" عَبَسَ " أَيْ كَلَحَ بِوَجْهِهِ ; يُقَال : عَبَسَ وَبَسَرَ . " وَتَوَلَّى " أَيْ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ قَالَ مَالِك : إِنَّ هِشَام بْن عُرْوَة حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَة , أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَتْ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " فِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم ; جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُول : يَا مُحَمَّد اسْتَدْنِنِي , وَعِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ , فَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِض عَنْهُ وَيُقْبِل عَلَى الْآخَر , وَيَقُول : ( يَا فُلَان , هَلْ تَرَى بِمَا أَقُول بَأْسًا ) ؟ فَيَقُول : [ لَا وَالدُّمَى مَا أَرَى بِمَا تَقُول بَأْسًا ] ; فَأَنْزَلَ اللَّه : " عَبَسَ وَتَوَلَّى " . وَفِي التِّرْمِذِيّ مُسْنَدًا قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن يَحْيَى بْن سَعِيد الْأُمَوِيّ , حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ هَذَا مَا عَرَضْنَا عَلَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة , قَالَتْ : نَزَلَتْ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " فِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم الْأَعْمَى , أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ , يَقُول : يَا رَسُول اللَّه أَرْشِدْنِي , وَعِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ , فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِض عَنْهُ , وَيُقْبِل عَلَى الْآخَر , وَيَقُول : [ أَتَرَى بِمَا أَقُول بَأْسًا ] فَيَقُول : لَا ; فَفِي هَذَا نَزَلَتْ ; قَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب . الْآيَة عِتَاب مِنْ اللَّه لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِعْرَاضه وَتَوَلِّيه عَنْ عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم . وَيُقَال : عَمْرو بْن أُمّ مَكْتُوم , وَاسْم أُمّ مَكْتُوم عَاتِكَة بِنْت عَامِر بْن مَخْزُوم , وَعَمْرو هَذَا : هُوَ اِبْن قَيْس بْن زَائِدَة بْن الْأَصَمّ , وَهُوَ اِبْن خَال خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا . وَكَانَ قَدْ تَشَاغَلَ عَنْهُ بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ , يُقَال كَانَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا قَوْل عُلَمَائِنَا إِنَّهُ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة فَقَدْ قَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ أُمَيَّة بْن خَلَف وَالْعَبَّاس وَهَذَا كُلّه بَاطِل وَجَهْل مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَقَّقُوا الدِّين , ذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّة بْن خَلَف وَالْوَلِيد كَانَا بِمَكَّة وَابْن أُمِّ مَكْتُوم كَانَ بِالْمَدِينَةِ , مَا حَضَرَ مَعَهُمَا وَلَا حَضَرَا مَعَهُ , وَكَانَ مَوْتهمَا كَافِرَيْنِ , أَحَدهمَا قَبْل الْهِجْرَة , وَالْآخَر بِبَدْرٍ , وَلَمْ يَقْصِد قَطُّ أُمَيَّة الْمَدِينَة , وَلَا حَضَرَ عِنْده مُفْرَدًا , وَلَا مَعَ أَحَد . أَقْبَلَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَغِل بِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ وُجُوه قُرَيْش يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى , وَقَدْ قَوِيَ طَمَعه فِي إِسْلَامهمْ وَكَانَ فِي إِسْلَامهمْ إِسْلَام مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمهمْ , فَجَاءَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم وَهُوَ أَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك اللَّه , وَجَعَلَ يُنَادِيه وَيُكْثِر النِّدَاء , وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مُشْتَغِل بِغَيْرِهِ , حَتَّى ظَهَرَتْ الْكَرَاهَة فِي وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَطْعِهِ كَلَامه , وَقَالَ فِي نَفْسه : يَقُول هَؤُلَاءِ : إِنَّمَا أَتْبَاعه الْعُمْيَان وَالسَّفَلَة وَالْعَبِيد ; فَعَبَسَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ , فَنَزَلَتْ الْآيَة . قَالَ الثَّوْرِيّ : فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ إِذَا رَأَى اِبْن أُمّ مَكْتُوم يَبْسُط لَهُ رِدَاءَهُ وَيَقُول : [ مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي ] . وَيَقُول : [ هَلْ مِنْ حَاجَة ] ؟ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَة مَرَّتَيْنِ فِي غَزْوَتَيْنِ غَزَاهُمَا . قَالَ أَنَس : فَرَأَيْته يَوْم الْقَادِسِيَّة رَاكِبًا وَعَلَيْهِ دِرْع وَمَعَهُ رَايَة سَوْدَاء . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَا فَعَلَهُ اِبْن أُمّ مَكْتُوم كَانَ مِنْ سُوء الْأَدَب لَوْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْغُول بِغَيْرِهِ , وَأَنَّهُ يَرْجُو إِسْلَامَهُمْ , وَلَكِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاتَبَهُ حَتَّى لَا تَنْكَسِر قُلُوب أَهْل الصُّفَّة ; أَوْ لِيُعْلِم أَنَّ الْمُؤْمِن الْفَقِير خَيْر مِنْ الْغَنِيّ , وَكَانَ النَّظَر إِلَى الْمُؤْمِن أَوْلَى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَصْلَح وَأَوْلَى مِنْ الْأَمْر الْآخَر , وَهُوَ الْإِقْبَال عَلَى الْأَغْنِيَاء طَمَعًا فِي إِيمَانهمْ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَوْعًا مِنْ الْمَصْلَحَة , وَعَلَى هَذَا يُخَرَّج قَوْل تَعَالَى : " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُون لَهُ أَسْرَى " [ الْأَنْفَال : 67 ] الْآيَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : إِنَّمَا قَصَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْلِيف الرَّجُل , ثِقَة بِمَا كَانَ فِي قَلْب اِبْن مَكْتُوم مِنْ الْإِيمَان ; كَمَا قَالَ : [ إِنِّي لَأَصِلُ الرَّجُل , وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ , مَخَافَة أَنْ يُكِبّهُ اللَّه فِي النَّار عَلَى وَجْهه ] . قَالَ اِبْن زَيْد : إِنَّمَا عَبَسَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ أُمّ مَكْتُوم وَأَعْرَضَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الَّذِي كَانَ يَقُودهُ أَنْ يَكُفَّهُ , فَدَفَعَهُ اِبْن أُمّ مَكْتُوم , وَأَبَى إِلَّا أَنْ يُكَلِّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُعَلِّمَهُ , فَكَانَ فِي هَذَا نَوْع جَفَاء مِنْهُ . وَمَعَ هَذَا أَنْزَلَ اللَّه فِي حَقِّهِ عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَبَسَ وَتَوَلَّى " بِلَفْظِ الْإِخْبَار عَنْ الْغَائِب , تَعْظِيمًا لَهُ وَلَمْ يَقُلْ : عَبَسْت وَتَوَلَّيْت .
