وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ↓
اللَّام مُتَعَلِّقَة بِالْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ " وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض " كَأَنَّهُ قَالَ : هُوَ مَالِك ذَلِكَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء وَيُضِلّ مَنْ يَشَاء لِيَجْزِيَ الْمُحْسِن بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيء بِإِسَاءَتِهِ . وَقِيلَ : " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض " مُعْتَرِض فِي الْكَلَام ; وَالْمَعْنَى : إِنَّ رَبّك هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيله وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اِهْتَدَى لِيَجْزِيَ . وَقِيلَ : هِيَ لَام الْعَاقِبَة , أَيْ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض ; أَيْ وَعَاقِبَة أَمْر الْخَلْق أَنْ يَكُون فِيهِمْ مُسِيء وَمُحْسِن ; فَلِلْمُسِيءِ السُّوأَى وَهِيَ جَهَنَّم , وَلِلْمُحْسِنِ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّة .
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ↓
فِيهِ مَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش " هَذَا نَعْت لِلْمُحْسِنِينَ ; أَيْ هُمْ لَا يَرْتَكِبُونَ كَبَائِر الْإِثْم وَهُوَ الشِّرْك ; لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْآثَام . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى بْن وَثَّاب وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " كَبِير " عَلَى التَّوْحِيد وَفَسَّرَهُ اِبْن عَبَّاس بِالشِّرْكِ . " وَالْفَوَاحِش " الزِّنَى : وَقَالَ مُقَاتِل : " كَبَائِر الْإِثْم " كُلّ ذَنْب خُتِمَ بِالنَّارِ . " وَالْفَوَاحِش " كُلّ ذَنْب فِيهِ الْحَدّ . وَقَدْ مَضَى فِي " النِّسَاء " الْقَوْل فِي هَذَا . ثُمَّ اِسْتَثْنَى اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا وَهِيَ :
الثَّانِيَة : فَقَالَ : " إِلَّا اللَّمَم " وَهِيَ الصَّغَائِر الَّتِي لَا يَسْلَم مِنْ الْوُقُوع فِيهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّه وَحَفِظَهُ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا ; فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَالشَّعْبِيّ : " اللَّمَم " كُلّ مَا دُون الزِّنَى . وَذَكَرَ مُقَاتِل بْن سُلَيْمَان : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي رَجُل كَانَ يُسَمَّى نَبْهَان التَّمَّار ; كَانَ لَهُ حَانُوت يَبِيع فِيهِ تَمْرًا , فَجَاءَتْهُ اِمْرَأَة تَشْتَرِي مِنْهُ تَمْرًا فَقَالَ لَهَا : إِنَّ دَاخِل الدُّكَّان مَا هُوَ خَيْر مِنْ هَذَا , فَلَمَّا دَخَلَتْ رَاوَدَهَا فَأَبَتْ وَانْصَرَفَتْ فَنَدِمَ نَبْهَان ; فَأَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه ! مَا مِنْ شَيْء يَصْنَعهُ الرَّجُل إِلَّا وَقَدْ فَعَلْته إِلَّا الْجِمَاع ; فَقَالَ : ( لَعَلَّ زَوْجَهَا غَازٍ ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , وَقَدْ مَضَى فِي آخِر " هُود " وَكَذَا قَالَ اِبْن مَسْعُود وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ وَحُذَيْفَة وَمَسْرُوق : إِنَّ اللَّمَم مَا دُون الْوَطْء مِنْ الْقُبْلَة وَالْغَمْزَة وَالنَّظْرَة وَالْمُضَاجَعَة . وَرَوَى مَسْرُوق عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : زِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَر , وَزِنَى الْيَدَيْنِ الْبَطْش , وَزِنَى الرِّجْلَيْنِ الْمَشْي , وَإِنَّمَا يُصَدِّق ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبهُ الْفَرْج ; فَإِنْ تَقَدَّمَ كَانَ زِنًى وَإِنْ تَأَخَّرَ كَانَ لَمَمًا . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا رَأَيْت شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه كَتَبَ عَلَى اِبْن آدَم حَظّه مِنْ الزِّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَة فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَر وَزِنَى اللِّسَان النُّطْق وَالنَّفْس تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْج يُصَدِّق ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبهُ ) . وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْفَاحِشَة الْعَظِيمَة وَالزِّنَى التَّامّ الْمُوجِب لِلْحَدِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَة فِي الْآخِرَة هُوَ فِي الْفَرْج وَغَيْره لَهُ حَظّ مِنْ الْإِثْم . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كُتِبَ عَلَى اِبْن آدَم نَصِيبه مِنْ الزِّنَى مُدْرِكٌ لَا مَحَالَة فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَر وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاع وَاللِّسَان زِنَاهُ الْكَلَام وَالْيَد زِنَاهَا الْبَطْش وَالرِّجْل زِنَاهَا الْخُطَى وَالْقَلْب يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّق ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبهُ ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ حَدِيث طَاوُس عَنْ اِبْن عَبَّاس فَذَكَرَ فِيهِ الْأُذُن وَالْيَد وَالرِّجْل , وَزَادَ فِيهِ بَعْد الْعَيْنَيْنِ وَاللِّسَان : ( وَزِنَى الشَّفَتَيْنِ الْقُبْلَة ) . فَهَذَا قَوْل . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : هُوَ الرَّجُل يُلِمّ بِذَنْبٍ ثُمَّ يَتُوب . قَالَ : أَلَمْ تَسْمَع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول : إِنْ يَغْفِرِ اللَّهُ يَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا رَوَاهُ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ وَأَجَلّهَا إِسْنَادًا . وَرَوَى شُعْبَة عَنْ مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " إِلَّا اللَّمَم " قَالَ : هُوَ أَنْ يُلِمّ الْعَبْد بِالذَّنْبِ ثُمَّ لَا يُعَاوِدهُ ; قَالَ الشَّاعِر : إِنْ تَغْفِر اللَّهُمَّ تَغْفِر جَمًّا وَأَيّ عَبْد لَك لَا أَلَمَّا وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن : هُوَ الَّذِي يَأْتِي الذَّنْب ثُمَّ لَا يُعَاوِدهُ , وَنَحْوه عَنْ الزُّهْرِيّ , قَالَ : اللَّمَم أَنْ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوب فَلَا يَعُود , وَأَنْ يَسْرِق أَوْ يَشْرَب الْخَمْر ثُمَّ يَتُوب فَلَا يَعُود . وَدَلِيل هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ ذَكَرُوا اللَّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ " [ آل عِمْرَان : 135 ] الْآيَة . ثُمَّ قَالَ : " أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَة مِنْ رَبّهمْ " [ آل عِمْرَان : 136 ] فَضَمِنَ لَهُمْ الْمَغْفِرَة ; كَمَا قَالَ عَقِيب اللَّمَم : " إِنَّ رَبّك وَاسِع الْمَغْفِرَة " فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَكُون " إِلَّا اللَّمَم " اِسْتِثْنَاء مُتَّصِلًا . قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص : اللَّمَم مَا دُون الشِّرْك . وَقِيلَ : اللَّمَم الذَّنْب بَيْن الْحَدَّيْنِ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ حَدّ فِي الدُّنْيَا , وَلَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِعَذَابٍ فِي الْآخِرَة تُكَفِّرهُ الصَّلَوَات الْخَمْس . قَالَهُ اِبْن زَيْد وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة . وَرَوَاهُ الْعَوْفِيّ وَالْحَكَم بْن عُتَيْبَة عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : اللَّمَم عَلَى وَجْهَيْنِ : كُلّ ذَنْب لَمْ يَذْكُر اللَّه عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا وَلَا عَذَابًا فِي الْآخِرَة ; فَذَلِكَ الَّذِي تُكَفِّرهُ الصَّلَوَات الْخَمْس مَا لَمْ يَبْلُغ الْكَبَائِر وَالْفَوَاحِش . وَالْوَجْه الْآخَر هُوَ الذَّنْب الْعَظِيم يُلِمّ بِهِ الْإِنْسَان الْمَرَّة بَعْد الْمَرَّة فَيَتُوب مِنْهُ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَأَبِي هُرَيْرَة وَزَيْد بْن ثَابِت : هُوَ مَا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَا يُؤَاخِذهُمْ بِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ : إِنَّمَا كُنْتُمْ بِالْأَمْسِ تَعْمَلُونَ مَعَنَا فَنَزَلَتْ وَقَالَهُ زَيْد بْن أَسْلَمَ وَابْنه ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْن الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " [ النِّسَاء : 23 ] . وَقِيلَ : اللَّمَم هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِذَنْبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِعَادَةٍ ; قَالَ نَفْطَوَيْهِ . قَالَ : وَالْعَرَب تَقُول مَا يَأْتِينَا إِلَّا لِمَامًا ; أَيْ فِي الْحِين بَعْد الْحِين . قَالَ : وَلَا يَكُون أَنْ يُلِمّ وَلَا يَفْعَل , لِأَنَّ الْعَرَب لَا تَقُول أَلَمَّ بِنَا إِلَّا إِذَا فَعَلَ الْإِنْسَان لَا إِذَا هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلهُ . وَفِي الصِّحَاح : وَأَلَمَّ الرَّجُل مِنْ اللَّمَم وَهُوَ صَغَائِر الذُّنُوب , وَيُقَال : هُوَ مُقَارَبَة الْمَعْصِيَة مِنْ غَيْر مُوَاقَعَة . وَأَنْشَدَ غَيْر الْجَوْهَرِيّ : بِزَيْنَب أَلْمِمْ قَبْل أَنْ يَرْحَلَ الرَّكْبُ وَقُلْ إِنْ تَمَلِّينَا فَمَا مَلَّكِ الْقَلْبُ أَيْ اقْرَبْ . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : اللَّمَم عَادَة النَّفْس الْحِين بَعْد الْحِين . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هُوَ مَا أَلَمَّ عَلَى الْقَلْب ; أَيْ خَطَرَ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة : كُلّ مَا هَمَمْت بِهِ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ فَهُوَ لَمَم . وَدَلِيل هَذَا التَّأْوِيل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّة وَلِلْمَلَكِ لَمَّة ) الْحَدِيث . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " الشَّيْطَان يَعِدكُمْ الْفَقْر " . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : أَصْل اللَّمَم وَالْإِلْمَام مَا يَعْمَلهُ الْإِنْسَان الْمَرَّة بَعْد الْمَرَّة وَلَا يَتَعَمَّق فِيهِ وَلَا يُقِيم عَلَيْهِ ; يُقَال : أَلْمَمْت بِهِ إِذَا زُرْته وَانْصَرَفْت عَنْهُ , وَيُقَال : مَا فَعَلْته إِلَّا لَمَمًا وَإِلْمَامًا ; أَيْ الْحِين بَعْد الْحِين . وَإِنَّمَا زِيَارَتك إِلْمَام , وَمِنْهُ إِلْمَام الْخَيَال ; قَالَ الْأَعْشَى : أَلَمَّ خَيَال مِنْ قُتَيْلَة بَعْدَمَا وَهَى حَبْلُهَا مِنْ حَبْلنَا فَتَصَرَّمَا وَقِيلَ : إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاو . وَأَنْكَرَ هَذَا الْفَرَّاء وَقَالَ : الْمَعْنَى إِلَّا الْمُتَقَارِب مِنْ صِغَار الذُّنُوب . وَقِيلَ : اللَّمَم النَّظْرَة الَّتِي تَكُون فَجْأَة .
