وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ↓
هَذِهِ صِفَة الْمُنَافِقِينَ , وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعُوهُ , بَلْ دَخَلُوا كَافِرِينَ وَخَرَجُوا كَافِرِينَ . " وَاللَّه أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ " أَيْ مِنْ نِفَاقهمْ , وَقِيلَ : الْمُرَاد الْيَهُود الَّذِينَ قَالُوا : آمِنُوا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْه النَّهَار إِذَا دَخَلْتُمْ الْمَدِينَة , وَاكْفُرُوا آخِره إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى بُيُوتكُمْ , يَدُلّ عَلَيْهِ مَا قَبْله مِنْ ذِكْرهمْ وَمَا يَأْتِي .
وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ↓
يَعْنِي مِنْ الْيَهُود . " يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم وَالْعُدْوَان " أَيْ يُسَابِقُونَ فِي الْمَعَاصِي وَالظُّلْم " وَأَكْلهمْ السُّحْت لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "
لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ↓
( لَوْلَا ) بِمَعْنَى فَلَا . ( يَنْهَاهُمْ ) يَزْجُرهُمْ . ( الرَّبَّانِيُّونَ ) عُلَمَاء النَّصَارَى . ( وَالْأَحْبَار ) عُلَمَاء الْيَهُود قَالَهُ الْحَسَن , وَقِيلَ الْكُلّ فِي الْيَهُود ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَات فِيهِمْ . ثُمَّ وَبَّخَ عُلَمَاءَهُمْ فِي تَرْكهمْ نَهْيهمْ فَقَالَ
كَمَا وَبَّخَ مَنْ يُسَارِع فِي الْإِثْم بِقَوْلِهِ : " لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ تَارِك النَّهْي عَنْ الْمُنْكَر كَمُرْتَكِبِ الْمُنْكَر ; فَالْآيَة تَوْبِيخ لِلْعُلَمَاءِ فِي تَرْك الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي ( الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان ) , وَرَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة قَالَ : حَدَّثَنِي سُفْيَان بْن سَعِيد عَنْ مِسْعَر قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ مَلَكًا أُمِرَ أَنْ يَخْسِف بِقَرْيَةٍ فَقَالَ : يَا رَبّ فِيهَا فُلَان الْعَابِد فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ : ( أَنْ بِهِ فَابْدَأْ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّر وَجْهه فِي سَاعَة قَطُّ ) , وَفِي صَحِيح التِّرْمِذِيّ : ( إِنَّ النَّاس إِذَا رَأَوْا الظَّالِم وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمْ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْ عِنْده ) , وَسَيَأْتِي . وَالصُّنْع بِمَعْنَى الْعَمَل إِلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَوْدَة ; يُقَال : سَيْف صَنِيع إِذَا جُوِّدَ عَمَله .
كَمَا وَبَّخَ مَنْ يُسَارِع فِي الْإِثْم بِقَوْلِهِ : " لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ تَارِك النَّهْي عَنْ الْمُنْكَر كَمُرْتَكِبِ الْمُنْكَر ; فَالْآيَة تَوْبِيخ لِلْعُلَمَاءِ فِي تَرْك الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي ( الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان ) , وَرَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة قَالَ : حَدَّثَنِي سُفْيَان بْن سَعِيد عَنْ مِسْعَر قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ مَلَكًا أُمِرَ أَنْ يَخْسِف بِقَرْيَةٍ فَقَالَ : يَا رَبّ فِيهَا فُلَان الْعَابِد فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ : ( أَنْ بِهِ فَابْدَأْ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّر وَجْهه فِي سَاعَة قَطُّ ) , وَفِي صَحِيح التِّرْمِذِيّ : ( إِنَّ النَّاس إِذَا رَأَوْا الظَّالِم وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمْ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْ عِنْده ) , وَسَيَأْتِي . وَالصُّنْع بِمَعْنَى الْعَمَل إِلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَوْدَة ; يُقَال : سَيْف صَنِيع إِذَا جُوِّدَ عَمَله .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ↓
قَالَ عِكْرِمَة : إِنَّمَا قَالَ هَذَا فِنْحَاص بْن عَازُورَاء , لَعَنَهُ اللَّه , وَأَصْحَابه , وَكَانَ لَهُمْ أَمْوَال فَلَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّ مَالهمْ ; فَقَالُوا : إِنَّ اللَّه بَخِيل , وَيَد اللَّه مَقْبُوضَة عَنَّا فِي الْعَطَاء ; فَالْآيَة خَاصَّة فِي بَعْضهمْ , وَقِيلَ : لَمَّا قَالَ قَوْم هَذَا وَلَمْ يُنْكِر الْبَاقُونَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا هَذَا , وَقَالَ الْحَسَن : الْمَعْنَى يَد اللَّه مَقْبُوضَة عَنْ عَذَابنَا , وَقِيلَ : إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَقْر وَقِلَّة مَال وَسَمِعُوا ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا ) وَرَأَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَسْتَعِين بِهِمْ فِي الدِّيَات قَالُوا : إِنَّ إِلَه مُحَمَّد فَقِير , وَرُبَّمَا قَالُوا : بَخِيل ; وَهَذَا مَعْنَى قَوْلهمْ : ( يَد اللَّه مَغْلُولَة ) فَهَذَا عَلَى التَّمْثِيل كَقَوْلِهِ : ( وَلَا تَجْعَل يَدك مَغْلُولَة إِلَى عُنُقك ) [ الْإِسْرَاء : 29 ] , وَيُقَال لِلْبَخِيلِ : جَعْد الْأَنَامِل , وَمَقْبُوض الْكَفّ , وَكَزّ الْأَصَابِع , وَمَغْلُول الْيَد ; قَالَ الشَّاعِر : كَانَتْ خُرَاسَان أَرْضًا إِذْ يَزِيد بِهَا وَكُلّ بَاب مِنْ الْخَيْرَات مَفْتُوحُ فَاسْتَبْدَلَتْ بَعْده جَعْدًا أَنَامِله كَأَنَّمَا وَجْهه بِالْخَلِّ مَنْضُوحُ وَالْيَد فِي كَلَام الْعَرَب تَكُون لِلْجَارِحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا " [ ص : 44 ] هَذَا مُحَال عَلَى اللَّه تَعَالَى , وَتَكُون لِلنِّعْمَةِ ; تَقُول الْعَرَب : كَمْ يَد لِي عِنْد فُلَان , أَيْ كَمْ مِنْ نِعْمَة لِي قَدْ أَسْدَيْتهَا لَهُ , وَتَكُون لِلْقُوَّةِ ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَاذْكُرْ عَبْدنَا دَاوُد ذَا الْأَيْد " [ ص : 17 ] , أَيْ ذَا الْقُوَّة وَتَكُون يَد الْمُلْك وَالْقُدْرَة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " قُلْ إِنَّ الْفَضْل بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء " [ آل عِمْرَان : 73 ] . وَتَكُون بِمَعْنَى الصِّلَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا " [ يس : 71 ] أَيْ مِمَّا عَمِلْنَا نَحْنُ , وَقَالَ : " أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح " [ الْبَقَرَة : 237 ] أَيْ الَّذِي لَهُ عُقْدَة النِّكَاح , وَتَكُون بِمَعْنَى التَّأْيِيد وَالنُّصْرَة , وَمِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( يَد اللَّه مَعَ الْقَاضِي حَتَّى يَقْضِيَ وَالْقَاسِم حَتَّى يَقْسِمَ ) , وَتَكُون لِإِضَافَةِ الْفِعْل إِلَى الْمُخْبَر عَنْهُ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يَا إِبْلِيس مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ " [ ص : 75 ] فَلَا يَجُوز أَنْ يُحْمَل عَلَى الْجَارِحَة ; لِأَنَّ الْبَارِيَ جَلَّ وَتَعَالَى وَاحِد لَا يَجُوز عَلَيْهِ التَّبْعِيض , وَلَا عَلَى الْقُوَّة وَالْمِلْك وَالنِّعْمَة وَالصِّلَة , لِأَنَّ الِاشْتِرَاك يَقَع حِينَئِذٍ . بَيْن وَلِيّه آدَم وَعَدُوّهُ إِبْلِيس , وَيَبْطُل مَا ذُكِرَ مِنْ تَفْضِيله عَلَيْهِ ; لِبُطْلَانِ مَعْنَى التَّخْصِيص , فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُحْمَل عَلَى صِفَتَيْنِ تَعَلَّقَتَا بِخَلْقِ آدَم تَشْرِيفًا لَهُ دُون خَلْق إِبْلِيس تَعَلُّق الْقُدْرَة بِالْمَقْدُورِ , لَا مِنْ طَرِيق الْمُبَاشَرَة وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمُمَاسَّة ; وَمِثْله مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَزَّ اِسْمه وَتَعَالَى عُلَاهُ وَجَدّه أَنَّهُ كَتَبَ التَّوْرَاة بِيَدِهِ , وَغَرَسَ دَار الْكَرَامَة بِيَدِهِ لِأَهْلِ الْجَنَّة , وَغَيْر ذَلِكَ تَعَلُّق الصِّفَة بِمُقْتَضَاهَا .
حُذِفَتْ الضَّمَّة مِنْ الْيَاء لِثِقَلِهَا ; أَيْ غُلَّتْ فِي الْآخِرَة , وَيَجُوز أَنْ يَكُون دُعَاء عَلَيْهِمْ , وَكَذَا " وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا " وَالْمَقْصُود تَعْلِيمنَا كَمَا قَالَ : " لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِد الْحَرَام إِنْ شَاءَ اللَّه " [ الْفَتْح : 27 ] ; عَلَّمَنَا الِاسْتِثْنَاء كَمَا عَلَّمَنَا الدُّعَاء عَلَى أَبِي لَهَب بِقَوْلِهِ : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " [ الْمَسَد : 1 ] وَقِيلَ : الْمُرَاد أَنَّهُمْ أَبْخَلُ الْخَلْق ; فَلَا تَرَى يَهُودِيًّا غَيْر لَئِيم , وَفِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الْقَوْل إِضْمَار الْوَاو ; أَيْ قَالُوا : يَد اللَّه مَغْلُولَة وَغُلَّتْ أَيْدِيهمْ . وَاللَّعْن بِالْإِبْعَادِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
اِبْتِدَاء وَخَبَر ; أَيْ بَلْ نِعْمَته مَبْسُوطَة ; فَالْيَد بِمَعْنَى النِّعْمَة . قَالَ بَعْضهمْ : هَذَا غَلَط ; لِقَوْلِهِ : " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ " فَنِعَم اللَّه تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَكَيْفَ تَكُون بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا تَثْنِيَة جِنْس لَا تَثْنِيَة وَاحِد مُفْرَد ; فَيَكُون مِثْل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَثَل الْمُنَافِق كَالشَّاةِ الْعَائِرَة بَيْن الْغَنَمَيْنِ ) . فَأَحَد الْجِنْسَيْنِ نِعْمَة الدُّنْيَا , وَالثَّانِي نِعْمَة الْآخِرَة . وَقِيلَ : نِعْمَتَا الدُّنْيَا النِّعْمَة الظَّاهِرَة وَالنِّعْمَة الْبَاطِنَة ; كَمَا قَالَ : " وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمه ظَاهِرَة وَبَاطِنَة " [ لُقْمَان : 20 ] . وَرَوَى اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ فِيهِ : ( النِّعْمَة الظَّاهِرَة مَا حَسُنَ مِنْ خُلُقك , وَالْبَاطِنَة مَا سُتِرَ عَلَيْك مِنْ سَيِّئ عَمَلك ) , وَقِيلَ : نِعْمَتَاهُ الْمَطَر وَالنَّبَات اللَّتَانِ النِّعْمَة بِهِمَا وَمِنْهُمَا . وَقِيلَ : إِنَّ النِّعْمَة لِلْمُبَالَغَةِ ; كَقَوْلِ الْعَرَب : ( لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْك ) وَلَيْسَ يُرِيد الِاقْتِصَار عَلَى مَرَّتَيْنِ ; وَقَدْ يَقُول الْقَائِل : مَا لِي بِهَذَا الْأَمْر يَد أَيْ قُوَّة . قَالَ السُّدِّيّ ; مَعْنَى قَوْله ( يَدَاهُ ) قُوَّتَاهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب , بِخِلَافِ مَا قَالَتْ الْيَهُود : إِنَّ يَده مَقْبُوضَة عَنْ عَذَابهمْ , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِي أَنْفِقْ أُنْفِق عَلَيْك ) , وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَمِين اللَّه مَلْأَى لَا يَغِيضهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ رَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينه - قَالَ - وَعَرْشه عَلَى الْمَاء وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْض يَرْفَع وَيَخْفِض ) . السَّحَّاء الصَّبّ الْكَثِير , وَيَغِيض يَنْقُص ; وَنَظِير هَذَا الْحَدِيث قَوْله جَلَّ ذِكْره : " وَاَللَّه يَقْبِض وَيَبْسُط " [ الْبَقَرَة : 245 ] . وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَة فَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " بَلْ يَدَاهُ بُسْطَانِ " [ الْمَائِدَة : 64 ] حَكَاهُ الْأَخْفَش , وَقَالَ يُقَال : يَد بُسْطَة , أَيْ مُنْطَلِقَة مُنْبَسِطَة .
أَيْ يَرْزُق كَمَا يُرِيد , وَيَجُوز أَنْ تَكُون الْيَد فِي هَذِهِ الْآيَة بِمَعْنَى الْقُدْرَة ; أَيْ قُدْرَته شَامِلَة , فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ وَإِنْ شَاءَ قَتَّرَ .
لَام قَسَم .
أَيْ بِاَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْك .
أَيْ إِذَا نَزَلَ شَيْء مِنْ الْقُرْآن فَكَفَرُوا اِزْدَادَ كُفْرهمْ .
قَالَ مُجَاهِد : أَيْ بَيْن الْيَهُود وَالنَّصَارَى ; لِأَنَّهُ قَالَ قَبْل هَذَا " لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء " [ الْمَائِدَة : 51 ] , وَقِيلَ : أَيْ أَلْقَيْنَا بَيْن طَوَائِف الْيَهُود , كَمَا قَالَ : " تَحْسَبهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى " [ الْحَشْر : 14 ] فَهُمْ مُتَبَاغِضُونَ غَيْرُ مُتَّفِقِينَ ; فَهُمْ أَبْغَضُ خَلْق اللَّه إِلَى النَّاس .
يُرِيد الْيَهُود . و " كُلَّمَا " ظَرْف أَيْ كُلَّمَا جَمَعُوا وَأَعَدُّوا شَتَّتَ اللَّه جَمْعهمْ , وَقِيلَ : إِنَّ الْيَهُود لَمَّا أَفْسَدُوا وَخَالَفُوا كِتَاب اللَّه - التَّوْرَاة - أَرْسَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ بُخْتنَصَّرَ , ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ بُطْرُس الرُّومِيّ , ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الْمَجُوس , ثُمَّ أَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمِينَ ; فَكَانُوا كُلَّمَا اِسْتَقَامَ أَمْرهمْ شَتَّتَهُمْ اللَّه فَكُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا أَيْ أَهَاجُوا شَرًّا , وَأَجْمَعُوا أَمْرهمْ عَلَى حَرْب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَطْفَأَهَا اللَّه " وَقَهَرَهُمْ وَوَهَّنَ أَمْرهمْ فَذِكْر النَّار مُسْتَعَار . قَالَ قَتَادَة : أَذَلَّهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; فَلَقَدْ بَعَثَ اللَّه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ تَحْت أَيْدِي الْمَجُوس , وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالنَّارِ هُنَا نَار الْغَضَب , أَيْ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَار الْغَضَب فِي أَنْفُسهمْ وَتَجَمَّعُوا بِأَبْدَانِهِمْ وَقُوَّة النُّفُوس مِنْهُمْ بِاحْتِدَامِ نَار الْغَضَب أَطْفَأَهَا اللَّه حَتَّى يَضْعُفُوا ; وَذَلِكَ بِمَا جَعَلَهُ مِنْ الرُّعْب نُصْرَة بَيْن يَدَيْ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَيْ يَسْعَوْنَ فِي إِبْطَال الْإِسْلَام , وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَاد , وَاللَّه أَعْلَمُ .
حُذِفَتْ الضَّمَّة مِنْ الْيَاء لِثِقَلِهَا ; أَيْ غُلَّتْ فِي الْآخِرَة , وَيَجُوز أَنْ يَكُون دُعَاء عَلَيْهِمْ , وَكَذَا " وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا " وَالْمَقْصُود تَعْلِيمنَا كَمَا قَالَ : " لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِد الْحَرَام إِنْ شَاءَ اللَّه " [ الْفَتْح : 27 ] ; عَلَّمَنَا الِاسْتِثْنَاء كَمَا عَلَّمَنَا الدُّعَاء عَلَى أَبِي لَهَب بِقَوْلِهِ : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " [ الْمَسَد : 1 ] وَقِيلَ : الْمُرَاد أَنَّهُمْ أَبْخَلُ الْخَلْق ; فَلَا تَرَى يَهُودِيًّا غَيْر لَئِيم , وَفِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الْقَوْل إِضْمَار الْوَاو ; أَيْ قَالُوا : يَد اللَّه مَغْلُولَة وَغُلَّتْ أَيْدِيهمْ . وَاللَّعْن بِالْإِبْعَادِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
اِبْتِدَاء وَخَبَر ; أَيْ بَلْ نِعْمَته مَبْسُوطَة ; فَالْيَد بِمَعْنَى النِّعْمَة . قَالَ بَعْضهمْ : هَذَا غَلَط ; لِقَوْلِهِ : " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ " فَنِعَم اللَّه تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَكَيْفَ تَكُون بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا تَثْنِيَة جِنْس لَا تَثْنِيَة وَاحِد مُفْرَد ; فَيَكُون مِثْل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَثَل الْمُنَافِق كَالشَّاةِ الْعَائِرَة بَيْن الْغَنَمَيْنِ ) . فَأَحَد الْجِنْسَيْنِ نِعْمَة الدُّنْيَا , وَالثَّانِي نِعْمَة الْآخِرَة . وَقِيلَ : نِعْمَتَا الدُّنْيَا النِّعْمَة الظَّاهِرَة وَالنِّعْمَة الْبَاطِنَة ; كَمَا قَالَ : " وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمه ظَاهِرَة وَبَاطِنَة " [ لُقْمَان : 20 ] . وَرَوَى اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ فِيهِ : ( النِّعْمَة الظَّاهِرَة مَا حَسُنَ مِنْ خُلُقك , وَالْبَاطِنَة مَا سُتِرَ عَلَيْك مِنْ سَيِّئ عَمَلك ) , وَقِيلَ : نِعْمَتَاهُ الْمَطَر وَالنَّبَات اللَّتَانِ النِّعْمَة بِهِمَا وَمِنْهُمَا . وَقِيلَ : إِنَّ النِّعْمَة لِلْمُبَالَغَةِ ; كَقَوْلِ الْعَرَب : ( لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْك ) وَلَيْسَ يُرِيد الِاقْتِصَار عَلَى مَرَّتَيْنِ ; وَقَدْ يَقُول الْقَائِل : مَا لِي بِهَذَا الْأَمْر يَد أَيْ قُوَّة . قَالَ السُّدِّيّ ; مَعْنَى قَوْله ( يَدَاهُ ) قُوَّتَاهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب , بِخِلَافِ مَا قَالَتْ الْيَهُود : إِنَّ يَده مَقْبُوضَة عَنْ عَذَابهمْ , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِي أَنْفِقْ أُنْفِق عَلَيْك ) , وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَمِين اللَّه مَلْأَى لَا يَغِيضهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ رَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينه - قَالَ - وَعَرْشه عَلَى الْمَاء وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْض يَرْفَع وَيَخْفِض ) . السَّحَّاء الصَّبّ الْكَثِير , وَيَغِيض يَنْقُص ; وَنَظِير هَذَا الْحَدِيث قَوْله جَلَّ ذِكْره : " وَاَللَّه يَقْبِض وَيَبْسُط " [ الْبَقَرَة : 245 ] . وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَة فَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " بَلْ يَدَاهُ بُسْطَانِ " [ الْمَائِدَة : 64 ] حَكَاهُ الْأَخْفَش , وَقَالَ يُقَال : يَد بُسْطَة , أَيْ مُنْطَلِقَة مُنْبَسِطَة .
أَيْ يَرْزُق كَمَا يُرِيد , وَيَجُوز أَنْ تَكُون الْيَد فِي هَذِهِ الْآيَة بِمَعْنَى الْقُدْرَة ; أَيْ قُدْرَته شَامِلَة , فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ وَإِنْ شَاءَ قَتَّرَ .
لَام قَسَم .
أَيْ بِاَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْك .
أَيْ إِذَا نَزَلَ شَيْء مِنْ الْقُرْآن فَكَفَرُوا اِزْدَادَ كُفْرهمْ .
قَالَ مُجَاهِد : أَيْ بَيْن الْيَهُود وَالنَّصَارَى ; لِأَنَّهُ قَالَ قَبْل هَذَا " لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء " [ الْمَائِدَة : 51 ] , وَقِيلَ : أَيْ أَلْقَيْنَا بَيْن طَوَائِف الْيَهُود , كَمَا قَالَ : " تَحْسَبهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى " [ الْحَشْر : 14 ] فَهُمْ مُتَبَاغِضُونَ غَيْرُ مُتَّفِقِينَ ; فَهُمْ أَبْغَضُ خَلْق اللَّه إِلَى النَّاس .
يُرِيد الْيَهُود . و " كُلَّمَا " ظَرْف أَيْ كُلَّمَا جَمَعُوا وَأَعَدُّوا شَتَّتَ اللَّه جَمْعهمْ , وَقِيلَ : إِنَّ الْيَهُود لَمَّا أَفْسَدُوا وَخَالَفُوا كِتَاب اللَّه - التَّوْرَاة - أَرْسَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ بُخْتنَصَّرَ , ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ بُطْرُس الرُّومِيّ , ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الْمَجُوس , ثُمَّ أَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمِينَ ; فَكَانُوا كُلَّمَا اِسْتَقَامَ أَمْرهمْ شَتَّتَهُمْ اللَّه فَكُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا أَيْ أَهَاجُوا شَرًّا , وَأَجْمَعُوا أَمْرهمْ عَلَى حَرْب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَطْفَأَهَا اللَّه " وَقَهَرَهُمْ وَوَهَّنَ أَمْرهمْ فَذِكْر النَّار مُسْتَعَار . قَالَ قَتَادَة : أَذَلَّهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; فَلَقَدْ بَعَثَ اللَّه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ تَحْت أَيْدِي الْمَجُوس , وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالنَّارِ هُنَا نَار الْغَضَب , أَيْ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَار الْغَضَب فِي أَنْفُسهمْ وَتَجَمَّعُوا بِأَبْدَانِهِمْ وَقُوَّة النُّفُوس مِنْهُمْ بِاحْتِدَامِ نَار الْغَضَب أَطْفَأَهَا اللَّه حَتَّى يَضْعُفُوا ; وَذَلِكَ بِمَا جَعَلَهُ مِنْ الرُّعْب نُصْرَة بَيْن يَدَيْ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَيْ يَسْعَوْنَ فِي إِبْطَال الْإِسْلَام , وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَاد , وَاللَّه أَعْلَمُ .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ↓
( أَنَّ ) فِي مَوْضِع رَفْع , وَكَذَا " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاة " .
صَدَّقُوا .
أَيْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِيَ .
اللَّام جَوَاب ( لَوْ ) . كَفَّرْنَا غَطَّيْنَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَإِقَامَة التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُمَا وَعَدَم تَحْرِيفهمَا ; وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي ( الْبَقَرَة ) مُسْتَوْفًى
صَدَّقُوا .
أَيْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِيَ .
اللَّام جَوَاب ( لَوْ ) . كَفَّرْنَا غَطَّيْنَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَإِقَامَة التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُمَا وَعَدَم تَحْرِيفهمَا ; وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي ( الْبَقَرَة ) مُسْتَوْفًى
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ↓
( أَنَّ ) فِي مَوْضِع رَفْع ,
أَيْ الْقُرْآن , وَقِيلَ : كُتُب أَنْبِيَائِهِمْ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : يَعْنِي الْمَطَر وَالنَّبَات ; وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي جَدْب . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَرْزَاقهمْ وَأَكَلُوا أَكْلًا مُتَوَاصِلًا ; وَذِكْر فَوْق وَتَحْت لِلْمُبَالَغَةِ فِيمَا يُفْتَح عَلَيْهِمْ مِنْ الدُّنْيَا ; وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّه يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب " [ الطَّلَاق : 2 ] , " وَأَلَّوِ اِسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاء غَدَقًا " [ الْجِنّ : 16 ] " وَلَوْ أَنَّ أَهْل الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنْ السَّمَاء وَالْأَرْض " [ الْأَعْرَاف : 96 ] فَجَعَلَ تَعَالَى التُّقَى مِنْ أَسْبَاب الرِّزْق كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَات , وَوَعَدَ بِالْمَزِيدِ لِمَنْ شَكَرَ فَقَالَ : " لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " [ إِبْرَاهِيم : 7 ] ,
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُمْ مُقْتَصِدًا . الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ كَالنَّجَاشِيِّ وَسَلْمَان بْن عَبْد اللَّه بْن سَلَام اِقْتَصَدُوا فَلَمْ يَقُولُوا فِي عِيسَى وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا مَا يَلِيق بِهِمَا , وَقِيلَ : أَرَادَ بِالِاقْتِصَادِ قَوْمًا لَمْ يُؤْمِنُوا , وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْذِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ , وَاَللَّه أَعْلَمُ , وَالِاقْتِصَاد الِاعْتِدَال فِي الْعَمَل ; وَهُوَ مِنْ الْقَصْد , وَالْقَصْد إِتْيَان الشَّيْء ; تَقُول : قَصَدْته وَقَصَدْت لَهُ وَقَصَدْت إِلَيْهِ بِمَعْنًى .
أَيْ بِئْسَ شَيْء عَمِلُوهُ ; كَذَّبُوا الرُّسُل , وَحَرَّفُوا الْكُتُب وَأَكَلُوا السُّحْت .
أَيْ الْقُرْآن , وَقِيلَ : كُتُب أَنْبِيَائِهِمْ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : يَعْنِي الْمَطَر وَالنَّبَات ; وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي جَدْب . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَرْزَاقهمْ وَأَكَلُوا أَكْلًا مُتَوَاصِلًا ; وَذِكْر فَوْق وَتَحْت لِلْمُبَالَغَةِ فِيمَا يُفْتَح عَلَيْهِمْ مِنْ الدُّنْيَا ; وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّه يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب " [ الطَّلَاق : 2 ] , " وَأَلَّوِ اِسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاء غَدَقًا " [ الْجِنّ : 16 ] " وَلَوْ أَنَّ أَهْل الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنْ السَّمَاء وَالْأَرْض " [ الْأَعْرَاف : 96 ] فَجَعَلَ تَعَالَى التُّقَى مِنْ أَسْبَاب الرِّزْق كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَات , وَوَعَدَ بِالْمَزِيدِ لِمَنْ شَكَرَ فَقَالَ : " لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " [ إِبْرَاهِيم : 7 ] ,
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُمْ مُقْتَصِدًا . الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ كَالنَّجَاشِيِّ وَسَلْمَان بْن عَبْد اللَّه بْن سَلَام اِقْتَصَدُوا فَلَمْ يَقُولُوا فِي عِيسَى وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا مَا يَلِيق بِهِمَا , وَقِيلَ : أَرَادَ بِالِاقْتِصَادِ قَوْمًا لَمْ يُؤْمِنُوا , وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْذِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ , وَاَللَّه أَعْلَمُ , وَالِاقْتِصَاد الِاعْتِدَال فِي الْعَمَل ; وَهُوَ مِنْ الْقَصْد , وَالْقَصْد إِتْيَان الشَّيْء ; تَقُول : قَصَدْته وَقَصَدْت لَهُ وَقَصَدْت إِلَيْهِ بِمَعْنًى .
أَيْ بِئْسَ شَيْء عَمِلُوهُ ; كَذَّبُوا الرُّسُل , وَحَرَّفُوا الْكُتُب وَأَكَلُوا السُّحْت .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ↓
قِيلَ : مَعْنَاهُ أَظْهِرْ التَّبْلِيغ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام يُخْفِيه خَوْفًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ , ثُمَّ أُمِرَ بِإِظْهَارِهِ فِي هَذِهِ الْآيَة , وَأَعْلَمَهُ اللَّه أَنَّهُ يَعْصِمهُ مِنْ النَّاس , وَكَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوَّل مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامه وَقَالَ : لَا نَعْبُد اللَّه سِرًّا ; وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ : " يَا أَيّهَا النَّبِيّ حَسْبك اللَّه وَمَنْ اِتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " [ الْأَنْفَال : 64 ] فَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى رَدّ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَمْر الدِّين تَقِيَّة , وَعَلَى بُطْلَانه , وَهُمْ الرَّافِضَة , وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسِرّ إِلَى أَحَد شَيْئًا مِنْ أَمْر الدِّين ; لِأَنَّ الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيع مَا أُنْزِلَ إِلَيْك ظَاهِرًا , وَلَوْلَا هَذَا مَا كَانَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته " فَائِدَةٌ , وَقِيلَ : بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك فِي أَمْر زَيْنَب بِنْت جَحْش الْأَسَدِيَّة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , وَقِيلَ غَيْر هَذَا , وَالصَّحِيح الْقَوْل بِالْعُمُومِ ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيع مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك , فَإِنْ كَتَمْت شَيْئًا مِنْهُ فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته ; وَهَذَا تَأْدِيب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَأْدِيب لِحَمَلَةِ الْعِلْم مِنْ أُمَّته أَلَّا يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ أَمْر شَرِيعَته , وَقَدْ عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مِنْ أَمْر نَبِيّه أَنَّهُ لَا يَكْتُم شَيْئًا مِنْ وَحْيه ; وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ : مَنْ حَدَّثَك أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْي فَقَدْ كَذَبَ ; وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته " وَقَبَّحَ اللَّه الرَّوَافِض حَيْثُ قَالُوا : إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَيْهِ .
فِيهِ دَلِيل عَلَى نُبُوَّته ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعْصُوم , وَمَنْ ضَمِنَ سُبْحَانه لَهُ الْعِصْمَة فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون قَدْ تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَهُ اللَّه بِهِ , وَسَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَازِلًا تَحْت شَجَرَة فَجَاءَ أَعْرَابِيّ فَاخْتَرَطَ سَيْفه وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يَمْنَعك مِنِّي ؟ فَقَالَ : [ اللَّه ] ; فَذُعِرَتْ يَد الْأَعْرَابِيّ وَسَقَطَ السَّيْف مِنْ يَده ; وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَة حَتَّى اِنْتَثَرَ دِمَاغه ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ , وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاض فِي كِتَاب الشِّفَاء قَالَ : وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّة فِي الصَّحِيح , وَأَنَّ غَوْرَث بْن الْحَارِث صَاحِب الْقِصَّة , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْهُ ; فَرَجَعَ إِلَى قَوْمه وَقَالَ : جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْد خَيْر النَّاس , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَة عِنْد قَوْله : " إِذْ هَمَّ قَوْم أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ " [ الْمَائِدَة : 11 ] مُسْتَوْفًى , وَفِي " النِّسَاء " أَيْضًا فِي ذِكْر صَلَاة الْخَوْف , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَة قِبَل نَجْد فَأَدْرَكَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَادٍ كَثِير الْعِضَاه فَنَزَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْت شَجَرَة فَعَلَّقَ سَيْفه بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانهَا , قَالَ : وَتَفَرَّقَ النَّاس فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ , قَالَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِم فَأَخَذَ السَّيْف فَاسْتَيْقَظْت وَهُوَ قَائِم عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُر إِلَّا وَالسَّيْف صَلْتًا فِي يَده فَقَالَ لِي : مَنْ يَمْنَعك مِنِّي - قَالَ - قُلْت : اللَّهُ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَة مَنْ يَمْنَعك مِنِّي - قَالَ - قُلْت : اللَّهُ قَالَ فَشَامَ السَّيْف فَهَا هُوَ ذَا جَالِس ) ثُمَّ لَمْ يَعْرِض لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا بَعَثَنِي اللَّه بِرِسَالَتِهِ ضِقْت بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْت أَنَّ مِنْ النَّاس مَنْ يُكَذِّبنِي فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة ) وَكَانَ أَبُو طَالِب يُرْسِل كُلّ يَوْم مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِم يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَ : " وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس " فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عَمَّاهُ إِنَّ اللَّه قَدْ عَصَمَنِي مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس فَلَا أَحْتَاج إِلَى مَنْ يَحْرُسنِي ) . قُلْت : وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّة , وَأَنَّ الْآيَة مَكِّيَّة وَلَيْسَ كَذَلِكَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَة مَدَنِيَّة بِإِجْمَاعٍ ; وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَدَنِيَّة مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيح عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : سَهِرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْدَمه الْمَدِينَة لَيْلَة فَقَالَ : ( لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسنِي اللَّيْلَة ) قَالَتْ : فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَة سِلَاح ; فَقَالَ : ( مَنْ هَذَا ) ؟ قَالَ : سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا جَاءَ بِك ) ؟ فَقَالَ : وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْف عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْت أَحْرُسهُ ; فَدَعَا لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ , وَفِي غَيْر الصَّحِيح قَالَتْ : فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْت صَوْت السِّلَاح ; فَقَالَ : ( مَنْ هَذَا ) ؟ فَقَالُوا : سَعْد وَحُذَيْفَة جِئْنَا نَحْرُسك ; فَنَامَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْت غَطِيطه وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة ; فَأَخْرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسه مِنْ قُبَّة أَدَم وَقَالَ : ( اِنْصَرِفُوا أَيّهَا النَّاس فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّه ) , وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة : " رِسَالَاته " عَلَى الْجَمْع , وَأَبُو عَمْرو وَأَهْل الْكُوفَة : " رِسَالَته " عَلَى التَّوْحِيد ; قَالَ النَّحَّاس : وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ وَالْجَمْع أَبْيَنُ ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِل عَلَيْهِ الْوَحْي شَيْئًا فَشَيْئًا ثُمَّ يُبَيِّنهُ , وَالْإِفْرَاد يَدُلّ عَلَى الْكَثْرَة ; فَهِيَ كَالْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَر فِي أَكْثَرِ الْكَلَام لَا يُجْمَع وَلَا يُثَنَّى لِدَلَالَتِهِ عَلَى نَوْعه بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ : " وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَة اللَّه لَا تُحْصُوهَا " [ إِبْرَاهِيم : 34 ] .
أَيْ لَا يُرْشِدهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَقِيلَ : أَبْلِغْ أَنْتَ فَأَمَّا الْهِدَايَة فَإِلَيْنَا . نَظِيره " مَا عَلَى الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ " [ الْمَائِدَة : 99 ] وَاللَّه أَعْلَمُ .
فِيهِ دَلِيل عَلَى نُبُوَّته ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعْصُوم , وَمَنْ ضَمِنَ سُبْحَانه لَهُ الْعِصْمَة فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون قَدْ تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَهُ اللَّه بِهِ , وَسَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَازِلًا تَحْت شَجَرَة فَجَاءَ أَعْرَابِيّ فَاخْتَرَطَ سَيْفه وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يَمْنَعك مِنِّي ؟ فَقَالَ : [ اللَّه ] ; فَذُعِرَتْ يَد الْأَعْرَابِيّ وَسَقَطَ السَّيْف مِنْ يَده ; وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَة حَتَّى اِنْتَثَرَ دِمَاغه ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ , وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاض فِي كِتَاب الشِّفَاء قَالَ : وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّة فِي الصَّحِيح , وَأَنَّ غَوْرَث بْن الْحَارِث صَاحِب الْقِصَّة , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْهُ ; فَرَجَعَ إِلَى قَوْمه وَقَالَ : جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْد خَيْر النَّاس , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَة عِنْد قَوْله : " إِذْ هَمَّ قَوْم أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ " [ الْمَائِدَة : 11 ] مُسْتَوْفًى , وَفِي " النِّسَاء " أَيْضًا فِي ذِكْر صَلَاة الْخَوْف , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَة قِبَل نَجْد فَأَدْرَكَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَادٍ كَثِير الْعِضَاه فَنَزَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْت شَجَرَة فَعَلَّقَ سَيْفه بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانهَا , قَالَ : وَتَفَرَّقَ النَّاس فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ , قَالَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِم فَأَخَذَ السَّيْف فَاسْتَيْقَظْت وَهُوَ قَائِم عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُر إِلَّا وَالسَّيْف صَلْتًا فِي يَده فَقَالَ لِي : مَنْ يَمْنَعك مِنِّي - قَالَ - قُلْت : اللَّهُ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَة مَنْ يَمْنَعك مِنِّي - قَالَ - قُلْت : اللَّهُ قَالَ فَشَامَ السَّيْف فَهَا هُوَ ذَا جَالِس ) ثُمَّ لَمْ يَعْرِض لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا بَعَثَنِي اللَّه بِرِسَالَتِهِ ضِقْت بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْت أَنَّ مِنْ النَّاس مَنْ يُكَذِّبنِي فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة ) وَكَانَ أَبُو طَالِب يُرْسِل كُلّ يَوْم مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِم يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَ : " وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس " فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عَمَّاهُ إِنَّ اللَّه قَدْ عَصَمَنِي مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس فَلَا أَحْتَاج إِلَى مَنْ يَحْرُسنِي ) . قُلْت : وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّة , وَأَنَّ الْآيَة مَكِّيَّة وَلَيْسَ كَذَلِكَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَة مَدَنِيَّة بِإِجْمَاعٍ ; وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَدَنِيَّة مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيح عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : سَهِرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْدَمه الْمَدِينَة لَيْلَة فَقَالَ : ( لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسنِي اللَّيْلَة ) قَالَتْ : فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَة سِلَاح ; فَقَالَ : ( مَنْ هَذَا ) ؟ قَالَ : سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا جَاءَ بِك ) ؟ فَقَالَ : وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْف عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْت أَحْرُسهُ ; فَدَعَا لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ , وَفِي غَيْر الصَّحِيح قَالَتْ : فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْت صَوْت السِّلَاح ; فَقَالَ : ( مَنْ هَذَا ) ؟ فَقَالُوا : سَعْد وَحُذَيْفَة جِئْنَا نَحْرُسك ; فَنَامَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْت غَطِيطه وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة ; فَأَخْرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسه مِنْ قُبَّة أَدَم وَقَالَ : ( اِنْصَرِفُوا أَيّهَا النَّاس فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّه ) , وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة : " رِسَالَاته " عَلَى الْجَمْع , وَأَبُو عَمْرو وَأَهْل الْكُوفَة : " رِسَالَته " عَلَى التَّوْحِيد ; قَالَ النَّحَّاس : وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ وَالْجَمْع أَبْيَنُ ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِل عَلَيْهِ الْوَحْي شَيْئًا فَشَيْئًا ثُمَّ يُبَيِّنهُ , وَالْإِفْرَاد يَدُلّ عَلَى الْكَثْرَة ; فَهِيَ كَالْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَر فِي أَكْثَرِ الْكَلَام لَا يُجْمَع وَلَا يُثَنَّى لِدَلَالَتِهِ عَلَى نَوْعه بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ : " وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَة اللَّه لَا تُحْصُوهَا " [ إِبْرَاهِيم : 34 ] .
أَيْ لَا يُرْشِدهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَقِيلَ : أَبْلِغْ أَنْتَ فَأَمَّا الْهِدَايَة فَإِلَيْنَا . نَظِيره " مَا عَلَى الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ " [ الْمَائِدَة : 99 ] وَاللَّه أَعْلَمُ .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ↓
قَالَ اِبْن عَبَّاس : جَاءَ جَمَاعَة مِنْ الْيَهُود إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : أَلَسْت تُقِرّ أَنَّ التَّوْرَاة حَقّ مِنْ عِنْد اللَّه ؟ قَالَ : ( بَلَى ) . فَقَالُوا : فَإِنَّا نُؤْمِن بِهَا وَلَا نُؤْمِن بِمَا عَدَاهَا ; فَنَزَلَتْ الْآيَة ; أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْء مِنْ الدِّين حَتَّى تَعْلَمُوا بِمَا فِي الْكِتَابَيْنِ مِنْ الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام , وَالْعَمَل بِمَا يُوجِبهُ ذَلِكَ مِنْهُمَا ; وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : وَيَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ قَبْل النَّسْخ لَهُمَا .
