُود حَدِيث حَسَن صَحِيح , وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْر وَجْه , وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد بَعْض أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهمْ , وَبِهِ يَقُول الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَزَيْد بْن ثَابِت وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر : ( إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل اِمْرَأَة وَلَمْ يَدْخُل بِهَا وَلَمْ يَفْرِض لَهَا صَدَاقًا حَتَّى مَاتَ قَالُوا : لَهَا الْمِيرَاث وَلَا صَدَاق لَهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّة ) وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ : وَلَوْ ثَبَتَ حَدِيث بَرْوَع بِنْت وَاشِق لَكَانَتْ الْحُجَّة فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيُرْوَى عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ رَجَعَ بِمِصْر بَعْدُ عَنْ هَذَا الْقَوْل , وَقَالَ بِحَدِيثِ بَرْوَع بِنْت وَاشِق .
قُلْت : اُخْتُلِفَ فِي تَثْبِيت حَدِيث بَرْوَع , فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب فِي شَرْح رِسَالَة اِبْن أَبِي زَيْد : وَأَمَّا حَدِيث بَرْوَع بِنْت وَاشِق فَقَدْ رَدَّهُ حُفَّاظ الْحَدِيث وَأَئِمَّة أَهْل الْعِلْم . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : وَقَعَ هَذَا الْحَدِيث بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يَقْبَلهُ أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيّ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ وَابْن الْمُنْذِر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ ثَبَتَ مِثْل قَوْل عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ نَقُول . وَذُكِرَ أَنَّهُ قَوْل أَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَذُكِرَ عَنْ الزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ مِثْل قَوْل عَلِيّ وَزَيْد وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر . وَفِي الْمَسْأَلَة قَوْل ثَالِث وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكُون مِيرَاث حَتَّى يَكُون مَهْر , قَالَهُ مَسْرُوق .
قُلْت : وَمِنْ الْحُجَّة لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك أَنَّهُ فِرَاق فِي نِكَاح قَبْل الْفَرْض فَلَمْ يَجِب فِيهِ صَدَاق , أَصْله الطَّلَاق لَكِنْ إِذَا صَحَّ الْحَدِيث فَالْقِيَاس فِي مُقَابَلَته فَاسِد . وَقَدْ حَكَى أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَمِيد عَنْ الْمَذْهَب مَا يُوَافِق الْحَدِيث وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ أَبُو عُمَر : حَدِيث بَرْوَع رَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ مَنْصُور عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ عَلْقَمَة عَنْ اِبْن مَسْعُود الْحَدِيث . وَفِيهِ : فَقَامَ مَعْقِل بْن سِنَان . وَقَالَ فِيهِ اِبْن مَهْدِيّ عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ فِرَاس عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَبْد اللَّه فَقَالَ مَعْقِل بْن يَسَار , وَالصَّوَاب عِنْدِي قَوْل مَنْ قَالَ : مَعْقِل بْن سِنَان لَا مَعْقِل بْن يَسَار لِأَنَّ مَعْقِل بْن يَسَار رَجُل مِنْ مُزَيْنَة , وَهَذَا الْحَدِيث إِنَّمَا جَاءَ فِي اِمْرَأَة مِنْ أَشْجَع لَا مِنْ مُزَيْنَة وَكَذَلِكَ رَوَاهُ دَاوُد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَلْقَمَة , وَفِيهِ : فَقَالَ نَاس مِنْ أَشْجَع وَمَعْقِل بْن سِنَان قُتِلَ يَوْم الْحَرَّة وَفِي يَوْم الْحَرَّة يَقُول الشَّاعِر : أَلَا تِلْكُمُ الْأَنْصَار تَبْكِي سَرَاتهَا وَأَشْجَع تَبْكِي مَعْقِل بْن سِنَان
" مَا " بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاء اللَّاتِي لَمْ تَمَسُّوهُنَّ . و " تَمَسُّوهُنَّ " قُرِئَ بِفَتْحِ التَّاء مِنْ الثُّلَاثِيّ , وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبِي عَمْرو وَعَاصِم وَابْن عَامِر . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تُمَاسُّوهُنَّ " مِنْ الْمُفَاعَلَة ; لِأَنَّ الْوَطْء تَمَّ بِهِمَا , وَقَدْ يَرِد فِي بَاب الْمُفَاعَلَة فَاعِل بِمَعْنَى فَعَلَ , نَحْو طَارَقْت النَّعْل , وَعَاقَبْت اللِّصّ . وَالْقِرَاءَة الْأُولَى تَقْتَضِي مَعْنَى الْمُفَاعَلَة فِي هَذَا الْبَاب بِالْمَعْنَى الْمَفْهُوم مِنْ الْمَسّ , وَرَجَّحَهَا أَبُو عَلِيّ ; لِأَنَّ أَفْعَال هَذَا الْمَعْنَى جَاءَتْ ثُلَاثِيَّة عَلَى هَذَا الْوَزْن , جَاءَ : نَكَحَ وَسَفَدَ وَقَرَعَ وَدَفَطَ وَضَرَبَ الْفَحْل , وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ . و " أَوْ " فِي " أَوْ تَفْرِضُوا " قِيلَ هُوَ بِمَعْنَى الْوَاو , أَيْ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَكَمْ مِنْ قَرْيَة أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ " [ الْأَعْرَاف : 4 ] أَيْ وَهُمْ قَائِلُونَ . وَقَوْله : " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَة أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ " [ الصَّافَّات : 147 ] أَيْ وَيَزِيدُونَ . وَقَوْله : " وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا " [ الْإِنْسَان : 24 ] أَيْ وَكَفُورًا . وَقَوْله : " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " [ النِّسَاء : 43 ] مَعْنَاهُ وَجَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط وَأَنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرُونَ . وَقَوْله : " إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورهمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ " [ الْأَنْعَام : 146 ] وَمَا كَانَ مِثْله . وَيَعْتَضِد هَذَا بِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهَا بَعْد ذَلِكَ الْمَفْرُوض لَهَا فَقَالَ : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة " [ الْبَقَرَة : 237 ] . فَلَوْ كَانَ الْأَوَّل لِبَيَانِ طَلَاق الْمَفْرُوض لَهَا قَبْل الْمَسِيس لَمَا كَرَّرَهُ .
مَعْنَاهُ أَعْطُوهُنَّ شَيْئًا يَكُون مَتَاعًا لَهُنَّ . وَحَمَلَهُ اِبْن عُمَر وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَالْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو قِلَابَة وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك بْن مُزَاحِم عَلَى الْوُجُوب . وَحَمَلَهُ أَبُو عُبَيْد وَمَالِك بْن أَنَس وَأَصْحَابه وَالْقَاضِي شُرَيْح وَغَيْرهمْ عَلَى النَّدْب . تَمَسَّكَ أَهْل الْقَوْل الْأَوَّل بِمُقْتَضَى الْأَمْر . وَتَمَسَّكَ أَهْل الْقَوْل الثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ " و " عَلَى الْمُتَّقِينَ " وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَة لَأَطْلَقَهَا عَلَى الْخَلْق أَجْمَعِينَ . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَوْلَى ; لِأَنَّ عُمُومَات الْأَمْر بِالْإِمْتَاعِ فِي قَوْله : " مَتِّعُوهُنَّ " وَإِضَافَة الْإِمْتَاع إِلَيْهِنَّ بِلَامِ التَّمْلِيك فِي قَوْله : " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع " أَظْهَر فِي الْوُجُوب مِنْهُ فِي النَّدْب . وَقَوْله : " عَلَى الْمُتَّقِينَ " تَأْكِيد لِإِيجَابِهَا ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد يَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِي اللَّه فِي الْإِشْرَاك بِهِ وَمَعَاصِيه , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآن : " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " .
وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّمِير الْمُتَّصِل بِقَوْلِهِ " وَمَتِّعُوهُنَّ " مَنْ الْمُرَاد بِهِ مِنْ النِّسَاء ؟ فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَجَابِر بْن زَيْد وَالْحَسَن وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَعَطَاء وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي : الْمُتْعَة وَاجِبَة لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْل الْبِنَاء وَالْفَرْض , وَمَنْدُوبَة فِي حَقّ غَيْرهَا . وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه : الْمُتْعَة مَنْدُوب إِلَيْهَا فِي كُلّ مُطَلَّقَة وَإِنْ دُخِلَ بِهَا , إِلَّا فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَل بِهَا وَقَدْ فُرِضَ لَهَا فَحَسْبهَا مَا فُرِضَ لَهَا وَلَا مُتْعَة لَهَا . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : لَهَا الْمُتْعَة وَلِكُلِّ مُطَلَّقَة . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الَّتِي لَمْ يُفْرَض لَهَا وَلَمْ يُدْخَل بِهَا لَا شَيْء لَهَا غَيْر الْمُتْعَة . قَالَ الزُّهْرِيّ : يَقْضِي لَهَا بِهَا الْقَاضِي . وَقَالَ جُمْهُور النَّاس : لَا يَقْضِي بِهَا لَهَا .
قُلْت : هَذَا الْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ فِي الْحُرَّة , فَأَمَّا الْأَمَة إِذَا طُلِّقَتْ قَبْل الْفَرْض وَالْمَسِيس فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ لَهَا الْمُتْعَة . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ : لَا مُتْعَة لَهَا لِأَنَّهَا تَكُون لِسَيِّدِهَا وَهُوَ لَا يَسْتَحِقّ مَالًا فِي مُقَابَلَة تَأَذِّي مَمْلُوكَته بِالطَّلَاقِ . وَأَمَّا رَبْط مَذْهَب مَالِك فَقَالَ اِبْن شَعْبَان : الْمُتْعَة بِإِزَاءِ غَمّ الطَّلَاق , وَلِذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُبَارِئَة وَالْمُلَاعِنَة مُتْعَة قَبْل الْبِنَاء وَلَا بَعْده ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي اِخْتَارَتْ الطَّلَاق . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ : لِلْمُخْتَلِعَةِ مُتْعَة . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : لِلْمُلَاعِنَةِ مُتْعَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَلَا مُتْعَة فِي نِكَاح مَفْسُوخ . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَلَا فِيمَا يَدْخُلهُ الْفَسْخ بَعْد صِحَّة الْعَقْد , مِثْل مِلْك أَحَد الزَّوْجَيْنِ صَاحِبه . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَأَصْل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ " فَكَانَ هَذَا الْحُكْم مُخْتَصًّا بِالطَّلَاقِ دُون الْفَسْخ . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ الْمُخَيَّرَة لَهَا الْمُتْعَة بِخِلَافِ الْأَمَة تَعْتِق تَحْت الْعَبْد فَتَخْتَار هِيَ نَفْسهَا , فَهَذِهِ لَا مُتْعَة لَهَا . وَأَمَّا الْحُرَّة تُخَيَّر أَوْ تُمْلَك أَوْ يَتَزَوَّج عَلَيْهَا أَمَة فَتَخْتَار هِيَ نَفْسهَا فِي ذَلِكَ كُلّه فَلَهَا الْمُتْعَة ; لِأَنَّ الزَّوْج سَبَب لِلْفِرَاقِ .
قَالَ مَالِك : لَيْسَ لِلْمُتْعَةِ عِنْدنَا حَدّ مَعْرُوف فِي قَلِيلهَا وَلَا كَثِيرهَا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذَا , فَقَالَ اِبْن عُمَر : أَدْنَى مَا يُجْزِئ فِي الْمُتْعَة ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا أَوْ شَبَههَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرْفَع الْمُتْعَة خَادِم ثُمَّ كِسْوَة ثُمَّ نَفَقَة . عَطَاء : أَوْسَطهَا الدِّرْع وَالْخِمَار وَالْمِلْحَفَة . أَبُو حَنِيفَة : ذَلِكَ أَدْنَاهَا . وَقَالَ اِبْن مُحَيْرِيز : عَلَى صَاحِب الدِّيوَان ثَلَاثَة دَنَانِير , وَعَلَى الْعَبْد الْمُتْعَة . وَقَالَ الْحَسَن : يُمَتِّع كُلّ بِقَدْرِهِ , هَذَا بِخَادِمٍ وَهَذَا بِأَثْوَابٍ وَهَذَا بِثَوْبٍ وَهَذَا بِنَفَقَةٍ , وَكَذَلِكَ يَقُول مَالِك بْن أَنَس , وَهُوَ مُقْتَضَى الْقُرْآن فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يُقَدِّرهَا وَلَا حَدَّدَهَا وَإِنَّمَا قَالَ : " عَلَى الْمُوسِع قَدَره وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَره " . وَمَتَّعَ الْحَسَن بْن عَلِيّ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزُقَاق مِنْ عَسَل . وَمَتَّعَ شُرَيْح بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَم . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ حَالَة الْمَرْأَة مُعْتَبَرَة أَيْضًا , قَالَهُ بَعْض الشَّافِعِيَّة , قَالُوا : لَوْ اِعْتَبَرْنَا حَال الرَّجُل وَحْده لَزِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ اِمْرَأَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا شَرِيفَة وَالْأُخْرَى دَنِيَّة ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قَبْل الْمَسِيس وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْمُتْعَة فَيَجِب لِلدَّنِيَّةِ مَا يَجِب لِلشَّرِيفَةِ وَهَذَا خِلَاف مَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ " وَيَلْزَم مِنْهُ أَنَّ الْمُوسِر الْعَظِيم الْيَسَار إِذَا تَزَوَّجَ اِمْرَأَة دَنِيَّة أَنْ يَكُون مِثْلهَا ; لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَالْفَرْض لَزِمَتْهُ الْمُتْعَة عَلَى قَدْر حَاله وَمَهْر مِثْلهَا , فَتَكُون الْمُتْعَة عَلَى هَذَا أَضْعَاف مَهْر مِثْلهَا , فَتَكُون قَدْ اِسْتَحَقَّتْ قَبْل الدُّخُول أَضْعَاف مَا تَسْتَحِقّهُ بَعْد الدُّخُول مِنْ مَهْر الْمِثْل الَّذِي فِيهِ غَايَة الِابْتِذَال وَهُوَ الْوَطْء . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي وَغَيْرهمْ : مُتْعَة الَّتِي تُطَلَّق قَبْل الدُّخُول وَالْفَرْض نِصْف مَهْر مِثْلهَا لَا غَيْر ; لِأَنَّ مَهْر الْمِثْل مُسْتَحَقّ بِالْعَقْدِ , وَالْمُتْعَة هِيَ بَعْض مَهْر الْمِثْل , فَيَجِب لَهَا كَمَا يَجِب نِصْف الْمُسَمَّى إِذَا طَلَّقَ قَبْل الدُّخُول , وَهَذَا يَرُدّهُ قَوْله تَعَالَى : " عَلَى الْمُوسِع قَدَره وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَره " وَهَذَا دَلِيل عَلَى رَفْض التَّحْدِيد , وَاَللَّه بِحَقَائِق الْأُمُور عَلِيم . وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ حَدِيثًا قَالَ : نَزَلَتْ " لَا جُنَاح عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاء " الْآيَة , فِي رَجُل مِنْ الْأَنْصَار تَزَوَّجَ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي حَنِيفَة وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسّهَا فَنَزَلَتْ الْآيَة , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِك ) . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ سُوِيد بْن غَفَلَة قَالَ : كَانَتْ عَائِشَة الْخَثْعَمِيَّة عِنْد الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب فَلَمَّا أُصِيبَ عَلِيّ وَبُويِعَ الْحَسَن بِالْخِلَافَةِ قَالَتْ : لِتَهْنِكَ الْخِلَافَة يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , فَقَالَ : يُقْتَل عَلِيّ وَتُظْهِرِينَ الشَّمَاتَة , اِذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِق ثَلَاثًا . قَالَ : فَتَلَفَّعَتْ بِسَاجِهَا وَقَعَدَتْ حَتَّى اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِعَشَرَةِ آلَاف مُتْعَة , وَبَقِيَّة مَا بَقِيَ لَهَا مِنْ صَدَاقهَا . فَقَالَتْ : مَتَاع قَلِيل مِنْ حَبِيب مُفَارِق فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلهَا بَكَى وَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت جَدِّي - أَوْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي - يَقُول : أَيّمَا رَجُل طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا مُبْهَمَة أَوْ ثَلَاثًا عِنْد الْأَقْرَاء لَمْ تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره لَرَاجَعْتهَا . وَفِي رِوَايَة : أَخْبَرَهُ الرَّسُول فَبَكَى وَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أَبَنْت الطَّلَاق لَهَا لَرَاجَعْتهَا , وَلَكِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( أَيّمَا رَجُل طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا عِنْد كُلّ طُهْر تَطْلِيقَة أَوْ عِنْد رَأْس كُلّ شَهْر تَطْلِيقَة أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جَمِيعًا لَمْ تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره ) .
مَنْ جَهِلَ الْمُتْعَة حَتَّى مَضَتْ أَعْوَام فَلْيَدْفَعْ ذَلِكَ إِلَيْهَا وَإِنْ تَزَوَّجَتْ , وَإِلَى وَرَثَتهَا إِنْ مَاتَتْ , رَوَاهُ اِبْن الْمَوَّاز عَنْ اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ أَصْبَغ : لَا شَيْء عَلَيْهِ إِنْ مَاتَتْ لِأَنَّهَا تَسْلِيَة لِلزَّوْجَةِ عَنْ الطَّلَاق وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ . وَوَجْه الْأَوَّل أَنَّهُ حَقّ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَيَنْتَقِل عَنْهَا إِلَى وَرَثَتهَا كَسَائِرِ الْحُقُوق , وَهَذَا يُشْعِر بِوُجُوبِهَا فِي الْمَذْهَب , وَاَللَّه أَعْلَم .
دَلِيل عَلَى وُجُوب الْمُتْعَة وَقَرَأَ الْجُمْهُور " الْمُوسِع " بِسُكُونِ الْوَاو وَكَسْر السِّين , وَهُوَ الَّذِي اِتَّسَعَتْ حَاله , يُقَال : فُلَان يُنْفِق عَلَى قَدَره , أَيْ عَلَى وُسْعه . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة بِفَتْحِ الْوَاو وَشَدّ السِّين وَفَتْحهَا . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر " قَدْره " بِسُكُونِ الدَّال فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَعَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص بِفَتْحِ الدَّال فِيهِمَا . قَالَ أَبُو الْحَسَن الْأَخْفَش وَغَيْره : هُمَا بِمَعْنًى , لُغَتَانِ فَصَيْحَتَانِ , وَكَذَلِكَ حَكَى أَبُو زَيْد , يَقُول : خُذْ قَدْر كَذَا وَقَدَر كَذَا , بِمَعْنًى . وَيُقْرَأ فِي كِتَاب اللَّه : " فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا " [ الرَّعْد : 17 ] وَقَدْرِهَا , وَقَالَ تَعَالَى : " وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره " [ الْأَنْعَام : 91 ] وَلَوْ حُرِّكَتْ الدَّال لَكَانَ جَائِزًا . و " الْمُقْتِر " الْمُقِلّ الْقَلِيل الْمَال . و " مَتَاعًا " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر , أَيْ مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا " بِالْمَعْرُوفِ " أَيْ بِمَا عُرِفَ فِي الشَّرْع مِنْ الِاقْتِصَاد .
أَيْ يَحِقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَقًّا , يُقَال : حَقَقْت عَلَيْهِ الْقَضَاء وَأَحْقَقْت , أَيْ أَوْجَبْت , وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى وُجُوب الْمُتْعَة مَعَ الْأَمْر بِهَا , فَقَوْله : " حَقًّا " تَأْكِيد لِلْوُجُوبِ . وَمَعْنَى " عَلَى الْمُحْسِنِينَ " و " عَلَى الْمُتَّقِينَ " أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول : لَسْت بِمُحْسِنٍ وَلَا مُتَّقٍ , وَالنَّاس مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُحْسِنِينَ مُتَّقِينَ , فَيُحْسِنُونَ بِأَدَاءِ فَرَائِض اللَّه وَيَجْتَنِبُونَ مَعَاصِيه حَتَّى لَا يَدْخُلُوا النَّار , فَوَاجِب عَلَى الْخَلْق أَجْمَعِينَ أَنْ يَكُونُوا مُحْسِنِينَ مُتَّقِينَ . و " حَقًّا " صِفَة لِقَوْلِهِ " مَتَاعًا " أَوْ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر , وَذَلِكَ أَدْخَل فِي التَّأْكِيد لِلْأَمْرِ , وَاَللَّه أَعْلَم .
الْمُطَلَّقَات أَرْبَع : مُطَلَّقَة مَدْخُول بِهَا مَفْرُوض لَهَا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه حُكْمهَا قَبْل هَذِهِ الْآيَة وَأَنَّهُ لَا يُسْتَرَدّ مِنْهَا شَيْء مِنْ الْمَهْر , وَأَنَّ عِدَّتهَا ثَلَاثَة قُرُوء . وَمُطَلَّقَة غَيْر مَفْرُوض لَهَا وَلَا مَدْخُول بِهَا فَهَذِهِ الْآيَة فِي شَأْنهَا وَلَا مَهْر لَهَا بَلْ أَمَرَ الرَّبّ تَعَالَى بِإِمْتَاعِهَا وَبَيَّنَ فِي سُورَة [ الْأَحْزَاب ] أَنَّ غَيْر الْمَدْخُول بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فَلَا عِدَّة عَلَيْهَا , وَسَيَأْتِي . وَمُطَلَّقَة مَفْرُوض لَهَا غَيْر مَدْخُول بِهَا ذَكَرَهَا بَعْد هَذِهِ الْآيَة إِذْ قَالَ : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة " [ الْبَقَرَة : 237 ] وَمُطَلَّقَة مَدْخُول بِهَا غَيْر مَفْرُوض لَهَا ذَكَرَهَا اللَّه فِي قَوْله : " فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ " [ النِّسَاء : 24 ] , فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي بَعْدهَا مُطَلَّقَة قَبْل الْمَسِيس وَقَبْل الْفَرْض , وَمُطَلَّقَة قَبْل الْمَسِيس وَبَعْد الْفَرْض , فَجَعَلَ لِلْأُولَى الْمُتْعَة , وَجَعَلَ لِلثَّانِيَةِ نِصْف الصَّدَاق لِمَا لِحَقِّ الزَّوْجَة مِنْ دَحْض الْعَقْد , وَوَصْم الْحِلّ الْحَاصِل لِلزَّوْجِ بِالْعَقْدِ , وَقَابَلَ الْمَسِيس بِالْمَهْرِ الْوَاجِب .
لَمَّا قَسَّمَ اللَّه تَعَالَى حَال الْمُطَلَّقَة هُنَا قِسْمَيْنِ : مُطَلَّقَة مُسَمًّى لَهَا الْمَهْر , وَمُطَلَّقَة لَمْ يُسَمَّ لَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ نِكَاح التَّفْوِيض جَائِز وَهُوَ كُلّ نِكَاح عُقِدَ مِنْ غَيْر ذِكْر الصَّدَاق وَلَا خِلَاف فِيهِ , وَيُفْرَض بَعْد ذَلِكَ الصَّدَاق فَإِنْ فُرِضَ اِلْتَحَقَ بِالْعَقْدِ وَجَازَ وَإِنْ لَمْ يُفْرَض لَهَا وَكَانَ الطَّلَاق لَمْ يَجِب صَدَاق إِجْمَاعًا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يَدْخُل بِهَا وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا أُجْبِرَ عَلَى نِصْف صَدَاق مِثْلهَا . وَإِنْ فَرَضَ بَعْد عَقْد النِّكَاح وَقَبْل وُقُوع الطَّلَاق فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَتَنَصَّف بِالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِب بِالْعَقْدِ وَهَذَا خِلَاف الظَّاهِر مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة " [ الْبَقَرَة : 237 ] وَخِلَاف الْقِيَاس أَيْضًا , فَإِنَّ الْفَرْض بَعْد الْعَقْد يَلْحَق بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّف بِالطَّلَاقِ , أَصْله الْفَرْض الْمُقْتَرِن بِالْعَقْدِ .
إِنْ وَقَعَ الْمَوْت قَبْل الْفَرْض فَذَكَرَ التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن مَسْعُود ( أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُل تَزَوَّجَ اِمْرَأَة لَمْ يَفْرِض لَهَا وَلَمْ يَدْخُل بِهَا حَتَّى مَاتَ فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : لَهَا مِثْل صَدَاق نِسَائِهَا لَا وَكْس وَلَا شَطَط وَعَلَيْهَا الْعِدَّة وَلَهَا الْمِيرَاث فَقَامَ مَعْقِل بْن سِنَان الْأَشْجَعِيّ فَقَالَ : قَضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرْوَع بِنْت وَاشِق اِمْرَأَة مِنَّا مِثْل الَّذِي قَضَيْت فَفَرِحَ بِهَا اِبْن مَسْعُود ) . قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث اِبْن مَسْعُود حَدِيث حَسَن صَحِيح , وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْر وَجْه , وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد بَعْض أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهمْ , وَبِهِ يَقُول الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَزَيْد بْن ثَابِت وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر : ( إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل اِمْرَأَة وَلَمْ يَدْخُل بِهَا وَلَمْ يَفْرِض لَهَا صَدَاقًا حَتَّى مَاتَ قَالُوا : لَهَا الْمِيرَاث وَلَا صَدَاق لَهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّة ) وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ : وَلَوْ ثَبَتَ حَدِيث بَرْوَع بِنْت وَاشِق لَكَانَتْ الْحُجَّة فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيُرْوَى عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ رَجَعَ بِمِصْر بَعْدُ عَنْ هَذَا الْقَوْل , وَقَالَ بِحَدِيثِ بَرْوَع بِنْت وَاشِق .
قُلْت : اُخْتُلِفَ فِي تَثْبِيت حَدِيث بَرْوَع , فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب فِي شَرْح رِسَالَة اِبْن أَبِي زَيْد : وَأَمَّا حَدِيث بَرْوَع بِنْت وَاشِق فَقَدْ رَدَّهُ حُفَّاظ الْحَدِيث وَأَئِمَّة أَهْل الْعِلْم . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : وَقَعَ هَذَا الْحَدِيث بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يَقْبَلهُ أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيّ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ وَابْن الْمُنْذِر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ ثَبَتَ مِثْل قَوْل عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ نَقُول . وَذُكِرَ أَنَّهُ قَوْل أَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَذُكِرَ عَنْ الزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ مِثْل قَوْل عَلِيّ وَزَيْد وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر . وَفِي الْمَسْأَلَة قَوْل ثَالِث وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكُون مِيرَاث حَتَّى يَكُون مَهْر , قَالَهُ مَسْرُوق .
