الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة النور الآية رقم 31
لما أمر المؤمنين بغض الأبصار, وحفظ الفروج, أمر المؤمنات بذلك فقال: " وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ " عن النظر إلى العورات والرجال, بشهوة ونحو ذلك من النظر الممنوع.
" وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ " من التمكن من جماعهن, أو مسهن, أو النظر المحرم إليهن.
" وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ " كالثياب الجميلة والحلي, وجميع البدن كله من الزينة.
ولما كانت الثياب الظاهرة, لا بد لها منها, قال: " إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا " أي الثياب الظاهرة, التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك, ما يدعو إلى الفتنة بها.
" وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ " وهذا لكمال الاستتار.
ويدل ذلك, على أن الزينة التي يحرم إبداؤها, يدخل فيها جميع البدن, كما ذكرنا.
ثم كرر النهي عن إبداء زينتهن, ليستثنى منه قوله: " إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ " أي: أزواجهن " أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ " يشمل الأب بنفسه, والجد, وإن علا.
" أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ " أشقاء, أو لأب, أو لأم.
" أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ " أي: يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا.
ويحتمل أن الإضافة, تقتضي الجنسية, أي: النساء المسلمات, اللاتي من جنسكن.
ففيه دليل لمن قال: إن المسلمة, لا يجوز أن تنظر إليها الذمية.
" أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ " فيجوز للملوك, إذا كان كله للأنثى, أن ينظر لسيدته, ما دامت مالكة له كله, فإذا زال الملك أو بعضه, لم يجز النظر.
" أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ " أي: والذين يتبعونكم, ويتعلقون بكم, من الرجال, الذين لا إربة لهم, في هذه الشهوة كالمعتوه الذي لا يدري هل هنالك, كالعنين الذي لم يبق له شهوة, لا في فرجه, ولا في قلبه, فإن هذا, لا محذور من نظره.
" أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ " أي: الأطفال الذين دون التمييز, فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب.
وعلل تعالى ذلك, بأنهم لم يظهروا على عورات النساء, أي: ليس لهم علم بذلك, ولا وجدت فيهم الشهوة بعد.
ودل هذا, أن المميز تستتر منه المرأة, لأنه يظهر على عورات النساء.
" وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ " أي: لا يضربن الأرض بأرجلهن, ليصوت ما عليهن من حلي, كخلاخل وغيرها, فتعلم زينتها بسببه, فيكون وسيلة إلى الفتنة.
ويؤخذ من هذا ونحوه, قاعدة سد الوسائل وأن الأمر إذا كان مباحا, ولكنه يفضي إلى محرم, أو يخاف من وقوعه, فإنه يمنع منه.
فالضرب بالرجل في الأرض, الأصل أنه مباح, ولكن لما كان وسيلة لعلم الزينة, منع منه.
ولما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة, ووصى بالوصايا المستحسنة, وكان لا بد من وقوع تقصير من المؤمن بذلك - أمر الله تعالى بالتوبة فقال: " وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ " ثم علق على ذلك, الفلاح فقال: " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة, وهي الرجوع مما يكرهه الله, ظاهرا وباطنا, إلى: ما يحبه ظاهرا باطنا.
ودل هذا, أن كل مؤمن, محتاج إلى التوبة, لأن الله هو خاطب المؤمنين جميعا.
وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة, في قوله " وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ " .
أي: لا لمقصد غير وجهه, من سلامة, من آفات الدنيا, أو رياء, وسمعة, أو نحو ذلك, من المفاسد الفاسدة.
وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة النور الآية رقم 32
يأمر تعالى الأولياء والأسياد, بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامى وهم: من لا أزواج لهم, من رجال, ونساء ثيبات, وأبكار.
فيجب على القريب, وولي اليتيم, أن يزوج من يحتاج للزواج, ممن تجب نفقته عليه.
وإذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم, كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم, من باب أولى.
" وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ " يحتمل أن المراد بالصالحين, صلاح الدين, وأن الصالح من العبيد والإماء, وهو الذي لا يكون فاجرا زانيا, مأمور سيده بإنكاحه, جزاء له على صلاحه, وترغيبا له فيه.
ولأن الفاسد بالزنا, منهي عن تزوجه, فيكون مؤيدا للذكور في أول السورة, أن نكاح الزاني والزانية, محرم, حتى يتوب.
ويكون التخصيص بالصلاح في العبيد والإماء, دون الأحرار, لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة, ويحتمل أن المراد بالصالحين, الصالحون للتزوج المحتاجون إليه, من العبيد والإماء.
يؤيد هذا المعنى, أن السيد غير مأمور بتزويج مملوكه, قبل حاجته إلى الزواج.
ولا يبعد إرادة المعنيين كليهما, والله أعلم.
وقوله: " إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ " أي: الأزواج والمتزوجين " يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " فلا يمنعكم ما تتوهمون, من أنه إذا تزوج, افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه.
وفيه حث على التزوج, ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر.
" وَاللَّهُ وَاسِعٌ " كثير الخير عظيم الفضل " عَلِيمٌ " بمن يستحق فضله الديني والدنيوي, أو أحدهما, ممن لا يستحق, فيعطي كلا, ما علمه واقتضاه حكمه.
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة النور الآية رقم 33
" وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " هذا حكم العاجز عن النكاح, أمره الله أن يستعفف, أي: أن يكف عن المحرم, ويفعل الأسباب التي تكفه عنه, من صرف دواعي قلبه, بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه.
