ذَكَرَ جَزَاء مَنْ اِتَّقَى مُخَالَفَة أَمْر اللَّه " مَفَازًا " مَوْضِع فَوْز وَنَجَاة وَخَلَاص مِمَّا فِيهِ أَهْل النَّار . وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْفَلَاةِ إِذَا قَلَّ مَاؤُهَا : مَفَازَة , تَفَاؤُلًا بِالْخَلَاصِ مِنْهَا .
هَذَا تَفْسِير الْفَوْز . وَقِيلَ : " إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا " إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ حَدَائِق ; جَمْع حَدِيقَة , وَهِيَ الْبُسْتَان الْمَحُوط عَلَيْهِ ; يُقَال أَحْدَقَ بِهِ : أَيْ أَحَاطَ . وَالْأَعْنَاب : جَمَعَ عِنَب , أَيْ كَرُومِ أَعْنَاب , فَحُذِفَ .
كَوَاعِب : جَمْع كَاعِب وَهِيَ النَّاهِد ; يُقَال : كَعَبَتْ الْجَارِيَة تَكْعَب كُعُوبًا , وَكَعَّبَتْ تُكَعِّب تَكْعِيبًا , وَنَهَدَتْ تَنْهَد نُهُودًا . وَقَالَ الضَّحَّاك : كَكَوَاعِب الْعَذَارَى ; وَمِنْهُ قَوْل قَيْس بْن عَاصِم : وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَة وَمِنْ كَاعِب لَمْ تَدْرِ مَا الْبُؤْس مُعْصِر وَالْأَتْرَاب : الْأَقْرَان فِي السِّنّ . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْوَاقِعَة " الْوَاحِد : تِرْب .
قَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَابْن زَيْد وَابْن عَبَّاس : مُتْرَعَة مَمْلُوءَة ; يُقَال : أَدَهَقْت الْكَأْس : أَيْ مَلَأْتهَا , وَكَأْس دِهَاق أَيْ مُمْتَلِئَة ; قَالَ : أَلَا فَاسْقِنِي صِرْفًا سَقَانِي السَّاقِي مِنْ مَائِهَا بِكَأْسِك الدِّهَاق وَقَالَ خِدَاش بْن زُهَيْر : أَتَانَا عَامِر يَبْغِي قِرَانَا فَأَتْرَعْنَا لَهُ كَأْسًا دِهَاقَا وَقَالَ سَعْد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَابْن عَبَّاس أَيْضًا : مُتَتَابِعَة , يَتْبَع بَعْضهَا بَعْضًا ; وَمِنْهُ اِدَّهَقَتْ الْحِجَارَة ادِّهَاقًا , وَهُوَ شِدَّة تَلَازُمهَا وَدُخُول بَعْضهَا فِي بَعْض ; فَالْمُتَتَابِع كَالْمُتَدَاخِلِ . وَعَنْ عِكْرِمَة أَيْضًا وَزَيْد بْن أَسْلَمَ : صَافِيَة ; قَالَ الشَّاعِر : لَأَنْتِ إِلَى الْفُؤَادِ أَحَبُّ قُرْبًا مِنْ الصَّادِي إِلَى كَأْسٍ دِهَاق وَهُوَ جَمْع دَهَق , وَهُوَ خَشَبَتَانِ [ يُغْمَز ] بِهِمَا [ السَّاق ] . وَالْمُرَاد بِالْكَأْسِ الْخَمْر , فَالتَّقْدِير : خَمْرًا ذَات دِهَاق , أَيْ عُصِرَتْ وَصُفِّيَتْ ; قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ . وَفِي الصِّحَاح : وَأَدْهَقْت الْمَاء : أَيْ أَفْرَغْته إِفْرَاغًا شَدِيدًا : قَالَ أَبُو عَمْرو : وَالدَّهَق - بِالتَّحْرِيكِ : ضَرْب مِنْ الْعَذَاب . وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَشْكَنْجَهْ . الْمُبَرِّد : وَالْمَدْهُوق : الْمُعَذَّب بِجَمِيعِ الْعَذَاب الَّذِي لَا فُرْجَة فِيهِ . اِبْن الْأَعْرَابِيّ : دَهَقْت الشَّيْء كَسَرْته وَقَطَعْته , وَكَذَلِكَ دَهْدَقْته : وَأَنْشَدَ لِحُجْر بْن خَالِد : نُدَهْدِق بِضْع اللَّحْم لِلْبَاعِ وَالنَّدَى وَبَعْضهمْ تَغْلِي بِذَمٍّ مَنَاقِعه وَدَهْمَقْته بِزِيَادَةِ الْمِيم : مِثْله . وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : الدَّهْمَقَة : لِين الطَّعَام وَطِيبه وَرِقَّته , وَكَذَلِكَ كُلّ شَيْء لَيِّن ; وَمِنْهُ حَدِيث عُمَر : لَوْ شِئْت أَنْ يُدَهْمِق لِي لَفَعَلْت , وَلَكِنَّ اللَّه عَابَ قَوْمًا فَقَالَ : " أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا " [ الْأَحْقَاف : 20 ] .
" لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا " أَيْ فِي الْجَنَّة " لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا " اللَّغْو : الْبَاطِل , وَهُوَ مَا يُلْغَى مِنْ الْكَلَام وَيُطْرَح ; وَمِنْهُ الْحَدِيث : [ إِذَا قُلْت لِصَاحِبِك أَنْصِتْ يَوْم الْجُمْعَة وَالْإِمَام يَخْطُب فَقَدْ لَغَوْت ] وَذَلِكَ أَنَّ أَهْل الْجَنَّة إِذَا شَرِبُوا لَمْ تَتَغَيَّر عُقُولُهُمْ , وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِلَغْوٍ ; بِخِلَافِ أَهْل الدُّنْيَا . " وَلَا كِذَّابًا " تَقَدَّمَ , أَيْ لَا يُكَذِّب بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَلَا يَسْمَعُونَ كَذِبًا . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ " كِذَابًا " بِالتَّخْفِيفِ مِنْ كَذَبْت كِذَابًا أَيْ لَا يَتَكَاذَبُونَ فِي الْجَنَّة . وَقِيلَ : هُمَا مَصْدَرَانِ لِلتَّكْذِيبِ , وَإِنَّمَا خَفَّفَهَا هَهُنَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُقَيَّدَة بِفِعْلٍ يَصِير مَصْدَرًا لَهُ , وَشُدِّدَ قَوْله : " وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا " لِأَنَّ كَذَّبُوا يُقَيِّد الْمَصْدَر بِالْكِذَّابِ .
" جَزَاء مِنْ رَبّك " نَصْب عَلَى الْمَصْدَر . لِأَنَّ الْمَعْنَى جَزَاهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْره , جَزَاءَهُ وَكَذَلِكَ " عَطَاء " لِأَنَّ مَعْنَى أَعْطَاهُمْ وَجَزَاهُمْ وَاحِد . أَيْ أَعْطَاهُمْ عَطَاء . " حِسَابًا " أَيْ كَثِيرًا , قَالَهُ قَتَادَة ; يُقَال : أَحْسَبْت فُلَانًا : أَيْ كَثَّرْت لَهُ الْعَطَاء حَتَّى قَالَهُ حَسْبِي . قَالَ : وَنُقْفِي وَلِيدَ الْحَيِّ إِنْ كَانَ جَائِعًا وَنُحْسِبُهُ إِنْ كَانَ لَيْسَ بِجَائِعِ وَقَالَ الْقُتَبِيّ : وَنَرَى أَصْل هَذَا أَنْ يُعْطِيَهُ حَتَّى يَقُول حَسْبِي . وَقَالَ الزَّجَّاج : " حِسَابًا " أَيْ مَا يَكْفِيهِمْ . وَقَالَهُ الْأَخْفَش . يُقَال : أَحْسَبنِي كَذَا : أَيْ كَفَانِي . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : حَاسَبَهُمْ فَأَعْطَاهُمْ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا . مُجَاهِد : حِسَابًا لِمَا عَمِلُوا , فَالْحِسَاب بِمَعْنَى الْعَدّ . أَيْ بِقَدْرِ مَا وَجَبَ لَهُ فِي وَعْد الرَّبّ , فَإِنَّهُ وَعَدَ لِلْحَسَنَةِ عَشْرًا , وَوَعَدَ لِقَوْمٍ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْف , وَقَدْ وَعَدَ لِقَوْمٍ جَزَاء لَا نِهَايَة لَهُ وَلَا مِقْدَارًا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرهمْ بِغَيْرِ حِسَاب " [ الزُّمَر : 10 ] . وَقَرَأَ أَبُو هَاشِم " عَطَاء حَسَّابًا " بِفَتْحِ الْحَاء , وَتَشْدِيد السِّين , عَلَى وَزْن فَعَّال أَيْ كَفَافًا ; قَالَ الْأَصْمَعِيّ : تَقُول الْعَرَب : حَسَّبْت الرَّجُل بِالتَّشْدِيدِ : إِذَا أَكْرَمْته ; وَأَنْشَدَ قَوْل الشَّاعِر : إِذَا أَتَاهُ ضَيْفه يُحَسِّبهُ وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس . " حِسَانًا " بِالنُّونِ .
قَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَزَيْد عَنْ يَعْقُوب , وَالْمُفَضَّل عَنْ عَاصِم : " رَبُّ " بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف , " الرَّحْمَن " خَبَره . أَوْ بِمَعْنَى : هُوَ رَبّ السَّمَوَات , وَيَكُون " الرَّحْمَن " مُبْتَدَأ ثَانِيًا . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَيَعْقُوب وَابْن مُحَيْصِن كِلَاهُمَا بِالْخَفْضِ , نَعْتًا لِقَوْلِهِ : " جَزَاء مِنْ رَبِّك " أَيْ جَزَاء مِنْ رَبِّك رَبِّ السَّمَوَات الرَّحْمَن . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ : " رَبّ السَّمَوَات " خَفْضًا عَلَى النَّعْت , " الرَّحْمَن " رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاء , أَيْ هُوَ الرَّحْمَن . وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَقَالَ : هَذَا أَعْدَلهَا ; خَفْض " رَبّ " لِقُرْبِهِ مِنْ قَوْله : " مِنْ رَبّك " فَيَكُون نَعْتًا لَهُ , وَرَفْع " الرَّحْمَن " لِبُعْدِهِ مِنْهُ , عَلَى الِاسْتِئْنَاف , وَخَبَره " لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا "
أَيْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَسْأَلُوهُ إِلَّا فِيمَا أُذِنَ لَهُمْ فِيهِ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : " لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا " بِالشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِهِ . وَقِيلَ : الْخِطَاب : الْكَلَام ; أَيْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يُخَاطِبُوا الرَّبّ سُبْحَانه إِلَّا بِإِذْنِهِ ; دَلِيله : " لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ " [ هُود : 105 ] . وَقِيلَ : أَرَادَ الْكُفَّار " لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا " , فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَشْفَعُونَ . قُلْت : بَعْد أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ " وَقَوْله تَعَالَى : " يَوْمئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا " [ طَه : 109 ] .
أَيْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَسْأَلُوهُ إِلَّا فِيمَا أُذِنَ لَهُمْ فِيهِ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : " لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا " بِالشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِهِ . وَقِيلَ : الْخِطَاب : الْكَلَام ; أَيْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يُخَاطِبُوا الرَّبّ سُبْحَانه إِلَّا بِإِذْنِهِ ; دَلِيله : " لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ " [ هُود : 105 ] . وَقِيلَ : أَرَادَ الْكُفَّار " لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا " , فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَشْفَعُونَ . قُلْت : بَعْد أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ " وَقَوْله تَعَالَى : " يَوْمئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا " [ طَه : 109 ] .