" أَنْ جَاءَهُ " " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب لِأَنَّهُ مَفْعُول لَهُ , الْمَعْنَى لِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى , أَيْ الَّذِي لَا يُبْصِر بِعَيْنَيْهِ . فَرَوَى أَهْل التَّفْسِير أَجْمَع أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَشْرَاف قُرَيْش كَانُوا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ طَمِعَ فِي إِسْلَامهمْ , فَأَقْبَلَ عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم , فَكَرِهَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَع عَبْد اللَّه عَلَيْهِ كَلَامه , فَأَعْرَضَ عَنْهُ , فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . قَالَ مَالِك : إِنَّ هِشَام بْن عُرْوَة حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَة , أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَتْ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " فِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم ; جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُول : يَا مُحَمَّد اسْتَدْنِنِي , وَعِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ , فَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِض عَنْهُ وَيُقْبِل عَلَى الْآخَر , وَيَقُول : [ يَا فُلَان , هَلْ تَرَى بِمَا أَقُول بَأْسًا ] ؟ فَيَقُول : [ لَا وَالدُّمَى مَا أَرَى بِمَا تَقُول بَأْسًا ] ; فَأَنْزَلَ اللَّه : " عَبَسَ وَتَوَلَّى " . وَفِي التِّرْمِذِيّ مُسْنَدًا قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن يَحْيَى بْن سَعِيد الْأُمَوِيّ , حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ هَذَا مَا عَرَضْنَا عَلَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة , قَالَتْ : نَزَلَتْ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " فِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم الْأَعْمَى , أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ , يَقُول : يَا رَسُول اللَّه أَرْشِدْنِي , وَعِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ , فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِض عَنْهُ , وَيُقْبِل عَلَى الْآخَر , وَيَقُول : [ أَتَرَى بِمَا أَقُول بَأْسًا ] فَيَقُول : لَا ; فَفِي هَذَا نَزَلَتْ ; قَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب . الْآيَة عِتَاب مِنْ اللَّه لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِعْرَاضه وَتَوَلِّيه عَنْ عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم . وَيُقَال : عَمْرو بْن أُمّ مَكْتُوم , وَاسْم أُمّ مَكْتُوم عَاتِكَة بِنْت عَامِر بْن مَخْزُوم , وَعَمْرو هَذَا : هُوَ اِبْن قَيْس بْن زَائِدَة بْن الْأَصَمّ , وَهُوَ اِبْن خَال خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا . وَكَانَ قَدْ تَشَاغَلَ عَنْهُ بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ , يُقَال كَانَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة . اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَهُ الْمَالِكِيَّة مِنْ عُلَمَائِنَا , وَهُوَ يُكَنَّى أَبَا عَبْد شَمْس . وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ أُمَيَّة بْن خَلَف وَعَنْهُ : أُبَيّ بْن خَلْف . وَقَالَ مُجَاهِد : كَانُوا ثَلَاثَة عُتْبَة وَشَيْبَة اِبْنَا رَبِيعَة وَأُبَيّ بْن خَلْف . وَقَالَ عَطَاء عُتْبَة بْن رَبِيعَة . سُفْيَان الثَّوْرِيّ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَمّه الْعَبَّاس . الزَّمَخْشَرِي : كَانَ عِنْده صَنَادِيد قُرَيْش : عُتْبَة وَشَيْبَة اِبْنَا رَبِيعَة , وَأَبُو جَهْل بْن هِشَام , وَالْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب , وَأُمِّيَّة بْن خَلَف , وَالْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام , رَجَاء أَنْ يُسْلِمَ بِإِسْلَامِهِمْ غَيْرُهُمْ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا قَوْل عُلَمَائِنَا إِنَّهُ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة فَقَدْ قَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ أُمَيَّة بْن خَلَف وَالْعَبَّاس وَهَذَا كُلّه بَاطِل وَجَهْل مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَقَّقُوا الدِّين , ذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّة بْن خَلَف وَالْوَلِيد كَانَا بِمَكَّة وَابْن أُمّ مَكْتُوم كَانَ بِالْمَدِينَةِ , مَا حَضَرَ مَعَهُمَا وَلَا حَضَرَا مَعَهُ , وَكَانَ مَوْتهمَا كَافِرَيْنِ , أَحَدهمَا قَبْل الْهِجْرَة , وَالْآخَر بِبَدْرٍ , وَلَمْ يَقْصِد قَطُّ أُمَيَّة الْمَدِينَة , وَلَا حَضَرَ عِنْده مُفْرَدًا , وَلَا مَعَ أَحَد . أَقْبَلَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَغِل بِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ وُجُوه قُرَيْش يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى , وَقَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي إِسْلَامهمْ وَكَانَ فِي إِسْلَامهمْ إِسْلَامُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمهمْ , فَجَاءَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم وَهُوَ أَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك اللَّه , وَجَعَلَ يُنَادِيه وَيُكْثِر النِّدَاء , وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مُشْتَغِل بِغَيْرِهِ , حَتَّى ظَهَرَتْ الْكَرَاهَة فِي وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَطْعِهِ كَلَامه , وَقَالَ فِي نَفْسه : يَقُول هَؤُلَاءِ : إِنَّمَا أَتْبَاعه الْعُمْيَان وَالسَّفَلَة وَالْعَبِيد ; فَعَبَسَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ , فَنَزَلَتْ الْآيَة . قَالَ الثَّوْرِيّ : فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ إِذَا رَأَى اِبْن أُمّ مَكْتُوم يَبْسُط لَهُ رِدَاءَهُ وَيَقُول : [ مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي ] . وَيَقُول : [ هَلْ مِنْ حَاجَة ] ؟ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَة مَرَّتَيْنِ فِي غَزْوَتَيْنِ غَزَاهُمَا . قَالَ أَنَس : فَرَأَيْته يَوْم الْقَادِسِيَّة رَاكِبًا وَعَلَيْهِ دِرْع وَمَعَهُ رَايَة سَوْدَاء . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَا فَعَلَهُ اِبْن أُمّ مَكْتُوم كَانَ مِنْ سُوء الْأَدَب لَوْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْغُول بِغَيْرِهِ , وَأَنَّهُ يَرْجُو إِسْلَامهمْ , وَلَكِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاتَبَهُ حَتَّى لَا تَنْكَسِر قُلُوب أَهْل الصُّفَّة ; أَوْ لِيُعْلِم أَنَّ الْمُؤْمِن الْفَقِير خَيْر مِنْ الْغَنِيّ , وَكَانَ النَّظَر إِلَى الْمُؤْمِن أَوْلَى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَصْلَحَ وَأَوْلَى مِنْ الْأَمْر الْآخَر , وَهُوَ الْإِقْبَال عَلَى الْأَغْنِيَاء طَمَعًا فِي إِيمَانهمْ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَوْعًا مِنْ الْمَصْلَحَة , وَعَلَى هَذَا يُخَرَّج قَوْله تَعَالَى : " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُون لَهُ أَسْرَى " [ الْأَنْفَال : 67 ] الْآيَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : إِنَّمَا قَصَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْلِيف الرَّجُل , ثِقَة بِمَا كَانَ فِي قَلْب اِبْن مَكْتُوم مِنْ الْإِيمَان ; كَمَا قَالَ : [ إِنِّي لَأَصِلُ الرَّجُل وَغَيْره أَحَبّ إِلَيَّ مِنْهُ , مَخَافَة أَنْ يُكِبّهُ اللَّه فِي النَّار عَلَى وَجْهه ] . قَالَ اِبْن زَيْد : إِنَّمَا عَبَسَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ أُمّ مَكْتُوم وَأَعْرَضَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الَّذِي كَانَ يَقُودهُ أَنْ يَكُفَّهُ , فَدَفَعَهُ اِبْن أُمّ مَكْتُوم , وَأَبَى إِلَّا أَنْ يُكَلِّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُعَلِّمَهُ , فَكَانَ فِي هَذَا نَوْع جَفَاء مِنْهُ . وَمَعَ هَذَا أَنْزَلَ اللَّه فِي حَقّه عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَبَسَ وَتَوَلَّى " بِلَفْظِ الْإِخْبَار عَنْ الْغَائِب , تَعْظِيمًا لَهُ وَلَمْ يَقُلْ : عَبَسْت وَتَوَلَّيْت . وَقَرَأَ الْحَسَن " آأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى " بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَام فَـ " أَنْ " مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مَحْذُوف دَلَّ عَلَيْهِ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " التَّقْدِير : آأَنْ جَاءَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَوَلَّى ؟ فَيُوقَف عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة عَلَى " وَتَوَلَّى " , وَلَا يُوقَف عَلَيْهِ عَلَى قِرَاءَة الْخَبَر , وَهِيَ قِرَاءَة الْعَامَّة .
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِمُوَاجَهَةِ الْخِطَاب تَأْنِيسًا لَهُ فَقَالَ : " وَمَا يُدْرِيك " أَيْ يُعْلِمك " لَعَلَّهُ " يَعْنِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم " يَزَّكَّى " بِمَا اِسْتَدْعَى مِنْك تَعْلِيمَهُ إِيَّاهُ مِنْ الْقُرْآن وَالدِّين , بِأَنْ يَزْدَاد طَهَارَة فِي دِينه , وَزَوَال ظُلْمَة الْجَهْل عَنْهُ . وَقِيلَ : الضَّمِير فِي " لَعَلَّهُ " لِلْكَافِرِ يَعْنِي إِنَّك إِذَا طَمِعْت فِي أَنْ يَتَزَكَّى بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَذَّكَّر , فَتُقَرِّبهُ الذِّكْرَى إِلَى قَبُول الْحَقّ وَمَا يُدْرِيك أَنَّ مَا طَمِعْت فِيهِ كَائِن . وَقَرَأَ الْحَسَن " آأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى " بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَام فَـ " أَنْ " مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مَحْذُوف دَلَّ عَلَيْهِ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " التَّقْدِير : آأَنْ جَاءَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَوَلَّى ؟ فَيُوقَف عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة عَلَى " وَتَوَلَّى " , وَلَا يُوقَف عَلَيْهِ عَلَى قِرَاءَة الْخَبَر , وَهِيَ قِرَاءَة الْعَامَّة . نَظِير هَذِهِ الْآيَة فِي الْعِتَاب قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَنْعَام : " وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ " [ الْأَنْعَام : 52 ] وَكَذَلِكَ قَوْله فِي سُورَة الْكَهْف : " وَلَا تَعْدُ عَيْنَاك عَنْهُمْ تُرِيد زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا " [ الْكَهْف : 28 ] وَمَا كَانَ مِثْله , وَاَللَّه أَعْلَم .