ويفعل أيضا, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " .
وقوله " الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا " أي: لا يقدرون نكاحا إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم, أو امتناعهم من تزويجهم, وليس لهم قدرة على إجبارهم على ذلك.
وهذا التقدير, أحسن من تقدير من قد " لا يجدون مهر نكاح " .
وجعلوا المضاف إليه نائبا مناب المضاف, فإن في ذلك محذورين.
أحدهما: الحذف في الكلام, والأصل, عدم الحذف.
والثاني كون المعنى قاصرا على من له حالتان, حالة غنى بماله, وحالة عدم.
فيخرج العبيد والإماء, ومن إنكاحه على وليه, كما ذكرنا.
" حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " وعد للمستعفف أن الله سيغنيه, وييسر له أمره, وأمر له بانتظار الفرج, لئلا يشق عليه ما هو فيه.
وقوله " وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا " .
أي: من ابتغى وطلب منكم الكتابة, وأن يشتري نفسه, من عبيد وإماء, فأجيبوه إلى ما طلب, وكاتبوه.
" إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ " أي في الطالبين للكتابة " خَيْرًا " أي: قدرة على التكسب, وصلاحا في دينه.
لأن في الكتابة, تحصيل المصلحتين, مصلحة العتق والحرية, ومصلحة العوض, الذي يبذله في فداء نفسه.
وربما جد واجتهد, وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال, ما لا يحصل عليه في رقه.
فلا يكون ضرر على السيد في كتابته, مع حصول عظيم المنفعة للعبد.
فلذلك أمر الله بالكتابة, على هذا الوجه, أمر إيجاب, كما هو الظاهر, أو أمر استحباب على القول الآخر.
وأمر بمعاونتهم على كتابتهم, لكونهم محتاجين لذلك, بسبب أنهم لا مال لهم فقال: " وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ " يدخل في ذلك أمر سيده, الذي كاتبه, أن يعطيه من كتابته, أو يسقط عنه منها, وأمر الناس بمعونتهم.
ولهذا جعل الله للمكاتبين قسطا من الزكاة, ورغب في إعطائه بقوله: " مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ " أي: فكما أن المال مال الله, وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه, فأحسنوا لعباد الله, كما أحسن الله إليكم.
ومفهوم الآية الكريمة, أن العبد إذا لم يطلب الكتابة, لا يؤمر سيده, أن يبتدئ بكتابته, وأنه إذا لم يعلم منه خيرا, بأن علم منه عكسه, إما أنه يعلم أنه لا كسب له, فيكون بسبب ذلك كلا على الناس, ضائعا.
وإما أن يخاف إذا أعتق, وصار في حرية نفسه, أن يتمكن من الفساد, فهذا لا يؤمر بكتابته, بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور.
ثم قال تعالى: " وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ " أي: إماءكم " عَلَى الْبِغَاءِ " أي: أن تكون زانية " إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا " لأنه لا يتصور إكراهها إلا بهذه الحال.
وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا, يجب على سيدها, منعها من ذلك.
وإنما نهى عن هذا لما كانوا يستعملونه في الجاهلية, من كون السيد يجبر أمته على البغاء, ليأخذ منها أجرة ذلك, ولهذا قال: " لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم, خيرا منكم, وأعف عن الزنا, وأنتم تفعلون بهن ذلك, لأجل عرض الحياة, متاع قليل يعرض, ثم يزول.
فكسبكم النزاهة, والنظافة, والمروءة - بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها - أفضل من كسبكم العرض القليل, الذي يكسبكم الرذالة والخسة.
ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة فقال: " وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فليتب إلى الله وليقلع عما صدر منه, مما يغضبه.
فإذا فعل ذلك, غفر الله ذنوبه, ورحمه كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب, وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها.
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَسورة النور الآية رقم 34
هذا تعظيم وتفخيم لهذه الآيات, تلاها على عباده, ليعرفوا قدرها, ويقوموا بحقها فقال: " وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ " .
أي: واضحات الدلالة, على كل أمر تحتاجون إليه, من الأصول والفروع, بحيث لا يبقى فيها إشكال ولا شبهة.
وأنزلنا إليكم أيضا مثلا " مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ " من أخبار الأولين, الصالح منهم والطالح, وصفة أعمالهم, وما جرى لهم, وجرى عليهم تعتبرونه مثالا ومعتبرا, لمن فعل مثل أعمالهم أن يجازي مثل ما جوزوا.
" وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ " أي: وأنزلنا إليكم موعظة للمتقين, من الوعد والوعيد, والترغيب والترهيب, يتعظ بها المتقون, فيكفون عما يكره الله إلى ما يحبه الله.
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌسورة النور الآية رقم 35
" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " الحسي والمعنوي.
وذلك أنه تعالى بذاته, نور, وحجابه نور, الذي لو كشفه, لأحرقت سبحات وجهه, ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وبه استنار العرش, والكرسي, والشمس, والقمر والنور, وبه استنارت الجنة.
وكذلك المعنوي, يرجع إلى الله, فكتابه نور, وشرعه نور, والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين, نور.
فلولا نوره تعالى, لتراكمت الظلمات, ولهذا, كل محل, يفقد نوره فثم الظلمة والحصر " مَثَلُ نُورِهِ " الذي يهدي إليه, وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين.
" كَمِشْكَاةٍ " أي: كوة " فِيهَا مِصْبَاحٌ " لأن الكوة, تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق.