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ↓
" يَوْم " نَصْب عَلَى الظَّرْف ; أَيْ يَوْم لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْم يَقُوم الرُّوح . وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوح عَلَى أَقْوَال ثَمَانِيَة : الْأَوَّل : أَنَّهُ مَلَك مِنْ الْمَلَائِكَة . قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا خَلَقَ اللَّه مَخْلُوقًا بَعْد الْعَرْش أَعْظَم مِنْهُ , فَإِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة قَامَ هُوَ وَحْده صَفًّا وَقَامَتْ الْمَلَائِكَة كُلّهمْ صَفًّا , فَيَكُون عِظَم خَلْقه مِثْل صُفُوفهمْ . وَنَحْو مِنْهُ عَنْ اِبْن مَسْعُود ; قَالَ : الرُّوح مَلَك أَعْظَم مِنْ السَّمَوَات السَّبْع , وَمِنْ الْأَرَضِينَ السَّبْع , وَمِنْ الْجِبَال . وَهُوَ حِيَال السَّمَاء الرَّابِعَة , يُسَبِّح اللَّه كُلّ يَوْم اِثْنَتَيْ عَشْرَة أَلْف تَسْبِيحَة ; يَخْلُق اللَّه مِنْ كُلّ تَسْبِيحَة مَلَكًا , فَيَجِيء يَوْم الْقِيَامَة وَحْده صَفًّا , وَسَائِر الْمَلَائِكَة صَفًّا . الثَّانِي : أَنَّهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام . قَالَهُ الشَّعْبِيّ وَالضَّحَّاك وَسَعِيد بْن جُبَيْر . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ عَنْ يَمِين الْعَرْش نَهَرًا مِنْ نُور , مِثْل السَّمَوَات السَّبْع , وَالْأَرَضِينَ السَّبْع , وَالْبِحَار السَّبْع , يَدْخُل جِبْرِيل كُلّ يَوْم فِيهِ سَحَرًا فَيَغْتَسِل , فَيَزْدَاد نُورًا عَلَى نُوره , وَجَمَالًا عَلَى جَمَاله , وَعِظَمًا عَلَى عِظَمه , ثُمَّ يَنْتَفِض فَيَخْلُق اللَّه مِنْ كُلّ قَطْرَة تَقَع مِنْ رِيشه سَبْعِينَ أَلْف مَلَك , يَدْخُل مِنْهُمْ كُلّ يَوْم سَبْعُونَ أَلْفًا الْبَيْت الْمَعْمُور , وَالْكَعْبَة سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِمَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقَالَ وَهْب : إِنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَاقِف بَيْن يَدَيْ اللَّه تَعَالَى تَرْعَد فَرَائِصه ; يَخْلُق اللَّه تَعَالَى مِنْ كُلّ رَعْدَة مِائَة أَلْف مَلَك , فَالْمَلَائِكَة صُفُوف بَيْن يَدَيْ اللَّه تَعَالَى مُنَكَّسَة رُءُوسُهُمْ , فَإِذَا أَذِنَ اللَّه لَهُمْ فِي الْكَلَام قَالُوا : لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ ; وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم يَقُوم الرُّوح وَالْمَلَائِكَة صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن " فِي الْكَلَام " وَقَالَ صَوَابًا " يَعْنِي قَوْل : " لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ " . وَالثَّالِث : رَوَى اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : [ الرُّوح فِي هَذِهِ الْآيَة جُنْد مِنْ جُنُود اللَّه تَعَالَى , لَيْسُوا مَلَائِكَة , لَهُمْ رُءُوس وَأَيْدٍ وَأَرْجُل , يَأْكُلُونَ الطَّعَام ] . ثُمَّ قَرَأَ " يَوْم يَقُوم الرُّوح وَالْمَلَائِكَة صَفًّا " فَإِنَّ هَؤُلَاءِ جُنْد , وَهَؤُلَاءِ جُنْد . وَهَذَا قَوْل أَبِي صَالِح وَمُجَاهِد . وَعَلَى هَذَا هُمْ خَلْق عَلَى صُورَة بَنِي آدَم , كَالنَّاسِ وَلَيْسُوا بِنَاسٍ . الرَّابِع : أَنَّهُمْ أَشْرَاف الْمَلَائِكَة ; قَالَهُ مُقَاتِل بْن حَيَّان . الْخَامِس : أَنَّهُمْ حَفَظَة عَلَى الْمَلَائِكَة ; قَالَ اِبْن أَبِي نَجِيح . السَّادِس : أَنَّهُمْ بَنُو آدَم , قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة . فَالْمَعْنَى ذَوُو الرُّوح . وَقَالَ الْعَوْفِيّ وَالْقُرَظِيّ : هَذَا مِمَّا كَانَ يَكْتُمهُ اِبْن