وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ↓
نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَارِث , كَانَ خَرَجَ إِلَى الْحِيرَة فِي التِّجَارَة فَاشْتَرَى أَحَادِيث كَلِيلَة وَدِمْنَة , وَكِسْرَى وَقَيْصَر ; فَلَمَّا قَصَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَار مَنْ مَضَى قَالَ النَّضْر : لَوْ شِئْت لَقُلْت مِثْل هَذَا . وَكَانَ هَذَا وَقَاحَة وَكَذِبًا . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ , كَمَا تَوَهَّمَتْ سَحَرَة مُوسَى , ثُمَّ رَامُوا ذَلِكَ فَعَجَزُوا عَنْهُ وَقَالُوا عِنَادًا : إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ↓
الْقُرَّاء عَلَى نَصْب " الْحَقّ " عَلَى خَبَر ( كَانَ ) . وَدَخَلَتْ ( هُوَ ) لِلْفَصْلِ . وَيَجُوز ( هُوَ الْحَقُّ ) بِالرَّفْعِ . " مِنْ عِنْدَك " قَالَ الزَّجَّاج : وَلَا أَعْلَم أَحَدًا قَرَأَ بِهَا . وَلَا اِخْتِلَافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي إِجَازَتهَا وَلَكِنَّ الْقِرَاءَة سُنَّة , لَا يُقْرَأ فِيهَا إِلَّا بِقِرَاءَةٍ مَرْضِيَّة . وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَة ; فَقَالَ مُجَاهِد وَابْن جُبَيْر : قَائِل هَذَا هُوَ النَّضْر بْن الْحَارِث . أَنَس بْن مَالِك : قَائِله أَبُو جَهْل ; رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . ثُمَّ يَجُوز أَنْ يُقَال : قَالُوهُ لِشُبْهَةٍ كَانَتْ فِي صُدُورهمْ , أَوْ عَلَى وَجْه الْعِنَاد وَالْإِبْهَام عَلَى النَّاس أَنَّهُمْ عَلَى بَصِيرَة , ثُمَّ حَلَّ بِهِمْ يَوْم بَدْر مَا سَأَلُوا . حُكِيَ أَنَّ اِبْن عَبَّاس لَقِيَهُ رَجُل مِنْ الْيَهُود ; فَقَالَ الْيَهُودِيّ : مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : مِنْ قُرَيْش . فَقَالَ : أَنْتَ مِنْ الْقَوْم الَّذِينَ قَالُوا : " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدك " الْآيَة . فَهَلَّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا : إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِنْدك فَاهْدِنَا لَهُ ! إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْم يَجْهَلُونَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَأَنْتَ يَا إِسْرَائِيلِيّ , مِنْ الْقَوْم الَّذِينَ لَمْ تَجِفّ أَرْجُلهمْ مِنْ بَلَل الْبَحْر الَّذِي أُغْرِق فِيهِ فِرْعَوْن وَقَوْمه , وَأَنْجَى مُوسَى وَقَوْمه ; حَتَّى قَالُوا : " اِجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة " [ الْأَعْرَاف : 138 ] فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى : " إِنَّكُمْ قَوْم تَجْهَلُونَ " [ الْأَعْرَاف : 138 ] فَأَطْرَقَ الْيَهُودِيّ مُفْحَمًا . " فَأَمْطِرْ " أَمْطَرَ فِي الْعَذَاب . وَمَطَرَ فِي الرَّحْمَة ; عَنْ أَبِي عُبَيْدَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ↓
لَمَّا قَالَ أَبُو جَهْل : " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِنْدك " الْآيَة , نَزَلَتْ " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " كَذَا فِي صَحِيح مُسْلِم . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمْ يُعَذَّب أَهْل قَرْيَة حَتَّى يَخْرُج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَالْمُؤْمِنُونَ ; يَلْحَقُوا بِحَيْثُ أُمِرُوا .
اِبْن عَبَّاس : كَانُوا يَقُولُونَ فِي الطَّوَاف : غُفْرَانَك . وَالِاسْتِغْفَار وَإِنْ وَقَعَ مِنْ الْفُجَّار يُدْفَع بِهِ ضَرْب مِنْ الشُّرُور وَالْأَضْرَار . وَقِيلَ : إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ رَاجِع إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ بَيْن أَظْهُرهمْ . أَيْ وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبهمْ وَفِيهِمْ مَنْ يَسْتَغْفِر مِنْ الْمُسْلِمِينَ ; فَلَمَّا خَرَجُوا عَذَّبَهُمْ اللَّه يَوْم بَدْر وَغَيْره ; . قَالَهُ الضَّحَّاك وَغَيْره . وَقِيلَ : إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُنَا يُرَاد بِهِ الْإِسْلَام . أَيْ " وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبهمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " أَيْ يُسْلِمُونَ ; قَالَهُ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة . وَقِيلَ : " وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " أَيْ فِي أَصْلَابهمْ مَنْ يَسْتَغْفِر اللَّهَ . رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَيْضًا . وَقِيلَ : مَعْنَى " يَسْتَغْفِرُونَ " لَوْ اِسْتَغْفَرُوا . أَيْ لَوْ اِسْتَغْفَرُوا لَمْ يُعَذَّبُوا . اِسْتَدْعَاهُمْ إِلَى الِاسْتِغْفَار ; قَالَهُ قَتَادَة وَابْن زَيْد . وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء قَالَ : كَانَ رَجُل مِنْ الْعَرَب فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسه , لَمْ يَكُنْ يَتَحَرَّج ; فَلَمَّا أَنْ تُوُفِّيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الصُّوفَ وَرَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ , وَأَظْهَرَ الدِّين وَالنُّسُكَ . فَقِيلَ لَهُ : لَوْ فَعَلْت هَذَا وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيّ لَفَرِحَ بِك . قَالَ : كَانَ لِي أَمَانَانِ , فَمَضَى وَاحِد وَبَقِيَ الْآخَر ; قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " فَهَذَا أَمَان . وَالثَّانِي " وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبهمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " .
اِبْن عَبَّاس : كَانُوا يَقُولُونَ فِي الطَّوَاف : غُفْرَانَك . وَالِاسْتِغْفَار وَإِنْ وَقَعَ مِنْ الْفُجَّار يُدْفَع بِهِ ضَرْب مِنْ الشُّرُور وَالْأَضْرَار . وَقِيلَ : إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ رَاجِع إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ بَيْن أَظْهُرهمْ . أَيْ وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبهمْ وَفِيهِمْ مَنْ يَسْتَغْفِر مِنْ الْمُسْلِمِينَ ; فَلَمَّا خَرَجُوا عَذَّبَهُمْ اللَّه يَوْم بَدْر وَغَيْره ; . قَالَهُ الضَّحَّاك وَغَيْره . وَقِيلَ : إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُنَا يُرَاد بِهِ الْإِسْلَام . أَيْ " وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبهمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " أَيْ يُسْلِمُونَ ; قَالَهُ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة . وَقِيلَ : " وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " أَيْ فِي أَصْلَابهمْ مَنْ يَسْتَغْفِر اللَّهَ . رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَيْضًا . وَقِيلَ : مَعْنَى " يَسْتَغْفِرُونَ " لَوْ اِسْتَغْفَرُوا . أَيْ لَوْ اِسْتَغْفَرُوا لَمْ يُعَذَّبُوا . اِسْتَدْعَاهُمْ إِلَى الِاسْتِغْفَار ; قَالَهُ قَتَادَة وَابْن زَيْد . وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء قَالَ : كَانَ رَجُل مِنْ الْعَرَب فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسه , لَمْ يَكُنْ يَتَحَرَّج ; فَلَمَّا أَنْ تُوُفِّيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الصُّوفَ وَرَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ , وَأَظْهَرَ الدِّين وَالنُّسُكَ . فَقِيلَ لَهُ : لَوْ فَعَلْت هَذَا وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيّ لَفَرِحَ بِك . قَالَ : كَانَ لِي أَمَانَانِ , فَمَضَى وَاحِد وَبَقِيَ الْآخَر ; قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " فَهَذَا أَمَان . وَالثَّانِي " وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبهمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " .
وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ↓
قَوْله تَعَالَى : " وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ اللَّه " الْمَعْنَى : وَمَا يَمْنَعهُمْ مِنْ أَنْ يُعَذَّبُوا . أَيْ إِنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ لِمَا اِرْتَكَبُوا مِنْ الْقَبَائِح وَالْأَسْبَاب , وَلَكِنْ لِكُلِّ أَجَل كِتَاب ; فَعَذَّبَهُمْ اللَّه بِالسَّيْفِ بَعْد خُرُوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ : " سَأَلَ سَائِل بِعَذَابٍ وَاقِع " [ الْمَعَارِج : 1 ] وَقَالَ الْأَخْفَش : إِنَّ " أَنْ " زَائِدَة . قَالَ النَّحَّاس : لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَرَفَعَ " يُعَذِّبَهُمْ " . " وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " أَيْ إِنَّ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاؤُهُ .
وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ↓
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ قُرَيْش تَطُوف بِالْبَيْتِ عُرَاة , يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ ; فَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَة فِي ظَنّهمْ وَالْمُكَاء : الصَّفِير . وَالتَّصْدِيَة : التَّصْفِيق ; قَالَهُ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ وَابْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَمِنْهُ قَوْل عَنْتَرَة : وَحَلِيل غَانِيَة تَرَكْتُ مُجَدَّلًا تَمْكُو فَرِيصَته كَشِدْقِ الْأَعْلَم أَيْ تُصَوِّت . وَمِنْهُ مَكَتْ اِسْت الدَّابَّة إِذَا نُفِخَتْ بِالرِّيحِ . قَالَ السُّدِّيّ : الْمُكَاء الصَّفِير , عَلَى لَحْن طَائِر أَبْيَض بِالْحِجَازِ يُقَال لَهُ الْمُكَّاء . قَالَ الشَّاعِر : إِذَا غَرَّدَ الْمُكَّاء فِي غَيْر رَوْضَة فَوَيْل لِأَهْلِ الشَّاء وَالْحُمُرَات قَتَادَة : الْمُكَّاء ضَرْب بِالْأَيْدِي , وَالتَّصْدِيَة صِيَاح . وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فَفِيهِ رَدّ عَلَى الْجُهَّال مِنْ الصُّوفِيَّة الَّذِينَ يَرْقُصُونَ وَيُصَفِّقُونَ وَيُصْعَقُونَ . وَذَلِكَ كُلّه مُنْكَر يَتَنَزَّه عَنْ مِثْله الْعُقَلَاء , وَيَتَشَبَّه فَاعِله بِالْمُشْرِكِينَ فِيمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ الْبَيْت . وَرَوَى اِبْن جُرَيْج وَابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَالَ : الْمُكَاء إِدْخَالهمْ أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاههمْ . وَالتَّصْدِيَة : الصَّفِير , يُرِيدُونَ أَنْ يَشْغَلُوا بِذَلِكَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاة . قَالَ النَّحَّاس : الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر . حَكَى أَبُو عُبَيْد وَغَيْره أَنَّهُ يُقَال : مَكَا يَمْكُو وَمُكَاء إِذَا صَفَّرَ . وَصَدَّى يُصَدِّي تَصْدِيَة إِذَا صَفَّقَ ; وَمِنْهُ قَوْل عَمْرو بْن الْإِطْنَابَة : وَظَلُّوا جَمِيعًا لَهُمْ ضَجَّة مُكَاء لَدَى الْبَيْت بِالتَّصْدِيَهْ أَيْ بِالتَّصْفِيقِ . سَعِيد بْن جُبَيْر وَابْن زَيْد : مَعْنَى التَّصَدِّيَة صَدّهمْ عَنْ الْبَيْت ; فَالْأَصْل عَلَى هَذَا تَصْدُدَةٌ , فَأُبْدِلَ مِنْ أَحَد الدَّالَيْنِ يَاء .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ↓
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ↓
أَيْ الْمُؤْمِن مِنْ الْكَافِر . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي كُلّ شَيْء , مِنْ الْأَعْمَال وَالنَّفَقَات وَغَيْر ذَلِكَ .
قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ↓
فِيهِ مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا " أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ هَذَا الْمَعْنَى , وَسَوَاء قَالَ بِهَذِهِ الْعِبَارَة أَوْ غَيْرهَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ الْكِسَائِيّ أَنَّهُ فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَر لَكُمْ " لَمَّا تَأَدَّتْ الرِّسَالَة إِلَّا بِتِلْكَ الْأَلْفَاظ بِعَيْنِهَا ; هَذَا بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيه الْأَلْفَاظ .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " إِنْ يَنْتَهُوا " يُرِيد عَنْ الْكُفْر . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَا بُدّ ; وَالْحَامِل عَلَى ذَلِكَ جَوَاب الشَّرْط " يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " وَمَغْفِرَة مَا قَدْ سَلَفَ لَا تَكُون إِلَّا لِمُنْتَهٍ عَنْ الْكُفْر . وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل أَبُو سَعِيد أَحْمَد بْن مُحَمَّد الزُّبَيْرِيّ : يَسْتَوْجِبُ الْعَفْوَ الْفَتَى إِذَا اعْتَرَفْ ثُمَّ اِنْتَهَى عَمَّا أَتَاهُ وَاقْتَرَفْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْمُعْتَرِفْ إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي شَمَّاسَة الْمَهْرِيّ قَالَ : حَضَرْنَا عَمْرو بْن الْعَاص وَهُوَ فِي سِيَاقَة الْمَوْت يَبْكِي طَوِيلًا . الْحَدِيث . وَفِيهِ : فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِم مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِم مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِم مَا كَانَ قَبْلَهُ " الْحَدِيث . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ لَطِيفَة مِنْ اللَّه سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلْق ; وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِم , وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ وَالْمَآثِمَ ; فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِب مُؤَاخَذَةً لَهُمْ لَمَا اِسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَة وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَة . فَيَسَّرَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَة عِنْد الْإِنَابَة , وَبَذْل الْمَغْفِرَة بِالْإِسْلَامِ , وَهَدْم جَمِيع مَا تَقَدَّمَ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَب لِدُخُولِهِمْ فِي الدِّين , وَأَدْعَى إِلَى قَبُولهمْ لِكَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا تَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : أَنَّ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَتَلَ تِسْعَة وَتِسْعِينَ نَفْسًا ثُمَّ سَأَلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَة فَجَاءَ عَابِدًا فَسَأَلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَة فَقَالَ : لَا تَوْبَة لَك فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ; الْحَدِيث . فَانْظُرُوا إِلَى قَوْل الْعَابِد : لَا تَوْبَةَ لَك ; فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَيْأَسَهُ قَتَلَهُ , فِعْل الْآيِس مِنْ الرَّحْمَة . فَالتَّنْفِير مَفْسَدَة لِلْخَلِيقَةِ , وَالتَّيْسِير مَصْلَحَة لَهُمْ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَ إِلَيْهِ رَجُل لَمْ يَقْتُل فَسَأَلَ : هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَة ؟ فَيَقُول : لَا تَوْبَةَ ; تَخْوِيفًا وَتَحْذِيرًا . فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ قَتَلَ فَسَأَلَهُ : هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَة ؟ قَالَ لَهُ : لَك تَوْبَة ; تَيْسِيرًا وَتَأْلِيفًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الثَّالِثَة : قَالَ اِبْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب عَنْ مَالِك فِيمَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْك ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاق لَهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ فَأَسْلَمَ فَلَا حِنْث عَلَيْهِ . وَكَذَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاء ; فَذَلِكَ مَغْفُور لَهُ . فَأَمَّا مَنْ اِفْتَرَى عَلَى مُسْلِم ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ لِلْفِرْيَةِ وَالسَّرِقَة . وَلَوْ زَنَى وَأَسْلَمَ , أَوْ اِغْتَصَبَ مُسْلِمَةً سَقَطَ عَنْهُ الْحَدّ . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا يَعْنِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْل الْإِسْلَام , مِنْ مَال أَوْ دَم أَوْ شَيْء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب ; لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُوم قَوْله تَعَالَى : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " , وَقَوْله : ( الْإِسْلَام يَهْدِم مَا قَبْلَهُ " , وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْمَعْنَى مِنْ التَّيْسِير وَعَدَم التَّنْفِير .
قُلْت : أَمَّا الْكَافِر الْحَرْبِيّ فَلَا خِلَافَ فِي إِسْقَاط مَا فَعَلَهُ فِي حَال كُفْره فِي دَار الْحَرْب . وَأَمَّا إِنْ دَخَلَ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يُحَدّ , وَإِنْ سَرَقَ قُطِعَ . وَكَذَلِكَ الذِّمِّيّ إِذَا قَذَفَ حُدَّ ثَمَانِينَ , وَإِذَا سَرَقَ قُطِعَ , وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ . وَلَا يُسْقِط الْإِسْلَامُ ذَلِكَ عَنْهُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ حَال كُفْره ; عَلَى رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم وَغَيْره . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَاخْتَلَفُوا فِي النَّصْرَانِيّ يَزْنِي ثُمَّ يُسْلِم , وَقَدْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ ; فَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذْ هُوَ بِالْعِرَاقِ لَا حَدّ عَلَيْهِ وَلَا تَغْرِيب ; لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا مُوَافِق لِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِك . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : إِذَا أَقَرَّ وَهُوَ مُسْلِم أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ كَافِر أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ . وَحُكِيَ عَنْ الْكُوفِيّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُحَدّ .
الرَّابِعَة : فَأَمَّا الْمُرْتَدّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَوَات , وَأَصَابَ جِنَايَات وَأَتْلَفَ أَمْوَالًا ; فَقِيلَ : حُكْمه حُكْم الْكَافِر الْأَصْلِيّ إِذَا أَسْلَمَ ; لَا يُؤْخَذ بِشَيْءٍ مِمَّا أَحْدَثَهُ فِي حَال اِرْتِدَاده . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ : يَلْزَمهُ كُلّ حَقّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلْآدَمِيِّ ; بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَلْزَمهُ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمهُ حُقُوق اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : مَا كَانَ لِلَّهِ يَسْقُط , وَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ لَا يَسْقُط . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ قَوْل عُلَمَائِنَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنْ حَقّه , وَالْآدَمِيّ مُفْتَقِر إِلَيْهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا تَجِب عَلَى الصَّبِيّ وَتَلْزَمهُ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ . قَالُوا : وَقَوْله تَعَالَى : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " عَامّ فِي الْحُقُوق لِلَّهِ تَعَالَى .
يُرِيد إِلَى الْقِتَال ; لِأَنَّ لَفْظَة " عَادَ " إِذَا جَاءَتْ مُطْلَقَة فَإِنَّمَا تَتَضَمَّن الرُّجُوعَ إِلَى حَالَة كَانَ الْإِنْسَان عَلَيْهَا ثُمَّ اِنْتَقَلَ عَنْهَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَسْنَا نَجِد فِي هَذِهِ الْآيَة لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّار حَالَة تُشْبِه مَا ذَكَرْنَا إِلَّا الْقِتَال . وَلَا يَجُوز أَنْ يُتَأَوَّل إِلَى الْكُفْر ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنْهُ , وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي " عَادَ " إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَة لِأَنَّهَا قَدْ تَجِيء فِي كَلَام الْعَرَب دَاخِلَة عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر , فَيَكُون مَعْنَاهَا مَعْنَى صَارَ ; كَمَا تَقُول : عَادَ زَيْد مَلِكًا ; يُرِيد صَارَ . وَمِنْهُ قَوْل أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : تِلْكَ الْمَكَارِم لَا قَعْبَان مِنْ لَبَن شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْد أَبْوَالًا وَهَذِهِ لَا تَتَضَمَّن الرُّجُوعَ إِلَى حَالَة قَدْ كَانَ الْعَائِد عَلَيْهَا قَبْل . فَهِيَ مُقَيَّدَة بِخَبَرِهَا لَا يَجُوز الِاقْتِصَار دُونَهَا ; فَحُكْمهَا حُكْم صَارَ .
عِبَارَة تَجْمَع الْوَعِيد وَالتَّهْدِيد وَالتَّمْثِيل بِمَنْ هَلَكَ مِنْ الْأُمَم فِي سَالِف الدَّهْر بِعَذَابِ اللَّه .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " إِنْ يَنْتَهُوا " يُرِيد عَنْ الْكُفْر . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَا بُدّ ; وَالْحَامِل عَلَى ذَلِكَ جَوَاب الشَّرْط " يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " وَمَغْفِرَة مَا قَدْ سَلَفَ لَا تَكُون إِلَّا لِمُنْتَهٍ عَنْ الْكُفْر . وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل أَبُو سَعِيد أَحْمَد بْن مُحَمَّد الزُّبَيْرِيّ : يَسْتَوْجِبُ الْعَفْوَ الْفَتَى إِذَا اعْتَرَفْ ثُمَّ اِنْتَهَى عَمَّا أَتَاهُ وَاقْتَرَفْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْمُعْتَرِفْ إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي شَمَّاسَة الْمَهْرِيّ قَالَ : حَضَرْنَا عَمْرو بْن الْعَاص وَهُوَ فِي سِيَاقَة الْمَوْت يَبْكِي طَوِيلًا . الْحَدِيث . وَفِيهِ : فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِم مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِم مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِم مَا كَانَ قَبْلَهُ " الْحَدِيث . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ لَطِيفَة مِنْ اللَّه سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلْق ; وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِم , وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ وَالْمَآثِمَ ; فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِب مُؤَاخَذَةً لَهُمْ لَمَا اِسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَة وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَة . فَيَسَّرَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَة عِنْد الْإِنَابَة , وَبَذْل الْمَغْفِرَة بِالْإِسْلَامِ , وَهَدْم جَمِيع مَا تَقَدَّمَ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَب لِدُخُولِهِمْ فِي الدِّين , وَأَدْعَى إِلَى قَبُولهمْ لِكَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا تَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : أَنَّ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَتَلَ تِسْعَة وَتِسْعِينَ نَفْسًا ثُمَّ سَأَلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَة فَجَاءَ عَابِدًا فَسَأَلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَة فَقَالَ : لَا تَوْبَة لَك فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ; الْحَدِيث . فَانْظُرُوا إِلَى قَوْل الْعَابِد : لَا تَوْبَةَ لَك ; فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَيْأَسَهُ قَتَلَهُ , فِعْل الْآيِس مِنْ الرَّحْمَة . فَالتَّنْفِير مَفْسَدَة لِلْخَلِيقَةِ , وَالتَّيْسِير مَصْلَحَة لَهُمْ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَ إِلَيْهِ رَجُل لَمْ يَقْتُل فَسَأَلَ : هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَة ؟ فَيَقُول : لَا تَوْبَةَ ; تَخْوِيفًا وَتَحْذِيرًا . فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ قَتَلَ فَسَأَلَهُ : هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَة ؟ قَالَ لَهُ : لَك تَوْبَة ; تَيْسِيرًا وَتَأْلِيفًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الثَّالِثَة : قَالَ اِبْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب عَنْ مَالِك فِيمَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْك ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاق لَهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ فَأَسْلَمَ فَلَا حِنْث عَلَيْهِ . وَكَذَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاء ; فَذَلِكَ مَغْفُور لَهُ . فَأَمَّا مَنْ اِفْتَرَى عَلَى مُسْلِم ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ لِلْفِرْيَةِ وَالسَّرِقَة . وَلَوْ زَنَى وَأَسْلَمَ , أَوْ اِغْتَصَبَ مُسْلِمَةً سَقَطَ عَنْهُ الْحَدّ . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا يَعْنِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْل الْإِسْلَام , مِنْ مَال أَوْ دَم أَوْ شَيْء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب ; لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُوم قَوْله تَعَالَى : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " , وَقَوْله : ( الْإِسْلَام يَهْدِم مَا قَبْلَهُ " , وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْمَعْنَى مِنْ التَّيْسِير وَعَدَم التَّنْفِير .
قُلْت : أَمَّا الْكَافِر الْحَرْبِيّ فَلَا خِلَافَ فِي إِسْقَاط مَا فَعَلَهُ فِي حَال كُفْره فِي دَار الْحَرْب . وَأَمَّا إِنْ دَخَلَ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يُحَدّ , وَإِنْ سَرَقَ قُطِعَ . وَكَذَلِكَ الذِّمِّيّ إِذَا قَذَفَ حُدَّ ثَمَانِينَ , وَإِذَا سَرَقَ قُطِعَ , وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ . وَلَا يُسْقِط الْإِسْلَامُ ذَلِكَ عَنْهُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ حَال كُفْره ; عَلَى رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم وَغَيْره . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَاخْتَلَفُوا فِي النَّصْرَانِيّ يَزْنِي ثُمَّ يُسْلِم , وَقَدْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ ; فَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذْ هُوَ بِالْعِرَاقِ لَا حَدّ عَلَيْهِ وَلَا تَغْرِيب ; لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا مُوَافِق لِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِك . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : إِذَا أَقَرَّ وَهُوَ مُسْلِم أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ كَافِر أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ . وَحُكِيَ عَنْ الْكُوفِيّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُحَدّ .
الرَّابِعَة : فَأَمَّا الْمُرْتَدّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَوَات , وَأَصَابَ جِنَايَات وَأَتْلَفَ أَمْوَالًا ; فَقِيلَ : حُكْمه حُكْم الْكَافِر الْأَصْلِيّ إِذَا أَسْلَمَ ; لَا يُؤْخَذ بِشَيْءٍ مِمَّا أَحْدَثَهُ فِي حَال اِرْتِدَاده . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ : يَلْزَمهُ كُلّ حَقّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلْآدَمِيِّ ; بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَلْزَمهُ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمهُ حُقُوق اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : مَا كَانَ لِلَّهِ يَسْقُط , وَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ لَا يَسْقُط . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ قَوْل عُلَمَائِنَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنْ حَقّه , وَالْآدَمِيّ مُفْتَقِر إِلَيْهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا تَجِب عَلَى الصَّبِيّ وَتَلْزَمهُ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ . قَالُوا : وَقَوْله تَعَالَى : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " عَامّ فِي الْحُقُوق لِلَّهِ تَعَالَى .
يُرِيد إِلَى الْقِتَال ; لِأَنَّ لَفْظَة " عَادَ " إِذَا جَاءَتْ مُطْلَقَة فَإِنَّمَا تَتَضَمَّن الرُّجُوعَ إِلَى حَالَة كَانَ الْإِنْسَان عَلَيْهَا ثُمَّ اِنْتَقَلَ عَنْهَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَسْنَا نَجِد فِي هَذِهِ الْآيَة لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّار حَالَة تُشْبِه مَا ذَكَرْنَا إِلَّا الْقِتَال . وَلَا يَجُوز أَنْ يُتَأَوَّل إِلَى الْكُفْر ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنْهُ , وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي " عَادَ " إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَة لِأَنَّهَا قَدْ تَجِيء فِي كَلَام الْعَرَب دَاخِلَة عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر , فَيَكُون مَعْنَاهَا مَعْنَى صَارَ ; كَمَا تَقُول : عَادَ زَيْد مَلِكًا ; يُرِيد صَارَ . وَمِنْهُ قَوْل أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : تِلْكَ الْمَكَارِم لَا قَعْبَان مِنْ لَبَن شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْد أَبْوَالًا وَهَذِهِ لَا تَتَضَمَّن الرُّجُوعَ إِلَى حَالَة قَدْ كَانَ الْعَائِد عَلَيْهَا قَبْل . فَهِيَ مُقَيَّدَة بِخَبَرِهَا لَا يَجُوز الِاقْتِصَار دُونَهَا ; فَحُكْمهَا حُكْم صَارَ .
عِبَارَة تَجْمَع الْوَعِيد وَالتَّهْدِيد وَالتَّمْثِيل بِمَنْ هَلَكَ مِنْ الْأُمَم فِي سَالِف الدَّهْر بِعَذَابِ اللَّه .
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ↓
قَوْله تَعَالَى : " وَقَاتِلُوهُمْ " أَمْر بِالْقِتَالِ لِكُلِّ مُشْرِك فِي كُلّ مَوْضِع , عَلَى مَنْ رَآهَا نَاسِخَةً . وَمَنْ رَآهَا غَيْرَ نَاسِخَة قَالَ : الْمَعْنَى قَاتِلُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللَّه فِيهِمْ : " فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ " وَالْأَوَّل أَظْهَر , وَهُوَ أَمْر بِقِتَالٍ مُطْلَق لَا بِشَرْطِ أَنْ يَبْدَأَ الْكُفَّار . دَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَيَكُون الدِّين لِلَّهِ " , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه ) . فَدَلَّتْ الْآيَة وَالْحَدِيث عَلَى أَنَّ سَبَب الْقِتَال هُوَ الْكُفْر , لِأَنَّهُ قَالَ : " حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَة " أَيْ كُفْر , فَجَعَلَ الْغَايَة عَدَم الْكُفْر , وَهَذَا ظَاهِر قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالرَّبِيع وَالسُّدِّيّ وَغَيْرهمْ : الْفِتْنَة هُنَاكَ الشِّرْك وَمَا تَابَعَهُ مِنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ . وَأَصْل الْفِتْنَة : الِاخْتِبَار وَالِامْتِحَان , مَأْخُوذ مِنْ فَتَنْت الْفِضَّة إِذَا أَدْخَلْتهَا فِي النَّار لِتَمِيزَ رَدِيئَهَا مِنْ جَيِّدهَا . وَسَيَأْتِي بَيَان مَحَامِلهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
أَيْ عَنْ الْكُفْر , إِمَّا بِالْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَة قَبْل , أَوْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَة فِي حَقّ أَهْل الْكِتَاب ,
أَيْ عَنْ الْكُفْر , إِمَّا بِالْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَة قَبْل , أَوْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَة فِي حَقّ أَهْل الْكِتَاب ,
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ↓
قَوْله تَعَالَى " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء " الْغَنِيمَة فِي اللُّغَة مَا يَنَالهُ الرَّجُل أَوْ الْجَمَاعَة بِسَعْيٍ , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الشَّاعِر : وَقَدْ طَوَّفْت فِي الْآفَاقِ حَتَّى رَضِيتُ مِنْ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ وَقَالَ آخَر : وَمُطْعَم الْغُنْم يَوْمَ الْغُنْمِ مُطْعَمُهُ أَنَّى تَوَجَّهَ وَالْمَحْرُومُ مَحْرُومُ وَالْمَغْنَم وَالْغَنِيمَة بِمَعْنًى ; يُقَال : غَنِمَ الْقَوْم غُنْمًا . وَاعْلَمْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ حَاصِل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء " مَال الْكُفَّار إِذَا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْه الْغَلَبَة وَالْقَهْر . وَلَا تَقْتَضِي اللُّغَة هَذَا التَّخْصِيصَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ , وَلَكِنَّ عُرْف الشَّرْع قَيَّدَ اللَّفْظَ بِهَذَا النَّوْع . وَسَمَّى الشَّرْعَ الْوَاصِل مِنْ الْكُفَّار إِلَيْنَا مِنْ الْأَمْوَال بِاسْمَيْنِ : غَنِيمَة وَفَيْئًا . فَالشَّيْء الَّذِي يَنَالهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَدُوّهُمْ بِالسَّعْيِ وَإِيجَاف الْخَيْل وَالرِّكَاب يُسَمَّى غَنِيمَة . وَلَزِمَ هَذَا الِاسْم هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى صَارَ عُرْفًا . وَالْفَيْء مَأْخُوذ مِنْ فَاءَ يَفِيء إِذَا رَجَعَ , وَهُوَ كُلّ مَال دَخَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْر حَرْب وَلَا إِيجَاف . كَخَرَاجِ الْأَرْضِينَ وَجِزْيَة الْجَمَاجِم وَخُمُس الْغَنَائِم . وَنَحْو هَذَا قَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَعَطَاء بْن السَّائِب . وَقِيلَ : إِنَّهُمَا وَاحِد , وَفِيهِمَا الْخُمُس ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : الْفَيْء عِبَارَة عَنْ كُلّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَمْوَال بِغَيْرِ قَهْر . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب .
هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِأَوَّلِ السُّورَة , عِنْدَ الْجُمْهُور . وَقَدْ اِدَّعَى اِبْن عَبْد الْبَرّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْله : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " [ الْأَنْفَال : 1 ] وَأَنَّ أَرْبَعَة أَخْمَاس الْغَنِيمَة مَقْسُومَة عَلَى الْغَانِمِينَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَأَنَّ قَوْلَ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " نَزَلَتْ فِي حِين تَشَاجَرَ أَهْل بَدْر فِي غَنَائِم بَدْر , عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة .
قُلْت : وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا مَا ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن كَثِير قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن السَّائِب عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( لَمَّا كَانَ يَوْم بَدْر قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا ) وَكَانُوا قَتَلُوا سَبْعِينَ , وَأَسَرُوا سَبْعِينَ , فَجَاءَ أَبُو الْيُسْر بْن عَمْرو بِأَسِيرَيْنِ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّك وَعَدْتنَا مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا , وَقَدْ جِئْت بِأَسِيرَيْنِ . فَقَامَ سَعْد فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه , إِنَّا لَمْ يَمْنَعنَا زِيَادَة فِي الْأَجْر وَلَا جُبْن عَنْ الْعَدُوّ وَلَكِنَّا قُمْنَا هَذَا الْمُقَام خَشْيَة أَنْ يَعْطِف الْمُشْرِكُونَ , فَإِنَّك إِنْ تُعْطِيَ هَؤُلَاءِ لَا يَبْقَى لِأَصْحَابِك شَيْء . قَالَ : وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فَنَزَلَتْ " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال قُلْ الْأَنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنكُمْ " [ الْأَنْفَال : 1 ] فَسَلَّمُوا الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ) ثُمَّ نَزَلَتْ " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " الْآيَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا مُحْكَمَة غَيْر مَنْسُوخَة , وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَيْسَتْ مَقْسُومَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ , وَكَذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّة . كَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيّ عَنْ كَثِير مِنْ أَصْحَابنَا , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجهَا عَنْهُمْ . وَاحْتَجُّوا بِفَتْحِ مَكَّة وَقِصَّة حُنَيْنٍ . وَكَانَ أَبُو عُبَيْد يَقُول : اِفْتَتَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة عَنْوَة وَمَنَّ عَلَى أَهْلهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَقْسِمهَا وَلَمْ يَجْعَلهَا عَلَيْهِمْ فَيْئًا . وَرَأَى بَعْض النَّاس أَنَّ هَذَا جَائِز لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ .
قُلْت : وَعَلَى هَذَا يَكُون مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " وَالْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس لِلْإِمَامِ , إِنْ شَاءَ حَبَسَهَا وَإِنْ شَاءَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ . وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ , لِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَضَافَ الْغَنِيمَة لِلْغَانِمِينَ فَقَالَ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء " ثُمَّ عَيَّنَ الْخُمُس لِمَنْ سَمَّى فِي كِتَابه , وَسَكَتَ عَنْ الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس , كَمَا سَكَتَ عَنْ الثُّلُثَيْنِ فِي قَوْله : " وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث " [ النِّسَاء : 11 ] فَكَانَ لِلْأَبِ الثُّلُثَانِ اِتِّفَاقًا . وَكَذَا الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس لِلْغَانِمِينَ إِجْمَاعًا , عَلَى مَا ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَابْن عَبْد الْبَرّ وَالدَّاوُدِيّ وَالْمَازِرِيّ أَيْضًا وَالْقَاضِي عِيَاض وَابْن الْعَرَبِيّ . وَالْأَخْبَار بِهَذَا الْمَعْنَى مُتَظَاهِرَة , وَسَيَأْتِي بَعْضهَا . وَيَكُون مَعْنَى قَوْله : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " الْآيَة , مَا يُنَفِّلهُ الْإِمَام لِمَنْ شَاءَ لِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَة قَبْل الْقِسْمَة . وَقَالَ عَطَاء وَالْحَسَن : هِيَ مَخْصُوصَة بِمَا شَذَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ , مِنْ عَبْد أَوْ أَمَة أَوْ دَابَّة , يَقْضِي فِيهَا الْإِمَام بِمَا أَحَبَّ . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهَا أَنْفَال السَّرَايَا أَيْ غَنَائِمهَا , إِنْ شَاءَ خَمَّسَهَا الْإِمَام , وَإِنْ شَاءَ نَفَّلَهَا كُلّهَا . وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ فِي الْإِمَام يَبْعَث السَّرِيَّةَ فَيُصِيبُونَ الْمَغْنَمَ : إِنْ شَاءَ الْإِمَام نَفَّلَهُ كُلّه , وَإِنْ شَاءَ خَمَّسَهُ . وَحَكَاهُ أَبُو عُمَر عَنْ مَكْحُول وَعَطَاء . قَالَ عَلِيّ بْن ثَابِت : سَأَلْت مَكْحُولًا وَعَطَاء عَنْ الْإِمَام يُنَفِّل الْقَوْمَ مَا أَصَابُوا , قَالَ : ذَلِكَ لَهُمْ . قَالَ أَبُو عُمَر : مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا تَأَوَّلَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال قُلْ الْأَنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول " [ الْأَنْفَال : 1 ] أَنَّ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعهَا حَيْثُ شَاءَ . وَلَمْ يَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " . وَقِيلَ : غَيْر هَذَا مِمَّا قَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَاب ( الْقَبَس فِي شَرْح مُوَطَّأ مَالِك بْن أَنَس ) . وَلَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء فِيمَا أَعْلَم أَنَّ قَوْله تَعَالَى " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " الْآيَة , نَاسِخ لِقَوْلِهِ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " بَلْ قَالَ الْجُمْهُور عَلَى مَا ذَكَرْنَا : إِنَّ قَوْلَهُ : " مَا غَنِمْتُمْ " نَاسِخ , وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوز عَلَيْهِمْ التَّحْرِيف وَلَا التَّبْدِيل لِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا قِصَّة فَتْح مَكَّة فَلَا حُجَّة فِيهَا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاء فِي فَتْحهَا . وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَلَا نَعْلَم مَكَّةَ يُشْبِههَا شَيْء مِنْ الْبُلْدَان مِنْ جِهَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اللَّه قَدْ خَصَّهُ مِنْ الْأَنْفَال وَالْغَنَائِم مَا لَمْ يَجْعَلهُ لِغَيْرِهِ , وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " [ الْأَنْفَال : 1 ] الْآيَة , فَنَرَى أَنَّ هَذَا كَانَ خَاصًّا لَهُ وَالْجِهَة الْأُخْرَى أَنَّهُ سَنَّ لِمَكَّةَ سُنَنًا لَيْسَتْ لِشَيْءٍ مِنْ الْبِلَاد . وَأَمَّا قِصَّة حُنَيْنٍ فَقَدْ عَوَّضَ الْأَنْصَار لَمَّا قَالُوا : يُعْطِي الْغَنَائِم قُرَيْشًا وَيَتْرُكنَا وَسُيُوفنَا تَقْطُر مِنْ دِمَائِهِمْ ! فَقَالَ لَهُمْ : ( أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاس بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بُيُوتكُمْ ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْل , مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْض عُلَمَائِنَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
لَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء أَنَّ قَوْلَهُ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء " لَيْسَ عَلَى عُمُومه , وَأَنَّهُ يَدْخُلهُ الْخُصُوص , فَمِمَّا خَصَّصُوهُ بِإِجْمَاعٍ أَنْ قَالُوا : سَلَب الْمَقْتُول لِقَاتِلِهِ إِذَا نَادَى بِهِ الْإِمَام . وَكَذَلِكَ الرِّقَاب , أَعْنِي الْأُسَارَى , الْخِيرَة فِيهَا إِلَى الْإِمَام بِلَا خِلَاف , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَمِمَّا خَصَّ بِهِ أَيْضًا الْأَرْض . وَالْمَعْنَى : مَا غَنِمْتُمْ مِنْ ذَهَب وَفِضَّة وَسَائِر الْأَمْتِعَة وَالسَّبْي . وَأَمَّا الْأَرْض فَغَيْر دَاخِلَة فِي عُمُوم هَذِهِ الْآيَة , لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ قَالَ : ( لَوْلَا آخِر النَّاس مَا فُتِحَتْ قَرْيَة إِلَّا قَسَمْتهَا كَمَا قَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَر ) . وَمِمَّا يُصَحِّح هَذَا الْمَذْهَب مَا رَوَاهُ الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنَعَتْ الْعِرَاق قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا وَمَنَعَتْ الشَّام مُدَّهَا وَدِينَارَهَا ) الْحَدِيث . قَالَ الطَّحَاوِيّ : " مَنَعَتْ " بِمَعْنَى سَتَمْنَعُ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُون لِلْغَانِمِينَ , لِأَنَّ مَا مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ لَا يَكُون فِيهِ قَفِيز وَلَا دِرْهَم , وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْض تُقْسَم مَا بَقِيَ لِمَنْ جَاءَ بَعْد الْغَانِمِينَ شَيْء . وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ " [ الْحَشْر : 10 ] بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْله : " لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ " [ الْحَشْر : 8 ] . قَالَ : وَإِنَّمَا يُقْسَم مَا يُنْقَل مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : كُلّ مَا حَصَلَ مِنْ الْغَنَائِم مِنْ أَهْل دَار الْحَرْب مِنْ شَيْء قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ دَار أَوْ أَرْض أَوْ مَتَاع أَوْ غَيْر ذَلِكَ قُسِمَ , إِلَّا الرِّجَال الْبَالِغِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ فِيهِمْ مُخَيَّر أَنْ يَمُنّ أَوْ يَقْتُل أَوْ يَسْبِيَ . وَسَبِيل مَا أُخِذَ مِنْهُمْ وَسُبِيَ سَبِيل الْغَنِيمَة . وَاحْتُجَّ بِعُمُومِ الْآيَة . قَالَ : وَالْأَرْض مَغْنُومَة لَا مَحَالَة , فَوَجَبَ أَنْ تُقْسَم كَسَائِرِ الْغَنَائِم . وَقَدْ قَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اِفْتَتَحَ عَنْوَة مِنْ خَيْبَر . قَالُوا : وَلَوْ جَازَ أَنْ يُدَّعَى الْخُصُوصَ فِي الْأَرْض جَازَ أَنْ يُدَّعَى فِي غَيْر الْأَرْض فَيَبْطُل حُكْم الْآيَة . وَأَمَّا آيَة " الْحَشْر " فَلَا حُجَّة فِيهَا , لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفَيْء لَا فِي الْغَنِيمَة وَقَوْله : " وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ " [ الْحَشْر : 10 ] اِسْتِئْنَاف كَلَام بِالدُّعَاءِ لِمَنْ سَبَقَهُمْ بِالْإِيمَانِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ . قَالُوا : وَلَيْسَ يَخْلُو فِعْل عُمَر فِي تَوْقِيفه الْأَرْض مِنْ أَحَد وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ غَنِيمَة اِسْتَطَابَ أَنْفُس أَهْلهَا , وَطَابَتْ بِذَلِكَ فَوَقَفَهَا . وَكَذَلِكَ رَوَى جَرِير أَنَّ عُمَرَ اِسْتَطَابَ أَنْفُس أَهْلهَا . الْجُزْء الثَّامِن - سُورَة الْأَنْفَال : الْآيَة ( 41 ) وَكَذَلِكَ صَنَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْي هَوَازِن , لَمَّا أَتَوْهُ اِسْتَطَابَ أَنْفُس أَصْحَابه عَمَّا كَانَ فِي أَيْدِيهمْ . وَإِمَّا أَنْ يَكُون مَا وَقَفَهُ عُمَر فَيْئًا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُرَاضَاة أَحَد . وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى تَخْيِير الْإِمَام فِي , قَسْمهَا أَوْ إِقْرَارهَا وَتَوْظِيف الْخَرَاج عَلَيْهَا , وَتَصِير مِلْكًا لَهُمْ كَأَرْضِ الصُّلْح : قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَكَأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْن الدَّلِيلَيْنِ وَوَسَطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ , وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَطْعًا , وَلِذَلِكَ قَالَ : لَوْلَا آخِر النَّاس , فَلَمْ يُخْبِر بِنَسْخِ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِتَخْصِيصِهِ بِهِمْ , غَيْر أَنَّ الْكُوفِيِّينَ زَادُوا عَلَى مَا فَعَلَ عُمَر , فَإِنَّ عُمَر إِنَّمَا وَقَفَهَا عَلَى مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُمَلِّكْهَا لِأَهْلِ الصُّلْح , وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَلِّكهَا لِأَهْلِ الصُّلْح .
ذَهَبَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ إِلَى أَنَّ السَّلَب لَيْسَ لِلْقَاتِلِ , وَأَنَّ حُكْمَهُ حُكْم الْغَنِيمَة , إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْأَمِير : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ , فَيَكُون حِينَئِذٍ لَهُ . وَقَالَ اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد وَالطَّبَرِيّ وَابْن الْمُنْذِر : السَّلَب لِلْقَاتِلِ عَلَى كُلّ حَال , قَالَهُ الْإِمَام أَوْ لَمْ يَقُلْهُ . إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : إِنَّمَا يَكُون السَّلَب لِلْقَاتِلِ إِذَا قَتَلَ قَتِيلًا مُقْبِلًا عَلَيْهِ : وَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ مُدْبِرًا عَنْهُ فَلَا . قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بْن سُرَيْج مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : لَيْسَ الْحَدِيث ( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ) عَلَى عُمُومه , لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ أَسِيرًا أَوْ اِمْرَأَة أَوْ شَيْخًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَلَب وَاحِد مِنْهُمْ . وَكَذَلِكَ مَنْ ذَفَّفَ عَلَى جَرِيح , وَمَنْ قَتَلَ مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ . قَالَ : وَكَذَلِكَ الْمُنْهَزِم لَا يَمْتَنِع فِي اِنْهِزَامه , وَهُوَ كَالْمَكْتُوفِ . قَالَ : فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيث إِنَّمَا جَعَلَ السَّلَب لِمَنْ لِقَتْلِهِ مَعْنًى زَائِد , أَوْ لِمَنْ فِي قَتْله فَضِيلَة , وَهُوَ الْقَاتِل فِي الْإِقْبَال , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُؤْنَة . وَأَمَّا مَنْ أُثْخِنَ فَلَا . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : السَّلَب لِلْقَاتِلِ , مُقْبِلًا قَتَلَهُ أَوْ مُدْبِرًا , هَارِبًا أَوْ مُبَارِزًا إِذَا كَانَ فِي الْمَعْرَكَة . وَهَذَا يَرُدّهُ مَا ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق وَمُحَمَّد بْن بَكْر عَنْ اِبْن جُرَيْج قَالَ سَمِعْت نَافِعًا مَوْلَى اِبْن عُمَر يَقُول : لَمْ نَزَلْ نَسْمَع إِذَا اِلْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّار فَقَتَلَ رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّار فَإِنَّ سَلَبَهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْمَعَة الْقِتَال , لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا . فَظَاهِر هَذَا يَرُدّ قَوْلَ الطَّبَرِيّ لِاشْتِرَاطِهِ فِي السَّلَب الْقَتْل فِي الْمَعْرَكَة خَاصَّة . وَقَالَ أَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذِر : السَّلَب لِلْقَاتِلِ فِي مَعْرَكَة كَانَ أَوْ غَيْر مَعْرَكَة , فِي الْإِقْبَال وَالْإِدْبَار وَالْهُرُوب وَالِانْتِهَار , عَلَى كُلّ الْوُجُوه , لِعُمُومِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبه ) .
قُلْت : رَوَى مُسْلِم عَنْ سَلَمَة بْن الْأَكْوَع قَالَ : ( غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوَازِن فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُل عَلَى جَمَل أَحْمَر فَأَنَاخَهُ , ثُمَّ اِنْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبه فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَل , ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْم , وَجَعَلَ يَنْظُر , وَفِينَا ضَعْفَة وَرِقَّة فِي الظَّهْر , وَبَعْضنَا مُشَاة , إِذْ خَرَجَ يَشْتَدّ , فَأَتَى جَمَله فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَل , فَاتَّبَعَهُ رَجُل عَلَى نَاقَة وَرْقَاء . قَالَ سَلَمَة : وَخَرَجْت أَشْتَدّ فَكُنْت عِنْدَ وَرِك النَّاقَة , ثُمَّ تَقَدَّمْت حَتَّى كُنْت عِنْدَ وَرِك الْجَمَل , ثُمَّ تَقَدَّمْت حَتَّى أَخَذْت بِخِطَامِ الْجَمَل فَأَنَخْته , فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَته فِي الْأَرْض اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْت رَأْس الرَّجُل فَنَدَرَ , ثُمَّ جِئْت بِالْجَمَلِ أَقُودهُ , عَلَيْهِ رَحْله وَسِلَاحه , فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاس مَعَهُ فَقَالَ : ( مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ ) ؟ قَالُوا : اِبْن الْأَكْوَع . قَالَ : ( لَهُ سَلَبه أَجْمَعُ ) . فَهَذَا سَلَمَة قَتَلَهُ هَارِبًا غَيْر مُقْبِل , وَأَعْطَاهُ سَلَبه . وَفِيهِ حُجَّة لِمَالِكٍ مِنْ أَنَّ السَّلَب لَا يَسْتَحِقّهُ الْقَاتِل إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام , إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَهُ بِنَفْسِ الْقَتْل لَمَا اِحْتَاجَ إِلَى تَكْرِير هَذَا الْقَوْل . وَمِنْ حُجَّته أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَنْ الْأَسْوَد بْن قَيْس عَنْ بِشْر بْن عَلْقَمَة قَالَ : بَارَزْت رَجُلًا يَوْم الْقَادِسِيَّة فَقَتَلْته وَأَخَذْت سَلَبَهُ , فَأَتَيْت سَعْدًا فَخَطَبَ سَعْد أَصْحَابه ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَلَبَ بِشْر بْن عَلْقَمَة , فَهُوَ خَيْر مِنْ اِثْنَيْ عَشَرَ أَلْف دِرْهَم , وَإِنَّا قَدْ نَفَّلْنَاهُ إِيَّاهُ . فَلَوْ كَانَ السَّلَب لِلْقَاتِلِ قَضَاء مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اِحْتَاجَ الْأَمْر أَنْ يُضِيفُوا ذَلِكَ إِلَى أَنْفُسهمْ بِاجْتِهَادِهِمْ , وَلَأَخَذَهُ الْقَاتِل دُونَ أَمْرهمْ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي الصَّحِيح أَنَّ مُعَاذَ بْن عَمْرو بْن الْجَمُوح وَمُعَاذ بْن عَفْرَاء ضَرَبَا أَبَا جَهْل بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ , فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : . ( أَيّكُمَا قَتَلَهُ ) ؟ فَقَالَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا : أَنَا قَتَلْته . فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ : ( كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ) وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْن عَمْرو بْن الْجَمُوح , وَهَذَا نَصّ عَلَى أَنَّ السَّلَب لَيْسَ لِلْقَاتِلِ , إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ لَقَسَمَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنهمَا . وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا عَنْ عَوْف بْن مَالِك قَالَ : خَرَجْت مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْد بْن حَارِثَة فِي غَزْوَة مُؤْتَة , وَرَافَقَنِي مَدَدِيّ مِنْ الْيَمَن . وَسَاقَ الْحَدِيث , وَفِيهِ : فَقَالَ عَوْف : يَا خَالِد , أَمَا عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ ؟ قَالَ : بَلَى , وَلَكِنِّي اِسْتَكْثَرْته . وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْر الْبُرْقَانِيّ بِإِسْنَادِهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ مُسْلِم , وَزَادَ فِيهِ بَيَانًا أَنَّ عَوْفَ بْن مَالِك قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُخَمِّس السَّلَب , وَإِنَّ مَدَدِيًّا كَانَ رَفِيقًا لَهُمْ فِي غَزْوَة مُؤْتَة فِي طَرَف مِنْ الشَّام , قَالَ : فَجَعَلَ رُومِيّ مِنْهُمْ يَشْتَدّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ عَلَى فَرَس أَشْقَر وَسَرْج مُذْهَب وَمِنْطَقَة مُلَطَّخَة وَسَيْف مُحَلًّى بِذَهَبٍ . قَالَ : فَيُغْرِي بِهِمْ , قَالَ : فَتَلَطَّفَ لَهُ الْمَدَدِيّ حَتَّى مَرَّ بِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَ فَرَسه فَوَقَعَ , وَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ سِلَاحَهُ . قَالَ : فَأَعْطَاهُ خَالِد بْن الْوَلِيد وَحَبَسَ مِنْهُ , قَالَ عَوْف : فَقُلْت لَهُ أَعْطِهِ كُلَّهُ , أَلَيْسَ قَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( السَّلَب لِلْقَاتِلِ ) ! قَالَ : بَلَى , وَلَكِنِّي اِسْتَكْثَرْته . قَالَ عَوْف : وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَلَام , فَقُلْت لَهُ : لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ عَوْف : فَلَمَّا اِجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَوْف ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لِخَالِدٍ : ( لِمَ لَمْ تُعْطِهِ ) ؟ قَالَ فَقَالَ : اِسْتَكْثَرْته . قَالَ : ( فَادْفَعْهُ إِلَيْهِ ) فَقُلْت لَهُ : أَلَمْ أُنْجِز لَك مَا وَعَدْتُك ؟ قَالَ : فَغَضِبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( يَا خَالِد لَا تَدْفَعهُ إِلَيْهِ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي ) . فَهَذَا يَدُلّ دَلَالَة وَاضِحَة عَلَى أَنَّ السَّلَب لَا يَسْتَحِقّهُ الْقَاتِل بِنَفْسِ الْقَتْل بَلْ بِرَأْيِ الْإِمَام وَنَظَره . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : لَا يَكُون السَّلَب لِلْقَاتِلِ إِلَّا فِي الْمُبَارَزَة خَاصَّة .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَخْمِيس السَّلَب , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يُخَمَّس . وَقَالَ إِسْحَاق : إِنْ كَانَ السَّلَب يَسِيرًا فَهُوَ لِلْقَاتِلِ , وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا خُمِّسَ . وَفَعَلَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب مَعَ الْبَرَاء بْن مَالِك حِين بَارَزَ الْمَرْزُبَان فَقَتَلَهُ , فَكَانَتْ قِيمَة مِنْطَقَته وَسِوَارَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَخَمَّسَ ذَلِكَ . أَنَس عَنْ الْبَرَاء بْن مَالِك أَنَّهُ قَتَلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِائَةَ رَجُل إِلَّا رَجُلًا مُبَارَزَة , وَأَنَّهُمْ لَمَّا غَزَوْا الزَّارَة خَرَجَ دِهْقَان الزَّارَة فَقَالَ : رَجُل وَرَجُل , فَبَرَزَ الْبَرَاء فَاخْتَلَفَا بِسَيْفَيْهِمَا ثُمَّ اِعْتَنَقَا فَتَوَرَّكَهُ الْبَرَاء فَقَعَدَ عَلَى كَبِده , ثُمَّ أَخَذَ السَّيْفَ فَذَبَحَهُ , وَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَمِنْطَقَتَهُ وَأَتَى بِهِ عُمَرَ , فَنَفَّلَهُ السِّلَاح وَقَوَّمَ الْمِنْطَقَةَ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا فَخَمَّسَهَا , وَقَالَ : إِنَّهَا مَال . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَكْحُول : السَّلَب مَغْنَم وَفِيهِ الْخُمُس . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب . وَالْحُجَّة لِلشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَوْف بْن مَالِك الْأَشْجَعِيّ وَخَالِد بْن الْوَلِيد أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي السَّلَب لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمِّس السَّلَب .
ذَهَبَ جُمْهُور الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ السَّلَب لَا يُعْطَى لِلْقَاتِلِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى قَتْله . قَالَ أَكْثَرهمْ : وَيُجْزِئ شَاهِد وَاحِد , عَلَى حَدِيث أَبِي قَتَادَة . وَقِيلَ : شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِد وَيَمِين . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يُعْطَاهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ , وَلَيْسَتْ الْبَيِّنَة : شَرْطًا فِي الِاسْتِحْقَاق , بَلْ إِنْ اِتَّفَقَ ذَلِكَ فَهُوَ الْأَوْلَى دَفْعًا لِلْمُنَازَعَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أَبَا قَتَادَة سَلَبَ مَقْتُول مِنْ غَيْر شَهَادَة وَلَا يَمِين . وَلَا تَكْفِي شَهَادَة وَاحِد , وَلَا يُنَاط بِهَا حُكْم بِمُجَرَّدِهَا . وَبِهِ قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد .
قُلْت : سَمِعْت شَيْخنَا الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ الشَّافِعِيَّ أَبَا مُحَمَّد عَبْد الْعَظِيم يَقُول : إِنَّمَا أَعْطَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَب بِشَهَادَةِ الْأَسْوَد بْن خُزَاعِيّ وَعَبْد اللَّه بْن أُنَيْسٍ . وَعَلَى هَذَا يَنْدَفِع النِّزَاع وَيَزُول الْإِشْكَال , وَيَطَّرِد الْحُكْم . وَأَمَّا الْمَالِكِيَّة فَيَخْرُج عَلَى قَوْلهمْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاج الْإِمَام فِيهِ إِلَى بَيِّنَة , لِأَنَّهُ مِنْ الْإِمَام اِبْتِدَاء عَطِيَّة , فَإِنْ شَرَطَ الشَّهَادَة كَانَ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِط جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ غَيْر شَهَادَة .
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّلَب مَا هُوَ , فَأَمَّا السِّلَاح وَكُلّ مَا يَحْتَاج لِلْقِتَالِ فَلَا خِلَاف أَنَّهُ مِنْ السَّلَب , وَفَرَسه إِنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ وَصُرِعَ عَنْهُ . وَقَالَ أَحْمَد فِي الْفَرَس : لَيْسَ مِنْ السَّلَب . وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي هِمْيَانه وَفِي مِنْطَقَته دَنَانِير أَوْ جَوَاهِر أَوْ نَحْو هَذَا , فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السَّلَب . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ لِلْحَرْبِ , فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : ذَلِكَ كُلّه مِنْ السَّلَب . وَقَالَتْ فِرْقَة : لَيْسَ مِنْ السَّلَب . وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ سَحْنُون رَحِمَهُ اللَّه , إِلَّا الْمِنْطَقَة فَإِنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ السَّلَب . وَقَالَ اِبْن حَبِيب فِي الْوَاضِحَة : وَالسِّوَارَانِ مِنْ السَّلَب .
: قَوْله تَعَالَى : " فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " قَالَ أَبُو عُبَيْد : هَذَا نَاسِخ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَوَّل السُّورَة " قُلْ الْأَنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول " [ الْأَنْفَال : 1 ] وَلَمْ يُخَمِّس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِم بَدْر , فَنُسِخَ حُكْمه فِي تَرْك التَّخْمِيس بِهَذَا . إِلَّا أَنَّهُ يَظْهَر مِنْ قَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي صَحِيح مُسْلِم " كَانَ لِي شَارِف مِنْ نَصِيبِي مِنْ الْمَغْنَم يَوْم بَدْر , وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنْ الْخُمُس يَوْمئِذٍ " الْحَدِيث - أَنَّهُ خَمَّسَ , فَإِنَّهُ كَانَ هَذَا فَقَوْل أَبِي عُبَيْد مَرْدُود . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْخُمُس الَّذِي ذَكَرَ عَلِيّ مِنْ إِحْدَى الْغَزَوَات الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَدْر وَأُحُد , فَقَدْ كَانَتْ غَزْوَة بَنِي سُلَيْم وَغَزْوَة بَنِي الْمُصْطَلِق وَغَزْوَة ذِي أَمَر وَغَزْوَة بُحْرَان , وَلَمْ يُحْفَظ فِيهَا قِتَال , وَلَكِنْ يُمْكِن أَنْ غُنِمَتْ غَنَائِم . وَاَللَّه أَعْلَم .
قُلْت : وَهَذَا التَّأْوِيل يَرُدّهُ قَوْل عَلِيّ يَوْمئِذٍ , وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى يَوْم قَسْم غَنَائِم بَدْر , إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخُمُس إِنْ كَانَ لَمْ يَقَع فِي بَدْر تَخْمِيس , مِنْ خُمُس سَرِيَّة عَبْد اللَّه بْن جَحْش فَإِنَّهَا أَوَّل غَنِيمَة غُنِمَتْ فِي الْإِسْلَام , وَأَوَّل خُمُس كَانَ فِي الْإِسْلَام , ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآن " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " . وَهَذَا أَوْلَى مِنْ التَّأْوِيل الْأَوَّل . وَاَللَّه أَعْلَم .