ذلك " الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ " من صفاتها وبهائها " كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ " أي: مضيء إضاءة الدر.
" يُوقَدُ " ذلك المصباح, الذي في تلك الزجاجة الدرية " مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ " أي: بوقد من زيت الزيتون الذي ناره, من أنور ما يكون.
" لَا شَرْقِيَّةٍ " فقط, فلا تصيبها الشمس, آخر النهار.
" وَلَا غَرْبِيَّةٍ " فقط, فلا تصيبها الشمس, أول النهار.
وإذا انتفى عنها الأمران, كانت متوسطة من الأرض.
كزيتون الشام تصيبه الشمس أول النهار وآخره, فيحسن ويطيب, ويكون أصفى لزيتها, ولهذا قال: " يَكَادُ زَيْتُهَا " من صفائه " يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ " فإذا مسته النار, أضاء إضاءة بليغة " نُورٌ عَلَى نُورٍ " أي: نور النار, ونور الزيت.
ووجه هذا المثل, الذي ضربه الله, وتطبيقه على حالة المؤمن, ونور الله في قلبه, أن فطرته التي فطر عليها, بمنزلة الزيت الصافي.
ففطرته صافية, مستعدة للتعاليم الإلهية, والعمل المشروع.
فإذا وصل إليه العلم والإيمان, اشتعل ذلك النور في قلبه, بمنزلة إشعال النار, فتيلة ذلك المصباح, وهو صافي القلب, من سوء القصد, وسوء الفهم عن الله.
إذا وصل إليه الإيمان, أضاء إضاءة عظيمة, لصفائه من الكدورات.
وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية, فيجتمع له, نور الفطرة, ونور الإيمان, ونور العلم, وصفاء المعرفة, نور على نوره.
ولما كان هذا من نور الله تعالى, وليس كل أحد يصلح له ذلك قال: " يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ " ممن يعلم زكاءه وطهارته, وأنه يزكى معه, وينمى.
" وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ " ليعقلوا عنه, ويفهموا, لطفا منه بهم, وإحسانا إليهم وليتضح الحق من الباطل, فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة, فيعلمها العباد علما واضحا.
" وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " فعلمه محيط بجميع الأشياء.
فلتعلموا أن ضربه الأمثال, ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها وأنها مصلحة للعباد.
فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها, لا بالاعتراض عليها, ولا بمعارضتها فإنه يعلم, وأنتم لا تعلمون.
ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد, ذكرها منوها بها فقال: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ " إلى " بِغَيْرِ حِسَابٍ " .
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِسورة النور الآية رقم 36
أي: يتعبد لله " فِي بُيُوتٍ " عظيمة فاضلة, هي أحب البقاع إليه, وهي: المساجد.
" أَذِنَ اللَّهُ " أي: أمر ووصى " أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ " هذان مجموع أحكام المساجد.
فيدخل في رفعها, بناؤها, وكنسها وتنظيفها من النجاسات والأذى وصونها من المجانين والصبيان, الذين لا يتحرزون عن النجاسات, وعن الكافر, وأن تصان عن اللغو فيها, ورفع الأصوات بغير ذكر الله.
" وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ " يدخل في ذلك, الصلاة فيها, فرفضها, ونقلها, وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل, وغيره من أنواع الذكر, وتعلم العلم وتعليمه, والمذاكرة فيها, والاعتكاف, وغير ذلك من العبادات, التي تفعل في المساجد, ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين: عمارة بنيان, وصيانة لها, وعمارة بذكر اسم الله, من الصلاة وغيرها وهذا أشرف القسمين.
ولهذا شرعت الصلوات الخمس, والجمعة, في المساجد, وجوبا عند أكثر العلماء, واستحبابا عند آخرين.
ثم مدح تعالى, عمارها بالعبادة فقال: " يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا " إخلاصا " بِالْغُدُوِّ " أول النهار " وَالْآصَالِ " آخرة " رِجَالٌ " .
خص هذين الوقتين, لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى الله, وسهولته.
ويدخل في ذلك, التسبيح في الصلاة وغيرها, ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء, وأورادهما عند الصباح والمساء.
أي: يسبح فيها الله, رجال, أي رجال, ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا, ذات لذات, ولا تجارة ومكاسب, مشغلة عنه.
" لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ " وهذا يشمل كل تكسب يقصده به العوض, فيكون قوله: " وَلَا بَيْعٌ " من باب عطف الخاص على العام, لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره.
فهؤلاء الرجال, وإن اتجروا, وباعوا, واشتروا, فإن ذلك, لا محذور فيه.
لكنه لا تلهيم تلك, بأن يقدموها ويؤثروها على " ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ " بل جعلوا طاعة الله وعبادته, غاية مرادهم, ونهاية مقصدهم.
فما حال بينهم وبينها, رفضوه.
ولما كان ترك الدنيا, شديدا على أكثر النفوس, وحب المكاسب بأنواع التجارات, محبوبا لها, ويشق عليها تركه في الغالب, وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك, ذكر ما يدعوها إلى ذلك, ترغيبا وترهيبا - فقال: " يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ " من شدة هوله وإزعاجه القلوب والأبدان, فلذلك خافوا ذلك اليوم, فسهل عليهم العمل, وترك ما يشغل عنه.
" لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ "
" لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا " والمراد بأحسن ما عملوا: أعمالهم الحسنة الصالحة, لأنها أحسن ما عملوا, لأنهم يعملون المباحات وغيرها.