عَبَّاس ; قَالَ : الرُّوح : خَلْق مِنْ خَلْق اللَّه عَلَى صُوَر بَنِي آدَم , وَمَا نَزَلَ مَلَك مِنْ السَّمَاء إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِد مِنْ الرُّوح . السَّابِع : أَرْوَاح بَنِي آدَم تَقُوم صَفًّا , فَتَقُوم الْمَلَائِكَة صَفًّا , وَذَلِكَ بَيْن النَّفْخَتَيْنِ , قَبْل أَنْ تُرَدّ إِلَى الْأَجْسَاد ; قَالَهُ عَطِيَّة . الثَّامِن : أَنَّهُ الْقُرْآن ; قَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ , وَقَرَأَ " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْك رُوحًا مِنْ أَمَرْنَا " . وَ " صَفًّا " : مَصْدَر أَيْ يَقُومُونَ صُفُوفًا . وَالْمَصْدَر يُنْبِئ عَنْ الْوَاحِد وَالْجَمْع , كَالْعَدْلِ , وَالصَّوْم . وَيُقَال لِيَوْمِ الْعِيد : يَوْم الصَّفّ . وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر : " وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَك صَفًّا صَفًّا " [ الْفَجْر : 22 ] هَذَا يَدُلّ عَلَى الصُّفُوف , وَهَذَا حِين الْعَرْض وَالْحِسَاب . قَالَ مَعْنَاهُ الْقُتَبِيّ وَغَيْره . وَقِيلَ : يَقُوم الرُّوح صَفًّا , وَالْمَلَائِكَة صَفًّا , فَهُمْ صَفَّانِ . وَقِيلَ : يَقُوم الْكُلّ صَفًّا وَاحِدًا .
" لَا يَتَكَلَّمُونَ " أَيْ لَا يَشْفَعُونَ " إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن " فِي الشَّفَاعَة " وَقَالَ صَوَابًا " يَعْنِي حَقًّا ; قَالَهُ الضَّحَّاك وَمُجَاهِد . وَقَالَ أَبُو صَالِح : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يَشْفَعُونَ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَأَصْل الصَّوَاب . السَّدَاد مِنْ الْقَوْل وَالْفِعْل , وَهُوَ مَنْ أَصَابَ يُصِيب إِصَابَة ; كَالْجَوَابِ مِنْ أَجَابَ يُجِيب إِجَابَة . وَقِيلَ : " لَا يَتَكَلَّمُونَ " يَعْنِي الْمَلَائِكَة وَالرُّوح الَّذِينَ قَامُوا صَفًّا , لَا يَتَكَلَّمُونَ هَيْبَة وَ إِجْلَالًا " إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن " فِي الشَّفَاعَة وَهُمْ قَدْ قَالُوا صَوَابًا , وَأَنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ اللَّه تَعَالَى وَيُسَبِّحُونَهُ . وَقَالَ الْحَسَن : إِنَّ الرُّوح يَقُول يَوْم الْقِيَامَة : لَا يَدْخُل أَحَد الْجَنَّة إِلَّا بِالرَّحْمَةِ , وَلَا النَّار إِلَّا بِالْعَمَلِ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَقَالَ صَوَابًا " .
" لَا يَتَكَلَّمُونَ " أَيْ لَا يَشْفَعُونَ " إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن " فِي الشَّفَاعَة " وَقَالَ صَوَابًا " يَعْنِي حَقًّا ; قَالَهُ الضَّحَّاك وَمُجَاهِد . وَقَالَ أَبُو صَالِح : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يَشْفَعُونَ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَأَصْل الصَّوَاب . السَّدَاد مِنْ الْقَوْل وَالْفِعْل , وَهُوَ مَنْ أَصَابَ يُصِيب إِصَابَة ; كَالْجَوَابِ مِنْ أَجَابَ يُجِيب إِجَابَة . وَقِيلَ : " لَا يَتَكَلَّمُونَ " يَعْنِي الْمَلَائِكَة وَالرُّوح الَّذِينَ قَامُوا صَفًّا , لَا يَتَكَلَّمُونَ هَيْبَة وَ إِجْلَالًا " إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن " فِي الشَّفَاعَة وَهُمْ قَدْ قَالُوا صَوَابًا , وَأَنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ اللَّه تَعَالَى وَيُسَبِّحُونَهُ . وَقَالَ الْحَسَن : إِنَّ الرُّوح يَقُول يَوْم الْقِيَامَة : لَا يَدْخُل أَحَد الْجَنَّة إِلَّا بِالرَّحْمَةِ , وَلَا النَّار إِلَّا بِالْعَمَلِ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَقَالَ صَوَابًا " .