قُلْت : هَذَا فِيهِ بُعْد إِذْ هُوَ مَعْفُوّ عَنْهُ اِبْتِدَاء غَيْر مُؤَاخَذ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَقَع مِنْ غَيْر قَصْد وَاخْتِيَار , وَقَدْ مَضَى فِي " النُّور " بَيَانه . وَاللَّمَم أَيْضًا طَرَف مِنْ الْجُنُون , وَرَجُل مَلْمُوم أَيْ بِهِ لَمَم . وَيُقَال أَيْضًا : أَصَابَتْ فُلَانًا لَمَّة مِنْ الْجِنّ وَهِيَ الْمَسّ وَالشَّيْء الْقَلِيل ; قَالَ الشَّاعِر : فَإِذَا وَذَلِكَ يَا كُبَيْشَة لَمْ يَكُنْ إِلَّا كَلَمَّةِ حَالِم بِخَيَالِ
لِمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبه وَاسْتَغْفَرَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَة عَمْرو بْن شُرَحْبِيل وَكَانَ مِنْ أَفَاضِل أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود : رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي دَخَلْت الْجَنَّة فَإِذَا قِبَاب مَضْرُوبَة , فَقُلْت : لِمَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالُوا : لِذِي الْكَلَاع وَحَوْشَب , وَكَانَا مِمَّنْ قَتَلَ بَعْضهمْ بَعْضًا , فَقُلْت : وَكَيْف ذَلِكَ ؟ فَقَالُوا : إِنَّهُمَا لَقِيَا اللَّه فَوَجَدَاهُ وَاسِع الْمَغْفِرَة . فَقَالَ أَبُو خَالِد : بَلَغَنِي أَنَّ ذَا الْكَلَاع أَعْتَقَ اِثْنَيْ عَشَرَ أَلْف بِنْت .
مِنْ أَنْفُسكُمْ
يَعْنِي أَبَاكُمْ آدَم مِنْ الطِّين وَخَرَجَ اللَّفْظ عَلَى الْجَمْع . قَالَ التِّرْمِذِيّ أَبُو عَبْد اللَّه : وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ عِنْدنَا , بَلْ وَقَعَ الْإِنْشَاء عَلَى التُّرْبَة الَّتِي رُفِعَتْ مِنْ الْأَرْض , وَكُنَّا جَمِيعًا فِي تِلْكَ التُّرْبَة وَفِي تِلْكَ الطِّينَة , ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْ الطِّينَة الْمِيَاه إِلَى الْأَصْلَاب مَعَ ذَرْو النُّفُوس عَلَى اِخْتِلَاف هَيْئَتهَا , ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا مِنْ صُلْبهَا عَلَى اِخْتِلَاف الْهَيْئَات ; مِنْهُمْ كَالدُّرِّ يَتَلَأْلَأ , وَبَعْضهمْ أَنْوَر مِنْ بَعْض , وَبَعْضهمْ أَسْوَد كَالْحُمَمَةِ , وَبَعْضهمْ أَشَدّ سَوَادًا مِنْ بَعْض ; فَكَانَ الْإِنْشَاء وَاقِعًا عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ . حَدَّثَنَا عِيسَى بْن حَمَّاد الْعَسْقَلَانِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن بَكْر , قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيّ , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عُرِضَ عَلَيَّ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بَيْن يَدَيْ حُجْرَتِي هَذِهِ اللَّيْلَة ) فَقَالَ قَائِل : يَا رَسُول اللَّه ! وَمَنْ مَضَى مِنْ الْخَلْق ؟ قَالَ : ( نَعَمْ عُرِضَ عَلَيَّ آدَم فَمَنْ دُونه فَهَلْ كَانَ خُلِقَ أَحَد ) قَالُوا : وَمَنْ فِي أَصْلَاب الرِّجَال وَبُطُون الْأُمَّهَات ؟ قَالَ : ( نَعَمْ مُثِّلُوا فِي الطِّين فَعَرَفْتهمْ كَمَا عُلِّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا ) .
قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل " الْأَنْعَام " أَنَّ كُلّ إِنْسَان يُخْلَق مِنْ طِين الْبُقْعَة الَّتِي يُدْفَن فِيهَا .
جَمْع جَنِين وَهُوَ الْوَلَد مَا دَامَ فِي الْبَطْن , سُمِّيَ جَنِينًا لِاجْتِنَابِهِ وَاسْتِتَاره . قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا وَقَالَ مَكْحُول : كُنَّا أَجِنَّة فِي بُطُون أُمَّهَاتنَا فَسَقَطَ مِنَّا مَنْ سَقَطَ وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ , ثُمَّ صِرْنَا رُضَّعًا فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ , ثُمَّ صِرْنَا يَفَعَة فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ , وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ ثُمَّ صِرْنَا شَبَابًا فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ , ثُمَّ صِرْنَا شُيُوخًا - لَا أَبَا لَك ! - فَمَا بَعْد هَذَا نَنْتَظِر ؟ ! . وَرَوَى اِبْن لَهِيعَة عَنْ الْحَارِث بْن يَزِيد عَنْ ثَابِت بْن الْحَارِث الْأَنْصَارِيّ قَالَ : كَانَتْ الْيَهُود تَقُول إِذَا هَلَكَ لَهُمْ صَبِيّ صَغِير : هُوَ صِدِّيق ; فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( كَذَبَتْ يَهُود مَا مِنْ نَسَمَة يَخْلُقهَا اللَّه فِي بَطْن أُمّه إِلَّا أَنَّهُ شَقِيّ أَوْ سَعِيد ) فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عِنْد ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَة : " هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْض " إِلَى آخِرهَا . وَنَحْوه عَنْ عَائِشَة : ( كَانَ الْيَهُود ) . بِمِثْلِهِ .
أَيْ لَا تَمْدَحُوهَا وَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا , فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاء وَأَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوع .
أَيْ أَخْلَصَ الْعَمَل وَاتَّقَى عُقُوبَة اللَّه ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . قَالَ الْحَسَن : قَدْ عَلَّمَ اللَّه سُبْحَانه كُلّ نَفْس مَا هِيَ عَامِلَة , وَمَا هِيَ صَانِعَة , وَإِلَى مَا هِيَ صَائِرَة . وَقَدْ مَضَى فِي " النِّسَاء " الْكَلَام فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة عِنْد قَوْله تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسهمْ " [ النِّسَاء : 49 ] فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا مِنْ أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة أُزَكِّيه غَيْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
الثَّانِيَة : فَقَالَ : " إِلَّا اللَّمَم " وَهِيَ الصَّغَائِر الَّتِي لَا يَسْلَم مِنْ الْوُقُوع فِيهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّه وَحَفِظَهُ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا ; فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَالشَّعْبِيّ : " اللَّمَم " كُلّ مَا دُون الزِّنَى . وَذَكَرَ مُقَاتِل بْن سُلَيْمَان : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي رَجُل كَانَ يُسَمَّى نَبْهَان التَّمَّار ; كَانَ لَهُ حَانُوت يَبِيع فِيهِ تَمْرًا , فَجَاءَتْهُ اِمْرَأَة تَشْتَرِي مِنْهُ تَمْرًا فَقَالَ لَهَا : إِنَّ دَاخِل الدُّكَّان مَا هُوَ خَيْر مِنْ هَذَا , فَلَمَّا دَخَلَتْ رَاوَدَهَا فَأَبَتْ وَانْصَرَفَتْ فَنَدِمَ نَبْهَان ; فَأَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه ! مَا مِنْ شَيْء يَصْنَعهُ الرَّجُل إِلَّا وَقَدْ فَعَلْته إِلَّا الْجِمَاع ; فَقَالَ : ( لَعَلَّ زَوْجَهَا غَازٍ ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , وَقَدْ مَضَى فِي آخِر " هُود " وَكَذَا قَالَ اِبْن مَسْعُود وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ وَحُذَيْفَة وَمَسْرُوق : إِنَّ اللَّمَم مَا دُون الْوَطْء مِنْ الْقُبْلَة وَالْغَمْزَة وَالنَّظْرَة وَالْمُضَاجَعَة . وَرَوَى مَسْرُوق عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : زِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَر , وَزِنَى الْيَدَيْنِ الْبَطْش , وَزِنَى الرِّجْلَيْنِ الْمَشْي , وَإِنَّمَا يُصَدِّق ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبهُ الْفَرْج ; فَإِنْ تَقَدَّمَ كَانَ زِنًى وَإِنْ تَأَخَّرَ كَانَ لَمَمًا . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا رَأَيْت شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه كَتَبَ عَلَى اِبْن آدَم حَظّه مِنْ الزِّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَة فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَر وَزِنَى اللِّسَان النُّطْق وَالنَّفْس تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْج يُصَدِّق ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبهُ ) . وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْفَاحِشَة الْعَظِيمَة وَالزِّنَى التَّامّ الْمُوجِب لِلْحَدِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَة فِي الْآخِرَة هُوَ فِي الْفَرْج وَغَيْره لَهُ حَظّ مِنْ الْإِثْم . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كُتِبَ عَلَى اِبْن آدَم نَصِيبه مِنْ الزِّنَى مُدْرِكٌ لَا مَحَالَة فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَر وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاع وَاللِّسَان زِنَاهُ الْكَلَام وَالْيَد زِنَاهَا الْبَطْش وَالرِّجْل زِنَاهَا الْخُطَى وَالْقَلْب يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّق ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبهُ ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ حَدِيث طَاوُس عَنْ اِبْن عَبَّاس فَذَكَرَ فِيهِ الْأُذُن وَالْيَد وَالرِّجْل , وَزَادَ فِيهِ بَعْد الْعَيْنَيْنِ وَاللِّسَان : ( وَزِنَى الشَّفَتَيْنِ الْقُبْلَة ) . فَهَذَا قَوْل . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : هُوَ الرَّجُل يُلِمّ بِذَنْبٍ ثُمَّ يَتُوب . قَالَ : أَلَمْ تَسْمَع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول : إِنْ يَغْفِرِ اللَّهُ يَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا رَوَاهُ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ وَأَجَلّهَا إِسْنَادًا . وَرَوَى شُعْبَة عَنْ مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " إِلَّا اللَّمَم " قَالَ : هُوَ أَنْ يُلِمّ الْعَبْد بِالذَّنْبِ ثُمَّ لَا يُعَاوِدهُ ; قَالَ الشَّاعِر : إِنْ تَغْفِر اللَّهُمَّ تَغْفِر جَمًّا وَأَيّ عَبْد لَك لَا أَلَمَّا وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن : هُوَ الَّذِي يَأْتِي الذَّنْب ثُمَّ لَا يُعَاوِدهُ , وَنَحْوه عَنْ الزُّهْرِيّ , قَالَ : اللَّمَم أَنْ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوب فَلَا يَعُود , وَأَنْ يَسْرِق أَوْ يَشْرَب الْخَمْر ثُمَّ يَتُوب فَلَا يَعُود . وَدَلِيل هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ ذَكَرُوا اللَّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ " [ آل عِمْرَان : 135 ] الْآيَة . ثُمَّ قَالَ : " أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَة مِنْ رَبّهمْ " [ آل عِمْرَان : 136 ] فَضَمِنَ لَهُمْ الْمَغْفِرَة ; كَمَا قَالَ عَقِيب اللَّمَم : " إِنَّ رَبّك وَاسِع الْمَغْفِرَة " فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَكُون " إِلَّا اللَّمَم " اِسْتِثْنَاء مُتَّصِلًا . قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص : اللَّمَم مَا دُون الشِّرْك . وَقِيلَ : اللَّمَم الذَّنْب بَيْن الْحَدَّيْنِ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ حَدّ فِي الدُّنْيَا , وَلَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِعَذَابٍ فِي الْآخِرَة تُكَفِّرهُ الصَّلَوَات الْخَمْس . قَالَهُ اِبْن زَيْد وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة . وَرَوَاهُ الْعَوْفِيّ وَالْحَكَم بْن عُتَيْبَة عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : اللَّمَم عَلَى وَجْهَيْنِ : كُلّ ذَنْب لَمْ يَذْكُر اللَّه عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا وَلَا عَذَابًا فِي الْآخِرَة ; فَذَلِكَ الَّذِي تُكَفِّرهُ الصَّلَوَات الْخَمْس مَا لَمْ يَبْلُغ الْكَبَائِر وَالْفَوَاحِش . وَالْوَجْه الْآخَر هُوَ الذَّنْب الْعَظِيم يُلِمّ بِهِ الْإِنْسَان الْمَرَّة بَعْد الْمَرَّة فَيَتُوب مِنْهُ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَأَبِي هُرَيْرَة وَزَيْد بْن ثَابِت : هُوَ مَا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَا يُؤَاخِذهُمْ بِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ : إِنَّمَا كُنْتُمْ بِالْأَمْسِ تَعْمَلُونَ مَعَنَا فَنَزَلَتْ وَقَالَهُ زَيْد بْن أَسْلَمَ وَابْنه ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْن الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " [ النِّسَاء : 23 ] . وَقِيلَ : اللَّمَم هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِذَنْبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِعَادَةٍ ; قَالَ نَفْطَوَيْهِ . قَالَ : وَالْعَرَب تَقُول مَا يَأْتِينَا إِلَّا لِمَامًا ; أَيْ فِي الْحِين بَعْد الْحِين . قَالَ : وَلَا يَكُون أَنْ يُلِمّ وَلَا يَفْعَل , لِأَنَّ الْعَرَب لَا تَقُول أَلَمَّ بِنَا إِلَّا إِذَا فَعَلَ الْإِنْسَان لَا إِذَا هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلهُ . وَفِي الصِّحَاح : وَأَلَمَّ الرَّجُل مِنْ اللَّمَم وَهُوَ صَغَائِر الذُّنُوب , وَيُقَال : هُوَ مُقَارَبَة الْمَعْصِيَة مِنْ غَيْر مُوَاقَعَة . وَأَنْشَدَ غَيْر الْجَوْهَرِيّ : بِزَيْنَب أَلْمِمْ قَبْل أَنْ يَرْحَلَ الرَّكْبُ وَقُلْ إِنْ تَمَلِّينَا فَمَا مَلَّكِ الْقَلْبُ أَيْ اقْرَبْ . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : اللَّمَم عَادَة النَّفْس الْحِين بَعْد الْحِين . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هُوَ مَا أَلَمَّ عَلَى الْقَلْب ; أَيْ خَطَرَ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة : كُلّ مَا هَمَمْت بِهِ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ فَهُوَ لَمَم . وَدَلِيل هَذَا التَّأْوِيل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّة وَلِلْمَلَكِ لَمَّة ) الْحَدِيث . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " الشَّيْطَان يَعِدكُمْ الْفَقْر " . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : أَصْل اللَّمَم وَالْإِلْمَام مَا يَعْمَلهُ الْإِنْسَان الْمَرَّة بَعْد الْمَرَّة وَلَا يَتَعَمَّق فِيهِ وَلَا يُقِيم عَلَيْهِ ; يُقَال : أَلْمَمْت بِهِ إِذَا زُرْته وَانْصَرَفْت عَنْهُ , وَيُقَال : مَا فَعَلْته إِلَّا لَمَمًا وَإِلْمَامًا ; أَيْ الْحِين بَعْد الْحِين . وَإِنَّمَا زِيَارَتك إِلْمَام , وَمِنْهُ إِلْمَام الْخَيَال ; قَالَ الْأَعْشَى : أَلَمَّ خَيَال مِنْ قُتَيْلَة بَعْدَمَا وَهَى حَبْلُهَا مِنْ حَبْلنَا فَتَصَرَّمَا وَقِيلَ : إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاو . وَأَنْكَرَ هَذَا الْفَرَّاء وَقَالَ : الْمَعْنَى إِلَّا الْمُتَقَارِب مِنْ صِغَار الذُّنُوب . وَقِيلَ : اللَّمَم النَّظْرَة الَّتِي تَكُون فَجْأَة .
قُلْت : هَذَا فِيهِ بُعْد إِذْ هُوَ مَعْفُوّ عَنْهُ اِبْتِدَاء غَيْر مُؤَاخَذ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَقَع مِنْ غَيْر قَصْد وَاخْتِيَار , وَقَدْ مَضَى فِي " النُّور " بَيَانه . وَاللَّمَم أَيْضًا طَرَف مِنْ الْجُنُون , وَرَجُل مَلْمُوم أَيْ بِهِ لَمَم . وَيُقَال أَيْضًا : أَصَابَتْ فُلَانًا لَمَّة مِنْ الْجِنّ وَهِيَ الْمَسّ وَالشَّيْء الْقَلِيل ; قَالَ الشَّاعِر : فَإِذَا وَذَلِكَ يَا كُبَيْشَة لَمْ يَكُنْ إِلَّا كَلَمَّةِ حَالِم بِخَيَالِ
لِمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبه وَاسْتَغْفَرَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَة عَمْرو بْن شُرَحْبِيل وَكَانَ مِنْ أَفَاضِل أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود : رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي دَخَلْت الْجَنَّة فَإِذَا قِبَاب مَضْرُوبَة , فَقُلْت : لِمَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالُوا : لِذِي الْكَلَاع وَحَوْشَب , وَكَانَا مِمَّنْ قَتَلَ بَعْضهمْ بَعْضًا , فَقُلْت : وَكَيْف ذَلِكَ ؟ فَقَالُوا : إِنَّهُمَا لَقِيَا اللَّه فَوَجَدَاهُ وَاسِع الْمَغْفِرَة . فَقَالَ أَبُو خَالِد : بَلَغَنِي أَنَّ ذَا الْكَلَاع أَعْتَقَ اِثْنَيْ عَشَرَ أَلْف بِنْت .
مِنْ أَنْفُسكُمْ
يَعْنِي أَبَاكُمْ آدَم مِنْ الطِّين وَخَرَجَ اللَّفْظ عَلَى الْجَمْع . قَالَ التِّرْمِذِيّ أَبُو عَبْد اللَّه : وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ عِنْدنَا , بَلْ وَقَعَ الْإِنْشَاء عَلَى التُّرْبَة الَّتِي رُفِعَتْ مِنْ الْأَرْض , وَكُنَّا جَمِيعًا فِي تِلْكَ التُّرْبَة وَفِي تِلْكَ الطِّينَة , ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْ الطِّينَة الْمِيَاه إِلَى الْأَصْلَاب مَعَ ذَرْو النُّفُوس عَلَى اِخْتِلَاف هَيْئَتهَا , ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا مِنْ صُلْبهَا عَلَى اِخْتِلَاف الْهَيْئَات ; مِنْهُمْ كَالدُّرِّ يَتَلَأْلَأ , وَبَعْضهمْ أَنْوَر مِنْ بَعْض , وَبَعْضهمْ أَسْوَد كَالْحُمَمَةِ , وَبَعْضهمْ أَشَدّ سَوَادًا مِنْ بَعْض ; فَكَانَ الْإِنْشَاء وَاقِعًا عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ . حَدَّثَنَا عِيسَى بْن حَمَّاد الْعَسْقَلَانِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن بَكْر , قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيّ , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عُرِضَ عَلَيَّ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بَيْن يَدَيْ حُجْرَتِي هَذِهِ اللَّيْلَة ) فَقَالَ قَائِل : يَا رَسُول اللَّه ! وَمَنْ مَضَى مِنْ الْخَلْق ؟ قَالَ : ( نَعَمْ عُرِضَ عَلَيَّ آدَم فَمَنْ دُونه فَهَلْ كَانَ خُلِقَ أَحَد ) قَالُوا : وَمَنْ فِي أَصْلَاب الرِّجَال وَبُطُون الْأُمَّهَات ؟ قَالَ : ( نَعَمْ مُثِّلُوا فِي الطِّين فَعَرَفْتهمْ كَمَا عُلِّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا ) .
قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل " الْأَنْعَام " أَنَّ كُلّ إِنْسَان يُخْلَق مِنْ طِين الْبُقْعَة الَّتِي يُدْفَن فِيهَا .
جَمْع جَنِين وَهُوَ الْوَلَد مَا دَامَ فِي الْبَطْن , سُمِّيَ جَنِينًا لِاجْتِنَابِهِ وَاسْتِتَاره . قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا وَقَالَ مَكْحُول : كُنَّا أَجِنَّة فِي بُطُون أُمَّهَاتنَا فَسَقَطَ مِنَّا مَنْ سَقَطَ وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ , ثُمَّ صِرْنَا رُضَّعًا فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ , ثُمَّ صِرْنَا يَفَعَة فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ , وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ ثُمَّ صِرْنَا شَبَابًا فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ , ثُمَّ صِرْنَا شُيُوخًا - لَا أَبَا لَك ! - فَمَا بَعْد هَذَا نَنْتَظِر ؟ ! . وَرَوَى اِبْن لَهِيعَة عَنْ الْحَارِث بْن يَزِيد عَنْ ثَابِت بْن الْحَارِث الْأَنْصَارِيّ قَالَ : كَانَتْ الْيَهُود تَقُول إِذَا هَلَكَ لَهُمْ صَبِيّ صَغِير : هُوَ صِدِّيق ; فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( كَذَبَتْ يَهُود مَا مِنْ نَسَمَة يَخْلُقهَا اللَّه فِي بَطْن أُمّه إِلَّا أَنَّهُ شَقِيّ أَوْ سَعِيد ) فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عِنْد ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَة : " هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْض " إِلَى آخِرهَا . وَنَحْوه عَنْ عَائِشَة : ( كَانَ الْيَهُود ) . بِمِثْلِهِ .
أَيْ لَا تَمْدَحُوهَا وَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا , فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاء وَأَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوع .
أَيْ أَخْلَصَ الْعَمَل وَاتَّقَى عُقُوبَة اللَّه ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . قَالَ الْحَسَن : قَدْ عَلَّمَ اللَّه سُبْحَانه كُلّ نَفْس مَا هِيَ عَامِلَة , وَمَا هِيَ صَانِعَة , وَإِلَى مَا هِيَ صَائِرَة . وَقَدْ مَضَى فِي " النِّسَاء " الْكَلَام فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة عِنْد قَوْله تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسهمْ " [ النِّسَاء : 49 ] فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا مِنْ أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة أُزَكِّيه غَيْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
الْآيَاتِ لَمَّا بَيَّنَ جَهْلَ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَة الْأَصْنَام ذَكَرَ وَاحِدًا مِنْهُمْ مُعَيَّنًا بِسُوءِ فِعْله . قَالَ مُجَاهِد وَابْن زَيْد وَمُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة , وَكَانَ قَدْ اِتَّبَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينه فَعَيَّرَهُ بَعْض الْمُشْرِكِينَ , وَقَالَ : لِمَ تَرَكْت دِين الْأَشْيَاخ وَضَلَّلْتهمْ وَزَعَمْت أَنَّهُمْ فِي النَّار ؟ قَالَ : إِنِّي خَشِيت عَذَاب اللَّه ; فَضَمِنَ لَهُ إِنْ هُوَ أَعْطَاهُ شَيْئًا مِنْ مَاله وَرَجَعَ إِلَى شِرْكه أَنْ يَتَحَمَّل عَنْهُ عَذَاب اللَّه , فَأَعْطَى الَّذِي عَاتَبَهُ بَعْض مَا كَانَ ضَمِنَ لَهُ ثُمَّ بَخِلَ وَمَنَعَهُ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ مُقَاتِل : كَالَ الْوَلِيد مَدَحَ الْقُرْآن ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْهُ فَنَزَلَ : " وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى " .
أَيْ مِنْ الْخَيْر بِلِسَانِهِ
أَيْ قَطَعَ ذَلِكَ وَأَمْسَكَ عَنْهُ . وَعَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْدَ الْإِيمَان ثُمَّ تَوَلَّى فَنَزَلَتْ : " أَفَرَأَيْت الَّذِي تَوَلَّى " الْآيَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ وَالْمُسَيِّب بْن شَرِيك : نَزَلَتْ فِي عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يَتَصَدَّق وَيُنْفِق فِي الْخَيْر , فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَة عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح : مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَع ؟ يُوشِك أَلَّا يَبْقَى لَك شَيْء . فَقَالَ عُثْمَان : إِنَّ لِي ذُنُوبًا وَخَطَايَا , وَإِنِّي أَطْلُب بِمَا أَصْنَع رِضَا اللَّه تَعَالَى وَأَرْجُو عَفْوه ! فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه : أَعْطِنِي نَاقَتك بِرَحْلِهَا وَأَنَا أَتَحَمَّل عَنْك ذُنُوبك كُلّهَا . فَأَعْطَاهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ , وَأَمْسَكَ عَنْ بَعْض مَا كَانَ يَصْنَع مِنْ الصَّدَقَة فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " أَفَرَأَيْت الَّذِي تَوَلَّى . وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى " فَعَادَ عُثْمَان إِلَى أَحْسَنِ ذَلِكَ وَأَجْمَلِهِ . ذَكَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِيّ وَالثَّعْلَبِيّ . وَقَالَ السُّدِّيّ أَيْضًا : نَزَلَتْ فِي الْعَاص بْن وَائِل السَّهْمِيّ , وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يُوَافِق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْل بْن هِشَام , قَالَ : وَاَللَّه مَا يَأْمُر مُحَمَّد إِلَّا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاق ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى " . وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ النَّضْر بْن الْحَارِث أَعْطَى خَمْس قَلَائِص لِفَقِيرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حِين اِرْتَدَّ عَنْ دِينه , وَضَمِنَ لَهُ أَنْ يَتَحَمَّل عَنْهُ مَأْثَم رُجُوعه . وَأَصْل " أَكْدَى " مِنْ الْكُدْيَة يُقَال لِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ بَلَغَ إِلَى حَجَر لَا يَتَهَيَّأ لَهُ فِيهِ حَفْر : قَدْ أَكْدَى , ثُمَّ اِسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَب لِمَنْ أَعْطَى وَلَمْ يُتَمِّم , وَلِمَنْ طَلَبَ شَيْئًا وَلَمْ يَبْلُغ آخِره . وَقَالَ الْحُطَيْئَة : فَأَعْطَى قَلِيلًا ثُمَّ أَكْدَى عَطَاءَهُ وَمَنْ يَبْذُلِ الْمَعْرُوف فِي النَّاس يُحْمَدِ قَالَ الْكِسَائِيّ وَغَيْره : أَكْدَى الْحَافِر وَأَجْبَلَ إِذَا بَلَغَ فِي حَفْره كُدْيَة أَوْ جَبَلًا فَلَا يُمْكِنهُ أَنْ يَحْفِر . وَحَفَرَ فَأَكْدَى إِذَا بَلَغَ إِلَى الصُّلْب . وَيُقَال : كَدِيَتْ أَصَابِعُهُ إِذَا كَلَّتْ مِنْ الْحَفْر . وَكَدِيَتْ يَده إِذَا كَلَّتْ فَلَمْ تَعْمَل شَيْئًا . وَأَكْدَى النَّبْت إِذَا قَلَّ رِيعه , وَكَدَتْ الْأَرْض تَكْدُو كَدْوًا وَكُدُوًّا فَهِيَ كَادِيَة إِذَا أَبْطَأَ نَبَاتهَا ; عَنْ أَبَى زَيْد . وَأَكْدَيْت الرَّجُل عَنْ الشَّيْء رَدَدْته عَنْهُ . وَأَكْدَى الرَّجُل إِذَا قَلَّ خَيْره . وَقَوْله : " وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى " أَيْ قَطَعَ الْقَلِيل .
أَيْ قَطَعَ ذَلِكَ وَأَمْسَكَ عَنْهُ . وَعَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْدَ الْإِيمَان ثُمَّ تَوَلَّى فَنَزَلَتْ : " أَفَرَأَيْت الَّذِي تَوَلَّى " الْآيَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ وَالْمُسَيِّب بْن شَرِيك : نَزَلَتْ فِي عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يَتَصَدَّق وَيُنْفِق فِي الْخَيْر , فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَة عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح : مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَع ؟ يُوشِك أَلَّا يَبْقَى لَك شَيْء . فَقَالَ عُثْمَان : إِنَّ لِي ذُنُوبًا وَخَطَايَا , وَإِنِّي أَطْلُب بِمَا أَصْنَع رِضَا اللَّه تَعَالَى وَأَرْجُو عَفْوه ! فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه : أَعْطِنِي نَاقَتك بِرَحْلِهَا وَأَنَا أَتَحَمَّل عَنْك ذُنُوبك كُلّهَا . فَأَعْطَاهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ , وَأَمْسَكَ عَنْ بَعْض مَا كَانَ يَصْنَع مِنْ الصَّدَقَة فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " أَفَرَأَيْت الَّذِي تَوَلَّى . وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى " فَعَادَ عُثْمَان إِلَى أَحْسَنِ ذَلِكَ وَأَجْمَلِهِ . ذَكَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِيّ وَالثَّعْلَبِيّ . وَقَالَ السُّدِّيّ أَيْضًا : نَزَلَتْ فِي الْعَاص بْن وَائِل السَّهْمِيّ , وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يُوَافِق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْل بْن هِشَام , قَالَ : وَاَللَّه مَا يَأْمُر مُحَمَّد إِلَّا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاق ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى " . وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ النَّضْر بْن الْحَارِث أَعْطَى خَمْس قَلَائِص لِفَقِيرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حِين اِرْتَدَّ عَنْ دِينه , وَضَمِنَ لَهُ أَنْ يَتَحَمَّل عَنْهُ مَأْثَم رُجُوعه . وَأَصْل " أَكْدَى " مِنْ الْكُدْيَة يُقَال لِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ بَلَغَ إِلَى حَجَر لَا يَتَهَيَّأ لَهُ فِيهِ حَفْر : قَدْ أَكْدَى , ثُمَّ اِسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَب لِمَنْ أَعْطَى وَلَمْ يُتَمِّم , وَلِمَنْ طَلَبَ شَيْئًا وَلَمْ يَبْلُغ آخِره . وَقَالَ الْحُطَيْئَة : فَأَعْطَى قَلِيلًا ثُمَّ أَكْدَى عَطَاءَهُ وَمَنْ يَبْذُلِ الْمَعْرُوف فِي النَّاس يُحْمَدِ قَالَ الْكِسَائِيّ وَغَيْره : أَكْدَى الْحَافِر وَأَجْبَلَ إِذَا بَلَغَ فِي حَفْره كُدْيَة أَوْ جَبَلًا فَلَا يُمْكِنهُ أَنْ يَحْفِر . وَحَفَرَ فَأَكْدَى إِذَا بَلَغَ إِلَى الصُّلْب . وَيُقَال : كَدِيَتْ أَصَابِعُهُ إِذَا كَلَّتْ مِنْ الْحَفْر . وَكَدِيَتْ يَده إِذَا كَلَّتْ فَلَمْ تَعْمَل شَيْئًا . وَأَكْدَى النَّبْت إِذَا قَلَّ رِيعه , وَكَدَتْ الْأَرْض تَكْدُو كَدْوًا وَكُدُوًّا فَهِيَ كَادِيَة إِذَا أَبْطَأَ نَبَاتهَا ; عَنْ أَبَى زَيْد . وَأَكْدَيْت الرَّجُل عَنْ الشَّيْء رَدَدْته عَنْهُ . وَأَكْدَى الرَّجُل إِذَا قَلَّ خَيْره . وَقَوْله : " وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى " أَيْ قَطَعَ الْقَلِيل .
أَيْ أَعِنْد هَذَا الْمُكْدِي عِلْم مَا غَابَ عَنْهُ مِنْ أَمْر الْعَذَاب ؟ . " فَهُوَ يَرَى " أَيْ يَعْلَم مَا غَابَ عَنْهُ مِنْ أَمْر الْآخِرَة , وَمَا يَكُون مِنْ أَمْره حَتَّى يَضْمَن حَمْل الْعَذَاب عَنْ غَيْره , وَكَفَى بِهَذَا جَهْلًا وَحُمْقًا . وَهَذِهِ الرُّؤْيَة هِيَ الْمُتَعَدِّيَة إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ ; كَأَنَّهُ قَالَ : فَهُوَ يَرَى الْغَيْب مِثْل الشَّهَادَة .