" مَا " فِي قَوْل . " مَا غَنِمْتُمْ " بِمَعْنَى الَّذِي وَالْهَاء مَحْذُوفَة , أَيْ الَّذِي غَنِمْتُمُوهُ . وَدَخَلَتْ الْفَاء لِأَنَّ فِي الْكَلَام مَعْنَى الْمُجَازَاة . وَ " أَنَّ " الثَّانِيَةَ تَوْكِيد لِلْأُولَى , وَيَجُوز كَسْرهَا , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو . قَالَ الْحَسَن : هَذَا مِفْتَاح كَلَام , الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لِلَّهِ , ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ . وَاسْتَفْتَحَ عَزَّ وَجَلَّ الْكَلَام فِي الْفَيْء وَالْخُمُس بِذِكْرِ نَفْسه , لِأَنَّهُمَا أَشْرَف الْكَسْب , وَلَمْ يَنْسُب الصَّدَقَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّهَا أَوْسَاخ النَّاس .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة قَسْم الْخُمُس عَلَى أَقْوَال سِتَّة :
الْأَوَّل : قَالَتْ طَائِفَة : يُقْسَمُ الْخُمُس عَلَى سِتَّة , فَيُجْعَل السُّدُسَ لِلْكَعْبَةِ , وَهُوَ الَّذِي لِلَّهِ . وَالثَّانِي لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّالِث لِذَوِي الْقُرْبَى . وَالرَّابِع لِلْيَتَامَى . وَالْخَامِس لِلْمَسَاكِينِ . وَالسَّادِس لِابْنِ السَّبِيل . وَقَالَ بَعْض أَصْحَاب هَذَا الْقَوْل : يُرَدُّ السَّهْمَ الَّذِي لِلَّهِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَة .
الثَّانِي : قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَالرَّبِيع : تُقْسَم الْغَنِيمَة عَلَى خَمْسَة , فَيُعْزَل مِنْهَا سَهْم وَاحِد , وَتُقْسَم الْأَرْبَعَة عَلَى النَّاس , ثُمَّ يَضْرِب بِيَدِهِ عَلَى السَّهْم الَّذِي عَزَلَهُ فَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْء جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ , ثُمَّ يَقْسِم بَقِيَّةَ السَّهْم الَّذِي عَزَلَهُ عَلَى خَمْسَةٍ , سَهْم لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَسَهْم لِذَوِي الْقُرْبَى , وَسَهْم لِلْيَتَامَى , وَسَهْم لِلْمَسَاكِينِ , وَسَهْم لِابْنِ السَّبِيل .
الثَّالِث : قَالَ الْمِنْهَال بْن عَمْرو : سَأَلْت عَبْدَ اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ وَعَلِيّ بْن الْحُسَيْن عَنْ الْخُمُس فَقَالَ : هُوَ لَنَا . قُلْت لِعَلِيٍّ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول : " وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل " فَقَالَ : أَيْتَامُنَا وَمَسَاكِينُنَا .
الرَّابِع : قَالَ الشَّافِعِيّ : يُقْسَمُ عَلَى خَمْسَة . وَرَأَى أَنَّ سَهْم اللَّه وَرَسُوله وَاحِد , وَأَنَّهُ يُصْرَف فِي مَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ , وَالْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس عَلَى الْأَرْبَعَة الْأَصْنَاف الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَة .
الْخَامِس : قَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُقْسَم عَلَى ثَلَاثَة : الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل . وَارْتَفَعَ عِنْدَهُ حُكْم قَرَابَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ , كَمَا اِرْتَفَعَ حُكْم سَهْمه . قَالُوا : وَيَبْدَأ مِنْ الْخُمُس بِإِصْلَاحِ الْقَنَاطِر , وَبِنَاء الْمَسَاجِد , وَأَرْزَاق الْقُضَاة وَالْجُنْد , وَرُوِيَ نَحْو هَذَا عَنْ الشَّافِعِيّ أَيْضًا .
السَّادِس : قَالَ مَالِك : هُوَ مَوْكُول إِلَى نَظَر الْإِمَام وَاجْتِهَاده , فَيَأْخُذ مِنْهُ مِنْ غَيْر تَقْدِير , وَيُعْطِي مِنْهُ الْقَرَابَة بِاجْتِهَادٍ , وَيَصْرِف الْبَاقِيَ فِي مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ . وَبِهِ قَالَ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة , وَبِهِ عَمِلُوا . وَعَلَيْهِ يَدُلّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُس وَالْخُمُس مَرْدُود عَلَيْكُمْ ) . فَإِنَّهُ لَمْ يَقْسِمهُ أَخْمَاسًا وَلَا أَثْلَاثًا , وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْآيَة مَنْ ذَكَرَ عَلَى وَجْه التَّنْبِيه عَلَيْهِمْ , لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهَمّ مَنْ يُدْفَع إِلَيْهِ . قَالَ الزَّجَّاج مُحْتَجًّا لِمَالِكٍ : قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْر فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل " [ الْبَقَرَة : 215 ] وَلِلرَّجُلِ جَائِز بِإِجْمَاعٍ أَنْ يُنْفِق فِي غَيْر هَذِهِ الْأَصْنَاف إِذَا رَأَى ذَلِكَ . وَذَكَر النَّسَائِيّ عَنْ عَطَاء قَالَ : خُمُس اللَّه وَخُمُس رَسُوله وَاحِد , كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِل مِنْهُ وَيَضَعهُ حَيْثُ شَاءَ وَيَصْنَع بِهِ مَا شَاءَ .
" وَلِذِي الْقُرْبَى " لَيْسَتْ اللَّام لِبَيَانِ الِاسْتِحْقَاق وَالْمِلْك , وَإِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ الْمَصْرِف وَالْمَحَلّ . وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِم أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاس وَرَبِيعَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَتَكَلَّمَ أَحَدهمَا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه , أَنْتَ أَبَرّ النَّاس , وَأَوْصَل النَّاس , وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرنَا عَلَى بَعْض هَذِهِ الصَّدَقَات , فَنُؤَدِّي إِلَيْك كَمَا يُؤَدِّي النَّاس , وَنُصِيب كَمَا يُصِيبُونَ . فَسَكَتَ طَوِيلًا حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ , قَالَ : وَجَعَلَتْ زَيْنَب تَلْمَع إِلَيْنَا مِنْ وَرَاء الْحِجَاب أَلَّا تُكَلِّمَاهُ , قَالَ : ثُمَّ قَالَ : ( إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلّ لِآلِ مُحَمَّد إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخ النَّاس اُدْعُوا لِي مَحْمِيَّة - وَكَانَ عَلَى الْخُمُس - وَنَوْفَل بْن الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِب ) قَالَ : فَجَاءَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَّة : ( أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ اِبْنَتك ) - لِلْفَضْلِ بْن عَبَّاس - فَأَنْكَحَهُ . وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْن الْحَارِث : ( أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ اِبْنَتك ) يَعْنِي رَبِيعَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب . وَقَالَ لِمَحْمِيَّة : ( أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنْ الْخُمُس كَذَا وَكَذَا ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُس وَالْخُمُس مَرْدُود عَلَيْكُمْ ) . وَقَدْ أَعْطَى جَمِيعَهُ وَبَعْضَهُ , وَأَعْطَى مِنْهُ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ , وَلَيْسَ مِمَّنْ ذَكَرَهُمْ اللَّه فِي التَّقْسِيم , فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ , وَالْمُوَفِّق الْإِلَه .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : قُرَيْش كُلّهَا , قَالَهُ بَعْض السَّلَف , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَعِدَ الصَّفَا جَعَلَ يَهْتِف : ( يَا بَنِي فُلَان يَا بَنِي عَبْد مَنَاف يَا بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب يَا بَنِي كَعْب يَا بَنِي مُرَّة يَا بَنِي عَبْد شَمْس أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّار ) الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي فِي " الشُّعَرَاء " . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَابْن جُرَيْج وَمُسْلِم بْن خَالِد : بَنُو هَاشِم وَبَنُو عَبْد الْمُطَّلِب , لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَسَمَ سَهْم ذَوِي الْقُرْبَى بَيْن بَنِي هَاشِم وَبَنِي عَبْد الْمُطَّلِب قَالَ : ( إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام إِنَّمَا بَنُو هَاشِم وَبَنُو الْمُطَّلِب شَيْء وَاحِد ) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعه , أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَالْبُخَارِيّ . قَالَ الْبُخَارِيّ : قَالَ اللَّيْث حَدَّثَنِي يُونُس , وَزَادَ : وَلَمْ يَقْسِم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْد شَمْس وَلَا لِبَنِي نَوْفَل شَيْئًا . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : وَعَبْد شَمْس وَهَاشِم وَالْمُطَّلِب إِخْوَة لِأُمٍّ , وَأُمّهمْ عَاتِكَة بِنْت مُرَّة . وَكَانَ نَوْفَل أَخَاهُمْ لِأَبِيهِمْ . قَالَ النَّسَائِيّ : وَأَسْهَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَوِي الْقُرْبَى , وَهُمْ بَنُو هَاشِم وَبَنُو الْمُطَّلِب , بَيْنَهُمْ الْغَنِيّ وَالْفَقِير . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ دُون الْغَنِيّ , كَالْيَتَامَى وَابْن السَّبِيل - وَهُوَ أَشْبَه الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي . وَاَللَّه أَعْلَم - وَالصَّغِير وَالْكَبِير وَالذَّكَر وَالْأُنْثَى سَوَاء , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ , وَقَسَمَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ . وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض . الثَّالِث : بَنُو هَاشِم خَاصَّة , قَالَهُ مُجَاهِد وَعَلِيّ بْن الْحُسَيْن . وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَغَيْرهمْ .
لَمَّا بَيَّنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حُكْم الْخُمُس وَسَكَتَ عَنْ الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس , دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مِلْك لِلْغَانِمِينَ . وَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( وَأَيّمَا قَرْيَة عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَرَسُوله ثُمَّ هِيَ لَكُمْ ) . وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْن الْأُمَّة وَلَا بَيْن الْأَئِمَّة , عَلَى مَا حَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي ( أَحْكَامه ) وَغَيْره . بَيْد أَنَّ الْإِمَامَ إِنْ رَأَى أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأُسَارَى بِالْإِطْلَاقِ فَعَلَ , وَبَطَلَتْ حُقُوق الْغَانِمِينَ فِيهِمْ , كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثُمَامَةَ بْن أُثَال وَغَيْره , وَقَالَ : ( لَوْ كَانَ الْمُطْعِم بْن عَدِيّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى - يَعْنِي أُسَارَى بَدْر - لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . مُكَافَأَة لَهُ لِقِيَامِهِ فِي شَأْن نَقْض الصَّحِيفَة . وَلَهُ أَنْ يَقْتُل جَمِيعَهُمْ , وَقَدْ قَتَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط مِنْ بَيْن الْأَسْرَى صَبْرًا , وَكَذَلِكَ النَّضْر بْن الْحَارِث قَتَلَهُ بِالصَّفْرَاءِ صَبْرًا , وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ . وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْم كَسَهْمِ الْغَانِمِينَ , حَضَرَ أَوْ غَابَ . وَسَهْم الصَّفِيّ , يَصْطَفِي سَيْفًا أَوْ سَهْمًا أَوْ خَادِمًا أَوْ دَابَّة . وَكَانَتْ صَفِيَّة بِنْت حُيَيّ مِنْ الصَّفِيّ مِنْ غَنَائِم خَيْبَر . وَكَذَلِكَ ذُو الْفَقَار كَانَ مِنْ الصَّفِيّ . وَقَدْ اِنْقَطَعَ بِمَوْتِهِ , إِلَّا عِنْدَ أَبِي ثَوْر فَإِنَّهُ رَآهُ بَاقِيًا لِلْإِمَامِ يَجْعَلهُ مَجْعَل سَهْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَتْ الْحِكْمَة فِي ذَلِكَ أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَرَوْنَ لِلرَّئِيسِ رُبُع الْغَنِيمَة . قَالَ شَاعِرهمْ : لَك الْمِرْبَاع مِنْهَا وَالصَّفَايَا وَحُكْمُك وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ وَقَالَ آخَر : مِنَّا الَّذِي رَبَعَ الْجُيُوشَ , لِصُلْبِهِ عِشْرُونَ وَهْوَ يُعَدُّ فِي الْأَحْيَاءِ
يُقَال : رَبَعَ الْجَيْش يَرْبَعهُ رَبَاعَةً إِذَا أَخَذَ رُبُع الْغَنِيمَة . قَالَ الْأَصْمَعِيّ : رُبُع فِي الْجَاهِلِيَّة وَخُمُس فِي الْإِسْلَام , فَكَانَ يَأْخُذ بِغَيْرِ شَرْع وَلَا دِين الرُّبُعَ مِنْ الْغَنِيمَة , وَيَصْطَفِي مِنْهَا , ثُمَّ يَتَحَكَّم بَعْد الصَّفِيّ فِي أَيّ شَيْء أَرَادَ , وَكَانَ مَا شَذَّ مِنْهَا وَمَا فَضَلَ مِنْ خُرْثِيّ وَمَتَاع لَهُ . فَأَحْكَمَ اللَّه سُبْحَانَهُ الدِّين بِقَوْلِهِ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء - فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " . وَأَبْقَى سَهْم الصَّفِيّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْقَطَ حُكْم الْجَاهِلِيَّة . وَقَالَ عَامِر الشَّعْبِيّ : كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْم يُدْعَى الصَّفِيّ إِنْ شَاءَ عَبْدًا أَوْ أَمَة أَوْ فَرَسًا يَخْتَارهُ قَبْل الْخُمُس , أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ . وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُول : ( أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَك الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْك تَرْأَس وَتَرْبَع ) الْحَدِيث . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . " تَرْبَع " بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة مِنْ تَحْتهَا : تَأْخُذ الْمِرْبَاعَ , أَيْ الرُّبُعَ مِمَّا يَحْصُل لِقَوْمِك مِنْ الْغَنَائِم وَالْكَسْب . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِلَى أَنَّ خُمُس الْخُمُس كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفهُ فِي كِفَايَة أَوْلَاده وَنِسَائِهِ , وَيَدَّخِر مِنْ ذَلِكَ قُوتَ سَنَته , وَيَصْرِف الْبَاقِيَ فِي الْكُرَاع وَالسِّلَاح . وَهَذَا يَرُدّهُ مَا رَوَاهُ عُمَر قَالَ : كَانَتْ أَمْوَال بَنِي النَّضِير مِمَّا أَفَاءَ - اللَّه عَلَى رَسُوله مِمَّا لَمْ يُوجِف عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ , فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة , فَكَانَ يُنْفِق عَلَى نَفْسه مِنْهَا قُوت سَنَة , وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاع وَالسِّلَاح عُدَّةً فِي سَبِيل اللَّه . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَقَالَ : ( وَالْخُمُس مَرْدُود عَلَيْكُمْ ) .
لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى دَلَالَة عَلَى تَفْضِيل الْفَارِس عَلَى الرَّاجِل , بَلْ فِيهِ أَنَّهُمْ سَوَاء , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْأَرْبَعَةَ أَخْمَاس لَهُمْ وَلَمْ يَخُصّ رَاجِلًا مِنْ فَارِس . وَلَوْلَا الْأَخْبَار الْوَارِدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ الْفَارِس كَالرَّاجِلِ , وَالْعَبْد كَالْحُرِّ , وَالصَّبِيّ كَالْبَالِغِ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قِسْمَة الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة أَهْل الْعِلْم فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ , وَلِلرَّاجِلِ سَهْم . وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِك بْن أَنَس وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة . وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل الشَّام . وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل الْعِرَاق . وَهُوَ قَوْل اللَّيْث بْن سَعْد وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْل مِصْر . وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَصْحَابه . وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَيَعْقُوب وَمُحَمَّد . قَالَ بْن الْمُنْذِر : وَلَا نَعْلَم أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ إِلَّا النُّعْمَان فَإِنَّهُ خَالَفَ فِيهِ السُّنَنَ وَمَا عَلَيْهِ جُلّ أَهْل الْعِلْم فِي الْقَدِيم وَالْحَدِيث . قَالَ : لَا يُسْهَم لِلْفَارِسِ إِلَّا سَهْم وَاحِد .
قُلْت : وَلَعَلَّهُ شُبِّهَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ , وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا . خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : قَالَ الرَّمَادِيّ كَذَا يَقُول اِبْن نُمَيْر قَالَ لَنَا النَّيْسَابُورِيّ : هَذَا عِنْدِي وَهْمٌ مِنْ اِبْن أَبِي شَيْبَة أَوْ مِنْ الرَّمَادِيّ , لِأَنَّ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَعَبْد الرَّحْمَن بْن بِشْر وَغَيْرهمَا رَوَوْهُ عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِخِلَافِ هَذَا , وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَة أَسْهُم , سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْن لِفَرَسِهِ , هَكَذَا رَوَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن بِشْر عَنْ عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر , وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا . وَهَذَا نَصّ . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ الزُّبَيْر قَالَ : أَعْطَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة أَسْهُم يَوْم بَدْر , سَهْمَيْنِ لِفَرَسِي وَسَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِأُمِّي مِنْ ذَوِي الْقَرَابَة . وَفِي رِوَايَة : وَسَهْمًا لِأُمِّهِ سَهْم ذَوِي الْقُرْبَى . وَخَرَّجَ عَنْ بَشِير بْن عَمْرو بْن مُحْصَن قَالَ : أَسْهَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرَسِي أَرْبَعَة أَسْهُم , وَلِي سَهْمًا , فَأَخَذْت خَمْسَةَ أَسْهُم . وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ رَاجِع إِلَى اِجْتِهَاد الْإِمَام , فَيَنْفُذ مَا رَأَى . وَاَللَّه أَعْلَم .
لَا يُفَاضِل بَيْنَ الْفَارِس وَالرَّاجِل بِأَكْثَر مِنْ فَرَس وَاحِد , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَس وَاحِد , لِأَنَّهُ أَكْثَر عَنَاء وَأَعْظَم مَنْفَعَة , وَبِهِ قَالَ اِبْن الْجَهْم مِنْ أَصْحَابنَا , وَرَوَاهُ سَحْنُون عَنْ اِبْن وَهْب . وَدَلِيلنَا أَنَّهُ لَمْ تَرِدْ رِوَايَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسْهَم لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَس وَاحِد , وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّة بَعْده , وَلِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا يُمْكِن أَنْ يُقَاتِلَ إِلَّا عَلَى فَرَس وَاحِد , وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَرَفَاهِيَة وَزِيَادَة عُدَّة , وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّر فِي زِيَادَة السُّهْمَان , كَاَلَّذِي مَعَهُ زِيَادَة سُيُوف أَوْ رِمَاح , وَاعْتِبَارًا بِالثَّالِثِ وَالرَّابِع . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى أَنَّهُ يُسْهَم لِمَنْ كَانَ عِنْده أَفْرَاس , لِكُلِّ فَرَس سَهْم .
لَا يُسْهَم إِلَّا لِلْعِتَاقِ مِنْ الْخَيْل , لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَرّ وَالْفَرّ , وَمَا كَانَ مِنْ الْبَرَاذِين وَالْهُجُن بِمَثَابَتِهَا فِي ذَلِكَ . وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُسْهَم لَهُ . وَقِيلَ : إِنْ أَجَازَهَا الْإِمَام أَسْهَمَ لَهَا , لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا يَخْتَلِف بِحَسَبِ الْمَوْضِع , فَالْهُجُن وَالْبَرَاذِين تَصْلُح لِلْمَوَاضِعِ الْمُتَوَعِّرَة كَالشِّعَابِ وَالْجِبَال , وَالْعِتَاق تَصْلُح لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الْكَرّ وَالْفَرّ , فَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِرَأْيِ الْإِمَام . وَالْعِتَاق : خَيْل الْعَرَب . وَالْهُجُن وَالْبَرَاذِين : خَيْل الرُّوم .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْفَرَس الضَّعِيف , فَقَالَ أَشْهَب وَابْن نَافِع : لَا يُسْهَم لَهُ , لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن الْقِتَال عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْكَسِير . وَقِيلَ : يُسْهَم لَهُ لِأَنَّهُ يُرْجَى بُرْؤُهُ . وَلَا يُسْهَم لِلْأَعْجَفِ إِذَا كَانَ فِي حَيِّز مَا لَا يُنْتَفَع بِهِ , كَمَا لَا يُسْهَم لِلْكَسِيرِ . فَأَمَّا الْمَرِيض مَرَضًا خَفِيفًا مِثْل الرَّهِيص , وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِمَّا لَا يَمْنَعهُ الْمَرَض عَنْ حُصُول الْمَنْفَعَة الْمَقْصُودَة مِنْهُ فَإِنَّهُ يُسْهَم لَهُ . وَيُعْطَى الْفَرَس الْمُسْتَعَار وَالْمُسْتَأْجَر , وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوب , وَسَهْمه لِصَاحِبِهِ . وَيَسْتَحِقّ السَّهْمَ لِلْخَيْلِ وَإِنْ كَانَتْ فِي السُّفُن وَوَقَعَتْ الْغَنِيمَة فِي الْبَحْر , لِأَنَّهَا مُعَدَّة لِلنُّزُولِ إِلَى الْبَرّ .
لَا حَقّ فِي الْغَنَائِم لِلْحَشْوَةِ كَالْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاع الَّذِينَ يَصْحَبُونَ الْجَيْش لِلْمَعَاشِ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا قِتَالًا وَلَا خَرَجُوا مُجَاهِدِينَ . وَقِيلَ : يُسْهَم لَهُمْ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْغَنِيمَة لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ جَاءَ بَيَانًا لِمَنْ بَاشَرَ الْحَرْبَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ , وَكَفَى بِبَيَانِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمُقَاتِلِينَ وَأَهْل الْمَعَاش مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ , لِكُلِّ وَاحِدَة حَالهَا فِي حُكْمهَا , فَقَالَ : " عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّه وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه " [ الْمُزَّمِّل : 20 ] إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا قَاتَلُوا لَا يَضُرّهُمْ كَوْنُهُمْ عَلَى مَعَاشِهِمْ , لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاق قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ . وَقَالَ أَشْهَب : لَا يَسْتَحِقّ أَحَد مِنْهُمْ وَإِنْ قَاتَلَ , وَبِهِ قَالَ اِبْن الْقَصَّار فِي الْأَجِير : لَا يُسْهَم لَهُ وَإِنْ قَاتَلَ . وَهَذَا يَرُدّهُ حَدِيث سَلَمَة بْن الْأَكْوَع قَالَ : كُنْت تَبِيعًا لِطَلْحَةَ بْن عُبَيْد اللَّه أَسْقِي فَرَسَهُ وَأَحُسّهُ وَأَخْدُمهُ وَآكُل مِنْ طَعَامه , الْحَدِيث . وَفِيهِ : ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ , سَهْم الْفَارِس وَسَهْم الرَّاجِل , فَجَمَعَهُمَا لِي . خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَاحْتَجَّ اِبْن الْقَصَّار وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِحَدِيثِ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف , ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق , وَفِيهِ : فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَن : ( هَذِهِ الثَّلَاثَة الدَّنَانِير حَظّه وَنَصِيبه مِنْ غَزْوَته فِي أَمْر دُنْيَاهُ وَآخِرَته ) .
فَأَمَّا الْعَبِيد وَالنِّسَاء فَمَذْهَب الْكُتَّاب أَنَّهُ لَا يُسْهَم لَهُمْ وَلَا يُرْضَخ . وَقِيلَ : يُرْضَخ لَهُمْ , وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إِنْ قَاتَلَتْ الْمَرْأَة أُسْهِمَ لَهَا . وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِلنِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَر . قَالَ : وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا . وَإِلَى هَذَا الْقَوْل مَالَ اِبْن حَبِيب مِنْ أَصْحَابنَا . خَرَّجَ مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ فِي كِتَابه إِلَى نَجْدَة : تَسْأَلنِي هَلْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ ؟ وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَيَحْذِينَ مِنْ الْغَنِيمَة , وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يُضْرَب لَهُنَّ . وَأَمَّا الصِّبْيَان فَإِنْ كَانَ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ فَفِيهِ عِنْدَنَا ثَلَاثَة أَقْوَال : الْإِسْهَام وَنَفْيه حَتَّى يَبْلُغَ , لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ . وَالتَّفْرِقَة بَيْن أَنْ يُقَاتِلَ فَيُسْهَم لَهُ أَوْ يُقَاتِل فَلَا يُسْهَم لَهُ . وَالصَّحِيح الْأَوَّل , لِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَة أَنْ يُقْتَل مِنْهُمْ مَنْ أَنْبَتَ وَيُخَلَّى مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُنْبِت . وَهَذِهِ مُرَاعَاة لِإِطَاقَةِ الْقِتَال لَا لِلْبُلُوغِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو عُمَر فِي الِاسْتِيعَاب عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدَب قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَض عَلَيْهِ الْغِلْمَان مِنْ الْأَنْصَار فَيُلْحِق مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ , فَعُرِضْت عَلَيْهِ عَامًا فَأَلْحَقَ غُلَامًا وَرَدَّنِي , فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّه , أَلْحَقْته وَرَدَدْتنِي , وَلَوْ صَارَعَنِي صَرَعْته قَالَ : فَصَارَعَنِي فَصَرَعْته فَأَلْحَقَنِي . وَأَمَّا الْعَبِيد فَلَا يُسْهَم لَهُمْ أَيْضًا وَيُرْضَخ لَهُمْ .
الْكَافِر إِذَا حَضَرَ بِإِذْنِ الْإِمَام وَقَاتَلَ فَفِي الْإِسْهَام لَهُ عِنْدَنَا ثَلَاثَة أَقْوَال : الْإِسْهَام وَنَفْيه , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَابْن الْقَاسِم . زَادَ اِبْن حَبِيب : وَلَا نَصِيب لَهُمْ . وَيُفَرَّق فِي الثَّالِث - وَهُوَ لِسَحْنُون - بَيْن أَنْ يَسْتَقِلّ الْمُسْلِمُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يُسْهَم لَهُ , أَوْ لَا يَسْتَقِلُّوا وَيَفْتَقِرُوا إِلَى مَعُونَته فَيُسْهَم لَهُ . فَإِنْ لَمْ يُقَاتِل فَلَا يَسْتَحِقّ شَيْئًا . وَكَذَلِكَ الْعَبِيد مَعَ الْأَحْرَار . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ : إِذَا اُسْتُعِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّة أُسْهِمَ لَهُمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا يُسْهَم لَهُمْ , وَلَكِنْ يُرْضَخ لَهُمْ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : يَسْتَأْجِرهُمْ الْإِمَام مِنْ مَال لَا مَالِكَ لَهُ بِعَيْنِهِ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَل أَعْطَاهُمْ سَهْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر : يُرْضَخ لِلْمُشْرِكِينَ إِذَا قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ أَبُو عُمَر : اِتَّفَقَ الْجَمِيع أَنَّ الْعَبْدَ , وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوز أَمَانه , إِذَا قَاتَلَ لَمْ يُسْهَم لَهُ وَلَكِنْ يُرْضَخ , فَالْكَافِر بِذَلِكَ أَوْلَى أَلَّا يُسْهَم لَهُ .
لَوْ خَرَجَ الْعَبْد وَأَهْل الذِّمَّة لُصُوصًا وَأَخَذُوا مَالَ أَهْل الْحَرْب فَهُوَ لَهُمْ وَلَا يُخَمَّس , لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي عُمُوم قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " أَحَد مِنْهُمْ وَلَا مِنْ النِّسَاء . فَأَمَّا الْكُفَّار فَلَا مَدْخَل لَهُمْ مِنْ غَيْر خِلَاف . وَقَالَ سَحْنُون . لَا يُخَمَّس مَا يَنُوب الْعَبْد . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُخَمَّس , لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّده فِي الْقِتَال وَيُقَاتِل عَلَى الدِّين , بِخِلَافِ الْكَافِر . وَقَالَ أَشْهَب فِي كِتَاب مُحَمَّد : إِذَا خَرَجَ الْعَبْد وَالذِّمِّيّ مِنْ الْجَيْش وَغَنِمَا فَالْغَنِيمَة لِلْجَيْشِ دُونَهُمْ .
سَبَب اِسْتِحْقَاق السَّهْم شُهُود الْوَقْعَة لِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . فَلَوْ شَهِدَ آخِر الْوَقْعَة اِسْتَحَقَّ . وَلَوْ حَضَرَ بَعْد اِنْقِضَاء الْقِتَال فَلَا . وَلَوْ غَابَ بِانْهِزَامٍ فَكَذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ قَصَدَ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَة فَلَا يَسْقُط اِسْتِحْقَاقه . رَوَى الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَانَ بْن سَعِيد عَلَى سَرِيَّة مِنْ الْمَدِينَة قِبَلَ نَجْد , فَقَدِمَ أَبَان بْن سَعِيد وَأَصْحَابه عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا , وَإِنَّ حُزُم خَيْلهمْ لِيف , فَقَالَ أَبَان : اِقْسِمْ لَنَا يَا رَسُول اللَّه . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : فَقُلْت لَا تَقْسِم لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّه . فَقَالَ أَبَان : أَنْتَ بِهَا يَا وَبْر تَحَدَّرَ عَلَيْنَا مِنْ رَأْس ضَالٍ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِجْلِسْ يَا أَبَان ) وَلَمْ يَقْسِم لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ خَرَجَ لِشُهُودِ الْوَقْعَة فَمَنَعَهُ الْعُذْر مِنْهُ كَمَرَضٍ , فَفِي ثُبُوت الْإِسْهَام لَهُ وَنَفْيه ثَلَاثَة أَقْوَال : يُفَرَّق فِي الثَّالِث , وَهُوَ الْمَشْهُور , فَيُثْبِتهُ إِنْ كَانَ الضَّلَال قَبْل الْقِتَال وَبَعْد الْإِدْرَاب , وَهُوَ الْأَصَحّ , قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . وَيَنْفِيه إِنْ كَانَ قَبْلَهُ . وَكَمَنَ بَعَثَهُ الْأَمِير مِنْ الْجَيْش فِي أَمْر مِنْ مَصْلَحَة الْجَيْش فَشَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ شُهُود الْوَقْعَة فَإِنَّهُ يُسْهَم لَهُ , قَالَهُ اِبْن الْمَوَّاز , وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب وَابْن نَافِع عَنْ مَالِك . وَرُوِيَ لَا يُسْهَم لَهُ بَلْ يُرْضَخ لَهُ لِعَدَمِ السَّبَب الَّذِي يَسْتَحِقّ بِهِ السَّهْم , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ أَشْهَب : يُسْهَم لِلْأَسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَدِيد . وَالصَّحِيح أَنَّهُ لَا يُسْهَم لَهُ , لِأَنَّهُ مِلْك مُسْتَحَقّ بِالْقِتَالِ , فَمَنْ غَابَ أَوْ حَضَرَ مَرِيضًا كَمَنْ لَمْ يَحْضُر .