قَوْله تَعَالَى : " ذَلِكَ الْيَوْم الْحَقّ " أَيْ الْكَائِن الْوَاقِع " فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلَى رَبّه مَآبًا " أَيْ مَرْجِعًا بِالْعَمَلِ الصَّالِح ; كَأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ خَيْرًا رَدَّهُ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَإِذَا عَمِلَ شَرًّا عَدَّهُ مِنْهُ . وَيَنْظُر إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : [ وَالْخَيْر كُلّه بِيَدَيْك , وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك ] . وَقَالَ قَتَادَة : " مَآبًا " : سَبِيلًا .
إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ↓
يُخَاطِب كُفَّار قُرَيْش وَمُشْرِكِي الْعَرَب ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا : لَا نُبْعَث . وَالْعَذَاب عَذَاب الْآخِرَة , وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيب , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : " كَأَنَّهُمْ يَوْم يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَوْ ضُحَاهَا " [ النَّازِعَات : 46 ] قَالَ مَعْنَاهُ الْكَلْبِيّ وَغَيْره . وَقَالَ قَتَادَة : عُقُوبَة الدُّنْيَا ; لِأَنَّهَا أَقْرَب الْعَذَابَيْنِ . قَالَ مُقَاتِل : هِيَ قَتْل قُرَيْش بِبَدْرٍ . وَالْأَظْهَر أَنَّهُ عَذَاب الْآخِرَة , وَهُوَ الْمَوْت وَالْقِيَامَة ; لِأَنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَته , فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة رَأَى مَقْعَده مِنْ الْجَنَّة , وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل النَّار رَأَى الْخِزْيَ وَالْهَوَان ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : " يَوْم يَنْظُر الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ "
بَيَّنَ وَقْت ذَلِكَ الْعَذَاب ; أَيْ أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا فِي ذَلِكَ الْيَوْم , وَهُوَ يَوْم يَنْظُر الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ , أَيْ يَرَاهُ وَقِيلَ : يَنْظُر إِلَى مَا قَدَّمَتْ فَحُذِفَ إِلَى . وَالْمَرْء هَهُنَا الْمُؤْمِن فِي قَوْل الْحَسَن ; أَيْ يَجِد لِنَفْسِهِ عَمَلًا , فَأَمَّا الْكَافِر فَلَا يَجِد لِنَفْسِهِ عَمَلًا , فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُون تُرَابًا . وَلَمَّا قَالَ : " وَيَقُول الْكَافِر " عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَرْءِ الْمُؤْمِن . وَقِيلَ : الْمَرْء هَهُنَا : أُبَيّ بْن خَلَف وَعُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط . وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ قَوْله : " يَوْم يَنْظُر الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ " فِي أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الْأَسَد الْمَخْزُومِيّ : " وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " : فِي أَخِيهِ الْأَسْوَد بْن عَبْد الْأَسَد .