فالثواب لا يكون إلا على العمل الحسن كقوله تعالى: " لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ " .
" وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ " زيادة كثيرة عن الجزاء المقابل لأعمالهم.
" وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ " بل يعطيه من الأجر, ما لا يبلغه عمله, بل ولا تبلغه أمنيته.
ويعطيه من الأجر, بلا عد; ولا كيل; وهذا كناية عن كثرته جدا.
رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُسورة النور الآية رقم 37
ولما كان ترك الدنيا, شديدا على أكثر النفوس, وحب المكاسب بأنواع التجارات, محبوبا لها, ويشق عليها تركه في الغالب, وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك, ذكر ما يدعوها إلى ذلك, ترغيبا وترهيبا - فقال: " يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ " من شدة هوله وإزعاجه القلوب والأبدان, فلذلك خافوا ذلك اليوم, فسهل عليهم العمل, وترك ما يشغل عنه.
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍسورة النور الآية رقم 38
" لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا " والمراد بأحسن ما عملوا: أعمالهم الحسنة الصالحة, لأنها أحسن ما عملوا, لأنهم يعملون المباحات وغيرها.
فالثواب لا يكون إلا على العمل الحسن كقوله تعالى: " لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ " .
" وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ " زيادة كثيرة عن الجزاء المقابل لأعمالهم.
" وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ " بل يعطيه من الأجر, ما لا يبلغه عمله, بل ولا تبلغه أمنيته.
ويعطيه من الأجر, بلا عد; ولا كيل; وهذا كناية عن كثرته جدا.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِسورة النور الآية رقم 39
هذان مثلان, ضربهما الله لأعمال الكفار; في بطلانها وذهابها سدى; وتحسر عامليها منها فقال: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا " بربهم وكذبوا رسله " أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ " أي: بقاع; لا شجر فيه ولا نبات.
" يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً " شديد العطش, الذي يتوهم, ما لا يتوهم غيره, بسبب ما معه من العطش, وهذا حسبان باطل, فيقصده ليزيل ظمأه.
" حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا " فندم ندما شديدا, وازداد ما به من الظمأ, بسبب انقطاع رجائه.
كذلك أعمال الكفار, بمنزلة السراب, ترى ويظنها الجاهل الذي لا يدري الأمور, أعمالا نافعة, فتغره صورتها, ويخلبه خيالها, ويحسبها هو أيضا أعمالا نافعة لهواه, وهو أيضا محتاج إليها, كاحتياج الظمآن للماء.
حتى إذ قدم على أعماله, يوم الجزاء, وجدها ضائعة, ولم يجدها شيئا.
والحال إنه لم يذهب, لا له ولا عليه.
بل وجد " اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ " .
لم يخف عليه من عمله, نقير ولا قطمير ولن يعدم منه قليلا ولا كثيرا.
" وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ " فلا يستبطئ الجاهلون ذلك الوعد, فإنه لا بد من إتيانه.
ومثلها الله بالسراب, الذي بقيعة, أي: لا شجر فيه ولا نبات, وهذا مثال لقلوبهم, لا خير فيها ولا بر, فتزكو فيها الأعمال وذلك للسبب المانع, وهو الكفر.
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍسورة النور الآية رقم 40
والمثل الثاني, لبطلان أعمال الكفار " كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ " بعيد قعره, طويل مداه " يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ " ظلمة البحر اللجي, ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة, ثم فوق ذلك, ظلمة السحب المدلهمة, ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم.
فاشتدت الظلمة جدا, بحيث أن الكائن في تلك الحال " إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا " مع قربها إليه, فكيف بغيرها.
كذلك الكفار, تراكمت على قلوبهم الظلمات, ظلمة الطبيعة, التي لا خير فيها, وفوقها ظلمة الكفر, وفوق ذلك, ظلمة الجهل, وفوق ذلك, ظلمة الأعمال الصادرة عما ذكر.
فبقوا في الظلمة متحيرين, وفي غمرتهم يعمهون, وعن الصراط المستقيم مدبرون, وفي طرق الغي والضلال, يترددون وهذا لأن الله خذلهم, فلم يعطهم من نوره.
" وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ " لأن نفسه ظالمة جاهلة, فليس فيها من الخير والنور, إلا ما أعطاها مولاها, ومنحها ربها.
يحتمل أن هذين المثالين, لأعمال جميع الكفار, كل منهما, منطبق عليها, وعددهما لتعدد الأوصاف.
ويحتمل أن كل مثال, لطائفة وفرقة.
فالأول.
للمتبوعين, والثاني, للتابعين.
والله أعلم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَسورة النور الآية رقم 41
نبه تعالى عباده على عظمته, وكمال سلطانه, وافتقار جميع المخلوقات إليه, في ربوبيتها, وعبادتها فقال: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " من حيوان وجماد " وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ " أي: صافات أجنحتها, في السماء, تسبح ربها.
" كُلِّ " من هذه المخلوقات " قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ " أي: كل له, صلاة وعبادة بحسب حاله اللائقة به.
وقد ألهمه الله تلك الصلاة والتسبيح, إما بواسطة الرسل, كالجن والإنس, والملائكة.
وأما بإلهام منه تعالى, كسائر المخلوقات غير ذلك.
وهذا الاحتمال, أرجح, بدليل قوله " وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ " .
أي: علم جميع أفعالهم, فلا يخف عليه منها شيء, وسيجازيهم بذلك.
فيكون على هذا, قد جمع بين علمه بأعمالهم, وذلك بتعليمه, وبين علمه بمقاصدهم المتضمن للجزاء.
