فَسَمَّى مَنْ نَكَحَ مَا لَا يَحِلّ عَادِيًا وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدّ لِعِدْوَانِهِ , وَاللَّائِط عَادٍ قُرْآنًا وَلُغَة , بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : " بَلْ أَنْتُمْ قَوْم عَادُونَ " [ الشُّعَرَاء : 166 ] وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْأَعْرَاف " ; فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ الْحَدّ عَلَيْهِمْ , وَهَذَا ظَاهِر لَا غُبَارَ عَلَيْهِ . فَلَتَ : فِيهِ نَظَرٌ , مَا لَمْ يَكُنْ جَاهِلًا أَوْ مُتَأَوِّلًا , وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاع مُنْعَقِدًا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجهمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْر مَلُومِينَ " خَصَّ بِهِ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاء ; فَقَدْ رَوَى مَعْمَر عَنْ قَتَادَة قَالَ : تَسَرَّرَتْ اِمْرَأَة غُلَامهَا ; فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَر فَسَأَلَهَا : مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : كُنْت أَرَاهُ يَحِلّ لِي مِلْك يَمِينِي كَمَا يَحِلّ لِلرَّجُلِ الْمَرْأَة بِمِلْكِ الْيَمِين ; فَاسْتَشَارَ عُمَر فِي رَجْمهَا أَصْحَابَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : تَأَوَّلَتْ كِتَابَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى غَيْر تَأْوِيله , لَا رَجْم عَلَيْهَا . فَقَالَ عُمَر : لَا جَرَمَ ! وَاَللَّه لَا أُحِلّك لِحُرٍّ بَعْدَهُ أَبَدًا . عَاقَبَهَا بِذَلِكَ وَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهَا , وَأَمَرَ الْعَبْدَ أَلَّا يَقْرَبَهَا . وَعَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد اللَّه أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُول : أَنَا حَضَرْت عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز جَاءَتْهُ اِمْرَأَة بِغُلَامٍ لَهَا وَضِيء فَقَالَتْ : إِنِّي اسْتَسْرَرْتُهُ فَمَنَعَنِي بَنُو عَمِّي عَنْ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا أَنَا بِمَنْزِلَةِ الرَّجُل تَكُون لَهُ الْوَلِيدَة فَيَطَؤُهَا ; فَانْهَ عَنِّي بَنِي عَمِّي ; فَقَالَ عُمَر : أَتَزَوَّجْت قَبْلَهُ ؟ قَالَتْ نَعَمْ ; قَالَ : أَمَا وَاَللَّه لَوْلَا مَنْزِلَتك مِنْ الْجَهَالَة لَرَجَمْتُك بِالْحِجَارَةِ ; وَلَكِنْ اِذْهَبُوا بِهِ فَبِيعُوهُ إِلَى مَنْ يَخْرُج بِهِ إِلَى غَيْر بَلَدهَا . وَ " وَرَاء " بِمَعْنَى سِوَى , وَهُوَ مَفْعُول ب " اِبْتَغَى " أَيْ مَنْ طَلَبَ سِوَى الْأَزْوَاج وَالْوَلَائِد الْمَمْلُوكَة لَهُ . وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ فَمَنْ اِبْتَغَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ ; فَمَفْعُولُ الِابْتِغَاء مَحْذُوف , وَ " وَرَاءَ " ظَرْف . وَ " ذَلِكَ " يُشَار بِهِ إِلَى كُلّ مَذْكُور مُؤَنَّثًا كَانَ أَوْ مُذَكَّرًا . " فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ " أَيْ الْمُجَاوِزُونَ الْحَدَّ ; مِنْ عَدَا أَيْ جَاوَزَ الْحَدَّ وَجَازَهُ .