أَبُو جَهْل . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي كُلّ أَحَد وَإِنْسَان يَرَى فِي ذَلِكَ الْيَوْم جَزَاء مَا كَسَبَ . وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ قَوْله : " يَوْم يَنْظُر الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ " فِي أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الْأَسَد الْمَخْزُومِيّ : " وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " : فِي أَخِيهِ الْأَسْوَد بْن عَبْد الْأَسَد . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : سَمِعْت أَبَا الْقَاسِم بْن حَبِيب يَقُول : الْكَافِر : هَهُنَا إِبْلِيس وَذَلِكَ أَنَّهُ عَابَ آدَم بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَاب , وَافْتَخَرَ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَار , فَإِذَا عَايَنَ يَوْم الْقِيَامَة مَا فِيهِ آدَم وَبَنُوهُ مِنْ الثَّوَاب وَالرَّاحَة , وَالرَّحْمَة , وَرَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّة وَالْعَذَاب , تَمَنَّى أَنَّهُ يَكُون بِمَكَانِ آدَم , فَيَقُول : " يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " قَالَ : وَرَأَيْته فِي بَعْض التَّفَاسِير لِلْقُشَيْرِيّ أَبِي نَصْر . وَقِيلَ : أَيْ يَقُول إِبْلِيس يَا لَيْتَنِي خُلِقْت مِنْ التُّرَاب وَلَمْ أَقُلْ أَنَا خَيْر مِنْ آدَم . وَعَنْ اِبْن عُمَر : إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مُدَّتْ الْأَرْض مَدّ الْأَدِيم , وَحُشِرَ الدَّوَابّ وَالْبَهَائِم وَالْوُحُوش , ثُمَّ يُوضَع الْقِصَاص بَيْن الْبَهَائِم , حَتَّى يُقْتَصّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاء مِنْ الشَّاة الْقَرْنَاء بِنَطْحَتِهَا , فَإِذَا فُرِغَ مِنْ الْقِصَاص بَيْنهَا قِيلَ لَهَا : كُونِي تُرَابًا , فَعِنْد ذَلِكَ يَقُول الْكَافِر : " يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " . وَنَحْوه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة , بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُور الْآخِرَة " , مُجَوَّدًا وَالْحَمْد لِلَّهِ . ذَكَرَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن نَافِع , قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن شَبِيب , قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّازِق , قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَر , قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَر بْن بُرْقَان الْجَزْرِيّ , عَنْ يَزِيد بْن الْأَصَمّ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَحْشُر الْخَلْق كُلّهمْ مِنْ دَابَّة وَطَائِر وَإِنْسَان , ثُمَّ يُقَال لِلْبَهَائِمِ وَالطَّيْر كُونِي تُرَابًا , فَعِنْد ذَلِكَ " يَقُول الْكَافِر : يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " . وَقَالَ قَوْم : " يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " : أَيْ لَمْ أُبْعَث , كَمَا قَالَ : " يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ " . وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد : إِذَا قُضِيَ بَيْن النَّاس , وَأُمِرَ بِأَهْلِ الْجَنَّة إِلَى الْجَنَّة , وَأَهْل النَّار إِلَى النَّار , قِيلَ لِسَائِرِ الْأُمَم وَلِمُؤْمِنِي الْجِنّ : عُودُوا تُرَابًا , فَيَعُودُونَ تُرَابًا , فَعِنْد ذَلِكَ يَقُول الْكَافِر حِين يَرَاهُمْ " يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " . وَقَالَ لَيْث بْن أَبِي سُلَيْم : مُؤْمِنُو الْجِنّ يَعُودُونَ تُرَابًا . وَقَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالزَّهْرِيّ وَالْكَلْبِيّ وَمُجَاهِد : مُؤْمِنُو الْجَنَّة حَوْل الْجَنَّة فِي رَبَض وَرِحَاب وَلَيْسُوا فِيهَا . وَهَذَا أَصَحّ , وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الرَّحْمَن " بَيَان هَذَا , وَأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ : يُثَابُونَ وَيُعَاقَبُونَ , فَهُمْ كَبَنِي آدَم , وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ .
بَيَّنَ وَقْت ذَلِكَ الْعَذَاب ; أَيْ أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا فِي ذَلِكَ الْيَوْم , وَهُوَ يَوْم يَنْظُر الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ , أَيْ يَرَاهُ وَقِيلَ : يَنْظُر إِلَى مَا قَدَّمَتْ فَحُذِفَ إِلَى . وَالْمَرْء هَهُنَا الْمُؤْمِن فِي قَوْل الْحَسَن ; أَيْ يَجِد لِنَفْسِهِ عَمَلًا , فَأَمَّا الْكَافِر فَلَا يَجِد لِنَفْسِهِ عَمَلًا , فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُون تُرَابًا . وَلَمَّا قَالَ : " وَيَقُول الْكَافِر " عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَرْءِ الْمُؤْمِن . وَقِيلَ : الْمَرْء هَهُنَا : أُبَيّ بْن خَلَف وَعُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط . وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ قَوْله : " يَوْم يَنْظُر الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ " فِي أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الْأَسَد الْمَخْزُومِيّ : " وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " : فِي أَخِيهِ الْأَسْوَد بْن عَبْد الْأَسَد .
