أَيْ ظَهْرِي وَالْأَزْر الظَّهْر مِنْ مَوْضِع الْحَقْوَيْنِ , وَمَعْنَاهُ تَقْوَى بِهِ نَفْسِي ; وَالْأَزْر الْقُوَّة وَآزَرَهُ قَوَّاهُ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى " فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ " [ الْفَتْح : 29 ] وَقَالَ أَبُو طَالِب : أَلَيْسَ أَبُونَا هَاشِم شَدَّ أَزْره وَأَوْصَى بَنِيهِ بِالطِّعَانِ وَبِالضَّرْبِ وَقِيلَ : الْأَزْر الْعَوْن , أَيْ يَكُون عَوْنًا يَسْتَقِيم بِهِ أَمْرِي . قَالَ الشَّاعِر : شَدَدْت بِهِ أَزْرِي وَأَيْقَنْت أَنَّهُ أَخُو الْفَقْر مَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبه وَكَانَ هَارُون أَكْثَر لَحْمًا مِنْ مُوسَى , وَأَتَمّ طُولًا , وَأَبْيَض جِسْمًا , وَأَفْصَح لِسَانًا . وَمَاتَ قَبْل مُوسَى بِثَلَاثِ سِنِينَ وَكَانَ فِي جَبْهَة هَارُون شَامَة , وَعَلَى أَرْنَبَة أَنْف مُوسَى شَامَة , وَعَلَى طَرَف لِسَانه شَامَة , وَلَمْ تَكُنْ عَلَى أَحَد قَبْله وَلَا تَكُون عَلَى أَحَد بَعْده , وَقِيلَ : إِنَّهَا كَانَتْ سَبَب الْعُقْدَة الَّتِي فِي لِسَانه . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ فِي النُّبُوَّة وَتَبْلِيغ الرِّسَالَة . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَ هَارُون يَوْمئِذٍ بِمِصْرَ , فَأَمَرَ اللَّه مُوسَى أَنْ يَأْتِي هُوَ هَارُون , وَأَوْحَى إِلَى هَارُون وَهُوَ بِمِصْرَ أَنْ يَتَلَقَّى مُوسَى , فَتَلَقَّاهُ إِلَى مَرْحَلَة وَأَخْبَرَهُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ ; فَقَالَ لَهُ مُوسَى : إِنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ آتِي فِرْعَوْن فَسَأَلْت رَبِّي أَنْ يَجْعَلك مَعِي رَسُولًا . وَقَرَأَ الْعَامَّة " أَخِي اُشْدُدْ " بِوَصْلِ الْأَلِف " وَأَشْرِكْهُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة عَلَى الدُّعَاء , أَيْ اُشْدُدْ يَا رَبّ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ مَعِي فِي أَمْرِي . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَيَحْيَى بْن الْحَارِث وَأَبُو حَيْوَة وَالْحَسَن وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي إِسْحَاق " أَشْدُدْ " بِقَطْعِ الْأَلِف " وَأُشْرِكهُ " أَيْ أَنَا يَا رَبّ " فِي أَمْرِي " . قَالَ النَّحَّاس : جَعَلُوا الْفِعْلَيْنِ فِي مَوْضِع جَزْم جَوَابًا لِقَوْلِهِ : " اِجْعَلْ لِي وَزِيرًا " وَهَذِهِ الْقِرَاءَة شَاذَّة بَعِيدَة ; لِأَنَّ جَوَاب مِثْل هَذَا إِنَّمَا يَتَخَرَّج بِمَعْنَى الشَّرْط وَالْمُجَازَاة ; فَيَكُون الْمَعْنَى : إِنْ تَجْعَل لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي أَشْدُدْ بِهِ أَزْرِي , وَأُشْرِكهُ فِي أَمْرِي . وَأَمْره النُّبُوَّة وَالرِّسَالَة , وَلَيْسَ هَذَا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِر بِهِ , إِنَّمَا سَأَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُشْرِكهُ مَعَهُ فِي النُّبُوَّة . وَفَتَحَ الْيَاء مِنْ " أَخِي " اِبْن كَثِير وَأَبُو عُمَر .