الْغَائِب الْمُطْلَق لَا يُسْهَم لَهُ , وَلَمْ يُسْهِم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَائِبٍ قَطُّ إِلَّا يَوْم خَيْبَر , فَإِنَّهُ أَسْهَمَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَة مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَابَ , لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَعَدَكُمْ اللَّه مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا " [ الْفَتْح : 20 ] , قَالَهُ مُوسَى بْن عُقْبَة . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف . وَقَسَمَ يَوْم بَدْر لِعُثْمَان وَلِسَعِيدِ بْن زَيْد وَطَلْحَة , وَكَانُوا غَائِبِينَ , فَهُمْ كَمَنْ حَضَرَهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَأَمَّا عُثْمَان فَإِنَّهُ تَخَلَّفَ عَلَى رُقَيَّة بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ مِنْ أَجْل مَرَضهَا . فَضَرَبَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْره , فَكَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا . وَأَمَّا طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه فَكَانَ بِالشَّامِ فِي تِجَارَة فَضَرَبَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْره , فَيُعَدّ لِذَلِكَ فِي أَهْل بَدْر . وَأَمَّا سَعِيد بْن زَيْد فَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ أَيْضًا فَضَرَبَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْره . فَهُوَ مَعْدُود فِي الْبَدْرِيِّينَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا أَهْل الْحُدَيْبِيَة فَكَانَ مِيعَادًا مِنْ اللَّه اِخْتَصَّ بِهِ أُولَئِكَ النَّفَر فَلَا يُشَارِكهُمْ فِيهِ غَيْرهمْ . وَأَمَّا عُثْمَان وَسَعِيد وَطَلْحَة فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ أَسْهَمَ لَهُمْ مِنْ الْخُمُس , لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَة عَلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ لِعُذْرٍ فَلَا يُسْهِم لَهُ .
قُلْت : الظَّاهِر أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوص بِعُثْمَان وَطَلْحَة وَسَعِيد فَلَا يُقَاس عَلَيْهِمْ غَيْرهمْ . وَأَنَّ سَهْمَهُمْ كَانَ مِنْ صُلْب الْغَنِيمَة كَسَائِرِ مَنْ حَضَرَهَا لَا مِنْ الْخُمُس . هَذَا الظَّاهِر مِنْ الْأَحَادِيث وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : لَمَّا تَغَيَّبَ عُثْمَان عَنْ بَدْر فَإِنَّهُ كَانَ تَحْته اِبْنَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَة , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لَك أَجْر رَجُل مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمه ) .
قَوْله تَعَالَى " إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ " قَالَ الزَّجَّاج عَنْ فِرْقَة : الْمَعْنَى فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ إِنْ كُنْتُمْ , فَ ( إِنْ ) مُتَعَلِّقَة بِهَذَا الْوَعْد . وَقَالَتْ فِرْقَة : إِنَّ ( إِنْ ) مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ " . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , لِأَنَّ قَوْلَهُ " وَاعْلَمُوا " يَتَضَمَّن الْأَمْر بِالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيم لِأَمْرِ اللَّه فِي الْغَنَائِم , فَعَلَّقَ ( إِنْ ) بِقَوْلِهِ : " وَاعْلَمُوا " عَلَى هَذَا الْمَعْنَى , أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ فَانْقَادُوا وَسَلِّمُوا لِأَمْرِ اللَّه فِيمَا أَعْلَمَكُمْ بِهِ مِنْ حَال قِسْمَة الْغَنِيمَة .
( مَا ) فِي مَوْضِع خَفْض عَطْف عَلَى اِسْم اللَّه " يَوْمَ الْفُرْقَان " أَيْ الْيَوْم الَّذِي فَرَّقْت فِيهِ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِل , وَهُوَ يَوْم بَدْر .
حِزْب اللَّه وَحِزْب الشَّيْطَان . " وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير "
هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِأَوَّلِ السُّورَة , عِنْدَ الْجُمْهُور . وَقَدْ اِدَّعَى اِبْن عَبْد الْبَرّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْله : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " [ الْأَنْفَال : 1 ] وَأَنَّ أَرْبَعَة أَخْمَاس الْغَنِيمَة مَقْسُومَة عَلَى الْغَانِمِينَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَأَنَّ قَوْلَ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " نَزَلَتْ فِي حِين تَشَاجَرَ أَهْل بَدْر فِي غَنَائِم بَدْر , عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة .
قُلْت : وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا مَا ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن كَثِير قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن السَّائِب عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( لَمَّا كَانَ يَوْم بَدْر قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا ) وَكَانُوا قَتَلُوا سَبْعِينَ , وَأَسَرُوا سَبْعِينَ , فَجَاءَ أَبُو الْيُسْر بْن عَمْرو بِأَسِيرَيْنِ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّك وَعَدْتنَا مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا , وَقَدْ جِئْت بِأَسِيرَيْنِ . فَقَامَ سَعْد فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه , إِنَّا لَمْ يَمْنَعنَا زِيَادَة فِي الْأَجْر وَلَا جُبْن عَنْ الْعَدُوّ وَلَكِنَّا قُمْنَا هَذَا الْمُقَام خَشْيَة أَنْ يَعْطِف الْمُشْرِكُونَ , فَإِنَّك إِنْ تُعْطِيَ هَؤُلَاءِ لَا يَبْقَى لِأَصْحَابِك شَيْء . قَالَ : وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فَنَزَلَتْ " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال قُلْ الْأَنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنكُمْ " [ الْأَنْفَال : 1 ] فَسَلَّمُوا الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ) ثُمَّ نَزَلَتْ " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " الْآيَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا مُحْكَمَة غَيْر مَنْسُوخَة , وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَيْسَتْ مَقْسُومَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ , وَكَذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّة . كَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيّ عَنْ كَثِير مِنْ أَصْحَابنَا , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجهَا عَنْهُمْ . وَاحْتَجُّوا بِفَتْحِ مَكَّة وَقِصَّة حُنَيْنٍ . وَكَانَ أَبُو عُبَيْد يَقُول : اِفْتَتَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة عَنْوَة وَمَنَّ عَلَى أَهْلهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَقْسِمهَا وَلَمْ يَجْعَلهَا عَلَيْهِمْ فَيْئًا . وَرَأَى بَعْض النَّاس أَنَّ هَذَا جَائِز لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ .
قُلْت : وَعَلَى هَذَا يَكُون مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " وَالْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس لِلْإِمَامِ , إِنْ شَاءَ حَبَسَهَا وَإِنْ شَاءَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ . وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ , لِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَضَافَ الْغَنِيمَة لِلْغَانِمِينَ فَقَالَ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء " ثُمَّ عَيَّنَ الْخُمُس لِمَنْ سَمَّى فِي كِتَابه , وَسَكَتَ عَنْ الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس , كَمَا سَكَتَ عَنْ الثُّلُثَيْنِ فِي قَوْله : " وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث " [ النِّسَاء : 11 ] فَكَانَ لِلْأَبِ الثُّلُثَانِ اِتِّفَاقًا . وَكَذَا الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس لِلْغَانِمِينَ إِجْمَاعًا , عَلَى مَا ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَابْن عَبْد الْبَرّ وَالدَّاوُدِيّ وَالْمَازِرِيّ أَيْضًا وَالْقَاضِي عِيَاض وَابْن الْعَرَبِيّ . وَالْأَخْبَار بِهَذَا الْمَعْنَى مُتَظَاهِرَة , وَسَيَأْتِي بَعْضهَا . وَيَكُون مَعْنَى قَوْله : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " الْآيَة , مَا يُنَفِّلهُ الْإِمَام لِمَنْ شَاءَ لِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَة قَبْل الْقِسْمَة . وَقَالَ عَطَاء وَالْحَسَن : هِيَ مَخْصُوصَة بِمَا شَذَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ , مِنْ عَبْد أَوْ أَمَة أَوْ دَابَّة , يَقْضِي فِيهَا الْإِمَام بِمَا أَحَبَّ . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهَا أَنْفَال السَّرَايَا أَيْ غَنَائِمهَا , إِنْ شَاءَ خَمَّسَهَا الْإِمَام , وَإِنْ شَاءَ نَفَّلَهَا كُلّهَا . وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ فِي الْإِمَام يَبْعَث السَّرِيَّةَ فَيُصِيبُونَ الْمَغْنَمَ : إِنْ شَاءَ الْإِمَام نَفَّلَهُ كُلّه , وَإِنْ شَاءَ خَمَّسَهُ . وَحَكَاهُ أَبُو عُمَر عَنْ مَكْحُول وَعَطَاء . قَالَ عَلِيّ بْن ثَابِت : سَأَلْت مَكْحُولًا وَعَطَاء عَنْ الْإِمَام يُنَفِّل الْقَوْمَ مَا أَصَابُوا , قَالَ : ذَلِكَ لَهُمْ . قَالَ أَبُو عُمَر : مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا تَأَوَّلَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال قُلْ الْأَنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول " [ الْأَنْفَال : 1 ] أَنَّ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعهَا حَيْثُ شَاءَ . وَلَمْ يَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " . وَقِيلَ : غَيْر هَذَا مِمَّا قَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَاب ( الْقَبَس فِي شَرْح مُوَطَّأ مَالِك بْن أَنَس ) . وَلَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء فِيمَا أَعْلَم أَنَّ قَوْله تَعَالَى " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " الْآيَة , نَاسِخ لِقَوْلِهِ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " بَلْ قَالَ الْجُمْهُور عَلَى مَا ذَكَرْنَا : إِنَّ قَوْلَهُ : " مَا غَنِمْتُمْ " نَاسِخ , وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوز عَلَيْهِمْ التَّحْرِيف وَلَا التَّبْدِيل لِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا قِصَّة فَتْح مَكَّة فَلَا حُجَّة فِيهَا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاء فِي فَتْحهَا . وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَلَا نَعْلَم مَكَّةَ يُشْبِههَا شَيْء مِنْ الْبُلْدَان مِنْ جِهَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اللَّه قَدْ خَصَّهُ مِنْ الْأَنْفَال وَالْغَنَائِم مَا لَمْ يَجْعَلهُ لِغَيْرِهِ , وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال " [ الْأَنْفَال : 1 ] الْآيَة , فَنَرَى أَنَّ هَذَا كَانَ خَاصًّا لَهُ وَالْجِهَة الْأُخْرَى أَنَّهُ سَنَّ لِمَكَّةَ سُنَنًا لَيْسَتْ لِشَيْءٍ مِنْ الْبِلَاد . وَأَمَّا قِصَّة حُنَيْنٍ فَقَدْ عَوَّضَ الْأَنْصَار لَمَّا قَالُوا : يُعْطِي الْغَنَائِم قُرَيْشًا وَيَتْرُكنَا وَسُيُوفنَا تَقْطُر مِنْ دِمَائِهِمْ ! فَقَالَ لَهُمْ : ( أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاس بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بُيُوتكُمْ ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْل , مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْض عُلَمَائِنَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
لَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء أَنَّ قَوْلَهُ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء " لَيْسَ عَلَى عُمُومه , وَأَنَّهُ يَدْخُلهُ الْخُصُوص , فَمِمَّا خَصَّصُوهُ بِإِجْمَاعٍ أَنْ قَالُوا : سَلَب الْمَقْتُول لِقَاتِلِهِ إِذَا نَادَى بِهِ الْإِمَام . وَكَذَلِكَ الرِّقَاب , أَعْنِي الْأُسَارَى , الْخِيرَة فِيهَا إِلَى الْإِمَام بِلَا خِلَاف , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَمِمَّا خَصَّ بِهِ أَيْضًا الْأَرْض . وَالْمَعْنَى : مَا غَنِمْتُمْ مِنْ ذَهَب وَفِضَّة وَسَائِر الْأَمْتِعَة وَالسَّبْي . وَأَمَّا الْأَرْض فَغَيْر دَاخِلَة فِي عُمُوم هَذِهِ الْآيَة , لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ قَالَ : ( لَوْلَا آخِر النَّاس مَا فُتِحَتْ قَرْيَة إِلَّا قَسَمْتهَا كَمَا قَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَر ) . وَمِمَّا يُصَحِّح هَذَا الْمَذْهَب مَا رَوَاهُ الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنَعَتْ الْعِرَاق قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا وَمَنَعَتْ الشَّام مُدَّهَا وَدِينَارَهَا ) الْحَدِيث . قَالَ الطَّحَاوِيّ : " مَنَعَتْ " بِمَعْنَى سَتَمْنَعُ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُون لِلْغَانِمِينَ , لِأَنَّ مَا مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ لَا يَكُون فِيهِ قَفِيز وَلَا دِرْهَم , وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْض تُقْسَم مَا بَقِيَ لِمَنْ جَاءَ بَعْد الْغَانِمِينَ شَيْء . وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ " [ الْحَشْر : 10 ] بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْله : " لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ " [ الْحَشْر : 8 ] . قَالَ : وَإِنَّمَا يُقْسَم مَا يُنْقَل مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : كُلّ مَا حَصَلَ مِنْ الْغَنَائِم مِنْ أَهْل دَار الْحَرْب مِنْ شَيْء قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ دَار أَوْ أَرْض أَوْ مَتَاع أَوْ غَيْر ذَلِكَ قُسِمَ , إِلَّا الرِّجَال الْبَالِغِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ فِيهِمْ مُخَيَّر أَنْ يَمُنّ أَوْ يَقْتُل أَوْ يَسْبِيَ . وَسَبِيل مَا أُخِذَ مِنْهُمْ وَسُبِيَ سَبِيل الْغَنِيمَة . وَاحْتُجَّ بِعُمُومِ الْآيَة . قَالَ : وَالْأَرْض مَغْنُومَة لَا مَحَالَة , فَوَجَبَ أَنْ تُقْسَم كَسَائِرِ الْغَنَائِم . وَقَدْ قَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اِفْتَتَحَ عَنْوَة مِنْ خَيْبَر . قَالُوا : وَلَوْ جَازَ أَنْ يُدَّعَى الْخُصُوصَ فِي الْأَرْض جَازَ أَنْ يُدَّعَى فِي غَيْر الْأَرْض فَيَبْطُل حُكْم الْآيَة . وَأَمَّا آيَة " الْحَشْر " فَلَا حُجَّة فِيهَا , لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفَيْء لَا فِي الْغَنِيمَة وَقَوْله : " وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ " [ الْحَشْر : 10 ] اِسْتِئْنَاف كَلَام بِالدُّعَاءِ لِمَنْ سَبَقَهُمْ بِالْإِيمَانِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ . قَالُوا : وَلَيْسَ يَخْلُو فِعْل عُمَر فِي تَوْقِيفه الْأَرْض مِنْ أَحَد وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ غَنِيمَة اِسْتَطَابَ أَنْفُس أَهْلهَا , وَطَابَتْ بِذَلِكَ فَوَقَفَهَا . وَكَذَلِكَ رَوَى جَرِير أَنَّ عُمَرَ اِسْتَطَابَ أَنْفُس أَهْلهَا . الْجُزْء الثَّامِن - سُورَة الْأَنْفَال : الْآيَة ( 41 ) وَكَذَلِكَ صَنَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْي هَوَازِن , لَمَّا أَتَوْهُ اِسْتَطَابَ أَنْفُس أَصْحَابه عَمَّا كَانَ فِي أَيْدِيهمْ . وَإِمَّا أَنْ يَكُون مَا وَقَفَهُ عُمَر فَيْئًا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُرَاضَاة أَحَد . وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى تَخْيِير الْإِمَام فِي , قَسْمهَا أَوْ إِقْرَارهَا وَتَوْظِيف الْخَرَاج عَلَيْهَا , وَتَصِير مِلْكًا لَهُمْ كَأَرْضِ الصُّلْح : قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَكَأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْن الدَّلِيلَيْنِ وَوَسَطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ , وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَطْعًا , وَلِذَلِكَ قَالَ : لَوْلَا آخِر النَّاس , فَلَمْ يُخْبِر بِنَسْخِ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِتَخْصِيصِهِ بِهِمْ , غَيْر أَنَّ الْكُوفِيِّينَ زَادُوا عَلَى مَا فَعَلَ عُمَر , فَإِنَّ عُمَر إِنَّمَا وَقَفَهَا عَلَى مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُمَلِّكْهَا لِأَهْلِ الصُّلْح , وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَلِّكهَا لِأَهْلِ الصُّلْح .
ذَهَبَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ إِلَى أَنَّ السَّلَب لَيْسَ لِلْقَاتِلِ , وَأَنَّ حُكْمَهُ حُكْم الْغَنِيمَة , إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْأَمِير : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ , فَيَكُون حِينَئِذٍ لَهُ . وَقَالَ اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد وَالطَّبَرِيّ وَابْن الْمُنْذِر : السَّلَب لِلْقَاتِلِ عَلَى كُلّ حَال , قَالَهُ الْإِمَام أَوْ لَمْ يَقُلْهُ . إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : إِنَّمَا يَكُون السَّلَب لِلْقَاتِلِ إِذَا قَتَلَ قَتِيلًا مُقْبِلًا عَلَيْهِ : وَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ مُدْبِرًا عَنْهُ فَلَا . قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بْن سُرَيْج مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : لَيْسَ الْحَدِيث ( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ) عَلَى عُمُومه , لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ أَسِيرًا أَوْ اِمْرَأَة أَوْ شَيْخًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَلَب وَاحِد مِنْهُمْ . وَكَذَلِكَ مَنْ ذَفَّفَ عَلَى جَرِيح , وَمَنْ قَتَلَ مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ . قَالَ : وَكَذَلِكَ الْمُنْهَزِم لَا يَمْتَنِع فِي اِنْهِزَامه , وَهُوَ كَالْمَكْتُوفِ . قَالَ : فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيث إِنَّمَا جَعَلَ السَّلَب لِمَنْ لِقَتْلِهِ مَعْنًى زَائِد , أَوْ لِمَنْ فِي قَتْله فَضِيلَة , وَهُوَ الْقَاتِل فِي الْإِقْبَال , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُؤْنَة . وَأَمَّا مَنْ أُثْخِنَ فَلَا . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : السَّلَب لِلْقَاتِلِ , مُقْبِلًا قَتَلَهُ أَوْ مُدْبِرًا , هَارِبًا أَوْ مُبَارِزًا إِذَا كَانَ فِي الْمَعْرَكَة . وَهَذَا يَرُدّهُ مَا ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق وَمُحَمَّد بْن بَكْر عَنْ اِبْن جُرَيْج قَالَ سَمِعْت نَافِعًا مَوْلَى اِبْن عُمَر يَقُول : لَمْ نَزَلْ نَسْمَع إِذَا اِلْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّار فَقَتَلَ رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّار فَإِنَّ سَلَبَهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْمَعَة الْقِتَال , لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا . فَظَاهِر هَذَا يَرُدّ قَوْلَ الطَّبَرِيّ لِاشْتِرَاطِهِ فِي السَّلَب الْقَتْل فِي الْمَعْرَكَة خَاصَّة . وَقَالَ أَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذِر : السَّلَب لِلْقَاتِلِ فِي مَعْرَكَة كَانَ أَوْ غَيْر مَعْرَكَة , فِي الْإِقْبَال وَالْإِدْبَار وَالْهُرُوب وَالِانْتِهَار , عَلَى كُلّ الْوُجُوه , لِعُمُومِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبه ) .
قُلْت : رَوَى مُسْلِم عَنْ سَلَمَة بْن الْأَكْوَع قَالَ : ( غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوَازِن فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُل عَلَى جَمَل أَحْمَر فَأَنَاخَهُ , ثُمَّ اِنْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبه فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَل , ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْم , وَجَعَلَ يَنْظُر , وَفِينَا ضَعْفَة وَرِقَّة فِي الظَّهْر , وَبَعْضنَا مُشَاة , إِذْ خَرَجَ يَشْتَدّ , فَأَتَى جَمَله فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَل , فَاتَّبَعَهُ رَجُل عَلَى نَاقَة وَرْقَاء . قَالَ سَلَمَة : وَخَرَجْت أَشْتَدّ فَكُنْت عِنْدَ وَرِك النَّاقَة , ثُمَّ تَقَدَّمْت حَتَّى كُنْت عِنْدَ وَرِك الْجَمَل , ثُمَّ تَقَدَّمْت حَتَّى أَخَذْت بِخِطَامِ الْجَمَل فَأَنَخْته , فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَته فِي الْأَرْض اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْت رَأْس الرَّجُل فَنَدَرَ , ثُمَّ جِئْت بِالْجَمَلِ أَقُودهُ , عَلَيْهِ رَحْله وَسِلَاحه , فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاس مَعَهُ فَقَالَ : ( مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ ) ؟ قَالُوا : اِبْن الْأَكْوَع . قَالَ : ( لَهُ سَلَبه أَجْمَعُ ) . فَهَذَا سَلَمَة قَتَلَهُ هَارِبًا غَيْر مُقْبِل , وَأَعْطَاهُ سَلَبه . وَفِيهِ حُجَّة لِمَالِكٍ مِنْ أَنَّ السَّلَب لَا يَسْتَحِقّهُ الْقَاتِل إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام , إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَهُ بِنَفْسِ الْقَتْل لَمَا اِحْتَاجَ إِلَى تَكْرِير هَذَا الْقَوْل . وَمِنْ حُجَّته أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَنْ الْأَسْوَد بْن قَيْس عَنْ بِشْر بْن عَلْقَمَة قَالَ : بَارَزْت رَجُلًا يَوْم الْقَادِسِيَّة فَقَتَلْته وَأَخَذْت سَلَبَهُ , فَأَتَيْت سَعْدًا فَخَطَبَ سَعْد أَصْحَابه ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَلَبَ بِشْر بْن عَلْقَمَة , فَهُوَ خَيْر مِنْ اِثْنَيْ عَشَرَ أَلْف دِرْهَم , وَإِنَّا قَدْ نَفَّلْنَاهُ إِيَّاهُ . فَلَوْ كَانَ السَّلَب لِلْقَاتِلِ قَضَاء مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اِحْتَاجَ الْأَمْر أَنْ يُضِيفُوا ذَلِكَ إِلَى أَنْفُسهمْ بِاجْتِهَادِهِمْ , وَلَأَخَذَهُ الْقَاتِل دُونَ أَمْرهمْ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي الصَّحِيح أَنَّ مُعَاذَ بْن عَمْرو بْن الْجَمُوح وَمُعَاذ بْن عَفْرَاء ضَرَبَا أَبَا جَهْل بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ , فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : . ( أَيّكُمَا قَتَلَهُ ) ؟ فَقَالَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا : أَنَا قَتَلْته . فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ : ( كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ) وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْن عَمْرو بْن الْجَمُوح , وَهَذَا نَصّ عَلَى أَنَّ السَّلَب لَيْسَ لِلْقَاتِلِ , إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ لَقَسَمَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنهمَا . وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا عَنْ عَوْف بْن مَالِك قَالَ : خَرَجْت مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْد بْن حَارِثَة فِي غَزْوَة مُؤْتَة , وَرَافَقَنِي مَدَدِيّ مِنْ الْيَمَن . وَسَاقَ الْحَدِيث , وَفِيهِ : فَقَالَ عَوْف : يَا خَالِد , أَمَا عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ ؟ قَالَ : بَلَى , وَلَكِنِّي اِسْتَكْثَرْته . وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْر الْبُرْقَانِيّ بِإِسْنَادِهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ مُسْلِم , وَزَادَ فِيهِ بَيَانًا أَنَّ عَوْفَ بْن مَالِك قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُخَمِّس السَّلَب , وَإِنَّ مَدَدِيًّا كَانَ رَفِيقًا لَهُمْ فِي غَزْوَة مُؤْتَة فِي طَرَف مِنْ الشَّام , قَالَ : فَجَعَلَ رُومِيّ مِنْهُمْ يَشْتَدّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ عَلَى فَرَس أَشْقَر وَسَرْج مُذْهَب وَمِنْطَقَة مُلَطَّخَة وَسَيْف مُحَلًّى بِذَهَبٍ . قَالَ : فَيُغْرِي بِهِمْ , قَالَ : فَتَلَطَّفَ لَهُ الْمَدَدِيّ حَتَّى مَرَّ بِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَ فَرَسه فَوَقَعَ , وَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ سِلَاحَهُ . قَالَ : فَأَعْطَاهُ خَالِد بْن الْوَلِيد وَحَبَسَ مِنْهُ , قَالَ عَوْف : فَقُلْت لَهُ أَعْطِهِ كُلَّهُ , أَلَيْسَ قَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( السَّلَب لِلْقَاتِلِ ) ! قَالَ : بَلَى , وَلَكِنِّي اِسْتَكْثَرْته . قَالَ عَوْف : وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَلَام , فَقُلْت لَهُ : لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ عَوْف : فَلَمَّا اِجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَوْف ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لِخَالِدٍ : ( لِمَ لَمْ تُعْطِهِ ) ؟ قَالَ فَقَالَ : اِسْتَكْثَرْته . قَالَ : ( فَادْفَعْهُ إِلَيْهِ ) فَقُلْت لَهُ : أَلَمْ أُنْجِز لَك مَا وَعَدْتُك ؟ قَالَ : فَغَضِبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( يَا خَالِد لَا تَدْفَعهُ إِلَيْهِ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي ) . فَهَذَا يَدُلّ دَلَالَة وَاضِحَة عَلَى أَنَّ السَّلَب لَا يَسْتَحِقّهُ الْقَاتِل بِنَفْسِ الْقَتْل بَلْ بِرَأْيِ الْإِمَام وَنَظَره . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : لَا يَكُون السَّلَب لِلْقَاتِلِ إِلَّا فِي الْمُبَارَزَة خَاصَّة .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَخْمِيس السَّلَب , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يُخَمَّس . وَقَالَ إِسْحَاق : إِنْ كَانَ السَّلَب يَسِيرًا فَهُوَ لِلْقَاتِلِ , وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا خُمِّسَ . وَفَعَلَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب مَعَ الْبَرَاء بْن مَالِك حِين بَارَزَ الْمَرْزُبَان فَقَتَلَهُ , فَكَانَتْ قِيمَة مِنْطَقَته وَسِوَارَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَخَمَّسَ ذَلِكَ . أَنَس عَنْ الْبَرَاء بْن مَالِك أَنَّهُ قَتَلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِائَةَ رَجُل إِلَّا رَجُلًا مُبَارَزَة , وَأَنَّهُمْ لَمَّا غَزَوْا الزَّارَة خَرَجَ دِهْقَان الزَّارَة فَقَالَ : رَجُل وَرَجُل , فَبَرَزَ الْبَرَاء فَاخْتَلَفَا بِسَيْفَيْهِمَا ثُمَّ اِعْتَنَقَا فَتَوَرَّكَهُ الْبَرَاء فَقَعَدَ عَلَى كَبِده , ثُمَّ أَخَذَ السَّيْفَ فَذَبَحَهُ , وَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَمِنْطَقَتَهُ وَأَتَى بِهِ عُمَرَ , فَنَفَّلَهُ السِّلَاح وَقَوَّمَ الْمِنْطَقَةَ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا فَخَمَّسَهَا , وَقَالَ : إِنَّهَا مَال . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَكْحُول : السَّلَب مَغْنَم وَفِيهِ الْخُمُس . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب . وَالْحُجَّة لِلشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَوْف بْن مَالِك الْأَشْجَعِيّ وَخَالِد بْن الْوَلِيد أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي السَّلَب لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمِّس السَّلَب .
ذَهَبَ جُمْهُور الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ السَّلَب لَا يُعْطَى لِلْقَاتِلِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى قَتْله . قَالَ أَكْثَرهمْ : وَيُجْزِئ شَاهِد وَاحِد , عَلَى حَدِيث أَبِي قَتَادَة . وَقِيلَ : شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِد وَيَمِين . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يُعْطَاهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ , وَلَيْسَتْ الْبَيِّنَة : شَرْطًا فِي الِاسْتِحْقَاق , بَلْ إِنْ اِتَّفَقَ ذَلِكَ فَهُوَ الْأَوْلَى دَفْعًا لِلْمُنَازَعَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أَبَا قَتَادَة سَلَبَ مَقْتُول مِنْ غَيْر شَهَادَة وَلَا يَمِين . وَلَا تَكْفِي شَهَادَة وَاحِد , وَلَا يُنَاط بِهَا حُكْم بِمُجَرَّدِهَا . وَبِهِ قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد .
قُلْت : سَمِعْت شَيْخنَا الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ الشَّافِعِيَّ أَبَا مُحَمَّد عَبْد الْعَظِيم يَقُول : إِنَّمَا أَعْطَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَب بِشَهَادَةِ الْأَسْوَد بْن خُزَاعِيّ وَعَبْد اللَّه بْن أُنَيْسٍ . وَعَلَى هَذَا يَنْدَفِع النِّزَاع وَيَزُول الْإِشْكَال , وَيَطَّرِد الْحُكْم . وَأَمَّا الْمَالِكِيَّة فَيَخْرُج عَلَى قَوْلهمْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاج الْإِمَام فِيهِ إِلَى بَيِّنَة , لِأَنَّهُ مِنْ الْإِمَام اِبْتِدَاء عَطِيَّة , فَإِنْ شَرَطَ الشَّهَادَة كَانَ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِط جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ غَيْر شَهَادَة .
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّلَب مَا هُوَ , فَأَمَّا السِّلَاح وَكُلّ مَا يَحْتَاج لِلْقِتَالِ فَلَا خِلَاف أَنَّهُ مِنْ السَّلَب , وَفَرَسه إِنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ وَصُرِعَ عَنْهُ . وَقَالَ أَحْمَد فِي الْفَرَس : لَيْسَ مِنْ السَّلَب . وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي هِمْيَانه وَفِي مِنْطَقَته دَنَانِير أَوْ جَوَاهِر أَوْ نَحْو هَذَا , فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السَّلَب . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ لِلْحَرْبِ , فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : ذَلِكَ كُلّه مِنْ السَّلَب . وَقَالَتْ فِرْقَة : لَيْسَ مِنْ السَّلَب . وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ سَحْنُون رَحِمَهُ اللَّه , إِلَّا الْمِنْطَقَة فَإِنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ السَّلَب . وَقَالَ اِبْن حَبِيب فِي الْوَاضِحَة : وَالسِّوَارَانِ مِنْ السَّلَب .