ويحتمل أن الضمير في قوله: " قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ " يعود إلى الله, وأن الله تعالى, قد علم عبادتهم, وإن لم تعلموا - أيها العباد - منها, إلا ما أطلعكم الله عليه.
وهذه الآية كقوله تعالى " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُسورة النور الآية رقم 42
فلما بين عبوديتهم وافتقارهم إليه - من جهة العبادة والتوحيد - بين افتقارهم إليه, من جهة الملك والتربية والتدبير فقال: " وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " خالقهما ورازقهما, والمتصرف فيهما, في حكمه الشرعي والقدري, في هذه الدار, وفي حكمه الجزائي, بدار, القرار بدليل قوله " وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ " أي: مرجع: الخلق ومآلهم, ليجازيهم بأعمالهم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِسورة النور الآية رقم 43
أي: ألم تشاهد ببصرك, عظيم قدرة الله, وكيف " يُزْجِي " .
أي: يسوق " سَحَابًا " قطعا متفرقة " ثُمَّ يُؤَلِّفُ " بين تلك القطع, فيجعله سحابا متراكما, مثل الجبال.
" فَتَرَى الْوَدْقَ " أي: الوابل والمطر, يخرج من خلال السحابة, نقطا متفرقة, ليحصل بها الانتفاع, من دون ضرر, فتمتلئ بذلك, الغدران, وتتدفق الخلجان, وتسيل الأودية, وتنبت الأرض من كل زوج كريم.
وتارة ينزل الله من ذلك السحاب, بردا يتلف ما يصيبه.
" فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ " أي: بحسب اقتضاء حكمه القدري, وحكمته التي يحمد عليها.
" يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ " أي: يكاد ضوء برق ذلك السحاب, من شدته " يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ " .
أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين, وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر, كامل القدرة, نافذ المشيئة, واسع الرحمة؟.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِسورة النور الآية رقم 44
" يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " من حر إلى برد, ومن برد إلى حر, ومن ليل إلى نهار, ومن نهار إلى ليل, ويديل الأيام بين عباده.
" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ " أي: لذوي البصائر, والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها, كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهدة الحسية.
فالبصير, ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكير, وتدبر لما أريد بها ومنها.
والمعرض الجاهل, نظره إليها نظر غفلة, بمنزلة نظر البهائم.
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة النور الآية رقم 45
ينبه عباده على ما يشاهدونه, أنه خلق جميع الدواب, التي على وجه الأرض.
" مِنْ مَاءٍ " أي: مادتها كلها, الماء, كما قال تعالى: " وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ " .
فالحيوانات التي تتوالد, مادتها, ماء النطفة, حين يلقح الذكر الأنثى.
والحيوانات التي تتولد من الأرض, لا تتولد إلا من الرطوبات المائية, كالحشرات لا يوجد منها شيء, يتولد من غير ماء أبدا.
فالمادة واحدة, ولكن الخلقة مختلفة, من وجوه كثيرة.
" فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ " كالحية ونحوها.
" وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ " كالآدميين, وكثير من الطيور.
" وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ " كبهيمة الأنعام ونحوها.
فاختلافها - مع أن الأصل واحد - يدل على نفود مشيئة الله, وعموم قدرته, ولهذا قال: " يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ " أي: من المخلوقات, على ما يشاؤه من الصفات.
" إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " كما أنزل المطر على الأرض, وهو لقاح واحد, والأم واحدة, وهي الأرض, والأولاد مختلفو الأصناف والأوصاف " وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " .
لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍسورة النور الآية رقم 46
أي: لقد رحمنا عبادنا, وأنزلنا إليهم آيات بينات, أي: واضحات الدلالة, على جميع المقاصد الشرعية, والآداب المحمودة, والمعارف الرشيدة.
فاتضحت بذلك السبيل, وتبين الرشد من الغي, والهدى من الضلال.
فلم يبق أدنى شبهة لمبطل, يتعلق بها, ولا أدنى إشكال, لمريد الصواب, لأنها تنزيل من كمال علمه, وكملت رحمته, وكمل بيانه, فليس بعد بيانه بيان " لِيَهْلِكَ " بعد ذلك " مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ " .
" وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ " ممن سبقت لهم سابقة الحسنى, وقدم الصدق.
" إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " أي: طريق واضح مختصر, موصل إليه, وإلى دار كرامته, متضمن العلم بالحق وإيثاره, والعمل به.
عمم البيان التام لجميع الخلق, وخصص بالهداية من يشاء, فهذا فضله وإحسانه.
وما فضل الكريم بممنون وذاك عدله, وقطع الحجة للمحتج والله أعلم حيث يجعل مع مواقع إحسانه.
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَسورة النور الآية رقم 47
يخبر تعالى عن حالة الظالمين, ممن في قلبه مرض وضعف إيمان, أو نفاق, وريب, وضعف علم, أنهم يقولون بألسنتهم, ويلتزمون الإيمان بالله والطاعة, ثم لا يقومون بما قالوا, ويتولى فريق منهم عن الطاعة, توليا عظيما, بدليل قوله: " وَهُمْ مُعْرِضُونَ " فإن المتولي, قد يكون له نية عود ورجوع إلى ما تولى عنه.
وهذا المتولي, معرض, لا التفات له, ولا نظر لما تولى عنه.
وتجد هذه الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدعي الإيمان والطاعة لله وهو ضعيف الإيمان.