" أَوْ يَذَّكَّر " يَتَّعِظ بِمَا تَقُول " فَتَنْفَعهُ الذِّكْرَى " أَيْ الْعِظَة . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " فَتَنْفَعُهُ " بِضَمِّ الْعَيْن , عَطْفًا عَلَى " يَزَّكَّى " . وَقَرَأَ عَاصِم وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَعِيسَى " فَتَنْفَعَهُ " نَصْبًا . وَهِيَ قِرَاءَة السُّلَمِيّ وَزِرّ بْن حُبَيْش , عَلَى جَوَاب لَعَلَّ ; لِأَنَّهُ غَيْر مُوجَب ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَعَلِّي أَبْلُغ الْأَسْبَاب " [ غَافِر : 36 ] ثُمَّ قَالَ : " فَأَطَّلِعَ " [ الصَّافَّات : 55 ] .
أَيْ كَانَ ذَا ثَرْوَة وَغِنًى
أَيْ تَعَرَّض لَهُ , وَتُصْغِي لِكَلَامِهِ . وَالتَّصَدِّي : الْإِصْغَاء ; قَالَ الرَّاعِي : تَصَدَّى لِوَضَّاحٍ كَأَنَّ جَبِينَهُ سِرَاجُ الدُّجَى يَحْنِي إِلَيْهِ الْأَسَاوِرُ وَأَصْلُهُ تَتَصَدَّد مِنْ الصَّدّ , وَهُوَ مَا اِسْتَقْبَلَك , وَصَارَ قُبَالَتك ; يُقَال : دَارِي صَدَد دَارِهِ أَيْ قُبَالَتهَا , نَصْب عَلَى الظَّرْف . وَقِيلَ : مِنْ الصَّدَى وَهُوَ الْعَطَش . أَيْ تَتَعَرَّض لَهُ كَمَا يَتَعَرَّض الْعَطْشَان لِلْمَاءِ , وَالْمُصَادَاة : الْمُعَارَضَة . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " تَصَدَّى " بِالتَّخْفِيفِ , عَلَى طَرْح التَّاء الثَّانِيَة تَخْفِيفًا . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن مُحَيْصِن بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْإِدْغَام .
أَيْ لَا يَهْتَدِي هَذَا الْكَافِر وَلَا يُؤْمِن , إِنَّمَا أَنْتَ رَسُول , مَا عَلَيْك إِلَّا الْبَلَاغ .
يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلَّهِ
أَيْ يَخَاف اللَّه .
أَيْ تُعْرِض عَنْهُ بِوَجْهِك وَتُشْغَل بِغَيْرِهِ . وَأَصْله تَتَلَهَّى ; يُقَال : لَهِيت عَنْ الشَّيْء أَلْهَى : أَيْ تَشَاغَلْت عَنْهُ . وَالتَّلَهِّي : التَّغَافُل . وَلَهِيت عَنْهُ وَتَلِيت : بِمَعْنًى .
" كَلَّا " كَلِمَة رَدْع وَزَجْر ; أَيْ مَا الْأَمْر كَمَا تَفْعَل مَعَ الْفَرِيقَيْنِ ; أَيْ لَا تَفْعَل بَعْدهَا مِثْلهَا : مِنْ إِقْبَالِك عَلَى الْغَنِيّ , وَإِعْرَاضك عَنْ الْمُؤْمِن الْفَقِير . وَاَلَّذِي جَرَى مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَرْك الْأَوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ , وَلَوْ حُمِلَ عَلَى صَغِيرَة لَمْ يَبْعُد ; قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ . وَالْوَقْف عَلَى " كَلَّا " عَلَى هَذَا الْوَجْه : جَائِز . وَيَجُوز أَنْ تَقِف عَلَى " تَلَهَّى " ثُمَّ تَبْتَدِئ " كَلَّا " عَلَى مَعْنَى حَقًّا . " إِنَّهَا " أَيْ السُّورَة أَوْ آيَات الْقُرْآن " تَذْكِرَة " أَيْ مَوْعِظَة وَتَبْصِرَة لِلْخَلْقِ قَالَ الْجُرْجَانِيّ : " إِنَّهَا " أَيْ الْقُرْآن , وَالْقُرْآن مُذَكَّر إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقُرْآن تَذْكِرَة , أَخْرَجَهُ عَلَى لَفْظ التَّذْكِرَة , وَلَوْ ذَكَّرَهُ لَجَازَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِع آخَر : " كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَة " . وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْقُرْآن قَوْله : " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ " أَيْ كَانَ حَافِظًا لَهُ غَيْر نَاس ; وَذَكَّرَ الضَّمِير ; لِأَنَّ التَّذْكِرَة فِي مَعْنَى الذِّكْر وَالْوَعْظ .
أَيْ اِتَّعَظَ بِالْقُرْآنِ . قَالَ الْجُرْجَانِيّ : " إِنَّهَا " أَيْ الْقُرْآن , وَالْقُرْآن مُذَكَّر إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقُرْآن تَذْكِرَة , أَخْرَجَهُ عَلَى لَفْظ التَّذْكِرَة , وَلَوْ ذَكَّرَهُ لَجَازَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِع آخَر : " كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَة " . وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْقُرْآن قَوْله : " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ " أَيْ كَانَ حَافِظًا لَهُ غَيْر نَاس ; وَذَكَّرَ الضَّمِير ; لِأَنَّ التَّذْكِرَة فِي مَعْنَى الذِّكْر وَالْوَعْظ . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ " قَالَ مَنْ شَاءَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَلْهَمَهُ .
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ جَلَالَتِهِ فَقَالَ : " فِي صُحُف " جَمْع صَحِيفَة " مُكَرَّمَة " أَيْ عِنْد اللَّه ; قَالَهُ السُّدِّيّ . الطَّبَرِيّ : " مُكَرَّمَة " فِي الدِّين لِمَا فِيهَا مِنْ الْعِلْم وَالْحُكْم . وَقِيلَ : " مُكَرَّمَة " لِأَنَّهَا نَزَلَ بِهَا كِرَام الْحَفَظَة , أَوْ لِأَنَّهَا نَازِلَة مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقِيلَ : " مُكَرَّمَة " لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ كَرِيم ; لِأَنَّ كَرَامَة الْكِتَاب مِنْ كَرَامَة صَاحِبه . وَقِيلَ : الْمُرَاد كُتُب الْأَنْبِيَاء ; دَلِيله : " إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُف الْأُولَى . صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى " [ الْأَعْلَى : 18 - 19 ] .