قِيلَ : مَعْنَى " نُسَبِّحك " نُصَلِّي لَك . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون التَّسْبِيح بِاللِّسَانِ . أَيْ نُنَزِّهك عَمَّا لَا يَلِيق بِجَلَالِك . " وَكَثِيرًا " نَعْت لِمَصْدَرِ مَحْذُوف . وَيَجُوز أَنْ يَكُون نَعْتًا لِوَقْتٍ . وَالْإِدْغَام حَسَن .
" كَثِيرًا " نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف . وَيَجُوز أَنْ يَكُون نَعْتًا لِوَقْتٍ . وَالْإِدْغَام حَسَن .
قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْبَصِير الْمُبْصِر , وَالْبَصِير الْعَالِم بِخَفِيَّاتِ الْأُمُور , فَالْمَعْنَى ; أَيْ عَالِمًا بِنَا , وَمُدْرِكًا لَنَا فِي صِغَرنَا فَأَحْسَنْت إِلَيْنَا , فَأَحْسِنْ إِلَيْنَا كَذَلِكَ يَا رَبّ .
لَمَّا سَأَلَهُ شَرْح الصَّدْر , وَتَيْسِير الْأَمْر إِلَى مَا ذَكَرَ , أَجَابَ سُؤْله , وَأَتَاهُ طِلْبَته وَمَرْغُوبه . وَالسُّؤْل الطِّلْبَة ; فُعْل بِمَعْنَى مَفْعُول , كَقَوْلِك خُبْز بِمَعْنَى مَخْبُوز وَأُكْل بِمَعْنَى مَأْكُول .
أَيْ قَبْل هَذِهِ , وَهِيَ حِفْظه سُبْحَانه لَهُ مِنْ شَرّ الْأَعْدَاء فِي الِابْتِدَاء ; وَذَلِكَ حِين الذَّبْح . وَاَللَّه أَعْلَم . وَالْمَنّ الْإِحْسَان وَالْإِفْضَال .
قِيلَ : " أَوْحَيْنَا " أَلْهَمْنَا وَقِيلَ : أَوْحَى إِلَيْهَا فِي النَّوْم . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَوْحَى إِلَيْهَا كَمَا أَوْحَى إِلَى النَّبِيِّينَ .
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ↓
قَالَ مُقَاتِل مُؤْمِن آل فِرْعَوْن هُوَ الَّذِي صَنَعَ التَّابُوت وَنَجَرَهُ وَكَانَ اِسْمه حِزْقِيل . وَكَانَ التَّابُوت مِنْ جُمَّيْز .
أَيْ اِطْرَحِيهِ فِي الْبَحْر : نَهْر النِّيل . " فَاقْذِفِيهِ " قَالَ الْفَرَّاء : " فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ " أَمْر وَفِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاة . أَيْ اِقْذِفِيهِ يُلْقِهِ الْيَمّ . وَكَذَا قَوْله : " اِتَّبِعُوا سَبِيلنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ " [ الْعَنْكَبُوت : 12 ] .