وتجده لا يقوم بكثير من العبادات, خصوصا: العبادات, التي تشق على كثير من النفوس, كالزكاة, والنفقات الواجبة والمستحبة, والجهاد في سبيل الله ونحو ذلك.
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَسورة النور الآية رقم 48
" وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ " أي: إذا صار بينهم, وبين أحد, حكومة, ودعوا إلى الله ورسوله " إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ " يريدون أحكام الجاهلية, ويفضلون أحكام القوانين غير الشرعية على الأحكام الشرعية, لعلمهم أن الحق عليهم, وأن الشرع لا يحكم إلا بما يطابق الواقع.
وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَسورة النور الآية رقم 49
" وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ " أي: إلى حكم الشرع " مُذْعِنِينَ " وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي, وإنما ذلك, لأجل موافقة أهوائهم.
فليسوا ممدوحين في هذه الحال, ولو أتوا إليه مذعنين, لأن العبد حقيقة, من يتبع الحق, فيما يحب ويكره, وفيما يسره ويحزنه.
وأما الذي يتبع الشرع, عند موافقة هواه, وينبذه عند مخالفته, ويقدم الهوى على الشرع, فليس بعبد لله على الحقيقة.
أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَسورة النور الآية رقم 50
قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي: " أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ " أي: علة, أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته, فصار بمنزلة المريض, الذي يعرض عما ينفعه, ويقبل على ما يضره.
" أَمِ ارْتَابُوا " أي: شكوا, أو قلقت قلوبهم من حكم الله ورسوله, واتهموه أنه لا يحكم بالحق.
" أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ " أي: يحكم عليهم حكما ظالما جائرا, وإنما هذا وصفهم " بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " .
وأما حكم الله ورسوله, ففي غاية العدالة والقسط, وموافقة الحكمة.
" وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " .
وفي هذه الآيات, دليل على أن الإيمان, ليس هو مجرد القول, حتى يقترن به العمل.
ولهذا نفى الإيمان عمن تولى عن الطاعة, ووجوب الانقياد لحكم الله, ورسوله في كل حال.
وإن لم ينقد له, دل على مرض في قلبه.
وريب في إيمانه.
وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام, الشريعة, وأن يظن بها, خلاف العدل والحكمة.
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَسورة النور الآية رقم 51
ولما ذكر حالة المعرضين عن الحكم الشرعي, ذكر حالة المؤمنين الممدوحين.
فقال: " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ " إلى " الْفَائِزُونَ " .
أي: " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ " حقيقة الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم " إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ " سواء وافق أهواءهم, أو خالفها.
" أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " أي: سمعنا حكم الله ورسوله, وأجبنا من دعانا إليه وأطعنا طاعة تامة, سالمة من الحرج.
" وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " .
حصر الفلاح فيهم, لأن الفلاح: الفوز بالمطلوب, والنجاة من المكروه.
ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله, وأطاع الله ورسوله.
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَسورة النور الآية رقم 52
ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم خصوصا, ذكر فضلها عموما, في جميع الأحوال.
فقال: " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " فيصدق خبرهما ويمتثل أمرهما.
" وَيَخْشَ اللَّهَ " أي: يخافه, خوفا مقرونا بمعرفة, فيترك ما نهى عنه, ويكف نفسه عما تهوى.
ولهذا قال: " وَيَتَّقْهِ " بترك المحظور, لأن التقوى - عند الإطلاق - يدخل فيها, فعل المأمور به, وترك المنهي عنه.
وعند اقترانها بالبر أو الطاعة - كما في هذا الموضع - تفسر بتوقي عذاب الله, بترك معاصيه.
" فَأُولَئِكَ " الذين جمعوا, بين طاعة الله, وطاعة رسوله, وخشية الله وتقواه, " هُمُ الْفَائِزُونَ " بنجاتهم من العذاب, لتركهم أسبابه, ووصولهم إلى الثواب, لفعلهم أسبابه, فالفوز محصور فيهم.
وأما من لم يتصف بوصفهم, فإنه يفوته من الفوز, بحسب ما قصر عنه من هذه الأوصاف الحميدة.
واشتملت هذه الآية, على الحق المشترك, بين الله وبين رسوله, وهو: الطاعة المستلزمة للإيمان, والحق المختص بالله, وهو: الخشية والتقوى.
وبقي الحق الثالث المختص بالرسول, وهو التعزير والتوقير.
كما جمع بين الحقوق الثلاثة في سورة الفتح في قوله: " لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَسورة النور الآية رقم 53
يخبر تعالى, عن حالة المتخلفين عن الرسول صلى الله عليه وسلم, في الجهاد من المنافقين, ومن في قلوبهم مرض وضعف إيمان أنهم يقسمون بالله.
" لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ " فما يستقبل, أو لئن نصصت عليهم, حين خرجت " لَيَخْرُجُنَّ " والمعنى الأول, أولى.
قال الله - رادا عليهم -: " قُلْ لَا تُقْسِمُوا " أي: لا نحتاج إلى إقسامكم ولا إلى أعذاركم, فإن الله قد نبأنا من أخباركم.
وطاعتم معروفة, لا تخفى علينا, قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل, من غير عذر, فلا وجه لعذركم وقسمكم.
إنما يحتاج إلى ذلك, من كان أمره محتملا, وحاله مشتبهة, فهذا ربما يفيده العذر براءة.
وأما أنتم, فكلا ولما.
وإنما ينتظر بكم ويخاف عليكم, حلول بأس الله ونقمته, ولهذا توعدهم بقوله: " إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " فيجازيكم عليها أتم الجزاء.
هذه حالهم في نفس الأمر.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُسورة النور الآية رقم 54
وأما الرسول عليه الصلاة والسلام, فوظيفته, أن يأمرهم وينهاكم, ولهذا قال: " قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ " امتثلوا, كان حظهم وسعادتهم, وإن " تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ " من الرسالة, وقد أداها.
" وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ " من الطاعة, وقد بانت حالكم, وظهرت.
فبان ضلالكم وغيكم واستحقاقكم العذاب.
" وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا " إلى الصراط المستقيم, قولا وعملا.
فلا سبيل لكم إلى الهداية إلا بطاعته, وبدون ذلك, لا يمكن, بل هو محال.
" وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ " أي: تبليغكم البين الذي لا يبقي لأحد, شكا ولا شبهة, وقد فعل صلى الله عليه وسلم, بلغ البلاغ المبين.
وإنما الذي يحاسبكم, ويجازيكم, هو الله تعالى.
فالرسول, ليس له من الأمر شيء, وقد قام بوظيفته.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَسورة النور الآية رقم 55
هذا من وعوده الصادقة, التي شوهد تأويلها ومخبرها.
فإنه وعد من قام, بالإيمان والعمل الصالح, من هذه الأمة, أن يستخلفهم في الأرض, فيكونون هم الخلفاء فيها, المتصرفين في تدبيرها.
وأن يمكن لهم دينهم, الذي ارتضى لهم, وهو دين الإسلام, الذي فاق الأديان كلها.
ارتضاه لهذه الأمة, لفضلها وشرفها ونعمته عليها, بأن يتمكنوا من إقامته, وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة, في أنفسهم وفي غيرهم, لكون غيرهم من أهل الأديان, وسائر الكفار, مغلوبين ذليلين.
وأنه يبدلهم أمنا من بعد خوفهم, حيث كان الواحد منهم, لا يتمكن من إظهار دينه, وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار, وكون جماعة المسلمين قليلين جدا, بالنسبة إلى غيرهم, وقد رماهم أهل الأرض, عن قوس واحدة, وبغوا لهم الغوائل.
فوعد الله هذه الأمور, وقت نزول الآية, وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض, والتمكين فيها, والتمكين من إقامة الدين الإسلامي, والأمن التام, بحيث يعبدون الله, ولا يشركون به شيئا, ولا يخافون أحدا إلا الله.
فقام صدر هذه الأمة, من الإيمان والعمل الصالح بما يفوق على غيرهم.
فمكنهم من البلاد والعباد, وفتحت مشارق الأرض ومغاربها, وحصل الأمن التام, والتمكين التام, فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة.
ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة, مهما قاموا بالإيمان, والعمل الصالح فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله.
وإنما يسلط الله عليهم الكفار والمنافقين, ويديلهم في بعض الأحيان, بسبب إخلال المسلمين, بالإيمان والعمل الصالح.
" وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ " التمكين والسلطنة التامة لكم, يا معشر المسلمين.
" فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " الذين خرجوا عن طاعة الله, وفسدوا, فلم يصلحوا لصالح, ولم يكن فيهم أهلية للخير, لأن الذي يترك الإيمان في حال عزه وقهره, وعدم وجود الأسباب المانعة منه, يدل على فساد نيته, وخبث طويته, لأنه لا داعي له لترك الدين, إلا ذلك.
ودلت هذة الآية, أن الله قد مكن من قبلنا, واستخلفهم في الأرض كما قال موسى لقومه " وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " وقال تعالى " وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ " " وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ "
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَسورة النور الآية رقم 56
يأمر تعالى بإقامة الصلاة, بأركانها, وشروطها, وآدبها, ظاهرا وباطنا.
وبإيتاء الزكاة من الأموال, التي استخلف الله عليها للعباد, وأعطاهم إياها, بأن يؤتوها الفقراء وغيرهم, ممن ذكر الله, لمصرف الزكاة.
فهذان أكبر الطاعات وأجلها, جامعتان لحقه, وحق خلقه للإخلاص للمعبود, وللإحسان إلى العبيد.
ثم عطف عليهما الأمر العام, فقال: " وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ " وذلك بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ " .
" لَعَلَّكُمْ " حين تقومون بذلك " تُرْحَمُونَ " فمن أراد الرحمة, فهذا طريقها, ومن رجاها من دون إقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وإطاعة الرسول, فهو متمن كاذب.
وقد منته نفسه الأماني الكاذبة.
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُسورة النور الآية رقم 57
" لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ " فلا يغررك ما متعوا به في الحياة الدنيا, فإن الله, وإن أمهلهم, فإنه لا يهملهم " نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ " .
ولهذا قال هنا: " وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ " أي: بئس المآل, مآل الكافرين, مآل الشر والحسرة, والعقوبة الأبدية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة النور الآية رقم 58
أمر المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم, والذين لم يبلغوا الحلم منهم.
قد ذكر الله حكمته وأنه ثلاث عورات للمستأذن عليهم, وقت نومهم بالليل بعد العشاء, وعند انتباههم قبل صلاة الفجر.
فهذا - في الغالب - أن النائم يستعمل للنوم في الليل, ثوبا غير ثوبه المعتاد.
وأما نوم النهار, فلو كان في الغالب قليلا, قد ينام فيه العبد بثيابه المعتاد.
قيده بقوله: " وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ " أي: للقائلة, وسط النهار.
ففي هذه الأحوال الثلاثة, يكون المماليك والأولاد الصغار, كغيرهم, لا يمكنون من الدخول إلا بإذن.
وأما ما عدا هذه الأحوال الثلاثة فقال: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ " .
أي: ليسوا كغيرهم: فإنهم يحتاج إليهم دائما, فيشق الاستئذان منهم في كل وقت.
ولهذا قال: " طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ " أي: يترددون عليكم في قضاء أشغالكم وحوائجكم.
" كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ " بيانا مقرونا بحكمته, ليتأكد ويتقوى ويعرف به رحمة شارعه وحكمته.
ولهذا قال: " وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " له العلم, المحيط, بالواجبات, والمستحبات, والممكنات, والحكمة التي وضعت كل شيء موضعه.
فأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به.
وأعطى كل حكم شرعي حكمه اللائق به ومنه هذه الأحكام, التي بينها وبين مآخذها وحسنها.
وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة النور الآية رقم 59
" وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ " وهو إنزال المني يقظة أو مناما.
" فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ " أي: في سائر الأوقات.
والذين من قبلهم هم الذين ذكرهم الله بقوله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا " الآية.
" كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ " ويوضحها, ويفصل أحكامها " وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " .
وفي هاتين الآيتين فوائد.
منها: أن السيد, وولي الصغير, مخاطبان بتعليم عبيدهم, ومن تحت ولايتهم من الأولاد, العلم والآداب الشرعية, لأن الله وجه الخطاب إليهم بقوله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ " الآية.
فلا يمكن ذلك, إلا بالتعليم والتأديب.
ولقوله: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ " .
ومنها: الأمر بحفظ العورات, والاحتياط لذلك من كل وجه, وأن المحل والمكان, الذي هو مظنة لرؤية عورة الإنسان فيه, أنه منهي عن الاغتسال فيه, والاستنجاء, ونحو ذلك.
ومنها: جواز كشف العورة لحاجة, كالحاجة عند النوم, وعند البول والغائط, ونحو ذلك.
ومنها: أن المسلمين كانوا معتادين القيلولة وسط النهار, كما اعتادوا نوم الليل, لأن الله خاطبهم, ببيان حالهم الموجودة.
ومنها: أن الصغير الذي دون البلوغ, لا يجوز أن يمكن من رؤية العورة, ولا يجوز أن ترى عورته, لأن الله لم يأمر باستئذانهم, إلا عن أمر ما يجوز.
ومنها: أن المملوك أيضا, لا يجوز أن يرى عورة سيده, كما أن سيده, لا يجوز أن يرى عورته, كما ذكرنا في الصغر.
ومنها أنه ينبغي للواعظ والمعلم ونحوهما, ممن يتكلم في مسائل العلم الشرعي أن يقرن بالحكم بيان مأخذه ووجهه, ولا يلقيه مجردا عن الدليل والتعليل, لأن الله - لما بين الحكم المذكور - علله بقوله: " ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ " .
ومنها: أن الصغير والعبد مخاطبان, كما أن وليهما مخاطب لقوله: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ " .
ومنها: أن ريق الصبي طاهر, ولو كان بعد نجاسة, كالقيء لقوله تعالى: " طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ " مع قول النبي صلى الله عليه وسلم, حين سئل عن الهرة " إنها ليست بنجس, إنها من الطوافين عليكم والطوافات " .
ومنها: جواز استخدام الإنسان من تحت يده, من الأطفال على وجه معتاد, لا يشق على الطفل لقوله: " طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ " .
ومنها: أن الحكم المذكور المفصل, إنما هو لما دون البلوغ, وأما ما بعد البلوغ, فليس إلا الاستئذان.
ومنها: أن البلوغ يحصل بالإنزال, فكل حكم شرعي رتب على البلوغ, حصل بالإنزال, وهذا مجمع عليه.
وإنما الخلاف, هل يحصل البلوغ بالسن, أو الإنبات للعانة, والله أعلم.
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء الَّلاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة النور الآية رقم 60
" وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ " اللاتي قعدن عن الاستمتاع والشهوة " اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا " أي: لا يطمعن في النكاح, ولا يطمع فيهن, وذلك, لكونها عجوزا لا تشتهى ولا تشتهي, أو دميمة الخلقة, لا تشتهى " فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ " أي: حرج وإثم " أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ " .
أي: الثياب الظاهرة, كالخمار ونحوه, الذي قال الله فيه للنساء: " وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ " .
فهؤلاء, يجوز لهن, أن يكشفن وجوههن, لأمن المحذور منها وعليها.
ولما كان نفي الحرج عنهن, في وضع الثياب, ربما توهم منه جواز استعمالها لكل شيء, دفع هذا الاحتراز بقوله: " غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ " أي: غير مظهرات للناس, زينة من تجمل بالثياب ظاهرة, وتستر وجهها, ومن ضرب الأرض, ليعلم ما تخفي من زينتها, لأن مجرد الزينة على الأنثى, ولو مع تسترها, ولو كانت لا تشتهى - يفتتن فيها, ويوقع الناظر إليها في الحرج " وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ " .
والاستعفاف: طلب العفة, بفعل الأسباب المقتضية لذلك, من تزوج وترك لما يخشى منه الفتنة.
" وَاللَّهُ سَمِيعٌ " لجميع الأصوات " عَلِيمٌ " بالنيات والمقاصد.
فليحذرن من كل قول وقصد فاسد وليعلمن أن الله يجازي على ذلك.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3