" مَرْفُوعَة " رَفِيعَة الْقَدْر عِنْد اللَّه . وَقِيلَ : مَرْفُوعَة عِنْده تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَقِيلَ : مَرْفُوعَة فِي السَّمَاء السَّابِعَة , قَالَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام . الطَّبَرِيّ : مَرْفُوعَة الذِّكْر وَالْقَدْر . وَقِيلَ : مَرْفُوعَة عَنْ الشُّبَه وَالتَّنَاقُض . " مُطَهَّرَة " قَالَ الْحَسَن : مِنْ كُلّ دَنَس . وَقِيلَ : مُصَانَة عَنْ أَنْ يَنَالهَا الْكُفَّار . وَهُوَ مَعْنَى قَوْل السُّدِّيّ . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا : مُطَهَّرَة مِنْ أَنْ تَنْزِل عَلَى الْمُشْرِكِينَ . وَقِيلَ : أَيْ الْقُرْآن أَثْبَت لِلْمَلَائِكَةِ فِي صُحُف يَقْرَءُونَهَا فَهِيَ مُكَرَّمَة مَرْفُوعَة مُطَهَّرَة .
أَيْ الْمَلَائِكَة الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّه سُفَرَاء بَيْنه وَبَيْن رُسُله , فَهُمْ بَرَرَة لَمْ يَتَدَنَّسُوا بِمَعْصِيَةٍ . وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : هِيَ مُطَهَّرَة تَجْعَل التَّطْهِير لِمَنْ حَمَلَهَا " بِأَيْدِي سَفَرَة " قَالَ : كَتَبَة . وَقَالَهُ مُجَاهِد أَيْضًا . وَهُمْ الْمَلَائِكَة الْكِرَام الْكَاتِبُونَ لِأَعْمَالِ الْعِبَاد فِي الْأَسْفَار , الَّتِي هِيَ الْكُتُب , وَاحِدُهُمْ : سَافِر ; كَقَوْلِك : كَاتِب وَكَتَبَة . وَيُقَال : سَفَرَتْ أَيْ كَتَبَتْ , وَالْكِتَاب : هُوَ السِّفْر , وَجَمْعه أَسْفَار . قَالَ الزَّجَّاج : وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكِتَابِ سِفْر , بِكَسْرِ السِّين , وَلِلْكَاتِبِ سَافِر ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَيِّن الشَّيْء وَيُوَضِّحُهُ . يُقَال : أَسْفَرَ الصُّبْح : إِذَا أَضَاءَ , وَسَفَرَتْ الْمَرْأَة : إِذَا كَشَفَتْ النِّقَاب عَنْ وَجْهِهَا . قَالَ : وَمِنْهُ سَفَرْت بَيْن الْقَوْم أَسْفِر سِفَارَة : أَصْلَحْت بَيْنهمْ . وَقَالَهُ الْفَرَّاء , وَأَنْشَدَ : فَمَا أَدْعُ السِّفَارَة بَيْن قَوْمِي وَلَا أَمْشِي بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْت وَالسَّفِير : الرَّسُول وَالْمُصْلِح بَيْن الْقَوْم وَالْجَمْع : سُفَرَاء , مِثْل فَقِيهِ وَفُقَهَاء . وَيُقَال لَلْوَرَّاقِينَ سُفَرَاء , بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّة . وَقَالَ قَتَادَة : السَّفَرَة هُنَا : هُمْ الْقُرَّاء , لِأَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْأَسْفَار . وَعَنْهُ أَيْضًا كَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : " بِأَيْدِي سَفَرَة . كَرَامٍ بَرَرَة " هُمْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لَقَدْ كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرَة , كِرَامًا بَرَرَة , وَلَكِنْ لَيْسُوا بِمُرَادِينَ بِهَذِهِ الْآيَة , وَلَا قَارَبُوا الْمُرَادِينَ بِهَا , بَلْ هِيَ لَفْظَة مَخْصُوصَة بِالْمَلَائِكَةِ عِنْد الْإِطْلَاق , وَلَا يُشَارِكهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ , وَلَا يَدْخُل مَعَهُمْ فِي مُتَنَاوَلهَا غَيْرهمْ . وَرُوِيَ فِي الصَّحِيح عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ مَثَل الَّذِي يَقْرَأ الْقُرْآن وَهُوَ حَافِظ لَهُ , مَعَ السَّفَرَة الْكِرَام الْبَرَرَة ; وَمَثَل الَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ , وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيد , فَلَهُ أَجْرَانِ ] مُتَّفَق عَلَيْهِ , وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ .
" كَرَامٍ " أَيْ كَرَامٍ عَلَى رَبّهمْ ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ . الْحَسَن : كَرَامٍ عَنْ الْمَعَاصِي , فَهُمْ يَرْفَعُونَ أَنْفُسهمْ عَنْهَا . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي " كَرَامٍ " قَالَ : يَتَكَرَّمُونَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ اِبْن آدَم إِذَا خَلَا بِزَوْجَتِهِ , أَوْ تَبَرَّزَ لِغَائِطِهِ . وَقِيلَ : أَيْ يُؤْثِرُونَ مَنَافِع غَيْرهمْ عَلَى مَنَافِع أَنْفُسِهِمْ . " بَرَرَة " جَمْع بَارّ مِثْل كَافِر وَكَفَرَة , وَسَاحِر وَسَحَرَة , وَفَاجِر وَفَجَرَة ; يُقَال : بَرّ وَبَارّ إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلصِّدْقِ , وَمِنْهُ بَرَّ فُلَان فِي يَمِينه : أَيْ صَدَقَ , وَفُلَان يَبَرّ خَالِقه وَيَتَبَرَّره : أَيْ يُطِيعهُ ; فَمَعْنَى " بَرَرَة " مُطِيعُونَ لِلَّهِ , صَادِقُونَ لِلَّهِ فِي أَعْمَالهمْ . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْوَاقِعَة " قَوْله تَعَالَى : " إِنَّهُ لَقُرْآن كَرِيم فِي كِتَاب مَكْنُون . لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [ الْوَاقِعَة : 77 - 79 ] أَنَّهُمْ الْكِرَام الْبَرَرَة فِي كِتَاب مَكْنُون . " لَا يَمَسّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [ الْوَاقِعَة : 79 ] أَنَّهُمْ الْكِرَام الْبَرَرَة فِي هَذِهِ السُّورَة .