كَمَا فِي سُورَة " الْأَعْلَى " " صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى " [ الْأَعْلَى : 19 ] أَيْ لَا تُؤْخَذ نَفْس بَدَلًا عَنْ أُخْرَى ; كَمَا قَالَ " أَنْ لَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " وَخَصَّ صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَا بَيْن نُوح وَإِبْرَاهِيم يُؤْخَذ الرَّجُل بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ وَابْنه وَأَبِيهِ ; قَالَهُ الْهُذَيْل بْن شُرَحْبِيل . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَقَتَادَة " وَفَى " خَفِيفَة وَمَعْنَاهَا صَدَقَ فِي قَوْله وَعَمَله , وَهِيَ رَاجِعَة إِلَى مَعْنَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة " وَفَّى " بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَخْرِم مِنْهُ شَيْئًا . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَإِذْ اِبْتَلَى إِبْرَاهِيم رَبّه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ " [ الْبَقَرَة : 124 ] وَالتَّوْفِيَة الْإِتْمَام . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : قَامَ بِشَرْطِ مَا اِدَّعَى ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُ : " أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [ الْبَقَرَة : 131 ] فَطَالَبَهُ اللَّه بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ , فَابْتَلَاهُ فِي مَاله وَوَلَده وَنَفْسه فَوَجَدَهُ وَافِيًا بِذَلِكَ ; فَذَلِكَ قَوْله : " وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وَفَّى " أَيْ اِدَّعَى الْإِسْلَام ثُمَّ صَحَّحَ دَعْوَاهُ . وَقِيلَ : وَفِي عَمَله كُلّ يَوْم بِأَرْبَعِ رَكَعَات فِي صَدْر النَّهَار ; رَوَاهُ الْهَيْثَم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَى سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيّ عَنْ أَبِيهِ ( أَلَا أُخْبِركُمْ لِمَ سَمَّى اللَّه تَعَالَى خَلِيله إِبْرَاهِيم " الَّذِي وَفَّى " لِأَنَّهُ كَانَ يَقُول كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى : " فَسُبْحَان اللَّه حِين تُمْسُونَ وَحِين تُصْبِحُونَ " [ الرُّوم : 17 ] ) الْآيَة . وَرَوَاهُ سَهْل بْن مُعَاذ عَنْ أَنَس عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : " وَفَّى " أَيْ وَفَّى مَا أُرْسِلَ بِهِ , وَهُوَ قَوْله : " أَنْ لَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا قَبْل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يَأْخُذُونَ الرَّجُل بِذَنْبِ غَيْره , وَيَأْخُذُونَ الْوَلِيّ بِالْوَلِيِّ فِي الْقَتْل وَالْجِرَاحَة ; فَيُقْتَل الرَّجُل بِأَبِيهِ وَابْنه وَأَخِيهِ وَعَمّه وَخَاله وَابْن عَمّه وَقَرِيبه وَزَوْجَته وَزَوْجهَا وَعَبْده , فَبَلَّغَهُمْ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ اللَّه تَعَالَى : " أَنْ لَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر فِي قَوْله تَعَالَى " وَفَّى " : عَمِلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَبَلَّغَ رِسَالَات رَبّه . وَهَذَا أَحْسَن ; لِأَنَّهُ عَامّ . وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد : " وَفَّى " بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو مَالِك الْغِفَارِيّ قَوْله تَعَالَى : " أَنْ لَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " إِلَى قَوْله : " فَبِأَيِّ آلَاء رَبّك تَتَمَارَى " [ النَّجْم : 55 ] فِي صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى .
كَمَا فِي سُورَة " الْأَعْلَى " " صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى " [ الْأَعْلَى : 19 ] أَيْ لَا تُؤْخَذ نَفْس بَدَلًا عَنْ أُخْرَى ; كَمَا قَالَ " أَنْ لَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " وَخَصَّ صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَا بَيْن نُوح وَإِبْرَاهِيم يُؤْخَذ الرَّجُل بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ وَابْنه وَأَبِيهِ ; قَالَهُ الْهُذَيْل بْن شُرَحْبِيل . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَقَتَادَة " وَفَى " خَفِيفَة وَمَعْنَاهَا صَدَقَ فِي قَوْله وَعَمَله , وَهِيَ رَاجِعَة إِلَى مَعْنَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة " وَفَّى " بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَخْرِم مِنْهُ شَيْئًا . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَإِذْ اِبْتَلَى إِبْرَاهِيم رَبّه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ " [ الْبَقَرَة : 124 ] وَالتَّوْفِيَة الْإِتْمَام . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : قَامَ بِشَرْطِ مَا اِدَّعَى ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُ : " أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [ الْبَقَرَة : 131 ] فَطَالَبَهُ اللَّه بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ , فَابْتَلَاهُ فِي مَاله وَوَلَده وَنَفْسه فَوَجَدَهُ وَافِيًا بِذَلِكَ ; فَذَلِكَ قَوْله : " وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وَفَّى " أَيْ اِدَّعَى الْإِسْلَام ثُمَّ صَحَّحَ دَعْوَاهُ . وَقِيلَ : وَفِي عَمَله كُلّ يَوْم بِأَرْبَعِ رَكَعَات فِي صَدْر النَّهَار ; رَوَاهُ الْهَيْثَم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَى سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيّ عَنْ أَبِيهِ ( أَلَا أُخْبِركُمْ لِمَ سَمَّى اللَّه تَعَالَى خَلِيله إِبْرَاهِيم " الَّذِي وَفَّى " لِأَنَّهُ كَانَ يَقُول كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى : " فَسُبْحَان اللَّه حِين تُمْسُونَ وَحِين تُصْبِحُونَ " [ الرُّوم : 17 ] ) الْآيَة . وَرَوَاهُ سَهْل بْن مُعَاذ عَنْ أَنَس عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : " وَفَّى " أَيْ وَفَّى مَا أُرْسِلَ بِهِ , وَهُوَ قَوْله : " أَنْ لَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا قَبْل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يَأْخُذُونَ الرَّجُل بِذَنْبِ غَيْره , وَيَأْخُذُونَ الْوَلِيّ بِالْوَلِيِّ فِي الْقَتْل وَالْجِرَاحَة ; فَيُقْتَل الرَّجُل بِأَبِيهِ وَابْنه وَأَخِيهِ وَعَمّه وَخَاله وَابْن عَمّه وَقَرِيبه وَزَوْجَته وَزَوْجهَا وَعَبْده , فَبَلَّغَهُمْ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ اللَّه تَعَالَى : " أَنْ لَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر فِي قَوْله تَعَالَى " وَفَّى " : عَمِلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَبَلَّغَ رِسَالَات رَبّه . وَهَذَا أَحْسَن ; لِأَنَّهُ عَامّ . وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد : " وَفَّى " بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو مَالِك الْغِفَارِيّ قَوْله تَعَالَى : " أَنْ لَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " إِلَى قَوْله : " فَبِأَيِّ آلَاء رَبّك تَتَمَارَى " [ النَّجْم : 55 ] فِي صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى .
" أَنْ " هَذِهِ الْمُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة وَمَوْضِعهَا جَرّ بَدَلًا مِنْ " مَا " أَوْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى إِضْمَار هُوَ . أَيْ لَا تَحْمِل حَامِلَة ثِقْل أُخْرَى , أَيْ لَا تُؤْخَذ نَفْس بِذَنْبِ غَيْرهَا , بَلْ كُلّ نَفْس مَأْخُوذَة بِجُرْمِهَا وَمُعَاقَبَة بِإِثْمِهَا . وَأَصْل الْوِزْر الثِّقْل ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرك " [ الشَّرْح : 2 ] . وَهُوَ هُنَا الذَّنْب ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ " [ الْأَنْعَام : 31 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ الْأَخْفَش : يُقَال وَزِرَ يَوْزَرُ , وَوَزَرَ يَزِرُ , وَوُزِرَ يُوزَر وِزْرًا . وَيَجُوز إِزْرًا , كَمَا يُقَال : إِسَادَة . وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة , كَانَ يَقُول : اِتَّبِعُوا سَبِيلِي أَحْمِل أَوْزَاركُمْ ; ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ مُؤَاخَذَة الرَّجُل بِأَبِيهِ وَبِابْنِهِ وَبِجَرِيرَةِ حَلِيفه .
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة فِي الْآخِرَة , وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلهَا ; فَأَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يُؤَاخَذ فِيهَا بَعْضهمْ بِجُرْمِ بَعْض , لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْهَ الطَّائِعُونَ الْعَاصِينَ , كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيث أَبِي بَكْر فِي قَوْل : " عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ " [ الْمَائِدَة : 105 ] . وَقَوْله تَعَالَى : " وَاتَّقُوا فِتْنَة لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة " [ الْأَنْفَال : 25 ] . " إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [ الرَّعْد : 11 ] . وَقَالَتْ زَيْنَب بِنْت جَحْش : يَا رَسُول اللَّه , أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَث ) . قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ أَوْلَاد الزِّنَى . وَالْخَبَث ( بِفَتْحِ الْبَاء ) اِسْم لِلزِّنَى . فَأَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَة الْخَطَأ عَلَى الْعَاقِلَة حَتَّى لَا يُطَلّ دَم الْحُرّ الْمُسْلِم تَعْظِيمًا لِلدِّمَاءِ . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْر خِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ ; فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ . وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا فِي الدُّنْيَا , فِي أَلَّا يُؤَاخَذ زَيْد بِفِعْلِ عَمْرو , وَأَنَّ كُلّ مُبَاشِر لِجَرِيمَةٍ فَعَلَيْهِ مَغَبَّتهَا . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي رِمْثَة قَالَ ; اِنْطَلَقْت مَعَ أَبِي نَحْو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي : ( اِبْنك هَذَا ) ؟ قَالَ : أَيْ وَرَبّ الْكَعْبَة . قَالَ : ( حَقًّا ) . قَالَ : أَشْهَد بِهِ . قَالَ : فَتَبَسَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ثَبْت شَبَهِي فِي أَبِي , وَمِنْ حَلِف أَبِي عَلَيَّ . ثُمَّ قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ ) . وَقَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " . وَلَا يُعَارَضُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ : " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ " وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ " [ الْعَنْكَبُوت : 13 ] ; فَإِنَّ هَذَا مُبَيَّن فِي الْآيَة الْأُخْرَى قَوْله : " لِيَحْمِلُوا أَوْزَارهمْ كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمِنْ أَوْزَار الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم " [ النَّحْل : 25 ] . فَمَنْ كَانَ إِمَامًا فِي الضَّلَالَة وَدَعَا إِلَيْهَا وَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَحْمِل وِزْر مَنْ أَضَلَّهُ مِنْ غَيْر أَنْ يُنْقَص مِنْ وِزْر الْمُضِلّ شَيْء , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة فِي الْآخِرَة , وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلهَا ; فَأَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يُؤَاخَذ فِيهَا بَعْضهمْ بِجُرْمِ بَعْض , لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْهَ الطَّائِعُونَ الْعَاصِينَ , كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيث أَبِي بَكْر فِي قَوْل : " عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ " [ الْمَائِدَة : 105 ] . وَقَوْله تَعَالَى : " وَاتَّقُوا فِتْنَة لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة " [ الْأَنْفَال : 25 ] . " إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [ الرَّعْد : 11 ] . وَقَالَتْ زَيْنَب بِنْت جَحْش : يَا رَسُول اللَّه , أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَث ) . قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ أَوْلَاد الزِّنَى . وَالْخَبَث ( بِفَتْحِ الْبَاء ) اِسْم لِلزِّنَى . فَأَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَة الْخَطَأ عَلَى الْعَاقِلَة حَتَّى لَا يُطَلّ دَم الْحُرّ الْمُسْلِم تَعْظِيمًا لِلدِّمَاءِ . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْر خِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ ; فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ . وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا فِي الدُّنْيَا , فِي أَلَّا يُؤَاخَذ زَيْد بِفِعْلِ عَمْرو , وَأَنَّ كُلّ مُبَاشِر لِجَرِيمَةٍ فَعَلَيْهِ مَغَبَّتهَا . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي رِمْثَة قَالَ ; اِنْطَلَقْت مَعَ أَبِي نَحْو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي : ( اِبْنك هَذَا ) ؟ قَالَ : أَيْ وَرَبّ الْكَعْبَة . قَالَ : ( حَقًّا ) . قَالَ : أَشْهَد بِهِ . قَالَ : فَتَبَسَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ثَبْت شَبَهِي فِي أَبِي , وَمِنْ حَلِف أَبِي عَلَيَّ . ثُمَّ قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ ) . وَقَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " . وَلَا يُعَارَضُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ : " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ " وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ " [ الْعَنْكَبُوت : 13 ] ; فَإِنَّ هَذَا مُبَيَّن فِي الْآيَة الْأُخْرَى قَوْله : " لِيَحْمِلُوا أَوْزَارهمْ كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمِنْ أَوْزَار الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم " [ النَّحْل : 25 ] . فَمَنْ كَانَ إِمَامًا فِي الضَّلَالَة وَدَعَا إِلَيْهَا وَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَحْمِل وِزْر مَنْ أَضَلَّهُ مِنْ غَيْر أَنْ يُنْقَص مِنْ وِزْر الْمُضِلّ شَيْء , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهَا مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتهمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتهمْ " [ الطُّور : 21 ] فَيَحْصُل الْوَلَد الطِّفْل يَوْم الْقِيَامَة فِي مِيزَان أَبِيهِ , وَيُشَفِّع اللَّه تَعَالَى الْآبَاء فِي الْأَبْنَاء وَالْأَبْنَاء فِي الْآبَاء ; يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيّهمْ أَقْرَب لَكُمْ نَفْعًا " [ النِّسَاء : 11 ] . وَقَالَ أَكْثَر أَهْل التَّأْوِيل : هِيَ مُحْكَمَة وَلَا يَنْفَع أَحَدًا عَمَل أَحَد , وَأَجْمَعُوا أَنْ لَا يُصَلِّي أَحَد عَنْ أَحَد . وَلَمْ يُجِزْ مَالِك الصِّيَام وَالْحَجّ وَالصَّدَقَة عَنْ الْمَيِّت , إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : إِنْ أَوْصَى بِالْحَجِّ وَمَاتَ جَازَ أَنْ يُحَجّ عَنْهُ . وَأَجَازَ الشَّافِعِيّ وَغَيْره الْحَجّ التَّطَوُّع عَنْ الْمَيِّت . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا اِعْتَكَفَتْ عَنْ أَخِيهَا عَبْد الرَّحْمَن وَأَعْتَقَتْ عَنْهُ . وَرُوِيَ أَنَّ سَعْد بْن عُبَادَة قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ أَفَأَتَصَدَّق عَنْهَا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) قَالَ : فَأَيّ الصَّدَقَة أَفْضَل ؟ قَالَ : ( سَقْي الْمَاء ) . وَقَدْ مَضَى جَمِيع هَذَا مُسْتَوْفًى فِي " الْبَقَرَة " و " آل عِمْرَان " و " الْأَعْرَاف " . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا قَالَ : " وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى " وَلَام الْخَفْض مَعْنَاهَا فِي الْعَرَبِيَّة الْمِلْك وَالْإِيجَاب فَلَمْ يَجِبْ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى , فَإِذَا تَصَدَّقَ عَنْهُ غَيْره فَلَيْسَ يَجِب لَهُ شَيْء إِلَّا أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَتَفَضَّل عَلَيْهِ بِمَا لَا يَجِب لَهُ , كَمَا يَتَفَضَّل عَلَى الْأَطْفَال بِإِدْخَالِهِمْ الْجَنَّة بِغَيْرِ عَمَل . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : " وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى " يَعْنِي الْكَافِر وَأَمَّا الْمُؤْمِن فَلَهُ مَا سَعَى وَمَا سَعَى لَهُ غَيْره . قُلْت : وَكَثِير مِنْ الْأَحَادِيث يَدُلّ عَلَى هَذَا الْقَوْل , وَأَنَّ الْمُؤْمِن يَصِل إِلَى ثَوَاب الْعَمَل الصَّالِح مِنْ غَيْره , وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِير مِنْهَا لِمَنْ تَأَمَّلَهَا , وَلَيْسَ فِي الصَّدَقَة اِخْتِلَاف , كَمَا فِي صَدْر كِتَاب مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك . وَفِي الصَّحِيح : ( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَان اِنْقَطَعَ عَمَله إِلَّا مِنْ ثَلَاث ) وَفِيهِ ( أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ ) وَهَذَا كُلّه تَفَضُّل مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , كَمَا أَنَّ زِيَادَة الْأَضْعَاف فَضْل مِنْهُ , كَتَبَ لَهُمْ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَة عَشْرًا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف إِلَى أَلْف أَلْف حَسَنَة ; كَمَا قِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَة : أَسَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه لَيَجْزِي عَلَى الْحَسَنَة الْوَاحِدَة أَلْف أَلْف حَسَنَة ) فَقَالَ سَمِعْته يَقُول : ( إِنَّ اللَّه لَيَجْزِي عَلَى الْحَسَنَة الْوَاحِدَة أَلْفَيْ أَلْف حَسَنَة ) فَهَذَا تَفَضُّل . وَطَرِيق الْعَدْل " أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى " . قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَوْله : " وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى " خَاصّ فِي السَّيِّئَة ; بِدَلِيلِ مَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلهَا كَتَبْتهَا لَهُ حَسَنَة فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتهَا لَهُ عَشْر حَسَنَات إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلهَا لَمْ أَكْتُبهَا عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتهَا سَيِّئَة وَاحِدَة ) . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : " إِلَّا مَا سَعَى " إِلَّا مَا نَوَى ; بَيَانه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُبْعَث النَّاس يَوْم الْقِيَامَة عَلَى نِيَّاتهمْ ) .
أَيْ يُرِيه اللَّه تَعَالَى جَزَاءَهُ يَوْم الْقِيَامَة
أَيْ يُجْزَى بِهِ " الْجَزَاء الْأَوْفَى " قَالَ الْأَخْفَش : يُقَال جَزَيْته الْجَزَاء , وَجَزَيْته بِالْجَزَاءِ سَوَاء لَا فَرْق بَيْنهمَا قَالَ الشَّاعِر : إِنْ أَجْزِ عَلْقَمَة بْن سَعْد سَعْيه لَمْ أَجْزِهِ بِبَلَاءِ يَوْم وَاحِدِ فَجَمَعَ بَيْن اللُّغَتَيْنِ .
أَيْ الْمَرْجِع وَالْمُرَاد وَالْمَصِير فَيُعَاقِب وَيُثِيب . وَقِيلَ : مِنْهُ اِبْتِدَاء الْمِنَّة وَإِلَيْهِ اِنْتِهَاء الْأَمَان . وَعَنْ أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله : " وَأَنَّ إِلَى رَبّك الْمُنْتَهَى " قَالَ : ( لَا فِكْرَة فِي الرَّبّ ) . وَعَنْ أَنَس : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذْ ذُكِرَ اللَّه تَعَالَى فَانْتَهِ ) . قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( يَأْتِي الشَّيْطَان أَحَدكُمْ فَيَقُول مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُول لَهُ مَنْ خَلَقَ رَبّك فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر ( الْأَعْرَاف ) . وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ : وَلَا تُفْكِرَنْ فِي ذِي الْعُلَا عَزَّ وَجْهه فَإِنَّك تُرْدَى إِنْ فَعَلْت وَتُخْذَل وَدُونك مَصْنُوعَاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِهَا وَقُلْ مِثْل مَا قَالَ الْخَلِيل الْمُبَجَّل
ذَهَبَتْ الْوَسَائِط وَبَقِيَتْ الْحَقَائِق لِلَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى فَلَا فَاعِل إِلَّا هُوَ ; وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : لَا وَاَللَّه مَا قَالَ رَسُول اللَّه قَطُّ إِنَّ الْمَيِّت يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَحَد , وَلَكِنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ الْكَافِر يَزِيدهُ اللَّه بِبُكَاءِ أَهْله عَذَابًا وَإِنَّ اللَّه لَهُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَمَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى ) . وَعَنْهَا قَالَتْ : مَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْم مِنْ أَصْحَابه وَهُمْ يَضْحَكُونَ , فَقَالَ : ( لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ) فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيل فَقَالَ : يَا مُحَمَّد ! إِنَّ اللَّه يَقُول لَك : " وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى " . فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : ( مَا خَطَوْت أَرْبَعِينَ خُطْوَة حَتَّى أَتَانِي جِبْرِيل فَقَالَ ايْتِ هَؤُلَاءِ فَقُلْ لَهُمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى " أَيْ قَضَى أَسْبَاب الضَّحِك وَالْبُكَاء . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي مُسْلِم : يَعْنِي أَفْرَحَ وَأَحْزَنَ ; لِأَنَّ الْفَرَح يَجْلِب الضَّحِك وَالْحُزْن يَجْلِب الْبُكَاء . وَقِيلَ لِعُمَر : هَلْ كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُونَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ! وَالْإِيمَانُ وَاَللَّهُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبهمْ مِنْ الْجِبَال الرَّوَاسِي . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " النَّمْل " و " التَّوْبَة " . قَالَ الْحَسَن : أَضْحَكَ اللَّه أَهْل الْجَنَّة فِي الْجَنَّة , وَأَبْكَى أَهْل النَّار فِي النَّار . وَقِيلَ : أَضْحَكَ مَنْ شَاءَ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ سَرَّهُ وَأَبْكَى مَنْ شَاءَ بِأَنْ غَمَّهُ . الضَّحَّاك : أَضْحَكَ الْأَرْض بِالنَّبَاتِ وَأَبْكَى السَّمَاء بِالْمَطَرِ . وَقِيلَ : أَضْحَكَ الْأَشْجَار بِالنَّوَّارِ , وَأَبْكَى السَّحَاب بِالْأَمْطَارِ . وَقَالَ ذُو النُّون : أَضْحَكَ قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ وَالْعَارِفِينَ بِشَمْسِ مَعْرِفَته , وَأَبْكَى قُلُوب الْكَافِرِينَ وَالْعَاصِينَ بِظُلْمَةِ نُكْرَته وَمَعْصِيَته . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : أَضْحَكَ اللَّه الْمُطِيعِينَ بِالرَّحْمَةِ وَأَبْكَى الْعَاصِينَ بِالسَّخَطِ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ : أَضْحَكَ الْمُؤْمِن فِي الْآخِرَة وَأَبْكَاهُ فِي الدُّنْيَا . وَقَالَ بَسَّام بْن عَبْد اللَّه : أَضْحَكَ اللَّه أَسْنَانهمْ وَأَبْكَى قُلُوبهمْ . وَأَنْشَدَ : السِّنُّ تَضْحَكُ وَالْأَحْشَاءُ تَحْتَرِقُ وَإِنَّمَا ضَحِكُهَا زُورٌ وَمُخْتَلَقُ يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لَا دُمُوع لَهَا وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ وَقِيلَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَصَّ الْإِنْسَان بِالضَّحِكِ وَالْبُكَاء مِنْ بَيْن سَائِر الْحَيَوَان , وَلَيْسَ فِي سَائِر الْحَيَوَان مَنْ يَضْحَك وَيَبْكِي غَيْر الْإِنْسَان . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْقِرْد وَحْده يَضْحَك وَلَا يَبْكِي , وَإِنَّ الْإِبِل وَحْدهَا تَبْكِي وَلَا تَضْحَك . وَقَالَ يُوسُف بْن الْحُسَيْن : سُئِلَ طَاهِر الْمَقْدِسِيّ أَتَضْحَكُ الْمَلَائِكَة ؟ فَقَالَ : مَا ضَحِكُوا وَلَا كُلّ مَنْ دُونَ الْعَرْش مُنْذُ خُلِقَتْ جَهَنَّم .
أَيْ قَضَى أَسْبَاب الْمَوْت وَالْحَيَاة . وَقِيلَ : خَلَقَ الْمَوْت وَالْحَيَاة كَمَا قَالَ : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْت وَالْحَيَاة " [ الْمُلْك : 2 ] قَالَهُ اِبْن بَحْر . وَقِيلَ : أَمَاتَ الْكَافِر بِالْكُفْرِ وَأَحْيَا الْمُؤْمِن بِالْإِيمَانِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ " [ الْأَنْعَام : 122 ] الْآيَة . وَقَالَ : " إِنَّمَا يَسْتَجِيب الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثهُمْ اللَّه " عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَإِلَيْهِ يَرْجِع قَوْل عَطَاء : أَمَاتَ بِعَدْلِهِ وَأَحْيَا بِفَضْلِهِ . وَقَوْل مَنْ قَالَ : أَمَاتَ بِالْمَنْعِ وَالْبُخْل وَأَحْيَا بِالْجُودِ وَالْبَذْل . وَقِيلَ : أَمَاتَ النُّطْفَة وَأَحْيَا النَّسَمَة . وَقِيلَ : أَمَاتَ الْآبَاء وَأَحْيَا الْأَبْنَاء . وَقِيلَ : يُرِيد بِالْحَيَاةِ الْخِصْب وَبِالْمَوْتِ الْجَدْب . وَقِيلَ : أَنَامَ وَأَيْقَظَ . وَقِيلَ : أَمَاتَ فِي الدُّنْيَا وَأَحْيَا لِلْبَعْثِ .
أَيْ مِنْ أَوْلَاد آدَم وَلَمْ يُرِدْ آدَم وَحَوَّاء بِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ نُطْفَة .
وَالنُّطْفَة الْمَاء الْقَلِيل , مُشْتَقّ مِنْ نَطَفَ الْمَاء إِذَا قَطَرَ . " تُمْنَى " تُصَبُّ فِي الرَّحِم وَتُرَاق ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَالضَّحَّاك وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح . يُقَال : مَنَى الرَّجُل وَأَمْنَى مِنْ الْمَنِيّ , وَسُمِّيَتْ مِنًى بِهَذَا الِاسْم لِمَا يُمْنَى فِيهَا مِنْ الدِّمَاء أَيْ يُرَاق . وَقِيلَ : " تُمْنَى " تُقَدَّر ; قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَة . يُقَال : مَنَيْت الشَّيْء إِذَا قَدَّرْته , وَمُنِيَ لَهُ أَيْ قُدِّرَ لَهُ ; قَالَ الشَّاعِر : حَتَّى تَلَاقِي مَا يَمْنِي لَك الْمَانِي أَيْ مَا يُقَدِّر لَك الْقَادِر .
أَيْ إِعَادَة الْأَرْوَاح فِي الْأَشْبَاح لِلْبَعْثِ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو " النَّشَاءَة " بِفَتْحِ الشِّين وَالْمَدّ ; أَيْ وَعَدَ ذَلِكَ وَوَعْده صِدْق .
قَالَ اِبْن زَيْد : أَغْنَى مَنْ شَاءَ وَأَفْقَرَ مَنْ شَاءَ ; ثُمَّ قَرَأَ " يَبْسُط الرِّزْق لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده وَيَقْدِر لَهُ " [ سَبَأ : 39 ] وَقَرَأَ " يَقْبِض وَيَبْسُط " [ الْبَقَرَة : 245 ] وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ . وَعَنْ اِبْن زَيْد أَيْضًا وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالْحَسَن : " أَغْنَى " مَوَّلَ " وَأَقْنَى " أَخْدَمَ . وَقِيلَ : " أَقْنَى " جَعَلَ لَكُمْ قِنْيَة تَقْتَنُونَهَا , وَهُوَ مَعْنَى أَخْدَمَ أَيْضًا . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَرْضَى بِمَا أَعْطَى أَيْ أَغْنَاهُ ثُمَّ رَضَّاهُ بِمَا أَعْطَاهُ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : قَنِيَ الرَّجُل يَقْنَى قِنًى ; مِثْل غَنِيَ يَغْنَى غِنًى , وَأَقْنَاهُ اللَّه أَيْ أَعْطَاهُ اللَّه مَا يُقْتَنَى مِنْ الْقِنْيَة وَالنَّشَب . وَأَقْنَاهُ اللَّه أَيْضًا أَيْ رَضَّاهُ . وَالْقِنَى الرِّضَا , عَنْ أَبِي زَيْد ; قَالَ وَتَقُول الْعَرَب : مَنْ أُعْطِيَ مِائَة مِنْ الْمَعْز فَقَدْ أُعْطِيَ الْقِنَى , وَمَنْ أُعْطِيَ مِائَة مِنْ الضَّأْن فَقَدْ أُعْطِيَ الْغِنَى , وَمَنْ أُعْطِيَ مِائَة مِنْ الْإِبِل فَقَدْ أُعْطِيَ الْمُنَى . وَيُقَال : أَغْنَاهُ اللَّه وَأَقْنَاهُ أَيْ أَعْطَاهُ مَا يَسْكُن إِلَيْهِ . وَقِيلَ : " أَغْنَى وَأَقْنَى " أَيْ أَغْنَى نَفْسه وَأَفْقَرَ خَلْقه إِلَيْهِ ; قَالَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ . وَقَالَ سُفْيَان : أَغْنَى بِالْقَنَاعَةِ وَأَقْنَى بِالرِّضَا . وَقَالَ الْأَخْفَش : أَقْنَى أَفْقَرَ . قَالَ اِبْن كَيْسَان : أَوْلَدَ . وَهَذَا رَاجِع لِمَا تَقَدَّمَ .
"الشِّعْرَى " الْكَوْكَب الْمُضِيء الَّذِي يَطْلُع بَعْد الْجَوْزَاء , وَطُلُوعه فِي شِدَّة الْحَرّ , وَهُمَا الشِّعْرِيَّانِ الْعَبُور الَّتِي فِي الْجَوْزَاء وَالشِّعْرَى الْغُمَيْصَاء الَّتِي فِي الذِّرَاع ; وَتَزْعُم الْعَرَب أَنَّهُمَا أُخْتَا سُهَيْل . وَإِنَّمَا ذُكِرَ أَنَّهُ رَبّ الشِّعْرَى وَإِنْ كَانَ رَبًّا لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْعَرَب كَانَتْ تَعْبُدهُ ; فَأَعْلَمَهُمْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ الشِّعْرَى مَرْبُوب لَيْسَ بِرَبٍّ . وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ كَانَ يَعْبُدهُ ; فَقَالَ السُّدِّيّ : كَانَتْ تَعْبُدهُ حِمْيَر وَخُزَاعَة . وَقَالَ غَيْره : أَوَّل مَنْ عَبَدَهُ أَبُو كَبْشَة أَحَد أَجْدَاد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَل أُمَّهَاته , وَلِذَلِكَ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْش يُسَمُّونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْن أَبِي كَبْشَة حِين دَعَا إِلَى اللَّه وَخَالَفَ أَدْيَانهمْ ; وَقَالُوا : مَا لَقِينَا مِنْ اِبْن أَبِي كَبْشَة ! وَقَالَ أَبُو سُفْيَان يَوْم الْفَتْح وَقَدْ وَقَفَ فِي بَعْض الْمَضَايِق وَعَسَاكِر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمُرّ عَلَيْهِ : لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ اِبْنِ أَبِي كَبْشَة . وَقَدْ كَانَ مَنْ لَا يَعْبُد الشِّعْرَى مِنْ الْعَرَب يُعَظِّمهَا وَيَعْتَقِد تَأْثِيرهَا فِي الْعَالَم , قَالَ الشَّاعِر : مَضَى أَيْلُول وَارْتَفَعَ الْحَرُور وَأَخْبَتَ نَارهَا الشِّعْرَى الْعَبُور وَقِيلَ : إِنَّ الْعَرَب تَقُول فِي خُرَافَاتهَا : إِنَّ سُهَيْلًا وَالشِّعْرَى كَانَا زَوْجَيْنِ , فَانْحَدَرَ سُهَيْل فَصَارَ يَمَانِيًّا , فَاتَّبَعَتْهُ الشِّعْرَى الْعَبُور فَعَبَرَتْ الْمَجَرَّة فَسُمِّيَتْ الْعَبُور , وَأَقَامَتْ الْغُمَيْصَاء فَبَكَتْ لِفَقْدِ سُهَيْل حَتَّى غَمِصَتْ عَيْنَاهَا فَسُمِّيَتْ غُمَيْصَاء لِأَنَّهَا أَخْفَى مِنْ الْأُخْرَى .
سَمَّاهَا الْأُولَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قِبَل ثَمُود . وَقِيلَ : إِنَّ ثَمُود مِنْ قِبَل عَاد . وَقَالَ اِبْن زَيْد : قِيلَ لَهَا عَاد الْأُولَى لِأَنَّهَا أَوَّل أُمَّة أُهْلِكَتْ بَعْد نُوح عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : هُمَا عَادَانِ فَالْأُولَى أُهْلِكَتْ بِالرِّيحِ الصَّرْصَر , ثُمَّ كَانَتْ الْأُخْرَى فَأُهْلِكَتْ بِالصَّيْحَةِ . وَقِيلَ : عَاد الْأُولَى هُوَ عَاد بْن إِرَم بْن عَوْص بْن سَام بْن نُوح , وَعَاد الثَّانِيَة مِنْ وَلَد عَاد الْأُولَى ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَقِيلَ : إِنَّ عَاد الْآخِرَة الْجَبَّارُونَ وَهُمْ قَوْم هُود . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " عَادًا الْأُولَى " بِبَيَانِ التَّنْوِين وَالْهَمْز . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن مُحَيْصِن وَأَبُو عَمْرو " عَادًا الْأُولَى " بِنَقْلِ حَرَكَة الْهَمْزَة إِلَى اللَّام وَإِدْغَام التَّنْوِين فِيهَا , إِلَّا أَنَّ قَالُونَ وَالسُّوسِيّ يُظْهِرَانِ الْهَمْزَة السَّاكِنَة . وَقَلَبَهَا الْبَاقُونَ وَاوًا عَلَى أَصْلهَا ; وَالْعَرَب تَقْلِب هَذَا الْقَلْب فَتَقُول : قُمِ الَّانَ عَنَّا وَضُمَّ لِثْنَيْنِ أَيْ قُمِ الْآن وَضُمَّ الِاثْنَيْنِ .
ثَمُود هُمْ قَوْم صَالِح أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ . قُرِئَ " ثَمُودًا " [ التَّوْبَة : 70 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَانْتَصَبَ عَلَى الْعَطْف عَلَى عَاد .
أَيْ وَأَهْلَكَ قَوْم نُوح مِنْ قَبْل عَاد وَثَمُود
وَذَلِكَ لِطُولِ مُدَّة نُوح فِيهِمْ , حَتَّى كَانَ الرَّجُل فِيهِمْ يَأْخُذ بِيَدِ اِبْنه فَيَنْطَلِق إِلَى نُوح عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُول : اِحْذَرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَذَّاب , وَإِنَّ أَبِي قَدْ مَشَى بِي إِلَى هَذَا وَقَالَ لِي مِثْل مَا قُلْت لَك ; فَيَمُوت الْكَبِير عَلَى الْكُفْر , وَيَنْشَأ الصَّغِير عَلَى وَصِيَّة أَبِيهِ . وَقِيلَ : إِنَّ الْكِنَايَة تَرْجِع إِلَى كُلّ مَنْ ذُكِرَ مِنْ عَاد وَثَمُود وَقَوْم نُوح ; أَيْ كَانُوا أَكْفَرَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَب وَأَطْغَى . فَيَكُون فِيهِ تَسْلِيَة وَتَعْزِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَكَأَنَّهُ يَقُول لَهُ : فَاصْبِرْ أَنْتَ أَيْضًا فَالْعَاقِبَة الْحَمِيدَة لَك .
وَذَلِكَ لِطُولِ مُدَّة نُوح فِيهِمْ , حَتَّى كَانَ الرَّجُل فِيهِمْ يَأْخُذ بِيَدِ اِبْنه فَيَنْطَلِق إِلَى نُوح عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُول : اِحْذَرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَذَّاب , وَإِنَّ أَبِي قَدْ مَشَى بِي إِلَى هَذَا وَقَالَ لِي مِثْل مَا قُلْت لَك ; فَيَمُوت الْكَبِير عَلَى الْكُفْر , وَيَنْشَأ الصَّغِير عَلَى وَصِيَّة أَبِيهِ . وَقِيلَ : إِنَّ الْكِنَايَة تَرْجِع إِلَى كُلّ مَنْ ذُكِرَ مِنْ عَاد وَثَمُود وَقَوْم نُوح ; أَيْ كَانُوا أَكْفَرَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَب وَأَطْغَى . فَيَكُون فِيهِ تَسْلِيَة وَتَعْزِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَكَأَنَّهُ يَقُول لَهُ : فَاصْبِرْ أَنْتَ أَيْضًا فَالْعَاقِبَة الْحَمِيدَة لَك .
يَعْنِي مَدَائِن قَوْم لُوط عَلَيْهِ السَّلَام اِئْتَفَكَتْ بِهِمْ , أَيْ اِنْقَلَبَتْ وَصَارَ عَالِيهَا سَافِلهَا . يُقَال : أَفَكْته أَيْ قَلَبْته وَصَرَفْته . " أَهْوَى " أَيْ خُسِفَ بِهِمْ بَعْد رَفْعهَا إِلَى السَّمَاء ; رَفَعَهَا جِبْرِيل ثُمَّ أَهْوَى بِهَا إِلَى الْأَرْض . وَقَالَ الْمُبَرِّد : جَعَلَهَا تَهْوِي . وَيُقَال : هَوَى بِالْفَتْحِ يَهْوِي هُوِيًّا أَيْ سَقَطَ و " أَهْوَى " أَيْ أَسْقَطَ .
أَيْ أَلْبَسَهَا مَا أَلْبَسَهَا مِنْ الْحِجَارَة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَجَعَلْنَا عَالِيهَا سَافِلهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَة مِنْ سِجِّيل " [ الْحِجْر : 74 ] وَقِيلَ : إِنَّ الْكِنَايَة تَرْجِع إِلَى جَمِيع هَذِهِ الْأُمَم ; أَيْ غَشَّاهَا مِنْ الْعَذَاب مَا غَشَّاهُمْ , وَأَبْهَمَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ أُهْلِكَ بِضَرْبٍ غَيْر مَا أُهْلِكَ بِهِ الْآخَر . وَقِيلَ : هَذَا تَعْظِيم الْأَمْر .
أَيْ فَبِأَيِّ نِعَم رَبّك تَشُكّ . وَالْمُخَاطَبَة لِلْإِنْسَانِ الْمُكَذِّب . وَالْآلَاء النِّعَم وَاحِدهَا أَلًى وَإِلًى وَإِلْيٌ . وَقَرَأَ يَعْقُوب " تَّمَارَى " بِإِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَالتَّشْدِيد .
قَالَ اِبْن جُرَيْج وَمُحَمَّد بْن كَعْب : يُرِيد أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِير بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ الْأَنْبِيَاء قَبْله , فَإِنْ أَطَعْتُمُوهُ أَفْلَحْتُمْ , وَإِلَّا حَلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِمُكَذِّبِي الرُّسُل السَّالِفَة . وَقَالَ قَتَادَة : يُرِيد الْقُرْآن , وَأَنَّهُ نَذِير بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الْكُتُب الْأُولَى . وَقِيلَ : أَيْ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَا بِهِ مِنْ أَخْبَار الْأُمَم الْمَاضِيَة الَّذِينَ هَلَكُوا تَخْوِيف لِهَذِهِ الْأُمَّة مِنْ أَنْ يَنْزِل بِهِمْ مَا نَزَلَ بِأُولَئِكَ مِنْ النُّذُر أَيْ مِثْل النُّذُر ; وَالنُّذُر فِي قَوْل الْعَرَب بِمَعْنَى الْإِنْذَار كَالنُّكُرِ بِمَعْنَى الْإِنْكَار ; أَيْ هَذَا إِنْذَار لَكُمْ . وَقَالَ أَبُو مَالِك : هَذَا الَّذِي أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ وَقَائِع الْأُمَم الْخَالِيَة هُوَ فِي صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى . وَقَالَ السُّدِّيّ أَخْبَرَنِي أَبُو صَالِح قَالَ : هَذِهِ الْحُرُوف الَّتِي ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْله تَعَالَى : " أَمْ لَمْ يُنَبَّأ بِمَا فِي صُحُف مُوسَى . وَإِبْرَاهِيم " [ النَّجْم : 37 ] إِلَى قَوْله : " هَذَا نَذِير مِنْ النُّذُر الْأُولَى " كُلّ هَذِهِ فِي صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى .
أَيْ قَرُبَتْ السَّاعَة وَدَنَتْ الْقِيَامَة . وَسَمَّاهَا آزِفَة لِقُرْبِ قِيَامهَا عِنْده ; كَمَا قَالَ : " يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا " [ الْمَعَارِج : 6 - 7 ] . وَقِيلَ : سَمَّاهَا آزِفَة لِدُنُوِّهَا مِنْ النَّاس وَقُرْبهَا مِنْهُمْ لِيَسْتَعِدُّوا لَهَا ; لِأَنَّ كُلّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيب . قَالَ : أَزِفَ التَّرَحُّل غَيْر أَنَّ رِكَابنَا لَمَّا تَزَلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ وَفِي الصِّحَاح : أَزِفَ التَّرَحُّل يَأْزَف أَزَفًا أَيْ دَنَا وَأَفِدَ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " أَزِفَتْ الْآزِفَة " يَعْنِي الْقِيَامَة , وَأَزِفَ الرَّجُل أَيْ عَجِلَ فَهُوَ آزِف عَلَى فَاعِل , وَالْمُتَآزِف الْقَصِير وَهُوَ الْمُتَدَانِي . قَالَ أَبُو زَيْد : قُلْت لِأَعْرَابِيٍّ مَا الْمُحْبَنْطِئُ ؟ قَالَ : الْمُتَكَأْكِئ . قُلْت : مَا الْمُتَكَأْكِئ ؟ قَالَ : الْمُتَآزِف . قُلْت : مَا الْمُتَآزِف ؟ قَالَ : أَنْتَ أَحْمَقُ وَتَرَكَنِي وَمَرَّ .
أَيْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُون اللَّه مَنْ يُؤَخِّرهَا أَوْ يُقَدِّمهَا . وَقِيلَ : كَاشِفَة أَيْ اِنْكِشَاف أَيْ لَا يَكْشِف عَنْهَا وَلَا يُبْدِيهَا إِلَّا اللَّه ; فَالْكَاشِفَة اِسْم بِمَعْنَى الْمَصْدَر وَالْهَاء فِيهِ كَالْهَاءِ فِي الْعَاقِبَة وَالْعَافِيَة وَالدَّاهِيَة وَالْبَاقِيَة ; كَقَوْلِهِمْ : مَا لِفُلَانٍ مِنْ بَاقِيَة أَيْ مِنْ بَقَاء . وَقِيلَ : أَيْ لَا أَحَد يَرُدّ ذَلِكَ ; أَيْ أَنَّ الْقِيَامَة إِذَا قَامَتْ لَا يَكْشِفهَا أَحَد مِنْ آلِهَتهمْ وَلَا يُنْجِيهِمْ غَيْر اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ سُمِّيَتْ الْقِيَامَة غَاشِيَة , فَإِذَا كَانَتْ غَاشِيَة كَانَ رَدّهَا كَشْفًا , فَالْكَاشِفَة عَلَى هَذَا نَعْتُ مُؤَنَّثٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ نَفْس كَاشِفَة أَوْ فِرْقَة كَاشِفَة أَوْ حَال كَاشِفَة . وَقِيلَ : إِنَّ " كَاشِفَة " بِمَعْنَى كَاشِف وَالْهَاء لِلْمُبَالَغَةِ مِثْل رَاوِيَة وَدَاهِيَة .
يَعْنِي الْقُرْآن . وَهَذَا اِسْتِفْهَام تَوْبِيخ
تَكْذِيبًا بِهِ
تَكْذِيبًا بِهِ
اِسْتِهْزَاء
اِنْزِجَارًا وَخَوْفًا مِنْ الْوَعِيد . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رُئِيَ بَعْد نُزُول هَذِهِ الْآيَة ضَاحِكًا إِلَّا تَبَسُّمًا . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : لَمَّا نَزَلَتْ " أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيث تَعْجَبُونَ " قَالَ أَهْل الصُّفَّة : " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " ثُمَّ بَكَوْا حَتَّى جَرَتْ دُمُوعهمْ عَلَى خُدُودهمْ , فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُكَاءَهُمْ بَكَى مَعَهُمْ فَبَكَيْنَا لِبُكَائِهِ ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَلِج النَّار مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَة اللَّه وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة مُصِرّ عَلَى مَعْصِيَة اللَّه وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّه بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِر لَهُمْ وَيَرْحَمهُمْ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُور الرَّحِيم ) . وَقَالَ أَبُو حَازِم : نَزَلَ جِبْرِيل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده رَجُل يَبْكِي , فَقَالَ لَهُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا فُلَان ; فَقَالَ جِبْرِيل : إِنَّا نَزِن أَعْمَال بَنِي آدَم كُلّهَا إِلَّا الْبُكَاء , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَيُطْفِئ بِالدَّمْعَةِ الْوَاحِدَة بُحُورًا مِنْ جَهَنَّم .
اِنْزِجَارًا وَخَوْفًا مِنْ الْوَعِيد . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رُئِيَ بَعْد نُزُول هَذِهِ الْآيَة ضَاحِكًا إِلَّا تَبَسُّمًا . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : لَمَّا نَزَلَتْ " أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيث تَعْجَبُونَ " قَالَ أَهْل الصُّفَّة : " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " ثُمَّ بَكَوْا حَتَّى جَرَتْ دُمُوعهمْ عَلَى خُدُودهمْ , فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُكَاءَهُمْ بَكَى مَعَهُمْ فَبَكَيْنَا لِبُكَائِهِ ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَلِج النَّار مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَة اللَّه وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة مُصِرّ عَلَى مَعْصِيَة اللَّه وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّه بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِر لَهُمْ وَيَرْحَمهُمْ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُور الرَّحِيم ) . وَقَالَ أَبُو حَازِم : نَزَلَ جِبْرِيل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده رَجُل يَبْكِي , فَقَالَ لَهُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا فُلَان ; فَقَالَ جِبْرِيل : إِنَّا نَزِن أَعْمَال بَنِي آدَم كُلّهَا إِلَّا الْبُكَاء , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَيُطْفِئ بِالدَّمْعَةِ الْوَاحِدَة بُحُورًا مِنْ جَهَنَّم .