: قَوْله تَعَالَى : " فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " قَالَ أَبُو عُبَيْد : هَذَا نَاسِخ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَوَّل السُّورَة " قُلْ الْأَنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول " [ الْأَنْفَال : 1 ] وَلَمْ يُخَمِّس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِم بَدْر , فَنُسِخَ حُكْمه فِي تَرْك التَّخْمِيس بِهَذَا . إِلَّا أَنَّهُ يَظْهَر مِنْ قَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي صَحِيح مُسْلِم " كَانَ لِي شَارِف مِنْ نَصِيبِي مِنْ الْمَغْنَم يَوْم بَدْر , وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنْ الْخُمُس يَوْمئِذٍ " الْحَدِيث - أَنَّهُ خَمَّسَ , فَإِنَّهُ كَانَ هَذَا فَقَوْل أَبِي عُبَيْد مَرْدُود . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْخُمُس الَّذِي ذَكَرَ عَلِيّ مِنْ إِحْدَى الْغَزَوَات الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَدْر وَأُحُد , فَقَدْ كَانَتْ غَزْوَة بَنِي سُلَيْم وَغَزْوَة بَنِي الْمُصْطَلِق وَغَزْوَة ذِي أَمَر وَغَزْوَة بُحْرَان , وَلَمْ يُحْفَظ فِيهَا قِتَال , وَلَكِنْ يُمْكِن أَنْ غُنِمَتْ غَنَائِم . وَاَللَّه أَعْلَم .
قُلْت : وَهَذَا التَّأْوِيل يَرُدّهُ قَوْل عَلِيّ يَوْمئِذٍ , وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى يَوْم قَسْم غَنَائِم بَدْر , إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخُمُس إِنْ كَانَ لَمْ يَقَع فِي بَدْر تَخْمِيس , مِنْ خُمُس سَرِيَّة عَبْد اللَّه بْن جَحْش فَإِنَّهَا أَوَّل غَنِيمَة غُنِمَتْ فِي الْإِسْلَام , وَأَوَّل خُمُس كَانَ فِي الْإِسْلَام , ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآن " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " . وَهَذَا أَوْلَى مِنْ التَّأْوِيل الْأَوَّل . وَاَللَّه أَعْلَم .
" مَا " فِي قَوْل . " مَا غَنِمْتُمْ " بِمَعْنَى الَّذِي وَالْهَاء مَحْذُوفَة , أَيْ الَّذِي غَنِمْتُمُوهُ . وَدَخَلَتْ الْفَاء لِأَنَّ فِي الْكَلَام مَعْنَى الْمُجَازَاة . وَ " أَنَّ " الثَّانِيَةَ تَوْكِيد لِلْأُولَى , وَيَجُوز كَسْرهَا , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو . قَالَ الْحَسَن : هَذَا مِفْتَاح كَلَام , الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لِلَّهِ , ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ . وَاسْتَفْتَحَ عَزَّ وَجَلَّ الْكَلَام فِي الْفَيْء وَالْخُمُس بِذِكْرِ نَفْسه , لِأَنَّهُمَا أَشْرَف الْكَسْب , وَلَمْ يَنْسُب الصَّدَقَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّهَا أَوْسَاخ النَّاس .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة قَسْم الْخُمُس عَلَى أَقْوَال سِتَّة :
الْأَوَّل : قَالَتْ طَائِفَة : يُقْسَمُ الْخُمُس عَلَى سِتَّة , فَيُجْعَل السُّدُسَ لِلْكَعْبَةِ , وَهُوَ الَّذِي لِلَّهِ . وَالثَّانِي لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّالِث لِذَوِي الْقُرْبَى . وَالرَّابِع لِلْيَتَامَى . وَالْخَامِس لِلْمَسَاكِينِ . وَالسَّادِس لِابْنِ السَّبِيل . وَقَالَ بَعْض أَصْحَاب هَذَا الْقَوْل : يُرَدُّ السَّهْمَ الَّذِي لِلَّهِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَة .
الثَّانِي : قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَالرَّبِيع : تُقْسَم الْغَنِيمَة عَلَى خَمْسَة , فَيُعْزَل مِنْهَا سَهْم وَاحِد , وَتُقْسَم الْأَرْبَعَة عَلَى النَّاس , ثُمَّ يَضْرِب بِيَدِهِ عَلَى السَّهْم الَّذِي عَزَلَهُ فَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْء جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ , ثُمَّ يَقْسِم بَقِيَّةَ السَّهْم الَّذِي عَزَلَهُ عَلَى خَمْسَةٍ , سَهْم لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَسَهْم لِذَوِي الْقُرْبَى , وَسَهْم لِلْيَتَامَى , وَسَهْم لِلْمَسَاكِينِ , وَسَهْم لِابْنِ السَّبِيل .
الثَّالِث : قَالَ الْمِنْهَال بْن عَمْرو : سَأَلْت عَبْدَ اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ وَعَلِيّ بْن الْحُسَيْن عَنْ الْخُمُس فَقَالَ : هُوَ لَنَا . قُلْت لِعَلِيٍّ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول : " وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل " فَقَالَ : أَيْتَامُنَا وَمَسَاكِينُنَا .
الرَّابِع : قَالَ الشَّافِعِيّ : يُقْسَمُ عَلَى خَمْسَة . وَرَأَى أَنَّ سَهْم اللَّه وَرَسُوله وَاحِد , وَأَنَّهُ يُصْرَف فِي مَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ , وَالْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس عَلَى الْأَرْبَعَة الْأَصْنَاف الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَة .
الْخَامِس : قَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُقْسَم عَلَى ثَلَاثَة : الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل . وَارْتَفَعَ عِنْدَهُ حُكْم قَرَابَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ , كَمَا اِرْتَفَعَ حُكْم سَهْمه . قَالُوا : وَيَبْدَأ مِنْ الْخُمُس بِإِصْلَاحِ الْقَنَاطِر , وَبِنَاء الْمَسَاجِد , وَأَرْزَاق الْقُضَاة وَالْجُنْد , وَرُوِيَ نَحْو هَذَا عَنْ الشَّافِعِيّ أَيْضًا .
السَّادِس : قَالَ مَالِك : هُوَ مَوْكُول إِلَى نَظَر الْإِمَام وَاجْتِهَاده , فَيَأْخُذ مِنْهُ مِنْ غَيْر تَقْدِير , وَيُعْطِي مِنْهُ الْقَرَابَة بِاجْتِهَادٍ , وَيَصْرِف الْبَاقِيَ فِي مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ . وَبِهِ قَالَ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة , وَبِهِ عَمِلُوا . وَعَلَيْهِ يَدُلّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُس وَالْخُمُس مَرْدُود عَلَيْكُمْ ) . فَإِنَّهُ لَمْ يَقْسِمهُ أَخْمَاسًا وَلَا أَثْلَاثًا , وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْآيَة مَنْ ذَكَرَ عَلَى وَجْه التَّنْبِيه عَلَيْهِمْ , لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهَمّ مَنْ يُدْفَع إِلَيْهِ . قَالَ الزَّجَّاج مُحْتَجًّا لِمَالِكٍ : قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْر فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل " [ الْبَقَرَة : 215 ] وَلِلرَّجُلِ جَائِز بِإِجْمَاعٍ أَنْ يُنْفِق فِي غَيْر هَذِهِ الْأَصْنَاف إِذَا رَأَى ذَلِكَ . وَذَكَر النَّسَائِيّ عَنْ عَطَاء قَالَ : خُمُس اللَّه وَخُمُس رَسُوله وَاحِد , كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِل مِنْهُ وَيَضَعهُ حَيْثُ شَاءَ وَيَصْنَع بِهِ مَا شَاءَ .
" وَلِذِي الْقُرْبَى " لَيْسَتْ اللَّام لِبَيَانِ الِاسْتِحْقَاق وَالْمِلْك , وَإِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ الْمَصْرِف وَالْمَحَلّ . وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِم أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاس وَرَبِيعَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَتَكَلَّمَ أَحَدهمَا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه , أَنْتَ أَبَرّ النَّاس , وَأَوْصَل النَّاس , وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرنَا عَلَى بَعْض هَذِهِ الصَّدَقَات , فَنُؤَدِّي إِلَيْك كَمَا يُؤَدِّي النَّاس , وَنُصِيب كَمَا يُصِيبُونَ . فَسَكَتَ طَوِيلًا حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ , قَالَ : وَجَعَلَتْ زَيْنَب تَلْمَع إِلَيْنَا مِنْ وَرَاء الْحِجَاب أَلَّا تُكَلِّمَاهُ , قَالَ : ثُمَّ قَالَ : ( إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلّ لِآلِ مُحَمَّد إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخ النَّاس اُدْعُوا لِي مَحْمِيَّة - وَكَانَ عَلَى الْخُمُس - وَنَوْفَل بْن الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِب ) قَالَ : فَجَاءَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَّة : ( أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ اِبْنَتك ) - لِلْفَضْلِ بْن عَبَّاس - فَأَنْكَحَهُ . وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْن الْحَارِث : ( أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ اِبْنَتك ) يَعْنِي رَبِيعَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب . وَقَالَ لِمَحْمِيَّة : ( أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنْ الْخُمُس كَذَا وَكَذَا ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُس وَالْخُمُس مَرْدُود عَلَيْكُمْ ) . وَقَدْ أَعْطَى جَمِيعَهُ وَبَعْضَهُ , وَأَعْطَى مِنْهُ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ , وَلَيْسَ مِمَّنْ ذَكَرَهُمْ اللَّه فِي التَّقْسِيم , فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ , وَالْمُوَفِّق الْإِلَه .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : قُرَيْش كُلّهَا , قَالَهُ بَعْض السَّلَف , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَعِدَ الصَّفَا جَعَلَ يَهْتِف : ( يَا بَنِي فُلَان يَا بَنِي عَبْد مَنَاف يَا بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب يَا بَنِي كَعْب يَا بَنِي مُرَّة يَا بَنِي عَبْد شَمْس أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّار ) الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي فِي " الشُّعَرَاء " . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَابْن جُرَيْج وَمُسْلِم بْن خَالِد : بَنُو هَاشِم وَبَنُو عَبْد الْمُطَّلِب , لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَسَمَ سَهْم ذَوِي الْقُرْبَى بَيْن بَنِي هَاشِم وَبَنِي عَبْد الْمُطَّلِب قَالَ : ( إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام إِنَّمَا بَنُو هَاشِم وَبَنُو الْمُطَّلِب شَيْء وَاحِد ) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعه , أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَالْبُخَارِيّ . قَالَ الْبُخَارِيّ : قَالَ اللَّيْث حَدَّثَنِي يُونُس , وَزَادَ : وَلَمْ يَقْسِم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْد شَمْس وَلَا لِبَنِي نَوْفَل شَيْئًا . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : وَعَبْد شَمْس وَهَاشِم وَالْمُطَّلِب إِخْوَة لِأُمٍّ , وَأُمّهمْ عَاتِكَة بِنْت مُرَّة . وَكَانَ نَوْفَل أَخَاهُمْ لِأَبِيهِمْ . قَالَ النَّسَائِيّ : وَأَسْهَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَوِي الْقُرْبَى , وَهُمْ بَنُو هَاشِم وَبَنُو الْمُطَّلِب , بَيْنَهُمْ الْغَنِيّ وَالْفَقِير . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ دُون الْغَنِيّ , كَالْيَتَامَى وَابْن السَّبِيل - وَهُوَ أَشْبَه الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي . وَاَللَّه أَعْلَم - وَالصَّغِير وَالْكَبِير وَالذَّكَر وَالْأُنْثَى سَوَاء , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ , وَقَسَمَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ . وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض . الثَّالِث : بَنُو هَاشِم خَاصَّة , قَالَهُ مُجَاهِد وَعَلِيّ بْن الْحُسَيْن . وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَغَيْرهمْ .
لَمَّا بَيَّنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حُكْم الْخُمُس وَسَكَتَ عَنْ الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس , دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مِلْك لِلْغَانِمِينَ . وَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( وَأَيّمَا قَرْيَة عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَرَسُوله ثُمَّ هِيَ لَكُمْ ) . وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْن الْأُمَّة وَلَا بَيْن الْأَئِمَّة , عَلَى مَا حَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي ( أَحْكَامه ) وَغَيْره . بَيْد أَنَّ الْإِمَامَ إِنْ رَأَى أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأُسَارَى بِالْإِطْلَاقِ فَعَلَ , وَبَطَلَتْ حُقُوق الْغَانِمِينَ فِيهِمْ , كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثُمَامَةَ بْن أُثَال وَغَيْره , وَقَالَ : ( لَوْ كَانَ الْمُطْعِم بْن عَدِيّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى - يَعْنِي أُسَارَى بَدْر - لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . مُكَافَأَة لَهُ لِقِيَامِهِ فِي شَأْن نَقْض الصَّحِيفَة . وَلَهُ أَنْ يَقْتُل جَمِيعَهُمْ , وَقَدْ قَتَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط مِنْ بَيْن الْأَسْرَى صَبْرًا , وَكَذَلِكَ النَّضْر بْن الْحَارِث قَتَلَهُ بِالصَّفْرَاءِ صَبْرًا , وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ . وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْم كَسَهْمِ الْغَانِمِينَ , حَضَرَ أَوْ غَابَ . وَسَهْم الصَّفِيّ , يَصْطَفِي سَيْفًا أَوْ سَهْمًا أَوْ خَادِمًا أَوْ دَابَّة . وَكَانَتْ صَفِيَّة بِنْت حُيَيّ مِنْ الصَّفِيّ مِنْ غَنَائِم خَيْبَر . وَكَذَلِكَ ذُو الْفَقَار كَانَ مِنْ الصَّفِيّ . وَقَدْ اِنْقَطَعَ بِمَوْتِهِ , إِلَّا عِنْدَ أَبِي ثَوْر فَإِنَّهُ رَآهُ بَاقِيًا لِلْإِمَامِ يَجْعَلهُ مَجْعَل سَهْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَتْ الْحِكْمَة فِي ذَلِكَ أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَرَوْنَ لِلرَّئِيسِ رُبُع الْغَنِيمَة . قَالَ شَاعِرهمْ : لَك الْمِرْبَاع مِنْهَا وَالصَّفَايَا وَحُكْمُك وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ وَقَالَ آخَر : مِنَّا الَّذِي رَبَعَ الْجُيُوشَ , لِصُلْبِهِ عِشْرُونَ وَهْوَ يُعَدُّ فِي الْأَحْيَاءِ
يُقَال : رَبَعَ الْجَيْش يَرْبَعهُ رَبَاعَةً إِذَا أَخَذَ رُبُع الْغَنِيمَة . قَالَ الْأَصْمَعِيّ : رُبُع فِي الْجَاهِلِيَّة وَخُمُس فِي الْإِسْلَام , فَكَانَ يَأْخُذ بِغَيْرِ شَرْع وَلَا دِين الرُّبُعَ مِنْ الْغَنِيمَة , وَيَصْطَفِي مِنْهَا , ثُمَّ يَتَحَكَّم بَعْد الصَّفِيّ فِي أَيّ شَيْء أَرَادَ , وَكَانَ مَا شَذَّ مِنْهَا وَمَا فَضَلَ مِنْ خُرْثِيّ وَمَتَاع لَهُ . فَأَحْكَمَ اللَّه سُبْحَانَهُ الدِّين بِقَوْلِهِ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء - فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " . وَأَبْقَى سَهْم الصَّفِيّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْقَطَ حُكْم الْجَاهِلِيَّة . وَقَالَ عَامِر الشَّعْبِيّ : كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْم يُدْعَى الصَّفِيّ إِنْ شَاءَ عَبْدًا أَوْ أَمَة أَوْ فَرَسًا يَخْتَارهُ قَبْل الْخُمُس , أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ . وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُول : ( أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَك الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْك تَرْأَس وَتَرْبَع ) الْحَدِيث . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . " تَرْبَع " بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة مِنْ تَحْتهَا : تَأْخُذ الْمِرْبَاعَ , أَيْ الرُّبُعَ مِمَّا يَحْصُل لِقَوْمِك مِنْ الْغَنَائِم وَالْكَسْب . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِلَى أَنَّ خُمُس الْخُمُس كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفهُ فِي كِفَايَة أَوْلَاده وَنِسَائِهِ , وَيَدَّخِر مِنْ ذَلِكَ قُوتَ سَنَته , وَيَصْرِف الْبَاقِيَ فِي الْكُرَاع وَالسِّلَاح . وَهَذَا يَرُدّهُ مَا رَوَاهُ عُمَر قَالَ : كَانَتْ أَمْوَال بَنِي النَّضِير مِمَّا أَفَاءَ - اللَّه عَلَى رَسُوله مِمَّا لَمْ يُوجِف عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ , فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة , فَكَانَ يُنْفِق عَلَى نَفْسه مِنْهَا قُوت سَنَة , وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاع وَالسِّلَاح عُدَّةً فِي سَبِيل اللَّه . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَقَالَ : ( وَالْخُمُس مَرْدُود عَلَيْكُمْ ) .
لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى دَلَالَة عَلَى تَفْضِيل الْفَارِس عَلَى الرَّاجِل , بَلْ فِيهِ أَنَّهُمْ سَوَاء , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْأَرْبَعَةَ أَخْمَاس لَهُمْ وَلَمْ يَخُصّ رَاجِلًا مِنْ فَارِس . وَلَوْلَا الْأَخْبَار الْوَارِدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ الْفَارِس كَالرَّاجِلِ , وَالْعَبْد كَالْحُرِّ , وَالصَّبِيّ كَالْبَالِغِ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قِسْمَة الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة أَهْل الْعِلْم فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ , وَلِلرَّاجِلِ سَهْم . وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِك بْن أَنَس وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة . وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل الشَّام . وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل الْعِرَاق . وَهُوَ قَوْل اللَّيْث بْن سَعْد وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْل مِصْر . وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَصْحَابه . وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَيَعْقُوب وَمُحَمَّد . قَالَ بْن الْمُنْذِر : وَلَا نَعْلَم أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ إِلَّا النُّعْمَان فَإِنَّهُ خَالَفَ فِيهِ السُّنَنَ وَمَا عَلَيْهِ جُلّ أَهْل الْعِلْم فِي الْقَدِيم وَالْحَدِيث . قَالَ : لَا يُسْهَم لِلْفَارِسِ إِلَّا سَهْم وَاحِد .
قُلْت : وَلَعَلَّهُ شُبِّهَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ , وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا . خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : قَالَ الرَّمَادِيّ كَذَا يَقُول اِبْن نُمَيْر قَالَ لَنَا النَّيْسَابُورِيّ : هَذَا عِنْدِي وَهْمٌ مِنْ اِبْن أَبِي شَيْبَة أَوْ مِنْ الرَّمَادِيّ , لِأَنَّ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَعَبْد الرَّحْمَن بْن بِشْر وَغَيْرهمَا رَوَوْهُ عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِخِلَافِ هَذَا , وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَة أَسْهُم , سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْن لِفَرَسِهِ , هَكَذَا رَوَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن بِشْر عَنْ عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر , وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا . وَهَذَا نَصّ . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ الزُّبَيْر قَالَ : أَعْطَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة أَسْهُم يَوْم بَدْر , سَهْمَيْنِ لِفَرَسِي وَسَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِأُمِّي مِنْ ذَوِي الْقَرَابَة . وَفِي رِوَايَة : وَسَهْمًا لِأُمِّهِ سَهْم ذَوِي الْقُرْبَى . وَخَرَّجَ عَنْ بَشِير بْن عَمْرو بْن مُحْصَن قَالَ : أَسْهَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرَسِي أَرْبَعَة أَسْهُم , وَلِي سَهْمًا , فَأَخَذْت خَمْسَةَ أَسْهُم . وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ رَاجِع إِلَى اِجْتِهَاد الْإِمَام , فَيَنْفُذ مَا رَأَى . وَاَللَّه أَعْلَم .
لَا يُفَاضِل بَيْنَ الْفَارِس وَالرَّاجِل بِأَكْثَر مِنْ فَرَس وَاحِد , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَس وَاحِد , لِأَنَّهُ أَكْثَر عَنَاء وَأَعْظَم مَنْفَعَة , وَبِهِ قَالَ اِبْن الْجَهْم مِنْ أَصْحَابنَا , وَرَوَاهُ سَحْنُون عَنْ اِبْن وَهْب . وَدَلِيلنَا أَنَّهُ لَمْ تَرِدْ رِوَايَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسْهَم لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَس وَاحِد , وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّة بَعْده , وَلِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا يُمْكِن أَنْ يُقَاتِلَ إِلَّا عَلَى فَرَس وَاحِد , وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَرَفَاهِيَة وَزِيَادَة عُدَّة , وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّر فِي زِيَادَة السُّهْمَان , كَاَلَّذِي مَعَهُ زِيَادَة سُيُوف أَوْ رِمَاح , وَاعْتِبَارًا بِالثَّالِثِ وَالرَّابِع . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى أَنَّهُ يُسْهَم لِمَنْ كَانَ عِنْده أَفْرَاس , لِكُلِّ فَرَس سَهْم .
لَا يُسْهَم إِلَّا لِلْعِتَاقِ مِنْ الْخَيْل , لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَرّ وَالْفَرّ , وَمَا كَانَ مِنْ الْبَرَاذِين وَالْهُجُن بِمَثَابَتِهَا فِي ذَلِكَ . وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُسْهَم لَهُ . وَقِيلَ : إِنْ أَجَازَهَا الْإِمَام أَسْهَمَ لَهَا , لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا يَخْتَلِف بِحَسَبِ الْمَوْضِع , فَالْهُجُن وَالْبَرَاذِين تَصْلُح لِلْمَوَاضِعِ الْمُتَوَعِّرَة كَالشِّعَابِ وَالْجِبَال , وَالْعِتَاق تَصْلُح لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الْكَرّ وَالْفَرّ , فَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِرَأْيِ الْإِمَام . وَالْعِتَاق : خَيْل الْعَرَب . وَالْهُجُن وَالْبَرَاذِين : خَيْل الرُّوم .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْفَرَس الضَّعِيف , فَقَالَ أَشْهَب وَابْن نَافِع : لَا يُسْهَم لَهُ , لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن الْقِتَال عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْكَسِير . وَقِيلَ : يُسْهَم لَهُ لِأَنَّهُ يُرْجَى بُرْؤُهُ . وَلَا يُسْهَم لِلْأَعْجَفِ إِذَا كَانَ فِي حَيِّز مَا لَا يُنْتَفَع بِهِ , كَمَا لَا يُسْهَم لِلْكَسِيرِ . فَأَمَّا الْمَرِيض مَرَضًا خَفِيفًا مِثْل الرَّهِيص , وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِمَّا لَا يَمْنَعهُ الْمَرَض عَنْ حُصُول الْمَنْفَعَة الْمَقْصُودَة مِنْهُ فَإِنَّهُ يُسْهَم لَهُ . وَيُعْطَى الْفَرَس الْمُسْتَعَار وَالْمُسْتَأْجَر , وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوب , وَسَهْمه لِصَاحِبِهِ . وَيَسْتَحِقّ السَّهْمَ لِلْخَيْلِ وَإِنْ كَانَتْ فِي السُّفُن وَوَقَعَتْ الْغَنِيمَة فِي الْبَحْر , لِأَنَّهَا مُعَدَّة لِلنُّزُولِ إِلَى الْبَرّ .
لَا حَقّ فِي الْغَنَائِم لِلْحَشْوَةِ كَالْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاع الَّذِينَ يَصْحَبُونَ الْجَيْش لِلْمَعَاشِ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا قِتَالًا وَلَا خَرَجُوا مُجَاهِدِينَ . وَقِيلَ : يُسْهَم لَهُمْ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْغَنِيمَة لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ جَاءَ بَيَانًا لِمَنْ بَاشَرَ الْحَرْبَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ , وَكَفَى بِبَيَانِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمُقَاتِلِينَ وَأَهْل الْمَعَاش مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ , لِكُلِّ وَاحِدَة حَالهَا فِي حُكْمهَا , فَقَالَ : " عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّه وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه " [ الْمُزَّمِّل : 20 ] إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا قَاتَلُوا لَا يَضُرّهُمْ كَوْنُهُمْ عَلَى مَعَاشِهِمْ , لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاق قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ . وَقَالَ أَشْهَب : لَا يَسْتَحِقّ أَحَد مِنْهُمْ وَإِنْ قَاتَلَ , وَبِهِ قَالَ اِبْن الْقَصَّار فِي الْأَجِير : لَا يُسْهَم لَهُ وَإِنْ قَاتَلَ . وَهَذَا يَرُدّهُ حَدِيث سَلَمَة بْن الْأَكْوَع قَالَ : كُنْت تَبِيعًا لِطَلْحَةَ بْن عُبَيْد اللَّه أَسْقِي فَرَسَهُ وَأَحُسّهُ وَأَخْدُمهُ وَآكُل مِنْ طَعَامه , الْحَدِيث . وَفِيهِ : ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ , سَهْم الْفَارِس وَسَهْم الرَّاجِل , فَجَمَعَهُمَا لِي . خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَاحْتَجَّ اِبْن الْقَصَّار وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِحَدِيثِ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف , ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق , وَفِيهِ : فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَن : ( هَذِهِ الثَّلَاثَة الدَّنَانِير حَظّه وَنَصِيبه مِنْ غَزْوَته فِي أَمْر دُنْيَاهُ وَآخِرَته ) .
فَأَمَّا الْعَبِيد وَالنِّسَاء فَمَذْهَب الْكُتَّاب أَنَّهُ لَا يُسْهَم لَهُمْ وَلَا يُرْضَخ . وَقِيلَ : يُرْضَخ لَهُمْ , وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إِنْ قَاتَلَتْ الْمَرْأَة أُسْهِمَ لَهَا . وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِلنِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَر . قَالَ : وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا . وَإِلَى هَذَا الْقَوْل مَالَ اِبْن حَبِيب مِنْ أَصْحَابنَا . خَرَّجَ مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ فِي كِتَابه إِلَى نَجْدَة : تَسْأَلنِي هَلْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ ؟ وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَيَحْذِينَ مِنْ الْغَنِيمَة , وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يُضْرَب لَهُنَّ . وَأَمَّا الصِّبْيَان فَإِنْ كَانَ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ فَفِيهِ عِنْدَنَا ثَلَاثَة أَقْوَال : الْإِسْهَام وَنَفْيه حَتَّى يَبْلُغَ , لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ . وَالتَّفْرِقَة بَيْن أَنْ يُقَاتِلَ فَيُسْهَم لَهُ أَوْ يُقَاتِل فَلَا يُسْهَم لَهُ . وَالصَّحِيح الْأَوَّل , لِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَة أَنْ يُقْتَل مِنْهُمْ مَنْ أَنْبَتَ وَيُخَلَّى مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُنْبِت . وَهَذِهِ مُرَاعَاة لِإِطَاقَةِ الْقِتَال لَا لِلْبُلُوغِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو عُمَر فِي الِاسْتِيعَاب عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدَب قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَض عَلَيْهِ الْغِلْمَان مِنْ الْأَنْصَار فَيُلْحِق مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ , فَعُرِضْت عَلَيْهِ عَامًا فَأَلْحَقَ غُلَامًا وَرَدَّنِي , فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّه , أَلْحَقْته وَرَدَدْتنِي , وَلَوْ صَارَعَنِي صَرَعْته قَالَ : فَصَارَعَنِي فَصَرَعْته فَأَلْحَقَنِي . وَأَمَّا الْعَبِيد فَلَا يُسْهَم لَهُمْ أَيْضًا وَيُرْضَخ لَهُمْ .
الْكَافِر إِذَا حَضَرَ بِإِذْنِ الْإِمَام وَقَاتَلَ فَفِي الْإِسْهَام لَهُ عِنْدَنَا ثَلَاثَة أَقْوَال : الْإِسْهَام وَنَفْيه , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَابْن الْقَاسِم . زَادَ اِبْن حَبِيب : وَلَا نَصِيب لَهُمْ . وَيُفَرَّق فِي الثَّالِث - وَهُوَ لِسَحْنُون - بَيْن أَنْ يَسْتَقِلّ الْمُسْلِمُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يُسْهَم لَهُ , أَوْ لَا يَسْتَقِلُّوا وَيَفْتَقِرُوا إِلَى مَعُونَته فَيُسْهَم لَهُ . فَإِنْ لَمْ يُقَاتِل فَلَا يَسْتَحِقّ شَيْئًا . وَكَذَلِكَ الْعَبِيد مَعَ الْأَحْرَار . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ : إِذَا اُسْتُعِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّة أُسْهِمَ لَهُمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا يُسْهَم لَهُمْ , وَلَكِنْ يُرْضَخ لَهُمْ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : يَسْتَأْجِرهُمْ الْإِمَام مِنْ مَال لَا مَالِكَ لَهُ بِعَيْنِهِ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَل أَعْطَاهُمْ سَهْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر : يُرْضَخ لِلْمُشْرِكِينَ إِذَا قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ أَبُو عُمَر : اِتَّفَقَ الْجَمِيع أَنَّ الْعَبْدَ , وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوز أَمَانه , إِذَا قَاتَلَ لَمْ يُسْهَم لَهُ وَلَكِنْ يُرْضَخ , فَالْكَافِر بِذَلِكَ أَوْلَى أَلَّا يُسْهَم لَهُ .
لَوْ خَرَجَ الْعَبْد وَأَهْل الذِّمَّة لُصُوصًا وَأَخَذُوا مَالَ أَهْل الْحَرْب فَهُوَ لَهُمْ وَلَا يُخَمَّس , لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي عُمُوم قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ " أَحَد مِنْهُمْ وَلَا مِنْ النِّسَاء . فَأَمَّا الْكُفَّار فَلَا مَدْخَل لَهُمْ مِنْ غَيْر خِلَاف . وَقَالَ سَحْنُون . لَا يُخَمَّس مَا يَنُوب الْعَبْد . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُخَمَّس , لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّده فِي الْقِتَال وَيُقَاتِل عَلَى الدِّين , بِخِلَافِ الْكَافِر . وَقَالَ أَشْهَب فِي كِتَاب مُحَمَّد : إِذَا خَرَجَ الْعَبْد وَالذِّمِّيّ مِنْ الْجَيْش وَغَنِمَا فَالْغَنِيمَة لِلْجَيْشِ دُونَهُمْ .