أَيْ يَكْفُرُونَ بِهِ فَيَزْدَادُونَ كُفْرًا عَلَى كُفْرهمْ , وَالطُّغْيَان تَجَاوُز الْحَدّ فِي الظُّلْم وَالْغُلُوّ فِيهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْم مِنْهُ صَغِيرَة وَمِنْهُ كَبِيرَة , فَمَنْ تَجَاوَزَ مَنْزِلَة الصَّغِيرَة فَقَدْ طَغَى , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَان لَيَطْغَى " [ الْعَلَق : 6 ] أَيْ يَتَجَاوَز الْحَدّ فِي الْخُرُوج عَنْ الْحَقّ .
أَيْ لَا تَحْزَن عَلَيْهِمْ . أَسِيَ يَأْسَى أَسًى إِذَا حَزِنَ . قَالَ : وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْط الْأَسَى وَهَذِهِ تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَيْسَ بِنَهْيٍ عَنْ الْحُزْن ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ تَسْلِيَة وَنَهْي عَنْ التَّعَرُّض لِلْحُزْنِ . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آخِر ( آل عِمْرَان ) مُسْتَوْفًى .
أَيْ يَكْفُرُونَ بِهِ فَيَزْدَادُونَ كُفْرًا عَلَى كُفْرهمْ , وَالطُّغْيَان تَجَاوُز الْحَدّ فِي الظُّلْم وَالْغُلُوّ فِيهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْم مِنْهُ صَغِيرَة وَمِنْهُ كَبِيرَة , فَمَنْ تَجَاوَزَ مَنْزِلَة الصَّغِيرَة فَقَدْ طَغَى , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَان لَيَطْغَى " [ الْعَلَق : 6 ] أَيْ يَتَجَاوَز الْحَدّ فِي الْخُرُوج عَنْ الْحَقّ .
أَيْ لَا تَحْزَن عَلَيْهِمْ . أَسِيَ يَأْسَى أَسًى إِذَا حَزِنَ . قَالَ : وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْط الْأَسَى وَهَذِهِ تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَيْسَ بِنَهْيٍ عَنْ الْحُزْن ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ تَسْلِيَة وَنَهْي عَنْ التَّعَرُّض لِلْحُزْنِ . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آخِر ( آل عِمْرَان ) مُسْتَوْفًى .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ↓
أَيْ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَالَ سُفْيَان : الْمُرَاد الْمُنَافِقُونَ . كَأَنَّهُ قَالَ : الَّذِينَ آمَنُوا فِي ظَاهِر أَمْرهمْ ; فَلِذَلِكَ قَرَنَهُمْ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ , ثُمَّ بَيَّنَ حُكْم مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر مِنْ جَمِيعهمْ
مَعْنَاهُ صَارُوا يَهُودَ ; نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَد يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام ; فَقَلَبَتْ الْعَرَب الذَّال دَالًا ; لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّة إِذَا عُرِّبَتْ غُيِّرَتْ عَنْ لَفْظهَا , وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَوْبَتِهِمْ عَنْ عِبَادَة الْعِجْل . هَادَ : تَابَ , وَالْهَائِد : التَّائِب ; قَالَ الشَّاعِر : إِنِّي اِمْرُؤٌ مِنْ حُبّه هَائِدُ أَيْ تَائِب , وَفِي التَّنْزِيل : " إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك " [ الْأَعْرَاف : 156 ] أَيْ تُبْنَا , وَهَادَ الْقَوْم يَهُودُونَ هَوْدًا وَهِيَادَة إِذَا تَابُوا . وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : " هُدْنَا إِلَيْك " أَيْ سَكَنَّا إِلَى أَمْرك , وَالْهَوَادَة السُّكُون وَالْمُوَادَعَة . قَالَ : وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا " , وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال : " هَادَوْا " بِفَتْحِ الدَّال . " وَاَلَّذِينَ هَادُوا " مَعْطُوف , وَكَذَا " وَالصَّابِئُونَ " مَعْطُوف عَلَى الْمُضْمَر فِي " هَادُوا " فِي قَوْل الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش . قَالَ النَّحَّاس : سَمِعْت الزَّجَّاج يَقُول : وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْل الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ : هَذَا خَطَأ مِنْ جِهَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُضْمَر الْمَرْفُوع يَقْبُح الْعَطْف عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّد . وَالْجِهَة الْأُخْرَى أَنَّ الْمَعْطُوف شَرِيك الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَيَصِير الْمَعْنَى أَنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّة وَهَذَا مُحَال , وَقَالَ الْفَرَّاء : إِنَّمَا جَازَ الرَّفْع فِي " وَالصَّابِئُونَ " لِأَنَّ " إِنَّ " ضَعِيفَة فَلَا تُؤَثِّر إِلَّا فِي الِاسْم دُون الْخَبَر ; و " الَّذِينَ " هُنَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب فَجَرَى عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَمْرَانِ , فَجَازَ رَفْع الصَّابِئِينَ رُجُوعًا إِلَى أَصْل الْكَلَام . قَالَ الزَّجَّاج : وَسَبِيل مَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَمَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَاحِد , وَقَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : الرَّفْع مَحْمُول عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ; وَالتَّقْدِير : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ نَظِيره : وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ بُغَاة مَا بَقِينَا فِي شِقَاق وَقَالَ ضَابِئ الْبُرْجُمِيّ : فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيب وَقِيلَ : " إِنَّ " بِمَعْنَى " نَعَمْ " فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِع بِالِابْتِدَاءِ , وَحُذِفَ الْخَبَر لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ , فَالْعَطْف يَكُون عَلَى هَذَا التَّقْدِير بَعْد تَمَام الْكَلَام وَانْقِضَاء الِاسْم وَالْخَبَر , وَقَالَ قَيْس الرُّقَيَّات : بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبَا حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ قَالَ الْأَخْفَش : ( إِنَّهْ ) بِمَعْنَى ( نَعَمْ ) , وَهَذِهِ ( الْهَاء ) أُدْخِلَتْ لِلسَّكْتِ .
جَمْع صَابِئ , وَقِيلَ : صَابٍ ; وَلِذَلِكَ اِكْتَفَوْا فِي هَمْزه , وَهَمَزَهُ الْجُمْهُور إِلَّا نَافِعًا . فَمَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ مِنْ صَبَأَتْ النُّجُوم إِذَا طَلَعَتْ , وَصَبَأَتْ ثَنِيَّة الْغُلَام إِذَا خَرَجَتْ , وَمَنْ لَمْ يَهْمِز جَعَلَهُ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ . فَالصَّابِئ فِي اللُّغَة : مَنْ خَرَجَ وَمَالَ مِنْ دِين إِلَى دِين ; وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَب تَقُول لِمَنْ أَسْلَمَ قَدْ صَبَأَ . فَالصَّابِئُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِين أَهْل الْكِتَاب .
لَا خِلَاف فِي أَنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَهْل كِتَاب وَلِأَجْلِ كِتَابهمْ جَازَ نِكَاح نِسَائِهِمْ وَأَكْل طَعَامهمْ وَضَرْب الْجِزْيَة عَلَيْهِمْ ; عَلَى مَا يَأْتِي فِي سُورَة " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه , وَاخْتُلِفَ فِي الصَّابِئِينَ ; فَقَالَ السُّدِّيّ : هُمْ فِرْقَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَهُ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَقَالَ إِسْحَاق : لَا بَأْس بِذَبَائِح الصَّابِئِينَ لِأَنَّهُمْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا بَأْس بِذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَة نِسَائِهِمْ , وَقَالَ الْخَلِيل : هُمْ قَوْم يُشْبِه دِينهمْ دِين النَّصَارَى , إِلَّا أَنَّ قِبْلَتهمْ نَحْو مَهَبّ الْجَنُوب ; يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِين نُوح عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن أَبِي نَجِيح : هُمْ قَوْم تَرَكَّبَ دِينهمْ بَيْن الْيَهُودِيَّة وَالْمَجُوسِيَّة , لَا تُؤْكَل ذَبَائِحهمْ . اِبْن عَبَّاس : وَلَا تُنْكَح نِسَاؤُهُمْ , وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا وَقَتَادَة هُمْ قَوْم يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَة وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَة وَيَقْرَءُونَ الزَّبُور وَيُصَلُّونَ الْخَمْس ; رَآهُمْ زِيَاد بْن أَبِي سُفْيَان فَأَرَادَ وَضْع الْجِزْيَة عَنْهُمْ حِين عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَة , وَاَلَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ مَذْهَبهمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْض عُلَمَائِنَا أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ مُعْتَقِدُونَ تَأْثِير النُّجُوم وَأَنَّهَا فَعَّالَة ; وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيد الْإِصْطَخْرِيّ الْقَادِر بِاَللَّهِ بِكُفْرِهِمْ حِين سَأَلَ عَنْهُمْ . " وَاَلَّذِينَ هَادُوا " مَعْطُوف , وَكَذَا " وَالصَّابِئُونَ " مَعْطُوف عَلَى الْمُضْمَر فِي " هَادُوا " فِي قَوْل الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش . قَالَ النَّحَّاس : سَمِعْت الزَّجَّاج يَقُول : وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْل الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ : هَذَا خَطَأ مِنْ جِهَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُضْمَر الْمَرْفُوع يَقْبُح الْعَطْف عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّد . وَالْجِهَة الْأُخْرَى أَنَّ الْمَعْطُوف شَرِيك الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَيَصِير الْمَعْنَى أَنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّة وَهَذَا مُحَال , وَقَالَ الْفَرَّاء : إِنَّمَا جَازَ الرَّفْع فِي " وَالصَّابِئُونَ " لِأَنَّ " إِنَّ " ضَعِيفَة فَلَا تُؤَثِّر إِلَّا فِي الِاسْم دُون الْخَبَر ; و " الَّذِينَ " هُنَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب فَجَرَى عَلَى جِهَة وَاحِدَة الْأَمْرَانِ , فَجَازَ رَفْع الصَّابِئِينَ رُجُوعًا إِلَى أَصْل الْكَلَام . قَالَ الزَّجَّاج : وَسَبِيل مَا يُتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَمَا لَا يُتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَاحِد , وَقَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : الرَّفْع مَحْمُول عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ; وَالتَّقْدِير : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ نَظِيره : وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ بُغَاة مَا بَقِينَا فِي شِقَاق وَقَالَ ضَابِئ الْبُرْجُمِيّ : فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله فَإِنِّي وَقَيَّار بِهَا لَغَرِيب وَقِيلَ : " إِنَّ " بِمَعْنَى " نَعَمْ " فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِع بِالِابْتِدَاءِ , وَحُذِفَ الْخَبَر لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ , فَالْعَطْف يَكُون عَلَى هَذَا التَّقْدِير بَعْد تَمَام الْكَلَام وَانْقِضَاء الِاسْم وَالْخَبَر , وَقَالَ قَيْس الرُّقَيَّات : بَكَرَ الْعَوَاذِل فِي الصَّبَا حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ وَيَقُلْنَ شَيْب قَدْ عَلَا كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ قَالَ الْأَخْفَش : ( إِنَّهْ ) بِمَعْنَى ( نَعَمْ ) , وَهَذِهِ ( الْهَاء ) أُدْخِلَتْ لِلسَّكْتِ .
جَمْع وَاحِده نَصْرَانِيّ , وَقِيلَ : نَصْرَان بِإِسْقَاطِ الْيَاء ; وَهَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ , وَالْأُنْثَى نَصْرَانَة ; كَنَدْمَان وَنَدْمَانَة , وَهُوَ نَكِرَة يُعَرَّف بِالْأَلِفِ وَاللَّام ; قَالَ الشَّاعِر : صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لَا يَحِلّ لَهُ سَاقِي نَصَارَى قُبَيْل الْفِصْح صَوَّام فَوَصَفَهُ بِالنَّكِرَةِ , وَقَالَ الْخَلِيل : وَاحِد النَّصَارَى نَصْرِيّ ; كَمَهْرِيّ وَمَهَارَى , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ شَاهِدًا عَلَى قَوْلِهِ : تَرَاهُ إِذَا دَارَ الْعِشَا مُتَحَنِّفًا وَيَضْحَى لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرَان شَامِس وَأَنْشَدَ : فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَة لَمْ تَحَنَّفِ يُقَال : أَسْجَدَ إِذَا مَالَ , وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَل نَصْرَان وَنَصْرَانَة إِلَّا بِيَاءَيْ النَّسَب ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا : رَجُل نَصْرَانِيّ وَامْرَأَة نَصْرَانِيَّة . وَنَصَّرَهُ : جَعَلَهُ نَصْرَانِيًّا , وَفِي الْحَدِيث : [ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ] , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : [ لَا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِن بِاَلَّذِي أُرْسِلْت بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّار ] , وَقَدْ جَاءَتْ جُمُوع عَلَى غَيْر مَا يُسْتَعْمَل وَاحِدهَا ; وَقِيَاسه النَّصْرَانِيُّونَ . ثُمَّ قِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَرْيَةٍ تُسَمَّى " نَاصِرَة " كَانَ يَنْزِلهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَنُسِبَ إِلَيْهَا فَقِيلَ : عِيسَى النَّاصِرِيّ ; فَلَمَّا نُسِبَ أَصْحَابه إِلَيْهِ قِيلَ النَّصَارَى ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَنَصْرَان قَرْيَة بِالشَّامِ يُنْسَب إِلَيْهَا النَّصَارَى ; وَيُقَال نَاصِرَة , وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِنُصْرَةِ بَعْضهمْ بَعْضًا ; قَالَ الشَّاعِر : لَمَّا رَأَيْت نَبَطًا أَنْصَارَا شَمَّرْت عَنْ رُكْبَتِي الْإِزَارَا كُنْت لَهُمْ مِنْ النَّصَارَى جَارَا وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى " مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه " [ آل عِمْرَان : 52 ] .
أَيْ صَدَّقَ . و " مَنْ " فِي قَوْله : " مَنْ آمَنَ " فِي مَوْضِع نَصْب بَدَل مِنْ " الَّذِينَ " , وَفِي الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر اِنْدِرَاج الْإِيمَان بِالرُّسُلِ وَالْكُتُب وَالْبَعْث .
الْخَوْف هُوَ الذُّعْر وَلَا يَكُون إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَل وَخَوَّفَنِي فُلَان فَخِفْته أَيْ كُنْت أَشَدّ خَوْفًا مِنْهُ وَالتَّخَوُّف التَّنَقُّص وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى " أَوْ يَأْخُذهُمْ عَلَى تَخَوُّف " [ النَّحْل : 47 ] وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ وَالْحَسَن وَعِيسَى بْن عُمَر وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب " فَلَا خَوْفَ " بِفَتْحِ الْفَاء عَلَى التَّبْرِئَة وَالِاخْتِيَار عِنْد النَّحْوِيِّينَ الرَّفْع وَالتَّنْوِين عَلَى الِابْتِدَاء لِأَنَّ الثَّانِيَ مَعْرِفَة لَا يَكُون فِيهِ إِلَّا الرَّفْع لِأَنَّ " لَا " لَا تَعْمَل فِي مَعْرِفَة فَاخْتَارُوا فِي الْأَوَّل الرَّفْع أَيْضًا لِيَكُونَ الْكَلَام مِنْ وَجْه وَاحِد وَيَجُوز أَنْ تَكُون " لَا " فِي قَوْله فَلَا خَوْف بِمَعْنَى لَيْسَ . وَالْحُزْن وَالْحَزَن ضِدّ السُّرُور وَلَا يَكُون إِلَّا عَلَى مَاضٍ وَحَزِنَ الرَّجُل ( بِالْكَسْرِ ) فَهُوَ حَزِن وَحَزِين وَأَحْزَنَهُ غَيْره وَحَزَنَهُ أَيْضًا مِثْل أَسْلَكَهُ وَسَلَكَهُ وَمَحْزُون بُنِىَ عَلَيْهِ قَالَ الْيَزِيدِيّ حَزَنَهُ لُغَة قُرَيْش وَأَحْزَنَهُ لُغَة تَمِيم وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا وَاحْتَزَنَ وَتَحَزَّنَ بِمَعْنًى وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْن أَيْدِيهمْ مِنْ الْآخِرَة وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ الدُّنْيَا وَقِيلَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى نَفْي أَهْوَال يَوْم الْقِيَامَة وَخَوْفهَا عَلَى الْمُطِيعِينَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله مِنْ شَدَائِد الْقِيَامَة إِلَّا أَنَّهُ يُخَفِّفهُ عَنْ الْمُطِيعِينَ وَإِذَا صَارُوا إِلَى رَحْمَته فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا وَاللَّه أَعْلَمُ .
رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ قَوْله : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا " [ الْحَجّ : 17 ] الْآيَة . مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ " [ آل عِمْرَان : 85 ] الْآيَة , وَقَالَ غَيْره : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ . وَهَى فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام .
مَعْنَاهُ صَارُوا يَهُودَ ; نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَد يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام ; فَقَلَبَتْ الْعَرَب الذَّال دَالًا ; لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّة إِذَا عُرِّبَتْ غُيِّرَتْ عَنْ لَفْظهَا , وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَوْبَتِهِمْ عَنْ عِبَادَة الْعِجْل . هَادَ : تَابَ , وَالْهَائِد : التَّائِب ; قَالَ الشَّاعِر : إِنِّي اِمْرُؤٌ مِنْ حُبّه هَائِدُ أَيْ تَائِب , وَفِي التَّنْزِيل : " إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك " [ الْأَعْرَاف : 156 ] أَيْ تُبْنَا , وَهَادَ الْقَوْم يَهُودُونَ هَوْدًا وَهِيَادَة إِذَا تَابُوا . وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : " هُدْنَا إِلَيْك " أَيْ سَكَنَّا إِلَى أَمْرك , وَالْهَوَادَة السُّكُون وَالْمُوَادَعَة . قَالَ : وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا " , وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال : " هَادَوْا " بِفَتْحِ الدَّال . " وَاَلَّذِينَ هَادُوا " مَعْطُوف , وَكَذَا " وَالصَّابِئُونَ " مَعْطُوف عَلَى الْمُضْمَر فِي " هَادُوا " فِي قَوْل الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش . قَالَ النَّحَّاس : سَمِعْت الزَّجَّاج يَقُول : وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْل الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ : هَذَا خَطَأ مِنْ جِهَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُضْمَر الْمَرْفُوع يَقْبُح الْعَطْف عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّد . وَالْجِهَة الْأُخْرَى أَنَّ الْمَعْطُوف شَرِيك الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَيَصِير الْمَعْنَى أَنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّة وَهَذَا مُحَال , وَقَالَ الْفَرَّاء : إِنَّمَا جَازَ الرَّفْع فِي " وَالصَّابِئُونَ " لِأَنَّ " إِنَّ " ضَعِيفَة فَلَا تُؤَثِّر إِلَّا فِي الِاسْم دُون الْخَبَر ; و " الَّذِينَ " هُنَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب فَجَرَى عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَمْرَانِ , فَجَازَ رَفْع الصَّابِئِينَ رُجُوعًا إِلَى أَصْل الْكَلَام . قَالَ الزَّجَّاج : وَسَبِيل مَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَمَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَاحِد , وَقَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : الرَّفْع مَحْمُول عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ; وَالتَّقْدِير : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ نَظِيره : وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ بُغَاة مَا بَقِينَا فِي شِقَاق وَقَالَ ضَابِئ الْبُرْجُمِيّ : فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيب وَقِيلَ : " إِنَّ " بِمَعْنَى " نَعَمْ " فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِع بِالِابْتِدَاءِ , وَحُذِفَ الْخَبَر لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ , فَالْعَطْف يَكُون عَلَى هَذَا التَّقْدِير بَعْد تَمَام الْكَلَام وَانْقِضَاء الِاسْم وَالْخَبَر , وَقَالَ قَيْس الرُّقَيَّات : بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبَا حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ قَالَ الْأَخْفَش : ( إِنَّهْ ) بِمَعْنَى ( نَعَمْ ) , وَهَذِهِ ( الْهَاء ) أُدْخِلَتْ لِلسَّكْتِ .
جَمْع صَابِئ , وَقِيلَ : صَابٍ ; وَلِذَلِكَ اِكْتَفَوْا فِي هَمْزه , وَهَمَزَهُ الْجُمْهُور إِلَّا نَافِعًا . فَمَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ مِنْ صَبَأَتْ النُّجُوم إِذَا طَلَعَتْ , وَصَبَأَتْ ثَنِيَّة الْغُلَام إِذَا خَرَجَتْ , وَمَنْ لَمْ يَهْمِز جَعَلَهُ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ . فَالصَّابِئ فِي اللُّغَة : مَنْ خَرَجَ وَمَالَ مِنْ دِين إِلَى دِين ; وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَب تَقُول لِمَنْ أَسْلَمَ قَدْ صَبَأَ . فَالصَّابِئُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِين أَهْل الْكِتَاب .
لَا خِلَاف فِي أَنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَهْل كِتَاب وَلِأَجْلِ كِتَابهمْ جَازَ نِكَاح نِسَائِهِمْ وَأَكْل طَعَامهمْ وَضَرْب الْجِزْيَة عَلَيْهِمْ ; عَلَى مَا يَأْتِي فِي سُورَة " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه , وَاخْتُلِفَ فِي الصَّابِئِينَ ; فَقَالَ السُّدِّيّ : هُمْ فِرْقَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَهُ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَقَالَ إِسْحَاق : لَا بَأْس بِذَبَائِح الصَّابِئِينَ لِأَنَّهُمْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا بَأْس بِذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَة نِسَائِهِمْ , وَقَالَ الْخَلِيل : هُمْ قَوْم يُشْبِه دِينهمْ دِين النَّصَارَى , إِلَّا أَنَّ قِبْلَتهمْ نَحْو مَهَبّ الْجَنُوب ; يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِين نُوح عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن أَبِي نَجِيح : هُمْ قَوْم تَرَكَّبَ دِينهمْ بَيْن الْيَهُودِيَّة وَالْمَجُوسِيَّة , لَا تُؤْكَل ذَبَائِحهمْ . اِبْن عَبَّاس : وَلَا تُنْكَح نِسَاؤُهُمْ , وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا وَقَتَادَة هُمْ قَوْم يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَة وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَة وَيَقْرَءُونَ الزَّبُور وَيُصَلُّونَ الْخَمْس ; رَآهُمْ زِيَاد بْن أَبِي سُفْيَان فَأَرَادَ وَضْع الْجِزْيَة عَنْهُمْ حِين عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَة , وَاَلَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ مَذْهَبهمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْض عُلَمَائِنَا أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ مُعْتَقِدُونَ تَأْثِير النُّجُوم وَأَنَّهَا فَعَّالَة ; وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيد الْإِصْطَخْرِيّ الْقَادِر بِاَللَّهِ بِكُفْرِهِمْ حِين سَأَلَ عَنْهُمْ . " وَاَلَّذِينَ هَادُوا " مَعْطُوف , وَكَذَا " وَالصَّابِئُونَ " مَعْطُوف عَلَى الْمُضْمَر فِي " هَادُوا " فِي قَوْل الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش . قَالَ النَّحَّاس : سَمِعْت الزَّجَّاج يَقُول : وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْل الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ : هَذَا خَطَأ مِنْ جِهَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُضْمَر الْمَرْفُوع يَقْبُح الْعَطْف عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّد . وَالْجِهَة الْأُخْرَى أَنَّ الْمَعْطُوف شَرِيك الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَيَصِير الْمَعْنَى أَنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّة وَهَذَا مُحَال , وَقَالَ الْفَرَّاء : إِنَّمَا جَازَ الرَّفْع فِي " وَالصَّابِئُونَ " لِأَنَّ " إِنَّ " ضَعِيفَة فَلَا تُؤَثِّر إِلَّا فِي الِاسْم دُون الْخَبَر ; و " الَّذِينَ " هُنَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب فَجَرَى عَلَى جِهَة وَاحِدَة الْأَمْرَانِ , فَجَازَ رَفْع الصَّابِئِينَ رُجُوعًا إِلَى أَصْل الْكَلَام . قَالَ الزَّجَّاج : وَسَبِيل مَا يُتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَمَا لَا يُتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَاحِد , وَقَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : الرَّفْع مَحْمُول عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ; وَالتَّقْدِير : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ نَظِيره : وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ بُغَاة مَا بَقِينَا فِي شِقَاق وَقَالَ ضَابِئ الْبُرْجُمِيّ : فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله فَإِنِّي وَقَيَّار بِهَا لَغَرِيب وَقِيلَ : " إِنَّ " بِمَعْنَى " نَعَمْ " فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِع بِالِابْتِدَاءِ , وَحُذِفَ الْخَبَر لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ , فَالْعَطْف يَكُون عَلَى هَذَا التَّقْدِير بَعْد تَمَام الْكَلَام وَانْقِضَاء الِاسْم وَالْخَبَر , وَقَالَ قَيْس الرُّقَيَّات : بَكَرَ الْعَوَاذِل فِي الصَّبَا حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ وَيَقُلْنَ شَيْب قَدْ عَلَا كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ قَالَ الْأَخْفَش : ( إِنَّهْ ) بِمَعْنَى ( نَعَمْ ) , وَهَذِهِ ( الْهَاء ) أُدْخِلَتْ لِلسَّكْتِ .
جَمْع وَاحِده نَصْرَانِيّ , وَقِيلَ : نَصْرَان بِإِسْقَاطِ الْيَاء ; وَهَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ , وَالْأُنْثَى نَصْرَانَة ; كَنَدْمَان وَنَدْمَانَة , وَهُوَ نَكِرَة يُعَرَّف بِالْأَلِفِ وَاللَّام ; قَالَ الشَّاعِر : صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لَا يَحِلّ لَهُ سَاقِي نَصَارَى قُبَيْل الْفِصْح صَوَّام فَوَصَفَهُ بِالنَّكِرَةِ , وَقَالَ الْخَلِيل : وَاحِد النَّصَارَى نَصْرِيّ ; كَمَهْرِيّ وَمَهَارَى , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ شَاهِدًا عَلَى قَوْلِهِ : تَرَاهُ إِذَا دَارَ الْعِشَا مُتَحَنِّفًا وَيَضْحَى لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرَان شَامِس وَأَنْشَدَ : فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَة لَمْ تَحَنَّفِ يُقَال : أَسْجَدَ إِذَا مَالَ , وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَل نَصْرَان وَنَصْرَانَة إِلَّا بِيَاءَيْ النَّسَب ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا : رَجُل نَصْرَانِيّ وَامْرَأَة نَصْرَانِيَّة . وَنَصَّرَهُ : جَعَلَهُ نَصْرَانِيًّا , وَفِي الْحَدِيث : [ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ] , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : [ لَا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِن بِاَلَّذِي أُرْسِلْت بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّار ] , وَقَدْ جَاءَتْ جُمُوع عَلَى غَيْر مَا يُسْتَعْمَل وَاحِدهَا ; وَقِيَاسه النَّصْرَانِيُّونَ . ثُمَّ قِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَرْيَةٍ تُسَمَّى " نَاصِرَة " كَانَ يَنْزِلهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَنُسِبَ إِلَيْهَا فَقِيلَ : عِيسَى النَّاصِرِيّ ; فَلَمَّا نُسِبَ أَصْحَابه إِلَيْهِ قِيلَ النَّصَارَى ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَنَصْرَان قَرْيَة بِالشَّامِ يُنْسَب إِلَيْهَا النَّصَارَى ; وَيُقَال نَاصِرَة , وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِنُصْرَةِ بَعْضهمْ بَعْضًا ; قَالَ الشَّاعِر : لَمَّا رَأَيْت نَبَطًا أَنْصَارَا شَمَّرْت عَنْ رُكْبَتِي الْإِزَارَا كُنْت لَهُمْ مِنْ النَّصَارَى جَارَا وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى " مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه " [ آل عِمْرَان : 52 ] .
أَيْ صَدَّقَ . و " مَنْ " فِي قَوْله : " مَنْ آمَنَ " فِي مَوْضِع نَصْب بَدَل مِنْ " الَّذِينَ " , وَفِي الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر اِنْدِرَاج الْإِيمَان بِالرُّسُلِ وَالْكُتُب وَالْبَعْث .
الْخَوْف هُوَ الذُّعْر وَلَا يَكُون إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَل وَخَوَّفَنِي فُلَان فَخِفْته أَيْ كُنْت أَشَدّ خَوْفًا مِنْهُ وَالتَّخَوُّف التَّنَقُّص وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى " أَوْ يَأْخُذهُمْ عَلَى تَخَوُّف " [ النَّحْل : 47 ] وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ وَالْحَسَن وَعِيسَى بْن عُمَر وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب " فَلَا خَوْفَ " بِفَتْحِ الْفَاء عَلَى التَّبْرِئَة وَالِاخْتِيَار عِنْد النَّحْوِيِّينَ الرَّفْع وَالتَّنْوِين عَلَى الِابْتِدَاء لِأَنَّ الثَّانِيَ مَعْرِفَة لَا يَكُون فِيهِ إِلَّا الرَّفْع لِأَنَّ " لَا " لَا تَعْمَل فِي مَعْرِفَة فَاخْتَارُوا فِي الْأَوَّل الرَّفْع أَيْضًا لِيَكُونَ الْكَلَام مِنْ وَجْه وَاحِد وَيَجُوز أَنْ تَكُون " لَا " فِي قَوْله فَلَا خَوْف بِمَعْنَى لَيْسَ . وَالْحُزْن وَالْحَزَن ضِدّ السُّرُور وَلَا يَكُون إِلَّا عَلَى مَاضٍ وَحَزِنَ الرَّجُل ( بِالْكَسْرِ ) فَهُوَ حَزِن وَحَزِين وَأَحْزَنَهُ غَيْره وَحَزَنَهُ أَيْضًا مِثْل أَسْلَكَهُ وَسَلَكَهُ وَمَحْزُون بُنِىَ عَلَيْهِ قَالَ الْيَزِيدِيّ حَزَنَهُ لُغَة قُرَيْش وَأَحْزَنَهُ لُغَة تَمِيم وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا وَاحْتَزَنَ وَتَحَزَّنَ بِمَعْنًى وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْن أَيْدِيهمْ مِنْ الْآخِرَة وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ الدُّنْيَا وَقِيلَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى نَفْي أَهْوَال يَوْم الْقِيَامَة وَخَوْفهَا عَلَى الْمُطِيعِينَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله مِنْ شَدَائِد الْقِيَامَة إِلَّا أَنَّهُ يُخَفِّفهُ عَنْ الْمُطِيعِينَ وَإِذَا صَارُوا إِلَى رَحْمَته فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا وَاللَّه أَعْلَمُ .
رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ قَوْله : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا " [ الْحَجّ : 17 ] الْآيَة . مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ " [ آل عِمْرَان : 85 ] الْآيَة , وَقَالَ غَيْره : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ . وَهَى فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام .
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ↓
قَدْ تَقَدَّمَ فِي ( الْبَقَرَة ) مَعْنَى الْمِيثَاق وَهُوَ أَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه , وَمَا يَتَّصِل بِهِ , وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَة لَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ فَإِنَّا قَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ , وَأَرْسَلْنَا الرُّسُل فَنَقَضُوا الْعُهُود , وَكُلّ هَذَا يَرْجِع إِلَى مَا اُفْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَة وَهُوَ قَوْله : " أَوْفُوا بِالْعُقُودِ " [ الْمَائِدَة : 1 ] .
أَيْ الْيَهُود
لَا يُوَافِق هَوَاهُمْ
أَيْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا ; فَمَنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمَنْ مِثْله مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَقَتَلُوا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَإِنَّمَا قَالَ : " يَقْتُلُونَ " لِمُرَاعَاةِ رَأْس الْآيَة , وَقِيلَ : أَرَادَ فَرِيقًا كَذَّبُوا , وَفَرِيقًا قَتَلُوا , وَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ , فَهَذَا دَأْبهمْ وَعَادَتهمْ فَاخْتَصَرَ , وَقِيلَ : فَرِيقًا كَذَّبُوا لَمْ يَقْتُلُوهُمْ , وَفَرِيقًا قَتَلُوهُمْ فَكَذَّبُوا . و " يَقْتُلُونَ " نَعْت لِفَرِيقٍ , وَاَللَّه أَعْلَمُ .
أَيْ الْيَهُود
لَا يُوَافِق هَوَاهُمْ
أَيْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا ; فَمَنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمَنْ مِثْله مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَقَتَلُوا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَإِنَّمَا قَالَ : " يَقْتُلُونَ " لِمُرَاعَاةِ رَأْس الْآيَة , وَقِيلَ : أَرَادَ فَرِيقًا كَذَّبُوا , وَفَرِيقًا قَتَلُوا , وَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ , فَهَذَا دَأْبهمْ وَعَادَتهمْ فَاخْتَصَرَ , وَقِيلَ : فَرِيقًا كَذَّبُوا لَمْ يَقْتُلُوهُمْ , وَفَرِيقًا قَتَلُوهُمْ فَكَذَّبُوا . و " يَقْتُلُونَ " نَعْت لِفَرِيقٍ , وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ↓
الْمَعْنَى ; ظَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاق أَنَّهُ لَا يَقَع مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اِبْتِلَاء وَاخْتِبَار بِالشَّدَائِدِ , اِغْتِرَارًا بِقَوْلِهِمْ : نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ , وَإِنَّمَا اِغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَال , وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تَكُون " بِالرَّفْعِ ; وَنَصَبَ الْبَاقُونَ ; فَالرَّفْع عَلَى أَنَّ حَسِبَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَتَيَقَّنَ . و " أَنْ " مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة وَدُخُول " لَا " عِوَض مِنْ التَّخْفِيف , وَحُذِفَ الضَّمِير لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَلِيَهَا الْفِعْل وَلَيْسَ مِنْ حُكْمهَا أَنْ تَدْخُل عَلَيْهِ ; فَفَصَلُوا بَيْنهمَا ( بِلَا ) , وَمَنْ نَصَبَ جَعَلَ " أَنَّ " نَاصِبَة لِلْفِعْلِ , وَبَقِيَ حَسِبَ عَلَى بَابه مِنْ الشَّكّ وَغَيْره . قَالَ سِيبَوَيْهِ : حَسِبْت أَلَّا يَقُول ذَلِكَ ; أَيْ حَسِبْت أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ , وَإِنْ شِئْت نَصَبْت ; قَالَ النَّحَّاس : وَالرَّفْع عِنْد النَّحْوِيِّينَ فِي حَسِبَ وَأَخَوَاتهَا أَجْوَد كَمَا قَالَ : أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي كَبِرْتُ وَأَلَّا يَشْهَدُ اللَّهْوَ أَمْثَالِي وَإِنَّمَا صَارَ الرَّفْع أَجْوَدَ ; لِأَنَّ حَسِبَ وَأَخَوَاتهَا بِمَنْزِلَةِ الْعِلْم لِأَنَّهُ شَيْء ثَابِت .
أَيْ عَنْ الْهُدَى .
أَيْ عَنْ سَمَاع الْحَقّ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا رَأَوْهُ وَلَا سَمِعُوهُ .
فِي الْكَلَام إِضْمَار , أَيْ أُوقِعَتْ بِهِمْ الْفِتْنَة فَتَابُوا فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِكَشْفِ الْقَحْط , أَوْ بِإِرْسَالِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرهُمْ بِأَنَّ اللَّه يَتُوب عَلَيْهِمْ إِنْ آمَنُوا , فَهَذَا بَيَان " تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ " أَيْ يَتُوب عَلَيْهِمْ إِنْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا لَا أَنَّهُمْ تَابُوا عَلَى الْحَقِيقَة .
أَيْ عَمِيَ كَثِير مِنْهُمْ وَصَمَّ بَعْد تَبَيُّن الْحَقّ لَهُمْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ; فَارْتَفَعَ " كَثِير " عَلَى الْبَدَل مِنْ الْوَاو , وَقَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : كَمَا تَقُول رَأَيْت قَوْمك ثُلُثَيْهِمْ , وَإِنْ شِئْت كَانَ عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإٍ أَيْ الْعُمْي وَالصُّمّ كَثِير مِنْهُمْ . وَإِنْ شِئْت كَانَ التَّقْدِير الْعُمْي وَالصُّمّ مِنْهُمْ كَثِير , وَجَوَاب رَابِع أَنْ يَكُون عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ : ( أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث ) وَعَلَيْهِ قَوْل الشَّاعِر : وَلَكِنْ دِيَافِيٌّ أَبُوهُ وَأُمّه بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيط أَقَارِبه وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله : " وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا " [ الْأَنْبِيَاء : 3 ] , وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن ( كَثِيرًا ) بِالنَّصْبِ يَكُون نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف .
قَالَ الْعُلَمَاء : وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَالِم بِخَفِيَّاتِ الْأُمُور , وَالْبَصِير فِي كَلَام الْعَرَب : الْعَالِم بِالشَّيْءِ الْخَبِير بِهِ ; وَمِنْهُ قَوْلهمْ : فُلَان بَصِير بِالطِّبِّ , وَبَصِير بِالْفِقْهِ , وَبَصِير بِمُلَاقَاةِ الرِّجَال ; قَالَ : فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي بَصِير بِأَدْوَاءِ النِّسَاء طَبِيب قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْبَصِير الْعَالِم , وَالْبَصِير الْمُبْصِر , وَقِيلَ : وَصَفَ تَعَالَى نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى جَاعِل الْأَشْيَاء الْمُبْصِرَة ذَوَات إِبْصَار , أَيْ مُدْرِكَة لِلْمُبْصَرَاتِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنْ الْآلَة الْمُدْرِكَة وَالْقُوَّة ; فَاَللَّه بَصِير بِعِبَادِهِ , أَيْ جَاعِل عِبَاده مُبْصِرِينَ .
أَيْ عَنْ الْهُدَى .
أَيْ عَنْ سَمَاع الْحَقّ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا رَأَوْهُ وَلَا سَمِعُوهُ .
فِي الْكَلَام إِضْمَار , أَيْ أُوقِعَتْ بِهِمْ الْفِتْنَة فَتَابُوا فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِكَشْفِ الْقَحْط , أَوْ بِإِرْسَالِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرهُمْ بِأَنَّ اللَّه يَتُوب عَلَيْهِمْ إِنْ آمَنُوا , فَهَذَا بَيَان " تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ " أَيْ يَتُوب عَلَيْهِمْ إِنْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا لَا أَنَّهُمْ تَابُوا عَلَى الْحَقِيقَة .
أَيْ عَمِيَ كَثِير مِنْهُمْ وَصَمَّ بَعْد تَبَيُّن الْحَقّ لَهُمْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ; فَارْتَفَعَ " كَثِير " عَلَى الْبَدَل مِنْ الْوَاو , وَقَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : كَمَا تَقُول رَأَيْت قَوْمك ثُلُثَيْهِمْ , وَإِنْ شِئْت كَانَ عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإٍ أَيْ الْعُمْي وَالصُّمّ كَثِير مِنْهُمْ . وَإِنْ شِئْت كَانَ التَّقْدِير الْعُمْي وَالصُّمّ مِنْهُمْ كَثِير , وَجَوَاب رَابِع أَنْ يَكُون عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ : ( أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث ) وَعَلَيْهِ قَوْل الشَّاعِر : وَلَكِنْ دِيَافِيٌّ أَبُوهُ وَأُمّه بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيط أَقَارِبه وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله : " وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا " [ الْأَنْبِيَاء : 3 ] , وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن ( كَثِيرًا ) بِالنَّصْبِ يَكُون نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف .
قَالَ الْعُلَمَاء : وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَالِم بِخَفِيَّاتِ الْأُمُور , وَالْبَصِير فِي كَلَام الْعَرَب : الْعَالِم بِالشَّيْءِ الْخَبِير بِهِ ; وَمِنْهُ قَوْلهمْ : فُلَان بَصِير بِالطِّبِّ , وَبَصِير بِالْفِقْهِ , وَبَصِير بِمُلَاقَاةِ الرِّجَال ; قَالَ : فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي بَصِير بِأَدْوَاءِ النِّسَاء طَبِيب قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْبَصِير الْعَالِم , وَالْبَصِير الْمُبْصِر , وَقِيلَ : وَصَفَ تَعَالَى نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى جَاعِل الْأَشْيَاء الْمُبْصِرَة ذَوَات إِبْصَار , أَيْ مُدْرِكَة لِلْمُبْصَرَاتِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنْ الْآلَة الْمُدْرِكَة وَالْقُوَّة ; فَاَللَّه بَصِير بِعِبَادِهِ , أَيْ جَاعِل عِبَاده مُبْصِرِينَ .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ↓
هَذَا قَوْل الْيَعْقُوبِيَّة فَرَدَّ اللَّه ذَلِكَ بِحُجَّةٍ قَاطِعَة مِمَّا يُقِرُّونَ بِهِ ;
أَيْ إِذَا كَانَ الْمَسِيح يَقُول : يَا رَبّ وَيَا اللَّه فَكَيْفَ يَدْعُو نَفْسه أَمْ كَيْفَ يَسْأَلهَا ؟ هَذَا مُحَال
قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل عِيسَى , وَقِيلَ : اِبْتِدَاء كَلَام مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَالْإِشْرَاك أَنْ يَعْتَقِد مَعَهُ مُوجِدًا , وَقَدْ مَضَى فِي ( آل عِمْرَان ) الْقَوْل فِي اِشْتِقَاق الْمَسِيح فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ .
أَيْ إِذَا كَانَ الْمَسِيح يَقُول : يَا رَبّ وَيَا اللَّه فَكَيْفَ يَدْعُو نَفْسه أَمْ كَيْفَ يَسْأَلهَا ؟ هَذَا مُحَال
قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل عِيسَى , وَقِيلَ : اِبْتِدَاء كَلَام مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَالْإِشْرَاك أَنْ يَعْتَقِد مَعَهُ مُوجِدًا , وَقَدْ مَضَى فِي ( آل عِمْرَان ) الْقَوْل فِي اِشْتِقَاق الْمَسِيح فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ .
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ↓
أَيْ أَحَد ثَلَاثَة , وَلَا يَجُوز فِيهِ التَّنْوِين ; عَنْ الزَّجَّاج وَغَيْره , وَفِيهِ لِلْعَرَبِ مَذْهَب آخَر ; يَقُولُونَ : رَابِع ثَلَاثَة ; فَعَلَى هَذَا يَجُوز الْجَرّ وَالنَّصْب ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي صَيَّرَ الثَّلَاثَة أَرْبَعَة بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ . وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْت : ثَالِث اِثْنَيْنِ ; جَازَ التَّنْوِين , وَهَذَا قَوْل فِرَق النَّصَارَى مِنْ الْمَلْكِيَّة وَالنُّسُّطُورِيَّة وَالْيَعْقُوبِيَّة ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَب وَابْن وَرُوح الْقُدُس إِلَه وَاحِد ; وَلَا يَقُولُونَ ثَلَاثَة آلِهَة وَهُوَ مَعْنَى مَذْهَبهمْ , وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْعِبَارَة وَهِيَ لَازِمَة لَهُمْ , وَمَا كَانَ هَكَذَا صَحَّ أَنْ يُحْكَى بِالْعِبَارَةِ اللَّازِمَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ الِابْن إِلَه وَالْأَب إِلَه وَرُوح الْقُدُس إِلَه , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي هَذَا فِي ( النِّسَاء ) فَأَكْفَرَهُمْ اللَّه بِقَوْلِهِمْ هَذَا ,
أَيْ أَنَّ الْإِلَه لَا يَتَعَدَّد وَهُمْ يَلْزَمهُمْ الْقَوْل بِثَلَاثَةِ آلِهَة كَمَا تَقَدَّمَ , وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ لَفْظًا ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " مَعْنَى الْوَاحِد . و ( مِنْ ) زَائِدَة . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن ( إِلَهًا وَاحِدًا ) عَلَى الِاسْتِثْنَاء , وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ الْخَفْض عَلَى الْبَدَل .
أَيْ يَكُفُّوا عَنْ الْقَوْل بِالتَّثْلِيثِ لَيَمَسَّنهُمْ عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
أَيْ أَنَّ الْإِلَه لَا يَتَعَدَّد وَهُمْ يَلْزَمهُمْ الْقَوْل بِثَلَاثَةِ آلِهَة كَمَا تَقَدَّمَ , وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ لَفْظًا ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " مَعْنَى الْوَاحِد . و ( مِنْ ) زَائِدَة . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن ( إِلَهًا وَاحِدًا ) عَلَى الِاسْتِثْنَاء , وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ الْخَفْض عَلَى الْبَدَل .
أَيْ يَكُفُّوا عَنْ الْقَوْل بِالتَّثْلِيثِ لَيَمَسَّنهُمْ عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
تَقْرِير وَتَوْبِيخ . أَيْ فَلْيَتُوبُوا إِلَيْهِ وَلْيَسْأَلُوهُ سَتْر ذُنُوبهمْ ; وَالْمُرَاد الْكَفَرَة مِنْهُمْ , وَإِنَّمَا خُصَّ الْكَفَرَة بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ دُون الْمُؤْمِنِينَ .
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ↓
اِبْتِدَاء وَخَبَر ; أَيْ مَا الْمَسِيح وَإِنْ ظَهَرَتْ الْآيَات عَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِهَا كَمَا جَاءَتْ بِهَا الرُّسُل ; فَإِنْ كَانَ إِلَهًا فَلْيَكُنْ كُلّ رَسُول إِلَهًا ; فَهَذَا رَدّ لِقَوْلِهِمْ وَاحْتِجَاج عَلَيْهِمْ ,
ثُمَّ بَالَغَ فِي الْحُجَّة فَقَالَ : " وَأُمّه صِدِّيقَة " اِبْتِدَاء وَخَبَر " كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام " أَيْ أَنَّهُ مَوْلُود مَرْبُوب , وَمَنْ وَلَدَتْهُ النِّسَاء وَكَانَ يَأْكُل الطَّعَام مَخْلُوق مُحْدَث كَسَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ ; وَلَمْ يَدْفَع هَذَا أَحَد مِنْهُمْ , فَمَتَى يَصْلُح الْمَرْبُوب لِأَنْ يَكُون رَبًّا ؟ ! وَقَوْلهمْ : كَانَ يَأْكُل بِنَاسُوتِهِ لَا بِلَاهُوتِهِ فَهَذَا مِنْهُمْ مَصِير إِلَى الِاخْتِلَاط , وَلَا يُتَصَوَّر اِخْتِلَاط إِلَه بِغَيْرِ إِلَه , وَلَوْ جَازَ اِخْتِلَاط الْقَدِيم بِالْمُحْدَثِ لَجَازَ أَنْ يَصِير الْقَدِيم مُحْدَثًا , وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقّ عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقّ غَيْره حَتَّى يُقَال : اللَّاهُوت مُخَالِط لِكُلِّ مُحْدَث , وَقَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله : " كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام " إِنَّهُ كِنَايَة عَنْ الْغَائِط وَالْبَوْل , وَفِي هَذَا دَلَالَة عَلَى أَنَّهُمَا بَشَرَانِ , وَقَدْ اِسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إِنَّ مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام لَمْ تَكُنْ نَبِيَّة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأُمّه صِدِّيقَة " . قُلْت : وَفِيهِ نَظَر , فَإِنَّهُ يَجُوز أَنْ تَكُون صِدِّيقَة مَعَ كَوْنهَا نَبِيَّة كَإِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام ; وَقَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " مَا يَدُلّ عَلَى هَذَا . وَاللَّه أَعْلَمُ . وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا صِدِّيقَة لِكَثْرَةِ تَصْدِيقهَا بِآيَاتِ رَبّهَا وَتَصْدِيقهَا وَلَدهَا فِيمَا أَخْبَرَهَا بِهِ ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . وَاللَّه أَعْلَمُ .
أَيْ الدَّلَالَات .
أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ الْحَقّ بَعْد هَذَا الْبَيَان ; يُقَال : أَفَكَهُ يَأْفِكهُ إِذَا صَرَفَهُ , وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَالْمُعْتَزِلَة .
ثُمَّ بَالَغَ فِي الْحُجَّة فَقَالَ : " وَأُمّه صِدِّيقَة " اِبْتِدَاء وَخَبَر " كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام " أَيْ أَنَّهُ مَوْلُود مَرْبُوب , وَمَنْ وَلَدَتْهُ النِّسَاء وَكَانَ يَأْكُل الطَّعَام مَخْلُوق مُحْدَث كَسَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ ; وَلَمْ يَدْفَع هَذَا أَحَد مِنْهُمْ , فَمَتَى يَصْلُح الْمَرْبُوب لِأَنْ يَكُون رَبًّا ؟ ! وَقَوْلهمْ : كَانَ يَأْكُل بِنَاسُوتِهِ لَا بِلَاهُوتِهِ فَهَذَا مِنْهُمْ مَصِير إِلَى الِاخْتِلَاط , وَلَا يُتَصَوَّر اِخْتِلَاط إِلَه بِغَيْرِ إِلَه , وَلَوْ جَازَ اِخْتِلَاط الْقَدِيم بِالْمُحْدَثِ لَجَازَ أَنْ يَصِير الْقَدِيم مُحْدَثًا , وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقّ عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقّ غَيْره حَتَّى يُقَال : اللَّاهُوت مُخَالِط لِكُلِّ مُحْدَث , وَقَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله : " كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام " إِنَّهُ كِنَايَة عَنْ الْغَائِط وَالْبَوْل , وَفِي هَذَا دَلَالَة عَلَى أَنَّهُمَا بَشَرَانِ , وَقَدْ اِسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إِنَّ مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام لَمْ تَكُنْ نَبِيَّة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأُمّه صِدِّيقَة " . قُلْت : وَفِيهِ نَظَر , فَإِنَّهُ يَجُوز أَنْ تَكُون صِدِّيقَة مَعَ كَوْنهَا نَبِيَّة كَإِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام ; وَقَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " مَا يَدُلّ عَلَى هَذَا . وَاللَّه أَعْلَمُ . وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا صِدِّيقَة لِكَثْرَةِ تَصْدِيقهَا بِآيَاتِ رَبّهَا وَتَصْدِيقهَا وَلَدهَا فِيمَا أَخْبَرَهَا بِهِ ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . وَاللَّه أَعْلَمُ .
أَيْ الدَّلَالَات .
أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ الْحَقّ بَعْد هَذَا الْبَيَان ; يُقَال : أَفَكَهُ يَأْفِكهُ إِذَا صَرَفَهُ , وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَالْمُعْتَزِلَة .
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ↓
زِيَادَة فِي الْبَيَان وَإِقَامَة حُجَّة عَلَيْهِمْ ; أَيْ أَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ جَنِينًا فِي بَطْن أُمّه , لَا يَمْلِك لِأَحَدٍ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا , وَإِذْ أَقْرَرْتُمْ أَنَّ عِيسَى كَانَ فِي حَال مِنْ الْأَحْوَال لَا يَسْمَع وَلَا يُبْصِر وَلَا يَعْلَم وَلَا يَنْفَع وَلَا يَضُرّ , فَكَيْفَ اِتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا ؟ .
أَيْ لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا عَلِيمًا يَمْلِك الضَّرّ وَالنَّفْع , وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَته فَهُوَ الْإِلَه عَلَى الْحَقِيقَة , وَاللَّه أَعْلَمُ .
أَيْ لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا عَلِيمًا يَمْلِك الضَّرّ وَالنَّفْع , وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَته فَهُوَ الْإِلَه عَلَى الْحَقِيقَة , وَاللَّه أَعْلَمُ .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ↓
أَيْ لَا تُفَرِّطُوا كَمَا أَفْرَطَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي عِيسَى ; غُلُوّ الْيَهُود قَوْلهمْ فِي عِيسَى , لَيْسَ وَلَد رِشْدَة , وَغُلُوّ النَّصَارَى قَوْلهمْ : إِنَّهُ إِلَه , وَالْغُلُوّ مُجَاوَزَة الْحَدّ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ( النِّسَاء ) بَيَانه .
الْأَهْوَاء جَمْع هَوًى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " , وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّار . " قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل " قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن : يَعْنِي الْيَهُود .
أَيْ أَضَلُّوا كَثِيرًا مِنْ النَّاس .
أَيْ عَنْ قَصْد طَرِيق مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَكْرِير ضَلُّوا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل وَضَلُّوا مِنْ بَعْد ; وَالْمُرَاد الْأَسْلَاف الَّذِينَ سَنُّوا الضَّلَالَة وَعَمِلُوا بِهَا مِنْ رُؤَسَاء الْيَهُود وَالنَّصَارَى .
الْأَهْوَاء جَمْع هَوًى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " , وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّار . " قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل " قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن : يَعْنِي الْيَهُود .
أَيْ أَضَلُّوا كَثِيرًا مِنْ النَّاس .
أَيْ عَنْ قَصْد طَرِيق مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَكْرِير ضَلُّوا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل وَضَلُّوا مِنْ بَعْد ; وَالْمُرَاد الْأَسْلَاف الَّذِينَ سَنُّوا الضَّلَالَة وَعَمِلُوا بِهَا مِنْ رُؤَسَاء الْيَهُود وَالنَّصَارَى .
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ↓
فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة : وَهِيَ جَوَاز لَعْن الْكَافِرِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء , وَأَنَّ شَرَف النَّسَب لَا يَمْنَع إِطْلَاق اللَّعْنَة فِي حَقّهمْ , وَمَعْنَى " عَلَى لِسَان دَاوُد وَعِيسَى اِبْن مَرْيَم " أَيْ لُعِنُوا فِي الزَّبُور وَالْإِنْجِيل ; فَإِنَّ الزَّبُور لِسَان دَاوُد , وَالْإِنْجِيل لِسَان عِيسَى أَيْ لَعَنَهُمْ اللَّه فِي الْكِتَابَيْنِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ اِشْتِقَاقهمَا . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : لَعَنَهُمْ مَسَخَهُمْ قِرَدَة وَخَنَازِير . قَالَ أَبُو مَالِك : الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَان دَاوُد مُسِخُوا قِرَدَة . وَاَلَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَان عِيسَى مُسِخُوا خَنَازِير , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَان دَاوُد أَصْحَاب السَّبْت , وَاَلَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَان عِيسَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْمَائِدَةِ بَعْد نُزُولهَا , وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقِيلَ : لُعِنَ الْأَسْلَاف وَالْأَخْلَاف مِمَّنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ; لِأَنَّهُمَا أَعْلَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيّ مَبْعُوث فَلَعَنَا مَنْ يَكْفُر بِهِ .
ذَلِكَ فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ أَيْ ذَلِكَ اللَّعْن بِمَا عَصَوْا ; أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإ ; أَيْ الْأَمْر ذَلِكَ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ لِعِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ .
ذَلِكَ فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ أَيْ ذَلِكَ اللَّعْن بِمَا عَصَوْا ; أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإ ; أَيْ الْأَمْر ذَلِكَ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ لِعِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ .
" كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ " أَيْ لَا يَنْهَى بَعْضهمْ بَعْضًا : " لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " ذَمّ لِتَرْكِهِمْ النَّهْي , وَكَذَا مَنْ بَعْدهمْ يُذَمّ مَنْ فَعَلَ فِعْلهمْ . خَرَّجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَوَّل مَا دَخَلَ النَّقْص عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل كَانَ الرَّجُل أَوَّل مَا يَلْقَى الرَّجُل فَيَقُول يَا هَذَا اِتَّقِ اللَّه وَدَعْ مَا تَصْنَع فَإِنَّهُ لَا يَحِلّ لَك ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَد فَلَا يَمْنَعهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُون أَكِيلهُ وَشَرِيبه وَقَعِيده فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّه قُلُوب بَعْضهمْ بِبَعْضٍ ) ثُمَّ قَالَ : " لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل عَلَى لِسَان دَاوُد وَعِيسَى اِبْن مَرْيَم ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " إِلَى قَوْله : " فَاسِقُونَ " ثُمَّ قَالَ : ( كَلَّا وَاَللَّه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَر وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِم وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقّ وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقّ قَصْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بِقُلُوبِ بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ ) وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا , وَمَعْنَى لَتَأْطُرُنَّهُ لَتَرُدُّنَّهُ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالْإِجْمَاع مُنْعَقِد عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَر فَرْض لِمَنْ أَطَاقَهُ وَأَمِنَ الضَّرَر عَلَى نَفْسه وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنْ خَافَ فَيُنْكِر بِقَلْبِهِ وَيَهْجُر ذَا الْمُنْكَر وَلَا يُخَالِطهُ . وَقَالَ حُذَّاق أَهْل الْعِلْم : وَلَيْسَ مِنْ شَرْط النَّاهِي أَنْ يَكُون سَلِيمًا عَنْ مَعْصِيَة بَلْ يَنْهَى الْعُصَاة بَعْضهمْ بَعْضًا , وَقَالَ بَعْض الْأُصُولِيِّينَ : فُرِضَ عَلَى الَّذِينَ يَتَعَاطَوْنَ الْكُؤُوس أَنْ يَنْهَى بَعْضهمْ بَعْضًا وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَة ; قَالُوا : لِأَنَّ قَوْله : " كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَر فَعَلُوهُ " يَقْتَضِي اِشْتِرَاكهمْ فِي الْفِعْل وَذَمّهمْ عَلَى تَرْك التَّنَاهِي , وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى النَّهْي عَنْ مُجَالَسَة الْمُجْرِمِينَ وَأَمْر بِتَرْكِهِمْ وَهِجْرَانهمْ , وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي الْإِنْكَار عَلَى الْيَهُود : " تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا " " وَمَا " مِنْ قَوْله : " مَا كَانُوا " يَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب وَمَا بَعْدهَا نَعْت لَهَا ; التَّقْدِير لَبِئْسَ شَيْئًا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ . أَوْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع وَهِيَ بِمَعْنَى الَّذِي .
تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ↓
أَيْ مِنْ الْيَهُود ; قِيلَ : كَعْب بْن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه , وَقَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ
أَيْ الْمُشْرِكِينَ ; وَلَيْسُوا عَلَى دِينهمْ .
أَيْ سَوَّلَتْ وَزَيَّنَتْ , وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَبِئْسَ مَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَمَعَادهمْ .
" أَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ كَقَوْلِك : بِئْسَ رَجُلًا زَيْد , وَقِيلَ : بَدَل مِنْ " مَا " فِي قَوْله " لَبِئْسَ " عَلَى أَنْ تَكُون " مَا " نَكِرَة فَتَكُون رَفْعًا أَيْضًا , وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب بِمَعْنَى لِأَنْ سَخِطَ اللَّه عَلَيْهِ : " وَفِي الْعَذَاب هُمْ خَالِدُونَ " اِبْتِدَاء وَخَبَر .
أَيْ الْمُشْرِكِينَ ; وَلَيْسُوا عَلَى دِينهمْ .
أَيْ سَوَّلَتْ وَزَيَّنَتْ , وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَبِئْسَ مَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَمَعَادهمْ .
" أَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ كَقَوْلِك : بِئْسَ رَجُلًا زَيْد , وَقِيلَ : بَدَل مِنْ " مَا " فِي قَوْله " لَبِئْسَ " عَلَى أَنْ تَكُون " مَا " نَكِرَة فَتَكُون رَفْعًا أَيْضًا , وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب بِمَعْنَى لِأَنْ سَخِطَ اللَّه عَلَيْهِ : " وَفِي الْعَذَاب هُمْ خَالِدُونَ " اِبْتِدَاء وَخَبَر .
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ↓
يَدُلّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ اِتَّخَذَ كَافِرًا وَلِيًّا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ إِذَا اِعْتَقَدَ اِعْتِقَاده وَرَضِيَ أَفْعَاله .
أَيْ خَارِجُونَ عَنْ الْإِيمَان بِنَبِيِّهِمْ لِتَحْرِيفِهِمْ , أَوْ عَنْ الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِفَاقِهِمْ .
أَيْ خَارِجُونَ عَنْ الْإِيمَان بِنَبِيِّهِمْ لِتَحْرِيفِهِمْ , أَوْ عَنْ الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِفَاقِهِمْ .
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ↓
قَوْله تَعَالَى " لَتَجِدَنَّ أَشَدّ النَّاس عَدَاوَة لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُود " اللَّام لَام الْقَسَم وَدَخَلَتْ النُّون عَلَى قَوْل الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ فَرْقًا بَيْن الْحَال وَالْمُسْتَقْبَل . " عَدَاوَة " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان وَكَذَا " وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى " وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيّ وَأَصْحَابه لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي الْهِجْرَة الْأُولَى - حَسَب مَا هُوَ مَشْهُور فِي سِيرَة اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره - خَوْفًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَفِتْنَتهمْ ; وَكَانُوا ذَوِي عَدَد . ثُمَّ هَاجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة بَعْد ذَلِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْوُصُول إِلَيْهِ , حَالَتْ بَيْنهمْ وَبَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرْب . فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَة بَدْر وَقَتَلَ اللَّه فِيهَا صَنَادِيد الْكُفَّار , قَالَ كُفَّار قُرَيْش : إِنَّ ثَأْركُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَة , فَاهْدُوا إِلَى النَّجَاشِيّ وَابْعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ ذَوِي رَأْيكُمْ لَعَلَّهُ يُعْطِيكُمْ مَنْ عِنْده فَتَقْتُلُونَهُمْ بِمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ بِبَدْرٍ , فَبَعَثَ كُفَّار قُرَيْش عَمْرو بْن الْعَاص وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي رَبِيعَة بِهَدَايَا , فَسَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , فَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرو بْن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ , وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى النَّجَاشِيّ , فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيّ , فَقَرَأَ كِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ دَعَا جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب وَالْمُهَاجِرِينَ , وَأَرْسَلَ إِلَى الرُّهْبَان وَالْقِسِّيسِينَ فَجَمَعَهُمْ . ثُمَّ أَمَرَ جَعْفَر أَنْ يَقْرَأ عَلَيْهِمْ الْقُرْآن فَقَرَأَ سُورَة ( مَرْيَم ) فَقَامُوا تَفِيض أَعْيُنهمْ مِنْ الدَّمْع , فَهُمْ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ " وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى " وَقَرَأَ إِلَى " الشَّاهِدِينَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَلَمَة الْمُرَادِيّ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن وَهْب قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام , وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر , أَنَّ الْهِجْرَة الْأُولَى هِجْرَة الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة , وَسَاقَ الْحَدِيث بِطُولِهِ , وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ اِبْن إِسْحَاق قَالَ : قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّة أَوْ قَرِيب مِنْ ذَلِكَ , مِنْ النَّصَارَى حِين ظَهَرَ خَبَره مِنْ الْحَبَشَة , فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِد فَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ , وَرِجَال مِنْ قُرَيْش فِي أَنْدِيَتهمْ حَوْل الْكَعْبَة فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَتهمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادُوا , دَعَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآن , فَلَمَّا سَمِعُوهُ فَاضَتْ أَعْيُنهمْ مِنْ الدَّمْع , ثُمَّ اِسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ , وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَف لَهُمْ فِي كِتَابهمْ مِنْ أَمْره , فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْده اِعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْل فِي نَفَر مِنْ قُرَيْش فَقَالُوا : خَيَّبَكُمْ اللَّه مِنْ رَكْب ! بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْل دِينكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُل , فَلَمْ تَظْهَر مُجَالَسَتكُمْ عِنْده حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ لَكُمْ , مَا نَعْلَم رَكْبًا أَحْمَق مِنْكُمْ - أَوْ كَمَا قَالَ لَهُمْ - فَقَالُوا : سَلَام عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلكُمْ لَنَا أَعْمَالنَا وَلَكُمْ أَعْمَالكُمْ , لَا نَأْلُوا أَنْفُسنَا خَيْرًا . فَيُقَال : إِنَّ النَّفَر النَّصَارَى مِنْ أَهْل نَجْرَان , وَيُقَال : إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَات " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب مِنْ قَبْله هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ " [ الْقَصَص : 52 ] إِلَى قَوْله : " لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ " [ الْقَصَص : 55 ] وَقِيلَ : إِنَّ جَعْفَرًا وَأَصْحَابه قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَيْهِمْ ثِيَاب الصُّوف , فِيهِمْ اِثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنْ الْحَبَشَة وَثَمَانِيَة مِنْ أَهْل الشَّام وَهُمْ بَحِيرَاء الرَّاهِب وَإِدْرِيس وَأَشْرَف وَأَبْرَهَة وَثُمَامَة وَقُثَم وَدُرَيْد وَأَيْمَن , فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَة " يس " إِلَى آخِرهَا , فَبَكَوْا حِين سَمِعُوا الْقُرْآن وَآمَنُوا , وَقَالُوا : مَا أَشْبَه هَذَا بِمَا كَانَ يَنْزِل عَلَى عِيسَى فَنَزَلَتْ فِيهِمْ " لَتَجِدَنَّ أَشَدّ النَّاس عَدَاوَة لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُود وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى " يَعْنِي وَفْد النَّجَاشِيّ وَكَانُوا أَصْحَاب الصَّوَامِع , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : وَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ أَيْضًا " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب مِنْ قَبْله هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ " [ الْقَصَص : 52 ] إِلَى قَوْله : " أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ " [ الْقَصَص : 54 ] إِلَى آخِر الْآيَة , وَقَالَ مُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : كَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْل نَجْرَان مِنْ بَنِي الْحَارِث بْن كَعْب , وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْحَبَشَة , وَثَمَانِيَة وَسِتُّونَ مِنْ أَهْل الشَّام . وَقَالَ قَتَادَة : نَزَلَتْ فِي نَاس مِنْ أَهْل الْكِتَاب كَانُوا عَلَى شَرِيعَة مِنْ الْحَقّ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى , فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنُوا بِهِ فَأَثْنَى اللَّه عَلَيْهِمْ .
وَاحِد " الْقِسِّيسِينَ " قَسّ وَقِسِّيس ; قَالَهُ قُطْرُب . وَالْقِسِّيس الْعَالِم ; وَأَصْله مِنْ قَسَّ إِذَا تَتَبَّعَ الشَّيْء فَطَلَبَهُ ; قَالَ الرَّاجِز : يُصْبِحْنَ عَنْ قَسّ الْأَذَى غَوَافِلَا وَتَقَسَّسْت أَصْوَاتهمْ بِاللَّيْلِ تَسَمَّعْتهَا , وَالْقَسّ النَّمِيمَة , وَالْقَسّ أَيْضًا رَئِيس مِنْ رُؤَسَاء النَّصَارَى فِي الدِّين وَالْعِلْم , وَجَمْعه قُسُوس , وَكَذَلِكَ الْقِسِّيس مِثْل الشَّرّ وَالشِّرِّير فَالْقِسِّيسُونَ هُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْعُلَمَاء وَالْعُبَّاد , وَيُقَال فِي جَمْع قِسِّيس مُكَسَّرًا : قَسَاوِسَة أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السِّينَيْنِ وَاوًا وَقَسَاوِسَة أَيْضًا كَمَهَالِبَة , وَالْأَصْل قَسَاسِسَة فَأَبْدَلُوا إِحْدَى السِّينَات وَاوًا لِكَثْرَتِهَا . وَلَفْظ الْقِسِّيس إِمَّا أَنْ يَكُون عَرَبِيًّا , وَإِمَّا أَنْ يَكُون بِلُغَةِ الرُّوم وَلَكِنْ خَلَطَتْهُ الْعَرَب بِكَلَامِهِمْ فَصَارَ مِنْ لُغَتهمْ إِذْ لَيْسَ فِي الْكِتَاب مَا لَيْسَ مِنْ لُغَة الْعَرَب كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْر بْن دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد , قَالَ : حُدِّثْت عَنْ مُعَاوِيَة بْن هِشَام عَنْ نُصَيْر الطَّائِيّ عَنْ الصَّلْت عَنْ حَامِيَة بْن رَبَاب قَالَ : قُلْت لِسَلْمَان " بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا " فَقَالَ : دَعْ الْقِسِّيسِينَ فِي الصَّوَامِع وَالْمِحْرَاب أَقْرَأَنِيهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا " , وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر : ضَيَّعَتْ النَّصَارَى الْإِنْجِيل , وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ; وَكَانُوا أَرْبَعَة نَفَر الَّذِينَ غَيَّرُوهُ ; لُوقَاس ومرقوس وَيُحَنَّس ومقبوس وَبَقِيَ قِسِّيس عَلَى الْحَقّ وَعَلَى الِاسْتِقَامَة , فَمَنْ كَانَ عَلَى دِينه وَهَدْيه فَهُوَ قِسِّيس .
الرُّهْبَان جَمْع رَاهِب كَرُكْبَانٍ وَرَاكِب . قَالَ النَّابِغَة : لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَط رَاهِب عَبَدَ الْإِلَه صَرُورَة مُتَعَبِّد لَرَنَا لِرُؤْيَتِهَا وَحُسْن حَدِيثهَا وَلَخَالَهُ رَشَدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ وَالْفِعْل مِنْهُ رَهِبَ اللَّه يَرْهَبهُ أَيْ خَافَهُ رَهْبًا وَرَهَبًا وَرَهْبَة , وَالرَّهْبَانِيَّة وَالتَّرَهُّب التَّعَبُّد فِي صَوْمَعَة . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَقَدْ يَكُون ( رُهْبَان ) لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْع ; قَالَ الْفَرَّاء : وَيُجْمَع ( رُهْبَان ) إِذَا كَانَ لِلْمُفْرَدِ رَهَابِنَة وَرَهَابِين كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِين ; قَالَ جَرِير فِي الْجَمْع : رُهْبَان مَدْيَن لَوْ رَأَوْك تَنَزَّلُوا وَالْعُصْم مِنْ شَعَف الْعُقُول الْفَادِرُ الْفَادِر الْمُسِنّ مِنْ الْوُعُول , وَيُقَال : الْعَظِيم , وَكَذَلِكَ الْفَدُور وَالْجَمْع فُدْر وَفُدُور وَمَوْضِعهَا الْمَفْدَرَة ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ , وَقَالَ آخَر فِي التَّوْحِيد : لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَان دَيْر فِي الْجَبَل لَانْحَدَرَ الرُّهْبَان يَسْعَى وَيُصَلْ مِنْ الصَّلَاة . وَالرَّهَابَة عَلَى وَزْن السَّحَابَة عَظْم فِي الصَّدْر مُشْرِف عَلَى الْبَطْن مِثْل اللِّسَان , وَهَذَا الْمَدْح لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون مَنْ أَصَرَّ عَلَى كُفْره وَلِهَذَا قَالَ :
يَسْتَكْبِرُونَ " أَيْ عَنْ الِانْقِيَاد إِلَى الْحَقّ
وَاحِد " الْقِسِّيسِينَ " قَسّ وَقِسِّيس ; قَالَهُ قُطْرُب . وَالْقِسِّيس الْعَالِم ; وَأَصْله مِنْ قَسَّ إِذَا تَتَبَّعَ الشَّيْء فَطَلَبَهُ ; قَالَ الرَّاجِز : يُصْبِحْنَ عَنْ قَسّ الْأَذَى غَوَافِلَا وَتَقَسَّسْت أَصْوَاتهمْ بِاللَّيْلِ تَسَمَّعْتهَا , وَالْقَسّ النَّمِيمَة , وَالْقَسّ أَيْضًا رَئِيس مِنْ رُؤَسَاء النَّصَارَى فِي الدِّين وَالْعِلْم , وَجَمْعه قُسُوس , وَكَذَلِكَ الْقِسِّيس مِثْل الشَّرّ وَالشِّرِّير فَالْقِسِّيسُونَ هُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْعُلَمَاء وَالْعُبَّاد , وَيُقَال فِي جَمْع قِسِّيس مُكَسَّرًا : قَسَاوِسَة أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السِّينَيْنِ وَاوًا وَقَسَاوِسَة أَيْضًا كَمَهَالِبَة , وَالْأَصْل قَسَاسِسَة فَأَبْدَلُوا إِحْدَى السِّينَات وَاوًا لِكَثْرَتِهَا . وَلَفْظ الْقِسِّيس إِمَّا أَنْ يَكُون عَرَبِيًّا , وَإِمَّا أَنْ يَكُون بِلُغَةِ الرُّوم وَلَكِنْ خَلَطَتْهُ الْعَرَب بِكَلَامِهِمْ فَصَارَ مِنْ لُغَتهمْ إِذْ لَيْسَ فِي الْكِتَاب مَا لَيْسَ مِنْ لُغَة الْعَرَب كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْر بْن دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد , قَالَ : حُدِّثْت عَنْ مُعَاوِيَة بْن هِشَام عَنْ نُصَيْر الطَّائِيّ عَنْ الصَّلْت عَنْ حَامِيَة بْن رَبَاب قَالَ : قُلْت لِسَلْمَان " بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا " فَقَالَ : دَعْ الْقِسِّيسِينَ فِي الصَّوَامِع وَالْمِحْرَاب أَقْرَأَنِيهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا " , وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر : ضَيَّعَتْ النَّصَارَى الْإِنْجِيل , وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ; وَكَانُوا أَرْبَعَة نَفَر الَّذِينَ غَيَّرُوهُ ; لُوقَاس ومرقوس وَيُحَنَّس ومقبوس وَبَقِيَ قِسِّيس عَلَى الْحَقّ وَعَلَى الِاسْتِقَامَة , فَمَنْ كَانَ عَلَى دِينه وَهَدْيه فَهُوَ قِسِّيس .
الرُّهْبَان جَمْع رَاهِب كَرُكْبَانٍ وَرَاكِب . قَالَ النَّابِغَة : لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَط رَاهِب عَبَدَ الْإِلَه صَرُورَة مُتَعَبِّد لَرَنَا لِرُؤْيَتِهَا وَحُسْن حَدِيثهَا وَلَخَالَهُ رَشَدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ وَالْفِعْل مِنْهُ رَهِبَ اللَّه يَرْهَبهُ أَيْ خَافَهُ رَهْبًا وَرَهَبًا وَرَهْبَة , وَالرَّهْبَانِيَّة وَالتَّرَهُّب التَّعَبُّد فِي صَوْمَعَة . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَقَدْ يَكُون ( رُهْبَان ) لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْع ; قَالَ الْفَرَّاء : وَيُجْمَع ( رُهْبَان ) إِذَا كَانَ لِلْمُفْرَدِ رَهَابِنَة وَرَهَابِين كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِين ; قَالَ جَرِير فِي الْجَمْع : رُهْبَان مَدْيَن لَوْ رَأَوْك تَنَزَّلُوا وَالْعُصْم مِنْ شَعَف الْعُقُول الْفَادِرُ الْفَادِر الْمُسِنّ مِنْ الْوُعُول , وَيُقَال : الْعَظِيم , وَكَذَلِكَ الْفَدُور وَالْجَمْع فُدْر وَفُدُور وَمَوْضِعهَا الْمَفْدَرَة ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ , وَقَالَ آخَر فِي التَّوْحِيد : لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَان دَيْر فِي الْجَبَل لَانْحَدَرَ الرُّهْبَان يَسْعَى وَيُصَلْ مِنْ الصَّلَاة . وَالرَّهَابَة عَلَى وَزْن السَّحَابَة عَظْم فِي الصَّدْر مُشْرِف عَلَى الْبَطْن مِثْل اللِّسَان , وَهَذَا الْمَدْح لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون مَنْ أَصَرَّ عَلَى كُفْره وَلِهَذَا قَالَ :
يَسْتَكْبِرُونَ " أَيْ عَنْ الِانْقِيَاد إِلَى الْحَقّ
وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ↓
" مِنْ الدَّمْع " أَيْ بِالدَّمْعِ وَهُوَ فِي مَوْضِع الْحَال ; وَكَذَا " يَقُولُونَ " , وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : فَفَاضَتْ دُمُوع الْعَيْن مِنِّي صَبَابَة عَلَى النَّحْر حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي وَخَبَر مُسْتَفِيض إِذَا كَثُرَ وَانْتَشَرَ كَفَيْضِ الْمَاء عَنْ الْكَثْرَة , وَهَذِهِ أَحْوَال الْعُلَمَاء يَبْكُونَ وَلَا يُصْعَقُونَ , وَيَسْأَلُونَ وَلَا يَصِيحُونَ , وَيَتَحَازَنُونَ وَلَا يَتَمَوَّتُونَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " اللَّه نَزَّلَ أَحْسَن الْحَدِيث كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُود الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهمْ ثُمَّ تَلِينَ جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذِكْر اللَّه " [ الزُّمَر : 23 ] وَقَالَ : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّه وَجِلَتْ قُلُوبهمْ " . وَفِي الْأَنْفَال يَأْتِي بَيَان هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَبَيَّنَ اللَّه سُبْحَانه فِي هَذِهِ الْآيَات أَنَّ أَشَدّ الْكُفَّار تَمَرُّدًا وَعُتُوًّا وَعَدَاوَة لِلْمُسْلِمِينَ الْيَهُود , وَيُضَاهِيهِمْ الْمُشْرِكُونَ , وَبَيَّنَ أَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة النَّصَارَى , وَاللَّه أَعْلَمُ .
" فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " أَيْ مَعَ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس " [ الْبَقَرَة : 143 ] عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُرَيْج . وَقَالَ الْحَسَن : الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْإِيمَانِ , وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِتَصْدِيقِ نَبِيّك وَكِتَابك . وَمَعْنَى " فَاكْتُبْنَا " اِجْعَلْنَا , فَيَكُون بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ كُتِبَ وَدُوِّنَ .
" فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " أَيْ مَعَ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس " [ الْبَقَرَة : 143 ] عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُرَيْج . وَقَالَ الْحَسَن : الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْإِيمَانِ , وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِتَصْدِيقِ نَبِيّك وَكِتَابك . وَمَعْنَى " فَاكْتُبْنَا " اِجْعَلْنَا , فَيَكُون بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ كُتِبَ وَدُوِّنَ .
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ↓
بَيَّنَ اِسْتِبْصَارهمْ فِي الدِّين ; أَيْ يَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِن ; أَيْ وَمَا لَنَا تَارِكِينَ الْإِيمَان . ف " نُؤْمِن " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال .
أَيْ مَعَ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قَوْله : " أَنَّ الْأَرْض يَرِثهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 105 ] يُرِيد أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي الْكَلَام إِضْمَار أَيْ نَطْمَع أَنْ يُدْخِلنَا رَبّنَا الْجَنَّة , وَقِيلَ : " مَعَ " بِمَعْنَى ( فِي ) كَمَا تُذْكَر ( فِي ) بِمَعْنَى ( مَعَ ) تَقُول : كُنْت فِيمَنْ لَقِيَ الْأَمِير ; أَيْ مَعَ مَنْ لَقِيَ الْأَمِير , وَالطَّمَع يَكُون مُخَفَّفًا وَغَيْر مُخَفَّف ; يُقَال : طَمِعَ فِيهِ طَمَعًا وَطَمَاعَة وَطَمَاعِيَة مُخَفَّف فَهُوَ طَمِع .
أَيْ مَعَ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قَوْله : " أَنَّ الْأَرْض يَرِثهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 105 ] يُرِيد أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي الْكَلَام إِضْمَار أَيْ نَطْمَع أَنْ يُدْخِلنَا رَبّنَا الْجَنَّة , وَقِيلَ : " مَعَ " بِمَعْنَى ( فِي ) كَمَا تُذْكَر ( فِي ) بِمَعْنَى ( مَعَ ) تَقُول : كُنْت فِيمَنْ لَقِيَ الْأَمِير ; أَيْ مَعَ مَنْ لَقِيَ الْأَمِير , وَالطَّمَع يَكُون مُخَفَّفًا وَغَيْر مُخَفَّف ; يُقَال : طَمِعَ فِيهِ طَمَعًا وَطَمَاعَة وَطَمَاعِيَة مُخَفَّف فَهُوَ طَمِع .