قَرَأَ الْجُمْهُور " لِأَمَانَاتِهِمْ " بِالْجَمْعِ . وَابْن كَثِير بِالْإِفْرَادِ . وَالْأَمَانَة وَالْعَهْد يَجْمَع كُلَّ مَا يَحْمِلهُ الْإِنْسَان مِنْ أَمْر دِينه وَدُنْيَاهُ قَوْلًا وَفِعْلًا . وَهَذَا يَعُمّ مُعَاشَرَةَ النَّاس وَالْمَوَاعِيد وَغَيْر ذَلِكَ ; وَغَايَة ذَلِكَ حِفْظه وَالْقِيَام بِهِ . وَالْأَمَانَة أَعَمّ مِنْ الْعَهْد , وَكُلّ عَهْد فَهُوَ أَمَانَة فِيمَا تَقَدَّمَ فِيهِ قَوْل أَوْ فِعْل أَوْ مُعْتَقَد .
عَلَى مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَرِيب أَوْ بَعِيد , يَقُومُونَ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِم وَلَا يَكْتُمُونَهَا وَلَا يُغَيِّرُونَهَا . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الشَّهَادَة وَأَحْكَامهَا فِي سُورَة " الْبَقَرَة " . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " بِشَهَادَاتِهِمْ " أَنَّ اللَّهَ وَاحِد لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله . وَقُرِئَ " لِأَمَانَتِهِمْ " عَلَى التَّوْحِيد . وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن . فَالْأَمَانَة اِسْم جِنْس , فَيَدْخُل فِيهَا أَمَانَات الدِّين , فَإِنَّ الشَّرَائِعَ أَمَانَات اِئْتَمَنَ اللَّه عَلَيْهَا عِبَادَهُ . وَيَدْخُل فِيهَا أَمَانَات النَّاس مِنْ الْوَدَائِع ; وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلّه مُسْتَوْفًى فِي سُورَة " النِّسَاء " . وَقَرَأَ عَبَّاس الدَّوْرِيّ عَنْ أَبِي عَمْرو وَيَعْقُوب " بِشَهَادَاتِهِمْ " جَمْعًا . الْبَاقُونَ " بِشَهَادَتِهِمْ " عَلَى التَّوْحِيد , لِأَنَّهَا تُؤَدِّي عَنْ الْجَمْع . وَالْمَصْدَر قَدْ يُفْرَد وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى جَمْع , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَات لَصَوْت الْحَمِير " . [ لُقْمَان : 19 ] وَقَالَ الْفَرَّاء : وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهَا " بِشَهَادَتِهِمْ " تَوْحِيدًا قَوْله تَعَالَى : " وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ " [ الطَّلَاق : 2 ] .
قَالَ قَتَادَة : عَلَى وُضُوئِهَا وَرُكُوعهَا وَسُجُودهَا . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : التَّطَوُّع . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْمُؤْمِنُونَ " . فَالدَّوَام خِلَاف الْمُحَافَظَة . فَدَوَامهمْ عَلَيْهَا أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى أَدَائِهَا لَا يُخِلُّونَ بِهَا وَلَا يَشْتَغِلُونَ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الشَّوَاغِل , وَمُحَافَظَتهمْ عَلَيْهَا أَنْ يُرَاعُوا إِسْبَاغَ الْوُضُوء لَهَا وَمَوَاقِيتهَا , وَيُقِيمُوا أَرْكَانَهَا , وَيُكْمِلُوهَا بِسُنَنِهَا وَآدَابهَا , وَيَحْفَظُوهَا مِنْ الْإِحْبَاط بِاقْتِرَابِ الْمَأْثَم . فَالدَّوَام يَرْجِع إِلَى نَفْس الصَّلَوَات وَالْمُحَافَظَة إِلَى أَحْوَالهَا .
أَيْ أَكْرَمَهُمْ اللَّه فِيهَا بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَات .
قَالَ الْأَخْفَش : مُسْرِعِينَ . قَالَ : بِمَكَّةَ أَهْلهَا وَلَقَدْ أَرَاهُمْ إِلَيْهِ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاع وَالْمَعْنَى : مَا بَالَهُمْ يُسْرِعُونَ إِلَيْك وَيَجْلِسُونَ حَوَالَيْك وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا تَأْمُرهُمْ . وَقِيلَ : أَيْ مَا بَالُهُمْ مُسْرِعِينَ فِي التَّكْذِيب لَك . وَقِيلَ : أَيْ مَا بَال الَّذِينَ كَفَرُوا يُسْرِعُونَ إِلَى السَّمَاع مِنْك لِيَعِيبُوك وَيَسْتَهْزِئُوا بِك . وَقَالَ عَطِيَّة : مُهْطِعِينَ : مُعْرِضِينَ . الْكَلْبِيّ : نَاظِرِينَ إِلَيْك تَعَجُّبًا . وَقَالَ قَتَادَة : عَامِدِينَ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب ; أَيْ مَا بَالُهُمْ مُسْرِعِينَ عَلَيْك , مَادِّينَ أَعْنَاقَهُمْ , مُدْمِنِي النَّظَر إِلَيْك . وَذَلِكَ مِنْ نَظَر الْعَدُوّ . وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْحَال . نَزَلَتْ فِي جَمْع مِنْ الْمُنَافِقِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ , كَانُوا يَحْضُرُونَهُ - عَلَيْهِ السَّلَام - وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ . و " قِبَلَك " أَيْ نَحْوَك .
أَيْ عَنْ يَمِين النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِمَاله حِلَقًا حِلَقًا وَجَمَاعَات . وَالْعِزِين : جَمَاعَات فِي تَفْرِقَة , قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَمِنْهُ حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابه فَرَآهُمْ حِلَقًا فَقَالَ : ( مَالِي أَرَاكُمْ عِزِين أَلَّا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفّ الْمَلَائِكَة عِنْدَ رَبّهَا - قَالُوا : وَكَيْفَ تَصُفّ الْمَلَائِكَة عِنْد رَبّهَا ؟ قَالَ : يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفّ ) خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَقَالَ الشَّاعِر : تَرَانَا عِنْدَهُ وَاللَّيْل دَاجٍ عَلَى أَبْوَابه حِلَقًا عِزِينَا أَيْ مُتَفَرِّقِينَ . وَقَالَ الرَّاعِي : أَخَلِيفَةَ الرَّحْمَن إِنَّ عَشِيرَتِي أَمْسَى سَرَاتهمْ إِلَيْك عِزِينَا أَيْ مُتَفَرِّقِينَ . وَقَالَ آخَر : كَأَنَّ الْجَمَاجِمَ مِنْ وَقْعهَا خَنَاطِيل يَهْوِينَ شَتَّى عِزِينَا أَيْ مُتَفَرِّقِينَ . وَقَالَ آخَر : فَلَمَّا أَنْ أَتَيْنَ عَلَى أُضَاخٍ ضَرَحْنَ حَصَاهُ أَشْتَاتًا عِزِينَا وَقَالَ الْكُمَيْت : وَنَحْنُ وَجَنْدَل بَاغٍ تَرَكْنَا كَتَائِبَ جَنْدَل شَتَّى عِزِينَا وَقَالَ عَنْتَرَة : وَقِرْنٍ قَدْ تَرَكْت لِذِي وَلِيّ عَلَيْهِ الطَّيْر كَالْعُصَبِ الْعِزِين وَوَاحِد عِزِين عِزَة , جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّون لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا مِمَّا حُذِفَ مِنْهَا . وَأَصْلهَا عِزْهَةٌ , فَاعْتَلَّتْ كَمَا اِعْتَلَّتْ سَنَة فِيمَنْ جَعَلَ أَصْلهَا سِنْهَة . وَقِيلَ : أَصْلهَا عِزْوَة , مِنْ عَزَاهُ يَعْزُوهُ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى غَيْره . فَكُلّ وَاحِد مِنْ الْجَمَاعَات مُضَافَة إِلَى الْأُخْرَى , وَالْمَحْذُوف مِنْهَا الْوَاو . وَفِي الصِّحَاح : " وَالْعِزَة الْفِرْقَة مِنْ النَّاس , وَالْهَاء عِوَض مِنْ الْيَاء , وَالْجَمْع عِزًى - عَلَى فِعَل - وَعِزُونَ وَعُزُونَ أَيْضًا بِالضَّمِّ , وَلَمْ يَقُولُوا عِزَات كَمَا قَالُوا ثِبَات " . قَالَ الْأَصْمَعِيّ : يُقَال فِي الدَّار عِزُونَ , أَيْ أَصْنَاف مِنْ النَّاس . وَ " عَنْ الْيَمِين وَعَنْ الشِّمَال " مُتَعَلِّق " بِمُهْطِعِينَ " وَيَجُوز أَنْ يَتَعَلَّق " بِعِزِينَ " عَلَى حَدّ قَوْلِك : أَخَذْته عَنْ زَيْد .