سَبَب اِسْتِحْقَاق السَّهْم شُهُود الْوَقْعَة لِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . فَلَوْ شَهِدَ آخِر الْوَقْعَة اِسْتَحَقَّ . وَلَوْ حَضَرَ بَعْد اِنْقِضَاء الْقِتَال فَلَا . وَلَوْ غَابَ بِانْهِزَامٍ فَكَذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ قَصَدَ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَة فَلَا يَسْقُط اِسْتِحْقَاقه . رَوَى الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَانَ بْن سَعِيد عَلَى سَرِيَّة مِنْ الْمَدِينَة قِبَلَ نَجْد , فَقَدِمَ أَبَان بْن سَعِيد وَأَصْحَابه عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا , وَإِنَّ حُزُم خَيْلهمْ لِيف , فَقَالَ أَبَان : اِقْسِمْ لَنَا يَا رَسُول اللَّه . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : فَقُلْت لَا تَقْسِم لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّه . فَقَالَ أَبَان : أَنْتَ بِهَا يَا وَبْر تَحَدَّرَ عَلَيْنَا مِنْ رَأْس ضَالٍ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِجْلِسْ يَا أَبَان ) وَلَمْ يَقْسِم لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ خَرَجَ لِشُهُودِ الْوَقْعَة فَمَنَعَهُ الْعُذْر مِنْهُ كَمَرَضٍ , فَفِي ثُبُوت الْإِسْهَام لَهُ وَنَفْيه ثَلَاثَة أَقْوَال : يُفَرَّق فِي الثَّالِث , وَهُوَ الْمَشْهُور , فَيُثْبِتهُ إِنْ كَانَ الضَّلَال قَبْل الْقِتَال وَبَعْد الْإِدْرَاب , وَهُوَ الْأَصَحّ , قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . وَيَنْفِيه إِنْ كَانَ قَبْلَهُ . وَكَمَنَ بَعَثَهُ الْأَمِير مِنْ الْجَيْش فِي أَمْر مِنْ مَصْلَحَة الْجَيْش فَشَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ شُهُود الْوَقْعَة فَإِنَّهُ يُسْهَم لَهُ , قَالَهُ اِبْن الْمَوَّاز , وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب وَابْن نَافِع عَنْ مَالِك . وَرُوِيَ لَا يُسْهَم لَهُ بَلْ يُرْضَخ لَهُ لِعَدَمِ السَّبَب الَّذِي يَسْتَحِقّ بِهِ السَّهْم , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ أَشْهَب : يُسْهَم لِلْأَسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَدِيد . وَالصَّحِيح أَنَّهُ لَا يُسْهَم لَهُ , لِأَنَّهُ مِلْك مُسْتَحَقّ بِالْقِتَالِ , فَمَنْ غَابَ أَوْ حَضَرَ مَرِيضًا كَمَنْ لَمْ يَحْضُر .
الْغَائِب الْمُطْلَق لَا يُسْهَم لَهُ , وَلَمْ يُسْهِم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَائِبٍ قَطُّ إِلَّا يَوْم خَيْبَر , فَإِنَّهُ أَسْهَمَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَة مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَابَ , لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَعَدَكُمْ اللَّه مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا " [ الْفَتْح : 20 ] , قَالَهُ مُوسَى بْن عُقْبَة . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف . وَقَسَمَ يَوْم بَدْر لِعُثْمَان وَلِسَعِيدِ بْن زَيْد وَطَلْحَة , وَكَانُوا غَائِبِينَ , فَهُمْ كَمَنْ حَضَرَهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَأَمَّا عُثْمَان فَإِنَّهُ تَخَلَّفَ عَلَى رُقَيَّة بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ مِنْ أَجْل مَرَضهَا . فَضَرَبَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْره , فَكَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا . وَأَمَّا طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه فَكَانَ بِالشَّامِ فِي تِجَارَة فَضَرَبَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْره , فَيُعَدّ لِذَلِكَ فِي أَهْل بَدْر . وَأَمَّا سَعِيد بْن زَيْد فَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ أَيْضًا فَضَرَبَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْره . فَهُوَ مَعْدُود فِي الْبَدْرِيِّينَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا أَهْل الْحُدَيْبِيَة فَكَانَ مِيعَادًا مِنْ اللَّه اِخْتَصَّ بِهِ أُولَئِكَ النَّفَر فَلَا يُشَارِكهُمْ فِيهِ غَيْرهمْ . وَأَمَّا عُثْمَان وَسَعِيد وَطَلْحَة فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ أَسْهَمَ لَهُمْ مِنْ الْخُمُس , لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَة عَلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ لِعُذْرٍ فَلَا يُسْهِم لَهُ .
قُلْت : الظَّاهِر أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوص بِعُثْمَان وَطَلْحَة وَسَعِيد فَلَا يُقَاس عَلَيْهِمْ غَيْرهمْ . وَأَنَّ سَهْمَهُمْ كَانَ مِنْ صُلْب الْغَنِيمَة كَسَائِرِ مَنْ حَضَرَهَا لَا مِنْ الْخُمُس . هَذَا الظَّاهِر مِنْ الْأَحَادِيث وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : لَمَّا تَغَيَّبَ عُثْمَان عَنْ بَدْر فَإِنَّهُ كَانَ تَحْته اِبْنَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَة , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لَك أَجْر رَجُل مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمه ) .
قَوْله تَعَالَى " إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ " قَالَ الزَّجَّاج عَنْ فِرْقَة : الْمَعْنَى فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ إِنْ كُنْتُمْ , فَ ( إِنْ ) مُتَعَلِّقَة بِهَذَا الْوَعْد . وَقَالَتْ فِرْقَة : إِنَّ ( إِنْ ) مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ " . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , لِأَنَّ قَوْلَهُ " وَاعْلَمُوا " يَتَضَمَّن الْأَمْر بِالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيم لِأَمْرِ اللَّه فِي الْغَنَائِم , فَعَلَّقَ ( إِنْ ) بِقَوْلِهِ : " وَاعْلَمُوا " عَلَى هَذَا الْمَعْنَى , أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ فَانْقَادُوا وَسَلِّمُوا لِأَمْرِ اللَّه فِيمَا أَعْلَمَكُمْ بِهِ مِنْ حَال قِسْمَة الْغَنِيمَة .
( مَا ) فِي مَوْضِع خَفْض عَطْف عَلَى اِسْم اللَّه " يَوْمَ الْفُرْقَان " أَيْ الْيَوْم الَّذِي فَرَّقْت فِيهِ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِل , وَهُوَ يَوْم بَدْر .
حِزْب اللَّه وَحِزْب الشَّيْطَان . " وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير "
إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ↓
أَيْ أَنْزَلْنَا إِذْ أَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَة . أَوْ يَكُون الْمَعْنَى : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ . وَالْعُدْوَة : جَانِب الْوَادِي . وَقُرِئَ بِضَمِّ الْعَيْن وَكَسْرهَا , فَعَلَى الضَّمّ يَكُون الْجَمْع عُدًى , وَعَلَى الْكَسْر عِدًى , مِثْل لِحْيَة وَلِحًى , وَفِرْيَة وَفِرًى . وَالدُّنْيَا : تَأْنِيث الْأَدْنَى . وَالْقُصْوَى : تَأْنِيث الْأَقْصَى . مِنْ دَنَا يَدْنُو , وَقَصَا يَقْصُو . وَيُقَال : الْقُصْيَا , وَالْأَصْل الْوَاو , وَهِيَ لُغَة أَهْل الْحِجَاز قُصْوَى . فَالدُّنْيَا كَانَتْ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة , وَالْقُصْوَى مِمَّا يَلِي مَكَّة . أَيْ إِذْ أَنْتُمْ نُزُول بِشَفِيرِ الْوَادِي بِالْجَانِبِ الْأَدْنَى إِلَى الْمَدِينَة , وَعَدُوّكُمْ بِالْجَانِبِ الْأَقْصَى .
يَعْنِي رَكْب أَبِي سُفْيَان وَغَيْره . كَانُوا فِي مَوْضِع أَسْفَل مِنْهُمْ إِلَى سَاحِل الْبَحْر فِيهِ الْأَمْتِعَة . وَقِيلَ : هِيَ الْإِبِل الَّتِي كَانَتْ تَحْمِل أَمْتِعَتَهُمْ , وَكَانَتْ فِي مَوْضِع يَأْمَنُونَ عَلَيْهَا تَوْفِيقًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ , فَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ . " الرَّكْب " اِبْتِدَاء " أَسْفَل مِنْكُمْ " ظَرْف فِي مَوْضِع الْخَبَر . أَيْ مَكَانًا أَسْفَل مِنْكُمْ . وَأَجَازَ الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء " وَالرَّكْب أَسْفَلُ مِنْكُمْ " أَيْ أَشَدّ تَسَفُّلًا مِنْكُمْ . وَالرَّكْب جَمْع رَاكِب . وَلَا تَقُول الْعَرَب : رَكْب إِلَّا لِلْجَمَاعَةِ الرَّاكِبِي الْإِبِل . وَحَكَى اِبْن السِّكِّيت وَأَكْثَر أَهْل اللُّغَة أَنَّهُ لَا يُقَال رَاكِب وَرَكْب إِلَّا لِلَّذِي عَلَى الْإِبِل , وَلَا يُقَال لِمَنْ كَانَ عَلَى فَرَس أَوْ غَيْرهَا رَاكِب . وَالرَّكْب وَالْأَرْكُب وَالرُّكْبَان وَالرَّاكِبُونَ لَا يَكُونُونَ إِلَّا عَلَى جِمَال , عَنْ اِبْن فَارِس .
أَيْ لَمْ يَكُنْ يَقَع الِاتِّفَاق لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتكُمْ , فَإِنَّكُمْ لَوْ عَرَفْتُمْ كَثْرَتهمْ لَتَأَخَّرْتُمْ فَوَفَّقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَكُمْ .
مِنْ نَصْر الْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَار الدِّين . وَاللَّام فِي ( لِيَقْضِيَ ) مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ . وَالْمَعْنَى : جَمَعَهُمْ لِيَقْضِيَ اللَّه , ثُمَّ كَرَّرَهَا فَقَالَ : " لِيَهْلِك " أَيْ جَمَعَهُمْ هُنَالِكَ لِيَقْضِيَ أَمْرًا .
( مَنْ ) فِي مَوْضِع رَفْع . ( وَيَحْيَا ) فِي مَوْضِع نَصْب عَطْف عَلَى لِيَهْلِك . وَالْبَيِّنَة إِقَامَة الْحُجَّة وَالْبُرْهَان . أَيْ لِيَمُوتَ مَنْ يَمُوت عَنْ بَيِّنَة رَآهَا وَعِبْرَة عَايَنَهَا , فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّة . وَكَذَلِكَ حَيَاة مَنْ يَحْيَا . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : لِيَكْفُر مَنْ كَفَرَ بَعْد حُجَّة قَامَتْ عَلَيْهِ وَقَطَعَتْ عُذْره , وَيُؤْمِن مَنْ آمَنَ عَلَى ذَلِكَ . وَقُرِئَ " مَنْ حَيِيَ " بِيَاءَيْنِ عَلَى الْأَصْل . وَبِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَة , الْأُولَى قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَالْبَزِّيّ وَأَبِي بَكْر . وَالثَّانِيَة قِرَاءَة الْبَاقِينَ , وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد , لِأَنَّهَا كَذَلِكَ وَقَعَتْ فِي الْمُصْحَف .
يَعْنِي رَكْب أَبِي سُفْيَان وَغَيْره . كَانُوا فِي مَوْضِع أَسْفَل مِنْهُمْ إِلَى سَاحِل الْبَحْر فِيهِ الْأَمْتِعَة . وَقِيلَ : هِيَ الْإِبِل الَّتِي كَانَتْ تَحْمِل أَمْتِعَتَهُمْ , وَكَانَتْ فِي مَوْضِع يَأْمَنُونَ عَلَيْهَا تَوْفِيقًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ , فَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ . " الرَّكْب " اِبْتِدَاء " أَسْفَل مِنْكُمْ " ظَرْف فِي مَوْضِع الْخَبَر . أَيْ مَكَانًا أَسْفَل مِنْكُمْ . وَأَجَازَ الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء " وَالرَّكْب أَسْفَلُ مِنْكُمْ " أَيْ أَشَدّ تَسَفُّلًا مِنْكُمْ . وَالرَّكْب جَمْع رَاكِب . وَلَا تَقُول الْعَرَب : رَكْب إِلَّا لِلْجَمَاعَةِ الرَّاكِبِي الْإِبِل . وَحَكَى اِبْن السِّكِّيت وَأَكْثَر أَهْل اللُّغَة أَنَّهُ لَا يُقَال رَاكِب وَرَكْب إِلَّا لِلَّذِي عَلَى الْإِبِل , وَلَا يُقَال لِمَنْ كَانَ عَلَى فَرَس أَوْ غَيْرهَا رَاكِب . وَالرَّكْب وَالْأَرْكُب وَالرُّكْبَان وَالرَّاكِبُونَ لَا يَكُونُونَ إِلَّا عَلَى جِمَال , عَنْ اِبْن فَارِس .
أَيْ لَمْ يَكُنْ يَقَع الِاتِّفَاق لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتكُمْ , فَإِنَّكُمْ لَوْ عَرَفْتُمْ كَثْرَتهمْ لَتَأَخَّرْتُمْ فَوَفَّقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَكُمْ .
مِنْ نَصْر الْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَار الدِّين . وَاللَّام فِي ( لِيَقْضِيَ ) مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ . وَالْمَعْنَى : جَمَعَهُمْ لِيَقْضِيَ اللَّه , ثُمَّ كَرَّرَهَا فَقَالَ : " لِيَهْلِك " أَيْ جَمَعَهُمْ هُنَالِكَ لِيَقْضِيَ أَمْرًا .
( مَنْ ) فِي مَوْضِع رَفْع . ( وَيَحْيَا ) فِي مَوْضِع نَصْب عَطْف عَلَى لِيَهْلِك . وَالْبَيِّنَة إِقَامَة الْحُجَّة وَالْبُرْهَان . أَيْ لِيَمُوتَ مَنْ يَمُوت عَنْ بَيِّنَة رَآهَا وَعِبْرَة عَايَنَهَا , فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّة . وَكَذَلِكَ حَيَاة مَنْ يَحْيَا . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : لِيَكْفُر مَنْ كَفَرَ بَعْد حُجَّة قَامَتْ عَلَيْهِ وَقَطَعَتْ عُذْره , وَيُؤْمِن مَنْ آمَنَ عَلَى ذَلِكَ . وَقُرِئَ " مَنْ حَيِيَ " بِيَاءَيْنِ عَلَى الْأَصْل . وَبِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَة , الْأُولَى قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَالْبَزِّيّ وَأَبِي بَكْر . وَالثَّانِيَة قِرَاءَة الْبَاقِينَ , وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد , لِأَنَّهَا كَذَلِكَ وَقَعَتْ فِي الْمُصْحَف .
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ↓
قَالَ مُجَاهِد : رَآهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامه قَلِيلًا , فَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابه , فَثَبَّتَهُمْ اللَّه بِذَلِكَ . وَقِيلَ : عُنِيَ بِالْمَنَامِ مَحَلّ النَّوْم وَهُوَ الْعَيْن , أَيْ فِي مَوْضِع مَنَامك , فَحَذَفَ , عَنْ الْحَسَن . قَالَ الزَّجَّاج : وَهَذَا مَذْهَب حَسَن , وَلَكِنَّ الْأُولَى أَسْوَغ فِي الْعَرَبِيَّة , لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنهمْ " فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَة الِالْتِقَاء , وَأَنَّ تِلْكَ رُؤْيَة النَّوْم . وَمَعْنَى
لَجَبُنْتُمْ عَنْ الْحَرْب .
اِخْتَلَفْتُمْ .
أَيْ سَلَّمَكُمْ مِنْ الْمُخَالَفَة . اِبْن عَبَّاس : مِنْ الْفَشَل . وَيَحْتَمِل مِنْهُمَا . وَقِيلَ : سَلَّمَ أَيْ أَتَمَّ أَمْر الْمُسْلِمِينَ بِالظَّفَرِ .
لَجَبُنْتُمْ عَنْ الْحَرْب .
اِخْتَلَفْتُمْ .
أَيْ سَلَّمَكُمْ مِنْ الْمُخَالَفَة . اِبْن عَبَّاس : مِنْ الْفَشَل . وَيَحْتَمِل مِنْهُمَا . وَقِيلَ : سَلَّمَ أَيْ أَتَمَّ أَمْر الْمُسْلِمِينَ بِالظَّفَرِ .
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ↓
هَذَا فِي الْيَقِظَة . يَجُوز حَمْل الْأُولَى عَلَى الْيَقِظَة أَيْضًا إِذَا قُلْت : الْمَنَام مَوْضِع النَّوْم , وَهُوَ الْعَيْن , فَتَكُون الْأُولَى عَلَى هَذَا خَاصَّة بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهَذِهِ لِلْجَمِيعِ . قَالَ اِبْن مَسْعُود : قُلْت لِإِنْسَانٍ كَانَ بِجَانِبِي يَوْم بَدْر : أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ ؟ فَقَالَ : هُمْ نَحْو الْمِائَة . فَأَسَرْنَا رَجُلًا فَقُلْنَا : كَمْ كُنْتُمْ ؟ فَقَالَ : كُنَّا أَلْفًا .
كَانَ هَذَا فِي اِبْتِدَاء الْقِتَال حَتَّى قَالَ أَبُو جَهْل فِي ذَلِكَ الْيَوْم : إِنَّمَا هُمْ أَكَلَةُ جَزُور , خُذُوهُمْ أَخْذًا وَارْبِطُوهُمْ بِالْحِبَالِ . فَلَمَّا أَخَذُوا فِي الْقِتَال عَظُمَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَعْيُنهمْ فَكَثُرُوا , كَمَا قَالَ : " يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْن " [ آل عِمْرَان : 13 ] بَيَانه .
تَكَرَّرَ هَذَا , لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَوَّل مِنْ اللِّقَاء , وَفِي الثَّانِي مِنْ قَتْل الْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَاز الدِّين , وَهُوَ إِتْمَام النِّعْمَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
أَيْ مَصِيرهَا وَمَرَدّهَا إِلَيْهِ .
كَانَ هَذَا فِي اِبْتِدَاء الْقِتَال حَتَّى قَالَ أَبُو جَهْل فِي ذَلِكَ الْيَوْم : إِنَّمَا هُمْ أَكَلَةُ جَزُور , خُذُوهُمْ أَخْذًا وَارْبِطُوهُمْ بِالْحِبَالِ . فَلَمَّا أَخَذُوا فِي الْقِتَال عَظُمَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَعْيُنهمْ فَكَثُرُوا , كَمَا قَالَ : " يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْن " [ آل عِمْرَان : 13 ] بَيَانه .
تَكَرَّرَ هَذَا , لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَوَّل مِنْ اللِّقَاء , وَفِي الثَّانِي مِنْ قَتْل الْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَاز الدِّين , وَهُوَ إِتْمَام النِّعْمَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
أَيْ مَصِيرهَا وَمَرَدّهَا إِلَيْهِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ↓
أَيْ جَمَاعَة
أَمْر بِالثَّبَاتِ عِنْد قِتَال الْكُفَّار , كَمَا فِي الْآيَة قَبْلهَا النَّهْي عَنْ الْفِرَار عَنْهُمْ , فَالْتَقَى الْأَمْر وَالنَّهْي عَلَى سَوَاء . وَهَذَا تَأْكِيد عَلَى الْوُقُوف لِلْعَدُوِّ وَالتَّجَلُّد لَهُ .
لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الذِّكْر ثَلَاثَة أَقْوَال :
الْأَوَّل : اُذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ جَزَع قُلُوبكُمْ , فَإِنَّ ذِكْره يُعِين عَلَى الثَّبَات فِي الشَّدَائِد .
الثَّانِي : اُثْبُتُوا بِقُلُوبِكُمْ , وَاذْكُرُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ , فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَسْكُن عِنْدَ اللِّقَاء وَيَضْطَرِب اللِّسَان , فَأَمَرَ بِالذِّكْرِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقَلْب عَلَى الْيَقِين , وَيَثْبُت اللِّسَان عَلَى الذِّكْر , وَيَقُول مَا قَالَهُ أَصْحَاب طَالُوت : " رَبّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " [ الْبَقَرَة : 250 ] . وَهَذِهِ الْحَالَة لَا تَكُون إِلَّا عَنْ قُوَّة الْمَعْرِفَة , وَاتِّقَاد الْبَصِيرَة , وَهِيَ الشُّجَاعَة الْمَحْمُودَة فِي النَّاس .
الثَّالِث : اُذْكُرُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ وَعْد اللَّه لَكُمْ فِي اِبْتِيَاعه أَنْفُسَكُمْ وَمُثَامَنَتِهِ لَكُمْ .
قُلْت : وَالْأَظْهَر أَنَّهُ ذِكْر اللِّسَان الْمُوَافِق لِلْجِنَانِ . قَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : لَوْ رُخِّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْك الذِّكْر لَرُخِّصَ لِزَكَرِيَّا , يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّام إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّك كَثِيرًا " [ آل عِمْرَان : 41 ] . وَلَرُخِّصَ لِلرَّجُلِ يَكُون فِي الْحَرْب , يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا " . وَقَالَ قَتَادَة : اِفْتَرَضَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ ذِكْره عَلَى عِبَاده , أَشْغَلَ مَا يَكُونُونَ عِنْدَ الضِّرَاب بِالسُّيُوفِ . وَحُكْم هَذَا الذِّكْر أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا , لِأَنَّ رَفْع الصَّوْت فِي مَوَاطِن الْقِتَال رَدِيء مَكْرُوه إِذَا كَانَ الذَّاكِر وَاحِدًا . فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ الْجَمِيع عِنْدَ الْحَمَلَة فَحَسَن , لِأَنَّهُ يَفُتّ فِي أَعْضَاد الْعَدُوّ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَيْس بْن عَبَّاد قَالَ : كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَال . وَرَوَى أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل ذَلِكَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُكْرَه التَّلَثُّم عِنْدَ الْقِتَال . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَبِهَذَا وَاَللَّه أَعْلَم اِسْتَنَّ الْمُرَابِطُونَ بِطَرْحِهِ عِنْد الْقِتَال عَلَى صِيَانَتهمْ بِهِ .
أَمْر بِالثَّبَاتِ عِنْد قِتَال الْكُفَّار , كَمَا فِي الْآيَة قَبْلهَا النَّهْي عَنْ الْفِرَار عَنْهُمْ , فَالْتَقَى الْأَمْر وَالنَّهْي عَلَى سَوَاء . وَهَذَا تَأْكِيد عَلَى الْوُقُوف لِلْعَدُوِّ وَالتَّجَلُّد لَهُ .
لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الذِّكْر ثَلَاثَة أَقْوَال :
الْأَوَّل : اُذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ جَزَع قُلُوبكُمْ , فَإِنَّ ذِكْره يُعِين عَلَى الثَّبَات فِي الشَّدَائِد .
الثَّانِي : اُثْبُتُوا بِقُلُوبِكُمْ , وَاذْكُرُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ , فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَسْكُن عِنْدَ اللِّقَاء وَيَضْطَرِب اللِّسَان , فَأَمَرَ بِالذِّكْرِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقَلْب عَلَى الْيَقِين , وَيَثْبُت اللِّسَان عَلَى الذِّكْر , وَيَقُول مَا قَالَهُ أَصْحَاب طَالُوت : " رَبّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " [ الْبَقَرَة : 250 ] . وَهَذِهِ الْحَالَة لَا تَكُون إِلَّا عَنْ قُوَّة الْمَعْرِفَة , وَاتِّقَاد الْبَصِيرَة , وَهِيَ الشُّجَاعَة الْمَحْمُودَة فِي النَّاس .
الثَّالِث : اُذْكُرُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ وَعْد اللَّه لَكُمْ فِي اِبْتِيَاعه أَنْفُسَكُمْ وَمُثَامَنَتِهِ لَكُمْ .
قُلْت : وَالْأَظْهَر أَنَّهُ ذِكْر اللِّسَان الْمُوَافِق لِلْجِنَانِ . قَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : لَوْ رُخِّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْك الذِّكْر لَرُخِّصَ لِزَكَرِيَّا , يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّام إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّك كَثِيرًا " [ آل عِمْرَان : 41 ] . وَلَرُخِّصَ لِلرَّجُلِ يَكُون فِي الْحَرْب , يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا " . وَقَالَ قَتَادَة : اِفْتَرَضَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ ذِكْره عَلَى عِبَاده , أَشْغَلَ مَا يَكُونُونَ عِنْدَ الضِّرَاب بِالسُّيُوفِ . وَحُكْم هَذَا الذِّكْر أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا , لِأَنَّ رَفْع الصَّوْت فِي مَوَاطِن الْقِتَال رَدِيء مَكْرُوه إِذَا كَانَ الذَّاكِر وَاحِدًا . فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ الْجَمِيع عِنْدَ الْحَمَلَة فَحَسَن , لِأَنَّهُ يَفُتّ فِي أَعْضَاد الْعَدُوّ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَيْس بْن عَبَّاد قَالَ : كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَال . وَرَوَى أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل ذَلِكَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُكْرَه التَّلَثُّم عِنْدَ الْقِتَال . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَبِهَذَا وَاَللَّه أَعْلَم اِسْتَنَّ الْمُرَابِطُونَ بِطَرْحِهِ عِنْد الْقِتَال عَلَى صِيَانَتهمْ بِهِ .
وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ↓
هَذَا اِسْتِمْرَار عَلَى الْوَصِيَّة لَهُمْ , وَالْأَخْذ عَلَى أَيْدِيهمْ فِي اِخْتِلَافهمْ فِي أَمْر بَدْر وَتَنَازُعهمْ .
نُصِبَ بِالْفَاءِ فِي جَوَاب النَّهْي . وَلَا يُجِيز سِيبَوَيْهِ حَذْف الْفَاء وَالْجَزْم وَأَجَازَهُ الْكِسَائِيّ . وَقُرِئَ " تَفْشِلُوا " بِكَسْرِ الشِّين . وَهُوَ غَيْر مَعْرُوف .
أَيْ قُوَّتكُمْ وَنَصْركُمْ , كَمَا تَقُول : الرِّيح لِفُلَانٍ , إِذَا كَانَ غَالِبًا فِي الْأَمْر قَالَ الشَّاعِر : إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونَا
وَقَالَ قَتَادَة وَابْن زَيْد : إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَصْر قَطُّ إِلَّا بِرِيحٍ تَهُبّ فَتَضْرِب فِي وُجُوه الْكُفَّار . وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( نُصِرْت بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَاد بِالدَّبُورِ ) . قَالَ الْحَكَم : " وَتَذْهَب رِيحُكُمْ " يَعْنِي الصَّبَا , إِذْ بِهَا نُصِرَ مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأُمَّته . وَقَالَ مُجَاهِد : وَذَهَبَتْ رِيح أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَازَعُوهُ يَوْمَ أُحُد .
أَمْر بِالصَّبْرِ , وَهُوَ مَحْمُود فِي كُلّ الْمَوَاطِن وَخَاصَّة مَوْطِن الْحَرْب , كَمَا قَالَ : " إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة فَاثْبُتُوا " .
نُصِبَ بِالْفَاءِ فِي جَوَاب النَّهْي . وَلَا يُجِيز سِيبَوَيْهِ حَذْف الْفَاء وَالْجَزْم وَأَجَازَهُ الْكِسَائِيّ . وَقُرِئَ " تَفْشِلُوا " بِكَسْرِ الشِّين . وَهُوَ غَيْر مَعْرُوف .
أَيْ قُوَّتكُمْ وَنَصْركُمْ , كَمَا تَقُول : الرِّيح لِفُلَانٍ , إِذَا كَانَ غَالِبًا فِي الْأَمْر قَالَ الشَّاعِر : إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونَا
وَقَالَ قَتَادَة وَابْن زَيْد : إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَصْر قَطُّ إِلَّا بِرِيحٍ تَهُبّ فَتَضْرِب فِي وُجُوه الْكُفَّار . وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( نُصِرْت بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَاد بِالدَّبُورِ ) . قَالَ الْحَكَم : " وَتَذْهَب رِيحُكُمْ " يَعْنِي الصَّبَا , إِذْ بِهَا نُصِرَ مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأُمَّته . وَقَالَ مُجَاهِد : وَذَهَبَتْ رِيح أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَازَعُوهُ يَوْمَ أُحُد .
أَمْر بِالصَّبْرِ , وَهُوَ مَحْمُود فِي كُلّ الْمَوَاطِن وَخَاصَّة مَوْطِن الْحَرْب , كَمَا قَالَ : " إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة فَاثْبُتُوا " .
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ↓
يَعْنِي أَبَا جَهْل وَأَصْحَابه الْخَارِجِينَ يَوْم بَدْر لِنُصْرَةِ الْعِير . خَرَجُوا بِالْقِيَانِ وَالْمُغَنِّيَات وَالْمَعَازِف , فَلَمَّا وَرَدُوا الْجُحْفَة بَعَثَ خُفَاف الْكِنَانِيّ - وَكَانَ صَدِيقًا لِأَبِي جَهْل - بِهَدَايَا إِلَيْهِ مَعَ اِبْن لَهُ , وَقَالَ : إِنْ شِئْت أَمْدَدْتُك بِالرِّجَالِ , وَإِنْ شِئْت أَمْدَدْتُك بِنَفْسِي مَعَ مَنْ خَفَّ مِنْ قَوْمِي . فَقَالَ أَبُو جَهْل : إِنْ كُنَّا نُقَاتِل اللَّهَ كَمَا يَزْعُم مُحَمَّد , فَوَاَللَّهِ مَا لَنَا بِاَللَّهِ مِنْ طَاقَة . وَإِنْ كُنَّا نُقَاتِل النَّاسَ فَوَاَللَّهِ إِنَّ بِنَا عَلَى النَّاس لَقُوَّةً , وَاَللَّه لَا نَرْجِع عَنْ قِتَال مُحَمَّد حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا فَنَشْرَب فِيهَا الْخُمُورَ , وَتَعْزِف عَلَيْنَا الْقِيَان , فَإِنَّ بَدْرًا مَوْسِم مِنْ مَوَاسِم الْعَرَب , وَسُوق مِنْ أَسْوَاقهمْ , حَتَّى تَسْمَع الْعَرَب بِمَخْرَجِنَا فَتَهَابنَا آخِر الْأَبَد . فَوَرَدُوا بَدْرًا وَلَكِنْ جَرَى مَا جَرَى مِنْ هَلَاكِهِمْ . وَالْبَطَر فِي اللُّغَة : التَّقْوِيَة بِنِعَمِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَمَا أَلْبَسَهُ مِنْ الْعَافِيَة عَلَى الْمَعَاصِي . وَهُوَ مَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال . أَيْ خَرَجُوا بَطِرِينَ مُرَائِينَ صَادِّينَ . وَصَدُّهُمْ إِضْلَال النَّاس .
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ↓
رُوِيَ أَنَّ الشَّيْطَان تَمَثَّلَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي صُورَة سُرَاقَة بْن مَالِك بْن جُعْشُم , وَهُوَ مِنْ بَنِي بَكْر بْن كِنَانَة , وَكَانَتْ قُرَيْش تَخَاف مِنْ بَنِي بَكْر أَنْ يَأْتُوهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ , لِأَنَّهُمْ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْهُمْ . فَلَمَّا تَمَثَّلَ لَهُمْ قَالَ مَا أَخْبَرَ اللَّه بِهِ عَنْهُ . وَقَالَ الضَّحَّاك : جَاءَهُمْ إِبْلِيس يَوْمَ بَدْر بِرَايَتِهِ وَجُنُوده , وَأَلْقَى فِي قُلُوبهمْ أَنَّهُمْ لَنْ يُهْزَمُوا وَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِين آبَائِهِمْ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَمَدَّ اللَّه نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَة , فَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمَلَائِكَة مُجَنِّبَة , وَمِيكَائِيل فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمَلَائِكَة مُجَنِّبَة . وَجَاءَ إِبْلِيس فِي جُنْد مِنْ الشَّيَاطِين وَمَعَهُ رَايَة فِي صُورَة رِجَال مِنْ بَنِي مُدْلِج , وَالشَّيْطَان فِي صُورَة سُرَاقَة بْن مَالِك بْن جُعْشُم . فَقَالَ الشَّيْطَان لِلْمُشْرِكِينَ : لَا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاس وَإِنِّي جَار لَكُمْ , فَلَمَّا اِصْطَفَّ الْقَوْم قَالَ أَبُو جَهْل : اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ . وَرَفَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ : ( يَا رَبّ إِنَّك إِنْ تَهْلِك هَذِهِ الْعِصَابَة فَلَنْ تُعْبَد فِي الْأَرْض أَبَدًا ) . فَقَالَ جِبْرِيل : ( خُذْ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب ) فَأَخَذَ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ , فَمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحَد إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخِرَيْهِ وَفَمه . فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ , وَأَقْبَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى إِبْلِيس فَلَمَّا رَآهُ كَانَتْ يَده فِي يَد رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ اِنْتَزَعَ إِبْلِيس يَده ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا وَشِيعَته , فَقَالَ لَهُ الرَّجُل : يَا سُرَاقَة , أَلَمْ تَزْعُم أَنَّك لَنَا جَار , قَالَ : إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ . ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْره . وَفِي مُوَطَّأ مَالِك عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي عَبْلَة عَنْ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه بْن كُرَيْزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا رَأَى الشَّيْطَان نَفْسَهُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرَ وَلَا أَحْقَرَ وَلَا أَدْحَرَ وَلَا أَغْيَظ مِنْهُ فِي يَوْم عَرَفَة وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّل الرَّحْمَة وَتَجَاوُز اللَّه عَنْ الذُّنُوب الْعِظَام إِلَّا مَا رَأَى يَوْم بَدْر ) قِيلَ : وَمَا رَأَى يَوْم بَدْر يَا رَسُولَ اللَّه ؟ قَالَ ( أَمَا إِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَع الْمَلَائِكَةَ ) . وَمَعْنَى نَكَصَ : رَجَعَ بِلُغَةِ سُلَيْم , عَنْ مُؤَرِّج وَغَيْره . وَقَالَ الشَّاعِر : لَيْسَ النُّكُوص عَلَى الْأَدْبَار مَكْرُمَةً إِنَّ الْمَكَارِمَ إِقْدَام عَلَى الْأَسَل وَقَالَ آخَر : وَمَا يَنْفَع الْمُسْتَأْخِرِينَ نُكُوصُهُمْ وَلَا ضَرَّ أَهْلَ السَّابِقَاتِ التَّقَدُّمُ وَلَيْسَ هَاهُنَا قَهْقَرَى بَلْ هُوَ فِرَار , كَمَا قَالَ : ( إِذَا سَمِعَ الْأَذَان أَدْبَرَ وَلَهُ ضُرَاط ) .
قِيلَ : خَافَ إِبْلِيس أَنْ يَكُونَ يَوْمَ بَدْر الْيَوْم الَّذِي أُنْظِرَ إِلَيْهِ . وَقِيلَ : كَذَبَ إِبْلِيس فِي قَوْله : " إِنِّي أَخَاف اللَّهَ " وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ . وَيُجْمَع جَار عَلَى أَجْوَار وَجِيرَان , وَفِي الْقَلِيل جِيرَة .
قِيلَ : خَافَ إِبْلِيس أَنْ يَكُونَ يَوْمَ بَدْر الْيَوْم الَّذِي أُنْظِرَ إِلَيْهِ . وَقِيلَ : كَذَبَ إِبْلِيس فِي قَوْله : " إِنِّي أَخَاف اللَّهَ " وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ . وَيُجْمَع جَار عَلَى أَجْوَار وَجِيرَان , وَفِي الْقَلِيل جِيرَة .
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ↓
قِيلَ : الْمُنَافِقُونَ : الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ . وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض : الشَّاكُّونَ , وَهُمْ دُون الْمُنَافِقِينَ , لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو عَهْد بِالْإِسْلَامِ , وَفِيهِمْ بَعْض ضَعْف نِيَّة . قَالُوا عِنْدَ الْخُرُوج إِلَى الْقِتَال وَعِنْد اِلْتِقَاء الصَّفَّيْنِ : غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينهمْ . وَقِيلَ : هُمَا وَاحِد , وَهُوَ أَوْلَى . أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " [ الْبَقَرَة : 3 ] ثُمَّ قَالَ " وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك " [ الْبَقَرَة : 4 ] وَهُمَا لِوَاحِدٍ .
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ↓
قِيلَ : أَرَادَ مَنْ بَقِيَ وَلَمْ يُقْتَل يَوْمَ بَدْر . وَقِيلَ : هِيَ فِيمَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ . وَجَوَاب " لَوْ " مَحْذُوف , تَقْدِيره : لَرَأَيْت أَمْرًا عَظِيمًا .
فِي مَوْضِع الْحَال .
أَيْ أَسْتَاهَهُمْ , كَنَّى عَنْهَا بِالْأَدْبَارِ , قَالَهُ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر . الْحَسَن : ظُهُورَهُمْ , وَقَالَ : إِنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّه , إِنِّي رَأَيْت بِظَهْرِ أَبِي جَهْل مِثْل الشِّرَاك ؟ قَالَ : ( ذَلِكَ ضَرْب الْمَلَائِكَة ) . وَقِيلَ : هَذَا الضَّرْب يَكُون عِنْدَ الْمَوْت . وَقَدْ يَكُون يَوْمَ الْقِيَامَة حِين يَصِيرُونَ بِهِمْ إِلَى النَّار .
قَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى وَيَقُولُونَ ذُوقُوا , فَحُذِفَ . وَقَالَ الْحَسَن : هَذَا يَوْم الْقِيَامَة , تَقُول لَهُمْ خَزَنَة جَهَنَّم : ذُوقُوا عَذَاب الْحَرِيق . وَرُوِيَ أَنَّ فِي بَعْض التَّفَاسِير أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَة مَقَامِع مِنْ حَدِيد , كُلَّمَا ضُرِبُوا اِلْتَهَبَتْ النَّار فِي الْجِرَاحَات , فَذَلِكَ قَوْله : " وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق " . وَالذَّوْق يَكُون مَحْسُوسًا وَمَعْنًى . وَقَدْ يُوضَع مَوْضِع الِابْتِلَاء وَالِاخْتِبَار , تَقُول : اِرْكَبْ هَذَا الْفَرَس فَذُقْهُ . وَانْظُرْ فُلَانًا فَذُقْ مَا عِنْدَهُ . قَالَ الشَّمَّاخ يَصِف فَرَسًا : فَذَاقَ فَأَعْطَتْهُ مِنْ اللِّين جَانِبًا كَفَى وَلَهًا أَنْ يُغْرِقَ السَّهْمَ حَاجِزُ وَأَصْله مِنْ الذَّوْق بِالْفَمِ .
فِي مَوْضِع الْحَال .
أَيْ أَسْتَاهَهُمْ , كَنَّى عَنْهَا بِالْأَدْبَارِ , قَالَهُ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر . الْحَسَن : ظُهُورَهُمْ , وَقَالَ : إِنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّه , إِنِّي رَأَيْت بِظَهْرِ أَبِي جَهْل مِثْل الشِّرَاك ؟ قَالَ : ( ذَلِكَ ضَرْب الْمَلَائِكَة ) . وَقِيلَ : هَذَا الضَّرْب يَكُون عِنْدَ الْمَوْت . وَقَدْ يَكُون يَوْمَ الْقِيَامَة حِين يَصِيرُونَ بِهِمْ إِلَى النَّار .
قَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى وَيَقُولُونَ ذُوقُوا , فَحُذِفَ . وَقَالَ الْحَسَن : هَذَا يَوْم الْقِيَامَة , تَقُول لَهُمْ خَزَنَة جَهَنَّم : ذُوقُوا عَذَاب الْحَرِيق . وَرُوِيَ أَنَّ فِي بَعْض التَّفَاسِير أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَة مَقَامِع مِنْ حَدِيد , كُلَّمَا ضُرِبُوا اِلْتَهَبَتْ النَّار فِي الْجِرَاحَات , فَذَلِكَ قَوْله : " وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق " . وَالذَّوْق يَكُون مَحْسُوسًا وَمَعْنًى . وَقَدْ يُوضَع مَوْضِع الِابْتِلَاء وَالِاخْتِبَار , تَقُول : اِرْكَبْ هَذَا الْفَرَس فَذُقْهُ . وَانْظُرْ فُلَانًا فَذُقْ مَا عِنْدَهُ . قَالَ الشَّمَّاخ يَصِف فَرَسًا : فَذَاقَ فَأَعْطَتْهُ مِنْ اللِّين جَانِبًا كَفَى وَلَهًا أَنْ يُغْرِقَ السَّهْمَ حَاجِزُ وَأَصْله مِنْ الذَّوْق بِالْفَمِ .
فِي مَوْضِع رَفْع ; أَيْ الْأَمْر ذَلِكَ . أَوْ " ذَلِكَ " جَزَاؤُكُمْ .
أَيْ اِكْتَسَبْتُمْ مِنْ الْآثَام .
إِذْ قَدْ أَوْضَحَ السَّبِيلَ وَبَعَثَ الرُّسُل , فَلِمَ خَالَفْتُمْ ؟ . " وَأَنَّ " فِي مَوْضِع خَفْض عَطْف عَلَى " مَا " وَإِنْ شِئْت نَصَبْت , بِمَعْنَى وَبِأَنَّ , وَحُذِفَتْ الْبَاء . أَوْ بِمَعْنَى : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِع رَفْع نَسَقًا عَلَى ذَلِكَ .
أَيْ اِكْتَسَبْتُمْ مِنْ الْآثَام .
إِذْ قَدْ أَوْضَحَ السَّبِيلَ وَبَعَثَ الرُّسُل , فَلِمَ خَالَفْتُمْ ؟ . " وَأَنَّ " فِي مَوْضِع خَفْض عَطْف عَلَى " مَا " وَإِنْ شِئْت نَصَبْت , بِمَعْنَى وَبِأَنَّ , وَحُذِفَتْ الْبَاء . أَوْ بِمَعْنَى : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِع رَفْع نَسَقًا عَلَى ذَلِكَ .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ↓
الدَّأْب الْعَادَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " آل عِمْرَان " . أَيْ الْعَادَة فِي تَعْذِيبهمْ عِنْد قَبْض الْأَرْوَاح وَفِي الْقُبُور كَعَادَةِ آل فِرْعَوْن . وَقِيلَ : الْمَعْنَى جُوزِيَ هَؤُلَاءِ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْي كَمَا جُوزِيَ آل فِرْعَوْن بِالْغَرَقِ . أَيْ دَأْبهمْ كَدَأْبِ آل فِرْعَوْن .
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ↓
تَعْلِيل . أَيْ هَذَا الْعِقَاب , لِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا , وَنِعْمَة اللَّه عَلَى قُرَيْش الْخِصْب وَالسَّعَة , وَالْأَمْن وَالْعَافِيَة . " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّف النَّاس مِنْ حَوْلهمْ " [ الْعَنْكَبُوت : 67 ] الْآيَة . وَقَالَ السُّدِّيّ : نِعْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهِ , فَنُقِلَ إِلَى الْمَدِينَة وَحَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ الْعِقَاب .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ↓
لَيْسَ هَذَا بِتَكْرِيرٍ , لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِلْعَادَةِ فِي التَّكْذِيب , وَالثَّانِي لِلْعَادَةِ فِي التَّغْيِير , وَبَاقِي الْآيَة بَيِّن .
أَيْ مَنْ يَدِبّ عَلَى وَجْه الْأَرْض فِي عِلْم اللَّه وَحُكْمه .
أَيْ لَا يَخَافُونَ الِانْتِقَالَ . " وَمِنْ " فِي قَوْله " مِنْهُمْ " لِلتَّبْعِيضِ , لِأَنَّ الْعَهْدَ إِنَّمَا يَجْرِي مَعَ أَشْرَافهمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَهُ . وَالْمَعْنِيّ بِهِمْ قُرَيْظَة وَالنَّضِير , فِي قَوْل مُجَاهِد وَغَيْره . نَقَضُوا الْعَهْد فَأَعَانُوا مُشْرِكِي مَكَّة بِالسِّلَاحِ , ثُمَّ اِعْتَذَرُوا فَقَالُوا : نَسِينَا , فَعَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَام ثَانِيَة فَنَقَضُوا يَوْم الْخَنْدَق .
شَرْط وَجَوَابه . وَدَخَلَتْ النُّون تَوْكِيدًا لَمَّا دَخَلَتْ مَا , هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : تَدْخُل النُّون الثَّقِيلَة وَالْخَفِيفَة مَعَ " إِمَّا " فِي الْمُجَازَاة لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُجَازَاة وَالتَّخْيِير . وَمَعْنَى " تَثْقَفَنَّهُمْ " تَأْسِرهُمْ وَتَجْعَلهُمْ فِي ثِقَاف , أَوْ تَلْقَاهُمْ بِحَالِ ضَعْف , تَقْدِر عَلَيْهِمْ فِيهَا وَتَغْلِبهُمْ . وَهَذَا لَازِم مِنْ اللَّفْظ ; لِقَوْلِهِ : " فِي الْحَرْب " . وَقَالَ بَعْض النَّاس : تُصَادِفَنَّهُمْ وَتَلْقَاهُمْ . يُقَال : ثَقِفْته أَثْقَفهُ ثَقَفًا , أَيْ وَجَدْته . وَفُلَان ثَقِفٌ لَقِفٌ أَيْ سَرِيع الْوُجُود لِمَا يُحَاوِلهُ وَيَطْلُبهُ . وَثَقْفٌ لَقْفٌ . وَامْرَأَة ثَقَاف . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَوْلَى ; لِارْتِبَاطِهِ بِالْآيَةِ كَمَا بَيَّنَّا . وَالْمُصَادَف قَدْ يَغْلِب فَيُمْكِن التَّشْرِيد بِهِ , وَقَدْ لَا يَغْلِب . وَالثِّقَاف فِي اللُّغَة : مَا يُشَدّ بِهِ الْقَنَاة وَنَحْوهَا . وَمِنْهُ قَوْل النَّابِغَة : تَدْعُو قُعَيْنَا وَقَدْ عَضَّ الْحَدِيد بِهَا عَضَّ الثِّقَاف عَلَى صُمّ الْأَنَابِيبِ
قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْمَعْنَى أَنْذِرْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : هِيَ لُغَة قُرَيْش , شَرِّدْ بِهِمْ سَمِّعْ بِهِمْ . وَقَالَ الضَّحَّاك : نَكِّلْ بِهِمْ . الزَّجَّاج : اِفْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا مِنْ الْقَتْل تُفَرِّق بِهِ مَنْ خَلْفَهُمْ . وَالتَّشْرِيد فِي اللُّغَة : التَّبْدِيد وَالتَّفْرِيق , يُقَال : شَرَّدْت بَنِي فُلَان قَلَعْتُهُمْ عَنْ مَوَاضِعهمْ وَطَرَدْتهمْ عَنْهَا حَتَّى فَارَقُوهَا . وَكَذَلِكَ الْوَاحِد , تَقُول : تَرَكْته شَرِيدًا عَنْ وَطَنه وَأَهْله . قَالَ الشَّاعِر مِنْ هُذَيْل : أُطَوِّفُ فِي الْأَبَاطِحِ كُلَّ يَوْمٍ مَخَافَةَ أَنْ يُشَرِّدَ بِي حَكِيمُ وَمِنْهُ شَرَدَ الْبَعِير وَالدَّابَّة إِذَا فَارَقَ صَاحِبَهُ . و " مَنْ " بِمَعْنَى الَّذِي , قَالَهُ الْكِسَائِيّ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود " فَشَرِّذْ " بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة , وَهُمَا لُغَتَانِ . وَقَالَ قُطْرُب : التَّشْرِيذُ ( بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة ) التَّنْكِيل . وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة التَّفْرِيق , حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : الذَّال لَا وَجْهَ لَهَا , إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ الدَّال الْمُهْمَلَة لِتَقَارُبِهِمَا , وَلَا يُعْرَف فِي اللُّغَة " فَشَرِّذْ " . وَقُرِئَ " مِنْ خَلْفِهِمْ " بِكَسْرِ الْمِيم وَالْفَاء .
أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِوَعْدِك إِيَّاهُمْ . وَقِيلَ : هَذَا يَرْجِع إِلَى مَنْ خَلْفَهُمْ , لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ لَا يَتَذَكَّر أَيْ شَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلهمْ .
قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْمَعْنَى أَنْذِرْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : هِيَ لُغَة قُرَيْش , شَرِّدْ بِهِمْ سَمِّعْ بِهِمْ . وَقَالَ الضَّحَّاك : نَكِّلْ بِهِمْ . الزَّجَّاج : اِفْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا مِنْ الْقَتْل تُفَرِّق بِهِ مَنْ خَلْفَهُمْ . وَالتَّشْرِيد فِي اللُّغَة : التَّبْدِيد وَالتَّفْرِيق , يُقَال : شَرَّدْت بَنِي فُلَان قَلَعْتُهُمْ عَنْ مَوَاضِعهمْ وَطَرَدْتهمْ عَنْهَا حَتَّى فَارَقُوهَا . وَكَذَلِكَ الْوَاحِد , تَقُول : تَرَكْته شَرِيدًا عَنْ وَطَنه وَأَهْله . قَالَ الشَّاعِر مِنْ هُذَيْل : أُطَوِّفُ فِي الْأَبَاطِحِ كُلَّ يَوْمٍ مَخَافَةَ أَنْ يُشَرِّدَ بِي حَكِيمُ وَمِنْهُ شَرَدَ الْبَعِير وَالدَّابَّة إِذَا فَارَقَ صَاحِبَهُ . و " مَنْ " بِمَعْنَى الَّذِي , قَالَهُ الْكِسَائِيّ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود " فَشَرِّذْ " بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة , وَهُمَا لُغَتَانِ . وَقَالَ قُطْرُب : التَّشْرِيذُ ( بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة ) التَّنْكِيل . وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة التَّفْرِيق , حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : الذَّال لَا وَجْهَ لَهَا , إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ الدَّال الْمُهْمَلَة لِتَقَارُبِهِمَا , وَلَا يُعْرَف فِي اللُّغَة " فَشَرِّذْ " . وَقُرِئَ " مِنْ خَلْفِهِمْ " بِكَسْرِ الْمِيم وَالْفَاء .
أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِوَعْدِك إِيَّاهُمْ . وَقِيلَ : هَذَا يَرْجِع إِلَى مَنْ خَلْفَهُمْ , لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ لَا يَتَذَكَّر أَيْ شَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلهمْ .
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ↓
أَيْ غِشًّا وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ .
وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَة وَبَنِي النَّضِير . وَحَكَاهُ الطَّبَرِيّ عَنْ مُجَاهِد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي يَظْهَر فِي أَلْفَاظ الْقُرْآن أَنَّ أَمْر بَنِي قُرَيْظَة اِنْقَضَى عِنْدَ قَوْله " فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ " ثُمَّ اِبْتَدَأَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة بِأَمْرِهِ فِيمَا يَصْنَعهُ فِي الْمُسْتَقْبَل مَعَ مَنْ يَخَاف مِنْهُ خِيَانَة , فَتَتَرَتَّب فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَة . وَبَنُو قُرَيْظَة لَمْ يَكُونُوا فِي حَدّ مَنْ تُخَاف خِيَانَته , وَإِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتهمْ ظَاهِرَة مَشْهُورَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوز نَقْض الْعَهْد مَعَ خَوْف الْخِيَانَة , وَالْخَوْف ظَنّ لَا يَقِينَ مَعَهُ , فَكَيْفَ يَسْقُط يَقِين الْعَهْد مَعَ ظَنّ الْخِيَانَة . فَالْجَوَاب مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا - أَنَّ الْخَوْفَ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الْيَقِين , كَمَا قَدْ يَأْتِي الرَّجَاء بِمَعْنَى الْعِلْم , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا " [ نُوح : 13 ] . الثَّانِي - إِذَا ظَهَرَتْ آثَار الْخِيَانَة وَثَبَتَتْ دَلَائِلهَا , وَجَبَ نَبْذ الْعَهْد لِئَلَّا يُوقِع التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَة , وَجَازَ إِسْقَاط الْيَقِين هُنَا ضَرُورَةً . وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ الْيَقِينَ فَيُسْتَغْنَى عَنْ نَبْذ الْعَهْد إِلَيْهِمْ , وَقَدْ سَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْل مَكَّة عَام الْفَتْح , لِمَا اُشْتُهِرَ مِنْهُمْ نَقْض الْعَهْد مِنْ غَيْر أَنْ يُنْبَذ إِلَيْهِمْ عَهْدهمْ . وَالنَّبْذ : الرَّمْي وَالرَّفْض . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : مَعْنَاهُ إِذَا عَاهَدْت قَوْمًا فَعَلِمْت مِنْهُمْ النَّقْض بِالْعَهْدِ فَلَا تُوقِعْ بِهِمْ سَابِقًا إِلَى النَّقْض حَتَّى تُلْقِيَ إِلَيْهِمْ أَنَّك قَدْ نَقَضْت الْعَهْدَ وَالْمُوَاعَدَةَ , فَيَكُونُوا فِي عِلْم النَّقْض مُسْتَوِيِينَ , ثُمَّ أَوْقِعْ بِهِمْ . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا مِنْ مُعْجِز مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن مِمَّا لَا يُوجَد فِي الْكَلَام مِثْله عَلَى اِخْتِصَاره وَكَثْرَة مَعَانِيه . وَالْمَعْنَى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْم بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ عَهْد خِيَانَة فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ الْعَهْد , أَيْ قُلْ لَهُمْ قَدْ نَبَذْت إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ , وَأَنَا مُقَاتِلُكُمْ , لِيَعْلَمُوا ذَلِكَ فَيَكُونُوا مَعَك فِي الْعِلْم سَوَاء , وَلَا تُقَاتِلهُمْ وَبَيْنَك وَبَيْنَهُمْ عَهْد وَهُمْ يَثِقُونَ بِك , فَيَكُون ذَلِكَ خِيَانَةً وَغَدْرًا . ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبّ الْخَائِنِينَ " .
قُلْت : مَا ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيّ وَالنَّحَّاس مِنْ إِنْبَاذ الْعَهْد مَعَ الْعِلْم بِنَقْضِهِ يَرُدُّهُ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَتْح مَكَّة , فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا لَمْ يُوَجِّه إِلَيْهِمْ بَلْ قَالَ : ( اللَّهُمَّ اِقْطَعْ خَبَرِي عَنْهُمْ ) وَغَزَاهُمْ . وَهُوَ أَيْضًا مَعْنَى الْآيَة , لِأَنَّ فِي قَطْع الْعَهْد مِنْهُمْ وَنَكْثه مَعَ الْعِلْم بِهِ حُصُول نَقْض عَهْدهمْ وَالِاسْتِوَاء مَعَهُمْ . فَأَمَّا مَعَ غَيْر الْعِلْم بِنَقْضِ الْعَهْد مِنْهُمْ فَلَا يَحِلّ وَلَا يَجُوز . رَوَى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سُلَيْم بْن عَامِر قَالَ : كَانَ بَيْن مُعَاوِيَة وَالرُّوم عَهْد وَكَانَ يَسِير نَحْو بِلَادهمْ لِيَقْرُب حَتَّى إِذَا اِنْقَضَى الْعَهْد غَزَاهُمْ , فَجَاءَهُ رَجُل عَلَى فَرَس أَوْ بِرْذَوْن وَهُوَ يَقُول : اللَّه أَكْبَر , اللَّه أَكْبَر , وَفَاء لَا غَدْر , فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ عَمْرو بْن عَنْبَسَة , فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فَسَأَلَ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْم عَهْد فَلَا يَشُدَّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدهَا أَوْ يَنْبِذ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ) فَرَجَعَ مُعَاوِيَة بِالنَّاسِ . قَالَ التِّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَالسَّوَاء : الْمُسَاوَاة وَالِاعْتِدَال . وَقَالَ الرَّاجِز فَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغُدَّرِ الْأَعْدَاءِ حَتَّى يُجِيبُوك إِلَى السَّوَاءِ وَقَالَ الْكِسَائِيّ : السَّوَاء الْعَدْل . وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى الْوَسَط , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فِي سَوَاء الْجَحِيم " [ الصَّافَّات : 55 ] . وَمِنْهُ قَوْل حَسَّان : يَا وَيْح أَصْحَاب النَّبِيّ وَرَهْطه بَعْد الْمُغَيَّب فِي سَوَاء الْمُلْحَد الْفَرَّاء : وَيُقَال " فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء " جَهْرًا لَا سِرًّا .
رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِكُلِّ غَادِر لِوَاء يَوْمَ الْقِيَامَة يُرْفَع لَهُ بِقَدْرِ غَدْره أَلَا وَلَا غَادِر أَعْظَم غَدْرًا مِنْ أَمِير عَامَّة ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : إِنَّمَا كَانَ الْغَدْر فِي حَقّ الْإِمَام أَعْظَم وَأَفْحَشَ مِنْهُ فِي غَيْره لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَة , فَإِنَّهُمْ إِذَا غَدَرُوا وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلَمْ يُنْبَذُوا بِالْعَهْدِ لَمْ يَأْمَنهُمْ الْعَدُوّ عَلَى عَهْد وَلَا صُلْح , فَتَشْتَدّ شَوْكَته وَيَعْظُم ضَرَره , وَيَكُون ذَلِكَ مُنَفِّرًا عَنْ الدُّخُول فِي الدِّين , وَمُوجِبًا لِذَمِّ أَئِمَّة الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَدُوِّ عَهْد فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَيَّل عَلَيْهِ بِكُلِّ حِيلَة , وَتُدَار عَلَيْهِ كُلّ خَدِيعَة . وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْحَرْب خُدْعَة ) . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يُجَاهَد مَعَ الْإِمَام الْغَادِر , عَلَى قَوْلَيْنِ . فَذَهَبَ أَكْثَرهمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَاتَل مَعَهُ , بِخِلَافِ الْخَائِن وَالْفَاسِق . وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى الْجِهَاد مَعَهُ . وَالْقَوْلَانِ فِي مَذْهَبنَا .
وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَة وَبَنِي النَّضِير . وَحَكَاهُ الطَّبَرِيّ عَنْ مُجَاهِد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي يَظْهَر فِي أَلْفَاظ الْقُرْآن أَنَّ أَمْر بَنِي قُرَيْظَة اِنْقَضَى عِنْدَ قَوْله " فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ " ثُمَّ اِبْتَدَأَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة بِأَمْرِهِ فِيمَا يَصْنَعهُ فِي الْمُسْتَقْبَل مَعَ مَنْ يَخَاف مِنْهُ خِيَانَة , فَتَتَرَتَّب فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَة . وَبَنُو قُرَيْظَة لَمْ يَكُونُوا فِي حَدّ مَنْ تُخَاف خِيَانَته , وَإِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتهمْ ظَاهِرَة مَشْهُورَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوز نَقْض الْعَهْد مَعَ خَوْف الْخِيَانَة , وَالْخَوْف ظَنّ لَا يَقِينَ مَعَهُ , فَكَيْفَ يَسْقُط يَقِين الْعَهْد مَعَ ظَنّ الْخِيَانَة . فَالْجَوَاب مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا - أَنَّ الْخَوْفَ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الْيَقِين , كَمَا قَدْ يَأْتِي الرَّجَاء بِمَعْنَى الْعِلْم , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا " [ نُوح : 13 ] . الثَّانِي - إِذَا ظَهَرَتْ آثَار الْخِيَانَة وَثَبَتَتْ دَلَائِلهَا , وَجَبَ نَبْذ الْعَهْد لِئَلَّا يُوقِع التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَة , وَجَازَ إِسْقَاط الْيَقِين هُنَا ضَرُورَةً . وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ الْيَقِينَ فَيُسْتَغْنَى عَنْ نَبْذ الْعَهْد إِلَيْهِمْ , وَقَدْ سَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْل مَكَّة عَام الْفَتْح , لِمَا اُشْتُهِرَ مِنْهُمْ نَقْض الْعَهْد مِنْ غَيْر أَنْ يُنْبَذ إِلَيْهِمْ عَهْدهمْ . وَالنَّبْذ : الرَّمْي وَالرَّفْض . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : مَعْنَاهُ إِذَا عَاهَدْت قَوْمًا فَعَلِمْت مِنْهُمْ النَّقْض بِالْعَهْدِ فَلَا تُوقِعْ بِهِمْ سَابِقًا إِلَى النَّقْض حَتَّى تُلْقِيَ إِلَيْهِمْ أَنَّك قَدْ نَقَضْت الْعَهْدَ وَالْمُوَاعَدَةَ , فَيَكُونُوا فِي عِلْم النَّقْض مُسْتَوِيِينَ , ثُمَّ أَوْقِعْ بِهِمْ . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا مِنْ مُعْجِز مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن مِمَّا لَا يُوجَد فِي الْكَلَام مِثْله عَلَى اِخْتِصَاره وَكَثْرَة مَعَانِيه . وَالْمَعْنَى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْم بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ عَهْد خِيَانَة فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ الْعَهْد , أَيْ قُلْ لَهُمْ قَدْ نَبَذْت إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ , وَأَنَا مُقَاتِلُكُمْ , لِيَعْلَمُوا ذَلِكَ فَيَكُونُوا مَعَك فِي الْعِلْم سَوَاء , وَلَا تُقَاتِلهُمْ وَبَيْنَك وَبَيْنَهُمْ عَهْد وَهُمْ يَثِقُونَ بِك , فَيَكُون ذَلِكَ خِيَانَةً وَغَدْرًا . ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبّ الْخَائِنِينَ " .