" قُتِلَ " أَيْ لُعِنَ . وَقِيلَ : عُذِّبَ . وَالْإِنْسَان الْكَافِر رَوَى الْأَعْمَش عَنْ مُجَاهِد قَالَ : مَا كَانَ فِي الْقُرْآن " قُتِلَ الْإِنْسَان " فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ الْكَافِر . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَتْ فِي عُتْبَة بْن أَبِي لَهَب , وَكَانَ قَدْ آمَنَ , فَلَمَّا نَزَلَتْ " وَالنَّجْم " اِرْتَدَّ , وَقَالَ : آمَنْت بِالْقُرْآنِ كُلّه إِلَّا النَّجْم , فَأَنْزَلَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِ " قُتِلَ الْإِنْسَان " أَيْ لُعِنَ عُتْبَة حَيْثُ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ , وَدَعَا عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : [ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ أَسَد الْغَاضِرَة ] فَخَرَجَ مِنْ فَوْره بِتِجَارَةٍ إِلَى الشَّام , فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى الْغَاضِرَة تَذَكَّرَ دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجَعَلَ لِمَنْ مَعَهُ أَلْف دِينَار إِنْ هُوَ أَصْبَحَ حَيًّا , فَجَعَلُوهُ فِي وَسَط الرُّفْقَة , وَجَعَلُوا الْمَتَاع حَوْله , فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَقْبَلَ الْأَسَد , فَلَمَّا دَنَا مِنْ الرِّحَال وَثَبَ , فَإِذَا هُوَ فَوْقَهُ فَمَزَّقَهُ , وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ نَدَبَهُ وَبَكَى وَقَالَ : مَا قَالَ مُحَمَّد شَيْئًا قَطُّ إِلَّا كَانَ . وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس " مَا أَكْفَره " : أَيْ شَيْء أَكْفَرَهُ ؟ وَقِيلَ : " مَا " تَعَجُّب ; وَعَادَة الْعَرَب إِذَا تَعَجَّبُوا مِنْ شَيْء قَالُوا : قَاتَلَهُ اللَّه مَا أَحْسَنه ! وَأَخْزَاهُ اللَّه مَا أَظْلَمَهُ ; وَالْمَعْنَى : اِعْجَبُوا مِنْ كُفْر الْإِنْسَان لِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا بَعْد هَذَا . وَقِيلَ : مَا أَكْفَره بِاَللَّهِ وَنِعَمه مَعَ مَعْرِفَته بِكَثْرَةِ إِحْسَانه إِلَيْهِ عَلَى التَّعَجُّب أَيْضًا ; قَالَ اِبْن جُرَيْج : أَيْ مَا أَشَدّ كُفْره ! وَقِيلَ : " مَا " اِسْتِفْهَام أَيْ أَيّ شَيْء دَعَاهُ إِلَى الْكُفْر ; فَهُوَ اِسْتِفْهَام تَوْبِيخ . وَ " مَا " تَحْتَمِل التَّعَجُّب , وَتَحْتَمِل مَعْنَى أَيّ , فَتَكُون اِسْتِفْهَامًا .
أَيْ مِنْ أَيّ شَيْء خَلَقَ اللَّه هَذَا الْكَافِر فَيَتَكَبَّر ؟ أَيْ اِعْجَبُوا لِخَلْقِهِ .
" مِنْ نُطْفَة " أَيْ مِنْ مَاء يَسِير مَهِين جَمَاد " خَلَقَهُ " فَلَمْ يَغْلَط فِي نَفْسه ؟ ! قَالَ الْحَسَن : كَيْف يَتَكَبَّر مَنْ خَرَجَ مِنْ سَبِيل الْبَوْل مَرَّتَيْنِ . " فَقَدَّرَهُ " فِي بَطْن أُمّه . كَذَا رَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَيْ قَدَّرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَسَائِر آرَابِهِ , وَحَسَنًا وَدَمِيمًا , وَقَصِيرًا وَطَوِيلًا , وَشَقِيًّا وَسَعِيدًا . وَقِيلَ : " فَقَدَّرَهُ " أَيْ فَسَوَّاهُ كَمَا قَالَ : " أَكَفَرْت بِاَلَّذِي خَلَقَك مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ سَوَّاك رَجُلًا " . وَقَالَ : " الَّذِي خَلَقَك فَسَوَّاك " . وَقِيلَ : " فَقَدَّرَهُ " أَطْوَارًا أَيْ مِنْ حَال إِلَى حَال ; نُطْفَة ثُمَّ عَلَقَة , إِلَى أَنْ تَمَّ خَلْقه .
قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة عَطَاء وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَمُقَاتِل : يَسَّرَهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ بَطْن أُمّه . مُجَاهِد : يَسَّرَهُ لِطَرِيقِ الْخَيْر وَالشَّرّ ; أَيْ بَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ . دَلِيله : " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل " وَ " هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ " . وَقَالَهُ الْحَسَن وَعَطَاء وَابْن عَبَّاس أَيْضًا فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْهُ . وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا قَالَ : سَبِيل الشَّقَاء وَالسَّعَادَة . اِبْن زَيْد : سَبِيل الْإِسْلَام . وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن طَاهِر يَسَّرَ عَلَى كُلّ أَحَد مَا خَلَقَهُ لَهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ ; دَلِيله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : [ اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ لَهُ ] .
أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا يُوَارَى فِيهِ إِكْرَامًا , وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّا يُلْقَى عَلَى وَجْه الْأَرْض تَأْكُلهُ الطَّيْر وَالْعَوَافِي ; قَالَهُ الْفَرَّاء . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : " أَقْبَرَهُ " : جَعَلَ لَهُ قَبْرًا , وَأَمَرَ أَنْ يُقْبَر . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : وَلَمَّا قَتَلَ عُمَر بْن هُبَيْرَة صَالِح بْن عَبْد الرَّحْمَن , قَالَتْ بَنُو تَمِيم وَدَخَلُوا عَلَيْهِ : أَقْبَرْنَا صَالِحًا ; فَقَالَ : دُونَكُمُوهُ . وَقَالَ : " أَقْبَرَهُ " وَلَمْ يَقُلْ قَبَرَهُ ; لِأَنَّ الْقَابِر هُوَ الدَّافِن بِيَدِهِ , قَالَ الْأَعْشَى : لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إِلَى نَحْرِهَا عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَى قَابِر يُقَال : قَبَرْت الْمَيِّت : إِذَا دَفَنْته , وَأَقْبَرَهُ اللَّه : أَيْ صَيَّرَهُ بِحَيْثُ يُقْبَر , وَجَعَلَ لَهُ قَبْرًا ; تَقُول الْعَرَب : بَتَرْت ذَنَب الْبَعِير , وَأَبْتَرَهُ اللَّه , وَعَضَبْت قَرْن الثَّوْر , وَأَعْضَبَهُ اللَّه , وَطَرَدْت فُلَانًا , وَاَللَّه أَطْرَدَهُ , أَيْ صَيَّرَهُ طَرِيدًا .
أَيْ أَحْيَاهُ بَعْد مَوْته . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " أَنْشَرَهُ " بِالْأَلِفِ . وَرَوَى أَبُو حَيْوَة عَنْ نَافِع وَشُعَيْب بْن أَبِي حَمْزَة " شَاءَ نَشَرَهُ " بِغَيْرِ أَلِف , لُغَتَانِ فَصَيْحَتَانِ بِمَعْنًى ; يُقَال : أَنَشَرَ اللَّه الْمَيِّت وَنَشَرَهُ ; قَالَ الْأَعْشَى : حَتَّى يَقُول النَّاس مِمَّا رَأَوْا يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِر
قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة : " لَمَّا يَقْضِ " : لَا يَقْضِي أَحَد مَا أُمِرَ بِهِ . وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : " لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ " لَمْ يَفِ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِ فِي صُلْب آدَم . ثُمَّ قِيلَ : " كَلَّا " رَدْع وَزَجْر , أَيْ لَيْسَ الْأَمْر : كَمَا يَقُول الْكَافِر ; فَإِنَّ الْكَافِر إِذَا أُخْبِرَ بِالنُّشُورِ قَالَ : " وَلَئِنْ رُجِعْت إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْده لِلْحُسْنَى " [ فُصِلَتْ : 50 ] رُبَّمَا يَقُول قَدْ قَضَيْت مَا أُمِرْت بِهِ . فَقَالَ : كَلَّا لَمْ يَقْضِ شَيْئًا بَلْ هُوَ كَافِر بِي وَبِرَسُولِي . وَقَالَ الْحَسَن : أَيْ حَقًّا لَمْ يَقْض : أَيْ لَمْ يَعْمَل بِمَا أُمِرَ بِهِ . وَ " مَا " فِي قَوْله : " لَمَّا " عِمَاد لِلْكَلَامِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَبِمَا رَحْمَة مِنْ اللَّه " [ آل عُمْرَانِ : 159 ] وَقَوْله : " عَمَّا قَلِيلٍ لِيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 40 ] . وَقَالَ الْإِمَام اِبْن فُورك : أَيْ : كَلَّا لَمَّا يَقْضِ اللَّه لِهَذَا الْكَافِر مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ الْإِيمَان , بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ . اِبْن الْأَنْبَارِيّ : الْوَقْف عَلَى " كَلَّا " قَبِيح , وَالْوَقْف عَلَى " أَمَرَهُ " وَ " نَشَرَهُ " جَيِّد ; فَـ " كَلَّا " عَلَى هَذَا بِمَعْنَى حَقًّا .
لَمَّا ذَكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اِبْتِدَاء خَلْق الْإِنْسَان , ذَكَرَ مَا يَسَّرَ مِنْ رِزْقِهِ ; أَيْ فَلْيَنْظُرْ كَيْف خَلَقَ اللَّه طَعَامه . وَهَذَا النَّظَر نَظَر الْقَلْب بِالْفِكْرِ ; أَيْ لِيَتَدَبَّر كَيْف خَلَقَ اللَّه طَعَامه الَّذِي هُوَ قِوَام حَيَاته , وَكَيْف هَيَّأَ لَهُ أَسْبَاب الْمَعَاش , لِيَسْتَعِدْ بِهَا لِلْمَعَادِ . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد قَالَا : " فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه " أَيْ إِلَى مُدْخَله وَمُخْرَجه . وَرَوَى اِبْن أَبِي خَيْثَمَة عَنْ الضَّحَّاك بْن سُفْيَان الْكِلَابِيّ قَالَ : قَالَ لِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ يَا ضَحَاك مَا طَعَامك ] قُلْت : يَا رَسُول اللَّه ! اللَّحْم وَاللَّبَن ; قَالَ : [ ثُمَّ يَصِير إِلَى مَاذَا ] قُلْت إِلَى مَا قَدْ عَلِمْته ; قَالَ : [ فَإِنَّ اللَّه ضَرَبَ مَا يَخْرُج مِنْ اِبْن آدَم مَثَلًا لِلدُّنْيَا ] . وَقَالَ أُبَيّ بْن كَعْب : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ إِنَّ مَطْعَم اِبْن آدَم جُعِلَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا وَإِنَّ قَزَحَهُ وَمَلَّحَهُ فَانْظُرْ إِلَى مَا يَصِير ] . وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد : سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ الرَّجُل يَدْخُل الْخَلَاء فَيَنْظُر مَا يَخْرُج مِنْهُ ; قَالَ : يَأْتِيه الْمَلَك فَيَقُول اُنْظُرْ مَا بَخِلْت بِهِ إِلَى مَا صَارَ ؟