قُلْت : وَمِنْ الْحُجَّة لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك أَنَّهُ فِرَاق فِي نِكَاح قَبْل الْفَرْض فَلَمْ يَجِب فِيهِ صَدَاق , أَصْله الطَّلَاق لَكِنْ إِذَا صَحَّ الْحَدِيث فَالْقِيَاس فِي مُقَابَلَته فَاسِد . وَقَدْ حَكَى أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَمِيد عَنْ الْمَذْهَب مَا يُوَافِق الْحَدِيث وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ أَبُو عُمَر : حَدِيث بَرْوَع رَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ مَنْصُور عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ عَلْقَمَة عَنْ اِبْن مَسْعُود الْحَدِيث . وَفِيهِ : فَقَامَ مَعْقِل بْن سِنَان . وَقَالَ فِيهِ اِبْن مَهْدِيّ عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ فِرَاس عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَبْد اللَّه فَقَالَ مَعْقِل بْن يَسَار , وَالصَّوَاب عِنْدِي قَوْل مَنْ قَالَ : مَعْقِل بْن سِنَان لَا مَعْقِل بْن يَسَار لِأَنَّ مَعْقِل بْن يَسَار رَجُل مِنْ مُزَيْنَة , وَهَذَا الْحَدِيث إِنَّمَا جَاءَ فِي اِمْرَأَة مِنْ أَشْجَع لَا مِنْ مُزَيْنَة وَكَذَلِكَ رَوَاهُ دَاوُد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَلْقَمَة , وَفِيهِ : فَقَالَ نَاس مِنْ أَشْجَع وَمَعْقِل بْن سِنَان قُتِلَ يَوْم الْحَرَّة وَفِي يَوْم الْحَرَّة يَقُول الشَّاعِر : أَلَا تِلْكُمُ الْأَنْصَار تَبْكِي سَرَاتهَا وَأَشْجَع تَبْكِي مَعْقِل بْن سِنَان
" مَا " بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاء اللَّاتِي لَمْ تَمَسُّوهُنَّ . و " تَمَسُّوهُنَّ " قُرِئَ بِفَتْحِ التَّاء مِنْ الثُّلَاثِيّ , وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبِي عَمْرو وَعَاصِم وَابْن عَامِر . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تُمَاسُّوهُنَّ " مِنْ الْمُفَاعَلَة ; لِأَنَّ الْوَطْء تَمَّ بِهِمَا , وَقَدْ يَرِد فِي بَاب الْمُفَاعَلَة فَاعِل بِمَعْنَى فَعَلَ , نَحْو طَارَقْت النَّعْل , وَعَاقَبْت اللِّصّ . وَالْقِرَاءَة الْأُولَى تَقْتَضِي مَعْنَى الْمُفَاعَلَة فِي هَذَا الْبَاب بِالْمَعْنَى الْمَفْهُوم مِنْ الْمَسّ , وَرَجَّحَهَا أَبُو عَلِيّ ; لِأَنَّ أَفْعَال هَذَا الْمَعْنَى جَاءَتْ ثُلَاثِيَّة عَلَى هَذَا الْوَزْن , جَاءَ : نَكَحَ وَسَفَدَ وَقَرَعَ وَدَفَطَ وَضَرَبَ الْفَحْل , وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ . و " أَوْ " فِي " أَوْ تَفْرِضُوا " قِيلَ هُوَ بِمَعْنَى الْوَاو , أَيْ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَكَمْ مِنْ قَرْيَة أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ " [ الْأَعْرَاف : 4 ] أَيْ وَهُمْ قَائِلُونَ . وَقَوْله : " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَة أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ " [ الصَّافَّات : 147 ] أَيْ وَيَزِيدُونَ . وَقَوْله : " وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا " [ الْإِنْسَان : 24 ] أَيْ وَكَفُورًا . وَقَوْله : " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " [ النِّسَاء : 43 ] مَعْنَاهُ وَجَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط وَأَنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرُونَ . وَقَوْله : " إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورهمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ " [ الْأَنْعَام : 146 ] وَمَا كَانَ مِثْله . وَيَعْتَضِد هَذَا بِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهَا بَعْد ذَلِكَ الْمَفْرُوض لَهَا فَقَالَ : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة " [ الْبَقَرَة : 237 ] . فَلَوْ كَانَ الْأَوَّل لِبَيَانِ طَلَاق الْمَفْرُوض لَهَا قَبْل الْمَسِيس لَمَا كَرَّرَهُ .
مَعْنَاهُ أَعْطُوهُنَّ شَيْئًا يَكُون مَتَاعًا لَهُنَّ . وَحَمَلَهُ اِبْن عُمَر وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَالْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو قِلَابَة وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك بْن مُزَاحِم عَلَى الْوُجُوب . وَحَمَلَهُ أَبُو عُبَيْد وَمَالِك بْن أَنَس وَأَصْحَابه وَالْقَاضِي شُرَيْح وَغَيْرهمْ عَلَى النَّدْب . تَمَسَّكَ أَهْل الْقَوْل الْأَوَّل بِمُقْتَضَى الْأَمْر . وَتَمَسَّكَ أَهْل الْقَوْل الثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ " و " عَلَى الْمُتَّقِينَ " وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَة لَأَطْلَقَهَا عَلَى الْخَلْق أَجْمَعِينَ . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَوْلَى ; لِأَنَّ عُمُومَات الْأَمْر بِالْإِمْتَاعِ فِي قَوْله : " مَتِّعُوهُنَّ " وَإِضَافَة الْإِمْتَاع إِلَيْهِنَّ بِلَامِ التَّمْلِيك فِي قَوْله : " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع " أَظْهَر فِي الْوُجُوب مِنْهُ فِي النَّدْب . وَقَوْله : " عَلَى الْمُتَّقِينَ " تَأْكِيد لِإِيجَابِهَا ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد يَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِي اللَّه فِي الْإِشْرَاك بِهِ وَمَعَاصِيه , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآن : " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " .
وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّمِير الْمُتَّصِل بِقَوْلِهِ " وَمَتِّعُوهُنَّ " مَنْ الْمُرَاد بِهِ مِنْ النِّسَاء ؟ فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَجَابِر بْن زَيْد وَالْحَسَن وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَعَطَاء وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي : الْمُتْعَة وَاجِبَة لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْل الْبِنَاء وَالْفَرْض , وَمَنْدُوبَة فِي حَقّ غَيْرهَا . وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه : الْمُتْعَة مَنْدُوب إِلَيْهَا فِي كُلّ مُطَلَّقَة وَإِنْ دُخِلَ بِهَا , إِلَّا فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَل بِهَا وَقَدْ فُرِضَ لَهَا فَحَسْبهَا مَا فُرِضَ لَهَا وَلَا مُتْعَة لَهَا . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : لَهَا الْمُتْعَة وَلِكُلِّ مُطَلَّقَة . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الَّتِي لَمْ يُفْرَض لَهَا وَلَمْ يُدْخَل بِهَا لَا شَيْء لَهَا غَيْر الْمُتْعَة . قَالَ الزُّهْرِيّ : يَقْضِي لَهَا بِهَا الْقَاضِي . وَقَالَ جُمْهُور النَّاس : لَا يَقْضِي بِهَا لَهَا .
قُلْت : هَذَا الْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ فِي الْحُرَّة , فَأَمَّا الْأَمَة إِذَا طُلِّقَتْ قَبْل الْفَرْض وَالْمَسِيس فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ لَهَا الْمُتْعَة . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ : لَا مُتْعَة لَهَا لِأَنَّهَا تَكُون لِسَيِّدِهَا وَهُوَ لَا يَسْتَحِقّ مَالًا فِي مُقَابَلَة تَأَذِّي مَمْلُوكَته بِالطَّلَاقِ . وَأَمَّا رَبْط مَذْهَب مَالِك فَقَالَ اِبْن شَعْبَان : الْمُتْعَة بِإِزَاءِ غَمّ الطَّلَاق , وَلِذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُبَارِئَة وَالْمُلَاعِنَة مُتْعَة قَبْل الْبِنَاء وَلَا بَعْده ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي اِخْتَارَتْ الطَّلَاق . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ : لِلْمُخْتَلِعَةِ مُتْعَة . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : لِلْمُلَاعِنَةِ مُتْعَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَلَا مُتْعَة فِي نِكَاح مَفْسُوخ . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَلَا فِيمَا يَدْخُلهُ الْفَسْخ بَعْد صِحَّة الْعَقْد , مِثْل مِلْك أَحَد الزَّوْجَيْنِ صَاحِبه . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَأَصْل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ " فَكَانَ هَذَا الْحُكْم مُخْتَصًّا بِالطَّلَاقِ دُون الْفَسْخ . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ الْمُخَيَّرَة لَهَا الْمُتْعَة بِخِلَافِ الْأَمَة تَعْتِق تَحْت الْعَبْد فَتَخْتَار هِيَ نَفْسهَا , فَهَذِهِ لَا مُتْعَة لَهَا . وَأَمَّا الْحُرَّة تُخَيَّر أَوْ تُمْلَك أَوْ يَتَزَوَّج عَلَيْهَا أَمَة فَتَخْتَار هِيَ نَفْسهَا فِي ذَلِكَ كُلّه فَلَهَا الْمُتْعَة ; لِأَنَّ الزَّوْج سَبَب لِلْفِرَاقِ .
قَالَ مَالِك : لَيْسَ لِلْمُتْعَةِ عِنْدنَا حَدّ مَعْرُوف فِي قَلِيلهَا وَلَا كَثِيرهَا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذَا , فَقَالَ اِبْن عُمَر : أَدْنَى مَا يُجْزِئ فِي الْمُتْعَة ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا أَوْ شَبَههَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرْفَع الْمُتْعَة خَادِم ثُمَّ كِسْوَة ثُمَّ نَفَقَة . عَطَاء : أَوْسَطهَا الدِّرْع وَالْخِمَار وَالْمِلْحَفَة . أَبُو حَنِيفَة : ذَلِكَ أَدْنَاهَا . وَقَالَ اِبْن مُحَيْرِيز : عَلَى صَاحِب الدِّيوَان ثَلَاثَة دَنَانِير , وَعَلَى الْعَبْد الْمُتْعَة . وَقَالَ الْحَسَن : يُمَتِّع كُلّ بِقَدْرِهِ , هَذَا بِخَادِمٍ وَهَذَا بِأَثْوَابٍ وَهَذَا بِثَوْبٍ وَهَذَا بِنَفَقَةٍ , وَكَذَلِكَ يَقُول مَالِك بْن أَنَس , وَهُوَ مُقْتَضَى الْقُرْآن فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يُقَدِّرهَا وَلَا حَدَّدَهَا وَإِنَّمَا قَالَ : " عَلَى الْمُوسِع قَدَره وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَره " . وَمَتَّعَ الْحَسَن بْن عَلِيّ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزُقَاق مِنْ عَسَل . وَمَتَّعَ شُرَيْح بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَم . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ حَالَة الْمَرْأَة مُعْتَبَرَة أَيْضًا , قَالَهُ بَعْض الشَّافِعِيَّة , قَالُوا : لَوْ اِعْتَبَرْنَا حَال الرَّجُل وَحْده لَزِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ اِمْرَأَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا شَرِيفَة وَالْأُخْرَى دَنِيَّة ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قَبْل الْمَسِيس وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْمُتْعَة فَيَجِب لِلدَّنِيَّةِ مَا يَجِب لِلشَّرِيفَةِ وَهَذَا خِلَاف مَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ " وَيَلْزَم مِنْهُ أَنَّ الْمُوسِر الْعَظِيم الْيَسَار إِذَا تَزَوَّجَ اِمْرَأَة دَنِيَّة أَنْ يَكُون مِثْلهَا ; لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَالْفَرْض لَزِمَتْهُ الْمُتْعَة عَلَى قَدْر حَاله وَمَهْر مِثْلهَا , فَتَكُون الْمُتْعَة عَلَى هَذَا أَضْعَاف مَهْر مِثْلهَا , فَتَكُون قَدْ اِسْتَحَقَّتْ قَبْل الدُّخُول أَضْعَاف مَا تَسْتَحِقّهُ بَعْد الدُّخُول مِنْ مَهْر الْمِثْل الَّذِي فِيهِ غَايَة الِابْتِذَال وَهُوَ الْوَطْء . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي وَغَيْرهمْ : مُتْعَة الَّتِي تُطَلَّق قَبْل الدُّخُول وَالْفَرْض نِصْف مَهْر مِثْلهَا لَا غَيْر ; لِأَنَّ مَهْر الْمِثْل مُسْتَحَقّ بِالْعَقْدِ , وَالْمُتْعَة هِيَ بَعْض مَهْر الْمِثْل , فَيَجِب لَهَا كَمَا يَجِب نِصْف الْمُسَمَّى إِذَا طَلَّقَ قَبْل الدُّخُول , وَهَذَا يَرُدّهُ قَوْله تَعَالَى : " عَلَى الْمُوسِع قَدَره وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَره " وَهَذَا دَلِيل عَلَى رَفْض التَّحْدِيد , وَاَللَّه بِحَقَائِق الْأُمُور عَلِيم . وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ حَدِيثًا قَالَ : نَزَلَتْ " لَا جُنَاح عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاء " الْآيَة , فِي رَجُل مِنْ الْأَنْصَار تَزَوَّجَ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي حَنِيفَة وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسّهَا فَنَزَلَتْ الْآيَة , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِك ) . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ سُوِيد بْن غَفَلَة قَالَ : كَانَتْ عَائِشَة الْخَثْعَمِيَّة عِنْد الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب فَلَمَّا أُصِيبَ عَلِيّ وَبُويِعَ الْحَسَن بِالْخِلَافَةِ قَالَتْ : لِتَهْنِكَ الْخِلَافَة يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , فَقَالَ : يُقْتَل عَلِيّ وَتُظْهِرِينَ الشَّمَاتَة , اِذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِق ثَلَاثًا . قَالَ : فَتَلَفَّعَتْ بِسَاجِهَا وَقَعَدَتْ حَتَّى اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِعَشَرَةِ آلَاف مُتْعَة , وَبَقِيَّة مَا بَقِيَ لَهَا مِنْ صَدَاقهَا . فَقَالَتْ : مَتَاع قَلِيل مِنْ حَبِيب مُفَارِق فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلهَا بَكَى وَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت جَدِّي - أَوْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي - يَقُول : أَيّمَا رَجُل طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا مُبْهَمَة أَوْ ثَلَاثًا عِنْد الْأَقْرَاء لَمْ تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره لَرَاجَعْتهَا . وَفِي رِوَايَة : أَخْبَرَهُ الرَّسُول فَبَكَى وَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أَبَنْت الطَّلَاق لَهَا لَرَاجَعْتهَا , وَلَكِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( أَيّمَا رَجُل طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا عِنْد كُلّ طُهْر تَطْلِيقَة أَوْ عِنْد رَأْس كُلّ شَهْر تَطْلِيقَة أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جَمِيعًا لَمْ تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره ) .
مَنْ جَهِلَ الْمُتْعَة حَتَّى مَضَتْ أَعْوَام فَلْيَدْفَعْ ذَلِكَ إِلَيْهَا وَإِنْ تَزَوَّجَتْ , وَإِلَى وَرَثَتهَا إِنْ مَاتَتْ , رَوَاهُ اِبْن الْمَوَّاز عَنْ اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ أَصْبَغ : لَا شَيْء عَلَيْهِ إِنْ مَاتَتْ لِأَنَّهَا تَسْلِيَة لِلزَّوْجَةِ عَنْ الطَّلَاق وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ . وَوَجْه الْأَوَّل أَنَّهُ حَقّ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَيَنْتَقِل عَنْهَا إِلَى وَرَثَتهَا كَسَائِرِ الْحُقُوق , وَهَذَا يُشْعِر بِوُجُوبِهَا فِي الْمَذْهَب , وَاَللَّه أَعْلَم .
دَلِيل عَلَى وُجُوب الْمُتْعَة وَقَرَأَ الْجُمْهُور " الْمُوسِع " بِسُكُونِ الْوَاو وَكَسْر السِّين , وَهُوَ الَّذِي اِتَّسَعَتْ حَاله , يُقَال : فُلَان يُنْفِق عَلَى قَدَره , أَيْ عَلَى وُسْعه . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة بِفَتْحِ الْوَاو وَشَدّ السِّين وَفَتْحهَا . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر " قَدْره " بِسُكُونِ الدَّال فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَعَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص بِفَتْحِ الدَّال فِيهِمَا . قَالَ أَبُو الْحَسَن الْأَخْفَش وَغَيْره : هُمَا بِمَعْنًى , لُغَتَانِ فَصَيْحَتَانِ , وَكَذَلِكَ حَكَى أَبُو زَيْد , يَقُول : خُذْ قَدْر كَذَا وَقَدَر كَذَا , بِمَعْنًى . وَيُقْرَأ فِي كِتَاب اللَّه : " فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا " [ الرَّعْد : 17 ] وَقَدْرِهَا , وَقَالَ تَعَالَى : " وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره " [ الْأَنْعَام : 91 ] وَلَوْ حُرِّكَتْ الدَّال لَكَانَ جَائِزًا . و " الْمُقْتِر " الْمُقِلّ الْقَلِيل الْمَال . و " مَتَاعًا " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر , أَيْ مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا " بِالْمَعْرُوفِ " أَيْ بِمَا عُرِفَ فِي الشَّرْع مِنْ الِاقْتِصَاد .
أَيْ يَحِقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَقًّا , يُقَال : حَقَقْت عَلَيْهِ الْقَضَاء وَأَحْقَقْت , أَيْ أَوْجَبْت , وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى وُجُوب الْمُتْعَة مَعَ الْأَمْر بِهَا , فَقَوْله : " حَقًّا " تَأْكِيد لِلْوُجُوبِ . وَمَعْنَى " عَلَى الْمُحْسِنِينَ " و " عَلَى الْمُتَّقِينَ " أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول : لَسْت بِمُحْسِنٍ وَلَا مُتَّقٍ , وَالنَّاس مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُحْسِنِينَ مُتَّقِينَ , فَيُحْسِنُونَ بِأَدَاءِ فَرَائِض اللَّه وَيَجْتَنِبُونَ مَعَاصِيه حَتَّى لَا يَدْخُلُوا النَّار , فَوَاجِب عَلَى الْخَلْق أَجْمَعِينَ أَنْ يَكُونُوا مُحْسِنِينَ مُتَّقِينَ . و " حَقًّا " صِفَة لِقَوْلِهِ " مَتَاعًا " أَوْ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر , وَذَلِكَ أَدْخَل فِي التَّأْكِيد لِلْأَمْرِ , وَاَللَّه أَعْلَم .
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ↓
" وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة فَنِصْف مَا فَرَضْتُمْ " اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهَا مَالِك وَغَيْره : إِنَّهَا مُخْرِجَة الْمُطَلَّقَة بَعْد الْفَرْض مِنْ حُكْم التَّمَتُّع , إِذْ يَتَنَاوَلهَا قَوْله تَعَالَى : " وَمَتِّعُوهُنَّ " . وَقَالَ اِبْن الْمُسَيِّب : نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة الْآيَة الَّتِي فِي [ الْأَحْزَاب ] لِأَنَّ تِلْكَ تَضَمَّنَتْ تَمْتِيع كُلّ مَنْ لَمْ يُدْخَل بِهَا . وَقَالَ قَتَادَة : نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا .
قُلْت : قَوْل سَعِيد وَقَتَادَة فِيهِ نَظَر , إِذْ شُرُوط النَّسْخ غَيْر مَوْجُودَة وَالْجَمْع مُمْكِن . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة : كَانَ الْمَتَاع لِكُلِّ مُطَلَّقَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ " [ الْبَقَرَة : 241 ] وَلِغَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَة [ الْأَحْزَاب ] فَاسْتَثْنَى اللَّه تَعَالَى الْمَفْرُوض لَهَا قَبْل الدُّخُول بِهَا بِهَذِهِ الْآيَة , وَأَثْبَتَ لِلْمَفْرُوضِ لَهَا نِصْف مَا فَرَضَ فَقَطْ . وَقَالَ فَرِيق مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ أَبُو ثَوْر : الْمُتْعَة لِكُلِّ مُطَلَّقَة عُمُومًا , وَهَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا بَيَّنَتْ أَنَّ الْمَفْرُوض لَهَا تَأْخُذ نِصْف مَا فُرِضَ لَهَا , وَلَمْ يَعْنِ بِالْآيَةِ إِسْقَاط مُتْعَتهَا , بَلْ لَهَا الْمُتْعَة وَنِصْف الْمَفْرُوض .
" فَنِصْف مَا فَرَضْتُمْ " أَيْ فَالْوَاجِب نِصْف مَا فَرَضْتُمْ , أَيْ مِنْ الْمَهْر فَالنِّصْف لِلزَّوْجِ وَالنِّصْف لِلْمَرْأَةِ بِإِجْمَاعٍ . وَالنِّصْف الْجُزْء مِنْ اِثْنَيْنِ , فَيُقَال : نَصَفَ الْمَاء الْقَدَح أَيْ بَلَغَ نِصْفه . وَنَصَفَ الْإِزَار السَّاق , وَكُلّ شَيْء بَلَغَ نِصْف غَيْره فَقَدْ نَصَفَهُ . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " فَنِصْفُ " بِالرَّفْعِ . وَقَرَأَتْ فِرْقَة " فَنِصْفَ " بِنَصْبِ الْفَاء , الْمَعْنَى فَادْفَعُوا نِصْف . وَقَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَزَيْد بْن ثَابِت " فَنُصْف " بِضَمِّ النُّون فِي جَمِيع الْقُرْآن وَهِيَ لُغَة . وَكَذَلِكَ رَوَى الْأَصْمَعِيّ قِرَاءَة عَنْ أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء يُقَال : نِصْف وَنُصْف وَنَصِيف , , لُغَات ثَلَاث فِي النِّصْف , وَفِي الْحَدِيث : ( لَوْ أَنَّ أَحَدكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أَحَد ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدّ أَحَدهمْ وَلَا نَصِيفه ) أَيْ نِصْفه . وَالنَّصِيف أَيْضًا الْقِنَاع .
إِذَا أَصْدَقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَنَمَا الصَّدَاق فِي يَدهَا فَقَالَ مَالِك : كُلّ عَرَض أَصْدَقَهَا أَوْ عَبْد فَنَمَاؤُهُمَا لَهُمَا جَمِيعًا وَنُقْصَانه بَيْنهمَا , وَتَوَاهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَة مِنْهُ شَيْء . فَإِنْ أَصْدَقهَا عَيْنًا ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَاشْتَرَتْ بِهِ عَبْدًا أَوْ دَارًا أَوْ اِشْتَرَتْ بِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْره طِيبًا أَوْ شُوَارًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَهَا التَّصَرُّف فِيهِ لِجِهَازِهَا وَصَلَاح شَأْنهَا فِي بَقَائِهَا مَعَهُ فَذَلِكَ كُلّه بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا إِيَّاهُ , وَنَمَاؤُهُ وَنُقْصَانه بَيْنهمَا . وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا نِصْفه , وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْرَم لَهُ نِصْف مَا قَبَضَتْهُ مِنْهُ , وَإِنْ اِشْتَرَتْ بِهِ أَوْ مِنْهُ شَيْئًا تَخْتَصّ بِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْرَم لَهُ نِصْف صَدَاقهَا الَّذِي قَبَضَتْ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ لَوْ اِشْتَرَتْ مِنْ غَيْره عَبْدًا أَوْ دَارًا بِالْأَلْفِ الَّذِي أَصْدَقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْأَلْف .
لَا خِلَاف أَنَّ مَنْ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَقَدْ سَمَّى لَهَا أَنَّ لَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى كَامِلًا وَالْمِيرَاث , وَعَلَيْهَا الْعِدَّة .
وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يَخْلُو بِالْمَرْأَةِ وَلَمْ يُجَامِعهَا حَتَّى فَارَقَهَا , فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَمَالِك : عَلَيْهِ جَمِيع الْمَهْر , وَعَلَيْهَا الْعِدَّة , لِخَبَرِ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَضَى الْخُلَفَاء الرَّاشِدُونَ فِيمَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا أَنَّ لَهَا الْمِيرَاث وَعَلَيْهَا الْعِدَّة , وَرُوِيَ مَرْفُوعًا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَسَيَأْتِي فِي [ النِّسَاء ] . وَالشَّافِعِيّ لَا يُوجِب مَهْرًا كَامِلًا , وَلَا عِدَّة إِذَا لَمْ يَكُنْ دُخُول , لِظَاهِرِ الْقُرْآن . قَالَ شُرَيْح : لَمْ أَسْمَع اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابه بَابًا وَلَا سِتْرًا , إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَمَسّهَا فَلَهَا نِصْف الصَّدَاق , وَهُوَ مَذْهَب اِبْن عَبَّاس وَسَيَأْتِي مَا لِعُلَمَائِنَا فِي هَذَا فِي سُورَة [ النِّسَاء ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَقَدْ أَفْضَى بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض " [ النِّسَاء : 21 ] .
" إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ " اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع ; لِأَنَّ عَفْوهنَّ عَنْ النِّصْف لَيْسَ مِنْ جِنْس أَخْذهنَّ . و " يَعْفُونَ " مَعْنَاهُ يَتْرُكْنَ وَيَصْفَحْنَ , وَوَزْنه يَفْعَلْنَ . وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَتْرُكْنَ النِّصْف الَّذِي وَجَبَ لَهُنَّ عِنْد الزَّوْج , وَلَمْ تَسْقُط النُّون مَعَ " أَنْ " ; لِأَنَّ جَمْع الْمُؤَنَّث فِي الْمُضَارِع عَلَى حَالَة وَاحِدَة فِي الرَّفْع وَالنَّصْب وَالْجَزْم , فَهِيَ ضَمِير وَلَيْسَتْ بِعَلَامَةِ إِعْرَاب فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُط , وَلِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَتْ النُّون لَاشْتَبَهَ بِالْمُذَكَّرِ . وَالْعَافِيَات فِي هَذِهِ الْآيَة كُلّ اِمْرَأَة تَمْلِك أَمْر نَفْسهَا , فَأَذِنَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَهُنَّ فِي إِسْقَاطه بَعْد وُجُوبه , إِذْ جَعَلَهُ خَالِص حَقّهنَّ , فَيَتَصَرَّفْنَ فِيهِ بِالْإِمْضَاءِ وَالْإِسْقَاط كَيْف شِئْنَ , إِذَا مَلَكْنَ أَمْر أَنْفُسهنَّ وَكُنَّ بَالِغَات عَاقِلَات رَاشِدَات . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَجَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء وَالتَّابِعِينَ : وَيَجُوز عَفْو الْبِكْر الَّتِي لَا وَلِيّ لَهَا , وَحَكَاهُ سَحْنُون فِي الْمُدَوَّنَة عَنْ غَيْر اِبْن الْقَاسِم بَعْد أَنْ ذُكِرَ لِابْنِ الْقَاسِم أَنَّ وَضْعهَا نِصْف الصَّدَاق لَا يَجُوز . وَأَمَّا الَّتِي فِي حِجْر أَب أَوْ وَصِيّ فَلَا يَجُوز وَضْعهَا لِنِصْفِ صَدَاقهَا قَوْلًا وَاحِدًا , وَلَا خِلَاف فِيهِ فِيمَا أَعْلَم .