يَعْنِي فِرْعَوْن ; فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا , وَجَعَلَتْ فِيهِ نِطْعًا وَوَضَعَتْ فِيهِ مُوسَى , وَقَيَّرَتْ رَأْسه وَخِصَاصه يَعْنِي شُقُوقه ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي النِّيل , وَكَانَ يَشْرَع مِنْهُ نَهْر كَبِير فِي دَار فِرْعَوْن , فَسَاقَهُ اللَّه فِي ذَلِكَ النَّهْر إِلَى دَار فِرْعَوْن . وَرُوِيَ أَنَّهَا جَعَلَتْ فِي التَّابُوت قُطْنًا مَحْلُوجًا , فَوَضَعَتْهُ فِيهِ وَقَيَّرَتْهُ وَجَصَّصَتْهُ , ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي الْيَمّ . وَكَانَ يَشْرَع مِنْهُ إِلَى بُسْتَان فِرْعَوْن نَهْر كَبِير , فَبَيْنَا هُوَ جَالِس عَلَى رَأْس بِرْكَة مَعَ آسِيَة , إِذَا بِالتَّابُوتِ , فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ , فَفُتِحَ فَإِذَا صَبِيّ أَصْبَحَ النَّاس , فَأَحَبَّهُ عَدُوّ اللَّه حُبًّا شَدِيدًا لَا يَتَمَالَك أَنْ يَصْبِر عَنْهُ . وَظَاهِر الْقُرْآن يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبَحْر أَلْقَاهُ بِسَاحِلِهِ وَهُوَ شَاطِئُهُ , فَرَأَى فِرْعَوْن التَّابُوت بِالسَّاحِلِ فَأَمَرَ بِأَخْذِهِ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون إِلْقَاء الْيَمّ بِمَوْضِعٍ مِنْ السَّاحِل , فِيهِ فُوَّهَة نَهْر فِرْعَوْن , ثُمَّ أَدَّاهُ النَّهْر إِلَى حَيْثُ الْبِرْكَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : وَجَدَتْهُ اِبْنَة فِرْعَوْن وَكَانَ بِهَا بَرَص , فَلَمَّا فَتَحَتْ التَّابُوت شُفِيَتْ . وَرُوِيَ أَنَّهُمْ حِين اِلْتَقَطُوا التَّابُوت عَالَجُوا فَتْحه فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ , وَعَالَجُوا كَسْره فَأَعْيَاهُمْ , فَدَنَتْ آسِيَة فَرَأَتْ فِي جَوْف التَّابُوت نُورًا فَعَالَجَتْهُ فَفَتَحَتْهُ , فَإِذَا صَبِيّ نُوره بَيْن عَيْنَيْهِ , وَهُوَ يَمُصّ إِبْهَامه لَبَنًا فَأَحَبُّوهُ . وَكَانَتْ لِفِرْعَوْن بِنْت بَرْصَاء , وَقَالَ لَهُ الْأَطِبَّاء : لَا تَبْرَأ إِلَّا مِنْ قِبَل الْبَحْر يُوجَد فِيهِ شَبَه إِنْسَان دَوَاؤُهَا رِيقه ; فَلَطَّخَتْ الْبَرْصَاء بَرَصهَا بِرِيقِهِ فَبَرِئَتْ . وَقِيلَ : لَمَّا نَظَرَتْ إِلَى وَجْهه بَرِئَتْ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : وَجَدَتْهُ جَوَارٍ لِامْرَأَةِ فِرْعَوْن , فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فِرْعَوْن فَرَأَى صَبِيًّا مِنْ أَصْبَح النَّاس وَجْهًا , فَأَحَبَّهُ فِرْعَوْن .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَحَبَّهُ اللَّه وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقه . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : جَعَلَ عَلَيْهِ مَسْحَة مِنْ جَمَال لَا يَكَاد يَصْبِر عَنْهُ مَنْ رَآهُ . وَقَالَ قَتَادَة : كَانَتْ فِي عَيْنَيْ مُوسَى مَلَاحَة مَا رَآهُ أَحَد إِلَّا أَحَبَّهُ وَعَشَقه . وَقَالَ عِكْرِمَة : الْمَعْنَى جَعَلْت فِيك حُسْنًا وَمَلَاحَة فَلَا يَرَاك أَحَد إِلَّا أَحَبَّك . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْمَعْنَى أَلْقَيْت عَلَيْك رَحْمَتِي . وَقَالَ اِبْن زَيْد : جَعَلْت مَنْ رَآك أَحَبَّك حَتَّى أَحَبَّك فِرْعَوْن فَسَلِمْت مِنْ شَرّه , وَأَحَبَّتْك آسِيَة بِنْت مُزَاحِم فَتَبَنَّتْك .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد أَنَّ ذَلِكَ بِعَيْنِي حَيْثُ جُعِلْت فِي التَّابُوت , وَحَيْثُ أُلْقِيَ التَّابُوت فِي الْبَحْر , وَحَيْثُ اِلْتَقَطَك جَوَارِي اِمْرَأَة فِرْعَوْن ; فَأَرَدْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوت لِيَنْظُرْنَ مَا فِيهِ , فَقَالَتْ مِنْهُنَّ وَاحِدَة : لَا تَفْتَحْنَهُ حَتَّى تَأْتِينَ بِهِ سَيِّدَتكُنَّ فَهُوَ أَحْظَى لَكُنَّ عِنْدهَا , وَأَجْدَر بِأَلَّا تَتَّهِمكُنَّ بِأَنَّكُنَّ وَجَدْتُنَّ فِيهِ شَيْئًا فَأَخَذْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُنَّ . وَكَانَتْ اِمْرَأَة فِرْعَوْن لَا تَشْرَب مِنْ الْمَاء إِلَّا مَا اِسْتَقَيْنَهُ أُولَئِكَ الْجَوَارِي فَذَهَبْنَ بِالتَّابُوتِ إِلَيْهَا مُغْلَقًا , فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ صَبِيًّا لَمْ يُرَ مِثْله قَطُّ ; وَأُلْقِيَ عَلَيْهَا مَحَبَّته فَأَخَذَتْهُ فَدَخَلَتْ بِهِ عَلَى فِرْعَوْن , فَقَالَتْ لَهُ : " قُرَّة عَيْن لِي وَلَك " [ الْقَصَص : 9 ] قَالَ لَهَا فِرْعَوْن : أَمَّا لَك فَنَعَمْ , وَأَمَّا لِي فَلَا . فَبَلَغْنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْ أَنَّ فِرْعَوْن قَالَ نَعَمْ هُوَ قُرَّة عَيْن لِي وَلَك لَآمَنَ وَصَدَّقَ ) فَقَالَتْ : هَبْهُ لِي وَلَا تَقْتُلهُ ; فَوَهَبَهُ لَهَا . وَقِيلَ : " وَلِتُصْنَع عَلَى عَيْنِي " أَيْ تُرَبَّى وَتُغَذَّى عَلَى مَرْأًى مِنِّي ; قَالَهُ قَتَادَة . قَالَ النَّحَّاس : وَذَلِكَ مَعْرُوف فِي اللُّغَة ; يُقَال : صَنَعْت الْفَرَس وَأَصْنَعْته إِذَا أَحْسَنْت الْقِيَام عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى " وَلِتُصْنَع عَلَى عَيْنِي " فَعَلْت ذَلِكَ . وَقِيلَ : اللَّام مُتَعَلِّقَة بِمَا بَعْدهَا مِنْ قَوْله : " إِذْ تَمْشِي أُخْتك " عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ف " إِذْ " ظَرْف " لِتُصْنَع " . وَقِيلَ : الْوَاو فِي " وَلِتُصْنَع " زَائِدَة . وَقَرَأَ اِبْن الْقَعْقَاع " وَلِتُصْنَع " بِإِسْكَانِ اللَّام عَلَى الْأَمْر , وَظَاهِره لِلْمُخَاطَبِ وَالْمَأْمُور غَائِب . وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك " وَلِتَصْنَع " بِفَتْحِ التَّاء . وَالْمَعْنَى وَلِتَكُونَ حَرَكَتك وَتَصَرُّفك بِمَشِيئَتِي وَعَلَى عَيْن مِنِّي . ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ .
أَيْ اِطْرَحِيهِ فِي الْبَحْر : نَهْر النِّيل . " فَاقْذِفِيهِ " قَالَ الْفَرَّاء : " فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ " أَمْر وَفِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاة . أَيْ اِقْذِفِيهِ يُلْقِهِ الْيَمّ . وَكَذَا قَوْله : " اِتَّبِعُوا سَبِيلنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ " [ الْعَنْكَبُوت : 12 ] .