قِرَاءَة الْعَامَّة " إِنَّا " بِالْكَسْرِ , عَلَى الِاسْتِئْنَاف , وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَرُوَيْس عَنْ يَعْقُوب " أَنَّا " بِفَتْحِ الْهَمْزَة , فَـ " أَنَّا " فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى التَّرْجَمَة عَنْ الطَّعَام , فَهُوَ بَدَل مِنْهُ ; كَأَنَّهُ قَالَ : " فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه " إِلَى " أَنَّا صَبَبْنَا " فَلَا يَحْسُن الْوَقْف عَلَى " طَعَامه " مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَة . وَكَذَلِكَ إِنْ رَفَعْت " أَنَّا " بِإِضْمَارِ هُوَ أَنَّا صَبَبْنَا ; لِأَنَّهَا فِي حَال رَفْعِهَا مُتَرْجِمَة عَنْ الطَّعَام . وَقِيلَ : الْمَعْنَى : لِأَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء , فَأَخْرَجْنَا بِهِ الطَّعَام , أَيْ كَذَلِكَ كَانَ . وَقَرَأَ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ " أَنَّى " فَقَالَ , بِمَعْنَى كَيْف ؟ فَمَنْ أَخَذَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَة قَالَ : الْوَقْف عَلَى " طَعَامه " تَامّ . وَيُقَال : مَعْنَى " أَنَّى " أَيْنَ , إِلَّا أَنَّ فِيهَا كِنَايَة عَنْ الْوُجُوه ; وَتَأْوِيلهَا : مِنْ أَيّ وَجْه صَبَبْنَا الْمَاء ; قَالَ الْكُمَيْت : أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ آبَك الطَّرَب مِنْ حَيْثُ لَا صَبْوَة وَلَا رِيَب " صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا " : يَعْنِي الْغَيْث وَالْأَمْطَار .
أَيْ بِالنَّبَاتِ
أَيْ قَمْحًا وَشَعِيرًا وَسُلْتًا وَسَائِر مَا يُحْصَد وَيُدَّخَر
وَهُوَ الْقَتّ وَالْعَلَف , عَنْ الْحَسَن : سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُقْضَب أَيْ يُقْطَع بَعْد ظُهُوره مَرَّة بَعْد مَرَّة . قَالَ الْقُتَبِيّ وَثَعْلَب : وَأَهْل مَكَّة يُسَمُّونَ الْقَتّ الْقَضْب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الرُّطَب لِأَنَّهُ يُقْضَب مِنْ النَّخْل : وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ الْعِنَب قَبْله . وَعَنْهُ أَيْضًا : أَنَّهُ الْفَصْفَصَة وَهُوَ الْقَتّ الرُّطَب . وَقَالَ الْخَلِيل : الْقَضْب الْفَصْفَصَة الرَّطْبَة . وَقِيلَ : بِالسِّينِ , فَإِذَا يَبِسَتْ فَهُوَ قَتّ . قَالَ : وَالْقَضْب : اِسْم يَقَع عَلَى مَا يُقْضَب مِنْ أَغْصَان الشَّجَرَة , لِيُتَّخَذ مِنْهَا سِهَام أَوْ قِسِيّ . وَيُقَال : قَضْبًا , يَعْنِي جَمِيع مَا يُقْضَب , مِثْل الْقَتّ وَالْكُرَّاث وَسَائِر الْبُقُول الَّتِي تُقْطَع فَيَنْبُت أَصْلهَا . وَفِي الصِّحَاح : وَالْقَضَّة وَالْقَضْب الرَّطْبَة , وَهِيَ الْإِسْفِسْت بِالْفَارِسِيَّةِ , وَالْمَوْضِع الَّذِي يَنْبُت فِيهِ مَقْضَبَة .
" وَزَيْتُونًا " وَهِيَ شَجَرَة الزَّيْتُون " وَنَخْلًا " يَعْنِي النَّخِيل
" وَحَدَائِق " أَيْ بَسَاتِين وَاحِدهَا حَدِيقَة . قَالَ الْكَلْبِيّ : وَكُلّ شَيْء أُحِيطَ عَلَيْهِ مِنْ نَخِيل أَوْ شَجَر فَهُوَ حَدِيقَة , وَمَا لَمْ يُحَطْ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِحَدِيقَةٍ . " غُلْبًا " عِظَامًا شَجَرهَا ; يُقَال : شَجَرَة غَلْبَاء , وَيُقَال لِلْأَسَدِ : الْأَغْلَب ; لِأَنَّهُ مُصْمَت الْعُنُق , لَا يُلْتَفَت إِلَّا جَمِيعًا ; قَالَ الْعَجَّاج : مَا زِلْت يَوْم الْبَيْن أَلْوِي صُلْبِي وَالرَّأْس حَتَّى صِرْت مِثْل الْأَغْلَب وَرَجُل أَغْلَب بَيِّن الْغَلَب إِذَا كَانَ غَلِيظ الرَّقَبَة . وَالْأَصْل فِي الْوَصْف بِالْغَلَبِ : الرِّقَاب فَاسْتُعِيرَ ; قَالَ قَالَ عَمْرو بْن مَعْدِي كَرِب : يَمْشِي بِهَا غُلْبَ الرِّقَاب كَأَنَّهُمْ بُزْل كُسِينَ مِنْ الْكَحِيل جِلَالَا وَحَدِيقَة غَلْبَاء : مُلْتَفَّة وَحَدَائِق غُلْب . وَاغْلَوْلَبَ الْعُشْب : بَلَغَ وَالْتَفَّ الْبَعْض بِالْبَعْضِ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْغُلْب : جَمْع أَغْلَب وَغَلْبَاء وَهِيَ الْغِلَاظ . وَعَنْهُ أَيْضًا الطِّوَال . قَتَادَة وَابْن زَيْد : الْغُلْب : النَّخْل الْكِرَام . وَعَنْ اِبْن زَيْد أَيْضًا وَعِكْرِمَة : عِظَام الْأَوْسَاط وَالْجُذُوع . مُجَاهِد : مُلْتَفَّة .