" أَوْ يَعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ " مَعْطُوف عَلَى الْأَوَّل مَبْنِيّ , وَهَذَا مُعْرَب . وَقَرَأَ الْحَسَن " أَوْ يَعْفُو " سَاكِنَة الْوَاو , كَأَنَّهُ اِسْتَثْقَلَ الْفَتْحَة فِي الْوَاو . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ " فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جُبَيْر بْن مُطْعِم أَنَّهُ تَزَوَّجَ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي نَصْر فَطَلَّقَهَا قَبْل أَنْ يَدْخُل بِهَا , فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِالصَّدَاقِ كَامِلًا وَقَالَ : أَنَا أَحَقّ بِالْعَفْوِ مِنْهَا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ " وَأَنَا أَحَقّ بِالْعَفْوِ مِنْهَا . وَتَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ يَعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح " يَعْنِي نَفْسه فِي كُلّ حَال قَبْل الطَّلَاق وَبَعْده , أَيْ عُقْدَة نِكَاحه , فَلَمَّا أَدْخَلَ اللَّام حَذَفَ الْهَاء كَقَوْلِهِ : " فَإِنَّ الْجَنَّة هِيَ الْمَأْوَى " [ النَّازِعَات : 41 ] أَيْ مَأْوَاهُ . قَالَ النَّابِغَة : لَهُمْ شِيمَة لَمْ يُعْطِهَا اللَّه غَيْرهمْ مِنْ الْجُود وَالْأَحْلَام غَيْر عَوَازِب أَيْ أَحْلَامهمْ . وَكَذَلِكَ قَوْله : " عُقْدَة النِّكَاح " أَيْ عُقْدَة نِكَاحه . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث قُتَيْبَة بْن سَعِيد حَدَّثَنَا اِبْن لَهِيعَة عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلِيّ عُقْدَة النِّكَاح الزَّوْج ) . وَأُسْنِدَ هَذَا عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَشُرَيْح . قَالَ : وَكَذَلِكَ قَالَ نَافِع بْن جُبَيْر وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَطَاوُس وَمُجَاهِد وَالشَّعْبِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر , زَادَ غَيْره وَمُجَاهِد وَالثَّوْرِيّ , وَاخْتَارَهُ أَبُو حَنِيفَة , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ , كُلّهمْ لَا يَرَى سَبِيلًا لِلْوَلِيِّ عَلَى شَيْء مِنْ صَدَاقهَا , لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيّ لَوْ أَبْرَأَ الزَّوْج مِنْ الْمَهْر قَبْل الطَّلَاق لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ بَعْده . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَلِيّ لَا يَمْلِك أَنْ يَهَب شَيْئًا مِنْ مَالهَا , وَالْمَهْر مَالهَا . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاء مَنْ لَا يَجُوز عَفْوهمْ وَهُمْ بَنُو الْعَمّ وَبَنُو الْإِخْوَة , فَكَذَلِكَ الْأَب , وَاَللَّه أَعْلَم . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ الْوَلِيّ أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : وَهُوَ قَوْل إِبْرَاهِيم وَعَلْقَمَة وَالْحَسَن , زَادَ غَيْره وَعِكْرِمَة وَطَاوُس وَعَطَاء وَأَبِي الزِّنَاد وَزَيْد بْن أَسْلَم وَرَبِيعَة وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَابْن شِهَاب وَالْأَسْوَد بْن يَزِيد وَالشَّعْبِيّ وَقَتَادَة وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم . فَيَجُوز لِلْأَبِ الْعَفْو عَنْ نِصْف صَدَاق اِبْنَته الْبِكْر إِذَا طُلِّقَتْ , بَلَغَتْ الْمَحِيض أَمْ لَمْ تَبْلُغهُ . قَالَ عِيسَى بْن دِينَار : وَلَا تَرْجِع بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى أَبِيهَا , وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْمُرَاد الْوَلِيّ أَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى قَالَ فِي أَوَّل الْآيَة : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة فَنِصْف مَا فَرَضْتُمْ " فَذَكَرَ الْأَزْوَاج وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَاب , ثُمَّ قَالَ : " إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ " فَذَكَرَ النِّسْوَان , " أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح " فَهُوَ ثَالِث فَلَا يُرَدّ إِلَى الزَّوْج الْمُتَقَدِّم إِلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ وُجُود , وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوَلِيّ فَهُوَ الْمُرَاد . قَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيّ وَذَكَرَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ " وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَيْسَ كُلّ اِمْرَأَة تَعْفُو , فَإِنَّ الصَّغِيرَة وَالْمَحْجُور عَلَيْهَا لَا عَفْو لَهُمَا , فَبَيَّنَ اللَّه الْقِسْمَيْنِ فَقَالَ : " إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ " أَيْ إِنْ كُنَّ لِذَلِكَ أَهْلًا , " أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح " وَهُوَ الْوَلِيّ , لِأَنَّ الْأَمْر فِيهِ إِلَيْهِ . وَكَذَلِكَ رَوَى اِبْن وَهْب وَأَشْهَب وَابْن عَبْد الْحَكَم وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّهُ الْأَب فِي اِبْنَته الْبِكْر وَالسَّيِّد فِي أَمَته . وَإِنَّمَا يَجُوز عَفْو الْوَلِيّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل السَّدَاد , وَلَا يَجُوز عَفْوه إِذَا كَانَ سَفِيهًا . فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّم أَنَّهُ الْوَلِيّ بَلْ هُوَ الزَّوْج , وَهَذَا الِاسْم أَوْلَى بِهِ ; لِأَنَّهُ أَمْلَك لِلْعَقْدِ مِنْ الْوَلِيّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . فَالْجَوَاب - أَنَّا لَا نُسَلِّم أَنَّ الزَّوْج أَمْلَك لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَب فِي اِبْنَته الْبِكْر , بَلْ أَب الْبِكْر يَمْلِكهُ خَاصَّة دُون الزَّوْج ; لِأَنَّ الْمَعْقُود عَلَيْهِ هُوَ بُضْع الْبِكْر , وَلَا يَمْلِك الزَّوْج أَنْ يَعْقِد عَلَى ذَلِكَ بَلْ الْأَب يَمْلِكهُ . وَقَدْ أَجَازَ شُرَيْح عَفْو الْأَخ عَنْ نِصْف الْمَهْر , وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَة : يَجُوز عَفْو الَّذِي عَقَدَ عُقْدَة النِّكَاح بَيْنهمَا , كَانَ عَمًّا أَوْ أَبًا أَوْ أَخًا , وَإِنْ كَرِهَتْ . وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك وَالشَّعْبِيّ " أَوْ يَعْفُو " بِإِسْكَانِ الْوَاو عَلَى التَّشْبِيه بِالْأَلِفِ , وَمِثْله قَوْل الشَّاعِر : فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِر عَنْ وِرَاثَة أَبَى اللَّه أَنْ أَسْمُو بِأُمٍّ وَلَا أَب
اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَالْأَصْل تَعْفُوُوا أُسْكِنَتْ الْوَاو الْأُولَى لِثِقَلِ حَرَكَتهَا ثُمَّ حُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَهُوَ خِطَاب لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاء فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس فَغَلَبَ الذُّكُور , وَاللَّام بِمَعْنَى إِلَى , أَيْ أَقْرَب إِلَى التَّقْوَى . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " تَعْفُوا " بِالتَّاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْق . وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك وَالشَّعْبِيّ " وَأَنْ يَعْفُوا " بِالْيَاءِ , وَذَلِكَ رَاجِع إِلَى الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح . قُلْت : وَلَمْ يَقْرَأ " وَأَنْ تَعْفُونَ " بِالتَّاءِ فَيَكُون لِلنِّسَاءِ . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " وَلَا تَنْسُوا الْفَضْل " بِضَمِّ الْوَاو , وَكَسَرَهَا يَحْيَى بْن يَعْمَر . وَقَرَأَ عَلِيّ وَمُجَاهِد وَأَبُو حَيْوَة وَابْن أَبِي عَبْلَة " وَلَا تَنَاسَوْا الْفَضْل " وَهِيَ قِرَاءَة مُتَمَكِّنَة الْمَعْنَى , لِأَنَّهُ مَوْضِع تَنَاسٍ لَا نِسْيَان إِلَّا عَلَى التَّشْبِيه . قَالَ مُجَاهِد : الْفَضْل إِتْمَام الرَّجُل الصَّدَاق كُلّه , أَوْ تَرْك الْمَرْأَة النِّصْف الَّذِي لَهَا .
خَبَر فِي ضِمْنه الْوَعْد لِلْمُحْسِنِ وَالْحِرْمَان لِغَيْرِ الْمُحْسِن , أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَفْوكُمْ وَاسْتِقْضَاؤُكُمْ .
قُلْت : قَوْل سَعِيد وَقَتَادَة فِيهِ نَظَر , إِذْ شُرُوط النَّسْخ غَيْر مَوْجُودَة وَالْجَمْع مُمْكِن . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة : كَانَ الْمَتَاع لِكُلِّ مُطَلَّقَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ " [ الْبَقَرَة : 241 ] وَلِغَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَة [ الْأَحْزَاب ] فَاسْتَثْنَى اللَّه تَعَالَى الْمَفْرُوض لَهَا قَبْل الدُّخُول بِهَا بِهَذِهِ الْآيَة , وَأَثْبَتَ لِلْمَفْرُوضِ لَهَا نِصْف مَا فَرَضَ فَقَطْ . وَقَالَ فَرِيق مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ أَبُو ثَوْر : الْمُتْعَة لِكُلِّ مُطَلَّقَة عُمُومًا , وَهَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا بَيَّنَتْ أَنَّ الْمَفْرُوض لَهَا تَأْخُذ نِصْف مَا فُرِضَ لَهَا , وَلَمْ يَعْنِ بِالْآيَةِ إِسْقَاط مُتْعَتهَا , بَلْ لَهَا الْمُتْعَة وَنِصْف الْمَفْرُوض .
" فَنِصْف مَا فَرَضْتُمْ " أَيْ فَالْوَاجِب نِصْف مَا فَرَضْتُمْ , أَيْ مِنْ الْمَهْر فَالنِّصْف لِلزَّوْجِ وَالنِّصْف لِلْمَرْأَةِ بِإِجْمَاعٍ . وَالنِّصْف الْجُزْء مِنْ اِثْنَيْنِ , فَيُقَال : نَصَفَ الْمَاء الْقَدَح أَيْ بَلَغَ نِصْفه . وَنَصَفَ الْإِزَار السَّاق , وَكُلّ شَيْء بَلَغَ نِصْف غَيْره فَقَدْ نَصَفَهُ . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " فَنِصْفُ " بِالرَّفْعِ . وَقَرَأَتْ فِرْقَة " فَنِصْفَ " بِنَصْبِ الْفَاء , الْمَعْنَى فَادْفَعُوا نِصْف . وَقَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَزَيْد بْن ثَابِت " فَنُصْف " بِضَمِّ النُّون فِي جَمِيع الْقُرْآن وَهِيَ لُغَة . وَكَذَلِكَ رَوَى الْأَصْمَعِيّ قِرَاءَة عَنْ أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء يُقَال : نِصْف وَنُصْف وَنَصِيف , , لُغَات ثَلَاث فِي النِّصْف , وَفِي الْحَدِيث : ( لَوْ أَنَّ أَحَدكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أَحَد ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدّ أَحَدهمْ وَلَا نَصِيفه ) أَيْ نِصْفه . وَالنَّصِيف أَيْضًا الْقِنَاع .
إِذَا أَصْدَقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَنَمَا الصَّدَاق فِي يَدهَا فَقَالَ مَالِك : كُلّ عَرَض أَصْدَقَهَا أَوْ عَبْد فَنَمَاؤُهُمَا لَهُمَا جَمِيعًا وَنُقْصَانه بَيْنهمَا , وَتَوَاهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَة مِنْهُ شَيْء . فَإِنْ أَصْدَقهَا عَيْنًا ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَاشْتَرَتْ بِهِ عَبْدًا أَوْ دَارًا أَوْ اِشْتَرَتْ بِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْره طِيبًا أَوْ شُوَارًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَهَا التَّصَرُّف فِيهِ لِجِهَازِهَا وَصَلَاح شَأْنهَا فِي بَقَائِهَا مَعَهُ فَذَلِكَ كُلّه بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا إِيَّاهُ , وَنَمَاؤُهُ وَنُقْصَانه بَيْنهمَا . وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا نِصْفه , وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْرَم لَهُ نِصْف مَا قَبَضَتْهُ مِنْهُ , وَإِنْ اِشْتَرَتْ بِهِ أَوْ مِنْهُ شَيْئًا تَخْتَصّ بِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْرَم لَهُ نِصْف صَدَاقهَا الَّذِي قَبَضَتْ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ لَوْ اِشْتَرَتْ مِنْ غَيْره عَبْدًا أَوْ دَارًا بِالْأَلْفِ الَّذِي أَصْدَقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْأَلْف .
لَا خِلَاف أَنَّ مَنْ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَقَدْ سَمَّى لَهَا أَنَّ لَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى كَامِلًا وَالْمِيرَاث , وَعَلَيْهَا الْعِدَّة .
وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يَخْلُو بِالْمَرْأَةِ وَلَمْ يُجَامِعهَا حَتَّى فَارَقَهَا , فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَمَالِك : عَلَيْهِ جَمِيع الْمَهْر , وَعَلَيْهَا الْعِدَّة , لِخَبَرِ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَضَى الْخُلَفَاء الرَّاشِدُونَ فِيمَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا أَنَّ لَهَا الْمِيرَاث وَعَلَيْهَا الْعِدَّة , وَرُوِيَ مَرْفُوعًا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَسَيَأْتِي فِي [ النِّسَاء ] . وَالشَّافِعِيّ لَا يُوجِب مَهْرًا كَامِلًا , وَلَا عِدَّة إِذَا لَمْ يَكُنْ دُخُول , لِظَاهِرِ الْقُرْآن . قَالَ شُرَيْح : لَمْ أَسْمَع اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابه بَابًا وَلَا سِتْرًا , إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَمَسّهَا فَلَهَا نِصْف الصَّدَاق , وَهُوَ مَذْهَب اِبْن عَبَّاس وَسَيَأْتِي مَا لِعُلَمَائِنَا فِي هَذَا فِي سُورَة [ النِّسَاء ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَقَدْ أَفْضَى بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض " [ النِّسَاء : 21 ] .
" إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ " اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع ; لِأَنَّ عَفْوهنَّ عَنْ النِّصْف لَيْسَ مِنْ جِنْس أَخْذهنَّ . و " يَعْفُونَ " مَعْنَاهُ يَتْرُكْنَ وَيَصْفَحْنَ , وَوَزْنه يَفْعَلْنَ . وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَتْرُكْنَ النِّصْف الَّذِي وَجَبَ لَهُنَّ عِنْد الزَّوْج , وَلَمْ تَسْقُط النُّون مَعَ " أَنْ " ; لِأَنَّ جَمْع الْمُؤَنَّث فِي الْمُضَارِع عَلَى حَالَة وَاحِدَة فِي الرَّفْع وَالنَّصْب وَالْجَزْم , فَهِيَ ضَمِير وَلَيْسَتْ بِعَلَامَةِ إِعْرَاب فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُط , وَلِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَتْ النُّون لَاشْتَبَهَ بِالْمُذَكَّرِ . وَالْعَافِيَات فِي هَذِهِ الْآيَة كُلّ اِمْرَأَة تَمْلِك أَمْر نَفْسهَا , فَأَذِنَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَهُنَّ فِي إِسْقَاطه بَعْد وُجُوبه , إِذْ جَعَلَهُ خَالِص حَقّهنَّ , فَيَتَصَرَّفْنَ فِيهِ بِالْإِمْضَاءِ وَالْإِسْقَاط كَيْف شِئْنَ , إِذَا مَلَكْنَ أَمْر أَنْفُسهنَّ وَكُنَّ بَالِغَات عَاقِلَات رَاشِدَات . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَجَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء وَالتَّابِعِينَ : وَيَجُوز عَفْو الْبِكْر الَّتِي لَا وَلِيّ لَهَا , وَحَكَاهُ سَحْنُون فِي الْمُدَوَّنَة عَنْ غَيْر اِبْن الْقَاسِم بَعْد أَنْ ذُكِرَ لِابْنِ الْقَاسِم أَنَّ وَضْعهَا نِصْف الصَّدَاق لَا يَجُوز . وَأَمَّا الَّتِي فِي حِجْر أَب أَوْ وَصِيّ فَلَا يَجُوز وَضْعهَا لِنِصْفِ صَدَاقهَا قَوْلًا وَاحِدًا , وَلَا خِلَاف فِيهِ فِيمَا أَعْلَم .
" أَوْ يَعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ " مَعْطُوف عَلَى الْأَوَّل مَبْنِيّ , وَهَذَا مُعْرَب . وَقَرَأَ الْحَسَن " أَوْ يَعْفُو " سَاكِنَة الْوَاو , كَأَنَّهُ اِسْتَثْقَلَ الْفَتْحَة فِي الْوَاو . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ " فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جُبَيْر بْن مُطْعِم أَنَّهُ تَزَوَّجَ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي نَصْر فَطَلَّقَهَا قَبْل أَنْ يَدْخُل بِهَا , فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِالصَّدَاقِ كَامِلًا وَقَالَ : أَنَا أَحَقّ بِالْعَفْوِ مِنْهَا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ " وَأَنَا أَحَقّ بِالْعَفْوِ مِنْهَا . وَتَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ يَعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح " يَعْنِي نَفْسه فِي كُلّ حَال قَبْل الطَّلَاق وَبَعْده , أَيْ عُقْدَة نِكَاحه , فَلَمَّا أَدْخَلَ اللَّام حَذَفَ الْهَاء كَقَوْلِهِ : " فَإِنَّ الْجَنَّة هِيَ الْمَأْوَى " [ النَّازِعَات : 41 ] أَيْ مَأْوَاهُ . قَالَ النَّابِغَة : لَهُمْ شِيمَة لَمْ يُعْطِهَا اللَّه غَيْرهمْ مِنْ الْجُود وَالْأَحْلَام غَيْر عَوَازِب أَيْ أَحْلَامهمْ . وَكَذَلِكَ قَوْله : " عُقْدَة النِّكَاح " أَيْ عُقْدَة نِكَاحه . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث قُتَيْبَة بْن سَعِيد حَدَّثَنَا اِبْن لَهِيعَة عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلِيّ عُقْدَة النِّكَاح الزَّوْج ) . وَأُسْنِدَ هَذَا عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَشُرَيْح . قَالَ : وَكَذَلِكَ قَالَ نَافِع بْن جُبَيْر وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَطَاوُس وَمُجَاهِد وَالشَّعْبِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر , زَادَ غَيْره وَمُجَاهِد وَالثَّوْرِيّ , وَاخْتَارَهُ أَبُو حَنِيفَة , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ , كُلّهمْ لَا يَرَى سَبِيلًا لِلْوَلِيِّ عَلَى شَيْء مِنْ صَدَاقهَا , لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيّ لَوْ أَبْرَأَ الزَّوْج مِنْ الْمَهْر قَبْل الطَّلَاق لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ بَعْده . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَلِيّ لَا يَمْلِك أَنْ يَهَب شَيْئًا مِنْ مَالهَا , وَالْمَهْر مَالهَا . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاء مَنْ لَا يَجُوز عَفْوهمْ وَهُمْ بَنُو الْعَمّ وَبَنُو الْإِخْوَة , فَكَذَلِكَ الْأَب , وَاَللَّه أَعْلَم . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ الْوَلِيّ أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : وَهُوَ قَوْل إِبْرَاهِيم وَعَلْقَمَة وَالْحَسَن , زَادَ غَيْره وَعِكْرِمَة وَطَاوُس وَعَطَاء وَأَبِي الزِّنَاد وَزَيْد بْن أَسْلَم وَرَبِيعَة وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَابْن شِهَاب وَالْأَسْوَد بْن يَزِيد وَالشَّعْبِيّ وَقَتَادَة وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم . فَيَجُوز لِلْأَبِ الْعَفْو عَنْ نِصْف صَدَاق اِبْنَته الْبِكْر إِذَا طُلِّقَتْ , بَلَغَتْ الْمَحِيض أَمْ لَمْ تَبْلُغهُ . قَالَ عِيسَى بْن دِينَار : وَلَا تَرْجِع بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى أَبِيهَا , وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْمُرَاد الْوَلِيّ أَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى قَالَ فِي أَوَّل الْآيَة : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة فَنِصْف مَا فَرَضْتُمْ " فَذَكَرَ الْأَزْوَاج وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَاب , ثُمَّ قَالَ : " إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ " فَذَكَرَ النِّسْوَان , " أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح " فَهُوَ ثَالِث فَلَا يُرَدّ إِلَى الزَّوْج الْمُتَقَدِّم إِلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ وُجُود , وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوَلِيّ فَهُوَ الْمُرَاد . قَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيّ وَذَكَرَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ " وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَيْسَ كُلّ اِمْرَأَة تَعْفُو , فَإِنَّ الصَّغِيرَة وَالْمَحْجُور عَلَيْهَا لَا عَفْو لَهُمَا , فَبَيَّنَ اللَّه الْقِسْمَيْنِ فَقَالَ : " إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ " أَيْ إِنْ كُنَّ لِذَلِكَ أَهْلًا , " أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح " وَهُوَ الْوَلِيّ , لِأَنَّ الْأَمْر فِيهِ إِلَيْهِ . وَكَذَلِكَ رَوَى اِبْن وَهْب وَأَشْهَب وَابْن عَبْد الْحَكَم وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّهُ الْأَب فِي اِبْنَته الْبِكْر وَالسَّيِّد فِي أَمَته . وَإِنَّمَا يَجُوز عَفْو الْوَلِيّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل السَّدَاد , وَلَا يَجُوز عَفْوه إِذَا كَانَ سَفِيهًا . فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّم أَنَّهُ الْوَلِيّ بَلْ هُوَ الزَّوْج , وَهَذَا الِاسْم أَوْلَى بِهِ ; لِأَنَّهُ أَمْلَك لِلْعَقْدِ مِنْ الْوَلِيّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . فَالْجَوَاب - أَنَّا لَا نُسَلِّم أَنَّ الزَّوْج أَمْلَك لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَب فِي اِبْنَته الْبِكْر , بَلْ أَب الْبِكْر يَمْلِكهُ خَاصَّة دُون الزَّوْج ; لِأَنَّ الْمَعْقُود عَلَيْهِ هُوَ بُضْع الْبِكْر , وَلَا يَمْلِك الزَّوْج أَنْ يَعْقِد عَلَى ذَلِكَ بَلْ الْأَب يَمْلِكهُ . وَقَدْ أَجَازَ شُرَيْح عَفْو الْأَخ عَنْ نِصْف الْمَهْر , وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَة : يَجُوز عَفْو الَّذِي عَقَدَ عُقْدَة النِّكَاح بَيْنهمَا , كَانَ عَمًّا أَوْ أَبًا أَوْ أَخًا , وَإِنْ كَرِهَتْ . وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك وَالشَّعْبِيّ " أَوْ يَعْفُو " بِإِسْكَانِ الْوَاو عَلَى التَّشْبِيه بِالْأَلِفِ , وَمِثْله قَوْل الشَّاعِر : فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِر عَنْ وِرَاثَة أَبَى اللَّه أَنْ أَسْمُو بِأُمٍّ وَلَا أَب
اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَالْأَصْل تَعْفُوُوا أُسْكِنَتْ الْوَاو الْأُولَى لِثِقَلِ حَرَكَتهَا ثُمَّ حُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَهُوَ خِطَاب لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاء فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس فَغَلَبَ الذُّكُور , وَاللَّام بِمَعْنَى إِلَى , أَيْ أَقْرَب إِلَى التَّقْوَى . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " تَعْفُوا " بِالتَّاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْق . وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك وَالشَّعْبِيّ " وَأَنْ يَعْفُوا " بِالْيَاءِ , وَذَلِكَ رَاجِع إِلَى الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح . قُلْت : وَلَمْ يَقْرَأ " وَأَنْ تَعْفُونَ " بِالتَّاءِ فَيَكُون لِلنِّسَاءِ . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " وَلَا تَنْسُوا الْفَضْل " بِضَمِّ الْوَاو , وَكَسَرَهَا يَحْيَى بْن يَعْمَر . وَقَرَأَ عَلِيّ وَمُجَاهِد وَأَبُو حَيْوَة وَابْن أَبِي عَبْلَة " وَلَا تَنَاسَوْا الْفَضْل " وَهِيَ قِرَاءَة مُتَمَكِّنَة الْمَعْنَى , لِأَنَّهُ مَوْضِع تَنَاسٍ لَا نِسْيَان إِلَّا عَلَى التَّشْبِيه . قَالَ مُجَاهِد : الْفَضْل إِتْمَام الرَّجُل الصَّدَاق كُلّه , أَوْ تَرْك الْمَرْأَة النِّصْف الَّذِي لَهَا .
خَبَر فِي ضِمْنه الْوَعْد لِلْمُحْسِنِ وَالْحِرْمَان لِغَيْرِ الْمُحْسِن , أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَفْوكُمْ وَاسْتِقْضَاؤُكُمْ .