أَبُو جَهْل . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي كُلّ أَحَد وَإِنْسَان يَرَى فِي ذَلِكَ الْيَوْم جَزَاء مَا كَسَبَ . وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ قَوْله : " يَوْم يَنْظُر الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ " فِي أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الْأَسَد الْمَخْزُومِيّ : " وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " : فِي أَخِيهِ الْأَسْوَد بْن عَبْد الْأَسَد . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : سَمِعْت أَبَا الْقَاسِم بْن حَبِيب يَقُول : الْكَافِر : هَهُنَا إِبْلِيس وَذَلِكَ أَنَّهُ عَابَ آدَم بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَاب , وَافْتَخَرَ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَار , فَإِذَا عَايَنَ يَوْم الْقِيَامَة مَا فِيهِ آدَم وَبَنُوهُ مِنْ الثَّوَاب وَالرَّاحَة , وَالرَّحْمَة , وَرَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّة وَالْعَذَاب , تَمَنَّى أَنَّهُ يَكُون بِمَكَانِ آدَم , فَيَقُول : " يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " قَالَ : وَرَأَيْته فِي بَعْض التَّفَاسِير لِلْقُشَيْرِيّ أَبِي نَصْر . وَقِيلَ : أَيْ يَقُول إِبْلِيس يَا لَيْتَنِي خُلِقْت مِنْ التُّرَاب وَلَمْ أَقُلْ أَنَا خَيْر مِنْ آدَم . وَعَنْ اِبْن عُمَر : إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مُدَّتْ الْأَرْض مَدّ الْأَدِيم , وَحُشِرَ الدَّوَابّ وَالْبَهَائِم وَالْوُحُوش , ثُمَّ يُوضَع الْقِصَاص بَيْن الْبَهَائِم , حَتَّى يُقْتَصّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاء مِنْ الشَّاة الْقَرْنَاء بِنَطْحَتِهَا , فَإِذَا فُرِغَ مِنْ الْقِصَاص بَيْنهَا قِيلَ لَهَا : كُونِي تُرَابًا , فَعِنْد ذَلِكَ يَقُول الْكَافِر : " يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " . وَنَحْوه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة , بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُور الْآخِرَة " , مُجَوَّدًا وَالْحَمْد لِلَّهِ . ذَكَرَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن نَافِع , قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن شَبِيب , قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّازِق , قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَر , قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَر بْن بُرْقَان الْجَزْرِيّ , عَنْ يَزِيد بْن الْأَصَمّ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَحْشُر الْخَلْق كُلّهمْ مِنْ دَابَّة وَطَائِر وَإِنْسَان , ثُمَّ يُقَال لِلْبَهَائِمِ وَالطَّيْر كُونِي تُرَابًا , فَعِنْد ذَلِكَ " يَقُول الْكَافِر : يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " . وَقَالَ قَوْم : " يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " : أَيْ لَمْ أُبْعَث , كَمَا قَالَ : " يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ " . وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد : إِذَا قُضِيَ بَيْن النَّاس , وَأُمِرَ بِأَهْلِ الْجَنَّة إِلَى الْجَنَّة , وَأَهْل النَّار إِلَى النَّار , قِيلَ لِسَائِرِ الْأُمَم وَلِمُؤْمِنِي الْجِنّ : عُودُوا تُرَابًا , فَيَعُودُونَ تُرَابًا , فَعِنْد ذَلِكَ يَقُول الْكَافِر حِين يَرَاهُمْ " يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " . وَقَالَ لَيْث بْن أَبِي سُلَيْم : مُؤْمِنُو الْجِنّ يَعُودُونَ تُرَابًا . وَقَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالزَّهْرِيّ وَالْكَلْبِيّ وَمُجَاهِد : مُؤْمِنُو الْجَنَّة حَوْل الْجَنَّة فِي رَبَض وَرِحَاب وَلَيْسُوا فِيهَا . وَهَذَا أَصَحّ , وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الرَّحْمَن " بَيَان هَذَا , وَأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ : يُثَابُونَ وَيُعَاقَبُونَ , فَهُمْ كَبَنِي آدَم , وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ .