الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَسورة الأنبياء الآية رقم 61
فلما تحققوا أنه إبراهيم " قَالُوا فَأْتُوا بِهِ " أي: بإبراهيم " عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ " أي بمرأى منهم ومسمع " لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ " .
أي: يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم, وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق وتقوم عليهم الحجة, كما قال موسى حين واعد فرعون.
" مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى " .
قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُسورة الأنبياء الآية رقم 62
فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له: " أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا " أي: التكسير " بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ " ؟ وهذا استفهام تقرير, أي: فما الذي جرأك, وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر؟.
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَسورة الأنبياء الآية رقم 63
فقال إبراهيم والناس مشاهدون " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا " أي: كسرها غضبا عليها, لما عبدت معه, وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده.
وهذا الكلام من إبراهيم, المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه.
ولهذا قال: " فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ " وأراد: الأصنام المكسرة اسئلوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر, اسألوه لأي شيء كسرها, إن كان عندهم نطق, فسيجيبونكم إلى ذلك, وأنا وأنتم, وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم, ولا تنفع ولا تضر, بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.
فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَسورة الأنبياء الآية رقم 64
" فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ " أي: ثايت إليهم عقولهم, ورجعت إليهم أحلامهم, وعلموا أنهم ضالون في عبادتها, وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك.
" فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ " فحصل بذلك المقصود, ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم.
ولكن لم يستمروا على هذه الحالة.
بل " نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ " أي: انقلب الأمر عليهم, وانتكست عقولهم وضلت أحلامهم, فقالوا لإبراهيم: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ " فكيف تتهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق؟
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَسورة الأنبياء الآية رقم 65
" نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ " أي: انقلب الأمر عليهم, وانتكست عقولهم وضلت أحلامهم, فقالوا لإبراهيم: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ " فكيف تتهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق؟
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْسورة الأنبياء الآية رقم 66
فقال إبراهيم - موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رءوس الأشهاد, ومبينا عدم استحقاق آلهتهم للعبادة-: " أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ " .
فلا نفع ولا دفع.
أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَسورة الأنبياء الآية رقم 67
" أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " أي: ما أضلكم وأخسر صفقتكم, وما أخسكم, أنتم وما عبدتم من دون الله.
" أَفَلَا تَعْقِلُونَ " لتعرفوا هذه الحال.
فلما عدمتم العقل, وارتكبتم الجهل والضلال على بصيرة, صارت البهائم, أحسن حالا منكم.
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَسورة الأنبياء الآية رقم 68
فحينئذ لما أفحمهم, ولم يبينوا حجة, استعملوا قوتهم في معاقبته.
و " قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ " أي: اقتلوه أشنع القتلات, بالإحراق, غضبا لآلهتكم, ونصرة لها.
فتعسا لهم ثم تعسا, حيث عبدوا كما أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم, واتخذوه إلها.
فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار وقال لها: " كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ " فكانت عليه بردا وسلاما, لم ينله فيها أذى, ولا أحس بمكروه.
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَسورة الأنبياء الآية رقم 69
فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار وقال لها: " كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ " فكانت عليه بردا وسلاما, لم ينله فيها أذى, ولا أحس بمكروه.
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَسورة الأنبياء الآية رقم 70
" وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا " حيث عزموا على إحراقه.
" فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ " أي: في الدنيا والآخرة, كما جعل الله خليله وأتباعه, هم الرابحين المفلحين.
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 71
" وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا " وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إلا لوط عليه السلام قيل: إنه ابن أخيه, فنجاه الله, وهاجر " إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ " أي: الشام, فغادر قومه في " بابل " من أرض العراق.
" وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي " إنه هو العزيز الحكيم.
ومن بركة الشام, أن كثيرا من الأنبياء كانوا فيها, وأن الله اختارها, مهاجرا لخليله.
وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة, وهو بيت المقدس.
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَسورة الأنبياء الآية رقم 72
" وَوَهَبْنَا لَهُ " حين اعتزل قومه " إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " ابن إسحاق " نَافِلَةً " بعد ما كبر, وكانت زوجته عاقرا, فبشرته الملائكة بإسحاق.
" وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ " ويعقوب, هو إسرائيل, الذي كانت منه الأمة العظيمة, وإسماعيل بن إبراهيم, الذي كانت منه الأمة الفاضلة العربية, ومن ذريته, سيد الأولين والآخرين.
" وَكُلَا " من إبراهيم وإسحاق ويعقوب " جَعَلْنَا صَالِحِينَ " أي: قائمين بحقوقه, وحقوق عباده.
ومن صلاحهم, أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره, وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون, ويمشي خلفه السالكون, وذلك لما صبروا, وكانوا بآيات الله يوقنون.
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَسورة الأنبياء الآية رقم 73
وقوله: " يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " أي: يهدون الناس بديننا, لا يأمرون بأهواء أنفسهم, بل بأمر الله ودينه, واتباع مرضاته, ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله.
" وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ " يفعلونها ويدعون الناس إليها.
وهذا شامل للخيرات كلها, من حقوق الله, وحقوق العباد.
" وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ " هذا من باب عطف الخاص على العام, لشرف هاتين العبادتين وفضلهما, ولأن من كملهما كما أمر, كان قائما بدينه, ومن ضيعهما, كان لما سواهما أضيع.
ولأن الصلاة أفضل الأعمال, التي فيها حقه.
والزكاة أفضل الأعمال, التي فيها الإحسان لخلقه.
" وَكَانُوا لَنَا " أي: لا لغيرنا " عَابِدِينَ " أي: مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم.
فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم, فاتصفوا بما أمر الله به الخلق, وخلقهم لأجله.
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَسورة الأنبياء الآية رقم 74
هذا ثناء من الله على رسوله (لوط) عليه السلام بالعلم الشرعي, والحكم بين الناس, بالصواب والسداد, وأن الله أرسله إلى قومه, يدعوهم إلى عبادة الله, وينهاهم عما هم عليه من الفواحش, فلبث يدعوهم, فلم يستجيبوا له.
فقلب الله عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم لأنهم " كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ " .
كذبوا الداعي, وتوعدوه بالإخراج, ونجى الله لوطا وأهله.
فأمره أن يسري بهم ليلا, ليبعدوا عن القرية, فسروا ونجوا, وذلك من فضل الله عليهم ومنته.
وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَسورة الأنبياء الآية رقم 75
" وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا " التي من دخلها, كان من الآمنين, من جميع المخاوف, النائلين كل خير وسعادة, وبر, وسرور, وثناء.
وذلك لأنه من الصالحين, الذين صلحت أعمالهم وزكت أحوالهم, وأصلح الله فاسدهم.
والصلاح, هو السبب لدخول العبد برحمة الله.
كما أن الفساد, سبب لحرمانه الرحمة والخير.
وأعظم الناس صلاحا, الأنبياء عليهم السلام ولهذا يصفهم بالصلاح.
وقال سليمان عليه السلام " وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ " .
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِسورة الأنبياء الآية رقم 76
أي: واذكر عبدنا ورسولنا, نوحا عليه السلام, مثنيا مادحا, حين أرسله الله إلى قومه, فلبث فيهم ألف سنة, إلا خمسين عاما, يدعوهم إلى عبادة الله, وينهاهم عن الشرك به, ويبدي فيهم ويعيد, ويدعوهم سرا وجهارا, وليلا ونهارا.
فلما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ, ولا يفيد لديهم الزجر, نادى ربه وقال: " رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا " .
فاستجاب الله له, فأغرقهم, ولم يبق منهم أحدا.
ونجى الله نوحا وأهله, ومن معه من المؤمنين, في الفلك المشحون.
وجعل ذريته هم الباقين, ونصرهم الله على قومه المستهزئين.
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَسورة الأنبياء الآية رقم 77
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَسورة الأنبياء الآية رقم 78
أي: واذكر هذين النبيين الكريمين " سليمان " و " داود " مثنيا مبجلا, إذا آتاهما الله العلم الواسع والحكم بين العباد, بدليل قوله: " إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ " أي: إذ تحاكم إليهما صاحب حرث, نفشت فيه غنم القوم الأخرى, أي.
رعت ليلا, فأكلت ما في أشجاره, ورعت زرعه.
فقضى فيه داود عليه السلام, بأن الغنم تكون لصاحب الحرث, نظرا إلى تفريط أصحابها, فعاقبهم بهذه العقوبة.
وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب, بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث, حتى يعود إلى حاله الأولى, فإذا عاد إلى حاله, ترادا ورجع كل منهما بما له, وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليه السلام ولهذا قال:
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَسورة الأنبياء الآية رقم 79
" فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ " أي فهمناه هذه القضية.
ولا يدل ذلك, أن داود لم يفهمه الله في غيرها, ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله " وَكُلَا " من داود وسليمان " آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا " .
وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك.
وليس بمعلوم إذا أخطأ, مع بذل اجتهاده.
ثم ذكر ما خص به كلا منهما فقال: " وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ " .
وذكر أنه كان من أعبد الناس وأكثرهم لله ذكرا وتسبيحا, وتمجيدا.
وكان قد أعطاه الله, من حسن الصوت ورقته ورخامته, ما لم يؤته أحدا من الخلق.
فكان إذا سبح وأثنى على الله, جاوبته الصم والطيور البهم, وهذا فضل الله عليه وإحسانه ولهذا قال: " وَكُنَّا فَاعِلِينَ " .
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَسورة الأنبياء الآية رقم 80
" وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ " أي: علم الله داود عليه السلام, صنعة الدروع.
فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده.
فألان الله له الحديد, وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة.
" لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ " أي: هي وقاية لكم, وحفظ عند الحرب, واشتداد البأس.
" فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ " نعمة الله عليكم, حيث أجراها على يد عبده داود.
كما قال تعالى: " وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ " يحتمل أن تعليم الله لداود صنعة الدروع وإلانتها أمر خارق للعادة.
وأن يكون - كما قاله المفسرون-: إن الله ألان له الحديد, حتى كان يعمله كالعجين والطين, من دون إذابة له على النار.
ويحتمل أن تعليم الله له, على جاري العادة, وأن إلانة الحديد له, بما علمه الله من الأسباب المعروفة الآن, لإذابتها.
وهذا هو الظاهر, لأن الله امتن على العباد وأمر بشكرها.
ولولا أن صنعته من الأمور التي جعلها الله مقدورة للعباد, لم يمتن عليهم بذلك, ويذكر فائدتها, لأن الدروع التي صنع داود عليه السلام, متعذر أن يكون المراد أعينها, وإنما المنة بالجنس.
والاحتمال الذي ذكره المفسرون, لا دليل عليه إلا قوله " وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ " .
وليس فيه أن الإلانة من دون سبب, والله أعلم بذلك.
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 81
" وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ " أي: سخرناها " عَاصِفَةً " أي: سريعة في مرورها.
" تَجْرِي بِأَمْرِهِ " حيث أديرت امتثلت أمره, غدوها شهر ورواحها شهر " إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا " وهي أرض الشام, حيث كان مقره.
فيذهب على الريح شرقا وغربا, ويكون مأواها ورجوعها, إلى الأرض المباركة.
" وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ " قد أحاط علمنا بجميع الأشياء, وعلمنا داود وسليمان, ما أوصلناهما به إلى ما ذكرنا
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَسورة الأنبياء الآية رقم 82
" وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ " هذا أيضا من خصائص سليمان عليه السلام, أن الله سخر له الشياطين والعفاريت, وسلطه على تسخيرهم في الأعمال, التي لا يقدر على كثير منها غيرهم.
فكان منهم, من يغوصون له في البحر, ويستخرج الدر, واللؤلؤ, وغير ذلك.
ومنهم من يعمل له " مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ " .
وسخر طائفة منهم, لبناء بيت المقدس, ومات, وهم على عمله, وبقوا بعده سنة, حتى علموا موته, كما سيأتي, إن شاء الله تعالى.
" وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ " أي: لا يقدرون على الامتناع منه وعصيانه, بل حفظهم الله له, بقوته وعزته, وسلطانه.
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 83
أي: واذكر عبدنا ورسولنا, أيوب, مثنيا معظما له, رافعا لقدره, حين ابتلاه, ببلاء شديد, فوجده صابرا راضيا عنه.
وذلك أن الشيطان سلط على جسده, ابتلاء من الله, وامتحانا فنفخ في جسده, فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة, واشتد به البلاء, ومات أهله, وذهب ماله, فنادى ربه قائلا رب " أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " .
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَسورة الأنبياء الآية رقم 84
فتوسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه, وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ.
وبرحمة ربه الواسعة العامة استجاب الله له, وقال: " ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ " فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة فاغتسل منها وشرب, فأذهب الله عنه ما به من الأذى.
" وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ " أي: رددنا عليه أهله وماله.
" وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ " بأن منحه الله العافية, ومن الأهل والمال شيئا كثيرا.
" رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا " به, حيث صبر ورضي, فأثابه الله ثوابا عاجلا, قبل ثواب الآخرة.
" وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ " أي: جعلناه عبرة للعابدين, الذين ينتفعون بالصبر.
فإذا رأوا ما أصاب أيوب عليه السلام من البلاء, ثم ما أثابه الله بعد زواله, ونظروا السبب, وجدوه, الصبر.
ولهذا أثنى الله عليه به في قوله: " إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ " .
فجعلوه أسوة وقدوة, عندما يصيبهم الضر.
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَسورة الأنبياء الآية رقم 85
أي: واذكر عبادنا المصطفين, وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر, وأثن عليهم, أبلغ الثناء, إسماعيل بن إبراهيم, وإدريس, وذا الكفل, نبيين من أنبياء بني إسرائيل " كُلِّ " من هؤلاء المذكورين " مِنَ الصَّابِرِينَ " .
والصبر هو: حبس النفس ومنعها, مما تميل بطبعها إليه.
وهذا يشمل أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله والصبر على أقدار الله المؤلمة.
فلا يستحق العبد اسم الصبر التام, حتى يوفي هذه الثلاثة حقها.
فهؤلاء الأنبياء, عليهم الصلاة والسلام, قد وصفهم الله بالصبر.
فدل أنهم وفوها حقها, وقاموا, كما ينبغي.
ووصفهم أيضا بالصلاح, وهو يشمل صلاح القلب, بمعرفة الله ومحبته, والإنابة إليه كل وقت.
وصلاح اللسان, بأن يكون رطبا من ذكر الله.
وصلاح الجوارح, باشتغالها بطاعة الله وكفها عن المعاصي.
فبصبرهم وسلاحهم, أدخلهم الله برحمته, وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين, وأثابهم الثواب العاجل والآجل.
ولو لم يكن من ثوابهم, إلا أن الله تعالى نوه بذكرهم في العالمين وجعل لهم لسان صدق في الآخرين, لكفى بذلك شرفا وفضلا.
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَسورة الأنبياء الآية رقم 86
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 87
أي: واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو: يونس, أي: صاحب النون, وهي الحوت, بالذكر الجميل, والثناء الحسن.
فإن الله تعالى أرسله إلى قومه, فدعاهم, فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم.
فجاءهم العذاب ورأوه عيانا, فعجوا إلى الله, وضجوا وتابوا, فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى: " فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ " .
وقال: " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ " .
وهذه الأمة العظيمة, الذين آمنوا بدعوة يونس, من أكبر فضائله.
ولكنه عليه الصلاة والسلام, ذهب مغاضبا, وأبق عن ربه لذنب من الذنوب, التي لم يذكرها الله لنا في كتابه, ولا حاجة لنا إلى تعيينها لقوله: " إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ " .
.
.
" وَهُوَ مُلِيمٌ " أي: فاعل ما يلام عليه وظن أن الله, لا يقدر عليه, أي: يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى, ولا مانع من عروض هذا الظن للكل من الخلق على وجه لا يستقر, ولا يستمر عليه, فركب في السفينة مع أناس فاقترعوا, من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم.
فأصابت القرعة يونس, فالتقمه الحوت, وذهب فيه إلى ظلمات البحار.
فنادى في تلك الظلمات: " لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ " .
فأقر لله تعالى بكمال الألوهية, ونزهه عن كل نقص, وعين, وآفة, واعترف بظلم نفسه وجنايته.
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَسورة الأنبياء الآية رقم 88
قال الله تعالى: " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ " .
ولهذا قال هنا: " فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ " أي: الشدة التي وقع فيها.
" وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ " وهذا وعد وبشارة, لكل مؤمن وقع في شدة وغم, أن الله تعالى سينجيه منها, ويكشف عنه ويخفف, لإيمانه كما فعل ب " يونس " عليه السلام.
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَسورة الأنبياء الآية رقم 89
أي: واذكر عبدنا ورسولنا, زكريا, منوها بذكره, ناشرا لمناقبه وفضائله, التي من جملتها, هذه المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه الخلق, ورحمة الله وإياه.
وأنه " نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا " أي: " قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا " .
من هذه الآيات علمنا أن قوله " رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا " أنه لما تقارب أجله.
خاف أن لا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله, والنصح لعباد الله, وأن يكون في وقته فردا, ولا يخلف من يشفعه ويعينه, على ما قام به.
" وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ " أي: خير الباقين, وخير من خلفني بخير, وأنت أرحم بعبادك مني.
ولكني أريد ما يطمئن به قلبي, وتسكن له نفسي, ويجري في موازيني ثوابه.
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَسورة الأنبياء الآية رقم 90
" فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى " النبي الكريم, الذي لم يجعل الله له من قبل سميا.
" وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ " بعد ما كانت عاقرا, لا يصلح رحمها للولادة فأصلح الله رحمها للحمل, لأجل نبيه زكريا.
وهذا من فوائد الجليس, والقرين الصالح, أنه مبارك على قرينه.
فصار يحيى مشتركا بين الوالدين.
ولما ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين, كلا على انفراده, أثنى عليهم عموما فقال: " إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ " أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة, ويكملونها على الوجه اللائق, الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها, إلا انتهزوا الفرصة فيها.
" وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا " أي يسألوننا الأمور المرغوب فيها, من مصالح الدنيا والآخرة, ويتعوذون بنا, من الأمور المرهوب منها, من مضار الدارين, وهم راغبون لا غافلون, لاهون ولا مدلون.
" وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " أي خاضعين متذللين متضرعين, وهذا لكمال معرفتهم بربهم.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4