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ↑
دَلِيل عَلَى إِخْلَاص إِيمَانهمْ وَصِدْق مَقَالهمْ ; فَأَجَابَ اللَّه سُؤَالهمْ وَحَقَّقَ طَمَعهمْ - وَهَكَذَا مَنْ خَلَصَ إِيمَانه وَصَدَقَ يَقِينه يَكُون ثَوَابه الْجَنَّة . ثُمَّ قَالَ
مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ
وَالْجَحِيم النَّار الشَّدِيدَة الِاتِّقَاد . يُقَال : جَحَمَ فُلَان النَّار إِذَا شَدَّدَ إِيقَادهَا , وَيُقَال أَيْضًا لِعَيْنِ الْأَسَد : جَحْمَة ; لِشِدَّةِ اِتِّقَادهَا , وَيُقَال ذَلِكَ لِلْحَرْبِ قَالَ الشَّاعِر : وَالْحَرْب لَا يَبْقَى لِجَا حِمِهَا التَّخَيُّل وَالْمِرَاح إِلَّا الْفَتَى الصَّبَّار فِي النَّجَدَات وَالْفَرَس الْوَقَاح
وَالْجَحِيم النَّار الشَّدِيدَة الِاتِّقَاد . يُقَال : جَحَمَ فُلَان النَّار إِذَا شَدَّدَ إِيقَادهَا , وَيُقَال أَيْضًا لِعَيْنِ الْأَسَد : جَحْمَة ; لِشِدَّةِ اِتِّقَادهَا , وَيُقَال ذَلِكَ لِلْحَرْبِ قَالَ الشَّاعِر : وَالْحَرْب لَا يَبْقَى لِجَا حِمِهَا التَّخَيُّل وَالْمِرَاح إِلَّا الْفَتَى الصَّبَّار فِي النَّجَدَات وَالْفَرَس الْوَقَاح
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ↓
فِيهِ خَمْس مَسَائِل : الْأُولَى : أَسْنَدَ الطَّبَرِيّ إِلَى اِبْن عَبَّاس أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ بِسَبَبِ رَجُل أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنِّي إِذَا أَصَبْت مِنْ اللَّحْم اِنْتَشَرْت وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي فَحَرَّمْت اللَّحْم ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَأَبُو ذَرّ الْغِفَارِيّ وَسَالِم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة وَالْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَد وَسَلْمَان الْفَارِسِيّ وَمَعْقِل بْن مُقَرِّن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , اِجْتَمَعُوا فِي دَار عُثْمَان بْن مَظْعُون , وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَصُومُوا النَّهَار وَيَقُومُوا اللَّيْل وَلَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُش , وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْم وَلَا الْوَدَك وَلَا يَقْرَبُوا النِّسَاء وَالطِّيب , وَيَلْبَسُوا الْمُسُوح وَيَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْض , وَيَتَرَهَّبُوا وَيَجُبُّوا الْمَذَاكِير ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة , وَالْأَخْبَار بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْر النُّزُول وَهِيَ الثَّانِيَة : خَرَّجَ مُسْلِم عَنْ أَنَس أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَله فِي السِّرّ ; فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا أَتَزَوَّج النِّسَاء ; وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا آكُل اللَّحْم ; وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا أَنَام عَلَى الْفِرَاش ; فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ : ( وَمَا بَال أَقْوَام قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَام وَأَصُوم وَأُفْطِر وَأَتَزَوَّج النِّسَاء فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) , وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس أَيْضًا وَلَفْظه قَالَ : جَاءَ ثَلَاثَة رَهْط إِلَى بُيُوت أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَته ; فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا - فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَدْ غَفَرَ اللَّه لَهُ مِنْ ذَنْبه مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ . فَقَالَ أَحَدهمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْل أَبَدًا , وَقَالَ آخَر : أَمَّا أَنَا فَأَصُوم الدَّهْر وَلَا أُفْطِر , وَقَالَ آخَر : أَمَّا أَنَا فَأَعْتَزِل النِّسَاء وَلَا أَتَزَوَّج أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاَللَّه إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُوم وَأُفْطِر وَأُصَلِّي وَأَرْقُد وَأَتَزَوَّج النِّسَاء فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) . وَخَرَّجَا عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ : أَرَادَ عُثْمَان بْن مَظْعُون أَنْ يَتَبَتَّل فَنَهَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ لَاخْتَصَيْنَا , وَخَرَّجَ الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي مُسْنَده قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَة قَالَ حَدَّثَنَا مُعَان بْن رِفَاعَة , قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن يَزِيد عَنْ الْقَاسِم عَنْ أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّة مِنْ سَرَايَاهُ ; قَالَ : فَمَرَّ رَجُل بِغَارٍ فِيهِ شَيْء مِنْ الْمَاء فَحَدَّثَ نَفْسه بِأَنْ يُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْغَار فَيَقُوتهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَاء , وَيُصِيب مَا حَوْله مِنْ الْبَقْل , وَيَتَخَلَّى عَنْ الدُّنْيَا ; قَالَ : لَوْ أَنِّي أَتَيْت إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ , فَإِنْ أَذِنَ لِي فَعَلْت وَإِلَّا لَمْ أَفْعَل ; فَأَتَاهُ فَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه إِنِّي مَرَرْت بِغَارٍ فِيهِ مَا يَقُوتنِي مِنْ الْمَاء وَالْبَقْل , فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِأَنْ أُقِيمَ فِيهِ وَأَتَخَلَّى عَنْ الدُّنْيَا ; قَالَ : فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّة وَلَكِنِّي بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَغَدْوَة أَوْ رَوْحَة فِي سَبِيل اللَّه خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَمُقَام أَحَدكُمْ فِي الصَّفّ خَيْر مِنْ صَلَاته سِتِّينَ سَنَة ) . الثَّالِثَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَة وَمَا شَابَهَهَا وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي مَعْنَاهَا رَدّ عَلَى غُلَاة الْمُتَزَهِّدِينَ , وَعَلَى أَهْل الْبَطَالَة مِنْ الْمُتَصَوِّفِينَ ; إِذْ كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ قَدْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقه , وَحَادَ عَنْ تَحْقِيقه ; قَالَ الطَّبَرِيّ : لَا يَجُوز لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَحْرِيم شَيْء مِمَّا أَحَلَّ اللَّه لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نَفْسه مِنْ طَيِّبَات الْمَطَاعِم وَالْمَلَابِس وَالْمَنَاكِح إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسه بِإِحْلَالِ ذَلِكَ بِهَا بَعْضَ الْعَنَت وَالْمَشَقَّة ; وَلِذَلِكَ رَدَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّل عَلَى اِبْن مَظْعُون فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا فَضْل فِي تَرْك شَيْء مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّه لِعِبَادِهِ , وَأَنَّ الْفَضْل وَالْبِرّ إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْل مَا نَدَبَ عِبَاده إِلَيْهِ , وَعَمِلَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَسَنَّهُ لِأُمَّتِهِ , وَاتَّبَعَهُ عَلَى مِنْهَاجه الْأَئِمَّة الرَّاشِدُونَ , إِذْ كَانَ خَيْر الْهَدْي هَدْي نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ خَطَأ مَنْ آثَرَ لِبَاس الشَّعْر وَالصُّوف عَلَى لِبَاس الْقُطْن وَالْكَتَّان إِذَا قَدَرَ عَلَى لِبَاس ذَلِكَ مِنْ حِلّه , وَآثَرَ أَكْل الْخَشِن مِنْ الطَّعَام وَتَرْك اللَّحْم وَغَيْره حَذَرًا مِنْ عَارِض الْحَاجَة إِلَى النِّسَاء . قَالَ الطَّبَرِيّ : فَإِنْ ظَنَّ ظَانّ أَنَّ الْخَيْر فِي غَيْر الَّذِي قُلْنَا لِمَا فِي لِبَاس الْخَشِن وَأَكْله مِنْ الْمَشَقَّة عَلَى النَّفْس وَصَرْف مَا فَضَلَ بَيْنهمَا مِنْ الْقِيمَة إِلَى أَهْل الْحَاجَة فَقَدْ ظَنَّ خَطَأ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ صَلَاح نَفْسه وَعَوْنه لَهَا عَلَى طَاعَة رَبّهَا , وَلَا شَيْء أَضَرّ لِلْجِسْمِ مِنْ الْمَطَاعِم الرَّدِيئَة لِأَنَّهَا مُفْسِدَة لِعَقْلِهِ وَمُضْعِفَة لِأَدَوَاتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه سَبَبًا إِلَى طَاعَته , وَقَدْ جَاءَ رَجُل إِلَى الْحَسَن الْبَصْرِيّ ; فَقَالَ : إِنَّ لِي جَارًا لَا يَأْكُل الْفَالَوْذَج فَقَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : يَقُول لَا يُؤَدِّي شُكْره ; فَقَالَ الْحَسَن : أَفَيَشْرَب الْمَاء الْبَارِد ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : إِنَّ جَارك جَاهِل , فَإِنَّ نِعْمَة اللَّه عَلَيْهِ فِي الْمَاء الْبَارِد أَكْثَر مِنْ نِعْمَته عَلَيْهِ فِي الْفَالُوذَج . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا إِذَا كَانَ الدِّين قَوَامًا , وَلَمْ يَكُنْ الْمَال حَرَامًا ; فَأَمَّا إِذَا فَسَدَ الدِّين عِنْد النَّاس وَعَمَّ الْحَرَام فَالتَّبَتُّل أَفْضَل , وَتَرْك اللَّذَّات أَوْلَى , وَإِذَا وُجِدَ الْحَلَال فَحَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل وَأَعْلَى . قَالَ الْمُهَلَّب : إِنَّمَا نَهَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّبَتُّل وَالتَّرَهُّب مِنْ أَجْل أَنَّهُ مُكَاثِر بِأُمَّتِهِ الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة , وَأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُقَاتِل بِهِمْ طَوَائِف الْكُفَّار , وَفِي آخِر الزَّمَان يُقَاتِلُونَ الدَّجَّال ; فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْثُر النَّسْل . الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَعْتَدُوا " قِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَعْتَدُوا فَتُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّه فَالنَّهْيَانِ عَلَى هَذَا تَضَمَّنَا الطَّرَفَيْنِ ; أَيْ لَا تَشَدَّدُوا فَتُحَرِّمُوا حَلَالًا , وَلَا تَتَرَخَّصُوا فَتُحِلُّوا حَرَامًا ; قَالَهُ الْحَسَن الْبَصْرِيّ , وَقِيلَ : مَعْنَاهُ التَّأْكِيد لِقَوْلِهِ : " تُحَرِّمُوا " ; قَالَهُ السُّدِّيّ وَعِكْرِمَة وَغَيْرهمَا ; أَيْ لَا تُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّه وَشَرَعَ , وَالْأَوَّل أَوْلَى , وَاللَّه أَعْلَمُ . الْخَامِسَة : مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسه طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ أَمَة لَهُ , أَوْ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَلَا كَفَّارَة فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ عِنْد مَالِك ; إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِتَحْرِيمِ الْأَمَة عِتْقهَا صَارَتْ حُرَّة وَحَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيد بَعْد عِتْقهَا , وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام فَإِنَّهُ تَطْلُق عَلَيْهِ ثَلَاثًا ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يُحَرِّم اِمْرَأَته عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ صَرِيحًا وَكِنَايَة , وَحَرَام مِنْ كِنَايَات الطَّلَاق . وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ فِي سُورَة ( التَّحْرِيم ) إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنَّ مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا صَارَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ , وَإِذَا تَنَاوَلَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَة ; وَهَذَا بَعِيد وَالْآيَة تَرُدّ عَلَيْهِ , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : لَغْو الْيَمِين تَحْرِيم الْحَلَال , وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الشَّافِعِيّ عَلَى مَا يَأْتِي .
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ↓
فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة : الْأَكْل فِي هَذِهِ الْآيَة عِبَارَة عَنْ التَّمَتُّع بِالْأَكْلِ وَالشُّرْب وَاللِّبَاس وَالرُّكُوب وَنَحْو ذَلِكَ , وَخُصَّ الْأَكْل بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ أَعْظَم الْمَقْصُود وَأَخَصّ الِانْتِفَاعَات بِالْإِنْسَانِ , وَسَيَأْتِي بَيَان حُكْم الْأَكْل وَالشُّرْب وَاللِّبَاس فِي " الْأَعْرَاف " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَأَمَّا شَهْوَة الْأَشْيَاء الْمُلِذَّة , وَمُنَازَعَة النَّفْس إِلَى طَلَب الْأَنْوَاع الشَّهِيَّة , فَمَذَاهِب النَّاس فِي تَمْكِين النَّفْس مِنْهَا مُخْتَلِفَة ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى صَرْف النَّفْس عَنْهَا وَقَهْرهَا عَنْ اِتِّبَاع شَهَوَاتهَا أَحْرَى لِيَذِلّ لَهُ قِيَادهَا , وَيَهُون عَلَيْهِ عِنَادهَا ; فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَاهَا الْمُرَاد يَصِير أَسِير شَهَوَاتهَا , وَمُنْقَادًا بِانْقِيَادِهَا . حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَازِم كَانَ يَمُرّ عَلَى الْفَاكِهَة فَيَشْتَهِيهَا فَيَقُول : مَوْعِدك الْجَنَّة , وَقَالَ آخَرُونَ : تَمْكِين النَّفْس مِنْ لَذَّاتهَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ اِرْتِيَاحهَا وَنَشَاطهَا بِإِدْرَاكِ إِرَادَتهَا , وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ التَّوَسُّط فِي ذَلِكَ أَوْلَى ; لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهَا ذَلِكَ مَرَّة وَمَنْعهَا أُخْرَى جَمْع بَيْن الْأَمْرَيْنِ ; وَذَلِكَ النَّصَف مِنْ غَيْر شَيْن . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الِاعْتِدَاء وَالرِّزْق فِي " الْبَقَرَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ .
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ↓
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل الْأُولَى : تَقَدَّمَ مَعْنَى اللَّغْو فِي " الْبَقَرَة " وَمَعْنَى " فِي أَيْمَانكُمْ " أَيْ مِنْ أَيْمَانكُمْ , وَالْأَيْمَان جَمْع يَمِين , وَقِيلَ : وَيَمِين فَعِيل مِنْ الْيُمْن وَهُوَ الْبَرَكَة ; سَمَّاهَا اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا تَحْفَظ الْحُقُوق , وَيَمِين تُذَكَّر وَتُؤَنَّث وَتُجْمَع أَيْمَان وَأَيْمُن . قَالَ زُهَيْر : فَتُجْمَع أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ الثَّانِيَة : وَاخْتُلِفَ فِي سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سَبَب نُزُولهَا الْقَوْم الَّذِينَ حَرَّمُوا طَيِّبَات الْمَطَاعِم وَالْمَلَابِس وَالْمَنَاكِح عَلَى أَنْفُسهمْ , حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَزَلَتْ " لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ " قَالُوا : كَيْفَ نَصْنَع بِأَيْمَانِنَا ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْل ; إِذَا أَتَيْتُمْ بِالْيَمِينِ ثُمَّ أَلْغَيْتُمُوهَا - أَيْ أَسْقَطْتُمْ حُكْمهَا بِالتَّكْفِيرِ وَكَفَّرْتُمْ - فَلَا يُؤَاخِذكُمْ اللَّه بِذَلِكَ ; وَإِنَّمَا يُؤَاخِذكُمْ بِمَا أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُلْغُوهُ ; أَيْ فَلَمْ تُكَفِّرُوا ; فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الْحَلِف لَا يُحَرِّم شَيْئًا . وَهُوَ دَلِيل الشَّافِعِيّ عَلَى أَنَّ الْيَمِين لَا يَتَعَلَّق بِهَا تَحْرِيم الْحَلَال , وَأَنَّ تَحْرِيم الْحَلَال لَغْو , كَمَا أَنَّ تَحْلِيل الْحَرَام لَغْو مِثْل قَوْل الْقَائِل : اِسْتَحْلَلْت شُرْب الْخَمْر , فَتَقْتَضِي الْآيَة عَلَى هَذَا الْقَوْل أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ تَحْرِيم الْحَلَال لَغْوًا فِي أَنَّهُ لَا يُحَرِّم ; فَقَالَ : " لَا يُؤَاخِذكُمْ اللَّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُمْ " أَيْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَال , وَرُوِيَ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة كَانَ لَهُ أَيْتَام وَضَيْف , فَانْقَلَبَ مِنْ شُغْله بَعْد سَاعَة مِنْ اللَّيْل . فَقَالَ : أَعَشَّيْتُمْ ضَيْفِي ؟ فَقَالُوا : اِنْتَظَرْنَاك ; فَقَالَ : لَا وَاَللَّه لَا آكُلهُ اللَّيْلَة ; فَقَالَ ضَيْفه : وَمَا أَنَا بِاَلَّذِي يَأْكُل ; وَقَالَ أَيْتَامه : وَنَحْنُ لَا نَأْكُل ; فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَكَلَ وَأَكَلُوا . ثُمَّ أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ : " أَطَعْت الرَّحْمَن وَعَصَيْت الشَّيْطَان " فَنَزَلَتْ الْآيَة . الثَّالِثَة : الْأَيْمَان فِي الشَّرِيعَة عَلَى أَرْبَعَة أَقْسَام : قِسْمَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَة , وَقِسْمَانِ لَا كَفَّارَة فِيهِمَا . خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه , حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز حَدَّثَنَا خَلَف بْن هِشَام حَدَّثَنَا عَبْثَر عَنْ لَيْث عَنْ حَمَّاد عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ عَلْقَمَة عَنْ عَبْد اللَّه , قَالَ : الْأَيْمَان أَرْبَعَة , يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ ; فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُل الَّذِي يَحْلِف وَاَللَّه لَا أَفْعَل كَذَا وَكَذَا فَيَفْعَل , وَالرَّجُل يَقُول وَاَللَّه لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا فَلَا يَفْعَل , وَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ لَا يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُل يَحْلِف وَاَللَّه مَا فَعَلْت كَذَا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ , وَالرَّجُل يَحْلِف لَقَدْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلهُ . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَذَكَرَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ فِي ( جَامِعه ) وَذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيّ عَنْهُ أَيْضًا , قَالَ سُفْيَان : الْأَيْمَان أَرْبَعَة ; يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُول الرَّجُل وَاَللَّه لَا أَفْعَل فَيَفْعَل , أَوْ يَقُول وَاَللَّه لَأَفْعَلَنَّ ثُمَّ لَا يَفْعَل ; وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُول الرَّجُل وَاَللَّه مَا فَعَلْت وَقَدْ فَعَلَ , أَوْ يَقُول وَاَللَّه لَقَدْ فَعَلْت وَمَا فَعَلَ ; قَالَ الْمَرْوَزِيّ : أَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُولَيَانِ فَلَا اِخْتِلَاف فِيهِمَا بَيْن الْعُلَمَاء عَلَى مَا قَالَ سُفْيَان ; وَأَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُخْرَيَانِ فَقَدْ اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِيهِمَا ; فَإِنْ كَانَ الْحَالِف حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَل كَذَا وَكَذَا , أَوْ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا عِنْد نَفْسه صَادِقًا يَرَى أَنَّهُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ فِي قَوْل مَالِك وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْد ; وَقَالَ الشَّافِعِيّ لَا إِثْم عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة . قَالَ الْمَرْوَزِيّ : وَلَيْسَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي هَذَا بِالْقَوِيِّ . قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْحَالِف عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَل كَذَا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَهُوَ آثِم وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ فِي قَوْل عَامَّة الْعُلَمَاء : مَالِك وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبِي ثَوْر وَأَبِي عُبَيْد , وَكَانَ الشَّافِعِيّ يَقُول يُكَفِّر ; قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْض التَّابِعِينَ مِثْل قَوْل الشَّافِعِيّ . قَالَ الْمَرْوَزِيّ : أَمِيل إِلَى قَوْل مَالِك وَأَحْمَد . قَالَ : فَأَمَّا يَمِين اللَّغْو الَّذِي اِتَّفَقَ عَامَّة الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهَا لَغْو فَهُوَ قَوْل الرَّجُل : لَا وَاَللَّه , وَبَلَى وَاَللَّه , فِي حَدِيثه وَكَلَامه غَيْر مُنْعَقِد لِلْيَمِينِ وَلَا مُرِيدهَا . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَذَلِكَ عِنْد اللِّجَاج وَالْغَضَب وَالْعَجَلَة .
فِيهِ خَمْسَة عَشَر مَسْأَلَة : الْأُولَى : مُخَفَّف الْقَاف مِنْ الْعَقْد , وَالْعَقْد عَلَى ضَرْبَيْنِ حِسِّيّ كَعَقْدِ الْحَبْل , وَحُكْمِيّ كَعَقْدِ الْبَيْع ; قَالَ الشَّاعِر : قَوْم إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا الْعِنَاج وَشَدُّوا فَوْقه الْكَرَبَا فَالْيَمِين الْمُنْعَقِدَة مُنْفَعِلَة مِنْ الْعَقْد , وَهِيَ عَقْد الْقَلْب فِي الْمُسْتَقْبَل أَلَّا يَفْعَل فَفَعَلَ ; أَوْ لَيَفْعَلَنَّ فَلَا يَفْعَل كَمَا تَقَدَّمَ . فَهَذِهِ الَّتِي يَحُلّهَا الِاسْتِثْنَاء وَالْكَفَّارَة عَلَى مَا يَأْتِي , وَقُرِئَ " عَاقَدْتُمْ " بِأَلِفٍ بَعْد الْعَيْن عَلَى وَزْن فَاعَلَ وَذَلِكَ لَا يَكُون إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ فِي الْأَكْثَر , وَقَدْ يَكُون الثَّانِي مَنْ حُلِفَ لِأَجْلِهِ فِي كَلَام وَقَعَ مَعَهُ , أَوْ يَكُون الْمَعْنَى بِمَا عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَان ; لِأَنَّ عَاقَدَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى عَاهَدَ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ الْجَرّ , لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى عَاهَدَ , وَعَاهَدَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ جَرّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّه " [ الْفَتْح : 10 ] وَهَذَا كَمَا عَدَّيْت " نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة " بِإِلَى , وَبَابهَا أَنْ تَقُول نَادَيْت زَيْدًا " وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِب الطُّور الْأَيْمَن " [ مَرْيَم : 52 ] لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى دَعَوْت عُدِّيَ بِإِلَى ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّه " [ فُصِّلَتْ : 33 ] ثُمَّ اِتَّسَعَ فِي قَوْله تَعَالَى : " عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَان " . فَحُذِفَ حَرْف الْجَرّ ; فَوَصَلَ الْفِعْل إِلَى الْمَفْعُول فَصَارَ عَاقَدْتُمُوهُ , ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَاء كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر " [ الْحِجْر : 94 ] . أَوْ يَكُون فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " قَاتَلَهُمْ اللَّه " [ التَّوْبَة : 30 ] أَيْ قَتَلَهُمْ , وَقَدْ تَأْتِي الْمُفَاعَلَة فِي كَلَام الْعَرَب مِنْ وَاحِد بِغَيْرِ مَعْنَى ( فَاعَلْت ) كَقَوْلِهِمْ : سَافَرْت وَظَاهَرْت , وَقُرِئَ " عَقَّدْتُمْ " بِتَشْدِيدِ الْقَاف . قَالَ مُجَاهِد : مَعْنَاهُ تَعَمَّدْتُمْ أَيْ قَصَدْتُمْ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ التَّشْدِيد يَقْتَضِي التَّكْرَار فَلَا تَجِب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة إِلَّا إِذَا كُرِّرَ , وَهَذَا يَرُدّهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنِّي وَاَللَّه إِنْ شَاءَ اللَّه لَا أَحْلِف عَلَى يَمِين فَأَرَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْر وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ) . فَذَكَرَ وُجُوب الْكَفَّارَة فِي الْيَمِين الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّر . قَالَ أَبُو عُبَيْد : التَّشْدِيد يَقْتَضِي التَّكْرِير مَرَّة بَعْد مَرَّة , وَلَسْت آمَن أَنْ يَلْزَم مَنْ قَرَأَ بِتِلْكَ الْقِرَاءَة أَلَّا تُوجَب عَلَيْهِ كَفَّارَة فِي الْيَمِين الْوَاحِدَة حَتَّى يُرَدِّدهَا مِرَارًا . وَهَذَا قَوْل خِلَاف الْإِجْمَاع . وَرَوَى نَافِع أَنَّ اِبْن عُمَر كَانَ إِذَا حَنِثَ مِنْ غَيْر أَنْ يُؤَكِّدَ الْيَمِين أَطْعَمَ عَشَرَة مَسَاكِين , فَإِذَا وَكَّدَ الْيَمِين أَعْتَقَ رَقَبَة . قِيلَ لِنَافِعٍ مَا مَعْنَى وَكَّدَ الْيَمِين ؟ قَالَ : أَنْ يَحْلِف عَلَى الشَّيْء مِرَارًا . الثَّانِيَة : اُخْتُلِفَ فِي الْيَمِين الْغَمُوس هَلْ هِيَ يَمِين مُنْعَقِدَة أَمْ لَا ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهَا يَمِين مَكْر وَخَدِيعَة وَكَذِب فَلَا تَنْعَقِد وَلَا كَفَّارَة فِيهَا , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : هِيَ يَمِين مُنْعَقِدَة ; لِأَنَّهَا مُكْتَسَبَة بِالْقَلْبِ , مَعْقُودَة بِخَبَرٍ , مَقْرُونَة بِاسْمِ اللَّه تَعَالَى , وَفِيهَا الْكَفَّارَة , وَالصَّحِيح الْأَوَّل . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا قَوْل مَالِك بْن أَنَس وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة , وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل الشَّام , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَأَهْل الْعِرَاق , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد , وَأَصْحَاب الْحَدِيث وَأَصْحَاب الرَّأْي مِنْ أَهْل الْكُوفَة ; قَالَ أَبُو بَكْر : وَقَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه ) وَقَوْله : ( فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه وَيَأْتِي الَّذِي هُوَ خَيْر ) يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَة إِنَّمَا تَجِب فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل يَفْعَلهُ مِمَّا يُسْتَقْبَل فَلَا يَفْعَلهُ , أَوْ عَلَى فِعْل أَلَّا يَفْعَلهُ فِيمَا يُسْتَقْبَل فَيَفْعَلهُ .
وَفِي الْمَسْأَلَة قَوْل ثَانٍ وَهُوَ أَنْ يُكَفِّر وَإِنْ أَثِمَ وَعَمَدَ الْحَلِف بِاَللَّهِ كَاذِبًا ; هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ . قَالَ أَبُو بَكْر : وَلَا نَعْلَم خَبَرًا يَدُلّ عَلَى هَذَا الْقَوْل , وَالْكِتَاب وَالسُّنَّة دَالَّانِ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَجْعَلُوا اللَّه عُرْضَة لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْن النَّاس " [ الْبَقَرَة : 224 ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الرَّجُل يَحْلِف أَلَّا يَصِل قَرَابَته فَجَعَلَ اللَّه لَهُ مَخْرَجًا فِي التَّكْفِير , وَأَمَرَهُ أَلَّا يَعْتَلّ بِاَللَّهِ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه , وَالْأَخْبَار دَالَّة عَلَى أَنَّ الْيَمِين الَّتِي يَحْلِف بِهَا الرَّجُل يَقْتَطِع بِهَا مَالًا حَرَامًا هِيَ أَعْظَم مِنْ أَنْ يُكَفِّرهَا مَا يُكَفِّر الْيَمِين . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْآيَة وَرَدَتْ بِقِسْمَيْنِ : لَغْو وَمُنْعَقِدَة , وَخَرَجَتْ عَلَى الْغَالِب فِي أَيْمَان النَّاس فَدَعْ مَا بَعْدهَا يَكُون مِائَة قِسْم فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّق عَلَيْهِ كَفَّارَة . قُلْت : خَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَا الْكَبَائِر ؟ قَالَ : ( الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ ) قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ( عُقُوق الْوَالِدَيْنِ ) قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ( الْيَمِين الْغَمُوس ) قُلْت : وَمَا الْيَمِين الْغَمُوس ؟ قَالَ : ( الَّتِي يَقْتَطِع بِهَا مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم هُوَ فِيهَا كَاذِب ) , وَخَرَّجَ مُسْلِم عَنْ أَبِي أُمَامَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِقْتَطَعَ حَقّ اِمْرِئٍ مُسْلِم بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه لَهُ النَّار وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّة ) فَقَالَ رَجُل : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك ) , وَمِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين صَبْر يَقْتَطِع بِهَا مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم هُوَ فِيهَا فَاجِر لَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ) . فَنَزَلَتْ " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه وَأَيْمَانهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا " [ آل عِمْرَان : 77 ] إِلَى آخِر الْآيَة وَلَمْ يَذْكُر كَفَّارَة , فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ كَفَّارَة لَسَقَطَ جُرْمه , وَلَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ , وَلَمْ يَسْتَحِقّ الْوَعِيد الْمُتَوَعَّد عَلَيْهِ ; وَكَيْفَ لَا يَكُون ذَلِكَ وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَالِف الْكَذِب , وَاسْتِحْلَال مَال الْغَيْر , وَالِاسْتِخْفَاف بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَالتَّهَاوُن بِهَا وَتَعْظِيم الدُّنْيَا ؟ فَأَهَانَ مَا عَظَّمَهُ اللَّه , وَعَظَّمَ مَا حَقَّرَهُ اللَّه وَحَسْبك , وَلِهَذَا قِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ الْيَمِين الْغَمُوس غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِس صَاحِبهَا فِي النَّار . الثَّالِثَة : الْحَالِف بِأَلَّا يَفْعَل عَلَى بِرّ مَا لَمْ يَفْعَل , فَإِنْ فَعَلَ حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَة لِوُجُودِ الْمُخَالَفَة مِنْهُ ; وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ إِنْ فَعَلْت , وَإِذَا حَلَفَ بِأَنْ لَيَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ فِي الْحَال عَلَى حِنْث لِوُجُودِ الْمُخَالَفَة , فَإِنْ فَعَلَ بَرَّ , وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ إِنْ لَمْ أَفْعَل . الرَّابِعَة : قَوْل الْحَالِف : لَأَفْعَلَنَّ ; وَإِنْ لَمْ أَفْعَل , بِمَنْزِلَةِ الْأَمْر وَقَوْله : لَا أَفْعَل , وَإِنْ فَعَلْت , بِمَنْزِلَةِ النَّهْي . فَفِي الْأَوَّل لَا يَبَرّ حَتَّى يَفْعَل جَمِيع الْمَحْلُوف عَلَيْهِ : مِثَاله لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيف فَأَكَلَ بَعْضه لَا يَبَرّ حَتَّى يَأْكُل جَمِيعه : لِأَنَّ كُلّ جُزْء مِنْهُ مَحْلُوف عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ : وَاَللَّه لَآكُلَنَّ - مُطْلَقًا - فَإِنَّهُ يَبَرّ بِأَقَلّ جُزْء مِمَّا يَقَع عَلَيْهِ الِاسْم ; لِإِدْخَالِ مَاهِيَّة الْأَكْل فِي الْوُجُود . وَأَمَّا فِي النَّهْي فَإِنَّهُ يَحْنَث بِأَقَلّ مَا يَنْطَلِق عَلَيْهِ الِاسْم ; لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَلَّا يَدْخُل فَرْد مِنْ أَفْرَاد الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْوُجُود ; فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَدْخُل دَارًا فَأَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَنِثَ ; وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّا وَجَدْنَا الشَّارِع غَلَّظَ جِهَة التَّحْرِيم بِأَوَّلِ الِاسْم فِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ " [ النِّسَاء : 22 ] ; فَمَنْ عَقَدَ عَلَى اِمْرَأَة وَلَمْ يَدْخُل بِهَا حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنه , وَلَمْ يَكْتَفِ فِي جِهَة التَّحْلِيل بِأَوَّلِ الِاسْم فَقَالَ : ( لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته ) .
الْخَامِسَة : الْمَحْلُوف بِهِ هُوَ اللَّه سُبْحَانه وَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى , كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيم وَالسَّمِيع وَالْعَلِيم وَالْحَلِيم , وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاته الْعُلْيَا , كَعِزَّتِهِ وَقُدْرَته وَعِلْمه وَإِرَادَته وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَته وَعَهْده وَمِيثَاقه وَسَائِر صِفَات ذَاته ; لِأَنَّهَا يَمِين بِقَدِيمٍ غَيْر مَخْلُوق , فَكَانَ الْحَالِف بِهَا كَالْحَالِفِ بِالذَّاتِ . رَوَى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمَا أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْجَنَّة وَرَجَعَ إِلَى اللَّه تَعَالَى قَالَ : وَعِزَّتك لَا يَسْمَع بِهَا أَحَد إِلَّا دَخَلَهَا , وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النَّار : وَعِزَّتك لَا يَسْمَع بِهَا أَحَد فَيَدْخُلهَا , وَخَرَّجَا أَيْضًا وَغَيْرهمَا عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كَانَتْ يَمِين النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا وَمُقَلِّب الْقُلُوب ) وَفَى رِوَايَة ( لَا وَمُصَرِّف الْقُلُوب ) وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : وَاَللَّه أَوْ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ فَحَنِثَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَانَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو عُبَيْد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي يَقُولُونَ : مَنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاء اللَّه وَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة , وَبِهِ نَقُول وَلَا أَعْلَم فِي ذَلِكَ خِلَافًا . قُلْت : قَدْ نُقِلَ ( فِي بَاب ذِكْر الْحَلِف بِالْقُرْآنِ ) ; وَقَالَ يَعْقُوب : مَنْ حَلَفَ بِالرَّحْمَنِ فَحَنِثَ فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ . قُلْت : وَالرَّحْمَن مِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانه مُجْمَع عَلَيْهِ وَلَا خِلَاف فِيهِ . السَّادِسَة : وَاخْتَلَفُوا فِي وَحَقّ اللَّه وَعَظَمَة اللَّه وَقُدْرَة اللَّه وَعِلْم اللَّه وَلَعَمْر اللَّه وَايْم اللَّه ; فَقَالَ مَالِك : كُلّهَا أَيْمَان تَجِب فِيهَا الْكَفَّارَة , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : فِي وَحَقّ اللَّه وَجَلَال اللَّه وَعَظَمَة اللَّه وَقُدْرَة اللَّه , يَمِين إِنْ نَوَى بِهَا الْيَمِين , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الْيَمِين فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِل وَحَقّ اللَّه وَاجِب وَقُدْرَته مَاضِيَة , وَقَالَ فِي أَمَانَة اللَّه : لَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَلَعَمْر اللَّه وَايْم اللَّه إِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْيَمِين فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي إِذَا قَالَ : وَعَظَمَة اللَّه وَعِزَّة اللَّه وَجَلَال اللَّه وَكِبْرِيَاء اللَّه وَأَمَانَة اللَّه فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة , وَقَالَ الْحَسَن فِي وَحَقّ اللَّه : لَيْسَتْ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَة فِيهَا ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة حَكَاهُ عَنْهُ الرَّازِيّ , وَكَذَلِكَ عَهْد اللَّه وَمِيثَاقه وَأَمَانَته لَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَقَالَ بَعْض أَصْحَابه هِيَ يَمِين , وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : لَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَكَذَا إِذَا قَالَ : وَعِلْم اللَّه لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَة , وَخَالَفَهُ صَاحِبه أَبُو يُوسُف فَقَالَ : يَكُون يَمِينًا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْم قَدْ يَنْطَلِق عَلَى الْمَعْلُوم وَهُوَ الْمُحْدَث فَلَا يَكُون يَمِينًا , وَذَهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَة تَنْطَلِق عَلَى الْمَقْدُور , فَكُلّ كَلَام لَهُ فِي الْمَقْدُور فَهُوَ حُجَّتنَا فِي الْمَعْلُوم . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَايْم اللَّه إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ ) فِي قِصَّة زَيْد وَابْنه أُسَامَة , وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : وَاَيْم اللَّه ; وَكَذَلِكَ قَالَ اِبْن عُمَر , وَقَالَ إِسْحَاق : إِذَا أَرَادَ بِاَيْم اللَّه يَمِينًا كَانَتْ يَمِينًا بِالْإِرَادَةِ وَعَقْد الْقَلْب . السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلِف بِالْقُرْآنِ ; فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَة يَمِين ; وَبِهِ قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَابْن الْمُبَارَك , وَقَالَ أَحْمَد : مَا أَعْلَم شَيْئًا يَدْفَعهُ , وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : يَكُون يَمِينًا وَاحِدَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَكَانَ قَتَادَة يَحْلِف بِالْمُصْحَفِ , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق لَا نَكْرَه ذَلِكَ . الثَّامِنَة : لَا تَنْعَقِد الْيَمِين بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاته , وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : إِذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْعَقَدَتْ يَمِينه ; لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمّ الْإِيمَان إِلَّا بِهِ فَتَلْزَمهُ الْكَفَّارَة كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ , وَهَذَا يَرُدّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي رَكْب وَعُمَر يَحْلِف بِأَبِيهِ , فَنَادَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَا إِنَّ اللَّه يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت ) وَهَذَا حَصْر فِي عَدَم الْحَلِف بِكُلِّ شَيْء سِوَى اللَّه تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاته كَمَا ذَكَرْنَا , وَمِمَّا يُحَقِّق ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ وَلَا تَحْلِفُوا بِاَللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ ) ثُمَّ يُنْتَقَض عَلَيْهِ بِمَنْ قَالَ : وَآدَم وَإِبْرَاهِيم فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمّ الْإِيمَان إِلَّا بِهِ .
التَّاسِعَة : رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفه بِاللَّاتِ فَلْيَقُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرك فَلْيَتَصَدَّقْ ) . وَخَرَّجَ النَّسَائِيّ عَنْ مُصْعَب بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا نَذْكُر بَعْض الْأَمْر وَأَنَا حَدِيث عَهْد بِالْجَاهِلِيَّةِ فَحَلَفْت بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى , فَقَالَ لِي بَعْض أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِئْسَ مَا قُلْت : وَفِي رِوَايَة قُلْت هُجْرًا ; فَأَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : ( قُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير وَانْفُثْ عَنْ يَسَارك ثَلَاثًا وَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان ثُمَّ لَا تَعُدْ ) . قَالَ الْعُلَمَاء : فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَطَقَ بِذَلِكَ أَنْ يَقُول بَعْده لَا إِلَه إِلَّا اللَّه تَكْفِيرًا لِتِلْكَ اللَّفْظَة , وَتَذْكِيرًا مِنْ الْغَفْلَة , وَإِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ , وَخَصَّ اللَّات بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَر مَا كَانَتْ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتهمْ , وَحُكْم غَيْرهَا مِنْ أَسْمَاء آلِهَتهمْ حُكْمهَا إِذْ لَا فَرْق بَيْنهَا , وَكَذَا مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ : تَعَالَ أُقَامِرك فَلْيَتَصَدَّقْ فَالْقَوْل فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي اللَّات ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا اِعْتَادُوا الْمُقَامَرَة وَهِيَ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِلِ . الْعَاشِرَة : قَالَ أَبُو حَنِيفَة فِي الرَّجُل يَقُول : هُوَ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ أَوْ بَرِيء مِنْ الْإِسْلَام أَوْ مِنْ النَّبِيّ أَوْ مِنْ الْقُرْآن أَوْ أُشْرِكُ بِاَللَّهِ أَوْ أَكْفُرُ بِاَللَّهِ : إِنَّهَا يَمِين تَلْزَم فِيهَا الْكَفَّارَة , وَلَا تَلْزَم فِيمَا إِذَا قَالَ : وَالْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَالنَّبِيّ وَالْكَعْبَة وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صِيغَة الْأَيْمَان , وَمُتَمَسَّكه مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي رَافِع أَنَّ مَوْلَاته أَرَادَتْ أَنْ تُفَرِّق بَيْنه وَبَيْن اِمْرَأَته فَقَالَتْ : هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّة , وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّة , وَكُلّ مَمْلُوك لَهَا حُرّ ; وَكُلّ مَال لَهَا فِي سَبِيل اللَّه , وَعَلَيْهَا مَشْي إِلَى بَيْت اللَّه إِنْ لَمْ تُفَرِّق بَيْنهمَا , فَسَأَلَتْ عَائِشَة وَحَفْصَة وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَأُمّ سَلَمَة فَكُلّهمْ قَالَ لَهَا : أَتُرِيدِينَ أَنْ تَكُونِي مِثْل هَارُوت وَمَارُوت ؟ وَأَمَرُوهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْ يَمِينهَا وَتُخَلِّي بَيْنهمَا , وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : قَالَتْ مَوْلَاتِي لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنك وَبَيْن اِمْرَأَتك , وَكُلّ مَال لَهَا فِي رِتَاج الْكَعْبَة وَهِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّة وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّة وَيَوْمًا مَجُوسِيَّة إِنْ لَمْ أُفَرِّق بَيْنك وَبَيْن اِمْرَأَتك ; قَالَ : فَانْطَلَقْت إِلَى أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أُمّ سَلَمَة فَقُلْت : إِنَّ مَوْلَاتِي تُرِيد أَنْ تُفَرِّق بَيْنِي وَبَيْن اِمْرَأَتِي ; فَقَالَتْ اِنْطَلِقْ إِلَى مَوْلَاتك فَقُلْ لَهَا : إِنَّ هَذَا لَا يَحِلّ لَك ; قَالَ : فَرَجَعْت إِلَيْهَا ; قَالَ ثُمَّ أَتَيْت اِبْن عُمَر فَأَخْبَرْته فَجَاءَ حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى الْبَاب فَقَالَ : هَاهُنَا هَارُوت وَمَارُوت ; فَقَالَتْ : إِنِّي جَعَلْت كُلّ مَال لِي فِي رِتَاج الْكَعْبَة . قَالَ : فَمِمَّ تَأْكُلِينَ ؟ قَالَتْ : وَقُلْت أَنَا يَوْمًا يَهُودِيَّة وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّة وَيَوْمًا مَجُوسِيَّة ; فَقَالَ : إِنْ تَهَوَّدْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَنَصَّرْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَمَجَّسْتِ قُتِلْتِ ; قَالَتْ : فَمَا تَأْمُرنِي ؟ قَالَ : تُكَفِّرِينَ عَنْ يَمِينك , وَتَجْمَعِينَ بَيْن فَتَاك وَفَتَاتك , وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْحَالِف إِذَا قَالَ : أُقْسِم بِاَللَّهِ أَنَّهَا يَمِين , وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ أُقْسِم أَوْ أَشْهَد لَيَكُونَنَّ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهَا تَكُون أَيْمَانًا عِنْد مَالِك إِذَا أَرَادَ بِاَللَّهِ , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِاَللَّهِ لَمْ تَكُنْ أَيْمَانًا تُكَفَّر , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيّ : هِيَ أَيْمَان فِي الْمَوْضِعَيْنِ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا تَكُون أَيْمَانًا حَتَّى يَذْكُر اِسْم اللَّه تَعَالَى ; هَذِهِ رِوَايَة الْمُزَنِيّ عَنْهُ , وَرَوَى عَنْهُ الرَّبِيع مِثْل قَوْل مَالِك . الْحَادِيَة عَشْرَة : إِذَا قَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك لَتَفْعَلَنَّ ; فَإِنْ أَرَادَ سُؤَاله فَلَا كَفَّارَة فِيهِ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ; وَإِنْ أَرَادَ الْيَمِين كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا . الثَّانِيَة عَشْرَة : مَنْ حَلَفَ بِمَا يُضَاف إِلَى اللَّه تَعَالَى مِمَّا لَيْسَ بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ : وَخَلْق اللَّه وَرِزْقه وَبَيْته لَا شَيْء عَلَيْهِ ; لِأَنَّهَا أَيْمَان غَيْر جَائِزَة , وَحَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى .
الثَّالِثَة عَشْرَة : إِذَا اِنْعَقَدَتْ الْيَمِين حَلَّتْهَا الْكَفَّارَة أَوْ الِاسْتِثْنَاء , وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : الِاسْتِثْنَاء بَدَل عَنْ الْكَفَّارَة وَلَيْسَتْ حَلًّا لِلْيَمِينِ . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : هِيَ حَلّ لِلْيَمِينِ ; وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ مَذْهَب فُقَهَاء الْأَمْصَار وَهُوَ الصَّحِيح ; وَشَرْطه أَنْ يَكُون مُتَّصِلًا مَنْطُوقًا بِهِ لَفْظًا ; لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ مَضَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ عَنْ غَيْر حِنْث ) فَإِنْ نَوَاهُ مِنْ غَيْر نُطْق أَوْ قَطَعَهُ مِنْ غَيْر عُذْر لَمْ يَنْفَعهُ , وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْمَوَّاز : يَكُون الِاسْتِثْنَاء مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اِعْتِقَادًا وَلَوْ بِآخِرِ حَرْف ; قَالَ : فَإِنْ فَرَغَ مِنْهَا وَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْيَمِين فَرَغَتْ عَارِيَة مِنْ الِاسْتِثْنَاء , فَوُرُودهَا بَعْده لَا يُؤَثِّر كَالتَّرَاخِي ; وَهَذَا يَرُدّهُ الْحَدِيث ( مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى ) وَالْفَاء , لِلتَّعْقِيبِ وَعَلَيْهِ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم , وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا تَنْحَلّ يَمِين اُبْتُدِئَ عَقْدهَا وَذَلِكَ بَاطِل , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا مَتَى اِسْتَثْنَى فِي نَفْسه تَخْصِيص مَا حَلَفَ عَلَيْهِ , فَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : يَصِحّ اِسْتِثْنَاؤُهُ وَقَدْ ظَلَمَ الْمَحْلُوف لَهُ . وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يَصِحّ حَتَّى يُسْمِع الْمَحْلُوف لَهُ , وَقَالَ بَعْضهمْ : يَصِحّ إِذَا حَرَّكَ بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُسْمِع الْمَحْلُوف لَهُ . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَإِنَّمَا قُلْنَا يَصِحّ اِسْتِثْنَاؤُهُ فِي نَفْسه , فَلِأَنَّ الْأَيْمَان تُعْتَبَر بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحّ ذَلِكَ حَتَّى يُحَرِّك بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ , فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُحَرِّك بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا , وَالِاسْتِثْنَاء مِنْ الْكَلَام يَقَع بِالْكَلَامِ دُون غَيْره ; وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحّ بِحَالٍ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حَقّ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ , وَإِنَّمَا يَقَع عَلَى حَسَب مَا يَسْتَوْفِيه لَهُ الْحَاكِم , فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الْيَمِين عَلَى اِخْتِيَار الْحَالِف بَلْ كَانَتْ مُسْتَوْفَاة مِنْهُ , وَجَبَ أَلَّا يَكُون لَهُ فِيهَا حُكْم , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يُدْرِك الِاسْتِثْنَاء الْيَمِين بَعْد سَنَة ; وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَالِيَة وَالْحَسَن وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر " [ الْفُرْقَان : 68 ] الْآيَة ; فَلَمَّا كَانَ بَعْد عَام نَزَلَ " إِلَّا مَنْ تَابَ " [ مَرْيَم : 60 ] , وَقَالَ مُجَاهِد : مَنْ قَالَ بَعْد سَنَتَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّه أَجْزَأَهُ , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : إِنْ اِسْتَثْنَى بَعْد أَرْبَعَة أَشْهُر أَجْزَأَهُ , وَقَالَ طَاوُس : لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا دَامَ فِي مَجْلِسه , وَقَالَ قَتَادَة : إِنْ اِسْتَثْنَى قَبْل أَنْ يَقُوم أَوْ يَتَكَلَّم فَلَهُ ثُنْيَاهُ . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق : يَسْتَثْنِي مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْأَمْر , وَقَالَ عَطَاء : لَهُ ذَلِكَ قَدْر حَلْب النَّاقَة الْغَزِيرَة . الرَّابِعَة عَشْرَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ اِبْن عَبَّاس مِنْ الْآيَة فَلَا مُتَعَلَّق لَهُ فِيهَا ; لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي عِلْم اللَّه وَفِي لَوْحه , وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولهَا لِحِكْمَةٍ عَلِمَ اللَّه ذَلِكَ فِيهَا , أَمَا إِنَّهُ يَتَرَكَّب عَلَيْهَا فَرْع حَسَن ; وَهُوَ أَنَّ الْحَالِف إِذَا قَالَ وَاَللَّه لَا دَخَلْت الدَّار , وَأَنْتِ طَالِق إِنْ دَخَلْت الدَّار , وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينه الْأَوَّل إِنْ شَاءَ اللَّه فِي قَلْبه , وَاسْتَثْنَى فِي الْيَمِين الثَّانِيَة فِي قَلْبه أَيْضًا مَا يَصْلُح لِلِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَع الْيَمِين لِمُدَّةٍ أَوْ سَبَب أَوْ مَشِيئَة أَحَد , وَلَمْ يُظْهِر شَيْئًا مِنْ الِاسْتِثْنَاء إِرْهَابًا عَلَى الْمَحْلُوف لَهُ , فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعهُ وَلَا تَنْعَقِد الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ ; وَهَذَا فِي الطَّلَاق مَا لَمْ تَحْضُرهُ الْبَيِّنَة ; فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَة لَمْ تُقْبَل مِنْهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاء , وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا . قُلْت : وَجْه الِاسْتِثْنَاء أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَظْهَرَ الْآيَة الْأُولَى وَأَخْفَى الثَّانِيَة , فَكَذَلِكَ الْحَالِف إِذَا حَلَفَ إِرْهَابًا وَأَخْفَى الِاسْتِثْنَاء , وَاللَّه أَعْلَمُ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَانَ أَبُو الْفَضْل الْمَرَاغِيّ يَقْرَأ بِمَدِينَةِ السَّلَام , وَكَانَتْ الْكُتُب تَأْتِي إِلَيْهِ مِنْ بَلَده , فَيَضَعهَا فِي صُنْدُوق وَلَا يَقْرَأ مِنْهَا وَاحِدًا مَخَافَة أَنْ يَطَّلِع فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجهُ وَيُقْطَع بِهِ عَنْ طَلَبه ; فَلَمَّا كَانَ بَعْد خَمْسَة أَعْوَام وَقَضَى غَرَضًا مِنْ الطَّلَب وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيل , شَدَّ رَحْله وَأَبْرَزَ كُتُبه وَأَخْرَجَ تِلْكَ الرَّسَائِل , فَقَرَأَ فِيهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا يَقْرَؤُهُ بَعْد وُصُوله مَا تَمَكَّنَ بَعْده مِنْ تَحْصِيل حَرْف مِنْ الْعِلْم , فَحَمِدَ اللَّه وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّة قُمَاشه وَخَرَجَ إِلَى بَاب الْحَلْبَة طَرِيق خُرَاسَان , وَتَقَدَّمَهُ الْكَرِيّ بِالدَّابَّةِ وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيّ يَبْتَاع مِنْهُ سُفْرَته , فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاوِل ذَلِكَ مَعَهُ إِذْ سَمِعَهُ يَقُول لِفَامِيٍّ آخَر : أَمَا سَمِعْت الْعَالِم يَقُول - يَعْنِي الْوَاعِظ - إِنَّ اِبْن عَبَّاس يُجَوِّز الِاسْتِثْنَاء وَلَوْ بَعْد سَنَة , لَقَدْ اِشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَالِي مُنْذُ سَمِعْته فَظَلِلْت فِيهِ مُتَفَكِّرًا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى لِأَيُّوب : " وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَث " [ ص : 44 ] وَمَا الَّذِي يَمْنَعهُ مِنْ أَنْ يَقُول : قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّه ! فَلَمَّا سَمِعَهُ يَقُول ذَلِكَ قَالَ : بَلَد يَكُون فِيهِ الْفَامِيُّونَ بِهَذَا الْحَظّ مِنْ الْعِلْم وَهَذِهِ الْمَرْتَبَة أَخْرُج عَنْهُ إِلَى الْمَرَاغَة ؟ لَا أَفْعَلهُ أَبَدًا ; وَاقْتَفَى أَثَر الْكَرِيّ وَحَلَّلَهُ مِنْ الْكِرَاء وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ . الْخَامِسَة عَشْرَة : الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَرْفَع الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى إِذْ هِيَ رُخْصَة مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَلَا خِلَاف فِي هَذَا , وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاء فِي الْيَمِين بِغَيْرِ اللَّه ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : الِاسْتِثْنَاء يَقَع فِي كُلّ يَمِين كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاق وَغَيْر ذَلِكَ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى : قَالَ أَبُو عُمَر : مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقّ , وَإِنَّمَا وَرَدَ التَّوْقِيف بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا فِي غَيْر ذَلِكَ .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث هَلْ تُجْزِئ أَمْ لَا ؟ - بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّ الْحِنْث قَبْل الْكَفَّارَة مُبَاح حَسَن وَهُوَ عِنْدهمْ أَوْلَى - عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : أَحَدهَا : يُجْزِئ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَب أَرْبَعَة عَشَر مِنْ الصَّحَابَة وَجُمْهُور الْفُقَهَاء وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالِك , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا يُجْزِئ بِوَجْهٍ , وَهِيَ رِوَايَة أَشْهَب عَنْ مَالِك ; وَجْه الْجَوَاز مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِنِّي وَاَللَّه إِنْ شَاءَ اللَّه لَا أَحْلِف عَلَى يَمِين فَأَرَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْر ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد ; وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ الْيَمِين سَبَب الْكَفَّارَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " ذَلِكَ كَفَّارَة أَيْمَانكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ " فَأَضَافَ الْكَفَّارَة إِلَى الْيَمِين وَالْمَعَانِي تُضَاف إِلَى أَسْبَابهَا ; وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَفَّارَة بَدَل عَنْ الْبِرّ فَيَجُوز تَقْدِيمهَا قَبْل الْحِنْث . وَوَجْه الْمَنْع مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين ثُمَّ رَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر ) زَادَ النَّسَائِيّ ( وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه ) وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ الْكَفَّارَة إِنَّمَا هِيَ لِرَفْعِ الْإِثْم , وَمَا لَمْ يَحْنَث لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُرْفَع فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا ; وَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " إِذَا حَلَفْتُمْ " أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ , وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلّ عِبَادَة فُعِلَتْ قَبْل وُجُوبهَا لَمْ تَصِحّ اِعْتِبَارًا بِالصَّلَوَاتِ وَسَائِر الْعِبَادَات , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُجْزِئ بِالْإِطْعَامِ وَالْعِتْق وَالْكِسْوَة , وَلَا تُجْزِئ بِالصَّوْمِ ; لِأَنَّ عَمَل الْبَدَن لَا يَقُوم قَبْل وَقْته , وَيُجْزِئ فِي غَيْر ذَلِكَ تَقْدِيم الْكَفَّارَة ; وَهُوَ الْقَوْل الثَّالِث . ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه فِي الْكَفَّارَة الْخِلَال الثَّلَاث فَخَيَّرَ فِيهَا , وَعَقَّبَ عِنْد عَدَمهَا بِالصِّيَامِ , وَبَدَأَ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَفْضَل فِي بِلَاد الْحِجَاز لِغَلَبَةِ الْحَاجَة إِلَيْهِ وَعَدَم شِبَعهمْ , وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ كَفَّارَة الْيَمِين عَلَى التَّخْيِير ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا تَكُون بِحَسَبِ الْحَال ; فَإِنْ عَلِمْت مُحْتَاجًا فَالطَّعَام أَفْضَل ; لِأَنَّك إِذَا أَعْتَقْت لَمْ تَدْفَع حَاجَتهمْ وَزِدْت مُحْتَاجًا حَادِيَ عَشَرَ إِلَيْهِمْ , وَكَذَلِكَ الْكِسْوَة تَلِيه , وَلَمَّا عَلِمَ اللَّه الْحَاجَة بَدَأَ بِالْمُقَدَّمِ الْمُهِمّ . قَوْله تَعَالَى : " فَكَفَّارَته " الضَّمِير عَلَى الصِّنَاعَة النَّحْوِيَّة عَائِدًا عَلَى ( مَا ) وَيَحْتَمِل فِي هَذَا الْمَوْضِع أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الَّذِي , وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون مَصْدَرِيَّة . أَوْ يَعُود عَلَى إِثْم الْحِنْث وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر صَرِيح وَلَكِنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيه .
لَا بُدّ عِنْدنَا وَعِنْد الشَّافِعِيّ مِنْ تَمْلِيك الْمَسَاكِين مَا يُخْرَج لَهُمْ , وَدَفْعه إِلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَهُوَ يُطْعِم وَلَا يُطْعَم " [ الْأَنْعَام : 14 ] وَفِي الْحَدِيث ( أَطْعَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدّ السُّدُس ) ; وَلِأَنَّهُ أَحَد نَوْعَيْ الْكَفَّارَة فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا إِلَّا التَّمْلِيك ; أَصْله الْكِسْوَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ ; وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن الْمَاجِشُون مِنْ عُلَمَائِنَا ; قَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : إِنَّ التَّمْكِين مِنْ الطَّعَام إِطْعَام , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبّه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا " [ الْإِنْسَان : 8 ] فَبِأَيِّ وَجْه أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَة .
فِيهِ سَبْع مَسَائِل : الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " أَنَّ الْوَسَط بِمَعْنَى الْأَعْلَى وَالْخِيَار , وَهُوَ هُنَا مَنْزِلَة بَيْن مَنْزِلَتَيْنِ وَنَصَفٌ بَيْن طَرَفَيْنِ , وَمِنْهُ الْحَدِيث ( خَيْر الْأُمُور أَوْسَطهَا ) , وَخَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ ; حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى , حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ , حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة , عَنْ سُلَيْمَان بْن أَبِي الْمُغِيرَة , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ الرَّجُل يَقُوت أَهْله قُوتًا فِيهِ سَعَة وَكَانَ الرَّجُل يَقُوت أَهْله قُوتًا فِيهِ شِدَّة ; فَنَزَلَتْ : " مِنْ أَوْسَط مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ " , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْوَسَط مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ مَا كَانَ بَيْن شَيْئَيْنِ .
الْإِطْعَام عِنْد مَالِك مُدّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْ الْمَسَاكِين الْعَشَرَة , إِنْ كَانَ بِمَدِينَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَهْل الْمَدِينَة . قَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار : أَدْرَكْت النَّاس وَهُمْ إِذَا أَعْطَوْا فِي كَفَّارَة الْيَمِين أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَة بِالْمُدِّ الْأَصْغَر , وَرَأَوْا ذَلِكَ مُجْزِئًا عَنْهُمْ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَزَيْد بْن ثَابِت وَبِهِ قَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , وَاخْتُلِفَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِهَا ; فَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُجْزِئهُ الْمُدّ بِكُلِّ مَكَان , وَقَالَ اِبْن الْمَوَّاز : أَفْتَى اِبْن وَهْب بِمِصْر بِمُدٍّ وَنِصْف , وَأَشْهَب بِمُدٍّ وَثُلُث ; قَالَ : وَإِنَّ مُدًّا وَثُلُثًا لَوَسَطٌ مِنْ عَيْش الْأَمْصَار فِي الْغَدَاء وَالْعَشَاء , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُخْرِج مِنْ الْبُرّ نِصْف صَاع , وَمِنْ التَّمْر وَالشَّعِير صَاعًا ; عَلَى حَدِيث عَبْد اللَّه بْن ثَعْلَبَة بْن صُعَيْر عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْر صَاع مِنْ تَمْر , أَوْ صَاع مِنْ شَعِير عَنْ كُلّ رَأْس , أَوْ صَاع بُرّ بَيْن اِثْنَيْنِ , وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَان وَابْن الْمُبَارَك , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَعُمَر وَابْن عُمَر وَعَائِشَة , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب , وَهُوَ قَوْل عَامَّة فُقَهَاء الْعِرَاق ; لِمَا رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَفَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْر وَأَمَرَ النَّاس بِذَلِكَ , فَمَنْ لَمْ يَجِد فَنِصْف صَاع مِنْ بُرّ مِنْ أَوْسَط مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ; خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه .
الثَّانِيَة : لَا يَجُوز أَنْ يُطْعِم غَنِيًّا وَلَا ذَا رَحِم تَلْزَمهُ نَفَقَته , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَلْزَمهُ نَفَقَته فَقَدْ قَالَ مَالِك : لَا يُعْجِبنِي أَنْ يُطْعِمهُ , وَلَكِنْ إِنْ فَعَلَ وَكَانَ فَقِيرًا أَجْزَأَهُ , فَإِنْ أَطْعَمَ غَنِيًّا جَاهِلًا بِغِنَاهُ فَفِي " الْمُدَوَّنَة " وَغَيْر كِتَاب لَا يُجْزِئ , وَفِي " الْأَسَدِيَّة " أَنَّهُ يُجْزِئ . الثَّالِثَة : وَيُخْرِج الرَّجُل مِمَّا يَأْكُل ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ زَلَّتْ هُنَا جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء فَقَالُوا : إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَأْكُل الشَّعِير وَيَأْكُل النَّاس الْبُرّ فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُل النَّاس ; وَهَذَا سَهْو بَيِّن فَإِنَّ الْمُكَفِّر إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّة نَفْسه إِلَّا الشَّعِير لَمْ يُكَلَّف أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ ; وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَاعًا مِنْ طَعَام صَاعًا مِنْ شَعِير ) فَفَصَّلَ ذِكْرهمَا لِيُخْرِج كُلّ أَحَد فَرْضه مِمَّا يَأْكُل ; وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاء فِيهِ . الرَّابِعَة : قَالَ مَالِك : إِنْ غَدَّى عَشَرَة مَسَاكِين وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز أَنْ يُطْعِمَهُمْ جُمْلَة وَاحِدَة ; لِأَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْأَكْل , وَلَكِنْ يُعْطِي كُلّ مِسْكِين مُدًّا , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَا يُجْزِئ إِطْعَام الْعَشَرَة وَجْبَة وَاحِدَة ; يَعْنِي غَدَاء دُون عَشَاء , أَوْ عَشَاء دُون غَدَاء , حَتَّى يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ ; قَالَ أَبُو عُمَر : وَهُوَ قَوْل أَئِمَّة الْفَتْوَى بِالْأَمْصَارِ . الْخَامِسَة : قَالَ اِبْن حَبِيب : وَلَا يُجْزِئ الْخُبْز قَفَارًا بَلْ يُعْطِي مَعَهُ إِدَامه زَيْتًا أَوْ كَشْكًا أَوْ كَامَخًا أَوْ مَا تَيَسَّرَ ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ زِيَادَة مَا أَرَاهَا وَاجِبَة أَمَّا إِنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يُطْعِم مَعَ الْخُبْز السُّكَّر - نَعَمْ - وَاللَّحْم , وَأَمَّا تَعْيِين الْإِدَام لِلطَّعَامِ فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّفْظ لَا يَتَضَمَّنهُ . قُلْت : نُزُول الْآيَة فِي الْوَسَط يَقْتَضِي الْخُبْز وَالزَّيْت أَوْ الْخَلّ , وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْجُبْن وَالْكَشْك كَمَا قَالَ اِبْن حَبِيب , وَاللَّه أَعْلَمُ . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نِعْمَ الْإِدَام الْخَلّ ) وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : إِنْ أَطْعَمَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا , أَوْ خُبْزًا وَزَيْتًا مَرَّة وَاحِدَة فِي الْيَوْم حَتَّى يَشْبَعُوا أَجْزَأَهُ , وَهُوَ قَوْل اِبْن سِيرِينَ وَجَابِر بْن زَيْد وَمَكْحُول , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك .
السَّادِسَة : لَا يَجُوز عِنْدنَا دَفْع الْكَفَّارَة إِلَى مِسْكِين وَاحِد , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ , وَأَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة يَمْنَعُونَ صَرْف الْجَمِيع إِلَى وَاحِد دَفْعَة وَاحِدَة , وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا إِذَا صَرَفَ الْجَمِيع فِي يَوْم وَاحِد بِدَفَعَاتٍ مُخْتَلِفَة ; فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ , وَأَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ الْفِعْل حَسُنَ أَنْ يُقَال فِي الْفِعْل الثَّانِي لَا يُمْنَع مِنْ الَّذِي دُفِعَتْ إِلَيْهِ أَوَّلًا ; فَإِنَّ اِسْم الْمِسْكِين يَتَنَاوَلهُ , وَقَالَ آخَرُونَ : يَجُوز دَفْع ذَلِكَ إِلَيْهِ فِي أَيَّام , وَإِنَّ تَعَدُّد الْأَيَّام يَقُوم مَقَام أَعْدَاد الْمَسَاكِين , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُجْزِئهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَقْصُود مِنْ الْآيَة التَّعْرِيف بِقَدْرِ مَا يُطْعِم , فَلَوْ دَفَعَ ذَلِكَ الْقَدْر لِوَاحِدٍ أَجْزَأَهُ , وَدَلِيلنَا نَصّ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْعَشَرَة فَلَا يَجُوز الْعُدُول عَنْهُمْ , وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ إِحْيَاء جَمَاعَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكِفَايَتهمْ يَوْمًا وَاحِدًا , فَيَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِعِبَادَةِ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلِدُعَائِهِ , فَيَغْفِر لِلْمُكَفِّرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ . السَّابِعَة : " أَهْلِيكُمْ " هُوَ جَمْع أَهْل عَلَى السَّلَامَة , وَقَرَأَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصَّادِق : ( أَهَالِيكُمْ ) وَهَذَا جَمْع مُكَسَّر ; قَالَ أَبُو الْفَتْح : أَهَالٍ بِمَنْزِلَةِ لَيَالٍ وَاحِدهَا أَهْلَات وَلَيْلَات ; وَالْعَرَب تَقُول : أَهْل وَأَهْلَة . قَالَ الشَّاعِر : وَأَهْلَة وُدّ قَدْ تَبَرَّيْت وُدّهمْ وَأَبْلَيْتهُمْ فِي الْجَهْد حَمْدِي وَنَائِلِي يَقُول : تَعَرَّضْت لِوُدِّهِمْ ; قَالَ اِبْن السِّكِّيت .
قُرِئَ بِكَسْرِ الْكَاف وَضَمّهَا هُمَا لُغَتَانِ مِثْل إِسْوَة وَأُسْوَة . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع الْيَمَانِيّ : ( أَوْ كَإِسْوَتِهِمْ ) يَعْنِي كَإِسْوَة أَهْلك , وَالْكِسْوَة فِي حَقّ الرِّجَال الثَّوْب الْوَاحِد السَّاتِر لِجَمِيعِ الْجَسَد ; فَأَمَّا فِي حَقّ النِّسَاء فَأَقَلّ مَا يُجْزِئهُنَّ فِيهِ الصَّلَاة , وَهُوَ الدِّرْع وَالْخِمَار , وَهَكَذَا حُكْم الصِّغَار . قَالَ اِبْن الْقَاسِم فِي ( الْعُتْبِيَّة ) : تُكْسَى الصَّغِيرَة كِسْوَة كَبِيرَة , وَالصَّغِير كِسْوَة كَبِير , قِيَاسًا عَلَى الطَّعَام , وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ : أَقَلّ مَا يَقَع عَلَيْهِ الِاسْم وَذَلِكَ ثَوْب وَاحِد ; وَفِي رِوَايَة أَبِي الْفَرَج عَنْ مَالِك , وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَمُغِيرَة : مَا يَسْتُر جَمِيع الْبَدَن ; بِنَاء عَلَى أَنَّ الصَّلَاة لَا تُجْزِئ فِي أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : نِعْمَ الثَّوْب التُّبَّان ; أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيّ . وَقَالَ الْحَكَم بْن عُتَيْبَة تُجْزِئ عِمَامَة يَلُفّ بِهَا رَأْسه , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمَا كَانَ أَحْرَصنِي عَلَى أَنْ يُقَال : إِنَّهُ لَا يُجْزِئ إِلَّا كِسْوَة تَسْتُر عَنْ أَذَى الْحَرّ وَالْبَرْد كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ طَعَامًا يُشْبِعهُ مِنْ الرُّجُوع فَأَقُول بِهِ , وَأَمَّا الْقَوْل بِمِئْزَرٍ وَاحِد فَلَا أَدْرِيه ; وَاَللَّه يَفْتَح لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَة بِعَوْنِهِ . قُلْت : قَدْ رَاعَى قَوْم مَعْهُود الزِّيّ وَالْكِسْوَة الْمُتَعَارَفَة ; فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يُجْزِئ الثَّوْب الْوَاحِد إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِعًا مِمَّا قَدْ يُتَزَيَّا بِهِ كَالْكِسَاءِ وَالْمِلْحَفَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : الْكِسْوَة فِي كَفَّارَة الْيَمِين لِكُلِّ مِسْكِين ثَوْب وَإِزَار , أَوْ رِدَاء أَوْ قَمِيص أَوْ قَبَاء أَوْ كِسَاء , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُكْسَى عَنْهُ ثَوْبَيْنِ ثَوْبَيْنِ ; وَبِهِ قَالَ الْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَهَذَا مَعْنَى مَا اِخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَاللَّه أَعْلَمُ . لَا تُجْزِئ الْقِيمَة عَنْ الطَّعَام وَالْكِسْوَة ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : تُجْزِئ ; وَهُوَ يَقُول : تُجْزِئ الْقِيمَة فِي الزَّكَاة فَكَيْفَ فِي الْكَفَّارَة ! قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَعُمْدَته أَنَّ الْغَرَض سَدّ الْخَلَّة , وَرَفْع الْحَاجَة ; فَالْقِيمَة تُجْزِئ فِيهِ . قُلْنَا : إِنْ نَظَرْتُمْ إِلَى سَدّ الْخَلَّة فَأَيْنَ الْعِبَادَة ؟ وَأَيْنَ نَصّ الْقُرْآن عَلَى الْأَعْيَان الثَّلَاثَة , وَالِانْتِقَال بِالْبَيَانِ مِنْ نَوْع إِلَى نَوْع ؟ ! إِذَا دَفَعَ الْكِسْوَة إِلَى ذِمِّيّ أَوْ إِلَى عَبْد لَمْ يُجْزِهِ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُجْزِئهُ ; لِأَنَّهُ مِسْكِين يَتَنَاوَلهُ لَفْظ الْمَسْكَنَة , وَيَشْتَمِل عَلَيْهِ عُمُوم الْآيَة . قُلْنَا : هَذَا يَخُصّهُ بِأَنْ يَقُول جُزْء مِنْ الْمَال يَجِب إِخْرَاجه لِلْمَسَاكِينِ فَلَا يَجُوز دَفْعه لِلْكَافِرِ ; أَصْله الزَّكَاة ; وَقَدْ اِتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز دَفْعه لِلْمُرْتَدِّ ; فَكُلّ دَلِيل خُصَّ بِهِ الْمُرْتَدّ فَهُوَ دَلِيلنَا فِي الذِّمِّيّ , وَالْعَبْد لَيْسَ بِمِسْكِينٍ لِاسْتِغْنَائِهِ بِنَفَقَةِ سَيِّده فَلَا تُدْفَع إِلَيْهِ كَالْغَنِيِّ .
التَّحْرِير الْإِخْرَاج مِنْ الرِّقّ ; وَيُسْتَعْمَل فِي الْأَسْر وَالْمَشَقَّات وَتَعَب الدُّنْيَا وَنَحْوهَا , وَمِنْهُ قَوْل أُمّ مَرْيَم : " إِنِّي نَذَرْت لَك مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا " [ آل عِمْرَان : 35 ] أَيْ مِنْ شُغُوب الدُّنْيَا وَنَحْوهَا , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الْفَرَزْدَق بْن غَالِب : أَبَنِي غُدَانَة إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْن جِعَال أَيْ حَرَّرْتُكُمْ مِنْ الْهِجَاء , وَخَصَّ الرَّقَبَة مِنْ الْإِنْسَان , إِذْ هُوَ الْعُضْو الَّذِي يَكُون فِيهِ الْغُلّ وَالتَّوَثُّق غَالِبًا مِنْ الْحَيَوَان , فَهُوَ مَوْضِع الْمِلْك فَأُضِيفَ التَّحْرِير إِلَيْهَا . لَا يَجُوز عِنْدنَا إِلَّا إِعْتَاق رَقَبَة مُؤْمِنَة كَامِلَة لَيْسَ فِيهَا شِرْك لِغَيْرِهِ , وَلَا عَتَاقَة بَعْضهَا , وَلَا عِتْق إِلَى أَجَل , وَلَا كِتَابَة وَلَا تَدْبِير , وَلَا تَكُون أُمّ وَلَد وَلَا مَنْ يَعْتِق عَلَيْهِ إِذَا مَلَكَهُ , وَلَا يَكُون بِهَا مِنْ الْهَرَم وَالزَّمَانَة مَا يَضُرّ بِهَا فِي الِاكْتِسَاب , سَلِيمَة غَيْر مَعِيبَة ; خِلَافًا لِدَاوُدَ فِي تَجْوِيزه إِعْتَاق الْمَعِيبَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يَجُوز عِتْق الْكَافِرَة ; لِأَنَّ مُطْلَق اللَّفْظ يَقْتَضِيهَا . وَدَلِيلنَا أَنَّهَا قُرْبَة وَاجِبَة فَلَا يَكُون الْكَافِر مَحَلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ ; وَأَيْضًا فَكُلّ مُطْلَق فِي الْقُرْآن مِنْ هَذَا فَهُوَ رَاجِع إِلَى الْمُقَيَّد فِي عِتْق الرَّقَبَة فِي الْقَتْل الْخَطَأ . وَإِنَّمَا قُلْنَا : لَا يَكُون فِيهَا شِرْك , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَتَحْرِير رَقَبَة " [ النِّسَاء : 92 ] وَبَعْض الرَّقَبَة لَيْسَ بِرَقَبَةٍ . وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَكُون فِيهَا عَقْد عِتْق ; لِأَنَّ التَّحْرِير يَقْتَضِي اِبْتِدَاء عِتْق دُون تَنْجِيز عِتْق مُقَدَّم . وَإِنَّمَا قُلْنَا : سَلِيمَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَتَحْرِير رَقَبَة " وَالْإِطْلَاق يَقْتَضِي تَحْرِير رَقَبَة كَامِلَة وَالْعَمْيَاء نَاقِصَة , وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا مِنْ مُسْلِم يُعْتِق اِمْرَأً مُسْلِمًا إِلَّا كَانَ فِكَاكه مِنْ النَّار كُلّ عُضْو مِنْهُ بِعُضْوٍ مِنْهَا حَتَّى الْفَرْج بِالْفَرْجِ ) وَهَذَا نَصّ , وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَعْوَر قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَب , وَكَذَلِكَ فِي الْأَصَمّ وَالْخَصِيّ . مَنْ أَخْرَجَ مَالًا لِيُعْتِق رَقَبَة فِي كَفَّارَة فَتَلِفَ كَانَتْ الْكَفَّارَة بَاقِيَة عَلَيْهِ , بِخِلَافِ مُخْرِج الْمَال فِي الزَّكَاة لِيَدْفَعهُ إِلَى الْفُقَرَاء , أَوْ لِيَشْتَرِيَ بِهِ رَقَبَة فَتَلِفَ , لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْره لِامْتِثَالِ الْأَمْر . اِخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَة إِذَا مَاتَ الْحَالِف ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر : كَفَّارَات الْأَيْمَان تُخْرَج مِنْ رَأْس مَال الْمَيِّت , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : تَكُون فِي الثُّلُث ; وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِك إِنْ أَوْصَى بِهَا .
مَنْ حَلَفَ وَهُوَ مُوسِر فَلَمْ يُكَفِّر حَتَّى أَعْسَرَ , أَوْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِر فَلَمْ يُكَفِّر حَتَّى أَيْسَرَ , أَوْ حَنِثَ وَهُوَ عَبْد فَلَمْ يُكَفِّر حَتَّى عَتَقَ , فَالْمُرَاعَاة فِي ذَلِكَ كُلّه بِوَقْتِ التَّكْفِير لَا وَقْت الْحِنْث . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّه لَأَنْ يَلَجّ أَحَدكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْله آثَم لَهُ عِنْد اللَّه مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَته الَّتِي فَرَضَ اللَّه ) اللِّجَاج فِي الْيَمِين هُوَ الْمُضِيّ عَلَى مُقْتَضَاهُ , وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حَرَج وَمَشَقَّة , وَتَرْك مَا فِيهِ مَنْفَعَة عَاجِلَة أَوْ آجِلَة ; فَإِنْ كَانَ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى بِهِ تَحْنِيث نَفْسه وَفِعْل الْكَفَّارَة , وَلَا يَعْتَلّ بِالْيَمِينِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَجْعَلُوا اللَّه عُرْضَة لِأَيْمَانِكُمْ " [ الْبَقَرَة : 224 ] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْر ) أَيْ الَّذِي هُوَ أَكْثَر خَيْرًا . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْيَمِين عَلَى نِيَّة الْمُسْتَحْلِف ) قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِين فِي حَقّ وَجَبَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ وَهُوَ يَنْوِي غَيْره لَمْ تَنْفَعهُ نِيَّته , وَلَا يَخْرُج بِهَا عَنْ إِثْم تِلْكَ الْيَمِين , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر : ( يَمِينك عَلَى مَا يُصَدِّقك عَلَيْهِ صَاحِبك ) , وَرُوِيَ ( يُصَدِّقك بِهِ صَاحِبك ) خَرَّجَهُ مُسْلِم أَيْضًا . قَالَ مَالِك : مَنْ حَلَفَ لِطَالِبِهِ فِي حَقّ لَهُ عَلَيْهِ , وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينه , أَوْ حَرَّكَ لِسَانه أَوْ شَفَتَيْهِ , أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ , لَمْ يَنْفَعهُ اِسْتِثْنَاؤُهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النِّيَّة نِيَّة الْمَحْلُوف لَهُ ; لِأَنَّ الْيَمِين حَقّ لَهُ , وَإِنَّمَا تَقَع عَلَى حَسَب مَا يَسْتَوْفِيه لَهُ الْحَاكِم لَا عَلَى اِخْتِيَار الْحَالِف ; لِأَنَّهَا مُسْتَوْفَاة مِنْهُ . هَذَا تَحْصِيل مَذْهَبه وَقَوْله .
مَعْنَاهُ لَمْ يَجِد فِي مِلْكه أَحَد هَذِهِ الثَّلَاثَة ; مِنْ الْإِطْعَام أَوْ الْكِسْوَة أَوْ عِتْق الرَّقَبَة بِإِجْمَاعٍ ; فَإِذَا عَدِمَ هَذِهِ الثَّلَاثَة الْأَشْيَاء صَامَ , وَالْعَدَم يَكُون بِوَجْهَيْنِ إِمَّا بِمَغِيبِ الْمَال عَنْهُ أَوْ عَدَمه ; فَالْأَوَّل أَنْ يَكُون فِي بَلَد غَيْر بَلَده فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْم , وَإِنْ لَمْ يَجِد مَنْ يُسَلِّفهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ; فَقِيلَ : يَنْتَظِر إِلَى بَلَده ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَذَلِكَ لَا يَلْزَمهُ بَلْ يُكَفِّر بِالصِّيَامِ ; لِأَنَّ الْوُجُوب قَدْ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّة وَالشَّرْط مِنْ الْعَدَم قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا وَجْه لِتَأْخِيرِ الْأَمْر ; فَلْيُكَفِّرْ مَكَانه لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَمَنْ لَمْ يَجِد " , وَقِيلَ : مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْل عَنْ رَأْس مَاله الَّذِي يَعِيش بِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِد , وَقِيلَ : هُوَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قُوت يَوْمه وَلَيْلَته , وَلَيْسَ عِنْده فَضْل يُطْعِمهُ ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ , وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّ مَنْ تَفْضُل عَنْهُ نَفَقَة يَوْمه فَإِنَّهُ لَا يَصُوم ; قَالَ اِبْن الْقَاسِم فِي كِتَاب اِبْن مُزَيْن : إِنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْحَانِثِ فَضْل عَنْ قُوت يَوْمه أَطْعَمَ إِلَّا أَنْ يَخَاف الْجُوع , أَوْ يَكُون فِي بَلَد لَا يُعْطَف عَلَيْهِ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْده نِصَاب فَهُوَ غَيْر وَاجِد , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق : إِذَا كَانَ عِنْده قُوت يَوْم وَلَيْلَة أَطْعَمَ مَا فَضَلَ عَنْهُ , وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : إِذَا كَانَ عِنْده قُوت يَوْمه وَلَيْلَته وَعِيَال وَكِسْوَة تَكُون لِكِفَايَتِهِمْ , ثُمَّ يَكُون بَعْد ذَلِكَ مَالِكًا لِقَدْرِ الْكَفَّارَة فَهُوَ عِنْدنَا وَاجِد . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : قَوْل أَبِي عُبَيْد حَسَن .
قَرَأَهَا اِبْن مَسْعُود ( مُتَتَابِعَات ) فَيُقَيَّد بِهَا الْمُطْلَق ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْم فِي كَفَّارَة الظِّهَار , وَاعْتِبَارًا بِقِرَاءَةِ عَبْد اللَّه , وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله الْآخَر : يُجْزِئهُ التَّفْرِيق ; لِأَنَّ التَّتَابُع صِفَة لَا تَجِب إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاس عَلَى مَنْصُوص وَقَدْ عُدِمَا . مَنْ أَفْطَرَ فِي يَوْم مِنْ أَيَّام الصِّيَام نَاسِيًا فَقَالَ مَالِك : عَلَيْهِ الْقَضَاء , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا قَضَاء عَلَيْهِ ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الصِّيَام فِي " الْبَقَرَة " . هَذِهِ الْكَفَّارَة الَّتِي نَصَّ اللَّه عَلَيْهَا لَازِمَة لِلْحُرِّ الْمُسْلِم بِاتِّفَاقٍ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِب مِنْهَا عَلَى الْعَبْد إِذَا حَنِثَ ; فَكَانَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي يَقُولُونَ : لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْم , لَا يُجْزِئهُ غَيْر ذَلِكَ ; وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل مَالِك , فَحَكَى عَنْهُ اِبْن نَافِع أَنَّهُ قَالَ : لَا يُكَفِّر الْعَبْد بِالْعِتْقِ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُون لَهُ الْوَلَاء , وَلَكِنْ يُكَفِّر بِالصَّدَقَةِ إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّده ; وَأَصْوَب ذَلِكَ أَنْ يَصُوم . وَحَكَى اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إِنْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا بِإِذْنِ السَّيِّد فَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ , وَفِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْء .
أَيْ تَغْطِيَة أَيْمَانكُمْ ; وَكَفَّرْت الشَّيْء غَطَّيْته وَسَتَرْته وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَلَا خِلَاف أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَة فِي الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَقَدْ ذَهَبَ بَعْض التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ كَفَّارَة الْيَمِين فِعْل الْخَيْر الَّذِي حَلَفَ فِي تَرْكه , وَتَرْجَمَ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه ( مَنْ قَالَ كَفَّارَتهَا تَرْكهَا ) حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر عَنْ حَارِثَة بْن أَبِي الرِّجَال عَنْ عَمْرَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ فِي قَطِيعَة رَحِم أَوْ فِيمَا لَا يَصِحّ فَبِرّه أَلَّا يُتِمّ عَلَى ذَلِكَ ) وَأَسْنَدَ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتهَا ) . قُلْت : وَيَعْتَضِد هَذَا بِقِصَّةِ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين حَلَفَ أَلَّا يَطْعَم الطَّعَام , وَحَلَفَتْ اِمْرَأَته أَلَّا تَطْعَمهُ حَتَّى يَطْعَمهُ , وَحَلَفَ الضَّيْف - أَوْ الْأَضْيَاف - أَلَّا يَطْعَمهُ أَوْ لَا يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمهُ , فَقَالَ أَبُو بَكْر : كَانَ هَذَا مِنْ الشَّيْطَان ; فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ , وَزَادَ مُسْلِم قَالَ : فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه , بَرُّوا وَحَنِثْت ; قَالَ : فَأَخْبَرَهُ ; قَالَ : ( بَلْ أَنْتَ أَبَرّهمْ وَأَخْيَرهمْ ) قَالَ : وَلَمْ تَبْلُغنِي كَفَّارَة , وَاخْتَلَفُوا فِي كَفَّارَة غَيْر الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; فَقَالَ مَالِك : مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَاله أَخْرَجَ ثُلُثه , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين ; وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر , وَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا , وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَعَطَاء وَطَاوُس : لَا شَيْء عَلَيْهِ , وَأَمَّا الْيَمِين بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّة فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ عِنْد مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة , وَتُجْزِئهُ كَفَّارَة يَمِين عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبِي ثَوْر , وَقَالَ اِبْن الْمُسَيِّب وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد : لَا شَيْء عَلَيْهِ ; قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : أَكْثَر أَهْل الْعِلْم بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرهَا يُوجِبُونَ فِي الْيَمِين بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّة كَفَّارَة مِثْل كَفَّارَة الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُور فُقَهَاء الْمُسْلِمِينَ , وَقَدْ أَفْتَى بِهِ اِبْنُ الْقَاسِمِ اِبْنَهُ عَبْد الصَّمَد , وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ قَوْل اللَّيْث بْن سَعْد , وَالْمَشْهُور عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّهُ لَا كَفَّارَة عِنْده فِي الْمَشْي إِلَى مَكَّة إِلَّا بِالْمَشْيِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ; وَهُوَ قَوْل مَالِك . وَأَمَّا الْحَالِف بِالْعِتْقِ فَعَلَيْهِ عِتْق مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ فِي قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة أَنَّهُ يُكَفِّر كَفَّارَة يَمِين وَلَا يَلْزَمهُ الْعِتْق - وَقَالَ عَطَاء : يَتَصَدَّق بِشَيْءٍ . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَأَجْمَعَ مَنْ يُعْتَمَد عَلَى قَوْله مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الطَّلَاق لَازِم لِمَنْ حَلَفَ بِهِ وَحَنِثَ .
أَيْ بِالْبِدَارِ إِلَى مَا لَزِمَكُمْ مِنْ الْكَفَّارَة إِذَا حَنِثْتُمْ , وَقِيلَ : أَيْ بِتَرْكِ الْحَلِف ; فَإِنَّكُمْ إِذَا لَمْ تَحْلِفُوا لَمْ تَتَوَجَّه عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَات .
الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ آيَاته الدَّالَّة عَلَى مُتَعَبَّدَاته بَيَانًا مِثْل مَا يُبَيِّن لَكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاء .
كُلّ مَا كَانَ مِثْله فِيمَا وَرَدَ فِي كَلَام اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْله : " لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ , لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ , لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ , لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " فِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَات . الْأَوَّل : أَنَّ " لَعَلَّ " عَلَى بَابهَا مِنْ التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّع , وَالتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّع إِنَّمَا هُوَ فِي حَيِّز الْبَشَر ; فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ : اِفْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّجَاء مِنْكُمْ وَالطَّمَع أَنْ تَعْقِلُوا وَأَنْ تَذَكَّرُوا وَأَنْ تَتَّقُوا أَوْ تَشْكُرُوا . هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ وَرُؤَسَاء اللِّسَان قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " اِذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى " [ طَه : 43 - 44 ] قَالَ مَعْنَاهُ : اِذْهَبَا عَلَى طَمَعكُمَا وَرَجَائِكُمَا أَنْ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى , وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل أَبُو الْمَعَالِي .
الثَّانِي : أَنَّ الْعَرَب اِسْتَعْمَلَتْ " لَعَلَّ " مُجَرَّدَة مِنْ الشَّكّ بِمَعْنَى لَام كَيْ . فَالْمَعْنَى لِتَعْقِلُوا وَلِتَذَكَّرُوا وَلِتَتَّقُوا ; وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلّ قَوْل الشَّاعِر : وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوب لَعَلَّنَا نَكُفّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلّ مَوْثِق فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْب كَانَتْ عُهُودكُمْ كَلَمْعِ سَرَاب فِي الْمَلَا مُتَأَلِّق الْمَعْنَى : كُفُّوا الْحُرُوب لِنَكُفّ , وَلَوْ كَانَتْ " لَعَلَّ " هُنَا شَكًّا لَمْ يُوَثِّقُوا لَهُمْ كُلّ مَوْثِق ; وَهَذَا الْقَوْل عَنْ قُطْرُب وَالطَّبَرِيّ . الثَّالِث : أَنْ تَكُون " لَعَلَّ " بِمَعْنَى التَّعَرُّض لِلشَّيْءِ , كَأَنَّهُ قِيلَ : اِفْعَلُوا مُتَعَرِّضِينَ لِأَنْ تَعْقِلُوا , أَوْ لِأَنْ تَذَكَّرُوا أَوْ لِأَنْ تَتَّقُوا أَوْ لِأَنْ تَشْكُرُوا .
كَيْ تَشْكُرُوا عَفْو اللَّه عَنْكُمْ وَأَمَّا الشُّكْر فَهُوَ فِي اللُّغَة الظُّهُور مِنْ قَوْله دَابَّة شَكُور إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنْ السِّمَن فَوْق مَا تُعْطَى مِنْ الْعَلَف وَحَقِيقَته الثَّنَاء عَلَى الْإِنْسَان بِمَعْرُوفٍ بِمَلِيكِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَة قَالَ الْجَوْهَرِيّ الشُّكْر الثَّنَاء عَلَى الْمُحْسِن بِمَا أَوْلَاكَهُ مِنْ الْمَعْرُوف يُقَال شَكَرْته وَشَكَرْت لَهُ وَبِاللَّامِ أَفْصَح وَالشُّكْرَان خِلَاف الْكُفْرَان وَتَشَكَّرْت لَهُ مِثْل شَكَرْت لَهُ وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لَا يَشْكُر اللَّه مَنْ لَا يَشْكُر النَّاس ) قَالَ الْخَطَّابِيّ هَذَا الْكَلَام يُتَأَوَّل عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ طَبْعه كُفْرَان نِعْمَة النَّاس وَتَرْك الشُّكْر لِمَعْرُوفِهِمْ كَانَ مِنْ عَادَته كُفْرَان نِعْمَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْك الشُّكْر لَهُ وَالْوَجْه الْآخَر أَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَا يَقْبَل شُكْر الْعَبْد عَلَى إِحْسَانه إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْعَبْد لَا يَشْكُر إِحْسَان النَّاس إِلَيْهِ وَيَكْفُر مَعْرُوفهمْ لِاتِّصَالِ أَحَد الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ .
وَعِبَارَات الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الشُّكْر فَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : الشُّكْر الِاجْتِهَاد فِي بَذْل الطَّاعَة مَعَ الِاجْتِنَاب لِلْمَعْصِيَةِ فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَقَالَتْ فِرْقَة أُخْرَى الشُّكْر هُوَ الِاعْتِرَاف فِي تَقْصِير الشُّكْر لِلْمُنْعِمِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى " اِعْمَلُوا آل دَاوُد شُكْرًا " [ سَبَأ : 13 ] فَقَالَ دَاوُد كَيْفَ أَشْكُرك يَا رَبّ وَالشُّكْر نِعْمَة مِنْك قَالَ الْآن قَدْ عَرَفْتنِي وَشَكَرْتنِي إِذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الشُّكْر مِنِّي نِعْمَة قَالَ يَا رَبّ فَأَرِنِي أَخْفَى نِعَمك عَلَيَّ قَالَ يَا دَاوُد تَنَفَّسْ فَتَنَفَّسَ دَاوُد فَقَالَ اللَّه تَعَالَى مَنْ يُحْصِي هَذِهِ النِّعْمَة اللَّيْل وَالنَّهَار وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَيْفَ أَشْكُرك وَأَصْغَر نِعْمَة وَضَعْتهَا بِيَدِي مِنْ نِعَمك لَا يُجَازِي بِهَا عَمَلِي كُلّه فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ يَا مُوسَى الْآن شَكَرْتنِي وَقَالَ الْجُنَيْد حَقِيقَة الشُّكْر الْعَجْز عَنْ الشُّكْر وَعَنْهُ قَالَ كُنْت بَيْن يَدَيْ السَّرِيّ السَّقَطِيّ أَلْعَب وَأَنَا اِبْن سَبْع سِنِينَ وَبَيْن يَدَيْهِ جَمَاعَة يَتَكَلَّمُونَ فِي الشُّكْر فَقَالَ : لِي يَا غُلَام مَا الشُّكْر فَقُلْت أَلَّا يُعْصَى اللَّه بِنِعَمِهِ فَقَالَ لِي أَخْشَى أَنْ يَكُون حَظّك مِنْ اللَّه لِسَانك قَالَ الْجُنَيْد فَلَا أَزَال أَبْكِي عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَة الَّتِي قَالَهَا السَّرِيّ لِي وَقَالَ الشِّبْلِيّ الشُّكْر التَّوَاضُع وَالْمُحَافَظَة عَلَى الْحَسَنَات وَمُخَالَفَة الشَّهَوَات وَبَذْل الطَّاعَات وَمُرَاقَبَة جَبَّار الْأَرْض وَالسَّمَاوَات وَقَالَ ذُو النُّون الْمِصْرِيّ أَبُو الْفَيْض الشُّكْر لِمَنْ فَوْقك بِالطَّاعَةِ وَلِنَظِيرِك بِالْمُكَافَأَةِ وَلِمَنْ دُونك بِالْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَال
فِيهِ خَمْسَة عَشَر مَسْأَلَة : الْأُولَى : مُخَفَّف الْقَاف مِنْ الْعَقْد , وَالْعَقْد عَلَى ضَرْبَيْنِ حِسِّيّ كَعَقْدِ الْحَبْل , وَحُكْمِيّ كَعَقْدِ الْبَيْع ; قَالَ الشَّاعِر : قَوْم إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا الْعِنَاج وَشَدُّوا فَوْقه الْكَرَبَا فَالْيَمِين الْمُنْعَقِدَة مُنْفَعِلَة مِنْ الْعَقْد , وَهِيَ عَقْد الْقَلْب فِي الْمُسْتَقْبَل أَلَّا يَفْعَل فَفَعَلَ ; أَوْ لَيَفْعَلَنَّ فَلَا يَفْعَل كَمَا تَقَدَّمَ . فَهَذِهِ الَّتِي يَحُلّهَا الِاسْتِثْنَاء وَالْكَفَّارَة عَلَى مَا يَأْتِي , وَقُرِئَ " عَاقَدْتُمْ " بِأَلِفٍ بَعْد الْعَيْن عَلَى وَزْن فَاعَلَ وَذَلِكَ لَا يَكُون إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ فِي الْأَكْثَر , وَقَدْ يَكُون الثَّانِي مَنْ حُلِفَ لِأَجْلِهِ فِي كَلَام وَقَعَ مَعَهُ , أَوْ يَكُون الْمَعْنَى بِمَا عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَان ; لِأَنَّ عَاقَدَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى عَاهَدَ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ الْجَرّ , لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى عَاهَدَ , وَعَاهَدَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ جَرّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّه " [ الْفَتْح : 10 ] وَهَذَا كَمَا عَدَّيْت " نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة " بِإِلَى , وَبَابهَا أَنْ تَقُول نَادَيْت زَيْدًا " وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِب الطُّور الْأَيْمَن " [ مَرْيَم : 52 ] لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى دَعَوْت عُدِّيَ بِإِلَى ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّه " [ فُصِّلَتْ : 33 ] ثُمَّ اِتَّسَعَ فِي قَوْله تَعَالَى : " عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَان " . فَحُذِفَ حَرْف الْجَرّ ; فَوَصَلَ الْفِعْل إِلَى الْمَفْعُول فَصَارَ عَاقَدْتُمُوهُ , ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَاء كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر " [ الْحِجْر : 94 ] . أَوْ يَكُون فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " قَاتَلَهُمْ اللَّه " [ التَّوْبَة : 30 ] أَيْ قَتَلَهُمْ , وَقَدْ تَأْتِي الْمُفَاعَلَة فِي كَلَام الْعَرَب مِنْ وَاحِد بِغَيْرِ مَعْنَى ( فَاعَلْت ) كَقَوْلِهِمْ : سَافَرْت وَظَاهَرْت , وَقُرِئَ " عَقَّدْتُمْ " بِتَشْدِيدِ الْقَاف . قَالَ مُجَاهِد : مَعْنَاهُ تَعَمَّدْتُمْ أَيْ قَصَدْتُمْ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ التَّشْدِيد يَقْتَضِي التَّكْرَار فَلَا تَجِب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة إِلَّا إِذَا كُرِّرَ , وَهَذَا يَرُدّهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنِّي وَاَللَّه إِنْ شَاءَ اللَّه لَا أَحْلِف عَلَى يَمِين فَأَرَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْر وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ) . فَذَكَرَ وُجُوب الْكَفَّارَة فِي الْيَمِين الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّر . قَالَ أَبُو عُبَيْد : التَّشْدِيد يَقْتَضِي التَّكْرِير مَرَّة بَعْد مَرَّة , وَلَسْت آمَن أَنْ يَلْزَم مَنْ قَرَأَ بِتِلْكَ الْقِرَاءَة أَلَّا تُوجَب عَلَيْهِ كَفَّارَة فِي الْيَمِين الْوَاحِدَة حَتَّى يُرَدِّدهَا مِرَارًا . وَهَذَا قَوْل خِلَاف الْإِجْمَاع . وَرَوَى نَافِع أَنَّ اِبْن عُمَر كَانَ إِذَا حَنِثَ مِنْ غَيْر أَنْ يُؤَكِّدَ الْيَمِين أَطْعَمَ عَشَرَة مَسَاكِين , فَإِذَا وَكَّدَ الْيَمِين أَعْتَقَ رَقَبَة . قِيلَ لِنَافِعٍ مَا مَعْنَى وَكَّدَ الْيَمِين ؟ قَالَ : أَنْ يَحْلِف عَلَى الشَّيْء مِرَارًا . الثَّانِيَة : اُخْتُلِفَ فِي الْيَمِين الْغَمُوس هَلْ هِيَ يَمِين مُنْعَقِدَة أَمْ لَا ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهَا يَمِين مَكْر وَخَدِيعَة وَكَذِب فَلَا تَنْعَقِد وَلَا كَفَّارَة فِيهَا , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : هِيَ يَمِين مُنْعَقِدَة ; لِأَنَّهَا مُكْتَسَبَة بِالْقَلْبِ , مَعْقُودَة بِخَبَرٍ , مَقْرُونَة بِاسْمِ اللَّه تَعَالَى , وَفِيهَا الْكَفَّارَة , وَالصَّحِيح الْأَوَّل . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا قَوْل مَالِك بْن أَنَس وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة , وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل الشَّام , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَأَهْل الْعِرَاق , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد , وَأَصْحَاب الْحَدِيث وَأَصْحَاب الرَّأْي مِنْ أَهْل الْكُوفَة ; قَالَ أَبُو بَكْر : وَقَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه ) وَقَوْله : ( فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه وَيَأْتِي الَّذِي هُوَ خَيْر ) يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَة إِنَّمَا تَجِب فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل يَفْعَلهُ مِمَّا يُسْتَقْبَل فَلَا يَفْعَلهُ , أَوْ عَلَى فِعْل أَلَّا يَفْعَلهُ فِيمَا يُسْتَقْبَل فَيَفْعَلهُ .
وَفِي الْمَسْأَلَة قَوْل ثَانٍ وَهُوَ أَنْ يُكَفِّر وَإِنْ أَثِمَ وَعَمَدَ الْحَلِف بِاَللَّهِ كَاذِبًا ; هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ . قَالَ أَبُو بَكْر : وَلَا نَعْلَم خَبَرًا يَدُلّ عَلَى هَذَا الْقَوْل , وَالْكِتَاب وَالسُّنَّة دَالَّانِ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَجْعَلُوا اللَّه عُرْضَة لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْن النَّاس " [ الْبَقَرَة : 224 ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الرَّجُل يَحْلِف أَلَّا يَصِل قَرَابَته فَجَعَلَ اللَّه لَهُ مَخْرَجًا فِي التَّكْفِير , وَأَمَرَهُ أَلَّا يَعْتَلّ بِاَللَّهِ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه , وَالْأَخْبَار دَالَّة عَلَى أَنَّ الْيَمِين الَّتِي يَحْلِف بِهَا الرَّجُل يَقْتَطِع بِهَا مَالًا حَرَامًا هِيَ أَعْظَم مِنْ أَنْ يُكَفِّرهَا مَا يُكَفِّر الْيَمِين . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْآيَة وَرَدَتْ بِقِسْمَيْنِ : لَغْو وَمُنْعَقِدَة , وَخَرَجَتْ عَلَى الْغَالِب فِي أَيْمَان النَّاس فَدَعْ مَا بَعْدهَا يَكُون مِائَة قِسْم فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّق عَلَيْهِ كَفَّارَة . قُلْت : خَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَا الْكَبَائِر ؟ قَالَ : ( الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ ) قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ( عُقُوق الْوَالِدَيْنِ ) قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ( الْيَمِين الْغَمُوس ) قُلْت : وَمَا الْيَمِين الْغَمُوس ؟ قَالَ : ( الَّتِي يَقْتَطِع بِهَا مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم هُوَ فِيهَا كَاذِب ) , وَخَرَّجَ مُسْلِم عَنْ أَبِي أُمَامَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِقْتَطَعَ حَقّ اِمْرِئٍ مُسْلِم بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه لَهُ النَّار وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّة ) فَقَالَ رَجُل : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك ) , وَمِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين صَبْر يَقْتَطِع بِهَا مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم هُوَ فِيهَا فَاجِر لَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ) . فَنَزَلَتْ " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه وَأَيْمَانهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا " [ آل عِمْرَان : 77 ] إِلَى آخِر الْآيَة وَلَمْ يَذْكُر كَفَّارَة , فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ كَفَّارَة لَسَقَطَ جُرْمه , وَلَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ , وَلَمْ يَسْتَحِقّ الْوَعِيد الْمُتَوَعَّد عَلَيْهِ ; وَكَيْفَ لَا يَكُون ذَلِكَ وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَالِف الْكَذِب , وَاسْتِحْلَال مَال الْغَيْر , وَالِاسْتِخْفَاف بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَالتَّهَاوُن بِهَا وَتَعْظِيم الدُّنْيَا ؟ فَأَهَانَ مَا عَظَّمَهُ اللَّه , وَعَظَّمَ مَا حَقَّرَهُ اللَّه وَحَسْبك , وَلِهَذَا قِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ الْيَمِين الْغَمُوس غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِس صَاحِبهَا فِي النَّار . الثَّالِثَة : الْحَالِف بِأَلَّا يَفْعَل عَلَى بِرّ مَا لَمْ يَفْعَل , فَإِنْ فَعَلَ حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَة لِوُجُودِ الْمُخَالَفَة مِنْهُ ; وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ إِنْ فَعَلْت , وَإِذَا حَلَفَ بِأَنْ لَيَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ فِي الْحَال عَلَى حِنْث لِوُجُودِ الْمُخَالَفَة , فَإِنْ فَعَلَ بَرَّ , وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ إِنْ لَمْ أَفْعَل . الرَّابِعَة : قَوْل الْحَالِف : لَأَفْعَلَنَّ ; وَإِنْ لَمْ أَفْعَل , بِمَنْزِلَةِ الْأَمْر وَقَوْله : لَا أَفْعَل , وَإِنْ فَعَلْت , بِمَنْزِلَةِ النَّهْي . فَفِي الْأَوَّل لَا يَبَرّ حَتَّى يَفْعَل جَمِيع الْمَحْلُوف عَلَيْهِ : مِثَاله لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيف فَأَكَلَ بَعْضه لَا يَبَرّ حَتَّى يَأْكُل جَمِيعه : لِأَنَّ كُلّ جُزْء مِنْهُ مَحْلُوف عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ : وَاَللَّه لَآكُلَنَّ - مُطْلَقًا - فَإِنَّهُ يَبَرّ بِأَقَلّ جُزْء مِمَّا يَقَع عَلَيْهِ الِاسْم ; لِإِدْخَالِ مَاهِيَّة الْأَكْل فِي الْوُجُود . وَأَمَّا فِي النَّهْي فَإِنَّهُ يَحْنَث بِأَقَلّ مَا يَنْطَلِق عَلَيْهِ الِاسْم ; لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَلَّا يَدْخُل فَرْد مِنْ أَفْرَاد الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْوُجُود ; فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَدْخُل دَارًا فَأَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَنِثَ ; وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّا وَجَدْنَا الشَّارِع غَلَّظَ جِهَة التَّحْرِيم بِأَوَّلِ الِاسْم فِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ " [ النِّسَاء : 22 ] ; فَمَنْ عَقَدَ عَلَى اِمْرَأَة وَلَمْ يَدْخُل بِهَا حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنه , وَلَمْ يَكْتَفِ فِي جِهَة التَّحْلِيل بِأَوَّلِ الِاسْم فَقَالَ : ( لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته ) .
الْخَامِسَة : الْمَحْلُوف بِهِ هُوَ اللَّه سُبْحَانه وَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى , كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيم وَالسَّمِيع وَالْعَلِيم وَالْحَلِيم , وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاته الْعُلْيَا , كَعِزَّتِهِ وَقُدْرَته وَعِلْمه وَإِرَادَته وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَته وَعَهْده وَمِيثَاقه وَسَائِر صِفَات ذَاته ; لِأَنَّهَا يَمِين بِقَدِيمٍ غَيْر مَخْلُوق , فَكَانَ الْحَالِف بِهَا كَالْحَالِفِ بِالذَّاتِ . رَوَى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمَا أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْجَنَّة وَرَجَعَ إِلَى اللَّه تَعَالَى قَالَ : وَعِزَّتك لَا يَسْمَع بِهَا أَحَد إِلَّا دَخَلَهَا , وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النَّار : وَعِزَّتك لَا يَسْمَع بِهَا أَحَد فَيَدْخُلهَا , وَخَرَّجَا أَيْضًا وَغَيْرهمَا عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كَانَتْ يَمِين النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا وَمُقَلِّب الْقُلُوب ) وَفَى رِوَايَة ( لَا وَمُصَرِّف الْقُلُوب ) وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : وَاَللَّه أَوْ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ فَحَنِثَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَانَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو عُبَيْد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي يَقُولُونَ : مَنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاء اللَّه وَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة , وَبِهِ نَقُول وَلَا أَعْلَم فِي ذَلِكَ خِلَافًا . قُلْت : قَدْ نُقِلَ ( فِي بَاب ذِكْر الْحَلِف بِالْقُرْآنِ ) ; وَقَالَ يَعْقُوب : مَنْ حَلَفَ بِالرَّحْمَنِ فَحَنِثَ فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ . قُلْت : وَالرَّحْمَن مِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانه مُجْمَع عَلَيْهِ وَلَا خِلَاف فِيهِ . السَّادِسَة : وَاخْتَلَفُوا فِي وَحَقّ اللَّه وَعَظَمَة اللَّه وَقُدْرَة اللَّه وَعِلْم اللَّه وَلَعَمْر اللَّه وَايْم اللَّه ; فَقَالَ مَالِك : كُلّهَا أَيْمَان تَجِب فِيهَا الْكَفَّارَة , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : فِي وَحَقّ اللَّه وَجَلَال اللَّه وَعَظَمَة اللَّه وَقُدْرَة اللَّه , يَمِين إِنْ نَوَى بِهَا الْيَمِين , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الْيَمِين فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِل وَحَقّ اللَّه وَاجِب وَقُدْرَته مَاضِيَة , وَقَالَ فِي أَمَانَة اللَّه : لَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَلَعَمْر اللَّه وَايْم اللَّه إِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْيَمِين فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي إِذَا قَالَ : وَعَظَمَة اللَّه وَعِزَّة اللَّه وَجَلَال اللَّه وَكِبْرِيَاء اللَّه وَأَمَانَة اللَّه فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة , وَقَالَ الْحَسَن فِي وَحَقّ اللَّه : لَيْسَتْ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَة فِيهَا ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة حَكَاهُ عَنْهُ الرَّازِيّ , وَكَذَلِكَ عَهْد اللَّه وَمِيثَاقه وَأَمَانَته لَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَقَالَ بَعْض أَصْحَابه هِيَ يَمِين , وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : لَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَكَذَا إِذَا قَالَ : وَعِلْم اللَّه لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَة , وَخَالَفَهُ صَاحِبه أَبُو يُوسُف فَقَالَ : يَكُون يَمِينًا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْم قَدْ يَنْطَلِق عَلَى الْمَعْلُوم وَهُوَ الْمُحْدَث فَلَا يَكُون يَمِينًا , وَذَهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَة تَنْطَلِق عَلَى الْمَقْدُور , فَكُلّ كَلَام لَهُ فِي الْمَقْدُور فَهُوَ حُجَّتنَا فِي الْمَعْلُوم . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَايْم اللَّه إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ ) فِي قِصَّة زَيْد وَابْنه أُسَامَة , وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : وَاَيْم اللَّه ; وَكَذَلِكَ قَالَ اِبْن عُمَر , وَقَالَ إِسْحَاق : إِذَا أَرَادَ بِاَيْم اللَّه يَمِينًا كَانَتْ يَمِينًا بِالْإِرَادَةِ وَعَقْد الْقَلْب . السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلِف بِالْقُرْآنِ ; فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَة يَمِين ; وَبِهِ قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَابْن الْمُبَارَك , وَقَالَ أَحْمَد : مَا أَعْلَم شَيْئًا يَدْفَعهُ , وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : يَكُون يَمِينًا وَاحِدَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَكَانَ قَتَادَة يَحْلِف بِالْمُصْحَفِ , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق لَا نَكْرَه ذَلِكَ . الثَّامِنَة : لَا تَنْعَقِد الْيَمِين بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاته , وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : إِذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْعَقَدَتْ يَمِينه ; لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمّ الْإِيمَان إِلَّا بِهِ فَتَلْزَمهُ الْكَفَّارَة كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ , وَهَذَا يَرُدّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي رَكْب وَعُمَر يَحْلِف بِأَبِيهِ , فَنَادَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَا إِنَّ اللَّه يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت ) وَهَذَا حَصْر فِي عَدَم الْحَلِف بِكُلِّ شَيْء سِوَى اللَّه تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاته كَمَا ذَكَرْنَا , وَمِمَّا يُحَقِّق ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ وَلَا تَحْلِفُوا بِاَللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ ) ثُمَّ يُنْتَقَض عَلَيْهِ بِمَنْ قَالَ : وَآدَم وَإِبْرَاهِيم فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمّ الْإِيمَان إِلَّا بِهِ .
التَّاسِعَة : رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفه بِاللَّاتِ فَلْيَقُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرك فَلْيَتَصَدَّقْ ) . وَخَرَّجَ النَّسَائِيّ عَنْ مُصْعَب بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا نَذْكُر بَعْض الْأَمْر وَأَنَا حَدِيث عَهْد بِالْجَاهِلِيَّةِ فَحَلَفْت بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى , فَقَالَ لِي بَعْض أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِئْسَ مَا قُلْت : وَفِي رِوَايَة قُلْت هُجْرًا ; فَأَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : ( قُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير وَانْفُثْ عَنْ يَسَارك ثَلَاثًا وَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان ثُمَّ لَا تَعُدْ ) . قَالَ الْعُلَمَاء : فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَطَقَ بِذَلِكَ أَنْ يَقُول بَعْده لَا إِلَه إِلَّا اللَّه تَكْفِيرًا لِتِلْكَ اللَّفْظَة , وَتَذْكِيرًا مِنْ الْغَفْلَة , وَإِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ , وَخَصَّ اللَّات بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَر مَا كَانَتْ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتهمْ , وَحُكْم غَيْرهَا مِنْ أَسْمَاء آلِهَتهمْ حُكْمهَا إِذْ لَا فَرْق بَيْنهَا , وَكَذَا مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ : تَعَالَ أُقَامِرك فَلْيَتَصَدَّقْ فَالْقَوْل فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي اللَّات ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا اِعْتَادُوا الْمُقَامَرَة وَهِيَ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِلِ . الْعَاشِرَة : قَالَ أَبُو حَنِيفَة فِي الرَّجُل يَقُول : هُوَ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ أَوْ بَرِيء مِنْ الْإِسْلَام أَوْ مِنْ النَّبِيّ أَوْ مِنْ الْقُرْآن أَوْ أُشْرِكُ بِاَللَّهِ أَوْ أَكْفُرُ بِاَللَّهِ : إِنَّهَا يَمِين تَلْزَم فِيهَا الْكَفَّارَة , وَلَا تَلْزَم فِيمَا إِذَا قَالَ : وَالْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَالنَّبِيّ وَالْكَعْبَة وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صِيغَة الْأَيْمَان , وَمُتَمَسَّكه مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي رَافِع أَنَّ مَوْلَاته أَرَادَتْ أَنْ تُفَرِّق بَيْنه وَبَيْن اِمْرَأَته فَقَالَتْ : هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّة , وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّة , وَكُلّ مَمْلُوك لَهَا حُرّ ; وَكُلّ مَال لَهَا فِي سَبِيل اللَّه , وَعَلَيْهَا مَشْي إِلَى بَيْت اللَّه إِنْ لَمْ تُفَرِّق بَيْنهمَا , فَسَأَلَتْ عَائِشَة وَحَفْصَة وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَأُمّ سَلَمَة فَكُلّهمْ قَالَ لَهَا : أَتُرِيدِينَ أَنْ تَكُونِي مِثْل هَارُوت وَمَارُوت ؟ وَأَمَرُوهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْ يَمِينهَا وَتُخَلِّي بَيْنهمَا , وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : قَالَتْ مَوْلَاتِي لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنك وَبَيْن اِمْرَأَتك , وَكُلّ مَال لَهَا فِي رِتَاج الْكَعْبَة وَهِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّة وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّة وَيَوْمًا مَجُوسِيَّة إِنْ لَمْ أُفَرِّق بَيْنك وَبَيْن اِمْرَأَتك ; قَالَ : فَانْطَلَقْت إِلَى أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أُمّ سَلَمَة فَقُلْت : إِنَّ مَوْلَاتِي تُرِيد أَنْ تُفَرِّق بَيْنِي وَبَيْن اِمْرَأَتِي ; فَقَالَتْ اِنْطَلِقْ إِلَى مَوْلَاتك فَقُلْ لَهَا : إِنَّ هَذَا لَا يَحِلّ لَك ; قَالَ : فَرَجَعْت إِلَيْهَا ; قَالَ ثُمَّ أَتَيْت اِبْن عُمَر فَأَخْبَرْته فَجَاءَ حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى الْبَاب فَقَالَ : هَاهُنَا هَارُوت وَمَارُوت ; فَقَالَتْ : إِنِّي جَعَلْت كُلّ مَال لِي فِي رِتَاج الْكَعْبَة . قَالَ : فَمِمَّ تَأْكُلِينَ ؟ قَالَتْ : وَقُلْت أَنَا يَوْمًا يَهُودِيَّة وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّة وَيَوْمًا مَجُوسِيَّة ; فَقَالَ : إِنْ تَهَوَّدْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَنَصَّرْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَمَجَّسْتِ قُتِلْتِ ; قَالَتْ : فَمَا تَأْمُرنِي ؟ قَالَ : تُكَفِّرِينَ عَنْ يَمِينك , وَتَجْمَعِينَ بَيْن فَتَاك وَفَتَاتك , وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْحَالِف إِذَا قَالَ : أُقْسِم بِاَللَّهِ أَنَّهَا يَمِين , وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ أُقْسِم أَوْ أَشْهَد لَيَكُونَنَّ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهَا تَكُون أَيْمَانًا عِنْد مَالِك إِذَا أَرَادَ بِاَللَّهِ , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِاَللَّهِ لَمْ تَكُنْ أَيْمَانًا تُكَفَّر , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيّ : هِيَ أَيْمَان فِي الْمَوْضِعَيْنِ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا تَكُون أَيْمَانًا حَتَّى يَذْكُر اِسْم اللَّه تَعَالَى ; هَذِهِ رِوَايَة الْمُزَنِيّ عَنْهُ , وَرَوَى عَنْهُ الرَّبِيع مِثْل قَوْل مَالِك . الْحَادِيَة عَشْرَة : إِذَا قَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك لَتَفْعَلَنَّ ; فَإِنْ أَرَادَ سُؤَاله فَلَا كَفَّارَة فِيهِ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ; وَإِنْ أَرَادَ الْيَمِين كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا . الثَّانِيَة عَشْرَة : مَنْ حَلَفَ بِمَا يُضَاف إِلَى اللَّه تَعَالَى مِمَّا لَيْسَ بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ : وَخَلْق اللَّه وَرِزْقه وَبَيْته لَا شَيْء عَلَيْهِ ; لِأَنَّهَا أَيْمَان غَيْر جَائِزَة , وَحَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى .
الثَّالِثَة عَشْرَة : إِذَا اِنْعَقَدَتْ الْيَمِين حَلَّتْهَا الْكَفَّارَة أَوْ الِاسْتِثْنَاء , وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : الِاسْتِثْنَاء بَدَل عَنْ الْكَفَّارَة وَلَيْسَتْ حَلًّا لِلْيَمِينِ . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : هِيَ حَلّ لِلْيَمِينِ ; وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ مَذْهَب فُقَهَاء الْأَمْصَار وَهُوَ الصَّحِيح ; وَشَرْطه أَنْ يَكُون مُتَّصِلًا مَنْطُوقًا بِهِ لَفْظًا ; لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ مَضَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ عَنْ غَيْر حِنْث ) فَإِنْ نَوَاهُ مِنْ غَيْر نُطْق أَوْ قَطَعَهُ مِنْ غَيْر عُذْر لَمْ يَنْفَعهُ , وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْمَوَّاز : يَكُون الِاسْتِثْنَاء مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اِعْتِقَادًا وَلَوْ بِآخِرِ حَرْف ; قَالَ : فَإِنْ فَرَغَ مِنْهَا وَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْيَمِين فَرَغَتْ عَارِيَة مِنْ الِاسْتِثْنَاء , فَوُرُودهَا بَعْده لَا يُؤَثِّر كَالتَّرَاخِي ; وَهَذَا يَرُدّهُ الْحَدِيث ( مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى ) وَالْفَاء , لِلتَّعْقِيبِ وَعَلَيْهِ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم , وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا تَنْحَلّ يَمِين اُبْتُدِئَ عَقْدهَا وَذَلِكَ بَاطِل , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا مَتَى اِسْتَثْنَى فِي نَفْسه تَخْصِيص مَا حَلَفَ عَلَيْهِ , فَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : يَصِحّ اِسْتِثْنَاؤُهُ وَقَدْ ظَلَمَ الْمَحْلُوف لَهُ . وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يَصِحّ حَتَّى يُسْمِع الْمَحْلُوف لَهُ , وَقَالَ بَعْضهمْ : يَصِحّ إِذَا حَرَّكَ بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُسْمِع الْمَحْلُوف لَهُ . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَإِنَّمَا قُلْنَا يَصِحّ اِسْتِثْنَاؤُهُ فِي نَفْسه , فَلِأَنَّ الْأَيْمَان تُعْتَبَر بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحّ ذَلِكَ حَتَّى يُحَرِّك بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ , فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُحَرِّك بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا , وَالِاسْتِثْنَاء مِنْ الْكَلَام يَقَع بِالْكَلَامِ دُون غَيْره ; وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحّ بِحَالٍ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حَقّ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ , وَإِنَّمَا يَقَع عَلَى حَسَب مَا يَسْتَوْفِيه لَهُ الْحَاكِم , فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الْيَمِين عَلَى اِخْتِيَار الْحَالِف بَلْ كَانَتْ مُسْتَوْفَاة مِنْهُ , وَجَبَ أَلَّا يَكُون لَهُ فِيهَا حُكْم , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يُدْرِك الِاسْتِثْنَاء الْيَمِين بَعْد سَنَة ; وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَالِيَة وَالْحَسَن وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر " [ الْفُرْقَان : 68 ] الْآيَة ; فَلَمَّا كَانَ بَعْد عَام نَزَلَ " إِلَّا مَنْ تَابَ " [ مَرْيَم : 60 ] , وَقَالَ مُجَاهِد : مَنْ قَالَ بَعْد سَنَتَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّه أَجْزَأَهُ , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : إِنْ اِسْتَثْنَى بَعْد أَرْبَعَة أَشْهُر أَجْزَأَهُ , وَقَالَ طَاوُس : لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا دَامَ فِي مَجْلِسه , وَقَالَ قَتَادَة : إِنْ اِسْتَثْنَى قَبْل أَنْ يَقُوم أَوْ يَتَكَلَّم فَلَهُ ثُنْيَاهُ . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق : يَسْتَثْنِي مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْأَمْر , وَقَالَ عَطَاء : لَهُ ذَلِكَ قَدْر حَلْب النَّاقَة الْغَزِيرَة . الرَّابِعَة عَشْرَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ اِبْن عَبَّاس مِنْ الْآيَة فَلَا مُتَعَلَّق لَهُ فِيهَا ; لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي عِلْم اللَّه وَفِي لَوْحه , وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولهَا لِحِكْمَةٍ عَلِمَ اللَّه ذَلِكَ فِيهَا , أَمَا إِنَّهُ يَتَرَكَّب عَلَيْهَا فَرْع حَسَن ; وَهُوَ أَنَّ الْحَالِف إِذَا قَالَ وَاَللَّه لَا دَخَلْت الدَّار , وَأَنْتِ طَالِق إِنْ دَخَلْت الدَّار , وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينه الْأَوَّل إِنْ شَاءَ اللَّه فِي قَلْبه , وَاسْتَثْنَى فِي الْيَمِين الثَّانِيَة فِي قَلْبه أَيْضًا مَا يَصْلُح لِلِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَع الْيَمِين لِمُدَّةٍ أَوْ سَبَب أَوْ مَشِيئَة أَحَد , وَلَمْ يُظْهِر شَيْئًا مِنْ الِاسْتِثْنَاء إِرْهَابًا عَلَى الْمَحْلُوف لَهُ , فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعهُ وَلَا تَنْعَقِد الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ ; وَهَذَا فِي الطَّلَاق مَا لَمْ تَحْضُرهُ الْبَيِّنَة ; فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَة لَمْ تُقْبَل مِنْهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاء , وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا . قُلْت : وَجْه الِاسْتِثْنَاء أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَظْهَرَ الْآيَة الْأُولَى وَأَخْفَى الثَّانِيَة , فَكَذَلِكَ الْحَالِف إِذَا حَلَفَ إِرْهَابًا وَأَخْفَى الِاسْتِثْنَاء , وَاللَّه أَعْلَمُ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَانَ أَبُو الْفَضْل الْمَرَاغِيّ يَقْرَأ بِمَدِينَةِ السَّلَام , وَكَانَتْ الْكُتُب تَأْتِي إِلَيْهِ مِنْ بَلَده , فَيَضَعهَا فِي صُنْدُوق وَلَا يَقْرَأ مِنْهَا وَاحِدًا مَخَافَة أَنْ يَطَّلِع فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجهُ وَيُقْطَع بِهِ عَنْ طَلَبه ; فَلَمَّا كَانَ بَعْد خَمْسَة أَعْوَام وَقَضَى غَرَضًا مِنْ الطَّلَب وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيل , شَدَّ رَحْله وَأَبْرَزَ كُتُبه وَأَخْرَجَ تِلْكَ الرَّسَائِل , فَقَرَأَ فِيهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا يَقْرَؤُهُ بَعْد وُصُوله مَا تَمَكَّنَ بَعْده مِنْ تَحْصِيل حَرْف مِنْ الْعِلْم , فَحَمِدَ اللَّه وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّة قُمَاشه وَخَرَجَ إِلَى بَاب الْحَلْبَة طَرِيق خُرَاسَان , وَتَقَدَّمَهُ الْكَرِيّ بِالدَّابَّةِ وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيّ يَبْتَاع مِنْهُ سُفْرَته , فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاوِل ذَلِكَ مَعَهُ إِذْ سَمِعَهُ يَقُول لِفَامِيٍّ آخَر : أَمَا سَمِعْت الْعَالِم يَقُول - يَعْنِي الْوَاعِظ - إِنَّ اِبْن عَبَّاس يُجَوِّز الِاسْتِثْنَاء وَلَوْ بَعْد سَنَة , لَقَدْ اِشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَالِي مُنْذُ سَمِعْته فَظَلِلْت فِيهِ مُتَفَكِّرًا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى لِأَيُّوب : " وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَث " [ ص : 44 ] وَمَا الَّذِي يَمْنَعهُ مِنْ أَنْ يَقُول : قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّه ! فَلَمَّا سَمِعَهُ يَقُول ذَلِكَ قَالَ : بَلَد يَكُون فِيهِ الْفَامِيُّونَ بِهَذَا الْحَظّ مِنْ الْعِلْم وَهَذِهِ الْمَرْتَبَة أَخْرُج عَنْهُ إِلَى الْمَرَاغَة ؟ لَا أَفْعَلهُ أَبَدًا ; وَاقْتَفَى أَثَر الْكَرِيّ وَحَلَّلَهُ مِنْ الْكِرَاء وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ . الْخَامِسَة عَشْرَة : الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَرْفَع الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى إِذْ هِيَ رُخْصَة مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَلَا خِلَاف فِي هَذَا , وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاء فِي الْيَمِين بِغَيْرِ اللَّه ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : الِاسْتِثْنَاء يَقَع فِي كُلّ يَمِين كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاق وَغَيْر ذَلِكَ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى : قَالَ أَبُو عُمَر : مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقّ , وَإِنَّمَا وَرَدَ التَّوْقِيف بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا فِي غَيْر ذَلِكَ .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث هَلْ تُجْزِئ أَمْ لَا ؟ - بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّ الْحِنْث قَبْل الْكَفَّارَة مُبَاح حَسَن وَهُوَ عِنْدهمْ أَوْلَى - عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : أَحَدهَا : يُجْزِئ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَب أَرْبَعَة عَشَر مِنْ الصَّحَابَة وَجُمْهُور الْفُقَهَاء وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالِك , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا يُجْزِئ بِوَجْهٍ , وَهِيَ رِوَايَة أَشْهَب عَنْ مَالِك ; وَجْه الْجَوَاز مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِنِّي وَاَللَّه إِنْ شَاءَ اللَّه لَا أَحْلِف عَلَى يَمِين فَأَرَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْر ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد ; وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ الْيَمِين سَبَب الْكَفَّارَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " ذَلِكَ كَفَّارَة أَيْمَانكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ " فَأَضَافَ الْكَفَّارَة إِلَى الْيَمِين وَالْمَعَانِي تُضَاف إِلَى أَسْبَابهَا ; وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَفَّارَة بَدَل عَنْ الْبِرّ فَيَجُوز تَقْدِيمهَا قَبْل الْحِنْث . وَوَجْه الْمَنْع مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين ثُمَّ رَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر ) زَادَ النَّسَائِيّ ( وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه ) وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ الْكَفَّارَة إِنَّمَا هِيَ لِرَفْعِ الْإِثْم , وَمَا لَمْ يَحْنَث لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُرْفَع فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا ; وَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " إِذَا حَلَفْتُمْ " أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ , وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلّ عِبَادَة فُعِلَتْ قَبْل وُجُوبهَا لَمْ تَصِحّ اِعْتِبَارًا بِالصَّلَوَاتِ وَسَائِر الْعِبَادَات , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُجْزِئ بِالْإِطْعَامِ وَالْعِتْق وَالْكِسْوَة , وَلَا تُجْزِئ بِالصَّوْمِ ; لِأَنَّ عَمَل الْبَدَن لَا يَقُوم قَبْل وَقْته , وَيُجْزِئ فِي غَيْر ذَلِكَ تَقْدِيم الْكَفَّارَة ; وَهُوَ الْقَوْل الثَّالِث . ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه فِي الْكَفَّارَة الْخِلَال الثَّلَاث فَخَيَّرَ فِيهَا , وَعَقَّبَ عِنْد عَدَمهَا بِالصِّيَامِ , وَبَدَأَ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَفْضَل فِي بِلَاد الْحِجَاز لِغَلَبَةِ الْحَاجَة إِلَيْهِ وَعَدَم شِبَعهمْ , وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ كَفَّارَة الْيَمِين عَلَى التَّخْيِير ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا تَكُون بِحَسَبِ الْحَال ; فَإِنْ عَلِمْت مُحْتَاجًا فَالطَّعَام أَفْضَل ; لِأَنَّك إِذَا أَعْتَقْت لَمْ تَدْفَع حَاجَتهمْ وَزِدْت مُحْتَاجًا حَادِيَ عَشَرَ إِلَيْهِمْ , وَكَذَلِكَ الْكِسْوَة تَلِيه , وَلَمَّا عَلِمَ اللَّه الْحَاجَة بَدَأَ بِالْمُقَدَّمِ الْمُهِمّ . قَوْله تَعَالَى : " فَكَفَّارَته " الضَّمِير عَلَى الصِّنَاعَة النَّحْوِيَّة عَائِدًا عَلَى ( مَا ) وَيَحْتَمِل فِي هَذَا الْمَوْضِع أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الَّذِي , وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون مَصْدَرِيَّة . أَوْ يَعُود عَلَى إِثْم الْحِنْث وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر صَرِيح وَلَكِنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيه .
لَا بُدّ عِنْدنَا وَعِنْد الشَّافِعِيّ مِنْ تَمْلِيك الْمَسَاكِين مَا يُخْرَج لَهُمْ , وَدَفْعه إِلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَهُوَ يُطْعِم وَلَا يُطْعَم " [ الْأَنْعَام : 14 ] وَفِي الْحَدِيث ( أَطْعَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدّ السُّدُس ) ; وَلِأَنَّهُ أَحَد نَوْعَيْ الْكَفَّارَة فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا إِلَّا التَّمْلِيك ; أَصْله الْكِسْوَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ ; وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن الْمَاجِشُون مِنْ عُلَمَائِنَا ; قَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : إِنَّ التَّمْكِين مِنْ الطَّعَام إِطْعَام , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبّه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا " [ الْإِنْسَان : 8 ] فَبِأَيِّ وَجْه أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَة .
فِيهِ سَبْع مَسَائِل : الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " أَنَّ الْوَسَط بِمَعْنَى الْأَعْلَى وَالْخِيَار , وَهُوَ هُنَا مَنْزِلَة بَيْن مَنْزِلَتَيْنِ وَنَصَفٌ بَيْن طَرَفَيْنِ , وَمِنْهُ الْحَدِيث ( خَيْر الْأُمُور أَوْسَطهَا ) , وَخَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ ; حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى , حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ , حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة , عَنْ سُلَيْمَان بْن أَبِي الْمُغِيرَة , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ الرَّجُل يَقُوت أَهْله قُوتًا فِيهِ سَعَة وَكَانَ الرَّجُل يَقُوت أَهْله قُوتًا فِيهِ شِدَّة ; فَنَزَلَتْ : " مِنْ أَوْسَط مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ " , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْوَسَط مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ مَا كَانَ بَيْن شَيْئَيْنِ .
الْإِطْعَام عِنْد مَالِك مُدّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْ الْمَسَاكِين الْعَشَرَة , إِنْ كَانَ بِمَدِينَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَهْل الْمَدِينَة . قَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار : أَدْرَكْت النَّاس وَهُمْ إِذَا أَعْطَوْا فِي كَفَّارَة الْيَمِين أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَة بِالْمُدِّ الْأَصْغَر , وَرَأَوْا ذَلِكَ مُجْزِئًا عَنْهُمْ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَزَيْد بْن ثَابِت وَبِهِ قَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , وَاخْتُلِفَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِهَا ; فَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُجْزِئهُ الْمُدّ بِكُلِّ مَكَان , وَقَالَ اِبْن الْمَوَّاز : أَفْتَى اِبْن وَهْب بِمِصْر بِمُدٍّ وَنِصْف , وَأَشْهَب بِمُدٍّ وَثُلُث ; قَالَ : وَإِنَّ مُدًّا وَثُلُثًا لَوَسَطٌ مِنْ عَيْش الْأَمْصَار فِي الْغَدَاء وَالْعَشَاء , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُخْرِج مِنْ الْبُرّ نِصْف صَاع , وَمِنْ التَّمْر وَالشَّعِير صَاعًا ; عَلَى حَدِيث عَبْد اللَّه بْن ثَعْلَبَة بْن صُعَيْر عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْر صَاع مِنْ تَمْر , أَوْ صَاع مِنْ شَعِير عَنْ كُلّ رَأْس , أَوْ صَاع بُرّ بَيْن اِثْنَيْنِ , وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَان وَابْن الْمُبَارَك , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَعُمَر وَابْن عُمَر وَعَائِشَة , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب , وَهُوَ قَوْل عَامَّة فُقَهَاء الْعِرَاق ; لِمَا رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَفَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْر وَأَمَرَ النَّاس بِذَلِكَ , فَمَنْ لَمْ يَجِد فَنِصْف صَاع مِنْ بُرّ مِنْ أَوْسَط مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ; خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه .
الثَّانِيَة : لَا يَجُوز أَنْ يُطْعِم غَنِيًّا وَلَا ذَا رَحِم تَلْزَمهُ نَفَقَته , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَلْزَمهُ نَفَقَته فَقَدْ قَالَ مَالِك : لَا يُعْجِبنِي أَنْ يُطْعِمهُ , وَلَكِنْ إِنْ فَعَلَ وَكَانَ فَقِيرًا أَجْزَأَهُ , فَإِنْ أَطْعَمَ غَنِيًّا جَاهِلًا بِغِنَاهُ فَفِي " الْمُدَوَّنَة " وَغَيْر كِتَاب لَا يُجْزِئ , وَفِي " الْأَسَدِيَّة " أَنَّهُ يُجْزِئ . الثَّالِثَة : وَيُخْرِج الرَّجُل مِمَّا يَأْكُل ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ زَلَّتْ هُنَا جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء فَقَالُوا : إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَأْكُل الشَّعِير وَيَأْكُل النَّاس الْبُرّ فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُل النَّاس ; وَهَذَا سَهْو بَيِّن فَإِنَّ الْمُكَفِّر إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّة نَفْسه إِلَّا الشَّعِير لَمْ يُكَلَّف أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ ; وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَاعًا مِنْ طَعَام صَاعًا مِنْ شَعِير ) فَفَصَّلَ ذِكْرهمَا لِيُخْرِج كُلّ أَحَد فَرْضه مِمَّا يَأْكُل ; وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاء فِيهِ . الرَّابِعَة : قَالَ مَالِك : إِنْ غَدَّى عَشَرَة مَسَاكِين وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز أَنْ يُطْعِمَهُمْ جُمْلَة وَاحِدَة ; لِأَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْأَكْل , وَلَكِنْ يُعْطِي كُلّ مِسْكِين مُدًّا , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَا يُجْزِئ إِطْعَام الْعَشَرَة وَجْبَة وَاحِدَة ; يَعْنِي غَدَاء دُون عَشَاء , أَوْ عَشَاء دُون غَدَاء , حَتَّى يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ ; قَالَ أَبُو عُمَر : وَهُوَ قَوْل أَئِمَّة الْفَتْوَى بِالْأَمْصَارِ . الْخَامِسَة : قَالَ اِبْن حَبِيب : وَلَا يُجْزِئ الْخُبْز قَفَارًا بَلْ يُعْطِي مَعَهُ إِدَامه زَيْتًا أَوْ كَشْكًا أَوْ كَامَخًا أَوْ مَا تَيَسَّرَ ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ زِيَادَة مَا أَرَاهَا وَاجِبَة أَمَّا إِنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يُطْعِم مَعَ الْخُبْز السُّكَّر - نَعَمْ - وَاللَّحْم , وَأَمَّا تَعْيِين الْإِدَام لِلطَّعَامِ فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّفْظ لَا يَتَضَمَّنهُ . قُلْت : نُزُول الْآيَة فِي الْوَسَط يَقْتَضِي الْخُبْز وَالزَّيْت أَوْ الْخَلّ , وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْجُبْن وَالْكَشْك كَمَا قَالَ اِبْن حَبِيب , وَاللَّه أَعْلَمُ . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نِعْمَ الْإِدَام الْخَلّ ) وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : إِنْ أَطْعَمَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا , أَوْ خُبْزًا وَزَيْتًا مَرَّة وَاحِدَة فِي الْيَوْم حَتَّى يَشْبَعُوا أَجْزَأَهُ , وَهُوَ قَوْل اِبْن سِيرِينَ وَجَابِر بْن زَيْد وَمَكْحُول , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك .
السَّادِسَة : لَا يَجُوز عِنْدنَا دَفْع الْكَفَّارَة إِلَى مِسْكِين وَاحِد , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ , وَأَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة يَمْنَعُونَ صَرْف الْجَمِيع إِلَى وَاحِد دَفْعَة وَاحِدَة , وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا إِذَا صَرَفَ الْجَمِيع فِي يَوْم وَاحِد بِدَفَعَاتٍ مُخْتَلِفَة ; فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ , وَأَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ الْفِعْل حَسُنَ أَنْ يُقَال فِي الْفِعْل الثَّانِي لَا يُمْنَع مِنْ الَّذِي دُفِعَتْ إِلَيْهِ أَوَّلًا ; فَإِنَّ اِسْم الْمِسْكِين يَتَنَاوَلهُ , وَقَالَ آخَرُونَ : يَجُوز دَفْع ذَلِكَ إِلَيْهِ فِي أَيَّام , وَإِنَّ تَعَدُّد الْأَيَّام يَقُوم مَقَام أَعْدَاد الْمَسَاكِين , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُجْزِئهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَقْصُود مِنْ الْآيَة التَّعْرِيف بِقَدْرِ مَا يُطْعِم , فَلَوْ دَفَعَ ذَلِكَ الْقَدْر لِوَاحِدٍ أَجْزَأَهُ , وَدَلِيلنَا نَصّ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْعَشَرَة فَلَا يَجُوز الْعُدُول عَنْهُمْ , وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ إِحْيَاء جَمَاعَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكِفَايَتهمْ يَوْمًا وَاحِدًا , فَيَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِعِبَادَةِ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلِدُعَائِهِ , فَيَغْفِر لِلْمُكَفِّرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ . السَّابِعَة : " أَهْلِيكُمْ " هُوَ جَمْع أَهْل عَلَى السَّلَامَة , وَقَرَأَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصَّادِق : ( أَهَالِيكُمْ ) وَهَذَا جَمْع مُكَسَّر ; قَالَ أَبُو الْفَتْح : أَهَالٍ بِمَنْزِلَةِ لَيَالٍ وَاحِدهَا أَهْلَات وَلَيْلَات ; وَالْعَرَب تَقُول : أَهْل وَأَهْلَة . قَالَ الشَّاعِر : وَأَهْلَة وُدّ قَدْ تَبَرَّيْت وُدّهمْ وَأَبْلَيْتهُمْ فِي الْجَهْد حَمْدِي وَنَائِلِي يَقُول : تَعَرَّضْت لِوُدِّهِمْ ; قَالَ اِبْن السِّكِّيت .
قُرِئَ بِكَسْرِ الْكَاف وَضَمّهَا هُمَا لُغَتَانِ مِثْل إِسْوَة وَأُسْوَة . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع الْيَمَانِيّ : ( أَوْ كَإِسْوَتِهِمْ ) يَعْنِي كَإِسْوَة أَهْلك , وَالْكِسْوَة فِي حَقّ الرِّجَال الثَّوْب الْوَاحِد السَّاتِر لِجَمِيعِ الْجَسَد ; فَأَمَّا فِي حَقّ النِّسَاء فَأَقَلّ مَا يُجْزِئهُنَّ فِيهِ الصَّلَاة , وَهُوَ الدِّرْع وَالْخِمَار , وَهَكَذَا حُكْم الصِّغَار . قَالَ اِبْن الْقَاسِم فِي ( الْعُتْبِيَّة ) : تُكْسَى الصَّغِيرَة كِسْوَة كَبِيرَة , وَالصَّغِير كِسْوَة كَبِير , قِيَاسًا عَلَى الطَّعَام , وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ : أَقَلّ مَا يَقَع عَلَيْهِ الِاسْم وَذَلِكَ ثَوْب وَاحِد ; وَفِي رِوَايَة أَبِي الْفَرَج عَنْ مَالِك , وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَمُغِيرَة : مَا يَسْتُر جَمِيع الْبَدَن ; بِنَاء عَلَى أَنَّ الصَّلَاة لَا تُجْزِئ فِي أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : نِعْمَ الثَّوْب التُّبَّان ; أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيّ . وَقَالَ الْحَكَم بْن عُتَيْبَة تُجْزِئ عِمَامَة يَلُفّ بِهَا رَأْسه , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمَا كَانَ أَحْرَصنِي عَلَى أَنْ يُقَال : إِنَّهُ لَا يُجْزِئ إِلَّا كِسْوَة تَسْتُر عَنْ أَذَى الْحَرّ وَالْبَرْد كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ طَعَامًا يُشْبِعهُ مِنْ الرُّجُوع فَأَقُول بِهِ , وَأَمَّا الْقَوْل بِمِئْزَرٍ وَاحِد فَلَا أَدْرِيه ; وَاَللَّه يَفْتَح لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَة بِعَوْنِهِ . قُلْت : قَدْ رَاعَى قَوْم مَعْهُود الزِّيّ وَالْكِسْوَة الْمُتَعَارَفَة ; فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يُجْزِئ الثَّوْب الْوَاحِد إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِعًا مِمَّا قَدْ يُتَزَيَّا بِهِ كَالْكِسَاءِ وَالْمِلْحَفَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : الْكِسْوَة فِي كَفَّارَة الْيَمِين لِكُلِّ مِسْكِين ثَوْب وَإِزَار , أَوْ رِدَاء أَوْ قَمِيص أَوْ قَبَاء أَوْ كِسَاء , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُكْسَى عَنْهُ ثَوْبَيْنِ ثَوْبَيْنِ ; وَبِهِ قَالَ الْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَهَذَا مَعْنَى مَا اِخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَاللَّه أَعْلَمُ . لَا تُجْزِئ الْقِيمَة عَنْ الطَّعَام وَالْكِسْوَة ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : تُجْزِئ ; وَهُوَ يَقُول : تُجْزِئ الْقِيمَة فِي الزَّكَاة فَكَيْفَ فِي الْكَفَّارَة ! قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَعُمْدَته أَنَّ الْغَرَض سَدّ الْخَلَّة , وَرَفْع الْحَاجَة ; فَالْقِيمَة تُجْزِئ فِيهِ . قُلْنَا : إِنْ نَظَرْتُمْ إِلَى سَدّ الْخَلَّة فَأَيْنَ الْعِبَادَة ؟ وَأَيْنَ نَصّ الْقُرْآن عَلَى الْأَعْيَان الثَّلَاثَة , وَالِانْتِقَال بِالْبَيَانِ مِنْ نَوْع إِلَى نَوْع ؟ ! إِذَا دَفَعَ الْكِسْوَة إِلَى ذِمِّيّ أَوْ إِلَى عَبْد لَمْ يُجْزِهِ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُجْزِئهُ ; لِأَنَّهُ مِسْكِين يَتَنَاوَلهُ لَفْظ الْمَسْكَنَة , وَيَشْتَمِل عَلَيْهِ عُمُوم الْآيَة . قُلْنَا : هَذَا يَخُصّهُ بِأَنْ يَقُول جُزْء مِنْ الْمَال يَجِب إِخْرَاجه لِلْمَسَاكِينِ فَلَا يَجُوز دَفْعه لِلْكَافِرِ ; أَصْله الزَّكَاة ; وَقَدْ اِتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز دَفْعه لِلْمُرْتَدِّ ; فَكُلّ دَلِيل خُصَّ بِهِ الْمُرْتَدّ فَهُوَ دَلِيلنَا فِي الذِّمِّيّ , وَالْعَبْد لَيْسَ بِمِسْكِينٍ لِاسْتِغْنَائِهِ بِنَفَقَةِ سَيِّده فَلَا تُدْفَع إِلَيْهِ كَالْغَنِيِّ .
التَّحْرِير الْإِخْرَاج مِنْ الرِّقّ ; وَيُسْتَعْمَل فِي الْأَسْر وَالْمَشَقَّات وَتَعَب الدُّنْيَا وَنَحْوهَا , وَمِنْهُ قَوْل أُمّ مَرْيَم : " إِنِّي نَذَرْت لَك مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا " [ آل عِمْرَان : 35 ] أَيْ مِنْ شُغُوب الدُّنْيَا وَنَحْوهَا , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الْفَرَزْدَق بْن غَالِب : أَبَنِي غُدَانَة إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْن جِعَال أَيْ حَرَّرْتُكُمْ مِنْ الْهِجَاء , وَخَصَّ الرَّقَبَة مِنْ الْإِنْسَان , إِذْ هُوَ الْعُضْو الَّذِي يَكُون فِيهِ الْغُلّ وَالتَّوَثُّق غَالِبًا مِنْ الْحَيَوَان , فَهُوَ مَوْضِع الْمِلْك فَأُضِيفَ التَّحْرِير إِلَيْهَا . لَا يَجُوز عِنْدنَا إِلَّا إِعْتَاق رَقَبَة مُؤْمِنَة كَامِلَة لَيْسَ فِيهَا شِرْك لِغَيْرِهِ , وَلَا عَتَاقَة بَعْضهَا , وَلَا عِتْق إِلَى أَجَل , وَلَا كِتَابَة وَلَا تَدْبِير , وَلَا تَكُون أُمّ وَلَد وَلَا مَنْ يَعْتِق عَلَيْهِ إِذَا مَلَكَهُ , وَلَا يَكُون بِهَا مِنْ الْهَرَم وَالزَّمَانَة مَا يَضُرّ بِهَا فِي الِاكْتِسَاب , سَلِيمَة غَيْر مَعِيبَة ; خِلَافًا لِدَاوُدَ فِي تَجْوِيزه إِعْتَاق الْمَعِيبَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يَجُوز عِتْق الْكَافِرَة ; لِأَنَّ مُطْلَق اللَّفْظ يَقْتَضِيهَا . وَدَلِيلنَا أَنَّهَا قُرْبَة وَاجِبَة فَلَا يَكُون الْكَافِر مَحَلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ ; وَأَيْضًا فَكُلّ مُطْلَق فِي الْقُرْآن مِنْ هَذَا فَهُوَ رَاجِع إِلَى الْمُقَيَّد فِي عِتْق الرَّقَبَة فِي الْقَتْل الْخَطَأ . وَإِنَّمَا قُلْنَا : لَا يَكُون فِيهَا شِرْك , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَتَحْرِير رَقَبَة " [ النِّسَاء : 92 ] وَبَعْض الرَّقَبَة لَيْسَ بِرَقَبَةٍ . وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَكُون فِيهَا عَقْد عِتْق ; لِأَنَّ التَّحْرِير يَقْتَضِي اِبْتِدَاء عِتْق دُون تَنْجِيز عِتْق مُقَدَّم . وَإِنَّمَا قُلْنَا : سَلِيمَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَتَحْرِير رَقَبَة " وَالْإِطْلَاق يَقْتَضِي تَحْرِير رَقَبَة كَامِلَة وَالْعَمْيَاء نَاقِصَة , وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا مِنْ مُسْلِم يُعْتِق اِمْرَأً مُسْلِمًا إِلَّا كَانَ فِكَاكه مِنْ النَّار كُلّ عُضْو مِنْهُ بِعُضْوٍ مِنْهَا حَتَّى الْفَرْج بِالْفَرْجِ ) وَهَذَا نَصّ , وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَعْوَر قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَب , وَكَذَلِكَ فِي الْأَصَمّ وَالْخَصِيّ . مَنْ أَخْرَجَ مَالًا لِيُعْتِق رَقَبَة فِي كَفَّارَة فَتَلِفَ كَانَتْ الْكَفَّارَة بَاقِيَة عَلَيْهِ , بِخِلَافِ مُخْرِج الْمَال فِي الزَّكَاة لِيَدْفَعهُ إِلَى الْفُقَرَاء , أَوْ لِيَشْتَرِيَ بِهِ رَقَبَة فَتَلِفَ , لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْره لِامْتِثَالِ الْأَمْر . اِخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَة إِذَا مَاتَ الْحَالِف ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر : كَفَّارَات الْأَيْمَان تُخْرَج مِنْ رَأْس مَال الْمَيِّت , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : تَكُون فِي الثُّلُث ; وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِك إِنْ أَوْصَى بِهَا .
مَنْ حَلَفَ وَهُوَ مُوسِر فَلَمْ يُكَفِّر حَتَّى أَعْسَرَ , أَوْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِر فَلَمْ يُكَفِّر حَتَّى أَيْسَرَ , أَوْ حَنِثَ وَهُوَ عَبْد فَلَمْ يُكَفِّر حَتَّى عَتَقَ , فَالْمُرَاعَاة فِي ذَلِكَ كُلّه بِوَقْتِ التَّكْفِير لَا وَقْت الْحِنْث . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّه لَأَنْ يَلَجّ أَحَدكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْله آثَم لَهُ عِنْد اللَّه مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَته الَّتِي فَرَضَ اللَّه ) اللِّجَاج فِي الْيَمِين هُوَ الْمُضِيّ عَلَى مُقْتَضَاهُ , وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حَرَج وَمَشَقَّة , وَتَرْك مَا فِيهِ مَنْفَعَة عَاجِلَة أَوْ آجِلَة ; فَإِنْ كَانَ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى بِهِ تَحْنِيث نَفْسه وَفِعْل الْكَفَّارَة , وَلَا يَعْتَلّ بِالْيَمِينِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَجْعَلُوا اللَّه عُرْضَة لِأَيْمَانِكُمْ " [ الْبَقَرَة : 224 ] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْر ) أَيْ الَّذِي هُوَ أَكْثَر خَيْرًا . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْيَمِين عَلَى نِيَّة الْمُسْتَحْلِف ) قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِين فِي حَقّ وَجَبَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ وَهُوَ يَنْوِي غَيْره لَمْ تَنْفَعهُ نِيَّته , وَلَا يَخْرُج بِهَا عَنْ إِثْم تِلْكَ الْيَمِين , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر : ( يَمِينك عَلَى مَا يُصَدِّقك عَلَيْهِ صَاحِبك ) , وَرُوِيَ ( يُصَدِّقك بِهِ صَاحِبك ) خَرَّجَهُ مُسْلِم أَيْضًا . قَالَ مَالِك : مَنْ حَلَفَ لِطَالِبِهِ فِي حَقّ لَهُ عَلَيْهِ , وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينه , أَوْ حَرَّكَ لِسَانه أَوْ شَفَتَيْهِ , أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ , لَمْ يَنْفَعهُ اِسْتِثْنَاؤُهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النِّيَّة نِيَّة الْمَحْلُوف لَهُ ; لِأَنَّ الْيَمِين حَقّ لَهُ , وَإِنَّمَا تَقَع عَلَى حَسَب مَا يَسْتَوْفِيه لَهُ الْحَاكِم لَا عَلَى اِخْتِيَار الْحَالِف ; لِأَنَّهَا مُسْتَوْفَاة مِنْهُ . هَذَا تَحْصِيل مَذْهَبه وَقَوْله .
مَعْنَاهُ لَمْ يَجِد فِي مِلْكه أَحَد هَذِهِ الثَّلَاثَة ; مِنْ الْإِطْعَام أَوْ الْكِسْوَة أَوْ عِتْق الرَّقَبَة بِإِجْمَاعٍ ; فَإِذَا عَدِمَ هَذِهِ الثَّلَاثَة الْأَشْيَاء صَامَ , وَالْعَدَم يَكُون بِوَجْهَيْنِ إِمَّا بِمَغِيبِ الْمَال عَنْهُ أَوْ عَدَمه ; فَالْأَوَّل أَنْ يَكُون فِي بَلَد غَيْر بَلَده فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْم , وَإِنْ لَمْ يَجِد مَنْ يُسَلِّفهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ; فَقِيلَ : يَنْتَظِر إِلَى بَلَده ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَذَلِكَ لَا يَلْزَمهُ بَلْ يُكَفِّر بِالصِّيَامِ ; لِأَنَّ الْوُجُوب قَدْ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّة وَالشَّرْط مِنْ الْعَدَم قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا وَجْه لِتَأْخِيرِ الْأَمْر ; فَلْيُكَفِّرْ مَكَانه لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَمَنْ لَمْ يَجِد " , وَقِيلَ : مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْل عَنْ رَأْس مَاله الَّذِي يَعِيش بِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِد , وَقِيلَ : هُوَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قُوت يَوْمه وَلَيْلَته , وَلَيْسَ عِنْده فَضْل يُطْعِمهُ ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ , وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّ مَنْ تَفْضُل عَنْهُ نَفَقَة يَوْمه فَإِنَّهُ لَا يَصُوم ; قَالَ اِبْن الْقَاسِم فِي كِتَاب اِبْن مُزَيْن : إِنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْحَانِثِ فَضْل عَنْ قُوت يَوْمه أَطْعَمَ إِلَّا أَنْ يَخَاف الْجُوع , أَوْ يَكُون فِي بَلَد لَا يُعْطَف عَلَيْهِ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْده نِصَاب فَهُوَ غَيْر وَاجِد , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق : إِذَا كَانَ عِنْده قُوت يَوْم وَلَيْلَة أَطْعَمَ مَا فَضَلَ عَنْهُ , وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : إِذَا كَانَ عِنْده قُوت يَوْمه وَلَيْلَته وَعِيَال وَكِسْوَة تَكُون لِكِفَايَتِهِمْ , ثُمَّ يَكُون بَعْد ذَلِكَ مَالِكًا لِقَدْرِ الْكَفَّارَة فَهُوَ عِنْدنَا وَاجِد . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : قَوْل أَبِي عُبَيْد حَسَن .
قَرَأَهَا اِبْن مَسْعُود ( مُتَتَابِعَات ) فَيُقَيَّد بِهَا الْمُطْلَق ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْم فِي كَفَّارَة الظِّهَار , وَاعْتِبَارًا بِقِرَاءَةِ عَبْد اللَّه , وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله الْآخَر : يُجْزِئهُ التَّفْرِيق ; لِأَنَّ التَّتَابُع صِفَة لَا تَجِب إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاس عَلَى مَنْصُوص وَقَدْ عُدِمَا . مَنْ أَفْطَرَ فِي يَوْم مِنْ أَيَّام الصِّيَام نَاسِيًا فَقَالَ مَالِك : عَلَيْهِ الْقَضَاء , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا قَضَاء عَلَيْهِ ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الصِّيَام فِي " الْبَقَرَة " . هَذِهِ الْكَفَّارَة الَّتِي نَصَّ اللَّه عَلَيْهَا لَازِمَة لِلْحُرِّ الْمُسْلِم بِاتِّفَاقٍ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِب مِنْهَا عَلَى الْعَبْد إِذَا حَنِثَ ; فَكَانَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي يَقُولُونَ : لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْم , لَا يُجْزِئهُ غَيْر ذَلِكَ ; وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل مَالِك , فَحَكَى عَنْهُ اِبْن نَافِع أَنَّهُ قَالَ : لَا يُكَفِّر الْعَبْد بِالْعِتْقِ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُون لَهُ الْوَلَاء , وَلَكِنْ يُكَفِّر بِالصَّدَقَةِ إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّده ; وَأَصْوَب ذَلِكَ أَنْ يَصُوم . وَحَكَى اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إِنْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا بِإِذْنِ السَّيِّد فَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ , وَفِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْء .
أَيْ تَغْطِيَة أَيْمَانكُمْ ; وَكَفَّرْت الشَّيْء غَطَّيْته وَسَتَرْته وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَلَا خِلَاف أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَة فِي الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَقَدْ ذَهَبَ بَعْض التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ كَفَّارَة الْيَمِين فِعْل الْخَيْر الَّذِي حَلَفَ فِي تَرْكه , وَتَرْجَمَ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه ( مَنْ قَالَ كَفَّارَتهَا تَرْكهَا ) حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر عَنْ حَارِثَة بْن أَبِي الرِّجَال عَنْ عَمْرَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ فِي قَطِيعَة رَحِم أَوْ فِيمَا لَا يَصِحّ فَبِرّه أَلَّا يُتِمّ عَلَى ذَلِكَ ) وَأَسْنَدَ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتهَا ) . قُلْت : وَيَعْتَضِد هَذَا بِقِصَّةِ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين حَلَفَ أَلَّا يَطْعَم الطَّعَام , وَحَلَفَتْ اِمْرَأَته أَلَّا تَطْعَمهُ حَتَّى يَطْعَمهُ , وَحَلَفَ الضَّيْف - أَوْ الْأَضْيَاف - أَلَّا يَطْعَمهُ أَوْ لَا يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمهُ , فَقَالَ أَبُو بَكْر : كَانَ هَذَا مِنْ الشَّيْطَان ; فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ , وَزَادَ مُسْلِم قَالَ : فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه , بَرُّوا وَحَنِثْت ; قَالَ : فَأَخْبَرَهُ ; قَالَ : ( بَلْ أَنْتَ أَبَرّهمْ وَأَخْيَرهمْ ) قَالَ : وَلَمْ تَبْلُغنِي كَفَّارَة , وَاخْتَلَفُوا فِي كَفَّارَة غَيْر الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; فَقَالَ مَالِك : مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَاله أَخْرَجَ ثُلُثه , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين ; وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر , وَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا , وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَعَطَاء وَطَاوُس : لَا شَيْء عَلَيْهِ , وَأَمَّا الْيَمِين بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّة فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ عِنْد مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة , وَتُجْزِئهُ كَفَّارَة يَمِين عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبِي ثَوْر , وَقَالَ اِبْن الْمُسَيِّب وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد : لَا شَيْء عَلَيْهِ ; قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : أَكْثَر أَهْل الْعِلْم بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرهَا يُوجِبُونَ فِي الْيَمِين بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّة كَفَّارَة مِثْل كَفَّارَة الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُور فُقَهَاء الْمُسْلِمِينَ , وَقَدْ أَفْتَى بِهِ اِبْنُ الْقَاسِمِ اِبْنَهُ عَبْد الصَّمَد , وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ قَوْل اللَّيْث بْن سَعْد , وَالْمَشْهُور عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّهُ لَا كَفَّارَة عِنْده فِي الْمَشْي إِلَى مَكَّة إِلَّا بِالْمَشْيِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ; وَهُوَ قَوْل مَالِك . وَأَمَّا الْحَالِف بِالْعِتْقِ فَعَلَيْهِ عِتْق مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ فِي قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة أَنَّهُ يُكَفِّر كَفَّارَة يَمِين وَلَا يَلْزَمهُ الْعِتْق - وَقَالَ عَطَاء : يَتَصَدَّق بِشَيْءٍ . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَأَجْمَعَ مَنْ يُعْتَمَد عَلَى قَوْله مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الطَّلَاق لَازِم لِمَنْ حَلَفَ بِهِ وَحَنِثَ .
أَيْ بِالْبِدَارِ إِلَى مَا لَزِمَكُمْ مِنْ الْكَفَّارَة إِذَا حَنِثْتُمْ , وَقِيلَ : أَيْ بِتَرْكِ الْحَلِف ; فَإِنَّكُمْ إِذَا لَمْ تَحْلِفُوا لَمْ تَتَوَجَّه عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَات .
الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ آيَاته الدَّالَّة عَلَى مُتَعَبَّدَاته بَيَانًا مِثْل مَا يُبَيِّن لَكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاء .
كُلّ مَا كَانَ مِثْله فِيمَا وَرَدَ فِي كَلَام اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْله : " لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ , لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ , لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ , لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " فِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَات . الْأَوَّل : أَنَّ " لَعَلَّ " عَلَى بَابهَا مِنْ التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّع , وَالتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّع إِنَّمَا هُوَ فِي حَيِّز الْبَشَر ; فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ : اِفْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّجَاء مِنْكُمْ وَالطَّمَع أَنْ تَعْقِلُوا وَأَنْ تَذَكَّرُوا وَأَنْ تَتَّقُوا أَوْ تَشْكُرُوا . هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ وَرُؤَسَاء اللِّسَان قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " اِذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى " [ طَه : 43 - 44 ] قَالَ مَعْنَاهُ : اِذْهَبَا عَلَى طَمَعكُمَا وَرَجَائِكُمَا أَنْ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى , وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل أَبُو الْمَعَالِي .
الثَّانِي : أَنَّ الْعَرَب اِسْتَعْمَلَتْ " لَعَلَّ " مُجَرَّدَة مِنْ الشَّكّ بِمَعْنَى لَام كَيْ . فَالْمَعْنَى لِتَعْقِلُوا وَلِتَذَكَّرُوا وَلِتَتَّقُوا ; وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلّ قَوْل الشَّاعِر : وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوب لَعَلَّنَا نَكُفّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلّ مَوْثِق فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْب كَانَتْ عُهُودكُمْ كَلَمْعِ سَرَاب فِي الْمَلَا مُتَأَلِّق الْمَعْنَى : كُفُّوا الْحُرُوب لِنَكُفّ , وَلَوْ كَانَتْ " لَعَلَّ " هُنَا شَكًّا لَمْ يُوَثِّقُوا لَهُمْ كُلّ مَوْثِق ; وَهَذَا الْقَوْل عَنْ قُطْرُب وَالطَّبَرِيّ . الثَّالِث : أَنْ تَكُون " لَعَلَّ " بِمَعْنَى التَّعَرُّض لِلشَّيْءِ , كَأَنَّهُ قِيلَ : اِفْعَلُوا مُتَعَرِّضِينَ لِأَنْ تَعْقِلُوا , أَوْ لِأَنْ تَذَكَّرُوا أَوْ لِأَنْ تَتَّقُوا أَوْ لِأَنْ تَشْكُرُوا .
كَيْ تَشْكُرُوا عَفْو اللَّه عَنْكُمْ وَأَمَّا الشُّكْر فَهُوَ فِي اللُّغَة الظُّهُور مِنْ قَوْله دَابَّة شَكُور إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنْ السِّمَن فَوْق مَا تُعْطَى مِنْ الْعَلَف وَحَقِيقَته الثَّنَاء عَلَى الْإِنْسَان بِمَعْرُوفٍ بِمَلِيكِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَة قَالَ الْجَوْهَرِيّ الشُّكْر الثَّنَاء عَلَى الْمُحْسِن بِمَا أَوْلَاكَهُ مِنْ الْمَعْرُوف يُقَال شَكَرْته وَشَكَرْت لَهُ وَبِاللَّامِ أَفْصَح وَالشُّكْرَان خِلَاف الْكُفْرَان وَتَشَكَّرْت لَهُ مِثْل شَكَرْت لَهُ وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لَا يَشْكُر اللَّه مَنْ لَا يَشْكُر النَّاس ) قَالَ الْخَطَّابِيّ هَذَا الْكَلَام يُتَأَوَّل عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ طَبْعه كُفْرَان نِعْمَة النَّاس وَتَرْك الشُّكْر لِمَعْرُوفِهِمْ كَانَ مِنْ عَادَته كُفْرَان نِعْمَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْك الشُّكْر لَهُ وَالْوَجْه الْآخَر أَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَا يَقْبَل شُكْر الْعَبْد عَلَى إِحْسَانه إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْعَبْد لَا يَشْكُر إِحْسَان النَّاس إِلَيْهِ وَيَكْفُر مَعْرُوفهمْ لِاتِّصَالِ أَحَد الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ .
وَعِبَارَات الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الشُّكْر فَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : الشُّكْر الِاجْتِهَاد فِي بَذْل الطَّاعَة مَعَ الِاجْتِنَاب لِلْمَعْصِيَةِ فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَقَالَتْ فِرْقَة أُخْرَى الشُّكْر هُوَ الِاعْتِرَاف فِي تَقْصِير الشُّكْر لِلْمُنْعِمِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى " اِعْمَلُوا آل دَاوُد شُكْرًا " [ سَبَأ : 13 ] فَقَالَ دَاوُد كَيْفَ أَشْكُرك يَا رَبّ وَالشُّكْر نِعْمَة مِنْك قَالَ الْآن قَدْ عَرَفْتنِي وَشَكَرْتنِي إِذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الشُّكْر مِنِّي نِعْمَة قَالَ يَا رَبّ فَأَرِنِي أَخْفَى نِعَمك عَلَيَّ قَالَ يَا دَاوُد تَنَفَّسْ فَتَنَفَّسَ دَاوُد فَقَالَ اللَّه تَعَالَى مَنْ يُحْصِي هَذِهِ النِّعْمَة اللَّيْل وَالنَّهَار وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَيْفَ أَشْكُرك وَأَصْغَر نِعْمَة وَضَعْتهَا بِيَدِي مِنْ نِعَمك لَا يُجَازِي بِهَا عَمَلِي كُلّه فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ يَا مُوسَى الْآن شَكَرْتنِي وَقَالَ الْجُنَيْد حَقِيقَة الشُّكْر الْعَجْز عَنْ الشُّكْر وَعَنْهُ قَالَ كُنْت بَيْن يَدَيْ السَّرِيّ السَّقَطِيّ أَلْعَب وَأَنَا اِبْن سَبْع سِنِينَ وَبَيْن يَدَيْهِ جَمَاعَة يَتَكَلَّمُونَ فِي الشُّكْر فَقَالَ : لِي يَا غُلَام مَا الشُّكْر فَقُلْت أَلَّا يُعْصَى اللَّه بِنِعَمِهِ فَقَالَ لِي أَخْشَى أَنْ يَكُون حَظّك مِنْ اللَّه لِسَانك قَالَ الْجُنَيْد فَلَا أَزَال أَبْكِي عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَة الَّتِي قَالَهَا السَّرِيّ لِي وَقَالَ الشِّبْلِيّ الشُّكْر التَّوَاضُع وَالْمُحَافَظَة عَلَى الْحَسَنَات وَمُخَالَفَة الشَّهَوَات وَبَذْل الطَّاعَات وَمُرَاقَبَة جَبَّار الْأَرْض وَالسَّمَاوَات وَقَالَ ذُو النُّون الْمِصْرِيّ أَبُو الْفَيْض الشُّكْر لِمَنْ فَوْقك بِالطَّاعَةِ وَلِنَظِيرِك بِالْمُكَافَأَةِ وَلِمَنْ دُونك بِالْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَال
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ↓
فِيهِ ثَلَاثَة عَشَر مَسْأَلَة : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " خِطَاب لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاء ; إِذَا كَانَتْ شَهَوَات وَعَادَات تَلَبَّسُوا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَغَلَبَتْ عَلَى النُّفُوس , فَكَانَ نَفْي مِنْهَا فِي نُفُوس كَثِير مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل هَوَى الزَّجْر بِالطَّيْرِ , وَأَخْذ الْفَأْل فِي الْكُتُب وَنَحْوه مِمَّا يَصْنَعهُ النَّاس الْيَوْم , وَأَمَّا الْخَمْر فَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّم بَعْد , وَإِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمهَا فِي سَنَة ثَلَاث بَعْد وَقْعَة أُحُد , وَكَانَتْ وَقْعَة أُحُد فِي شَوَّال سَنَة ثَلَاث مِنْ الْهِجْرَة , وَتَقَدَّمَ اِشْتِقَاقهَا . وَأَمَّا " الْمَيْسِر " فَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ , وَأَمَّا الْأَنْصَاب فَقِيلَ : هِيَ الْأَصْنَام . وَقِيلَ : هِيَ النَّرْد وَالشِّطْرَنْج ; وَيَأْتِي بَيَانهمَا فِي سُورَة " يُونُس " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " فَمَاذَا بَعْد الْحَقّ إِلَّا الضَّلَال " [ يُونُس : 32 ] , وَأَمَّا الْأَزْلَام فَهِيَ الْقِدَاح , وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّل السُّورَة الْقَوْل فِيهَا . وَيُقَال كَانَتْ فِي الْبَيْت عِنْد سَدَنَة الْبَيْت وَخُدَّام الْأَصْنَام ; يَأْتِي الرَّجُل إِذَا أَرَادَ حَاجَة فَيَقْبِض مِنْهَا شَيْئًا ; فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمَرَنِي رَبِّي خَرَجَ إِلَى حَاجَته عَلَى مَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ . الثَّانِيَة : تَحْرِيم الْخَمْر كَانَ بِتَدْرِيجٍ وَنَوَازِل كَثِيرَة ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُولَعِينَ بِشُرْبِهَا , وَأَوَّل مَا نَزَلَ فِي شَأْنهَا " يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْر وَالْمَيْسِر قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافِع لِلنَّاسِ " [ الْبَقَرَة : 219 ] أَيْ فِي تِجَارَتهمْ ; فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة تَرَكَهَا بَعْض النَّاس وَقَالُوا : لَا حَاجَة لَنَا فِيمَا فِيهِ إِثْم كَبِير , وَلَمْ يَتْرُكهَا بَعْض النَّاس وَقَالُوا : نَأْخُذ مَنْفَعَتهَا وَنَتْرُك إِثْمهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " [ النِّسَاء : 43 ] فَتَرَكَهَا بَعْض النَّاس وَقَالُوا : لَا حَاجَة لَنَا فِيمَا يَشْغَلنَا عَنْ الصَّلَاة , وَشَرِبَهَا بَعْض النَّاس فِي غَيْر أَوْقَات الصَّلَاة حَتَّى نَزَلَتْ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس " الْآيَة - فَصَارَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَ يَقُول بَعْضهمْ : مَا حَرَّمَ اللَّه شَيْئًا أَشَدّ مِنْ الْخَمْر , وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَة : نَزَلَتْ بِسَبَبِ عُمَر بْن الْخَطَّاب ; فَإِنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيُوب الْخَمْر , وَمَا يَنْزِل بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلهَا , وَدَعَا اللَّه فِي تَحْرِيمهَا وَقَالَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَات , فَقَالَ عُمَر : اِنْتَهَيْنَا اِنْتَهَيْنَا , وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " و " النِّسَاء " , وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " [ النِّسَاء : 43 ] , و " يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْر وَالْمَيْسِر قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافِع لِلنَّاسِ " [ الْبَقَرَة : 219 ] نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي الْمَائِدَة . " إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب " , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَتْ فِي آيَات مِنْ الْقُرْآن ; وَفِيهِ قَالَ : وَأَتَيْت عَلَى نَفَر مِنْ الْأَنْصَار ; فَقَالُوا : تَعَالَ نُطْعِمك وَنَسْقِيك خَمْرًا , وَذَلِكَ قَبْل أَنْ تُحَرَّم الْخَمْر ; قَالَ : فَأَتَيْتهمْ فِي حُشّ - وَالْحُشّ الْبُسْتَان - فَإِذَا رَأْس جَزُور مَشْوِيّ عِنْدهمْ وَزِقّ مِنْ خَمْر ; قَالَ : فَأَكَلْت وَشَرِبْت مَعَهُمْ ; قَالَ : فَذَكَرْت الْأَنْصَار وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدهمْ فَقُلْت : الْمُهَاجِرُونَ خَيْر مِنْ الْأَنْصَار ; قَالَ : فَأَخَذَ رَجُل لَحْيَيْ جَمَل فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ أَنْفِي - وَفَى رِوَايَة فَفَزَرَهُ وَكَانَ أَنْف سَعْد مَفْزُورًا فَأَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِيَّ - يَعْنِي نَفْسه شَأْن الْخَمْر - " إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس مِنْ عَمَل الشَّيْطَان فَاجْتَنِبُوهُ " . الثَّالِثَة : هَذِهِ الْأَحَادِيث تَدُلّ عَلَى أَنَّ شُرْب الْخَمْر كَانَ إِذْ ذَاكَ مُبَاحًا مَعْمُولًا بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدهمْ بِحَيْثُ لَا يُنْكَر وَلَا يُغَيَّر , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عَلَيْهِ , وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ ; يَدُلّ عَلَيْهِ آيَة النِّسَاء " لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " [ النِّسَاء : 43 ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَهَلْ كَانَ يُبَاح لَهُمْ شُرْب الْقَدْر الَّذِي يُسْكِر ؟ حَدِيث حَمْزَة ظَاهِر فِيهِ حِين بَقَرَ خَوَاصِر نَاقَتَيْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَجَبَّ أَسْنِمَتهمَا , فَأَخْبَرَ عَلِيّ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجَاءَ إِلَى حَمْزَة فَصَدَرَ عَنْ حَمْزَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَوْل الْجَافِي الْمُخَالِف لِمَا يَجِب عَلَيْهِ مِنْ اِحْتِرَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْقِيره وَتَعْزِيره , مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ حَمْزَة كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَقْله بِمَا يُسْكِر ; وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاوِي : فَعَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ثَمِل ; ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِر عَلَى حَمْزَة وَلَا عَنَّفَهُ , لَا فِي حَال سُكْره وَلَا بَعْد ذَلِكَ , بَلْ رَجَعَ لَمَّا قَالَ حَمْزَة : وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيد لِأَبِي عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجَ عَنْهُ , وَهَذَا خِلَاف مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَحَكَوْهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ السُّكْر حَرَام فِي كُلّ شَرِيعَة ; لِأَنَّ الشَّرَائِع مَصَالِح الْعِبَاد لَا مَفَاسِدهمْ , وَأَصْل الْمَصَالِح الْعَقْل , كَمَا أَنَّ أَصْل الْمَفَاسِد ذَهَابه , فَيَجِب الْمَنْع مِنْ كُلّ مَا يُذْهِبهُ أَوْ يُشَوِّشهُ , إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل حَدِيث حَمْزَة أَنَّهُ لَمْ يَقْصِد بِشُرْبِهِ السُّكْر لَكِنَّهُ أَسْرَعَ فِيهِ فَغَلَبَهُ , وَاللَّه أَعْلَمُ . الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " رِجْس " قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة : ( رِجْس ) سُخْط وَقَدْ يُقَال لِلنَّتْنِ وَالْعَذِرَة وَالْأَقْذَار رِجْس , وَالرِّجْز بِالزَّايِ الْعَذَاب لَا غَيْر , وَالرِّكْس الْعَذِرَة لَا غَيْر . وَالرِّجْس يُقَال لِلْأَمْرَيْنِ , وَمَعْنَى " مِنْ عَمَل الشَّيْطَان " أَيْ بِحَمْلِهِ عَلَيْهِ وَتَزْيِينه . وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي كَانَ عَمِلَ مَبَادِئ هَذِهِ الْأُمُور بِنَفْسِهِ حَتَّى اقْتُدِيَ بِهِ فِيهَا .
الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : " فَاجْتَنِبُوهُ " يُرِيد أَبْعِدُوهُ وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَة ; فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْأُمُور , وَاقْتَرَنَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْر مَعَ نُصُوص الْأَحَادِيث وَإِجْمَاع الْأُمَّة , فَحَصَلَ الِاجْتِنَاب فِي جِهَة التَّحْرِيم ; فَبِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَمْر , وَلَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سُورَة " الْمَائِدَة " نَزَلَتْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْر , وَهِيَ مَدَنِيَّة مِنْ آخِر مَا نَزَلَ , وَوَرَدَ التَّحْرِيم فِي الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير فِي قَوْله تَعَالَى : " قُلْ لَا أَجِد " وَغَيْرهَا مِنْ الْآي خَبَرًا , وَفِي الْخَمْر نَهْيًا وَزَجْرًا , وَهُوَ أَقْوَى التَّحْرِيم وَأَوْكَده . رَوَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر , مَشَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض , وَقَالُوا حُرِّمَتْ الْخَمْر , وَجُعِلَتْ عِدْلًا لِلشِّرْكِ ; يَعْنِي أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالذَّبْحِ لِلْأَنْصَابِ وَذَلِكَ شِرْك . ثُمَّ عَلَّقَ " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " فَعَلَّقَ الْفَلَاح بِالْأَمْرِ , وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى تَأْكِيد الْوُجُوب . وَاللَّه أَعْلَمُ . السَّادِسَة : فَهِمَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَحْرِيم الْخَمْر , وَاسْتِخْبَاث الشَّرْع لَهَا , وَإِطْلَاق الرِّجْس عَلَيْهَا , وَالْأَمْر بِاجْتِنَابِهَا , الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهَا , وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ رَبِيعَة وَاللَّيْث بْن سَعْد وَالْمُزَنِيّ صَاحِب الشَّافِعِيّ , وَبَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْقَرَوِيِّينَ فَرَأَوْا أَنَّهَا طَاهِرَة , وَأَنَّ الْمُحَرَّم إِنَّمَا هُوَ شُرْبهَا . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ سَعِيد بْن الْحَدَّاد الْقَرَوِيّ عَلَى طَهَارَتهَا بِسَفْكِهَا فِي طُرُق الْمَدِينَة ; قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَة لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ , وَلَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْ التَّخَلِّي فِي الطُّرُق , وَالْجَوَاب ; أَنَّ الصَّحَابَة فَعَلَتْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُرُوب وَلَا آبَار يُرِيقُونَهَا فِيهَا , إِذْ الْغَالِب مِنْ أَحْوَالهمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُنُف فِي بُيُوتهمْ , وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَذَّرُونَ مِنْ اِتِّخَاذ الْكُنُف فِي الْبُيُوت , وَنَقْلهَا إِلَى خَارِج الْمَدِينَة فِيهِ كُلْفَة وَمَشَقَّة , وَيَلْزَم مِنْهُ تَأْخِير مَا وَجَبَ عَلَى الْفَوْر , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُمْكِن التَّحَرُّز مِنْهَا ; فَإِنَّ طُرُق الْمَدِينَة كَانَتْ وَاسِعَة , وَلَمْ تَكُنْ الْخَمْر مِنْ الْكَثْرَة بِحَيْثُ تَصِير نَهْرًا يَعُمّ الطَّرِيق كُلّهَا , بَلْ إِنَّمَا جَرَتْ فِي مَوَاضِع يَسِيرَة يُمْكِن التَّحَرُّز عَنْهَا - هَذَا - مَعَ مَا يَحْصُل فِي ذَلِكَ مِنْ فَائِدَة شُهْرَة إِرَاقَتهَا فِي طُرُق الْمَدِينَة , لِيَشِيعَ الْعَمَل عَلَى مُقْتَضَى تَحْرِيمهَا مِنْ إِتْلَافهَا , وَأَنَّهُ لَا يُنْتَفَع بِهَا , وَتَتَابَعَ النَّاس وَتَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ . فَإِنْ قِيلَ : التَّنْجِيس حُكْم شَرْعِيّ وَلَا نَصّ فِيهِ , وَلَا يَلْزَم مِنْ كَوْن الشَّيْء مُحَرَّمًا أَنْ يَكُون نَجِسًا ; فَكَمْ مِنْ مُحَرَّم فِي الشَّرْع لَيْسَ بِنَجِسٍ ; قُلْنَا : قَوْله تَعَالَى : " رِجْس " يَدُلّ عَلَى نَجَاسَتهَا ; فَإِنَّ الرِّجْس فِي اللِّسَان النَّجَاسَة , ثُمَّ لَوْ اِلْتَزَمْنَا أَلَّا نَحْكُم بِحُكْمٍ إِلَّا حَتَّى نَجِد فِيهِ نَصًّا لَتَعَطَّلَتْ الشَّرِيعَة ; فَإِنَّ النُّصُوص فِيهَا قَلِيلَة ; فَأَيّ نَصّ يُوجَد عَلَى تَنْجِيس الْبَوْل وَالْعَذِرَة وَالدَّم وَالْمَيْتَة وَغَيْر ذَلِكَ ؟ وَإِنَّمَا هِيَ الظَّوَاهِر وَالْعُمُومَات وَالْأَقْيِسَة , وَسَيَأْتِي فِي سُورَة " الْحَجّ " مَا يُوَضِّح هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
السَّابِعَة : قَوْله : " فَاجْتَنِبُوهُ " يَقْتَضِي الِاجْتِنَاب الْمُطْلَق الَّذِي لَا يُنْتَفَع مَعَهُ بِشَيْءٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه ; لَا بِشُرْبٍ وَلَا بَيْع وَلَا تَخْلِيل وَلَا مُدَاوَاة وَلَا غَيْر ذَلِكَ , وَعَلَى هَذَا تَدُلّ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب , وَرَوَى مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَة خَمْر , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلْ عَلِمْت أَنَّ اللَّه حَرَّمَهَا ) قَالَ : لَا , قَالَ : فَسَارَّ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بِمَ سَارَرْته ) ؟ قَالَ : أَمَرْته بِبَيْعِهَا ; فَقَالَ : ( إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبهَا حَرَّمَ بَيْعهَا ) , قَالَ : فَفَتَحَ الْمَزَادَة حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا ; فَهَذَا حَدِيث يَدُلّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ; إِذْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَة مِنْ الْمَنَافِع الْجَائِزَة لَبَيَّنَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَمَا قَالَ فِي الشَّاة الْمَيِّتَة . ( هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ ) الْحَدِيث . الثَّامِنَة : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم بَيْع الْخَمْر وَالدَّم , وَفِي ذَلِكَ دَلِيل عَلَى تَحْرِيم بَيْع الْعَذِرَات وَسَائِر النَّجَاسَات وَمَا لَا يَحِلّ أَكْله ; وَلِذَلِكَ - وَاللَّه أَعْلَمُ - كَرِهَ مَالِك بَيْع زِبْل الدَّوَابّ , وَرَخَّصَ فِيهِ اِبْن الْقَاسِم لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَة ; وَالْقِيَاس مَا قَالَهُ مَالِك , وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ , وَهَذَا الْحَدِيث شَاهِد بِصِحَّةِ ذَلِكَ . التَّاسِعَة : ذَهَبَ جُمْهُور الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الْخَمْر لَا يَجُوز تَخْلِيلهَا لِأَحَدٍ , وَلَوْ جَازَ تَخْلِيلهَا مَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدَع الرَّجُل أَنْ يَفْتَح الْمَزَادَة حَتَّى يَذْهَب مَا فِيهَا ; لِأَنَّ الْخَلّ مَال وَقَدْ نُهِيَ عَنْ إِضَاعَة الْمَال , وَلَا يَقُول أَحَد فِيمَنْ أَرَاقَ خَمْرًا عَلَى مُسْلِم إِنَّهُ أَتْلَفَ لَهُ مَالًا , وَقَدْ أَرَاقَ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص خَمْرًا لِيَتِيمٍ , وَاسْتُؤْذِنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَخْلِيلهَا فَقَالَ : ( لَا ) وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْحَدِيث وَالرَّأْي , وَإِلَيْهِ مَالَ سَحْنُون بْن سَعِيد , وَقَالَ آخَرُونَ : لَا بَأْس بِتَخْلِيلِ الْخَمْر وَلَا بَأْس بِأَكْلِ مَا تَخَلَّلَ مِنْهَا بِمُعَالَجَةِ آدَمِيّ أَوْ غَيْرهَا ; وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بْن سَعْد وَالْكُوفِيِّينَ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ طَرَحَ فِيهَا الْمِسْك وَالْمِلْح فَصَارَتْ مُرَبَّى وَتَحَوَّلَتْ عَنْ حَال الْخَمْر جَازَ , وَخَالَفَهُ مُحَمَّد بْن الْحَسَن فِي الْمُرَبَّى وَقَالَ : لَا تُعَالَج الْخَمْر بِغَيْرِ تَحْوِيلهَا إِلَى الْخَلّ وَحْده . قَالَ أَبُو عُمَر : اِحْتَجَّ الْعِرَاقِيُّونَ فِي تَخْلِيل الْخَمْر بِأَبِي الدَّرْدَاء ; وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أَبِي إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء مِنْ وَجْه لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُل الْمُرَبَّى مِنْهُ , وَيَقُول : دَبَغَتْهُ الشَّمْس وَالْمِلْح , وَخَالَفَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص فِي تَخْلِيل الْخَمْر ; وَلَيْسَ فِي رَأْي أَحَد حُجَّة مَعَ السُّنَّة , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق , وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَنْع مِنْ تَخْلِيلهَا كَانَ فِي بَدْء الْإِسْلَام عِنْد نُزُول تَحْرِيمهَا ; لِئَلَّا يُسْتَدَام حَبْسهَا لِقُرْبِ الْعَهْد بِشُرْبِهَا , إِرَادَة لِقَطْعِ الْعَادَة فِي ذَلِكَ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي النَّهْي عَنْ تَخْلِيلهَا حِينَئِذٍ , وَالْأَمْر بِإِرَاقَتِهَا مَا يَمْنَع مِنْ أَكْلهَا إِذَا خُلِّلَتْ . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك قَالَ : إِذَا خَلَّلَ النَّصْرَانِيّ خَمْرًا فَلَا بَأْس بِأَكْلِهِ , وَكَذَلِكَ إِنْ خَلَّلَهَا مُسْلِم وَاسْتَغْفَرَ اللَّه ; وَهَذِهِ الرِّوَايَة ذَكَرَهَا اِبْن عَبْد الْحَكَم فِي كِتَابه . وَالصَّحِيح مَا قَالَهُ مَالِك فِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب أَنَّهُ لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُعَالِج الْخَمْر حَتَّى يَجْعَلهَا خَلًّا وَلَا يَبِيعهَا , وَلَكِنْ لِيُهَرِيقهَا . الْعَاشِرَة : لَمْ يَخْتَلِف قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّ الْخَمْر إِذَا تَخَلَّلَتْ بِذَاتِهَا أَنَّ أَكْل ذَلِكَ الْخَلّ حَلَال , وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَقَبِيصَة وَابْن شِهَاب , وَرَبِيعَة وَأَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ , وَهُوَ تَحْصِيل مَذْهَبه عِنْد أَكْثَر أَصْحَابه . الْحَادِيَة عَشْرَة : ذَكَرَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد أَنَّهَا تُمْلَك , وَنَزَعَ إِلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُمْكِن أَنْ يُزَال بِهَا الْغَصَص , وَيُطْفَأ بِهَا حَرِيق ; وَهَذَا نَقْل لَا يُعْرَف لِمَالِك , بَلْ يُخَرَّج هَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّهَا طَاهِرَة , وَلَوْ جَازَ مِلْكهَا لَمَا أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاقَتِهَا , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِلْك نَوْع نَفْع وَقَدْ بَطَلَ بِإِرَاقَتِهَا . وَالْحَمْد لِلَّهِ . الثَّانِيَة عَشْرَة : هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى تَحْرِيم اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج قِمَارًا أَوْ غَيْر قِمَار ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْر أَخْبَرَ بِالْمَعْنَى الَّذِي فِيهَا فَقَالَ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر " الْآيَة . ثُمَّ قَالَ : " إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِع بَيْنكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء " الْآيَة . فَكُلّ لَهْو دَعَا قَلِيله إِلَى كَثِير , وَأَوْقَعَ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء بَيْن الْعَاكِفِينَ عَلَيْهِ , وَصَدَّ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة فَهُوَ كَشُرْبِ الْخَمْر , وَأَوْجَبَ أَنْ يَكُون حَرَامًا مِثْله . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ شُرْب الْخَمْر يُورِث السُّكْر فَلَا يُقْدَر مَعَهُ عَلَى الصَّلَاة وَلَيْسَ فِي اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج هَذَا الْمَعْنَى ; قِيلَ لَهُ : قَدْ جَمَعَ اللَّه تَعَالَى بَيْن الْخَمْر وَالْمَيْسِر فِي التَّحْرِيم , وَوَصَفَهُمَا جَمِيعًا بِأَنَّهُمَا يُوقِعَانِ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء بَيْن النَّاس , وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة ; وَمَعْلُوم أَنَّ الْخَمْر إِنْ أَسْكَرَتْ فَالْمَيْسِر لَا يُسْكِر , ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْد اللَّه اِفْتِرَاقهمَا فِي ذَلِكَ يَمْنَع مِنْ التَّسْوِيَة بَيْنهمَا فِي التَّحْرِيم لِأَجْلِ مَا اِشْتَرَكَا فِيهِ مِنْ الْمَعَانِي , وَأَيْضًا فَإِنَّ قَلِيل الْخَمْر لَا يُسْكِر كَمَا أَنَّ اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج لَا يُسْكِر , ثُمَّ كَانَ حَرَامًا مِثْل الْكَثِير , فَلَا يُنْكَر أَنْ يَكُون اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج حَرَامًا مِثْل الْخَمْر وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِر . وَأَيْضًا فَإِنَّ اِبْتِدَاء اللَّعِب يُورِث الْغَفْلَة , فَتَقُوم تِلْكَ الْغَفْلَة الْمُسْتَوْلِيَة عَلَى الْقَلْب مَكَان السُّكْر ; فَإِنْ كَانَتْ الْخَمْر إِنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا تُسْكِر فَتَصُدّ بِالْإِسْكَارِ عَنْ الصَّلَاة , فَلْيُحَرَّمْ اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج لِأَنَّهُ يُغْفِل وَيُلْهِي فَيَصُدّ بِذَلِكَ عَنْ الصَّلَاة , وَاللَّه أَعْلَمُ . الثَّالِثَة عَشْرَة : مُهْدِي الرَّاوِيَة يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَبْلُغهُ النَّاسِخ , وَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَة , فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْم لَا يَرْتَفِع بِوُجُودِ النَّاسِخ - كَمَا يَقُول بَعْض الْأُصُولِيِّينَ - بَلْ بِبُلُوغِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيث , وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَبِّخهُ , بَلْ بَيَّنَ لَهُ الْحُكْم ; وَلِأَنَّهُ مُخَاطَب بِالْعَمَلِ بِالْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ عَصَى بِلَا خِلَاف , وَإِنْ كَانَ النَّاسِخ قَدْ حَصَلَ فِي الْوُجُود , وَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ قُبَاء ; إِذْ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس إِلَى أَنْ أَتَاهُمْ الْآتِي فَأَخْبَرَهُمْ بِالنَّاسِخِ , فَمَالُوا نَحْو الْكَعْبَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " الْبَقَرَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ ; وَتَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْر الْخَمْر وَاشْتِقَاقهَا وَالْمَيْسِر , وَقَدْ مَضَى فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة الْقَوْل فِي الْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : " فَاجْتَنِبُوهُ " يُرِيد أَبْعِدُوهُ وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَة ; فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْأُمُور , وَاقْتَرَنَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْر مَعَ نُصُوص الْأَحَادِيث وَإِجْمَاع الْأُمَّة , فَحَصَلَ الِاجْتِنَاب فِي جِهَة التَّحْرِيم ; فَبِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَمْر , وَلَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سُورَة " الْمَائِدَة " نَزَلَتْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْر , وَهِيَ مَدَنِيَّة مِنْ آخِر مَا نَزَلَ , وَوَرَدَ التَّحْرِيم فِي الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير فِي قَوْله تَعَالَى : " قُلْ لَا أَجِد " وَغَيْرهَا مِنْ الْآي خَبَرًا , وَفِي الْخَمْر نَهْيًا وَزَجْرًا , وَهُوَ أَقْوَى التَّحْرِيم وَأَوْكَده . رَوَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر , مَشَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض , وَقَالُوا حُرِّمَتْ الْخَمْر , وَجُعِلَتْ عِدْلًا لِلشِّرْكِ ; يَعْنِي أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالذَّبْحِ لِلْأَنْصَابِ وَذَلِكَ شِرْك . ثُمَّ عَلَّقَ " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " فَعَلَّقَ الْفَلَاح بِالْأَمْرِ , وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى تَأْكِيد الْوُجُوب . وَاللَّه أَعْلَمُ . السَّادِسَة : فَهِمَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَحْرِيم الْخَمْر , وَاسْتِخْبَاث الشَّرْع لَهَا , وَإِطْلَاق الرِّجْس عَلَيْهَا , وَالْأَمْر بِاجْتِنَابِهَا , الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهَا , وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ رَبِيعَة وَاللَّيْث بْن سَعْد وَالْمُزَنِيّ صَاحِب الشَّافِعِيّ , وَبَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْقَرَوِيِّينَ فَرَأَوْا أَنَّهَا طَاهِرَة , وَأَنَّ الْمُحَرَّم إِنَّمَا هُوَ شُرْبهَا . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ سَعِيد بْن الْحَدَّاد الْقَرَوِيّ عَلَى طَهَارَتهَا بِسَفْكِهَا فِي طُرُق الْمَدِينَة ; قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَة لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ , وَلَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْ التَّخَلِّي فِي الطُّرُق , وَالْجَوَاب ; أَنَّ الصَّحَابَة فَعَلَتْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُرُوب وَلَا آبَار يُرِيقُونَهَا فِيهَا , إِذْ الْغَالِب مِنْ أَحْوَالهمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُنُف فِي بُيُوتهمْ , وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَذَّرُونَ مِنْ اِتِّخَاذ الْكُنُف فِي الْبُيُوت , وَنَقْلهَا إِلَى خَارِج الْمَدِينَة فِيهِ كُلْفَة وَمَشَقَّة , وَيَلْزَم مِنْهُ تَأْخِير مَا وَجَبَ عَلَى الْفَوْر , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُمْكِن التَّحَرُّز مِنْهَا ; فَإِنَّ طُرُق الْمَدِينَة كَانَتْ وَاسِعَة , وَلَمْ تَكُنْ الْخَمْر مِنْ الْكَثْرَة بِحَيْثُ تَصِير نَهْرًا يَعُمّ الطَّرِيق كُلّهَا , بَلْ إِنَّمَا جَرَتْ فِي مَوَاضِع يَسِيرَة يُمْكِن التَّحَرُّز عَنْهَا - هَذَا - مَعَ مَا يَحْصُل فِي ذَلِكَ مِنْ فَائِدَة شُهْرَة إِرَاقَتهَا فِي طُرُق الْمَدِينَة , لِيَشِيعَ الْعَمَل عَلَى مُقْتَضَى تَحْرِيمهَا مِنْ إِتْلَافهَا , وَأَنَّهُ لَا يُنْتَفَع بِهَا , وَتَتَابَعَ النَّاس وَتَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ . فَإِنْ قِيلَ : التَّنْجِيس حُكْم شَرْعِيّ وَلَا نَصّ فِيهِ , وَلَا يَلْزَم مِنْ كَوْن الشَّيْء مُحَرَّمًا أَنْ يَكُون نَجِسًا ; فَكَمْ مِنْ مُحَرَّم فِي الشَّرْع لَيْسَ بِنَجِسٍ ; قُلْنَا : قَوْله تَعَالَى : " رِجْس " يَدُلّ عَلَى نَجَاسَتهَا ; فَإِنَّ الرِّجْس فِي اللِّسَان النَّجَاسَة , ثُمَّ لَوْ اِلْتَزَمْنَا أَلَّا نَحْكُم بِحُكْمٍ إِلَّا حَتَّى نَجِد فِيهِ نَصًّا لَتَعَطَّلَتْ الشَّرِيعَة ; فَإِنَّ النُّصُوص فِيهَا قَلِيلَة ; فَأَيّ نَصّ يُوجَد عَلَى تَنْجِيس الْبَوْل وَالْعَذِرَة وَالدَّم وَالْمَيْتَة وَغَيْر ذَلِكَ ؟ وَإِنَّمَا هِيَ الظَّوَاهِر وَالْعُمُومَات وَالْأَقْيِسَة , وَسَيَأْتِي فِي سُورَة " الْحَجّ " مَا يُوَضِّح هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
السَّابِعَة : قَوْله : " فَاجْتَنِبُوهُ " يَقْتَضِي الِاجْتِنَاب الْمُطْلَق الَّذِي لَا يُنْتَفَع مَعَهُ بِشَيْءٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه ; لَا بِشُرْبٍ وَلَا بَيْع وَلَا تَخْلِيل وَلَا مُدَاوَاة وَلَا غَيْر ذَلِكَ , وَعَلَى هَذَا تَدُلّ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب , وَرَوَى مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَة خَمْر , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلْ عَلِمْت أَنَّ اللَّه حَرَّمَهَا ) قَالَ : لَا , قَالَ : فَسَارَّ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بِمَ سَارَرْته ) ؟ قَالَ : أَمَرْته بِبَيْعِهَا ; فَقَالَ : ( إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبهَا حَرَّمَ بَيْعهَا ) , قَالَ : فَفَتَحَ الْمَزَادَة حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا ; فَهَذَا حَدِيث يَدُلّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ; إِذْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَة مِنْ الْمَنَافِع الْجَائِزَة لَبَيَّنَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَمَا قَالَ فِي الشَّاة الْمَيِّتَة . ( هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ ) الْحَدِيث . الثَّامِنَة : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم بَيْع الْخَمْر وَالدَّم , وَفِي ذَلِكَ دَلِيل عَلَى تَحْرِيم بَيْع الْعَذِرَات وَسَائِر النَّجَاسَات وَمَا لَا يَحِلّ أَكْله ; وَلِذَلِكَ - وَاللَّه أَعْلَمُ - كَرِهَ مَالِك بَيْع زِبْل الدَّوَابّ , وَرَخَّصَ فِيهِ اِبْن الْقَاسِم لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَة ; وَالْقِيَاس مَا قَالَهُ مَالِك , وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ , وَهَذَا الْحَدِيث شَاهِد بِصِحَّةِ ذَلِكَ . التَّاسِعَة : ذَهَبَ جُمْهُور الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الْخَمْر لَا يَجُوز تَخْلِيلهَا لِأَحَدٍ , وَلَوْ جَازَ تَخْلِيلهَا مَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدَع الرَّجُل أَنْ يَفْتَح الْمَزَادَة حَتَّى يَذْهَب مَا فِيهَا ; لِأَنَّ الْخَلّ مَال وَقَدْ نُهِيَ عَنْ إِضَاعَة الْمَال , وَلَا يَقُول أَحَد فِيمَنْ أَرَاقَ خَمْرًا عَلَى مُسْلِم إِنَّهُ أَتْلَفَ لَهُ مَالًا , وَقَدْ أَرَاقَ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص خَمْرًا لِيَتِيمٍ , وَاسْتُؤْذِنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَخْلِيلهَا فَقَالَ : ( لَا ) وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْحَدِيث وَالرَّأْي , وَإِلَيْهِ مَالَ سَحْنُون بْن سَعِيد , وَقَالَ آخَرُونَ : لَا بَأْس بِتَخْلِيلِ الْخَمْر وَلَا بَأْس بِأَكْلِ مَا تَخَلَّلَ مِنْهَا بِمُعَالَجَةِ آدَمِيّ أَوْ غَيْرهَا ; وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بْن سَعْد وَالْكُوفِيِّينَ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ طَرَحَ فِيهَا الْمِسْك وَالْمِلْح فَصَارَتْ مُرَبَّى وَتَحَوَّلَتْ عَنْ حَال الْخَمْر جَازَ , وَخَالَفَهُ مُحَمَّد بْن الْحَسَن فِي الْمُرَبَّى وَقَالَ : لَا تُعَالَج الْخَمْر بِغَيْرِ تَحْوِيلهَا إِلَى الْخَلّ وَحْده . قَالَ أَبُو عُمَر : اِحْتَجَّ الْعِرَاقِيُّونَ فِي تَخْلِيل الْخَمْر بِأَبِي الدَّرْدَاء ; وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أَبِي إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء مِنْ وَجْه لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُل الْمُرَبَّى مِنْهُ , وَيَقُول : دَبَغَتْهُ الشَّمْس وَالْمِلْح , وَخَالَفَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص فِي تَخْلِيل الْخَمْر ; وَلَيْسَ فِي رَأْي أَحَد حُجَّة مَعَ السُّنَّة , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق , وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَنْع مِنْ تَخْلِيلهَا كَانَ فِي بَدْء الْإِسْلَام عِنْد نُزُول تَحْرِيمهَا ; لِئَلَّا يُسْتَدَام حَبْسهَا لِقُرْبِ الْعَهْد بِشُرْبِهَا , إِرَادَة لِقَطْعِ الْعَادَة فِي ذَلِكَ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي النَّهْي عَنْ تَخْلِيلهَا حِينَئِذٍ , وَالْأَمْر بِإِرَاقَتِهَا مَا يَمْنَع مِنْ أَكْلهَا إِذَا خُلِّلَتْ . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك قَالَ : إِذَا خَلَّلَ النَّصْرَانِيّ خَمْرًا فَلَا بَأْس بِأَكْلِهِ , وَكَذَلِكَ إِنْ خَلَّلَهَا مُسْلِم وَاسْتَغْفَرَ اللَّه ; وَهَذِهِ الرِّوَايَة ذَكَرَهَا اِبْن عَبْد الْحَكَم فِي كِتَابه . وَالصَّحِيح مَا قَالَهُ مَالِك فِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب أَنَّهُ لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُعَالِج الْخَمْر حَتَّى يَجْعَلهَا خَلًّا وَلَا يَبِيعهَا , وَلَكِنْ لِيُهَرِيقهَا . الْعَاشِرَة : لَمْ يَخْتَلِف قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّ الْخَمْر إِذَا تَخَلَّلَتْ بِذَاتِهَا أَنَّ أَكْل ذَلِكَ الْخَلّ حَلَال , وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَقَبِيصَة وَابْن شِهَاب , وَرَبِيعَة وَأَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ , وَهُوَ تَحْصِيل مَذْهَبه عِنْد أَكْثَر أَصْحَابه . الْحَادِيَة عَشْرَة : ذَكَرَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد أَنَّهَا تُمْلَك , وَنَزَعَ إِلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُمْكِن أَنْ يُزَال بِهَا الْغَصَص , وَيُطْفَأ بِهَا حَرِيق ; وَهَذَا نَقْل لَا يُعْرَف لِمَالِك , بَلْ يُخَرَّج هَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّهَا طَاهِرَة , وَلَوْ جَازَ مِلْكهَا لَمَا أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاقَتِهَا , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِلْك نَوْع نَفْع وَقَدْ بَطَلَ بِإِرَاقَتِهَا . وَالْحَمْد لِلَّهِ . الثَّانِيَة عَشْرَة : هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى تَحْرِيم اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج قِمَارًا أَوْ غَيْر قِمَار ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْر أَخْبَرَ بِالْمَعْنَى الَّذِي فِيهَا فَقَالَ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر " الْآيَة . ثُمَّ قَالَ : " إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِع بَيْنكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء " الْآيَة . فَكُلّ لَهْو دَعَا قَلِيله إِلَى كَثِير , وَأَوْقَعَ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء بَيْن الْعَاكِفِينَ عَلَيْهِ , وَصَدَّ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة فَهُوَ كَشُرْبِ الْخَمْر , وَأَوْجَبَ أَنْ يَكُون حَرَامًا مِثْله . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ شُرْب الْخَمْر يُورِث السُّكْر فَلَا يُقْدَر مَعَهُ عَلَى الصَّلَاة وَلَيْسَ فِي اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج هَذَا الْمَعْنَى ; قِيلَ لَهُ : قَدْ جَمَعَ اللَّه تَعَالَى بَيْن الْخَمْر وَالْمَيْسِر فِي التَّحْرِيم , وَوَصَفَهُمَا جَمِيعًا بِأَنَّهُمَا يُوقِعَانِ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء بَيْن النَّاس , وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة ; وَمَعْلُوم أَنَّ الْخَمْر إِنْ أَسْكَرَتْ فَالْمَيْسِر لَا يُسْكِر , ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْد اللَّه اِفْتِرَاقهمَا فِي ذَلِكَ يَمْنَع مِنْ التَّسْوِيَة بَيْنهمَا فِي التَّحْرِيم لِأَجْلِ مَا اِشْتَرَكَا فِيهِ مِنْ الْمَعَانِي , وَأَيْضًا فَإِنَّ قَلِيل الْخَمْر لَا يُسْكِر كَمَا أَنَّ اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج لَا يُسْكِر , ثُمَّ كَانَ حَرَامًا مِثْل الْكَثِير , فَلَا يُنْكَر أَنْ يَكُون اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج حَرَامًا مِثْل الْخَمْر وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِر . وَأَيْضًا فَإِنَّ اِبْتِدَاء اللَّعِب يُورِث الْغَفْلَة , فَتَقُوم تِلْكَ الْغَفْلَة الْمُسْتَوْلِيَة عَلَى الْقَلْب مَكَان السُّكْر ; فَإِنْ كَانَتْ الْخَمْر إِنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا تُسْكِر فَتَصُدّ بِالْإِسْكَارِ عَنْ الصَّلَاة , فَلْيُحَرَّمْ اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج لِأَنَّهُ يُغْفِل وَيُلْهِي فَيَصُدّ بِذَلِكَ عَنْ الصَّلَاة , وَاللَّه أَعْلَمُ . الثَّالِثَة عَشْرَة : مُهْدِي الرَّاوِيَة يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَبْلُغهُ النَّاسِخ , وَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَة , فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْم لَا يَرْتَفِع بِوُجُودِ النَّاسِخ - كَمَا يَقُول بَعْض الْأُصُولِيِّينَ - بَلْ بِبُلُوغِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيث , وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَبِّخهُ , بَلْ بَيَّنَ لَهُ الْحُكْم ; وَلِأَنَّهُ مُخَاطَب بِالْعَمَلِ بِالْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ عَصَى بِلَا خِلَاف , وَإِنْ كَانَ النَّاسِخ قَدْ حَصَلَ فِي الْوُجُود , وَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ قُبَاء ; إِذْ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس إِلَى أَنْ أَتَاهُمْ الْآتِي فَأَخْبَرَهُمْ بِالنَّاسِخِ , فَمَالُوا نَحْو الْكَعْبَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " الْبَقَرَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ ; وَتَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْر الْخَمْر وَاشْتِقَاقهَا وَالْمَيْسِر , وَقَدْ مَضَى فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة الْقَوْل فِي الْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام . وَالْحَمْد لِلَّهِ .