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : " حَافِظُوا " خِطَاب لِجَمِيعِ الْأُمَّة , وَالْآيَة أَمْر بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى إِقَامَة الصَّلَوَات فِي أَوْقَاتهَا بِجَمِيعِ شُرُوطهَا . وَالْمُحَافَظَة هِيَ الْمُدَاوَمَة عَلَى الشَّيْء وَالْمُوَاظَبَة عَلَيْهِ . وَالْوُسْطَى تَأْنِيث الْأَوْسَط . وَوَسَط الشَّيْء خَيْره وَأَعْدَله , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا " [ الْبَقَرَة : 143 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَالَ أَعْرَابِيّ يَمْدَح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَوْسَط النَّاس طُرًّا فِي مَفَاخِرهمْ وَأَكْرَم النَّاس أُمًّا بَرَّة وَأَبَا وَوَسَطَ فُلَان الْقَوْم يَسِطهُمْ أَيْ صَارَ فِي وَسَطهمْ . وَأَفْرَدَ الصَّلَاة الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ وَقَدْ دَخَلَتْ قَبْل فِي عُمُوم الصَّلَوَات تَشْرِيفًا لَهَا , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقهمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوح " [ الْأَحْزَاب : 7 ] , وَقَوْله : " فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : 68 ] . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْوَاسِطِيّ " وَالصَّلَاةَ الْوُسْطَى " بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاء , أَيْ وَالْزَمُوا الصَّلَاة الْوُسْطَى : وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحَلْوَانِيّ . وَقَرَأَ قَالُون عَنْ نَافِع " الْوُصْطَى " بِالصَّادِ لِمُجَاوَرَةِ الطَّاء لَهَا ; لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيِّز وَاحِد , وَهُمَا لُغَتَانِ كَالصِّرَاطِ وَنَحْوه .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي تَعْيِين الصَّلَاة الْوُسْطَى عَلَى عَشَرَة أَقْوَال :
[ الْأَوَّل ] أَنَّهَا الظُّهْر ; لِأَنَّهَا وَسَط النَّهَار عَلَى الصَّحِيح مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ النَّهَار أَوَّله مِنْ طُلُوع الْفَجْر كَمَا تَقَدَّمَ , وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالظُّهْرِ لِأَنَّهَا أَوَّل صَلَاة صُلِّيَتْ فِي الْإِسْلَام . وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا الْوُسْطَى زَيْد بْن ثَابِت وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا وُسْطَى مَا قَالَتْهُ عَائِشَة وَحَفْصَة حِين أَمْلَتَا " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر " بِالْوَاوِ . وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ أَشَقّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تَجِيء فِي الْهَاجِرَة وَهُمْ قَدْ نَفَّهَتْهُمْ أَعْمَالهمْ فِي أَمْوَالهمْ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ زَيْد قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْر بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ تَكُنْ تُصَلَّى صَلَاة أَشَدّ عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا , فَنَزَلَتْ : " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى " وَقَالَ : إِنَّ قَبْلهَا صَلَاتَيْنِ وَبَعْدهَا صَلَاتَيْنِ . وَرَوَى مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده عَنْ زَيْد بْن ثَابِت قَالَ : الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الظُّهْر , زَادَ الطَّيَالِسِيّ : وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا بِالْهَجِيرِ .
[ الثَّانِي ] إِنَّهَا الْعَصْر ; لِأَنَّ قَبْلهَا صَلَاتَيْ نَهَار وَبَعْدهَا صَلَاتَيْ لَيْل . قَالَ النَّحَّاس : وَأَجْوَد مِنْ هَذَا الِاحْتِجَاج أَنْ يَكُون إِنَّمَا قِيلَ لَهَا وُسْطَى لِأَنَّهَا بَيْن صَلَاتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَوَّل مَا فُرِضَ وَالْأُخْرَى الثَّانِيَة مِمَّا فُرِضَ . وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ , وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه , وَقَالَهُ الشَّافِعِيّ وَأَكْثَر أَهْل الْأَثَر , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْد الْمَلِك بْن حَبِيب وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي قَبَسه وَابْن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره وَقَالَ : وَعَلَى هَذَا الْقَوْل الْجُمْهُور مِنْ النَّاس وَبِهِ أَقُول وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب خَرَّجَهَا مُسْلِم وَغَيْره , وَأَنَصُّهَا حَدِيث اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَدْ أَتَيْنَا زِيَادَة عَلَى هَذَا فِي الْقَبَس فِي شَرْح مُوَطَّأ مَالِك بْن أَنَس .
[ الثَّالِث ] إِنَّهَا الْمَغْرِب , قَالَهُ قَبِيصَة بْن أَبِي ذُؤَيْب فِي جَمَاعَة . وَالْحُجَّة لَهُمْ أَنَّهَا مُتَوَسِّطَة فِي عَدَد الرَّكَعَات لَيْسَتْ بِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرهَا وَلَا تُقْصَر فِي السَّفَر , وَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَخِّرهَا عَنْ وَقْتهَا وَلَمْ يُعَجِّلهَا , وَبَعْدهَا صَلَاتَا جَهْر وَقَبْلهَا صَلَاتَا سِرّ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ أَفْضَل الصَّلَوَات عِنْد اللَّه صَلَاة الْمَغْرِب لَمْ يَحُطّهَا عَنْ مُسَافِر وَلَا مُقِيم فَتَحَ اللَّه بِهَا صَلَاة اللَّيْل وَخَتَمَ بِهَا صَلَاة النَّهَار فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِب وَصَلَّى بَعْدهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّه لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّة وَمَنْ صَلَّى بَعْدهَا أَرْبَع رَكَعَات غَفَرَ اللَّه لَهُ ذُنُوب عِشْرِينَ سَنَة - أَوْ قَالَ - أَرْبَعِينَ سَنَة ) .
[ الرَّابِع ] صَلَاة الْعِشَاء الْآخِرَة ; لِأَنَّهَا بَيْن صَلَاتَيْنِ لَا تُقْصَرَانِ , وَتَجِيء فِي وَقْت نَوْم وَيُسْتَحَبّ تَأْخِيرهَا وَذَلِكَ شَاقّ فَوَقَعَ التَّأْكِيد فِي الْمُحَافَظَة عَلَيْهَا .
[ الْخَامِس ] إِنَّهَا الصُّبْح ; لِأَنَّ قَبْلهَا صَلَاتَيْ لَيْل يُجْهَر فِيهِمَا وَبَعْدهَا صَلَاتَيْ نَهَار يُسَرّ فِيهِمَا , وَلِأَنَّ وَقْتهَا يَدْخُل وَالنَّاس نِيَام , وَالْقِيَام إِلَيْهَا شَاقّ فِي زَمَن الْبَرْد لِشِدَّةِ الْبَرْد وَفِي زَمَن الصَّيْف لِقِصَرِ اللَّيْل . وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعَبْد اللَّه بْن عَبَّاس , أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأ بَلَاغًا , وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس تَعْلِيقًا , وَرُوِيَ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه وَإِلَيْهِ مَيْل الشَّافِعِيّ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ الْقُشَيْرِيّ . وَالصَّحِيح عَنْ عَلِيّ أَنَّهَا الْعَصْر , وَرُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ وَجْه مَعْرُوف صَحِيح وَقَدْ اِسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا الصُّبْح بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " يَعْنِي فِيهَا , وَلَا صَلَاة مَكْتُوبَة فِيهَا قُنُوت إِلَّا الصُّبْح . قَالَ أَبُو رَجَاء : صَلَّى بِنَا اِبْن عَبَّاس صَلَاة الْغَدَاة بِالْبَصْرَةِ فَقَنَتَ فِيهَا قَبْل الرُّكُوع وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : هَذِهِ الصَّلَاة الْوُسْطَى الَّتِي أَمَرَنَا اللَّه تَعَالَى أَنْ نَقُوم فِيهَا قَانِتِينَ . وَقَالَ أَنَس : قَنَتَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاة الصُّبْح بَعْد الرُّكُوع , وَسَيَأْتِي حُكْم الْقُنُوت وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ فِي [ آل عِمْرَان ] عِنْد قَوْله تَعَالَى : " لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء " .
[ السَّادِس ] صَلَاة الْجُمُعَة , لِأَنَّهَا خُصَّتْ بِالْجَمْعِ لَهَا وَالْخُطْبَة فِيهَا وَجُعِلَتْ عِيدًا ذَكَرَهُ اِبْن حَبِيب وَمَكِّيّ وَرَوَى مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَة : ( لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُر رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَحْرِق عَلَى رِجَال يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَة بُيُوتهمْ ) .
[ السَّابِع ] إِنَّهَا الصُّبْح وَالْعَصْر مَعًا . قَالَهُ الشَّيْخ أَبُو بَكْر الْأَبْهَرِيّ , وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَة بِالنَّهَارِ ) الْحَدِيث , رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة . وَرَوَى جَرِير بْن عَبْد اللَّه قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر فَقَالَ : ( أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَر لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَته فَإِنْ اِسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاة قَبْل طُلُوع الشَّمْس وَصَلَاة قَبْل غُرُوبهَا ) يَعْنِي الْعَصْر وَالْفَجْر : ثُمَّ قَرَأَ جَرِير " وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّك قَبْل طُلُوع الشَّمْس وَقَبْل غُرُوبهَا " [ قِ : 39 ] . وَرَوَى عُمَارَة بْن رُؤَيْبَة قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَنْ يَلِج النَّار أَحَد صَلَّى قَبْل طُلُوع الشَّمْس وَقَبْل غُرُوبهَا ) يَعْنِي الْفَجْر وَالْعَصْر . وَعَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّة ) كُلّه ثَابِت فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره . وَسُمِّيَتَا الْبَرْدَيْنِ لِأَنَّهُمَا يُفْعَلَانِ فِي وَقْتَيْ الْبَرْد .
[ الثَّامِن ] إِنَّهَا الْعَتَمَة وَالصُّبْح . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي مَرَضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ : ( اِسْمَعُوا وَبَلِّغُوا مَنْ خَلْفكُمْ حَافِظُوا عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ - يَعْنِي فِي جَمَاعَة - الْعِشَاء وَالصُّبْح , وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى مَرَافِقكُمْ وَرُكَبِكُمْ ) قَالَهُ عُمَر وَعُثْمَان . وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَة وَالصُّبْح لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا - وَقَالَ - إِنَّهُمَا أَشَدّ الصَّلَاة عَلَى الْمُنَافِقِينَ ) وَجَعَلَ لِمُصَلِّي الصُّبْح فِي جَمَاعَة قِيَام لَيْلَة وَالْعَتَمَة نِصْف لَيْلَة , ذَكَرَهُ مَالِك مَوْقُوفًا عَلَى عُثْمَان وَرَفَعَهُ مُسْلِم , وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ شَهِدَ الْعِشَاء فِي جَمَاعَة كَانَ لَهُ قِيَام نِصْف لَيْلَة وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاء وَالْفَجْر فِي جَمَاعَة كَانَ لَهُ كَقِيَامِ لَيْلَة ) وَهَذَا خِلَاف مَا رَوَاهُ مَالِك وَمُسْلِم .
[ التَّاسِع ] أَنَّهَا الصَّلَوَات الْخَمْس بِجُمْلَتِهَا , قَالَهُ مُعَاذ بْن جَبَل ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات " يَعُمّ الْفَرْض وَالنَّفْل , ثُمَّ خُصَّ الْفَرْض بِالذِّكْرِ .
[ الْعَاشِر ] إِنَّهَا غَيْر مُعَيَّنَة , قَالَهُ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر , وَقَالَهُ الرَّبِيع بْن خَيْثَم فَخَبَّأَهَا اللَّه تَعَالَى فِي الصَّلَوَات كَمَا خَبَّأَ لَيْلَة الْقَدْر فِي رَمَضَان , وَكَمَا خَبَّأَ سَاعَة يَوْم الْجُمُعَة وَسَاعَات اللَّيْل الْمُسْتَجَاب فِيهَا الدُّعَاء لِيَقُومُوا بِاللَّيْلِ فِي الظُّلُمَات لِمُنَاجَاةِ عَالِم الْخَفِيَّات . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى صِحَّة أَنَّهَا مُبْهَمَة غَيْر مُعَيَّنَة مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه فِي آخِر الْبَاب عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَصَلَاة الْعَصْر " فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّه , ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّه فَنَزَلَتْ : " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى " فَقَالَ رَجُل : هِيَ إِذًا صَلَاة الْعَصْر ؟ قَالَ الْبَرَاء : قَدْ أَخْبَرْتُك كَيْف نَزَلَتْ وَكَيْف نَسَخَهَا اللَّه تَعَالَى , وَاَللَّه أَعْلَم . فَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا بَعْد أَنْ عُيِّنَتْ نُسِخَ تَعْيِينهَا وَأُبْهِمَتْ فَارْتَفَعَ التَّعْيِين , وَاَللَّه أَعْلَم . وَهَذَا اِخْتِيَار مُسْلِم ; لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي آخِر الْبَاب وَقَالَ بِهِ غَيْر وَاحِد مِنْ الْعُلَمَاء الْمُتَأَخِّرِينَ , وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّة وَعَدَم التَّرْجِيح فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُحَافَظَة عَلَى جَمِيعهَا وَأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتهَا وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّالِثَة : وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي الصَّلَاة الْوُسْطَى يَدُلّ عَلَى بُطْلَان مَنْ أَثْبَتَ " وَصَلَاة الْعَصْر " الْمَذْكُور فِي حَدِيث أَبِي يُونُس مَوْلَى عَائِشَة حِين أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُب لَهَا مُصْحَفًا قُرْآنًا . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَالتَّفْسِيرِ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيث عَمْرو بْن رَافِع قَالَ : ( أَمَرَتْنِي حَفْصَة أَنْ أَكْتُب لَهَا مُصْحَفًا . .. ) الْحَدِيث . وَفِيهِ : فَأَمْلَتْ عَلَيَّ " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى - وَهِيَ الْعَصْر - وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " وَقَالَتْ : هَكَذَا سَمِعْتهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَءُوهَا . فَقَوْلهَا : " وَهِيَ الْعَصْر " دَلِيل عَلَى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الصَّلَاة الْوُسْطَى مِنْ كَلَام اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ هُوَ ( وَهِيَ الْعَصْر ) . وَقَدْ رَوَى نَافِع عَنْ حَفْصَة " وَصَلَاة الْعَصْر " , كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة وَعَنْ حَفْصَة أَيْضًا " صَلَاة الْعَصْر " بِغَيْرِ وَاو . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَهَذَا الْخِلَاف فِي هَذَا اللَّفْظ الْمَزِيد يَدُلّ عَلَى بُطْلَانه وَصِحَّة مَا فِي الْإِمَام مُصْحَف جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ . وَعَلَيْهِ حُجَّة أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ : وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر جَعَلَ الصَّلَاة الْوُسْطَى غَيْر الْعَصْر , وَفِي هَذَا دَفْع لِحَدِيثِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ عَبْد اللَّه قَالَ : شَغَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْأَحْزَاب عَنْ صَلَاة الْعَصْر حَتَّى اِصْفَرَّتْ الشَّمْس فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى مَلَأَ اللَّه أَجْوَافهمْ وَقُبُورهمْ نَارًا . .. ) الْحَدِيث .
الرَّابِعَة : وَفِي قَوْله تَعَالَى : " وَالصَّلَاة الْوُسْطَى " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْوِتْر لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اِتَّفَقُوا عَلَى أَعْدَاد الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَات أَنَّهَا تَنْقُص عَنْ سَبْعَة وَتَزِيد عَلَى ثَلَاثَة وَلَيْسَ بَيْن الثَّلَاثَة وَالسَّبْعَة فَرْد إِلَّا الْخَمْسَة وَالْأَزْوَاج لَا وَسَط لَهَا فَثَبَتَ أَنَّهَا خَمْسَة . وَفِي حَدِيث الْإِسْرَاء : ( هِيَ خَمْس وَهُنَّ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّل الْقَوْل لَدَيَّ ) .
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : مَعْنَاهُ فِي صَلَاتكُمْ . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي مَعْنَى قَوْله " قَانِتِينَ " فَقَالَ الشَّعْبِيّ : طَائِعِينَ , وَقَالَهُ جَابِر بْن زَيْد وَعَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر . وَقَالَ الضَّحَّاك : كُلّ قُنُوت فِي الْقُرْآن فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الطَّاعَة . وَقَالَهُ أَبُو سَعِيد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنَّ أَهْل كُلّ دِينٍ فَهُمْ الْيَوْم يَقُومُونَ عَاصِينَ , فَقِيلَ لِهَذِهِ الْأُمَّة فَقُومُوا لِلَّهِ طَائِعِينَ . وَقَالَ مُجَاهِد : مَعْنَى قَانِتِينَ خَاشِعِينَ , وَالْقُنُوت طُول الرُّكُوع وَالْخُشُوع وَغَضّ الْبَصَر وَخَفْض الْجُنَاح . وَقَالَ الرَّبِيع : الْقُنُوت طُول الْقِيَام , وَقَالَهُ اِبْن عُمَر وَقَرَأَ " أَمَّنْ هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدًا وَقَائِمًا " [ الزُّمَر : 9 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام . ( أَفْضَل الصَّلَاة طُول الْقُنُوت ) خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَقَالَ الشَّاعِر : قَانِتًا لِلَّهِ يَدْعُو رَبّه وَعَلَى عَمْدٍ مِنْ النَّاس اِعْتَزَلْ وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " قَانِتِينَ " دَاعِينَ . وَفِي الْحَدِيث : ( قَنَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْل وَذَكْوَان ) قَالَ قَوْم : مَعْنَاهُ دَعَا , وَقَالَ قَوْم : مَعْنَاهُ طَوَّلَ قِيَامه . وَقَالَ السُّدِّيّ : " قَانِتِينَ " سَاكِتِينَ , دَلِيله أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْمَنْع مِنْ الْكَلَام فِي الصَّلَاة وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي صَدْر الْإِسْلَام , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم وَغَيْره عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : كُنَّا نُسَلِّم عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَيَرُدّ عَلَيْنَا , فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْد النَّجَاشِيّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , كُنَّا نُسَلِّم عَلَيْك فِي الصَّلَاة فَتَرُدّ عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ فِي الصَّلَاة شُغْلًا ) . وَرَوَى زَيْد بْن أَرْقَم قَالَ : كُنَّا نَتَكَلَّم فِي الصَّلَاة يُكَلِّم الرَّجُل صَاحِبه وَهُوَ إِلَى جَنْبه فِي الصَّلَاة حَتَّى نَزَلَتْ : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَام . وَقِيلَ : إِنَّ أَصْل الْقُنُوت فِي اللُّغَة الدَّوَام عَلَى الشَّيْء . وَمِنْ حَيْثُ كَانَ أَصْل الْقُنُوت فِي اللُّغَة الدَّوَام عَلَى الشَّيْء جَازَ أَنْ يُسَمَّى مُدِيم الطَّاعَة قَانِتًا , وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَالَ الْقِيَام وَالْقِرَاءَة وَالدُّعَاء فِي الصَّلَاة , أَوْ أَطَالَ الْخُشُوع وَالسُّكُوت , كُلّ هَؤُلَاءِ فَاعِلُونَ لِلْقُنُوتِ .
الثَّانِيَة : قَالَ أَبُو عُمَر : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ طُرًّا أَنَّ الْكَلَام عَامِدًا فِي الصَّلَاة إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي يَعْلَم أَنَّهُ فِي صَلَاة , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي إِصْلَاح صَلَاته أَنَّهُ يُفْسِد الصَّلَاة , إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ تَكَلَّمَ لِإِحْيَاءِ نَفْس أَوْ مِثْل ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور الْجِسَام لَمْ تَفْسُد صَلَاته بِذَلِكَ . وَهُوَ قَوْل ضَعِيف فِي النَّظَر , لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " وَقَالَ زَيْد بْن أَرْقَم : ( كُنَّا نَتَكَلَّم فِي الصَّلَاة حَتَّى نَزَلَتْ : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " . .. ) الْحَدِيث . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه أَحْدَثَ مِنْ أَمْره أَلَّا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاة ) . وَلَيْسَ الْحَادِث الْجَسِيم الَّذِي يَجِب لَهُ قَطْع الصَّلَاة وَمِنْ أَجْله يَمْنَع مِنْ الِاسْتِئْنَاف , فَمَنْ قَطَعَ صَلَاته لِمَا يَرَاهُ مِنْ الْفَضْل فِي إِحْيَاء نَفْس أَوْ مَال أَوْ مَا كَانَ بِسَبِيلِ ذَلِكَ اِسْتَأْنَفَ صَلَاته وَلَمْ يَبْنِ . هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلَام سَاهِيًا فِيهَا , فَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا إِلَى أَنَّ الْكَلَام فِيهَا سَاهِيًا لَا يُفْسِدهَا , غَيْر أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَا يُفْسِد الصَّلَاة تَعَمُّد الْكَلَام فِيهَا إِذَا كَانَ فِي شَأْنهَا لِإِصْلَاحِهَا , وَهُوَ قَوْل رَبِيعَة وَابْن الْقَاسِم . وَرَوَى سَحْنُون عَنْ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك قَالَ : لَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّى بِهِمْ الْإِمَام رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ سَاهِيًا فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَفْقَه , فَقَالَ لَهُ رَجُل مِنْ خَلْفه مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ فِي الصَّلَاة : إِنَّك لَمْ تُتِمّ فَأَتِمَّ صَلَاتك , فَالْتَفَتَ إِلَى الْقَوْم فَقَالَ : أَحَقّ مَا يَقُول هَذَا ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ , قَالَ : يُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَام مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتهمْ وَيُصَلُّونَ مَعَهُ بَقِيَّة صَلَاتهمْ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَتَكَلَّم وَلَا شَيْء عَلَيْهِمْ وَيَفْعَلُونَ فِي ذَلِكَ مَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ . هَذَا قَوْل اِبْن الْقَاسِم فِي كِتَابه الْمُدَوَّنَة وَرِوَايَته عَنْ مَالِك , وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك وَإِيَّاهُ تَقَلَّدَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق وَاحْتَجَّ لَهُ فِي كِتَاب رَدَّهُ عَلَى مُحَمَّد بْن الْحَسَن . وَذَكَرَ الْحَارِث بْن مِسْكِين قَالَ : أَصْحَاب مَالِك كُلّهمْ عَلَى خِلَاف قَوْل مَالِك فِي مَسْأَلَة ذِي الْيَدَيْنِ إِلَّا اِبْن الْقَاسِم وَحْده فَإِنَّهُ يَقُول فِيهَا بِقَوْلِ مَالِك , وَغَيْرهمْ يَأْبَوْنَهُ وَيَقُولُونَ : إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي صَدْر الْإِسْلَام , فَأَمَّا الْآن فَقَدْ عَرَفَ النَّاس صَلَاتهمْ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا أَعَادَهَا , وَهَذَا هُوَ قَوْل الْعِرَاقِيِّينَ : أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْكَلَام فِي الصَّلَاة يُفْسِدهَا عَلَى أَيّ حَال كَانَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا لِصَلَاةٍ كَانَ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ , وَهُوَ قَوْل إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَعَطَاء وَالْحَسَن وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَقَتَادَة . وَزَعَمَ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة أَنَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة هَذَا فِي قِصَّة ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخ بِحَدِيثِ اِبْن مَسْعُود وَزَيْد بْن أَرْقَم , قَالُوا : وَإِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَة مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَام فَإِنَّهُ أَرْسَلَ حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا أَرْسَلَ حَدِيث ( مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْر جُنُبًا فَلَا صَوْم لَهُ ) قَالُوا : وَكَانَ كَثِير الْإِرْسَال . وَذَكَرَ عَلِيّ بْن زِيَاد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّة قَالَ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُول : يُسْتَحَبّ إِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُل فِي الصَّلَاة أَنْ يَعُود لَهَا وَلَا يَبْنِي . قَالَ : وَقَالَ لَنَا مَالِك إِنَّمَا تَكَلَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ أَصْحَابه مَعَهُ يَوْمئِذٍ ; لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الصَّلَاة قَصُرَتْ وَلَا يَجُوز ذَلِكَ لِأَحَدٍ الْيَوْم . وَقَدْ رَوَى سَحْنُون عَنْ اِبْن الْقَاسِم فِي رَجُل صَلَّى وَحْده فَفَرَغَ عِنْد نَفْسه مِنْ الْأَرْبَع , فَقَالَ لَهُ رَجُل إِلَى جَنْبه : إِنَّك لَمْ تُصَلِّ إِلَّا ثَلَاثًا , فَالْتَفَتَ إِلَى آخَر فَقَالَ : أَحَقّ مَا يَقُولهُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : تَفْسُد صَلَاته وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَلِّمهُ وَلَا أَنْ يَلْتَفِت إِلَيْهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : فَكَانُوا يُفَرِّقُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة بَيْن الْإِمَام مَعَ الْجَمَاعَة وَالْمُنْفَرِد فَيُجِيزُونَ مِنْ الْكَلَام فِي شَأْن الصَّلَاة لِلْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ مَا لَا يُجِيزُونَهُ لِلْمُنْفَرِدِ , وَكَانَ غَيْر هَؤُلَاءِ يَحْمِلُونَ جَوَاب اِبْن الْقَاسِم فِي الْمُنْفَرِد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَفِي الْإِمَام وَمَنْ مَعَهُ عَلَى اِخْتِلَاف مِنْ قَوْله فِي اِسْتِعْمَال حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا اِخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي ذَلِكَ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه : مَنْ تَعَمَّدَ الْكَلَام وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُ لَمْ يُتِمّ الصَّلَاة وَأَنَّهُ فِيهَا أَفْسَدَ صَلَاته , فَإِنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا أَوْ تَكَلَّمَ وَهُوَ يَظُنّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاة لِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَهَا عِنْد نَفْسه فَإِنَّهُ يَبْنِي . وَاخْتَلَفَ قَوْل أَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فَذَكَرَ الْأَثْرَم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْإِنْسَان فِي صَلَاته لِإِصْلَاحِهَا لَمْ تَفْسُد عَلَيْهِ صَلَاته , فَإِنْ تَكَلَّمَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَسَدَتْ , وَهَذَا هُوَ قَوْل مَالِك الْمَشْهُور . وَذَكَرَ الْخِرَقِيّ عَنْهُ أَنَّ مَذْهَبه فِيمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاته , إِلَّا الْإِمَام خَاصَّة فَإِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ صَلَاته لَمْ تَبْطُل صَلَاته . وَاسْتَثْنَى سَحْنُون مِنْ أَصْحَاب مَالِك أَنَّ مَنْ سَلَّمَ مِنْ اِثْنَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّة فَوَقَعَ الْكَلَام هُنَاكَ لَمْ تَبْطُل الصَّلَاة , وَإِنْ وَقَعَ فِي غَيْر ذَلِكَ بَطَلَتْ الصَّلَاة . وَالصَّحِيح مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك فِي الْمَشْهُور تَمَسُّكًا بِالْحَدِيثِ وَحَمْلًا لَهُ عَلَى الْأَصْل الْكُلِّيّ مِنْ تَعَدِّي الْأَحْكَام وَعُمُوم الشَّرِيعَة , وَدَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّم مِنْ الْخُصُوصِيَّة إِذْ لَا دَلِيل عَلَيْهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَقَدْ جَرَى الْكَلَام فِي الصَّلَاة وَالسَّهْو أَيْضًا وَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : ( التَّسْبِيح لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيق لِلنِّسَاءِ ) فَلِمَ لَمْ يُسَبِّحُوا ؟ فَقَالَ : لَعَلَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لَمْ يَكُنْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ , وَلَئِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْت فَلَمْ يُسَبِّحُوا , لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ الصَّلَاة قَصُرَتْ , وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيث قَالَ : وَخَرَجَ سَرَعَان النَّاس فَقَالُوا : أَقَصُرَتْ الصَّلَاة ؟ فَلَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ الْكَلَام لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَقَدْ قَالَ بَعْض الْمُخَالِفِينَ : قَوْل أَبِي هُرَيْرَة ( صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُرَاده أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُمْ , كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّزَّال بْن سَبْرَة أَنَّهُ قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّا وَإِيَّاكُمْ كُنَّا نُدْعَى بَنِي عَبْد مَنَافٍ وَأَنْتُمْ الْيَوْم بَنُو عَبْد اللَّه وَنَحْنُ بَنُو عَبْد اللَّه ) وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ وَهَذَا بَعِيد , فَإِنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَقُول صَلَّى بِنَا وَهُوَ إِذْ ذَاكَ كَافِر لَيْسَ مِنْ أَهْل الصَّلَاة وَيَكُون ذَلِكَ كَذِبًا , وَحَدِيث النَّزَّال هُوَ كَانَ مِنْ جُمْلَة الْقَوْم وَسَمِعَ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعَ . وَأَمَّا مَا اِدَّعَتْهُ الْحَنَفِيَّة مِنْ النَّسْخ وَالْإِرْسَال فَقَدْ أَجَابَ عَنْ قَوْلهمْ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرهمْ وَأَبْطَلُوهُ , وَخَاصَّة الْحَافِظ أَبَا عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ فِي كِتَابه الْمُسَمَّى ب [ التَّمْهِيد ] وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة أَسْلَمَ عَام خَيْبَر , وَقَدِمَ الْمَدِينَة فِي ذَلِكَ الْعَام , وَصَحِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة أَعْوَام , وَشَهِدَ قِصَّة ذِي الْيَدَيْنِ وَحَضَرَهَا , وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَبْل بَدْر كَمَا زَعَمُوا , وَأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ فِي بَدْر . قَالَ : وَحُضُور أَبِي هُرَيْرَة يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ مَحْفُوظ مِنْ رِوَايَة الْحُفَّاظ الثِّقَات , وَلَيْسَ تَقْصِير مَنْ قَصَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَحَفِظَهُ وَذَكَرَ .
الرَّابِعَة : الْقُنُوت : الْقِيَام , وَهُوَ أَحَد أَقْسَامه فِيمَا ذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِيّ , وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْقِيَام فِي صَلَاة الْفَرْض وَاجِب عَلَى كُلّ صَحِيح قَادِر عَلَيْهِ , مُنْفَرِدًا كَانَ أَوْ إِمَامًا . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَام لِيُؤْتَمّ بِهِ فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا ) الْحَدِيث , أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّة , وَهُوَ بَيَان لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُوم الصَّحِيح يُصَلِّي قَاعِدًا خَلْف إِمَام مَرِيض لَا يَسْتَطِيع الْقِيَام , فَأَجَازَتْ ذَلِكَ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِلْم بَلْ جُمْهُورهمْ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِمَام : ( وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ ) وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة عَلَى مَا نُبَيِّنهُ آنِفًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ أَجَازَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء صَلَاة الْقَائِم خَلْف الْإِمَام الْمَرِيض لِأَنَّ كُلًّا يُؤَدِّي فَرْضه عَلَى قَدْر طَاقَته تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَلَّى فِي مَرَضه الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْر إِلَى جَنْبه قَائِمًا يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاس قِيَام خَلْفه , وَلَمْ يُشِرْ إِلَى أَبِي بَكْر وَلَا إِلَيْهِمْ بِالْجُلُوسِ , وَأَكْمَلَ صَلَاته بِهِمْ جَالِسًا وَهُمْ قِيَام , وَمَعْلُوم أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ بَعْد سُقُوطه عَنْ فَرَسه , فَعُلِمَ أَنَّ الْآخِر مِنْ فِعْله نَاسِخ لِلْأَوَّلِ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَب وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْحُجَّة الشَّافِعِيّ وَدَاوُد بْن عَلِيّ , وَهِيَ رِوَايَة الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ مَالِك . قَالَ : وَأَحَبّ إِلَيَّ أَنْ يَقُوم إِلَى جَنْبه مِمَّنْ يَعْلَم النَّاس بِصَلَاتِهِ , وَهَذِهِ الرِّوَايَة غَرِيبَة عَنْ مَالِك . وَقَالَ بِهَذَا جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَغَيْرهمْ وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ; لِأَنَّهَا آخِر صَلَاة صَلَّاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَشْهُور عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ الْقِيَام أَحَدٌ جَالِسًا , فَإِنْ أَمَّهُمْ قَاعِدًا بَطَلَتْ صَلَاته وَصَلَاتهمْ , لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَؤُمَّن أَحَد بَعْدِي قَاعِدًا ) . قَالَ : فَإِنْ كَانَ الْإِمَام عَلِيلًا تَمَّتْ صَلَاة الْإِمَام وَفَسَدَتْ صَلَاة مَنْ خَلْفه . قَالَ : وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا مِنْ غَيْر عِلَّة أَعَادَ الصَّلَاة , هَذِهِ رِوَايَة أَبِي مُصْعَب فِي مُخْتَصَره عَنْ مَالِك , وَعَلَيْهَا فَيَجِب عَلَى مَنْ صَلَّى قَاعِدًا الْإِعَادَة فِي الْوَقْت وَبَعْده . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك فِي هَذَا أَنَّهُمْ يُعِيدُونَ فِي الْوَقْت خَاصَّة , وَقَوْل مُحَمَّد بْن الْحَسَن فِي هَذَا مِثْل قَوْل مَالِك الْمَشْهُور . وَاحْتَجَّ لِقَوْلِهِ وَمَذْهَبه بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُصْعَب , أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَؤُمَّن أَحَد بَعْدِي جَالِسًا ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَمْ يَرْوِهِ غَيْر جَابِر الْجُعْفِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ وَهُوَ مَتْرُوك الْحَدِيث , مُرْسَل لَا تَقُوم بِهِ حُجَّة . قَالَ أَبُو عُمَر : جَابِر الْجُعْفِيّ لَا يُحْتَجّ بِشَيْءٍ يَرْوِيه مُسْنَدًا فَكَيْف بِمَا يَرْوِيه مُرْسَلًا ؟ قَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن : إِذَا صَلَّى الْإِمَام الْمَرِيض جَالِسًا بِقَوْمٍ أَصِحَّاء وَمَرْضَى جُلُوسًا فَصَلَاته وَصَلَاة مَنْ خَلْفه مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيع الْقِيَام صَحِيحَة جَائِزَة , وَصَلَاة مَنْ صَلَّى خَلْفه مِمَّنْ حُكْمه الْقِيَام بَاطِلَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف : صَلَاته وَصَلَاتهمْ جَائِزَة . وَقَالُوا : لَوْ صَلَّى وَهُوَ يُومِئ بِقَوْمٍ وَهُمْ يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ لَمْ تُجْزِهِمْ فِي قَوْلهمْ جَمِيعًا وَأَجْزَأَتْ الْإِمَام صَلَاته . وَكَانَ زُفَر يَقُول : تُجْزِئهُمْ صَلَاتهمْ ; لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى فَرْضهمْ وَصَلَّى إِمَامهمْ عَلَى فَرْضه , كَمَا قَالَ الشَّافِعِيّ .
قُلْت : أَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء قَبْله وَبَعْده مِنْ أَنَّهَا آخِر صَلَاة صَلَّاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَدْ رَأَيْت لِغَيْرِهِمْ خِلَال ذَلِكَ مِمَّنْ جَمَعَ طُرُق الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب , وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا وَذَكَرَ اِخْتِلَاف الْفُقَهَاء فِي ذَلِكَ , وَنَحْنُ نَذْكُر مَا ذَكَرَهُ مُلَخَّصًا حَتَّى يَتَبَيَّن لَك الصَّوَاب إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَصِحَّة قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّ صَلَاة الْمَأْمُوم الصَّحِيح قَاعِدًا خَلْف الْإِمَام الْمَرِيض جَائِزَة , فَذَكَرَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بْن حِبَّان الْبُسْتِيّ فِي الْمُسْنَد الصَّحِيح لَهُ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي نَفَر مِنْ أَصْحَابه فَقَالَ : ( أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُول اللَّه إِلَيْكُمْ ) قَالُوا : بَلَى , نَشْهَد أَنَّك رَسُول اللَّه , قَالَ : ( أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه وَمِنْ طَاعَة اللَّه طَاعَتِي ) ؟ قَالُوا : بَلَى , نَشْهَد أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَك فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه وَمِنْ طَاعَة اللَّه طَاعَتك . قَالَ : ( فَإِنَّ مِنْ طَاعَة اللَّه أَنْ تُطِيعُونِي وَمِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ فَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا فَصَلُّوا قُعُودًا ) . فِي طَرِيقه عُقْبَة بْن أَبِي الصَّهْبَاء وَهُوَ ثِقَة , قَالَهُ يَحْيَى بْن مَعِين . قَالَ أَبُو حَاتِم : فِي هَذَا الْخَبَر بَيَان وَاضِح أَنَّ صَلَاة الْمَأْمُومِينَ قُعُودًا إِذَا صَلَّى إِمَامهمْ قَاعِدًا مِنْ طَاعَة اللَّه ـ جَلَّ وَعَلَا ـ الَّتِي أَمَرَ اللَّه بِهَا عِبَاده , وَهُوَ عِنْدِي ضَرْب مِنْ الْإِجْمَاع الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَى إِجَازَته ; لِأَنَّ مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة أَفْتَوْا بِهِ : جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَبُو هُرَيْرَة وَأُسَيْد بْن حُضَيْر وَقَيْس بْن قَهْد , وَلَمْ يَرْوِ عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة الَّذِينَ شَهِدُوا هُبُوط الْوَحْي وَالتَّنْزِيل وَأُعِيذُوا مِنْ التَّحْرِيف وَالتَّبْدِيل خِلَاف لِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة , لَا بِإِسْنَادٍ مُتَّصِل وَلَا مُنْقَطِع , فَكَأَنَّ الصَّحَابَة أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَام إِذَا صَلَّى قَاعِدًا كَانَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا . وَبِهِ قَالَ جَابِر بْن زَيْد وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالِك بْن أَنَس وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم وَأَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بْن دَاوُد الْهَاشِمِيّ وَأَبُو خَيْثَمَة وَابْن أَبِي شَيْبَة وَمُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَصْحَاب الْحَدِيث مِثْل مُحَمَّد بْن نَصْر وَمُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن خُزَيْمَة . وَهَذِهِ السُّنَّة رَوَاهَا عَنْ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَس بْن مَالِك وَعَائِشَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب وَأَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ . وَأَوَّل مَنْ أَبْطَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّة صَلَاة الْمَأْمُوم قَاعِدًا إِذَا صَلَّى إِمَامه جَالِسًا الْمُغِيرَة بْن مِقْسَم صَاحِب النَّخَعِيّ وَأَخَذَ عَنْهُ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان ثُمَّ أَخَذَ عَنْ حَمَّاد أَبُو حَنِيفَة وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ مَنْ بَعْده مِنْ أَصْحَابه . وَأَعْلَى شَيْء اِحْتَجُّوا بِهِ فِيهِ شَيْء رَوَاهُ جَابِر الْجُعْفِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه : ( لَا يَؤُمَّن أَحَد بَعْدِي جَالِسًا ) وَهَذَا لَوْ صَحَّ إِسْنَاده لَكَانَ مُرْسَلًا , وَالْمُرْسَل مِنْ الْخَبَر وَمَا لَمْ يُرْوَ سِيَّانِ فِي الْحُكْم عِنْدنَا , ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَة يَقُول : مَا رَأَيْت فِيمَنْ لَقِيت أَفْضَل مِنْ عَطَاء , وَلَا فِيمَنْ لَقِيت أَكْذَب مِنْ جَابِر الْجُعْفِيّ , وَمَا أَتَيْته بِشَيْءٍ قَطُّ مِنْ رَأْي إِلَّا جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيثٍ , وَزَعَمَ أَنَّ عِنْده كَذَا وَكَذَا أَلْف حَدِيث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْطِق بِهَا , فَهَذَا أَبُو حَنِيفَة يُجَرِّح جَابِرًا الْجُعْفِيّ وَيُكَذِّبهُ ضِدّ قَوْل مَنْ اِنْتَحَلَ مِنْ أَصْحَابه مَذْهَبه . قَالَ أَبُو حَاتِم : وَأَمَّا صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضه فَجَاءَتْ الْأَخْبَار فِيهَا مُجْمَلَة وَمُخْتَصَرَة , وَبَعْضهَا مُفَصَّلَة مُبَيَّنَة , فَفِي بَعْضهَا : فَجَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْب أَبِي بَكْر فَكَانَ أَبُو بَكْر يَأْتَمّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاس يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْر . وَفِي بَعْضهَا : فَجَلَسَ عَنْ يَسَار أَبِي بَكْر وَهَذَا مُفَسَّر . وَفِيهِ : فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْر قَائِمًا . قَالَ أَبُو حَاتِم : وَأَمَّا إِجْمَال هَذَا الْخَبَر فَإِنَّ عَائِشَة حَكَتْ هَذِهِ الصَّلَاة إِلَى هَذَا الْمَوْضِع , وَآخِر الْقِصَّة عِنْد جَابِر بْن عَبْد اللَّه : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الصَّلَاة كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ عِنْد سُقُوطه عَنْ فَرَسه , أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن قُتَيْبَة قَالَ أَنْبَأَنَا يَزِيد بْن مَوْهِب قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْث بْن سَعْد عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر قَالَ : اِشْتَكَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِد , وَأَبُو بَكْر يُسْمِع النَّاس تَكْبِيره , قَالَ : فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا , فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ : ( كِدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْل فَارِس وَالرُّوم يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكهمْ وَهُمْ قُعُود فَلَا تَفْعَلُوا اِئْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا ) . قَالَ أَبُو حَاتِم : فَفِي هَذَا الْخَبَر الْمُفَسَّر بَيَان وَاضِح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَعَدَ عَنْ يَسَار أَبِي بَكْر وَتَحَوَّلَ أَبُو بَكْر مَأْمُومًا يُقْتَدَى بِصَلَاتِهِ وَيُكَبِّرُ يُسْمِع النَّاس التَّكْبِير لِيَقْتَدُوا بِصَلَاتِهِ , أَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ بِالْقُعُودِ حِين رَآهُمْ قِيَامًا , وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاته أَمَرَهُمْ أَيْضًا بِالْقُعُودِ إِذَا صَلَّى إِمَامهمْ قَاعِدًا . وَقَدْ شَهِدَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه صَلَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين سَقَطَ عَنْ فَرَسه فَجُحِشَ شِقّه الْأَيْمَن , وَكَانَ سُقُوطه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْر ذِي الْحَجَّة آخِر سَنَة خَمْس مِنْ الْهِجْرَة , وَشَهِدَ هَذِهِ الصَّلَاة فِي عِلَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْر هَذَا التَّارِيخ فَأَدَّى كُلّ خَبَر بِلَفْظِهِ , أَلَا تَرَاهُ يَذْكُر فِي هَذِهِ الصَّلَاة : رَفَعَ أَبُو بَكْر صَوْته بِالتَّكْبِيرِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاس , وَتِلْكَ الصَّلَاة الَّتِي صَلَّاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْته عِنْد سُقُوطه عَنْ فَرَسه , لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يَرْفَع صَوْته بِالتَّكْبِيرِ لِيَسْمَع النَّاس تَكْبِيره عَلَى صِغَر حُجْرَة عَائِشَة , وَإِنَّمَا كَانَ رَفْعه صَوْته بِالتَّكْبِيرِ فِي الْمَسْجِد الْأَعْظَم الَّذِي صَلَّى فِيهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّته , فَلَمَّا صَحَّ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَل بَعْض هَذِهِ الْأَخْبَار نَاسِخًا لِبَعْضٍ , وَهَذِهِ الصَّلَاة كَانَ خُرُوجه إِلَيْهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن رَجُلَيْنِ , وَكَانَ فِيهَا إِمَامًا وَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ . وَأَمَّا الصَّلَاة الَّتِي صَلَّاهَا آخِر عُمُره فَكَانَ خُرُوجه إِلَيْهَا بَيْن بَرِيرَة وَثَوْبَة , وَكَانَ فِيهَا مَأْمُومًا , وَصَلَّى قَاعِدًا خَلْف أَبِي بَكْر فِي ثَوْب وَاحِد مُتَوَشِّحًا بِهِ . رَوَاهُ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : آخِر صَلَاة صَلَّاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْقَوْم فِي ثَوْب وَاحِد مُتَوَشِّحًا بِهِ قَاعِدًا خَلْف أَبِي بَكْر , فَصَلَّى عَلَيْهِ السَّلَام صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِد جَمَاعَة لَا صَلَاة وَاحِدَة . وَإِنَّ فِي خَبَر عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ بَيْن رَجُلَيْنِ . يُرِيد أَحَدهمَا الْعَبَّاس وَالْآخَر عَلِيًّا . وَفِي خَبَر مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة : ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسه خِفَّة فَخَرَجَ بَيْن بَرِيرَة وَثَوْبَة , إِنِّي لَأَنْظُر إِلَى نَعْلَيْهِ تَخُطَّانِ فِي الْحَصَى وَأَنْظُر إِلَى بُطُون قَدَمَيْهِ , الْحَدِيث . فَهَذَا يَدُلّك عَلَى أَنَّهُمَا كَانَتَا صَلَاتَيْنِ لَا صَلَاة وَاحِدَة . قَالَ أَبُو حَاتِم : أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن خُزَيْمَة قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار قَالَ : حَدَّثَنَا بَدَل بْن الْمُحَبَّر قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ مُوسَى بْن أَبِي عَائِشَة عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه عَنْ عَائِشَة : أَنَّ أَبَا بَكْر صَلَّى بِالنَّاسِ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّفّ خَلْفه . قَالَ أَبُو حَاتِم : خَالَفَ شُعْبَة بْن الْحَجَّاج زَائِدَة بْن قُدَامَة فِي مَتْن هَذَا الْخَبَر عَنْ مُوسَى بْن أَبِي عَائِشَة فَجَعَلَ شُعْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُومًا حَيْثُ صَلَّى قَاعِدًا وَالْقَوْم قِيَام , وَجَعَلَ زَائِدَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَامًا حَيْثُ صَلَّى قَاعِدًا وَالْقَوْم قِيَام , وَهُمَا مُتْقِنَانِ حَافِظَانِ . فَكَيْف يَجُوز أَنْ يُجْعَل إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَضَادَّتَا فِي الظَّاهِر فِي فِعْل وَاحِد نَاسِخًا لِأَمْرٍ مُطْلَق مُتَقَدِّم , فَمَنْ جَعَلَ أَحَد الْخَبَرَيْنِ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ الْآخَر مِنْ غَيْر دَلِيل ثَبَتَ لَهُ عَلَى صِحَّته , سَوَّغَ لِخَصْمِهِ أَخْذ مَا تَرَكَ مِنْ الْخَبَرَيْنِ وَتَرْك مَا أَخَذَ مِنْهُمَا . وَنَظِير هَذَا النَّوْع مِنْ السُّنَن خَبَر اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَة وَهُوَ مُحْرِم , وَخَبَر أَبِي رَافِع صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَهَا وَهُمَا حَلَالَان فَتَضَادَّ الْخَبَرَانِ فِي فِعْل وَاحِد فِي الظَّاهِر مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون بَيْنهمَا تَضَادّ عِنْدنَا , فَجَعَلَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب الْحَدِيث الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ رُوِيَا فِي نِكَاح مَيْمُونَة مُتَعَارِضَيْنِ , وَذَهَبُوا إِلَى خَبَر عُثْمَان بْن عَفَّان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَنْكِح الْمُحْرِم وَلَا يُنْكَح ) فَأَخَذُوا بِهِ , إِذْ هُوَ يُوَافِق إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَتَا فِي نِكَاح مَيْمُونَة , وَتَرَكُوا خَبَر اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِم , فَمَنْ فَعَلَ هَذَا لَزِمَهُ أَنْ يَقُول : تَضَادَّ الْخَبَرَانِ فِي صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّته عَلَى حَسَب مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ , فَيَجِب أَنْ يَجِيء إِلَى الْخَبَر الَّذِي فِيهِ الْأَمْر بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ قُعُودًا إِذَا صَلَّى إِمَامهمْ قَاعِدًا فَيَأْخُذ بِهِ , إِذْ هُوَ يُوَافِق إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَتَا فِي صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّته وَيَتْرُك الْخَبَر الْمُنْفَرِد عَنْهُمَا كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي نِكَاح مَيْمُونَة . قَالَ أَبُو حَاتِم : زَعَمَ بَعْض الْعِرَاقِيِّينَ مِمَّنْ كَانَ يَنْتَحِل مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ أَنَّ قَوْله : ( وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا ) أَرَادَ بِهِ وَإِذَا تَشَهَّدَ قَاعِدًا فَتَشَهَّدُوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ فَحَرَّفَ الْخَبَر عَنْ عُمُوم مَا وَرَدَ الْخَبَر فِيهِ بِغَيْرِ دَلِيل ثَبَتَ لَهُ عَلَى تَأْوِيله .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي تَعْيِين الصَّلَاة الْوُسْطَى عَلَى عَشَرَة أَقْوَال :
[ الْأَوَّل ] أَنَّهَا الظُّهْر ; لِأَنَّهَا وَسَط النَّهَار عَلَى الصَّحِيح مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ النَّهَار أَوَّله مِنْ طُلُوع الْفَجْر كَمَا تَقَدَّمَ , وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالظُّهْرِ لِأَنَّهَا أَوَّل صَلَاة صُلِّيَتْ فِي الْإِسْلَام . وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا الْوُسْطَى زَيْد بْن ثَابِت وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا وُسْطَى مَا قَالَتْهُ عَائِشَة وَحَفْصَة حِين أَمْلَتَا " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر " بِالْوَاوِ . وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ أَشَقّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تَجِيء فِي الْهَاجِرَة وَهُمْ قَدْ نَفَّهَتْهُمْ أَعْمَالهمْ فِي أَمْوَالهمْ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ زَيْد قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْر بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ تَكُنْ تُصَلَّى صَلَاة أَشَدّ عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا , فَنَزَلَتْ : " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى " وَقَالَ : إِنَّ قَبْلهَا صَلَاتَيْنِ وَبَعْدهَا صَلَاتَيْنِ . وَرَوَى مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده عَنْ زَيْد بْن ثَابِت قَالَ : الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الظُّهْر , زَادَ الطَّيَالِسِيّ : وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا بِالْهَجِيرِ .
[ الثَّانِي ] إِنَّهَا الْعَصْر ; لِأَنَّ قَبْلهَا صَلَاتَيْ نَهَار وَبَعْدهَا صَلَاتَيْ لَيْل . قَالَ النَّحَّاس : وَأَجْوَد مِنْ هَذَا الِاحْتِجَاج أَنْ يَكُون إِنَّمَا قِيلَ لَهَا وُسْطَى لِأَنَّهَا بَيْن صَلَاتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَوَّل مَا فُرِضَ وَالْأُخْرَى الثَّانِيَة مِمَّا فُرِضَ . وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ , وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه , وَقَالَهُ الشَّافِعِيّ وَأَكْثَر أَهْل الْأَثَر , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْد الْمَلِك بْن حَبِيب وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي قَبَسه وَابْن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره وَقَالَ : وَعَلَى هَذَا الْقَوْل الْجُمْهُور مِنْ النَّاس وَبِهِ أَقُول وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب خَرَّجَهَا مُسْلِم وَغَيْره , وَأَنَصُّهَا حَدِيث اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَدْ أَتَيْنَا زِيَادَة عَلَى هَذَا فِي الْقَبَس فِي شَرْح مُوَطَّأ مَالِك بْن أَنَس .
[ الثَّالِث ] إِنَّهَا الْمَغْرِب , قَالَهُ قَبِيصَة بْن أَبِي ذُؤَيْب فِي جَمَاعَة . وَالْحُجَّة لَهُمْ أَنَّهَا مُتَوَسِّطَة فِي عَدَد الرَّكَعَات لَيْسَتْ بِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرهَا وَلَا تُقْصَر فِي السَّفَر , وَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَخِّرهَا عَنْ وَقْتهَا وَلَمْ يُعَجِّلهَا , وَبَعْدهَا صَلَاتَا جَهْر وَقَبْلهَا صَلَاتَا سِرّ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ أَفْضَل الصَّلَوَات عِنْد اللَّه صَلَاة الْمَغْرِب لَمْ يَحُطّهَا عَنْ مُسَافِر وَلَا مُقِيم فَتَحَ اللَّه بِهَا صَلَاة اللَّيْل وَخَتَمَ بِهَا صَلَاة النَّهَار فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِب وَصَلَّى بَعْدهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّه لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّة وَمَنْ صَلَّى بَعْدهَا أَرْبَع رَكَعَات غَفَرَ اللَّه لَهُ ذُنُوب عِشْرِينَ سَنَة - أَوْ قَالَ - أَرْبَعِينَ سَنَة ) .
[ الرَّابِع ] صَلَاة الْعِشَاء الْآخِرَة ; لِأَنَّهَا بَيْن صَلَاتَيْنِ لَا تُقْصَرَانِ , وَتَجِيء فِي وَقْت نَوْم وَيُسْتَحَبّ تَأْخِيرهَا وَذَلِكَ شَاقّ فَوَقَعَ التَّأْكِيد فِي الْمُحَافَظَة عَلَيْهَا .
[ الْخَامِس ] إِنَّهَا الصُّبْح ; لِأَنَّ قَبْلهَا صَلَاتَيْ لَيْل يُجْهَر فِيهِمَا وَبَعْدهَا صَلَاتَيْ نَهَار يُسَرّ فِيهِمَا , وَلِأَنَّ وَقْتهَا يَدْخُل وَالنَّاس نِيَام , وَالْقِيَام إِلَيْهَا شَاقّ فِي زَمَن الْبَرْد لِشِدَّةِ الْبَرْد وَفِي زَمَن الصَّيْف لِقِصَرِ اللَّيْل . وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعَبْد اللَّه بْن عَبَّاس , أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأ بَلَاغًا , وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس تَعْلِيقًا , وَرُوِيَ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه وَإِلَيْهِ مَيْل الشَّافِعِيّ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ الْقُشَيْرِيّ . وَالصَّحِيح عَنْ عَلِيّ أَنَّهَا الْعَصْر , وَرُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ وَجْه مَعْرُوف صَحِيح وَقَدْ اِسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا الصُّبْح بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " يَعْنِي فِيهَا , وَلَا صَلَاة مَكْتُوبَة فِيهَا قُنُوت إِلَّا الصُّبْح . قَالَ أَبُو رَجَاء : صَلَّى بِنَا اِبْن عَبَّاس صَلَاة الْغَدَاة بِالْبَصْرَةِ فَقَنَتَ فِيهَا قَبْل الرُّكُوع وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : هَذِهِ الصَّلَاة الْوُسْطَى الَّتِي أَمَرَنَا اللَّه تَعَالَى أَنْ نَقُوم فِيهَا قَانِتِينَ . وَقَالَ أَنَس : قَنَتَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاة الصُّبْح بَعْد الرُّكُوع , وَسَيَأْتِي حُكْم الْقُنُوت وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ فِي [ آل عِمْرَان ] عِنْد قَوْله تَعَالَى : " لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء " .
[ السَّادِس ] صَلَاة الْجُمُعَة , لِأَنَّهَا خُصَّتْ بِالْجَمْعِ لَهَا وَالْخُطْبَة فِيهَا وَجُعِلَتْ عِيدًا ذَكَرَهُ اِبْن حَبِيب وَمَكِّيّ وَرَوَى مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَة : ( لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُر رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَحْرِق عَلَى رِجَال يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَة بُيُوتهمْ ) .
[ السَّابِع ] إِنَّهَا الصُّبْح وَالْعَصْر مَعًا . قَالَهُ الشَّيْخ أَبُو بَكْر الْأَبْهَرِيّ , وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَة بِالنَّهَارِ ) الْحَدِيث , رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة . وَرَوَى جَرِير بْن عَبْد اللَّه قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر فَقَالَ : ( أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَر لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَته فَإِنْ اِسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاة قَبْل طُلُوع الشَّمْس وَصَلَاة قَبْل غُرُوبهَا ) يَعْنِي الْعَصْر وَالْفَجْر : ثُمَّ قَرَأَ جَرِير " وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّك قَبْل طُلُوع الشَّمْس وَقَبْل غُرُوبهَا " [ قِ : 39 ] . وَرَوَى عُمَارَة بْن رُؤَيْبَة قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَنْ يَلِج النَّار أَحَد صَلَّى قَبْل طُلُوع الشَّمْس وَقَبْل غُرُوبهَا ) يَعْنِي الْفَجْر وَالْعَصْر . وَعَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّة ) كُلّه ثَابِت فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره . وَسُمِّيَتَا الْبَرْدَيْنِ لِأَنَّهُمَا يُفْعَلَانِ فِي وَقْتَيْ الْبَرْد .
[ الثَّامِن ] إِنَّهَا الْعَتَمَة وَالصُّبْح . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي مَرَضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ : ( اِسْمَعُوا وَبَلِّغُوا مَنْ خَلْفكُمْ حَافِظُوا عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ - يَعْنِي فِي جَمَاعَة - الْعِشَاء وَالصُّبْح , وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى مَرَافِقكُمْ وَرُكَبِكُمْ ) قَالَهُ عُمَر وَعُثْمَان . وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَة وَالصُّبْح لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا - وَقَالَ - إِنَّهُمَا أَشَدّ الصَّلَاة عَلَى الْمُنَافِقِينَ ) وَجَعَلَ لِمُصَلِّي الصُّبْح فِي جَمَاعَة قِيَام لَيْلَة وَالْعَتَمَة نِصْف لَيْلَة , ذَكَرَهُ مَالِك مَوْقُوفًا عَلَى عُثْمَان وَرَفَعَهُ مُسْلِم , وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ شَهِدَ الْعِشَاء فِي جَمَاعَة كَانَ لَهُ قِيَام نِصْف لَيْلَة وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاء وَالْفَجْر فِي جَمَاعَة كَانَ لَهُ كَقِيَامِ لَيْلَة ) وَهَذَا خِلَاف مَا رَوَاهُ مَالِك وَمُسْلِم .
[ التَّاسِع ] أَنَّهَا الصَّلَوَات الْخَمْس بِجُمْلَتِهَا , قَالَهُ مُعَاذ بْن جَبَل ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات " يَعُمّ الْفَرْض وَالنَّفْل , ثُمَّ خُصَّ الْفَرْض بِالذِّكْرِ .
[ الْعَاشِر ] إِنَّهَا غَيْر مُعَيَّنَة , قَالَهُ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر , وَقَالَهُ الرَّبِيع بْن خَيْثَم فَخَبَّأَهَا اللَّه تَعَالَى فِي الصَّلَوَات كَمَا خَبَّأَ لَيْلَة الْقَدْر فِي رَمَضَان , وَكَمَا خَبَّأَ سَاعَة يَوْم الْجُمُعَة وَسَاعَات اللَّيْل الْمُسْتَجَاب فِيهَا الدُّعَاء لِيَقُومُوا بِاللَّيْلِ فِي الظُّلُمَات لِمُنَاجَاةِ عَالِم الْخَفِيَّات . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى صِحَّة أَنَّهَا مُبْهَمَة غَيْر مُعَيَّنَة مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه فِي آخِر الْبَاب عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَصَلَاة الْعَصْر " فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّه , ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّه فَنَزَلَتْ : " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى " فَقَالَ رَجُل : هِيَ إِذًا صَلَاة الْعَصْر ؟ قَالَ الْبَرَاء : قَدْ أَخْبَرْتُك كَيْف نَزَلَتْ وَكَيْف نَسَخَهَا اللَّه تَعَالَى , وَاَللَّه أَعْلَم . فَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا بَعْد أَنْ عُيِّنَتْ نُسِخَ تَعْيِينهَا وَأُبْهِمَتْ فَارْتَفَعَ التَّعْيِين , وَاَللَّه أَعْلَم . وَهَذَا اِخْتِيَار مُسْلِم ; لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي آخِر الْبَاب وَقَالَ بِهِ غَيْر وَاحِد مِنْ الْعُلَمَاء الْمُتَأَخِّرِينَ , وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّة وَعَدَم التَّرْجِيح فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُحَافَظَة عَلَى جَمِيعهَا وَأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتهَا وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّالِثَة : وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي الصَّلَاة الْوُسْطَى يَدُلّ عَلَى بُطْلَان مَنْ أَثْبَتَ " وَصَلَاة الْعَصْر " الْمَذْكُور فِي حَدِيث أَبِي يُونُس مَوْلَى عَائِشَة حِين أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُب لَهَا مُصْحَفًا قُرْآنًا . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَالتَّفْسِيرِ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيث عَمْرو بْن رَافِع قَالَ : ( أَمَرَتْنِي حَفْصَة أَنْ أَكْتُب لَهَا مُصْحَفًا . .. ) الْحَدِيث . وَفِيهِ : فَأَمْلَتْ عَلَيَّ " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى - وَهِيَ الْعَصْر - وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " وَقَالَتْ : هَكَذَا سَمِعْتهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَءُوهَا . فَقَوْلهَا : " وَهِيَ الْعَصْر " دَلِيل عَلَى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الصَّلَاة الْوُسْطَى مِنْ كَلَام اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ هُوَ ( وَهِيَ الْعَصْر ) . وَقَدْ رَوَى نَافِع عَنْ حَفْصَة " وَصَلَاة الْعَصْر " , كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة وَعَنْ حَفْصَة أَيْضًا " صَلَاة الْعَصْر " بِغَيْرِ وَاو . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَهَذَا الْخِلَاف فِي هَذَا اللَّفْظ الْمَزِيد يَدُلّ عَلَى بُطْلَانه وَصِحَّة مَا فِي الْإِمَام مُصْحَف جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ . وَعَلَيْهِ حُجَّة أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ : وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر جَعَلَ الصَّلَاة الْوُسْطَى غَيْر الْعَصْر , وَفِي هَذَا دَفْع لِحَدِيثِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ عَبْد اللَّه قَالَ : شَغَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْأَحْزَاب عَنْ صَلَاة الْعَصْر حَتَّى اِصْفَرَّتْ الشَّمْس فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى مَلَأَ اللَّه أَجْوَافهمْ وَقُبُورهمْ نَارًا . .. ) الْحَدِيث .
الرَّابِعَة : وَفِي قَوْله تَعَالَى : " وَالصَّلَاة الْوُسْطَى " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْوِتْر لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اِتَّفَقُوا عَلَى أَعْدَاد الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَات أَنَّهَا تَنْقُص عَنْ سَبْعَة وَتَزِيد عَلَى ثَلَاثَة وَلَيْسَ بَيْن الثَّلَاثَة وَالسَّبْعَة فَرْد إِلَّا الْخَمْسَة وَالْأَزْوَاج لَا وَسَط لَهَا فَثَبَتَ أَنَّهَا خَمْسَة . وَفِي حَدِيث الْإِسْرَاء : ( هِيَ خَمْس وَهُنَّ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّل الْقَوْل لَدَيَّ ) .
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : مَعْنَاهُ فِي صَلَاتكُمْ . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي مَعْنَى قَوْله " قَانِتِينَ " فَقَالَ الشَّعْبِيّ : طَائِعِينَ , وَقَالَهُ جَابِر بْن زَيْد وَعَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر . وَقَالَ الضَّحَّاك : كُلّ قُنُوت فِي الْقُرْآن فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الطَّاعَة . وَقَالَهُ أَبُو سَعِيد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنَّ أَهْل كُلّ دِينٍ فَهُمْ الْيَوْم يَقُومُونَ عَاصِينَ , فَقِيلَ لِهَذِهِ الْأُمَّة فَقُومُوا لِلَّهِ طَائِعِينَ . وَقَالَ مُجَاهِد : مَعْنَى قَانِتِينَ خَاشِعِينَ , وَالْقُنُوت طُول الرُّكُوع وَالْخُشُوع وَغَضّ الْبَصَر وَخَفْض الْجُنَاح . وَقَالَ الرَّبِيع : الْقُنُوت طُول الْقِيَام , وَقَالَهُ اِبْن عُمَر وَقَرَأَ " أَمَّنْ هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدًا وَقَائِمًا " [ الزُّمَر : 9 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام . ( أَفْضَل الصَّلَاة طُول الْقُنُوت ) خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَقَالَ الشَّاعِر : قَانِتًا لِلَّهِ يَدْعُو رَبّه وَعَلَى عَمْدٍ مِنْ النَّاس اِعْتَزَلْ وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " قَانِتِينَ " دَاعِينَ . وَفِي الْحَدِيث : ( قَنَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْل وَذَكْوَان ) قَالَ قَوْم : مَعْنَاهُ دَعَا , وَقَالَ قَوْم : مَعْنَاهُ طَوَّلَ قِيَامه . وَقَالَ السُّدِّيّ : " قَانِتِينَ " سَاكِتِينَ , دَلِيله أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْمَنْع مِنْ الْكَلَام فِي الصَّلَاة وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي صَدْر الْإِسْلَام , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم وَغَيْره عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : كُنَّا نُسَلِّم عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَيَرُدّ عَلَيْنَا , فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْد النَّجَاشِيّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , كُنَّا نُسَلِّم عَلَيْك فِي الصَّلَاة فَتَرُدّ عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ فِي الصَّلَاة شُغْلًا ) . وَرَوَى زَيْد بْن أَرْقَم قَالَ : كُنَّا نَتَكَلَّم فِي الصَّلَاة يُكَلِّم الرَّجُل صَاحِبه وَهُوَ إِلَى جَنْبه فِي الصَّلَاة حَتَّى نَزَلَتْ : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَام . وَقِيلَ : إِنَّ أَصْل الْقُنُوت فِي اللُّغَة الدَّوَام عَلَى الشَّيْء . وَمِنْ حَيْثُ كَانَ أَصْل الْقُنُوت فِي اللُّغَة الدَّوَام عَلَى الشَّيْء جَازَ أَنْ يُسَمَّى مُدِيم الطَّاعَة قَانِتًا , وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَالَ الْقِيَام وَالْقِرَاءَة وَالدُّعَاء فِي الصَّلَاة , أَوْ أَطَالَ الْخُشُوع وَالسُّكُوت , كُلّ هَؤُلَاءِ فَاعِلُونَ لِلْقُنُوتِ .
الثَّانِيَة : قَالَ أَبُو عُمَر : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ طُرًّا أَنَّ الْكَلَام عَامِدًا فِي الصَّلَاة إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي يَعْلَم أَنَّهُ فِي صَلَاة , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي إِصْلَاح صَلَاته أَنَّهُ يُفْسِد الصَّلَاة , إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ تَكَلَّمَ لِإِحْيَاءِ نَفْس أَوْ مِثْل ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور الْجِسَام لَمْ تَفْسُد صَلَاته بِذَلِكَ . وَهُوَ قَوْل ضَعِيف فِي النَّظَر , لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " وَقَالَ زَيْد بْن أَرْقَم : ( كُنَّا نَتَكَلَّم فِي الصَّلَاة حَتَّى نَزَلَتْ : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " . .. ) الْحَدِيث . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه أَحْدَثَ مِنْ أَمْره أَلَّا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاة ) . وَلَيْسَ الْحَادِث الْجَسِيم الَّذِي يَجِب لَهُ قَطْع الصَّلَاة وَمِنْ أَجْله يَمْنَع مِنْ الِاسْتِئْنَاف , فَمَنْ قَطَعَ صَلَاته لِمَا يَرَاهُ مِنْ الْفَضْل فِي إِحْيَاء نَفْس أَوْ مَال أَوْ مَا كَانَ بِسَبِيلِ ذَلِكَ اِسْتَأْنَفَ صَلَاته وَلَمْ يَبْنِ . هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلَام سَاهِيًا فِيهَا , فَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا إِلَى أَنَّ الْكَلَام فِيهَا سَاهِيًا لَا يُفْسِدهَا , غَيْر أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَا يُفْسِد الصَّلَاة تَعَمُّد الْكَلَام فِيهَا إِذَا كَانَ فِي شَأْنهَا لِإِصْلَاحِهَا , وَهُوَ قَوْل رَبِيعَة وَابْن الْقَاسِم . وَرَوَى سَحْنُون عَنْ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك قَالَ : لَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّى بِهِمْ الْإِمَام رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ سَاهِيًا فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَفْقَه , فَقَالَ لَهُ رَجُل مِنْ خَلْفه مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ فِي الصَّلَاة : إِنَّك لَمْ تُتِمّ فَأَتِمَّ صَلَاتك , فَالْتَفَتَ إِلَى الْقَوْم فَقَالَ : أَحَقّ مَا يَقُول هَذَا ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ , قَالَ : يُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَام مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتهمْ وَيُصَلُّونَ مَعَهُ بَقِيَّة صَلَاتهمْ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَتَكَلَّم وَلَا شَيْء عَلَيْهِمْ وَيَفْعَلُونَ فِي ذَلِكَ مَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ . هَذَا قَوْل اِبْن الْقَاسِم فِي كِتَابه الْمُدَوَّنَة وَرِوَايَته عَنْ مَالِك , وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك وَإِيَّاهُ تَقَلَّدَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق وَاحْتَجَّ لَهُ فِي كِتَاب رَدَّهُ عَلَى مُحَمَّد بْن الْحَسَن . وَذَكَرَ الْحَارِث بْن مِسْكِين قَالَ : أَصْحَاب مَالِك كُلّهمْ عَلَى خِلَاف قَوْل مَالِك فِي مَسْأَلَة ذِي الْيَدَيْنِ إِلَّا اِبْن الْقَاسِم وَحْده فَإِنَّهُ يَقُول فِيهَا بِقَوْلِ مَالِك , وَغَيْرهمْ يَأْبَوْنَهُ وَيَقُولُونَ : إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي صَدْر الْإِسْلَام , فَأَمَّا الْآن فَقَدْ عَرَفَ النَّاس صَلَاتهمْ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا أَعَادَهَا , وَهَذَا هُوَ قَوْل الْعِرَاقِيِّينَ : أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْكَلَام فِي الصَّلَاة يُفْسِدهَا عَلَى أَيّ حَال كَانَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا لِصَلَاةٍ كَانَ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ , وَهُوَ قَوْل إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَعَطَاء وَالْحَسَن وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَقَتَادَة . وَزَعَمَ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة أَنَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة هَذَا فِي قِصَّة ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخ بِحَدِيثِ اِبْن مَسْعُود وَزَيْد بْن أَرْقَم , قَالُوا : وَإِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَة مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَام فَإِنَّهُ أَرْسَلَ حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا أَرْسَلَ حَدِيث ( مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْر جُنُبًا فَلَا صَوْم لَهُ ) قَالُوا : وَكَانَ كَثِير الْإِرْسَال . وَذَكَرَ عَلِيّ بْن زِيَاد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّة قَالَ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُول : يُسْتَحَبّ إِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُل فِي الصَّلَاة أَنْ يَعُود لَهَا وَلَا يَبْنِي . قَالَ : وَقَالَ لَنَا مَالِك إِنَّمَا تَكَلَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ أَصْحَابه مَعَهُ يَوْمئِذٍ ; لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الصَّلَاة قَصُرَتْ وَلَا يَجُوز ذَلِكَ لِأَحَدٍ الْيَوْم . وَقَدْ رَوَى سَحْنُون عَنْ اِبْن الْقَاسِم فِي رَجُل صَلَّى وَحْده فَفَرَغَ عِنْد نَفْسه مِنْ الْأَرْبَع , فَقَالَ لَهُ رَجُل إِلَى جَنْبه : إِنَّك لَمْ تُصَلِّ إِلَّا ثَلَاثًا , فَالْتَفَتَ إِلَى آخَر فَقَالَ : أَحَقّ مَا يَقُولهُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : تَفْسُد صَلَاته وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَلِّمهُ وَلَا أَنْ يَلْتَفِت إِلَيْهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : فَكَانُوا يُفَرِّقُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة بَيْن الْإِمَام مَعَ الْجَمَاعَة وَالْمُنْفَرِد فَيُجِيزُونَ مِنْ الْكَلَام فِي شَأْن الصَّلَاة لِلْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ مَا لَا يُجِيزُونَهُ لِلْمُنْفَرِدِ , وَكَانَ غَيْر هَؤُلَاءِ يَحْمِلُونَ جَوَاب اِبْن الْقَاسِم فِي الْمُنْفَرِد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَفِي الْإِمَام وَمَنْ مَعَهُ عَلَى اِخْتِلَاف مِنْ قَوْله فِي اِسْتِعْمَال حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا اِخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي ذَلِكَ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه : مَنْ تَعَمَّدَ الْكَلَام وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُ لَمْ يُتِمّ الصَّلَاة وَأَنَّهُ فِيهَا أَفْسَدَ صَلَاته , فَإِنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا أَوْ تَكَلَّمَ وَهُوَ يَظُنّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاة لِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَهَا عِنْد نَفْسه فَإِنَّهُ يَبْنِي . وَاخْتَلَفَ قَوْل أَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فَذَكَرَ الْأَثْرَم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْإِنْسَان فِي صَلَاته لِإِصْلَاحِهَا لَمْ تَفْسُد عَلَيْهِ صَلَاته , فَإِنْ تَكَلَّمَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَسَدَتْ , وَهَذَا هُوَ قَوْل مَالِك الْمَشْهُور . وَذَكَرَ الْخِرَقِيّ عَنْهُ أَنَّ مَذْهَبه فِيمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاته , إِلَّا الْإِمَام خَاصَّة فَإِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ صَلَاته لَمْ تَبْطُل صَلَاته . وَاسْتَثْنَى سَحْنُون مِنْ أَصْحَاب مَالِك أَنَّ مَنْ سَلَّمَ مِنْ اِثْنَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّة فَوَقَعَ الْكَلَام هُنَاكَ لَمْ تَبْطُل الصَّلَاة , وَإِنْ وَقَعَ فِي غَيْر ذَلِكَ بَطَلَتْ الصَّلَاة . وَالصَّحِيح مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك فِي الْمَشْهُور تَمَسُّكًا بِالْحَدِيثِ وَحَمْلًا لَهُ عَلَى الْأَصْل الْكُلِّيّ مِنْ تَعَدِّي الْأَحْكَام وَعُمُوم الشَّرِيعَة , وَدَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّم مِنْ الْخُصُوصِيَّة إِذْ لَا دَلِيل عَلَيْهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَقَدْ جَرَى الْكَلَام فِي الصَّلَاة وَالسَّهْو أَيْضًا وَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : ( التَّسْبِيح لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيق لِلنِّسَاءِ ) فَلِمَ لَمْ يُسَبِّحُوا ؟ فَقَالَ : لَعَلَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لَمْ يَكُنْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ , وَلَئِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْت فَلَمْ يُسَبِّحُوا , لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ الصَّلَاة قَصُرَتْ , وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيث قَالَ : وَخَرَجَ سَرَعَان النَّاس فَقَالُوا : أَقَصُرَتْ الصَّلَاة ؟ فَلَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ الْكَلَام لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَقَدْ قَالَ بَعْض الْمُخَالِفِينَ : قَوْل أَبِي هُرَيْرَة ( صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُرَاده أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُمْ , كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّزَّال بْن سَبْرَة أَنَّهُ قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّا وَإِيَّاكُمْ كُنَّا نُدْعَى بَنِي عَبْد مَنَافٍ وَأَنْتُمْ الْيَوْم بَنُو عَبْد اللَّه وَنَحْنُ بَنُو عَبْد اللَّه ) وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ وَهَذَا بَعِيد , فَإِنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَقُول صَلَّى بِنَا وَهُوَ إِذْ ذَاكَ كَافِر لَيْسَ مِنْ أَهْل الصَّلَاة وَيَكُون ذَلِكَ كَذِبًا , وَحَدِيث النَّزَّال هُوَ كَانَ مِنْ جُمْلَة الْقَوْم وَسَمِعَ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعَ . وَأَمَّا مَا اِدَّعَتْهُ الْحَنَفِيَّة مِنْ النَّسْخ وَالْإِرْسَال فَقَدْ أَجَابَ عَنْ قَوْلهمْ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرهمْ وَأَبْطَلُوهُ , وَخَاصَّة الْحَافِظ أَبَا عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ فِي كِتَابه الْمُسَمَّى ب [ التَّمْهِيد ] وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة أَسْلَمَ عَام خَيْبَر , وَقَدِمَ الْمَدِينَة فِي ذَلِكَ الْعَام , وَصَحِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة أَعْوَام , وَشَهِدَ قِصَّة ذِي الْيَدَيْنِ وَحَضَرَهَا , وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَبْل بَدْر كَمَا زَعَمُوا , وَأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ فِي بَدْر . قَالَ : وَحُضُور أَبِي هُرَيْرَة يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ مَحْفُوظ مِنْ رِوَايَة الْحُفَّاظ الثِّقَات , وَلَيْسَ تَقْصِير مَنْ قَصَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَحَفِظَهُ وَذَكَرَ .
الرَّابِعَة : الْقُنُوت : الْقِيَام , وَهُوَ أَحَد أَقْسَامه فِيمَا ذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِيّ , وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْقِيَام فِي صَلَاة الْفَرْض وَاجِب عَلَى كُلّ صَحِيح قَادِر عَلَيْهِ , مُنْفَرِدًا كَانَ أَوْ إِمَامًا . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَام لِيُؤْتَمّ بِهِ فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا ) الْحَدِيث , أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّة , وَهُوَ بَيَان لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُوم الصَّحِيح يُصَلِّي قَاعِدًا خَلْف إِمَام مَرِيض لَا يَسْتَطِيع الْقِيَام , فَأَجَازَتْ ذَلِكَ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِلْم بَلْ جُمْهُورهمْ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِمَام : ( وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ ) وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة عَلَى مَا نُبَيِّنهُ آنِفًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ أَجَازَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء صَلَاة الْقَائِم خَلْف الْإِمَام الْمَرِيض لِأَنَّ كُلًّا يُؤَدِّي فَرْضه عَلَى قَدْر طَاقَته تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَلَّى فِي مَرَضه الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْر إِلَى جَنْبه قَائِمًا يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاس قِيَام خَلْفه , وَلَمْ يُشِرْ إِلَى أَبِي بَكْر وَلَا إِلَيْهِمْ بِالْجُلُوسِ , وَأَكْمَلَ صَلَاته بِهِمْ جَالِسًا وَهُمْ قِيَام , وَمَعْلُوم أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ بَعْد سُقُوطه عَنْ فَرَسه , فَعُلِمَ أَنَّ الْآخِر مِنْ فِعْله نَاسِخ لِلْأَوَّلِ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَب وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْحُجَّة الشَّافِعِيّ وَدَاوُد بْن عَلِيّ , وَهِيَ رِوَايَة الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ مَالِك . قَالَ : وَأَحَبّ إِلَيَّ أَنْ يَقُوم إِلَى جَنْبه مِمَّنْ يَعْلَم النَّاس بِصَلَاتِهِ , وَهَذِهِ الرِّوَايَة غَرِيبَة عَنْ مَالِك . وَقَالَ بِهَذَا جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَغَيْرهمْ وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ; لِأَنَّهَا آخِر صَلَاة صَلَّاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَشْهُور عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ الْقِيَام أَحَدٌ جَالِسًا , فَإِنْ أَمَّهُمْ قَاعِدًا بَطَلَتْ صَلَاته وَصَلَاتهمْ , لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَؤُمَّن أَحَد بَعْدِي قَاعِدًا ) . قَالَ : فَإِنْ كَانَ الْإِمَام عَلِيلًا تَمَّتْ صَلَاة الْإِمَام وَفَسَدَتْ صَلَاة مَنْ خَلْفه . قَالَ : وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا مِنْ غَيْر عِلَّة أَعَادَ الصَّلَاة , هَذِهِ رِوَايَة أَبِي مُصْعَب فِي مُخْتَصَره عَنْ مَالِك , وَعَلَيْهَا فَيَجِب عَلَى مَنْ صَلَّى قَاعِدًا الْإِعَادَة فِي الْوَقْت وَبَعْده . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك فِي هَذَا أَنَّهُمْ يُعِيدُونَ فِي الْوَقْت خَاصَّة , وَقَوْل مُحَمَّد بْن الْحَسَن فِي هَذَا مِثْل قَوْل مَالِك الْمَشْهُور . وَاحْتَجَّ لِقَوْلِهِ وَمَذْهَبه بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُصْعَب , أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَؤُمَّن أَحَد بَعْدِي جَالِسًا ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَمْ يَرْوِهِ غَيْر جَابِر الْجُعْفِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ وَهُوَ مَتْرُوك الْحَدِيث , مُرْسَل لَا تَقُوم بِهِ حُجَّة . قَالَ أَبُو عُمَر : جَابِر الْجُعْفِيّ لَا يُحْتَجّ بِشَيْءٍ يَرْوِيه مُسْنَدًا فَكَيْف بِمَا يَرْوِيه مُرْسَلًا ؟ قَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن : إِذَا صَلَّى الْإِمَام الْمَرِيض جَالِسًا بِقَوْمٍ أَصِحَّاء وَمَرْضَى جُلُوسًا فَصَلَاته وَصَلَاة مَنْ خَلْفه مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيع الْقِيَام صَحِيحَة جَائِزَة , وَصَلَاة مَنْ صَلَّى خَلْفه مِمَّنْ حُكْمه الْقِيَام بَاطِلَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف : صَلَاته وَصَلَاتهمْ جَائِزَة . وَقَالُوا : لَوْ صَلَّى وَهُوَ يُومِئ بِقَوْمٍ وَهُمْ يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ لَمْ تُجْزِهِمْ فِي قَوْلهمْ جَمِيعًا وَأَجْزَأَتْ الْإِمَام صَلَاته . وَكَانَ زُفَر يَقُول : تُجْزِئهُمْ صَلَاتهمْ ; لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى فَرْضهمْ وَصَلَّى إِمَامهمْ عَلَى فَرْضه , كَمَا قَالَ الشَّافِعِيّ .
قُلْت : أَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء قَبْله وَبَعْده مِنْ أَنَّهَا آخِر صَلَاة صَلَّاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَدْ رَأَيْت لِغَيْرِهِمْ خِلَال ذَلِكَ مِمَّنْ جَمَعَ طُرُق الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب , وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا وَذَكَرَ اِخْتِلَاف الْفُقَهَاء فِي ذَلِكَ , وَنَحْنُ نَذْكُر مَا ذَكَرَهُ مُلَخَّصًا حَتَّى يَتَبَيَّن لَك الصَّوَاب إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَصِحَّة قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّ صَلَاة الْمَأْمُوم الصَّحِيح قَاعِدًا خَلْف الْإِمَام الْمَرِيض جَائِزَة , فَذَكَرَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بْن حِبَّان الْبُسْتِيّ فِي الْمُسْنَد الصَّحِيح لَهُ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي نَفَر مِنْ أَصْحَابه فَقَالَ : ( أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُول اللَّه إِلَيْكُمْ ) قَالُوا : بَلَى , نَشْهَد أَنَّك رَسُول اللَّه , قَالَ : ( أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه وَمِنْ طَاعَة اللَّه طَاعَتِي ) ؟ قَالُوا : بَلَى , نَشْهَد أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَك فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه وَمِنْ طَاعَة اللَّه طَاعَتك . قَالَ : ( فَإِنَّ مِنْ طَاعَة اللَّه أَنْ تُطِيعُونِي وَمِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ فَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا فَصَلُّوا قُعُودًا ) . فِي طَرِيقه عُقْبَة بْن أَبِي الصَّهْبَاء وَهُوَ ثِقَة , قَالَهُ يَحْيَى بْن مَعِين . قَالَ أَبُو حَاتِم : فِي هَذَا الْخَبَر بَيَان وَاضِح أَنَّ صَلَاة الْمَأْمُومِينَ قُعُودًا إِذَا صَلَّى إِمَامهمْ قَاعِدًا مِنْ طَاعَة اللَّه ـ جَلَّ وَعَلَا ـ الَّتِي أَمَرَ اللَّه بِهَا عِبَاده , وَهُوَ عِنْدِي ضَرْب مِنْ الْإِجْمَاع الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَى إِجَازَته ; لِأَنَّ مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة أَفْتَوْا بِهِ : جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَبُو هُرَيْرَة وَأُسَيْد بْن حُضَيْر وَقَيْس بْن قَهْد , وَلَمْ يَرْوِ عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة الَّذِينَ شَهِدُوا هُبُوط الْوَحْي وَالتَّنْزِيل وَأُعِيذُوا مِنْ التَّحْرِيف وَالتَّبْدِيل خِلَاف لِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة , لَا بِإِسْنَادٍ مُتَّصِل وَلَا مُنْقَطِع , فَكَأَنَّ الصَّحَابَة أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَام إِذَا صَلَّى قَاعِدًا كَانَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا . وَبِهِ قَالَ جَابِر بْن زَيْد وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالِك بْن أَنَس وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم وَأَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بْن دَاوُد الْهَاشِمِيّ وَأَبُو خَيْثَمَة وَابْن أَبِي شَيْبَة وَمُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَصْحَاب الْحَدِيث مِثْل مُحَمَّد بْن نَصْر وَمُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن خُزَيْمَة . وَهَذِهِ السُّنَّة رَوَاهَا عَنْ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَس بْن مَالِك وَعَائِشَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب وَأَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ . وَأَوَّل مَنْ أَبْطَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّة صَلَاة الْمَأْمُوم قَاعِدًا إِذَا صَلَّى إِمَامه جَالِسًا الْمُغِيرَة بْن مِقْسَم صَاحِب النَّخَعِيّ وَأَخَذَ عَنْهُ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان ثُمَّ أَخَذَ عَنْ حَمَّاد أَبُو حَنِيفَة وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ مَنْ بَعْده مِنْ أَصْحَابه . وَأَعْلَى شَيْء اِحْتَجُّوا بِهِ فِيهِ شَيْء رَوَاهُ جَابِر الْجُعْفِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه : ( لَا يَؤُمَّن أَحَد بَعْدِي جَالِسًا ) وَهَذَا لَوْ صَحَّ إِسْنَاده لَكَانَ مُرْسَلًا , وَالْمُرْسَل مِنْ الْخَبَر وَمَا لَمْ يُرْوَ سِيَّانِ فِي الْحُكْم عِنْدنَا , ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَة يَقُول : مَا رَأَيْت فِيمَنْ لَقِيت أَفْضَل مِنْ عَطَاء , وَلَا فِيمَنْ لَقِيت أَكْذَب مِنْ جَابِر الْجُعْفِيّ , وَمَا أَتَيْته بِشَيْءٍ قَطُّ مِنْ رَأْي إِلَّا جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيثٍ , وَزَعَمَ أَنَّ عِنْده كَذَا وَكَذَا أَلْف حَدِيث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْطِق بِهَا , فَهَذَا أَبُو حَنِيفَة يُجَرِّح جَابِرًا الْجُعْفِيّ وَيُكَذِّبهُ ضِدّ قَوْل مَنْ اِنْتَحَلَ مِنْ أَصْحَابه مَذْهَبه . قَالَ أَبُو حَاتِم : وَأَمَّا صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضه فَجَاءَتْ الْأَخْبَار فِيهَا مُجْمَلَة وَمُخْتَصَرَة , وَبَعْضهَا مُفَصَّلَة مُبَيَّنَة , فَفِي بَعْضهَا : فَجَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْب أَبِي بَكْر فَكَانَ أَبُو بَكْر يَأْتَمّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاس يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْر . وَفِي بَعْضهَا : فَجَلَسَ عَنْ يَسَار أَبِي بَكْر وَهَذَا مُفَسَّر . وَفِيهِ : فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْر قَائِمًا . قَالَ أَبُو حَاتِم : وَأَمَّا إِجْمَال هَذَا الْخَبَر فَإِنَّ عَائِشَة حَكَتْ هَذِهِ الصَّلَاة إِلَى هَذَا الْمَوْضِع , وَآخِر الْقِصَّة عِنْد جَابِر بْن عَبْد اللَّه : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الصَّلَاة كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ عِنْد سُقُوطه عَنْ فَرَسه , أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن قُتَيْبَة قَالَ أَنْبَأَنَا يَزِيد بْن مَوْهِب قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْث بْن سَعْد عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر قَالَ : اِشْتَكَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِد , وَأَبُو بَكْر يُسْمِع النَّاس تَكْبِيره , قَالَ : فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا , فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ : ( كِدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْل فَارِس وَالرُّوم يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكهمْ وَهُمْ قُعُود فَلَا تَفْعَلُوا اِئْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا ) . قَالَ أَبُو حَاتِم : فَفِي هَذَا الْخَبَر الْمُفَسَّر بَيَان وَاضِح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَعَدَ عَنْ يَسَار أَبِي بَكْر وَتَحَوَّلَ أَبُو بَكْر مَأْمُومًا يُقْتَدَى بِصَلَاتِهِ وَيُكَبِّرُ يُسْمِع النَّاس التَّكْبِير لِيَقْتَدُوا بِصَلَاتِهِ , أَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ بِالْقُعُودِ حِين رَآهُمْ قِيَامًا , وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاته أَمَرَهُمْ أَيْضًا بِالْقُعُودِ إِذَا صَلَّى إِمَامهمْ قَاعِدًا . وَقَدْ شَهِدَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه صَلَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين سَقَطَ عَنْ فَرَسه فَجُحِشَ شِقّه الْأَيْمَن , وَكَانَ سُقُوطه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْر ذِي الْحَجَّة آخِر سَنَة خَمْس مِنْ الْهِجْرَة , وَشَهِدَ هَذِهِ الصَّلَاة فِي عِلَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْر هَذَا التَّارِيخ فَأَدَّى كُلّ خَبَر بِلَفْظِهِ , أَلَا تَرَاهُ يَذْكُر فِي هَذِهِ الصَّلَاة : رَفَعَ أَبُو بَكْر صَوْته بِالتَّكْبِيرِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاس , وَتِلْكَ الصَّلَاة الَّتِي صَلَّاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْته عِنْد سُقُوطه عَنْ فَرَسه , لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يَرْفَع صَوْته بِالتَّكْبِيرِ لِيَسْمَع النَّاس تَكْبِيره عَلَى صِغَر حُجْرَة عَائِشَة , وَإِنَّمَا كَانَ رَفْعه صَوْته بِالتَّكْبِيرِ فِي الْمَسْجِد الْأَعْظَم الَّذِي صَلَّى فِيهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّته , فَلَمَّا صَحَّ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَل بَعْض هَذِهِ الْأَخْبَار نَاسِخًا لِبَعْضٍ , وَهَذِهِ الصَّلَاة كَانَ خُرُوجه إِلَيْهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن رَجُلَيْنِ , وَكَانَ فِيهَا إِمَامًا وَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ . وَأَمَّا الصَّلَاة الَّتِي صَلَّاهَا آخِر عُمُره فَكَانَ خُرُوجه إِلَيْهَا بَيْن بَرِيرَة وَثَوْبَة , وَكَانَ فِيهَا مَأْمُومًا , وَصَلَّى قَاعِدًا خَلْف أَبِي بَكْر فِي ثَوْب وَاحِد مُتَوَشِّحًا بِهِ . رَوَاهُ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : آخِر صَلَاة صَلَّاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْقَوْم فِي ثَوْب وَاحِد مُتَوَشِّحًا بِهِ قَاعِدًا خَلْف أَبِي بَكْر , فَصَلَّى عَلَيْهِ السَّلَام صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِد جَمَاعَة لَا صَلَاة وَاحِدَة . وَإِنَّ فِي خَبَر عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ بَيْن رَجُلَيْنِ . يُرِيد أَحَدهمَا الْعَبَّاس وَالْآخَر عَلِيًّا . وَفِي خَبَر مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة : ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسه خِفَّة فَخَرَجَ بَيْن بَرِيرَة وَثَوْبَة , إِنِّي لَأَنْظُر إِلَى نَعْلَيْهِ تَخُطَّانِ فِي الْحَصَى وَأَنْظُر إِلَى بُطُون قَدَمَيْهِ , الْحَدِيث . فَهَذَا يَدُلّك عَلَى أَنَّهُمَا كَانَتَا صَلَاتَيْنِ لَا صَلَاة وَاحِدَة . قَالَ أَبُو حَاتِم : أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن خُزَيْمَة قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار قَالَ : حَدَّثَنَا بَدَل بْن الْمُحَبَّر قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ مُوسَى بْن أَبِي عَائِشَة عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه عَنْ عَائِشَة : أَنَّ أَبَا بَكْر صَلَّى بِالنَّاسِ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّفّ خَلْفه . قَالَ أَبُو حَاتِم : خَالَفَ شُعْبَة بْن الْحَجَّاج زَائِدَة بْن قُدَامَة فِي مَتْن هَذَا الْخَبَر عَنْ مُوسَى بْن أَبِي عَائِشَة فَجَعَلَ شُعْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُومًا حَيْثُ صَلَّى قَاعِدًا وَالْقَوْم قِيَام , وَجَعَلَ زَائِدَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَامًا حَيْثُ صَلَّى قَاعِدًا وَالْقَوْم قِيَام , وَهُمَا مُتْقِنَانِ حَافِظَانِ . فَكَيْف يَجُوز أَنْ يُجْعَل إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَضَادَّتَا فِي الظَّاهِر فِي فِعْل وَاحِد نَاسِخًا لِأَمْرٍ مُطْلَق مُتَقَدِّم , فَمَنْ جَعَلَ أَحَد الْخَبَرَيْنِ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ الْآخَر مِنْ غَيْر دَلِيل ثَبَتَ لَهُ عَلَى صِحَّته , سَوَّغَ لِخَصْمِهِ أَخْذ مَا تَرَكَ مِنْ الْخَبَرَيْنِ وَتَرْك مَا أَخَذَ مِنْهُمَا . وَنَظِير هَذَا النَّوْع مِنْ السُّنَن خَبَر اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَة وَهُوَ مُحْرِم , وَخَبَر أَبِي رَافِع صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَهَا وَهُمَا حَلَالَان فَتَضَادَّ الْخَبَرَانِ فِي فِعْل وَاحِد فِي الظَّاهِر مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون بَيْنهمَا تَضَادّ عِنْدنَا , فَجَعَلَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب الْحَدِيث الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ رُوِيَا فِي نِكَاح مَيْمُونَة مُتَعَارِضَيْنِ , وَذَهَبُوا إِلَى خَبَر عُثْمَان بْن عَفَّان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَنْكِح الْمُحْرِم وَلَا يُنْكَح ) فَأَخَذُوا بِهِ , إِذْ هُوَ يُوَافِق إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَتَا فِي نِكَاح مَيْمُونَة , وَتَرَكُوا خَبَر اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِم , فَمَنْ فَعَلَ هَذَا لَزِمَهُ أَنْ يَقُول : تَضَادَّ الْخَبَرَانِ فِي صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّته عَلَى حَسَب مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ , فَيَجِب أَنْ يَجِيء إِلَى الْخَبَر الَّذِي فِيهِ الْأَمْر بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ قُعُودًا إِذَا صَلَّى إِمَامهمْ قَاعِدًا فَيَأْخُذ بِهِ , إِذْ هُوَ يُوَافِق إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَتَا فِي صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّته وَيَتْرُك الْخَبَر الْمُنْفَرِد عَنْهُمَا كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي نِكَاح مَيْمُونَة . قَالَ أَبُو حَاتِم : زَعَمَ بَعْض الْعِرَاقِيِّينَ مِمَّنْ كَانَ يَنْتَحِل مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ أَنَّ قَوْله : ( وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا ) أَرَادَ بِهِ وَإِذَا تَشَهَّدَ قَاعِدًا فَتَشَهَّدُوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ فَحَرَّفَ الْخَبَر عَنْ عُمُوم مَا وَرَدَ الْخَبَر فِيهِ بِغَيْرِ دَلِيل ثَبَتَ لَهُ عَلَى تَأْوِيله .
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ↓
فِيهِ سِتّ مَسَائِل : الْأُولَى : " فَإِنْ خِفْتُمْ " مِنْ الْخَوْف الَّذِي هُوَ الْفَزَع . " فَرِجَالًا " أَيْ فَصَلُّوا رِجَالًا . " أَوْ رُكْبَانًا " مَعْطُوف عَلَيْهِ . وَالرِّجَال جَمْع رَاجِل أَوْ رَجُل مِنْ قَوْلهمْ : رَجِلَ الْإِنْسَان يَرْجَل رَجَلًا إِذَا عَدِمَ الْمَرْكُوب وَمَشَى عَلَى قَدَمَيْهِ , فَهُوَ رَجِل وَرَاجِل وَرَجُل - ( بِضَمِّ الْجِيم ) وَهِيَ لُغَة أَهْل الْحِجَاز , يَقُولُونَ : مَشَى فُلَان إِلَى بَيْت اللَّه حَافِيًا رَجُلًا , - حَكَاهُ الطَّبَرِيّ وَغَيْره - وَرَجْلَان وَرَجِيل وَرَجْل , وَيُجْمَع عَلَى رِجَال وَرَجْلَى وَرُجَّال وَرَجَّالَة وَرُجَالَى وَرُجْلَان وَرِجْلَة وَرِجَلَة ( بِفَتْحِ الْجِيم ) وَأَرْجِلَة وَأَرَاجِل وَأَرَاجِيل . وَالرَّجُل الَّذِي هُوَ اِسْم الْجِنْس يُجْمَع أَيْضًا عَلَى رِجَال .
الثَّانِيَة : لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْقِيَامِ لَهُ فِي الصَّلَاة بِحَالِ قُنُوت وَهُوَ الْوَقَار وَالسَّكِينَة وَهُدُوء الْجَوَارِح وَهَذَا عَلَى الْحَالَة الْغَالِبَة مِنْ الْأَمْن وَالطُّمَأْنِينَة ذَكَرَ حَالَة الْخَوْف الطَّارِئَة أَحْيَانًا , وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَة لَا تَسْقُط عَنْ الْعَبْد فِي حَال , وَرَخَّصَ لِعَبِيدِهِ فِي الصَّلَاة رِجَالًا عَلَى الْأَقْدَام وَرُكْبَانًا عَلَى الْخَيْل وَالْإِبِل وَنَحْوهَا , إِيمَاء وَإِشَارَة بِالرَّأْسِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ , هَذَا قَوْل الْعُلَمَاء , وَهَذِهِ هِيَ صَلَاة الْفَذّ الَّذِي قَدْ ضَايَقَهُ الْخَوْف عَلَى نَفْسه فِي حَال الْمُسَايَفَة أَوْ مِنْ سَبُع يَطْلُبهُ أَوْ مِنْ عَدُوّ يَتْبَعهُ أَوْ سَيْل يَحْمِلهُ , وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلّ أَمْر يَخَاف مِنْهُ عَلَى رُوحه فَهُوَ مُبِيح مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَة .
الثَّالِثَة : هَذِهِ الرُّخْصَة فِي ضِمْنهَا إِجْمَاع الْعُلَمَاء أَنْ يَكُون الْإِنْسَان حَيْثُمَا تَوَجَّهَ مِنْ السُّمُوت وَيَتَقَلَّب وَيَتَصَرَّف بِحَسَبِ نَظَره فِي نَجَاة نَفْسه .
الرَّابِعَة : وَاخْتُلِفَ فِي الْخَوْف الَّذِي تَجُوز فِيهِ الصَّلَاة رِجَالًا وَرُكْبَانًا , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : هُوَ إِطْلَال الْعَدُوّ عَلَيْهِمْ فَيَتَرَاءَوْنَ مَعًا وَالْمُسْلِمُونَ فِي غَيْر حِصْن حَتَّى يَنَالهُمْ السِّلَاح مِنْ الرَّمْي أَوْ أَكْثَر مِنْ أَنْ يَقْرَب الْعَدُوّ فِيهِ مِنْهُمْ مِنْ الطَّعْن وَالضَّرْب , أَوْ يَأْتِي مَنْ يُصَدَّق خَبَره فَيُخْبِرهُ بِأَنَّ الْعَدُوّ قَرِيب مِنْهُ وَمَسِيرهمْ جَادِّينَ إِلَيْهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِد مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف . فَإِنْ صَلَّوْا بِالْخَبَرِ صَلَاة الْخَوْف ثُمَّ ذَهَبَ الْعَدُوّ لَمْ يُعِيدُوا , وَقِيلَ : يُعِيدُونَ , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة . قَالَ أَبُو عُمَر : فَالْحَال الَّتِي يَجُوز مِنْهَا لِلْخَائِفِ أَنْ يُصَلِّي رَاجِلًا أَوْ رَاكِبًا مُسْتَقْبِل الْقِبْلَة أَوْ غَيْر مُسْتَقْبِلهَا هِيَ حَال شِدَّة الْخَوْف , وَالْحَال الَّتِي وَرَدَتْ الْآثَار فِيهَا هِيَ غَيْر هَذِهِ . وَهِيَ صَلَاة الْخَوْف بِالْإِمَامِ وَانْقِسَام النَّاس وَلَيْسَ حُكْمهَا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَهَذَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " النِّسَاء " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفَرَّقَ مَالِك بَيْن خَوْف الْعَدُوّ الْمُقَاتِل وَبَيْن خَوْف السَّبُع وَنَحْوه مِنْ جَمَل صَائِل أَوْ سَيْل أَوْ مَا الْأَغْلَب مِنْ شَأْنه الْهَلَاك , فَإِنَّهُ اُسْتُحِبَّ مِنْ غَيْر خَوْف الْعَدُوّ الْإِعَادَة فِي الْوَقْت إِنْ وَقَعَ الْأَمْن . وَأَكْثَر فُقَهَاء الْأَمْصَار عَلَى أَنَّ الْأَمْر سَوَاء .
الْخَامِسَة : قَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنَّ الْقِتَال يُفْسِد الصَّلَاة , وَحَدِيث اِبْن عُمَر يَرُدّ عَلَيْهِ , وَظَاهِر الْآيَة أَقْوَى دَلِيل عَلَيْهِ , وَسَيَأْتِي هَذَا فِي [ النِّسَاء ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمَّا رَخَّصَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي جَوَاز تَرْك بَعْض الشُّرُوط دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِتَال فِي الصَّلَاة لَا يُفْسِدهَا , وَاَللَّه أَعْلَم .
السَّادِسَة : لَا نُقْصَان فِي عَدَد الرَّكَعَات فِي الْخَوْف عَنْ صَلَاة الْمُسَافِر عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : يُصَلِّي رَكْعَة إِيمَاء , رَوَى مُسْلِم عَنْ بُكَيْر بْن الْأَخْنَس عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : فَرَضَ اللَّه الصَّلَاة عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَر أَرْبَعًا وَفِي السَّفَر رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْف رَكْعَة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : اِنْفَرَدَ بِهِ بُكَيْر بْن الْأَخْنَس وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا يَنْفَرِد بِهِ , وَالصَّلَاة أَوْلَى مَا اُحْتِيطَ فِيهِ , وَمَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي خَوْفه وَسَفَره خَرَجَ مِنْ الِاخْتِلَاف إِلَى الْيَقِين . وَقَالَ الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم : يُصَلِّي صَاحِب خَوْف الْمَوْت فِي الْمُسَايَفَة وَغَيْرهَا رَكْعَة فَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَلْيُكَبِّرْ تَكْبِيرَتَيْنِ . وَقَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ : فَإِنْ لَمْ يَقْدِر إِلَّا عَلَى تَكْبِيرَة وَاحِدَة أَجْزَأَتْ عَنْهُ ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر .
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّه كَمَا عَلَّمَكُمْ " أَيْ اِرْجِعُوا إِلَى مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِتْمَام الْأَرْكَان . وَقَالَ مُجَاهِد : " أَمِنْتُمْ " خَرَجْتُمْ مِنْ دَار السَّفَر إِلَى دَار الْإِقَامَة , وَرَدَّ الطَّبَرِيّ عَلَى هَذَا الْقَوْل . وَقَالَتْ فِرْقَة : " أَمِنْتُمْ " زَالَ خَوْفكُمْ الَّذِي أَلْجَأَكُمْ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاة .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْبَاب فِي بِنَاء الْخَائِف إِذَا أَمِنَ , فَقَالَ مَالِك : إِنْ صَلَّى رَكْعَة آمِنًا ثُمَّ خَافَ رَكِبَ وَبَنَى , وَكَذَلِكَ إِنْ صَلَّى رَكْعَة رَاكِبًا وَهُوَ خَائِف ثُمَّ أَمِنَ نَزَلَ وَبَنَى , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ , وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة آمِنًا ثُمَّ خَافَ اِسْتَقْبَلَ وَلَمْ يَبْنِ فَإِنْ صَلَّى خَائِفًا ثُمَّ أَمِنَ بَنَى . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَبْنِي النَّازِل وَلَا يَبْنِي الرَّاكِب . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : لَا يَبْنِي فِي شَيْء مِنْ هَذَا كُلّه .
الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى : " فَاذْكُرُوا اللَّه " قِيلَ : مَعْنَاهُ اُشْكُرُوهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَة فِي تَعْلِيمكُمْ هَذِهِ الصَّلَاة الَّتِي وَقَعَ بِهَا الْإِجْزَاء , وَلَمْ تَفُتْكُمْ صَلَاة مِنْ الصَّلَوَات وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ . فَالْكَاف فِي قَوْله " كَمَا " بِمَعْنَى الشُّكْر , تَقُول : اِفْعَلْ بِي كَمَا فَعَلْت بِك كَذَا مُكَافَأَة وَشُكْرًا . و " مَا " فِي قَوْله " مَا لَمْ " مَفْعُولَة ب " عَلَّمَكُمْ " .
الرَّابِعَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : الصَّلَاة أَصْلهَا الدُّعَاء , وَحَالَة الْخَوْف أَوْلَى بِالدُّعَاءِ , فَلِهَذَا لَمْ تَسْقُط الصَّلَاة بِالْخَوْفِ , فَإِذَا لَمْ تَسْقُط الصَّلَاة بِالْخَوْفِ فَأَحْرَى أَلَّا تَسْقُط بِغَيْرِهِ مِنْ مَرَض أَوْ نَحْوه , فَأَمَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَات فِي كُلّ حَال مِنْ صِحَّة أَوْ مَرَض , وَحَضَر أَوْ سَفَر , وَقُدْرَة أَوْ عَجْز وَخَوْف أَوْ أَمْن , لَا تَسْقُط عَنْ الْمُكَلَّف بِحَالٍ , وَلَا يَتَطَرَّق إِلَى فَرْضِيَّتهَا اِخْتِلَال . وَسَيَأْتِي بَيَان حُكْم الْمَرِيض فِي آخِر [ آل عِمْرَان ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَالْمَقْصُود مِنْ هَذَا أَنْ تُفْعَل الصَّلَاة كَيْفَمَا أَمْكَنَ , وَلَا تَسْقُط بِحَالٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَّفِق فِعْلهَا إِلَّا بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ لَزِمَ فِعْلهَا , وَبِهَذَا تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِر الْعِبَادَات , كُلّهَا تَسْقُط بِالْأَعْذَارِ وَيُتَرَخَّص فِيهَا بِالرُّخَصِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهِيَ مَسْأَلَة عُظْمَى , إِنَّ تَارِك الصَّلَاة يُقْتَل ; لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الْإِيمَان الَّذِي لَا يَسْقُط بِحَالٍ , وَقَالُوا فِيهَا : إِحْدَى دَعَائِم الْإِسْلَام لَا تَجُوز النِّيَابَة عَنْهَا بِبَدَنٍ وَلَا مَال , فَيُقْتَل تَارِكهَا , أَصْله الشَّهَادَتَانِ . وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي تَارِك الصَّلَاة فِي [ بَرَاءَة ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّانِيَة : لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْقِيَامِ لَهُ فِي الصَّلَاة بِحَالِ قُنُوت وَهُوَ الْوَقَار وَالسَّكِينَة وَهُدُوء الْجَوَارِح وَهَذَا عَلَى الْحَالَة الْغَالِبَة مِنْ الْأَمْن وَالطُّمَأْنِينَة ذَكَرَ حَالَة الْخَوْف الطَّارِئَة أَحْيَانًا , وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَة لَا تَسْقُط عَنْ الْعَبْد فِي حَال , وَرَخَّصَ لِعَبِيدِهِ فِي الصَّلَاة رِجَالًا عَلَى الْأَقْدَام وَرُكْبَانًا عَلَى الْخَيْل وَالْإِبِل وَنَحْوهَا , إِيمَاء وَإِشَارَة بِالرَّأْسِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ , هَذَا قَوْل الْعُلَمَاء , وَهَذِهِ هِيَ صَلَاة الْفَذّ الَّذِي قَدْ ضَايَقَهُ الْخَوْف عَلَى نَفْسه فِي حَال الْمُسَايَفَة أَوْ مِنْ سَبُع يَطْلُبهُ أَوْ مِنْ عَدُوّ يَتْبَعهُ أَوْ سَيْل يَحْمِلهُ , وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلّ أَمْر يَخَاف مِنْهُ عَلَى رُوحه فَهُوَ مُبِيح مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَة .
الثَّالِثَة : هَذِهِ الرُّخْصَة فِي ضِمْنهَا إِجْمَاع الْعُلَمَاء أَنْ يَكُون الْإِنْسَان حَيْثُمَا تَوَجَّهَ مِنْ السُّمُوت وَيَتَقَلَّب وَيَتَصَرَّف بِحَسَبِ نَظَره فِي نَجَاة نَفْسه .
الرَّابِعَة : وَاخْتُلِفَ فِي الْخَوْف الَّذِي تَجُوز فِيهِ الصَّلَاة رِجَالًا وَرُكْبَانًا , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : هُوَ إِطْلَال الْعَدُوّ عَلَيْهِمْ فَيَتَرَاءَوْنَ مَعًا وَالْمُسْلِمُونَ فِي غَيْر حِصْن حَتَّى يَنَالهُمْ السِّلَاح مِنْ الرَّمْي أَوْ أَكْثَر مِنْ أَنْ يَقْرَب الْعَدُوّ فِيهِ مِنْهُمْ مِنْ الطَّعْن وَالضَّرْب , أَوْ يَأْتِي مَنْ يُصَدَّق خَبَره فَيُخْبِرهُ بِأَنَّ الْعَدُوّ قَرِيب مِنْهُ وَمَسِيرهمْ جَادِّينَ إِلَيْهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِد مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف . فَإِنْ صَلَّوْا بِالْخَبَرِ صَلَاة الْخَوْف ثُمَّ ذَهَبَ الْعَدُوّ لَمْ يُعِيدُوا , وَقِيلَ : يُعِيدُونَ , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة . قَالَ أَبُو عُمَر : فَالْحَال الَّتِي يَجُوز مِنْهَا لِلْخَائِفِ أَنْ يُصَلِّي رَاجِلًا أَوْ رَاكِبًا مُسْتَقْبِل الْقِبْلَة أَوْ غَيْر مُسْتَقْبِلهَا هِيَ حَال شِدَّة الْخَوْف , وَالْحَال الَّتِي وَرَدَتْ الْآثَار فِيهَا هِيَ غَيْر هَذِهِ . وَهِيَ صَلَاة الْخَوْف بِالْإِمَامِ وَانْقِسَام النَّاس وَلَيْسَ حُكْمهَا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَهَذَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " النِّسَاء " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفَرَّقَ مَالِك بَيْن خَوْف الْعَدُوّ الْمُقَاتِل وَبَيْن خَوْف السَّبُع وَنَحْوه مِنْ جَمَل صَائِل أَوْ سَيْل أَوْ مَا الْأَغْلَب مِنْ شَأْنه الْهَلَاك , فَإِنَّهُ اُسْتُحِبَّ مِنْ غَيْر خَوْف الْعَدُوّ الْإِعَادَة فِي الْوَقْت إِنْ وَقَعَ الْأَمْن . وَأَكْثَر فُقَهَاء الْأَمْصَار عَلَى أَنَّ الْأَمْر سَوَاء .
الْخَامِسَة : قَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنَّ الْقِتَال يُفْسِد الصَّلَاة , وَحَدِيث اِبْن عُمَر يَرُدّ عَلَيْهِ , وَظَاهِر الْآيَة أَقْوَى دَلِيل عَلَيْهِ , وَسَيَأْتِي هَذَا فِي [ النِّسَاء ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمَّا رَخَّصَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي جَوَاز تَرْك بَعْض الشُّرُوط دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِتَال فِي الصَّلَاة لَا يُفْسِدهَا , وَاَللَّه أَعْلَم .
السَّادِسَة : لَا نُقْصَان فِي عَدَد الرَّكَعَات فِي الْخَوْف عَنْ صَلَاة الْمُسَافِر عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : يُصَلِّي رَكْعَة إِيمَاء , رَوَى مُسْلِم عَنْ بُكَيْر بْن الْأَخْنَس عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : فَرَضَ اللَّه الصَّلَاة عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَر أَرْبَعًا وَفِي السَّفَر رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْف رَكْعَة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : اِنْفَرَدَ بِهِ بُكَيْر بْن الْأَخْنَس وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا يَنْفَرِد بِهِ , وَالصَّلَاة أَوْلَى مَا اُحْتِيطَ فِيهِ , وَمَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي خَوْفه وَسَفَره خَرَجَ مِنْ الِاخْتِلَاف إِلَى الْيَقِين . وَقَالَ الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم : يُصَلِّي صَاحِب خَوْف الْمَوْت فِي الْمُسَايَفَة وَغَيْرهَا رَكْعَة فَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَلْيُكَبِّرْ تَكْبِيرَتَيْنِ . وَقَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ : فَإِنْ لَمْ يَقْدِر إِلَّا عَلَى تَكْبِيرَة وَاحِدَة أَجْزَأَتْ عَنْهُ ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر .
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّه كَمَا عَلَّمَكُمْ " أَيْ اِرْجِعُوا إِلَى مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِتْمَام الْأَرْكَان . وَقَالَ مُجَاهِد : " أَمِنْتُمْ " خَرَجْتُمْ مِنْ دَار السَّفَر إِلَى دَار الْإِقَامَة , وَرَدَّ الطَّبَرِيّ عَلَى هَذَا الْقَوْل . وَقَالَتْ فِرْقَة : " أَمِنْتُمْ " زَالَ خَوْفكُمْ الَّذِي أَلْجَأَكُمْ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاة .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْبَاب فِي بِنَاء الْخَائِف إِذَا أَمِنَ , فَقَالَ مَالِك : إِنْ صَلَّى رَكْعَة آمِنًا ثُمَّ خَافَ رَكِبَ وَبَنَى , وَكَذَلِكَ إِنْ صَلَّى رَكْعَة رَاكِبًا وَهُوَ خَائِف ثُمَّ أَمِنَ نَزَلَ وَبَنَى , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ , وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة آمِنًا ثُمَّ خَافَ اِسْتَقْبَلَ وَلَمْ يَبْنِ فَإِنْ صَلَّى خَائِفًا ثُمَّ أَمِنَ بَنَى . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَبْنِي النَّازِل وَلَا يَبْنِي الرَّاكِب . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : لَا يَبْنِي فِي شَيْء مِنْ هَذَا كُلّه .
الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى : " فَاذْكُرُوا اللَّه " قِيلَ : مَعْنَاهُ اُشْكُرُوهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَة فِي تَعْلِيمكُمْ هَذِهِ الصَّلَاة الَّتِي وَقَعَ بِهَا الْإِجْزَاء , وَلَمْ تَفُتْكُمْ صَلَاة مِنْ الصَّلَوَات وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ . فَالْكَاف فِي قَوْله " كَمَا " بِمَعْنَى الشُّكْر , تَقُول : اِفْعَلْ بِي كَمَا فَعَلْت بِك كَذَا مُكَافَأَة وَشُكْرًا . و " مَا " فِي قَوْله " مَا لَمْ " مَفْعُولَة ب " عَلَّمَكُمْ " .
الرَّابِعَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : الصَّلَاة أَصْلهَا الدُّعَاء , وَحَالَة الْخَوْف أَوْلَى بِالدُّعَاءِ , فَلِهَذَا لَمْ تَسْقُط الصَّلَاة بِالْخَوْفِ , فَإِذَا لَمْ تَسْقُط الصَّلَاة بِالْخَوْفِ فَأَحْرَى أَلَّا تَسْقُط بِغَيْرِهِ مِنْ مَرَض أَوْ نَحْوه , فَأَمَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَات فِي كُلّ حَال مِنْ صِحَّة أَوْ مَرَض , وَحَضَر أَوْ سَفَر , وَقُدْرَة أَوْ عَجْز وَخَوْف أَوْ أَمْن , لَا تَسْقُط عَنْ الْمُكَلَّف بِحَالٍ , وَلَا يَتَطَرَّق إِلَى فَرْضِيَّتهَا اِخْتِلَال . وَسَيَأْتِي بَيَان حُكْم الْمَرِيض فِي آخِر [ آل عِمْرَان ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَالْمَقْصُود مِنْ هَذَا أَنْ تُفْعَل الصَّلَاة كَيْفَمَا أَمْكَنَ , وَلَا تَسْقُط بِحَالٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَّفِق فِعْلهَا إِلَّا بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ لَزِمَ فِعْلهَا , وَبِهَذَا تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِر الْعِبَادَات , كُلّهَا تَسْقُط بِالْأَعْذَارِ وَيُتَرَخَّص فِيهَا بِالرُّخَصِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهِيَ مَسْأَلَة عُظْمَى , إِنَّ تَارِك الصَّلَاة يُقْتَل ; لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الْإِيمَان الَّذِي لَا يَسْقُط بِحَالٍ , وَقَالُوا فِيهَا : إِحْدَى دَعَائِم الْإِسْلَام لَا تَجُوز النِّيَابَة عَنْهَا بِبَدَنٍ وَلَا مَال , فَيُقْتَل تَارِكهَا , أَصْله الشَّهَادَتَانِ . وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي تَارِك الصَّلَاة فِي [ بَرَاءَة ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ↓
ذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا كَانَتْ تَجْلِس فِي بَيْت الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَوْلًا , وَيُنْفَق عَلَيْهَا مِنْ مَاله مَا لَمْ تَخْرُج مِنْ الْمَنْزِل , فَإِنْ خَرَجَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَرَثَة جُنَاح فِي قَطْع النَّفَقَة عَنْهَا , ثُمَّ نُسِخَ الْحَوْل بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُر وَالْعَشْر , وَنُسِخَتْ النَّفَقَة بِالرُّبُعِ وَالثُّمُن فِي سُورَة " النِّسَاء " قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَابْن زَيْد وَالرَّبِيع . وَفِي السُّكْنَى خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ , رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن الزُّبَيْر قَالَ : قُلْت لِعُثْمَان هَذِهِ الْآيَة الَّتِي فِي " الْبَقَرَة " : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا - إِلَى قَوْله - غَيْر إِخْرَاج " قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَة الْأُخْرَى فَلَمْ تَكْتُبهَا أَوَ تَدَعهَا ؟ قَالَ : يَا اِبْن أَخِي لَا أُغَيِّر شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانه . وَقَالَ الطَّبَرِيّ عَنْ مُجَاهِد : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة مُحْكَمَة لَا نَسْخ فِيهَا , وَالْعِدَّة كَانَتْ قَدْ ثَبَتَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا , ثُمَّ جَعَلَ اللَّه لَهُنَّ وَصِيَّة مِنْهُ سُكْنَى سَبْعَة أَشْهُر وَعِشْرِينَ لَيْلَة , فَإِنْ شَاءَتْ الْمَرْأَة سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتهَا , وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ , وَهُوَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " غَيْر إِخْرَاج فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ " . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا كُلّه قَدْ زَالَ حُكْمه بِالنَّسْخِ الْمُتَّفَق عَلَيْهِ إِلَّا مَا قَوَّلَهُ الطَّبَرِيّ مُجَاهِدًا رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى , وَفِي ذَلِكَ نَظَر عَلَى الطَّبَرِيّ . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَالْإِجْمَاع مُنْعَقِد عَلَى أَنَّ الْحَوْل مَنْسُوخ وَأَنَّ عِدَّتهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر . قَالَ غَيْره : مَعْنَى قَوْله " وَصِيَّة " أَيْ مِنْ اللَّه تَعَالَى تَجِب عَلَى النِّسَاء بَعْد وَفَاة الزَّوْج بِلُزُومِ الْبُيُوت سَنَة ثُمَّ نُسِخَ .
قُلْت : مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ عَنْ مُجَاهِد صَحِيح ثَابِت , خَرَّجَ الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاق قَالَ حَدَّثَنَا رَوْح قَالَ حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا " قَالَ : كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّة تَعْتَدّ عِنْد أَهْل زَوْجهَا وَاجِبَة فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا - إِلَى قَوْله - مِنْ مَعْرُوف " قَالَ : جَعَلَ اللَّه لَهَا تَمَام السَّنَة سَبْعَة أَشْهُر وَعِشْرِينَ لَيْلَة وَصِيَّة , إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " غَيْر إِخْرَاج فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ " إِلَّا أَنَّ الْقَوْل الْأَوَّل أَظْهَر لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّة تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عِنْد رَأْس الْحَوْل . .. ) الْحَدِيث . وَهَذَا إِخْبَار مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالَة الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجهنَّ قَبْل وُرُود الشَّرْع , فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام أَمَرَهُنَّ اللَّه تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ الْبُيُوت حَوْلًا ثُمَّ نُسِخَ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُر وَالْعَشْر , هَذَا - مَعَ وُضُوحه فِي السُّنَّة الثَّابِتَة الْمَنْقُولَة بِأَخْبَارِ الْآحَاد - إِجْمَاع مِنْ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ لَا خِلَاف فِيهِ , قَالَهُ أَبُو عُمَر , قَالَ : وَكَذَلِكَ سَائِر الْآيَة . فَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِنَّ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْر إِخْرَاج " مَنْسُوخ كُلّه عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء , ثُمَّ نَسَخَ الْوَصِيَّة بِالسُّكْنَى لِلزَّوْجَاتِ فِي الْحَوْل , إِلَّا رِوَايَة شَاذَّة مَهْجُورَة جَاءَتْ عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد لَمْ يُتَابَع عَلَيْهَا , وَلَا قَالَ بِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر وَالْعَشْر أَحَد مِنْ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ فِيمَا عَلِمْت . وَقَدْ رَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ مُجَاهِد مِثْل مَا عَلَيْهِ النَّاس , فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاع وَارْتَفَعَ الْخِلَاف , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
قَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَالْكِسَائِيّ وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر " وَصِيَّة " بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاء , وَخَبَره " لِأَزْوَاجِهِمْ " . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى عَلَيْهِمْ وَصِيَّة , وَيَكُون قَوْله " لِأَزْوَاجِهِمْ " صِفَة , قَالَ الطَّبَرِيّ : قَالَ بَعْض النُّحَاة : الْمَعْنَى كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ وَصِيَّة , وَيَكُون قَوْله " لِأَزْوَاجِهِمْ " صِفَة , قَالَ : وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَابْن عَامِر " وَصِيَّة " بِالنَّصْبِ , وَذَلِكَ حُمِلَ عَلَى الْفِعْل , أَيْ فَلْيُوصُوا وَصِيَّة . ثُمَّ الْمَيِّت لَا يُوصِي وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِذَا قَرُبُوا مِنْ الْوَفَاة , و " لِأَزْوَاجِهِمْ " عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة أَيْضًا صِفَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَوْصَى اللَّه وَصِيَّة . " مَتَاعًا " أَيْ مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا : أَوْ جَعَلَ اللَّه لَهُنَّ ذَلِكَ مَتَاعًا لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون نَصْبًا عَلَى الْحَال أَوْ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْوَصِيَّة , كَقَوْلِهِ : " أَوْ إِطْعَام فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة يَتِيمًا " [ الْبَلَد : 14 - 15 ] وَالْمَتَاع هَاهُنَا نَفَقَة سَنَتهَا .
مَعْنَاهُ لَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَيِّت وَوَارِثِي الْمَنْزِل إِخْرَاجهَا و " غَيْر " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر عِنْد الْأَخْفَش , كَأَنَّهُ قَالَ لَا إِخْرَاجًا . وَقِيلَ : نُصِبَ لِأَنَّهُ صِفَة الْمَتَاع وَقِيلَ : نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الْمُوصِينَ أَيْ مَتِّعُوهُنَّ غَيْر مُخْرَجَات . وَقِيلَ : بِنَزْعِ الْخَافِض , أَيْ مِنْ غَيْر إِخْرَاج .
مَعْنَاهُ فَإِنْ خَرَجْنَ بِاخْتِيَارِهِنَّ قَبْل الْحَوْل .
أَيْ لَا حَرَج عَلَى أَحَد وَلِيّ أَوْ حَاكِم أَوْ غَيْره ; لِأَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهَا الْمُقَام فِي بَيْت زَوْجهَا حَوْلًا . وَقِيلَ : أَيْ لَا جُنَاح فِي قَطْع النَّفَقَة عَنْهُنَّ , أَوْ لَا جُنَاح عَلَيْهِنَّ فِي التَّشَوُّف إِلَى الْأَزْوَاج , إِذْ قَدْ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُنَّ مُرَاقَبَتكُمْ أَيّهَا الْوَرَثَة , ثُمَّ عَلَيْهَا أَلَّا تَتَزَوَّج قَبْل اِنْقِضَاء الْعِدَّة بِالْحَوْلِ , أَوْ لَا جُنَاح فِي تَزْوِيجهنَّ بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة ; لِأَنَّهُ قَالَ " مِنْ مَعْرُوف " .
وَهُوَ مَا يُوَافِق الشَّرْع .
أَيْ مُحْكِمٌ لِمَا يُرِيد مِنْ أُمُور عِبَاده .
قُلْت : مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ عَنْ مُجَاهِد صَحِيح ثَابِت , خَرَّجَ الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاق قَالَ حَدَّثَنَا رَوْح قَالَ حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا " قَالَ : كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّة تَعْتَدّ عِنْد أَهْل زَوْجهَا وَاجِبَة فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا - إِلَى قَوْله - مِنْ مَعْرُوف " قَالَ : جَعَلَ اللَّه لَهَا تَمَام السَّنَة سَبْعَة أَشْهُر وَعِشْرِينَ لَيْلَة وَصِيَّة , إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " غَيْر إِخْرَاج فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ " إِلَّا أَنَّ الْقَوْل الْأَوَّل أَظْهَر لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّة تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عِنْد رَأْس الْحَوْل . .. ) الْحَدِيث . وَهَذَا إِخْبَار مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالَة الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجهنَّ قَبْل وُرُود الشَّرْع , فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام أَمَرَهُنَّ اللَّه تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ الْبُيُوت حَوْلًا ثُمَّ نُسِخَ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُر وَالْعَشْر , هَذَا - مَعَ وُضُوحه فِي السُّنَّة الثَّابِتَة الْمَنْقُولَة بِأَخْبَارِ الْآحَاد - إِجْمَاع مِنْ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ لَا خِلَاف فِيهِ , قَالَهُ أَبُو عُمَر , قَالَ : وَكَذَلِكَ سَائِر الْآيَة . فَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِنَّ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْر إِخْرَاج " مَنْسُوخ كُلّه عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء , ثُمَّ نَسَخَ الْوَصِيَّة بِالسُّكْنَى لِلزَّوْجَاتِ فِي الْحَوْل , إِلَّا رِوَايَة شَاذَّة مَهْجُورَة جَاءَتْ عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد لَمْ يُتَابَع عَلَيْهَا , وَلَا قَالَ بِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر وَالْعَشْر أَحَد مِنْ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ فِيمَا عَلِمْت . وَقَدْ رَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ مُجَاهِد مِثْل مَا عَلَيْهِ النَّاس , فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاع وَارْتَفَعَ الْخِلَاف , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
قَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَالْكِسَائِيّ وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر " وَصِيَّة " بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاء , وَخَبَره " لِأَزْوَاجِهِمْ " . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى عَلَيْهِمْ وَصِيَّة , وَيَكُون قَوْله " لِأَزْوَاجِهِمْ " صِفَة , قَالَ الطَّبَرِيّ : قَالَ بَعْض النُّحَاة : الْمَعْنَى كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ وَصِيَّة , وَيَكُون قَوْله " لِأَزْوَاجِهِمْ " صِفَة , قَالَ : وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَابْن عَامِر " وَصِيَّة " بِالنَّصْبِ , وَذَلِكَ حُمِلَ عَلَى الْفِعْل , أَيْ فَلْيُوصُوا وَصِيَّة . ثُمَّ الْمَيِّت لَا يُوصِي وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِذَا قَرُبُوا مِنْ الْوَفَاة , و " لِأَزْوَاجِهِمْ " عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة أَيْضًا صِفَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَوْصَى اللَّه وَصِيَّة . " مَتَاعًا " أَيْ مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا : أَوْ جَعَلَ اللَّه لَهُنَّ ذَلِكَ مَتَاعًا لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون نَصْبًا عَلَى الْحَال أَوْ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْوَصِيَّة , كَقَوْلِهِ : " أَوْ إِطْعَام فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة يَتِيمًا " [ الْبَلَد : 14 - 15 ] وَالْمَتَاع هَاهُنَا نَفَقَة سَنَتهَا .
مَعْنَاهُ لَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَيِّت وَوَارِثِي الْمَنْزِل إِخْرَاجهَا و " غَيْر " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر عِنْد الْأَخْفَش , كَأَنَّهُ قَالَ لَا إِخْرَاجًا . وَقِيلَ : نُصِبَ لِأَنَّهُ صِفَة الْمَتَاع وَقِيلَ : نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الْمُوصِينَ أَيْ مَتِّعُوهُنَّ غَيْر مُخْرَجَات . وَقِيلَ : بِنَزْعِ الْخَافِض , أَيْ مِنْ غَيْر إِخْرَاج .
مَعْنَاهُ فَإِنْ خَرَجْنَ بِاخْتِيَارِهِنَّ قَبْل الْحَوْل .
أَيْ لَا حَرَج عَلَى أَحَد وَلِيّ أَوْ حَاكِم أَوْ غَيْره ; لِأَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهَا الْمُقَام فِي بَيْت زَوْجهَا حَوْلًا . وَقِيلَ : أَيْ لَا جُنَاح فِي قَطْع النَّفَقَة عَنْهُنَّ , أَوْ لَا جُنَاح عَلَيْهِنَّ فِي التَّشَوُّف إِلَى الْأَزْوَاج , إِذْ قَدْ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُنَّ مُرَاقَبَتكُمْ أَيّهَا الْوَرَثَة , ثُمَّ عَلَيْهَا أَلَّا تَتَزَوَّج قَبْل اِنْقِضَاء الْعِدَّة بِالْحَوْلِ , أَوْ لَا جُنَاح فِي تَزْوِيجهنَّ بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة ; لِأَنَّهُ قَالَ " مِنْ مَعْرُوف " .
وَهُوَ مَا يُوَافِق الشَّرْع .
أَيْ مُحْكِمٌ لِمَا يُرِيد مِنْ أُمُور عِبَاده .