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ فَيَكْذِبُونَهُ وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِ , وَيَسْتَهْزِئُونَ بِأَصْحَابِهِ وَيَقُولُونَ : لَئِنْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ لَنَدْخُلَنَّهَا قَبْلَهُمْ , وَلَئِنْ أُعْطُوا مِنْهَا شَيْئًا لَنُعْطَيَنَّ أَكْثَرَ مِنْهُ ; فَنَزَلَتْ : " أَيَطْمَعُ " الْآيَة . وَقِيلَ : كَانَ الْمُسْتَهْزِئُونَ خَمْسَة أَرْهُط . وَقَرَأَ الْحَسَن وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف وَالْأَعْرَج " أَنْ يَدْخُلَ " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الْخَاء مُسَمَّى الْفَاعِل . وَرَوَاهُ الْمُفَضَّل عَنْ عَاصِم . الْبَاقُونَ " أَنْ يُدْخَلَ " عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول .
لَا يَدْخُلُونَهَا .
ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَقَالَ : " إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ " أَيْ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ مِنْ مُضْغَة ; كَمَا خَلَقَ سَائِرَ جِنْسهمْ . فَلَيْسَ لَهُمْ فَضْل يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الْجَنَّةَ , وَإِنَّمَا تُسْتَوْجَب بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَل الصَّالِح وَرَحْمَة اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِفُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَيْهِمْ . فَقَالَ : " إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ " مِنْ الْقَذَر , فَلَا يَلِيق بِهِمْ هَذَا التَّكَبُّر . وَقَالَ قَتَادَة فِي هَذِهِ الْآيَة : إِنَّمَا خُلِقْت يَا بْن آدَم مِنْ قَذَرٍ فَاتَّقِ اللَّهَ . وَرُوِيَ أَنَّ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه بْن الشِّخِّير رَأَى الْمُهَلَّب بْن أَبِي صُفْرَة يَتَبَخْتَر فِي مُطْرَف خَزّ وَجُبَّة خَزّ فَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللَّه , مَا هَذِهِ الْمِشْيَة الَّتِي يُبْغِضهَا اللَّه ؟ فَقَالَ لَهُ : أَتَعْرِفُنِي ؟ قَالَ نَعَمْ , أَوَّلُك نُطْفَةٌ مَذِرَة , وَآخِرك جِيفَة قَذِرَة , وَأَنْتَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ تَحْمِل الْعَذِرَة . فَمَضَى الْمُهَلَّب وَتَرَكَ مِشْيَته . نَظَمَ الْكَلَام مَحْمُود الْوَرَّاق فَقَالَ : عَجِبْت مِنْ مُعْجَب بِصُورَتِهِ وَكَانَ فِي الْأَصْل نُطْفَة مَذِرَهْ وَهُوَ غَدًا بَعْدَ حُسْن صُورَته يَصِير فِي اللَّحْد جِيفَة قَذِرَهْ وَهُوَ عَلَى تِيهه وَنَخْوَته مَا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ يَحْمِل الْعَذِرَهْ وَقَالَ آخَر : هَلْ فِي اِبْن آدَم غَيْر الرَّأْس مَكْرُمَة وَهُوَ بِخَمْسٍ مِنْ الْأَوْسَاخ مَضْرُوب أَنْف يَسِيل وَأُذُن رِيحهَا سَهِكٌ وَالْعَيْن مُرْمَصَة وَالثَّغْر مَلْهُوبُ يَا بْن التُّرَاب وَمَأْكُول التُّرَاب غَدًا قَصِّرْ فَإِنَّك مَأْكُول وَمَشْرُوب وَقِيلَ : مَعْنَاهُ مِنْ أَجْل مَا يَعْلَمُونَ ; وَهُوَ الْأَمْر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب . كَقَوْلِ الشَّاعِر وَهُوَ الْأَعْشَى : أَأَزْمَعْت مِنْ آل لَيْلَى اِبْتِكَارًا وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوًى أَنْ تُزَارَا أَيْ مِنْ أَجْل لَيْلَى .
ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَقَالَ : " إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ " أَيْ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ مِنْ مُضْغَة ; كَمَا خَلَقَ سَائِرَ جِنْسهمْ . فَلَيْسَ لَهُمْ فَضْل يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الْجَنَّةَ , وَإِنَّمَا تُسْتَوْجَب بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَل الصَّالِح وَرَحْمَة اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِفُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَيْهِمْ . فَقَالَ : " إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ " مِنْ الْقَذَر , فَلَا يَلِيق بِهِمْ هَذَا التَّكَبُّر . وَقَالَ قَتَادَة فِي هَذِهِ الْآيَة : إِنَّمَا خُلِقْت يَا بْن آدَم مِنْ قَذَرٍ فَاتَّقِ اللَّهَ . وَرُوِيَ أَنَّ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه بْن الشِّخِّير رَأَى الْمُهَلَّب بْن أَبِي صُفْرَة يَتَبَخْتَر فِي مُطْرَف خَزّ وَجُبَّة خَزّ فَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللَّه , مَا هَذِهِ الْمِشْيَة الَّتِي يُبْغِضهَا اللَّه ؟ فَقَالَ لَهُ : أَتَعْرِفُنِي ؟ قَالَ نَعَمْ , أَوَّلُك نُطْفَةٌ مَذِرَة , وَآخِرك جِيفَة قَذِرَة , وَأَنْتَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ تَحْمِل الْعَذِرَة . فَمَضَى الْمُهَلَّب وَتَرَكَ مِشْيَته . نَظَمَ الْكَلَام مَحْمُود الْوَرَّاق فَقَالَ : عَجِبْت مِنْ مُعْجَب بِصُورَتِهِ وَكَانَ فِي الْأَصْل نُطْفَة مَذِرَهْ وَهُوَ غَدًا بَعْدَ حُسْن صُورَته يَصِير فِي اللَّحْد جِيفَة قَذِرَهْ وَهُوَ عَلَى تِيهه وَنَخْوَته مَا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ يَحْمِل الْعَذِرَهْ وَقَالَ آخَر : هَلْ فِي اِبْن آدَم غَيْر الرَّأْس مَكْرُمَة وَهُوَ بِخَمْسٍ مِنْ الْأَوْسَاخ مَضْرُوب أَنْف يَسِيل وَأُذُن رِيحهَا سَهِكٌ وَالْعَيْن مُرْمَصَة وَالثَّغْر مَلْهُوبُ يَا بْن التُّرَاب وَمَأْكُول التُّرَاب غَدًا قَصِّرْ فَإِنَّك مَأْكُول وَمَشْرُوب وَقِيلَ : مَعْنَاهُ مِنْ أَجْل مَا يَعْلَمُونَ ; وَهُوَ الْأَمْر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب . كَقَوْلِ الشَّاعِر وَهُوَ الْأَعْشَى : أَأَزْمَعْت مِنْ آل لَيْلَى اِبْتِكَارًا وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوًى أَنْ تُزَارَا أَيْ مِنْ أَجْل لَيْلَى .
أَيْ أُقْسِم . و " لَا " صِلَة .
هِيَ مَشَارِق الشَّمْس وَمَغَارِبهَا . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِيهَا . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد " بِرَبِّ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب " عَلَى التَّوْحِيد .
هِيَ مَشَارِق الشَّمْس وَمَغَارِبهَا . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِيهَا . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد " بِرَبِّ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب " عَلَى التَّوْحِيد .
يَقُول : نَقْدِر عَلَى إِهْلَاكهمْ وَالذَّهَاب بِهِمْ وَالْمَجِيء بِخَيْرٍ مِنْهُمْ فِي الْفَضْل وَالطَّوْع وَالْمَال .
أَيْ لَا يَفُوتنَا شَيْءٌ وَلَا يُعْجِزنَا أَمْر نُرِيدهُ .
أَيْ لَا يَفُوتنَا شَيْءٌ وَلَا يُعْجِزنَا أَمْر نُرِيدهُ .
أَيْ اُتْرُكْهُمْ يَخُوضُوا فِي بَاطِلهمْ وَيَلْعَبُوا فِي دُنْيَاهُمْ ; عَلَى جِهَة الْوَعِيد . وَاشْتَغِلْ أَنْتَ بِمَا أُمِرْت بِهِ وَلَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْك شِرْكهمْ ; فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمًا يَلْقَوْنَ فِيهِ مَا وُعِدُوا . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَمُجَاهِد وَحُمَيْد " حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ " . وَهَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَةِ السَّيْف .
" يَوْم " بَدَل مِنْ " يَوْمهمْ " الَّذِي قَبْلَهُ , وَقِرَاءَة الْعَامَّة " يَخْرُجُونَ " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الرَّاء عَلَى أَنَّهُ مُسَمَّى الْفَاعِل . وَقَرَأَ السُّلَمِيّ وَالْمُغِيرَة وَالْأَعْشَى عَنْ عَاصِم " يُخْرَجُونَ " بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الرَّاء عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول . وَالْأَجْدَاث : الْقُبُور ; وَاحِدهَا جَدَث . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " يس " . " سِرَاعًا " حِينَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ الْآخِرَةَ إِلَى إِجَابَة الدَّاعِي ; وَهُوَ نَصْب عَلَى الْحَال " كَأَنَّهُمْ إِلَى نَصْب يُوفِضُونَ " قِرَاءَة الْعَامَّة بِفَتْحِ النُّون وَجَزْم الصَّاد . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَحَفْص بِضَمِّ النُّون وَالصَّاد . وَقَرَأَ عَمْرو بْن مَيْمُون وَأَبُو رَجَاء وَغَيْرهمَا بِضَمِّ النُّون وَإِسْكَان الصَّاد . وَالنُّصْب وَالنَّصْب لُغَتَانِ مِثْل الضُّعْف وَالضَّعْف . الْجَوْهَرِيّ : وَالنَّصْب مَا نُصِبَ فَعُبِدَ مِنْ دُون اللَّه , وَكَذَلِكَ النُّصْب بِالضَّمِّ ; وَقَدْ يُحَرَّك . قَالَ الْأَعْشَى : وَذَا النُّصُب الْمَنْصُوب لَا تَنْسُكَنَّهُ لِعَافِيَةٍ وَاَللَّهَ رَبَّك فَاعْبُدَا أَرَادَ " فَاعْبُدَن " فَوَقَفَ بِالْأَلِفِ ; كَمَا تَقُول : رَأَيْت زَيْدًا . وَالْجَمْع الْأَنْصَاب . وَقَوْله : " وَذَا النُّصُب " بِمَعْنَى إِيَّاكَ وَذَا النُّصُب . وَالنُّصُب الشَّرّ وَالْبَلَاء ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَاب " [ ص : 41 ] . وَقَالَ الْأَخْفَش وَالْفَرَّاء : النُّصُب جَمْع النَّصْب مِثْل رَهْن وَرُهُن , وَالْأَنْصَاب جَمْع نُصُب ; فَهُوَ جَمْع الْجَمْع . وَقِيلَ : النُّصُب وَالْأَنْصَاب وَاحِد . وَقِيلَ : النُّصُب جَمْع نِصَاب , هُوَ حَجَر أَوْ صَنَم يُذْبَح عَلَيْهِ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب " [ الْمَائِدَة : 3 ] . وَقَدْ قِيلَ : نَصْب وَنُصْب وَنُصُب بِمَعْنًى وَاحِد ; كَمَا قِيلَ عَمْر وَعُمْر وَعُمُر . ذَكَرَهُ النَّحَّاس . قَالَ اِبْن عَبَّاس : " إِلَى نُصُب " إِلَى غَايَة , وَهِيَ الَّتِي تَنْصِب إِلَيْهَا بَصَرَك . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : إِلَى شَيْء مَنْصُوب ; عَلَم أَوْ رَايَة . وَقَالَ الْحَسَن : كَانُوا يَبْتَدِرُونَ إِذَا طَلَعَتْ الشَّمْس إِلَى نُصُبهمْ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُون اللَّه لَا يَلْوِي أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرهمْ .
{
يُسْرِعُونَ وَالْإِيفَاض الْإِسْرَاع . قَالَ الشَّاعِر : فَوَارِس ذِبْيَان تَحْت الْحَدِيد كَالْجِنِّ يُوفِضْنَ مِنْ عَبْقَر عَبْقَر : مَوْضِع تَزْعُم الْعَرَب أَنَّهُ مِنْ أَرْض الْجِنّ . قَالَ لَبِيد : كُهُول وَشُبَّان كَجِنَّةِ عَبْقَر وَقَالَ اللَّيْث : وَفَضَتْ الْإِبِل تَفِض وَفْضًا ; وَأَوْفَضَهَا صَاحِبهَا . فَالْإِيفَاض مُتَعَدٍّ , وَاَلَّذِي فِي الْآيَة لَازِم . يُقَال : وُفِضَ وَأَوْفَضَ وَاسْتَوْفَضَ بِمَعْنَى أَسْرَعَ .
{
يُسْرِعُونَ وَالْإِيفَاض الْإِسْرَاع . قَالَ الشَّاعِر : فَوَارِس ذِبْيَان تَحْت الْحَدِيد كَالْجِنِّ يُوفِضْنَ مِنْ عَبْقَر عَبْقَر : مَوْضِع تَزْعُم الْعَرَب أَنَّهُ مِنْ أَرْض الْجِنّ . قَالَ لَبِيد : كُهُول وَشُبَّان كَجِنَّةِ عَبْقَر وَقَالَ اللَّيْث : وَفَضَتْ الْإِبِل تَفِض وَفْضًا ; وَأَوْفَضَهَا صَاحِبهَا . فَالْإِيفَاض مُتَعَدٍّ , وَاَلَّذِي فِي الْآيَة لَازِم . يُقَال : وُفِضَ وَأَوْفَضَ وَاسْتَوْفَضَ بِمَعْنَى أَسْرَعَ .
أَيْ ذَلِيلَة خَاضِعَة , لَا يَرْفَعُونَهَا لِمَا يَتَوَقَّعُونَهُ مِنْ عَذَاب اللَّه .
أَيْ يَغْشَاهُمْ الْهَوَان . قَالَ قَتَادَة : هُوَ سَوَاد الْوُجُوه . وَالرَّهَق : الْغَشَيَان ; وَمِنْهُ غُلَام مُرَاهِق إِذَا غَشِيَ الِاحْتِلَام . رَهِقَهُ ( بِالْكَسْرِ ) يَرْهَقهُ رَهَقًا أَيْ غَشِيَهُ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَرْهَق وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّة " [ يُونُس : 26 ] .
أَيْ يُوعَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا أَنَّ لَهُمْ فِيهِ الْعَذَاب . وَأُخْرِجَ الْخَبَر بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّ مَا وَعَدَ اللَّه بِهِ يَكُون لَا مَحَالَةَ
أَيْ يَغْشَاهُمْ الْهَوَان . قَالَ قَتَادَة : هُوَ سَوَاد الْوُجُوه . وَالرَّهَق : الْغَشَيَان ; وَمِنْهُ غُلَام مُرَاهِق إِذَا غَشِيَ الِاحْتِلَام . رَهِقَهُ ( بِالْكَسْرِ ) يَرْهَقهُ رَهَقًا أَيْ غَشِيَهُ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَرْهَق وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّة " [ يُونُس : 26 ] .
أَيْ يُوعَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا أَنَّ لَهُمْ فِيهِ الْعَذَاب . وَأُخْرِجَ الْخَبَر بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّ مَا وَعَدَ اللَّه بِهِ يَكُون لَا مَحَالَةَ