قُلْت : مَا ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيّ وَالنَّحَّاس مِنْ إِنْبَاذ الْعَهْد مَعَ الْعِلْم بِنَقْضِهِ يَرُدُّهُ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَتْح مَكَّة , فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا لَمْ يُوَجِّه إِلَيْهِمْ بَلْ قَالَ : ( اللَّهُمَّ اِقْطَعْ خَبَرِي عَنْهُمْ ) وَغَزَاهُمْ . وَهُوَ أَيْضًا مَعْنَى الْآيَة , لِأَنَّ فِي قَطْع الْعَهْد مِنْهُمْ وَنَكْثه مَعَ الْعِلْم بِهِ حُصُول نَقْض عَهْدهمْ وَالِاسْتِوَاء مَعَهُمْ . فَأَمَّا مَعَ غَيْر الْعِلْم بِنَقْضِ الْعَهْد مِنْهُمْ فَلَا يَحِلّ وَلَا يَجُوز . رَوَى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سُلَيْم بْن عَامِر قَالَ : كَانَ بَيْن مُعَاوِيَة وَالرُّوم عَهْد وَكَانَ يَسِير نَحْو بِلَادهمْ لِيَقْرُب حَتَّى إِذَا اِنْقَضَى الْعَهْد غَزَاهُمْ , فَجَاءَهُ رَجُل عَلَى فَرَس أَوْ بِرْذَوْن وَهُوَ يَقُول : اللَّه أَكْبَر , اللَّه أَكْبَر , وَفَاء لَا غَدْر , فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ عَمْرو بْن عَنْبَسَة , فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فَسَأَلَ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْم عَهْد فَلَا يَشُدَّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدهَا أَوْ يَنْبِذ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ) فَرَجَعَ مُعَاوِيَة بِالنَّاسِ . قَالَ التِّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَالسَّوَاء : الْمُسَاوَاة وَالِاعْتِدَال . وَقَالَ الرَّاجِز فَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغُدَّرِ الْأَعْدَاءِ حَتَّى يُجِيبُوك إِلَى السَّوَاءِ وَقَالَ الْكِسَائِيّ : السَّوَاء الْعَدْل . وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى الْوَسَط , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فِي سَوَاء الْجَحِيم " [ الصَّافَّات : 55 ] . وَمِنْهُ قَوْل حَسَّان : يَا وَيْح أَصْحَاب النَّبِيّ وَرَهْطه بَعْد الْمُغَيَّب فِي سَوَاء الْمُلْحَد الْفَرَّاء : وَيُقَال " فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء " جَهْرًا لَا سِرًّا .
رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِكُلِّ غَادِر لِوَاء يَوْمَ الْقِيَامَة يُرْفَع لَهُ بِقَدْرِ غَدْره أَلَا وَلَا غَادِر أَعْظَم غَدْرًا مِنْ أَمِير عَامَّة ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : إِنَّمَا كَانَ الْغَدْر فِي حَقّ الْإِمَام أَعْظَم وَأَفْحَشَ مِنْهُ فِي غَيْره لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَة , فَإِنَّهُمْ إِذَا غَدَرُوا وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلَمْ يُنْبَذُوا بِالْعَهْدِ لَمْ يَأْمَنهُمْ الْعَدُوّ عَلَى عَهْد وَلَا صُلْح , فَتَشْتَدّ شَوْكَته وَيَعْظُم ضَرَره , وَيَكُون ذَلِكَ مُنَفِّرًا عَنْ الدُّخُول فِي الدِّين , وَمُوجِبًا لِذَمِّ أَئِمَّة الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَدُوِّ عَهْد فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَيَّل عَلَيْهِ بِكُلِّ حِيلَة , وَتُدَار عَلَيْهِ كُلّ خَدِيعَة . وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْحَرْب خُدْعَة ) . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يُجَاهَد مَعَ الْإِمَام الْغَادِر , عَلَى قَوْلَيْنِ . فَذَهَبَ أَكْثَرهمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَاتَل مَعَهُ , بِخِلَافِ الْخَائِن وَالْفَاسِق . وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى الْجِهَاد مَعَهُ . وَالْقَوْلَانِ فِي مَذْهَبنَا .
أَيْ مَنْ أَفَلَتْ مِنْ وَقْعَة بَدْر سَبَقَ إِلَى الْحَيَاة . ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ : " إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونِ " أَيْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُظَفِّرك اللَّه بِهِمْ . وَقِيلَ : يَعْنِي فِي الْآخِرَة . وَهُوَ قَوْل الْحَسَن . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَحَفْص وَحَمْزَة " يَحْسَبَنَّ " بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ , عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْل ضَمِير الْفَاعِل . و " الَّذِينَ كَفَرُوا " مَفْعُول أَوَّل . و " سَبَقُوا " مَفْعُول ثَانٍ . وَأَمَّا قِرَاءَة الْيَاء فَزَعَمَ جَمَاعَة مِنْ النَّحْوِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو حَاتِم أَنَّ هَذَا لَحْن لَا تَحِلّ الْقِرَاءَة بِهِ , وَلَا تُسْمَع لِمَنْ عَرَفَ الْإِعْرَاب أَوْ عُرِّفَهُ . قَالَ أَبُو حَاتِم : لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِ " يَحْسَبَنَّ " بِمَفْعُولٍ وَهُوَ يَحْتَاج إِلَى مَفْعُولَيْنِ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا تَحَامُل شَدِيد , وَالْقِرَاءَة تَجُوز وَيَكُون الْمَعْنَى : وَلَا يَحْسَبَنَّ مَنْ خَلْفَهُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا , فَيَكُون الضَّمِير يَعُود عَلَى مَا تَقَدَّمَ , إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّاءِ أَبْيَن . الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ اِحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْل ضَمِير النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيَكُون " الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا " الْمَفْعُولَيْنِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ " الَّذِينَ كَفَرُوا " فَاعِلًا , وَالْمَفْعُول الْأَوَّل مَحْذُوف , الْمَعْنَى : وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسهمْ سَبَقُوا . مَكِّيّ : وَيَجُوز أَنْ يُضْمِر مَعَ سَبَقُوا أَنْ , فَيَسُدّ مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ وَالتَّقْدِير : وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ سَبَقُوا , فَهُوَ مِثْل " أَحَسِبَ النَّاس أَنْ يُتْرَكُوا " [ الْعَنْكَبُوت : 2 ] فِي سَدّ أَنْ مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر " أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونِ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة . وَاسْتَبْعَدَ هَذِهِ الْقِرَاءَة أَبُو حَاتِم وَأَبُو عُبَيْد . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَإِنَّمَا يَجُوز عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونِ . قَالَ النَّحَّاس : الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْد لَا يَجُوز عِنْد النَّحْوِيِّينَ الْبَصْرِيِّينَ , لَا يَجُوز حَسِبْت زَيْدًا أَنَّهُ خَارِج , إِلَّا بِكَسْرِ الْأَلِف , وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِع الْمُبْتَدَأ , كَمَا تَقُول : حَسِبْت زَيْدًا أَبُوهُ خَارِج , وَلَوْ فَتَحْتَ لَصَارَ الْمَعْنَى حَسِبْت زَيْدًا خُرُوجَهُ . وَهَذَا مُحَال , وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ الْبُعْد أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ يَصِحّ بِهِ مَعْنًى , إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ " لَا " زَائِدَةً , وَلَا وَجْهَ لِتَوْجِيهِ حَرْف فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى التَّطَوُّل بِغَيْرِ حُجَّة يَجِب التَّسْلِيم لَهَا . وَالْقِرَاءَة جَيِّدَة عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونِ . مَكِّيّ : فَالْمَعْنَى لَا يَحْسَبَنَّ الْكُفَّار أَنْفُسَهُمْ فَاتُوا لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونِ , أَيْ لَا يَفُوتُونَ . فَ " أَنَّ " فِي مَوْضِع نَصْب بِحَذْفِ اللَّام , أَوْ فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى إِعْمَال اللَّام لِكَثْرَةِ حَذْفهَا مَعَ " أَنَّ " , وَهُوَ يُرْوَى عَنْ الْخَلِيل وَالْكِسَائِيّ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ " إِنَّ " عَلَى الِاسْتِئْنَاف وَالْقَطْع مِمَّا قَبْله , وَهُوَ الِاخْتِيَار , لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّأْكِيد , وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ عَلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مُحَيْصِن أَنَّهُ قَرَأَ " لَا يُعَجِّزُونِ " بِالتَّشْدِيدِ وَكَسْر النُّون . النَّحَّاس : وَهَذَا خَطَأ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّ مَعْنَى عَجَّزَهُ ضَعَّفَهُ وَضَعَّفَ أَمْرَهُ . وَالْآخَر - أَنَّهُ كَانَ يَجِب أَنْ يَكُونَ بِنُونَيْنِ . وَمَعْنَى أَعْجَزَهُ سَبَقَهُ وَفَاته حَتَّى لَمْ يَقْدِر عَلَيْهِ .
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ↓
" وَأَعِدُّوا لَهُ " أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه الْمُؤْمِنِينَ بِإِعْدَادِ الْقُوَّة لِلْأَعْدَاءِ بَعْدَ أَنْ أَكَّدَ تَقْدِمَة التَّقْوَى . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَوْ شَاءَ لَهَزَمَهُمْ بِالْكَلَامِ وَالتَّفْل فِي وُجُوههمْ وَبِحَفْنَةٍ مِنْ تُرَاب , كَمَا فَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْتَلِيَ بَعْضَ النَّاس بِبَعْضٍ بِعِلْمِهِ السَّابِق وَقَضَائِهِ النَّافِذ . وَكُلّ مَا تَعُدّهُ لِصَدِيقِك مِنْ خَيْر أَوْ لِعَدُوِّك مِنْ شَرّ فَهُوَ دَاخِل فِي عُدَّتك . قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْقُوَّة هَاهُنَا السِّلَاح وَالْقِسِيّ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر يَقُول : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة أَلَا إِنَّ الْقُوَّة الرَّمْي أَلَا إِنَّ الْقُوَّة الرَّمْي أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْي ) . وَهَذَا نَصّ رَوَاهُ عَنْ عُقْبَة أَبُو عَلِيّ ثُمَامَة بْن شُفَيّ الْهَمْدَانِيّ , وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح غَيْره . وَحَدِيث آخَر فِي الرَّمْي عَنْ عُقْبَة أَيْضًا قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ وَيَكْفِيكُمْ اللَّه فَلَا يَعْجِز أَحَدكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُلّ شَيْء يَلْهُو بِهِ الرَّجُل بَاطِل إِلَّا رَمْيه بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبه فَرَسه وَمُلَاعَبَته أَهْله فَإِنَّهُ مِنْ الْحَقّ ) . وَمَعْنَى هَذَا وَاَللَّه أَعْلَم : أَنَّ كُلَّ مَا يَتَلَهَّى بِهِ الرَّجُل مِمَّا لَا يُفِيدهُ فِي الْعَاجِل وَلَا فِي الْآجِل فَائِدَة فَهُوَ بَاطِل , وَالْإِعْرَاض عَنْهُ أَوْلَى . وَهَذِهِ الْأُمُور الثَّلَاثَة فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَفْعَلهَا عَلَى أَنَّهُ يَتَلَهَّى بِهَا وَيَنْشَط , فَإِنَّهَا حَقّ لِاتِّصَالِهَا بِمَا قَدْ يُفِيد , فَإِنَّ الرَّمْيَ بِالْقَوْسِ وَتَأْدِيب الْفَرَس جَمِيعًا مِنْ مَعَاوِن الْقِتَال . وَمُلَاعَبَة الْأَهْل قَدْ تُؤَدِّي إِلَى مَا يَكُون عَنْهُ وَلَد يُوَحِّد اللَّهَ وَيَعْبُدهُ , فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَة مِنْ الْحَقّ . وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه يُدْخِل ثَلَاثَة نَفَر الْجَنَّة بِسَهْمٍ وَاحِدٍ صَانِعه يَحْتَسِب فِي صَنَعْته الْخَيْر وَالرَّامِي وَمُنْبِله ) . وَفَضْل الرَّمْي عَظِيم وَمَنْفَعَته عَظِيمَة لِلْمُسْلِمِينَ , وَنِكَايَته شَدِيدَة عَلَى الْكَافِرِينَ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا بَنِي إِسْمَاعِيل اِرْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ) . وَتَعَلُّم الْفُرُوسِيَّة وَاسْتِعْمَال الْأَسْلِحَة فَرْض كِفَايَة . وَقَدْ يَتَعَيَّن . " وَمِنْ رِبَاط الْخَيْل " وَقَرَأَ الْحَسَن وَعَمْرو بْن دِينَار وَأَبُو حَيْوَةَ " وَمِنْ رُبُط الْخَيْل " بِضَمِّ الرَّاء وَالْبَاء , جَمْع رِبَاط , كَكِتَابٍ وَكُتُب قَالَ أَبُو حَاتِم عَنْ اِبْن زَيْد : الرِّبَاط مِنْ الْخَيْل الْخَمْس فَمَا فَوْقَهَا , وَجَمَاعَته رُبُط . وَهِيَ الَّتِي تَرْتَبِط , يُقَال مِنْهُ : رَبَطَ يَرْبِط رَبْطًا . وَارْتَبَطَ يَرْتَبِط اِرْتِبَاطًا . وَمَرْبِط الْخَيْل وَمَرَابِطهَا وَهِيَ اِرْتِبَاطهَا بِإِزَاءِ الْعَدُوّ . قَالَ الشَّاعِر : أَمَرَ الْإِلَه بِرَبْطِهَا لِعَدُوِّهِ فِي الْحَرْب إِنَّ اللَّهَ خَيْر مُوَفِّق
وَقَالَ مَكْحُول بْن عَبْد اللَّه : تَلُوم عَلَى رَبْط الْجِيَاد وَحَبْسهَا /و وَأَوْصَى بِهَا اللَّه النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ش وَرِبَاط الْخَيْل فَضْل عَظِيم وَمَنْزِلَة شَرِيفَة . وَكَانَ لِعُرْوَةَ الْبَارِقِيّ سَبْعُونَ فَرَسًا مُعَدَّة لِلْجِهَادِ . وَالْمُسْتَحَبّ مِنْهَا الْإِنَاث , قَالَ عِكْرِمَة وَجَمَاعَة . وَهُوَ صَحِيح , فَإِنَّ الْأُنْثَى بَطْنهَا كَنْز وَظَهْرهَا عِزّ . وَفَرَس جِبْرِيل كَانَ أُنْثَى . وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْخَيْل ثَلَاثَة لِرَجُلٍ أَجْر وَلِرَجُلٍ سِتْر وَلِرَجُلٍ وِزْر ) الْحَدِيث . وَلَمْ يَخُصّ ذَكَرًا مِنْ أُنْثَى . وَأَجْوَدهَا أَعْظَمُهَا أَجْرًا وَأَكْثَرهَا نَفْعًا . وَقَدْ سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيّ الرِّقَاب أَفْضَل ؟ فَقَالَ : ( أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسهَا عِنْدَ أَهْلهَا ) . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي وَهْب الْجُشَمِيّ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَة - قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاء وَأَحَبّ الْأَسْمَاء إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَبْد اللَّه وَعَبْد الرَّحْمَن وَارْتَبِطُوا الْخَيْلَ وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَكْفَالهَا وَقَلِّدُوهَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ وَعَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْت أَغَرّ مُحَجَّل أَوْ أَشْقَر أَغَرّ مُحَجَّل أَوْ أَدْهَم أَغَرّ مُحَجَّل ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي قَتَادَة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( خَيْر الْخَيْل الْأَدْهَم الْأَقْرَح الْأَرْثَم ثُمَّ الْأَقْرَح الْمُحَجَّل طَلْق الْيَمِين فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَم فَكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة ) . وَرَوَاهُ الدَّارِمِيّ عَنْ أَبِي قَتَادَة أَيْضًا , أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه , إِنِّي أُرِيد أَنْ أَشْتَرِيَ فَرَسًا , فَأَيّهَا أَشْتَرِي ؟ قَالَ : ( اِشْتَرِ أَدْهَمَ أَرْثَمَ مُحَجَّلًا طَلْق الْيَد الْيُمْنَى أَوْ مِنْ الْكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة تَغْنَمْ وَتَسْلَمْ ) . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَه الشِّكَالَ مِنْ الْخَيْل . وَالشِّكَال : أَنْ يَكُونَ الْفَرَس فِي رِجْله الْيُمْنَى بَيَاض وَفِي يَده الْيُسْرَى , أَوْ فِي يَده الْيُمْنَى وَرِجْله الْيُسْرَى . خَرَّجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَيُذْكَر أَنَّ الْفَرَسَ الَّذِي قُتِلَ عَلَيْهِ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ أَشْكَلَ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ قَوْلَهُ " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة " كَانَ يَكْفِي , فَلِمَ خَصَّ الرَّمْيَ وَالْخَيْل بِالذِّكْرِ ؟ قِيلَ لَهُ : إِنَّ الْخَيْلَ لَمَّا كَانَتْ أَصْل الْحُرُوب وَأَوْزَارهَا الَّتِي عُقِدَ الْخَيْر فِي نَوَاصِيهَا , وَهِيَ أَقْوَى الْقُوَّة وَأَشَدّ الْعُدَّة وَحُصُون الْفُرْسَان , وَبِهَا يُجَال فِي الْمَيْدَان , خَصَّهَا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا , وَأَقْسَمَ بِغُبَارِهَا تَكْرِيمًا . فَقَالَ : " وَالْعَادِيَات ضَبْحًا " [ الْعَادِيَات : 1 ] الْآيَة . وَلَمَّا كَانَتْ السِّهَام مِنْ أَنْجَع مَا يَتَعَاطَى فِي الْحُرُوب وَالنِّكَايَة فِي الْعَدُوّ وَأَقْرَبهَا تَنَاوُلًا لِلْأَرْوَاحِ , خَصَّهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ لَهَا وَالتَّنْبِيه عَلَيْهَا . وَنَظِير هَذَا فِي التَّنْزِيل , " وَجِبْرِيل وَمِيكَال " [ الْبَقَرَة : 98 ] وَمِثْله كَثِير .
وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى جَوَاز وَقْف الْخَيْل وَالسِّلَاح , وَاِتِّخَاذ الْخَزَائِن وَالْخُزَّان لَهَا عُدَّة لِلْأَعْدَاءِ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي جَوَاز وَقْف الْحَيَوَان كَالْخَيْلِ وَالْإِبِل عَلَى قَوْلَيْنِ : الْمَنْع , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَالصِّحَّة , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَهُوَ أَصَحّ , لِهَذِهِ الْآيَة , وَلِحَدِيثِ اِبْن عُمَر فِي الْفَرَس الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيل اللَّه وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَقّ خَالِد : ( وَأَمَّا خَالِد فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا فَإِنَّهُ قَدْ اِحْتَبَسَ أَدْرَاعه وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيل اللَّه ) الْحَدِيث . وَمَا رُوِيَ أَنَّ اِمْرَأَة جَعَلَتْ بَعِيرًا فِي سَبِيل اللَّه , فَأَرَادَ زَوْجهَا الْحَجّ , فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( اِدْفَعِيهِ إِلَيْهِ لِيَحُجّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيل اللَّه ) . وَلِأَنَّهُ مَال يُنْتَفَع بِهِ فِي وَجْه قُرْبَة , فَجَازَ أَنْ يُوقَفَ كَالرُّبَاعِ . وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة تَسْمِيَة خَيْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَآلَة حَرْبه . مَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا فِي كِتَاب الْأَعْلَام .
يَعْنِي تُخِيفُونَ بِهِ عَدُوّ اللَّه وَعَدُوّكُمْ مِنْ الْيَهُود وَقُرَيْش وَكُفَّار الْعَرَب .
يَعْنِي فَارِس وَالرُّوم , قَالَهُ السُّدِّيّ . وَقِيلَ : الْجِنّ . وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِذَلِكَ كُلّ مَنْ لَا تُعْرَف عَدَاوَته . قَالَ السُّهَيْلِيّ : قِيلَ لَهُمْ قُرَيْظَة . وَقِيلَ : هُمْ مِنْ الْجِنّ . وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ شَيْء , لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانه قَالَ : " وَأَخِرِينَ مِنْ دُونهمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّه يَعْلَمهُمْ " , فَكَيْفَ يَدَّعِي أَحَد عِلْمًا بِهِمْ , إِلَّا أَنْ يَصِحَّ حَدِيث جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ قَوْله فِي هَذِهِ الْآيَة : ( هُمْ الْجِنّ ) . ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَخْبِل أَحَدًا فِي دَار فِيهَا فَرَس عَتِيق ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّصَ مِنْ الْهَجَّانَة . وَهَذَا الْحَدِيث أَسْنَدَهُ الْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة عَنْ اِبْن الْمُلَيْكِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ : أَنَّ الْجِنَّ لَا تَقْرَب دَارًا فِيهَا فَرَس , وَأَنَّهَا تَنْفِر مِنْ صَهِيل الْخَيْل .
أَيْ تَتَصَدَّقُوا . وَقِيلَ : تُنْفِقُوهُ عَلَى أَنْفُسكُمْ أَوْ خَيْلكُمْ .
فِي الْآخِرَة , الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف , إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة . وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ
وَقَالَ مَكْحُول بْن عَبْد اللَّه : تَلُوم عَلَى رَبْط الْجِيَاد وَحَبْسهَا /و وَأَوْصَى بِهَا اللَّه النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ش وَرِبَاط الْخَيْل فَضْل عَظِيم وَمَنْزِلَة شَرِيفَة . وَكَانَ لِعُرْوَةَ الْبَارِقِيّ سَبْعُونَ فَرَسًا مُعَدَّة لِلْجِهَادِ . وَالْمُسْتَحَبّ مِنْهَا الْإِنَاث , قَالَ عِكْرِمَة وَجَمَاعَة . وَهُوَ صَحِيح , فَإِنَّ الْأُنْثَى بَطْنهَا كَنْز وَظَهْرهَا عِزّ . وَفَرَس جِبْرِيل كَانَ أُنْثَى . وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْخَيْل ثَلَاثَة لِرَجُلٍ أَجْر وَلِرَجُلٍ سِتْر وَلِرَجُلٍ وِزْر ) الْحَدِيث . وَلَمْ يَخُصّ ذَكَرًا مِنْ أُنْثَى . وَأَجْوَدهَا أَعْظَمُهَا أَجْرًا وَأَكْثَرهَا نَفْعًا . وَقَدْ سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيّ الرِّقَاب أَفْضَل ؟ فَقَالَ : ( أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسهَا عِنْدَ أَهْلهَا ) . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي وَهْب الْجُشَمِيّ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَة - قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاء وَأَحَبّ الْأَسْمَاء إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَبْد اللَّه وَعَبْد الرَّحْمَن وَارْتَبِطُوا الْخَيْلَ وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَكْفَالهَا وَقَلِّدُوهَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ وَعَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْت أَغَرّ مُحَجَّل أَوْ أَشْقَر أَغَرّ مُحَجَّل أَوْ أَدْهَم أَغَرّ مُحَجَّل ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي قَتَادَة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( خَيْر الْخَيْل الْأَدْهَم الْأَقْرَح الْأَرْثَم ثُمَّ الْأَقْرَح الْمُحَجَّل طَلْق الْيَمِين فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَم فَكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة ) . وَرَوَاهُ الدَّارِمِيّ عَنْ أَبِي قَتَادَة أَيْضًا , أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه , إِنِّي أُرِيد أَنْ أَشْتَرِيَ فَرَسًا , فَأَيّهَا أَشْتَرِي ؟ قَالَ : ( اِشْتَرِ أَدْهَمَ أَرْثَمَ مُحَجَّلًا طَلْق الْيَد الْيُمْنَى أَوْ مِنْ الْكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة تَغْنَمْ وَتَسْلَمْ ) . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَه الشِّكَالَ مِنْ الْخَيْل . وَالشِّكَال : أَنْ يَكُونَ الْفَرَس فِي رِجْله الْيُمْنَى بَيَاض وَفِي يَده الْيُسْرَى , أَوْ فِي يَده الْيُمْنَى وَرِجْله الْيُسْرَى . خَرَّجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَيُذْكَر أَنَّ الْفَرَسَ الَّذِي قُتِلَ عَلَيْهِ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ أَشْكَلَ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ قَوْلَهُ " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة " كَانَ يَكْفِي , فَلِمَ خَصَّ الرَّمْيَ وَالْخَيْل بِالذِّكْرِ ؟ قِيلَ لَهُ : إِنَّ الْخَيْلَ لَمَّا كَانَتْ أَصْل الْحُرُوب وَأَوْزَارهَا الَّتِي عُقِدَ الْخَيْر فِي نَوَاصِيهَا , وَهِيَ أَقْوَى الْقُوَّة وَأَشَدّ الْعُدَّة وَحُصُون الْفُرْسَان , وَبِهَا يُجَال فِي الْمَيْدَان , خَصَّهَا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا , وَأَقْسَمَ بِغُبَارِهَا تَكْرِيمًا . فَقَالَ : " وَالْعَادِيَات ضَبْحًا " [ الْعَادِيَات : 1 ] الْآيَة . وَلَمَّا كَانَتْ السِّهَام مِنْ أَنْجَع مَا يَتَعَاطَى فِي الْحُرُوب وَالنِّكَايَة فِي الْعَدُوّ وَأَقْرَبهَا تَنَاوُلًا لِلْأَرْوَاحِ , خَصَّهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ لَهَا وَالتَّنْبِيه عَلَيْهَا . وَنَظِير هَذَا فِي التَّنْزِيل , " وَجِبْرِيل وَمِيكَال " [ الْبَقَرَة : 98 ] وَمِثْله كَثِير .
وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى جَوَاز وَقْف الْخَيْل وَالسِّلَاح , وَاِتِّخَاذ الْخَزَائِن وَالْخُزَّان لَهَا عُدَّة لِلْأَعْدَاءِ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي جَوَاز وَقْف الْحَيَوَان كَالْخَيْلِ وَالْإِبِل عَلَى قَوْلَيْنِ : الْمَنْع , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَالصِّحَّة , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَهُوَ أَصَحّ , لِهَذِهِ الْآيَة , وَلِحَدِيثِ اِبْن عُمَر فِي الْفَرَس الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيل اللَّه وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَقّ خَالِد : ( وَأَمَّا خَالِد فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا فَإِنَّهُ قَدْ اِحْتَبَسَ أَدْرَاعه وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيل اللَّه ) الْحَدِيث . وَمَا رُوِيَ أَنَّ اِمْرَأَة جَعَلَتْ بَعِيرًا فِي سَبِيل اللَّه , فَأَرَادَ زَوْجهَا الْحَجّ , فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( اِدْفَعِيهِ إِلَيْهِ لِيَحُجّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيل اللَّه ) . وَلِأَنَّهُ مَال يُنْتَفَع بِهِ فِي وَجْه قُرْبَة , فَجَازَ أَنْ يُوقَفَ كَالرُّبَاعِ . وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة تَسْمِيَة خَيْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَآلَة حَرْبه . مَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا فِي كِتَاب الْأَعْلَام .
يَعْنِي تُخِيفُونَ بِهِ عَدُوّ اللَّه وَعَدُوّكُمْ مِنْ الْيَهُود وَقُرَيْش وَكُفَّار الْعَرَب .
يَعْنِي فَارِس وَالرُّوم , قَالَهُ السُّدِّيّ . وَقِيلَ : الْجِنّ . وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِذَلِكَ كُلّ مَنْ لَا تُعْرَف عَدَاوَته . قَالَ السُّهَيْلِيّ : قِيلَ لَهُمْ قُرَيْظَة . وَقِيلَ : هُمْ مِنْ الْجِنّ . وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ شَيْء , لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانه قَالَ : " وَأَخِرِينَ مِنْ دُونهمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّه يَعْلَمهُمْ " , فَكَيْفَ يَدَّعِي أَحَد عِلْمًا بِهِمْ , إِلَّا أَنْ يَصِحَّ حَدِيث جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ قَوْله فِي هَذِهِ الْآيَة : ( هُمْ الْجِنّ ) . ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَخْبِل أَحَدًا فِي دَار فِيهَا فَرَس عَتِيق ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّصَ مِنْ الْهَجَّانَة . وَهَذَا الْحَدِيث أَسْنَدَهُ الْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة عَنْ اِبْن الْمُلَيْكِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ : أَنَّ الْجِنَّ لَا تَقْرَب دَارًا فِيهَا فَرَس , وَأَنَّهَا تَنْفِر مِنْ صَهِيل الْخَيْل .
أَيْ تَتَصَدَّقُوا . وَقِيلَ : تُنْفِقُوهُ عَلَى أَنْفُسكُمْ أَوْ خَيْلكُمْ .
فِي الْآخِرَة , الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف , إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة . وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