يَعْنِي فِرْعَوْن ; فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا , وَجَعَلَتْ فِيهِ نِطْعًا وَوَضَعَتْ فِيهِ مُوسَى , وَقَيَّرَتْ رَأْسه وَخِصَاصه يَعْنِي شُقُوقه ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي النِّيل , وَكَانَ يَشْرَع مِنْهُ نَهْر كَبِير فِي دَار فِرْعَوْن , فَسَاقَهُ اللَّه فِي ذَلِكَ النَّهْر إِلَى دَار فِرْعَوْن . وَرُوِيَ أَنَّهَا جَعَلَتْ فِي التَّابُوت قُطْنًا مَحْلُوجًا , فَوَضَعَتْهُ فِيهِ وَقَيَّرَتْهُ وَجَصَّصَتْهُ , ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي الْيَمّ . وَكَانَ يَشْرَع مِنْهُ إِلَى بُسْتَان فِرْعَوْن نَهْر كَبِير , فَبَيْنَا هُوَ جَالِس عَلَى رَأْس بِرْكَة مَعَ آسِيَة , إِذَا بِالتَّابُوتِ , فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ , فَفُتِحَ فَإِذَا صَبِيّ أَصْبَحَ النَّاس , فَأَحَبَّهُ عَدُوّ اللَّه حُبًّا شَدِيدًا لَا يَتَمَالَك أَنْ يَصْبِر عَنْهُ . وَظَاهِر الْقُرْآن يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبَحْر أَلْقَاهُ بِسَاحِلِهِ وَهُوَ شَاطِئُهُ , فَرَأَى فِرْعَوْن التَّابُوت بِالسَّاحِلِ فَأَمَرَ بِأَخْذِهِ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون إِلْقَاء الْيَمّ بِمَوْضِعٍ مِنْ السَّاحِل , فِيهِ فُوَّهَة نَهْر فِرْعَوْن , ثُمَّ أَدَّاهُ النَّهْر إِلَى حَيْثُ الْبِرْكَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : وَجَدَتْهُ اِبْنَة فِرْعَوْن وَكَانَ بِهَا بَرَص , فَلَمَّا فَتَحَتْ التَّابُوت شُفِيَتْ . وَرُوِيَ أَنَّهُمْ حِين اِلْتَقَطُوا التَّابُوت عَالَجُوا فَتْحه فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ , وَعَالَجُوا كَسْره فَأَعْيَاهُمْ , فَدَنَتْ آسِيَة فَرَأَتْ فِي جَوْف التَّابُوت نُورًا فَعَالَجَتْهُ فَفَتَحَتْهُ , فَإِذَا صَبِيّ نُوره بَيْن عَيْنَيْهِ , وَهُوَ يَمُصّ إِبْهَامه لَبَنًا فَأَحَبُّوهُ . وَكَانَتْ لِفِرْعَوْن بِنْت بَرْصَاء , وَقَالَ لَهُ الْأَطِبَّاء : لَا تَبْرَأ إِلَّا مِنْ قِبَل الْبَحْر يُوجَد فِيهِ شَبَه إِنْسَان دَوَاؤُهَا رِيقه ; فَلَطَّخَتْ الْبَرْصَاء بَرَصهَا بِرِيقِهِ فَبَرِئَتْ . وَقِيلَ : لَمَّا نَظَرَتْ إِلَى وَجْهه بَرِئَتْ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : وَجَدَتْهُ جَوَارٍ لِامْرَأَةِ فِرْعَوْن , فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فِرْعَوْن فَرَأَى صَبِيًّا مِنْ أَصْبَح النَّاس وَجْهًا , فَأَحَبَّهُ فِرْعَوْن .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَحَبَّهُ اللَّه وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقه . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : جَعَلَ عَلَيْهِ مَسْحَة مِنْ جَمَال لَا يَكَاد يَصْبِر عَنْهُ مَنْ رَآهُ . وَقَالَ قَتَادَة : كَانَتْ فِي عَيْنَيْ مُوسَى مَلَاحَة مَا رَآهُ أَحَد إِلَّا أَحَبَّهُ وَعَشَقه . وَقَالَ عِكْرِمَة : الْمَعْنَى جَعَلْت فِيك حُسْنًا وَمَلَاحَة فَلَا يَرَاك أَحَد إِلَّا أَحَبَّك . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْمَعْنَى أَلْقَيْت عَلَيْك رَحْمَتِي . وَقَالَ اِبْن زَيْد : جَعَلْت مَنْ رَآك أَحَبَّك حَتَّى أَحَبَّك فِرْعَوْن فَسَلِمْت مِنْ شَرّه , وَأَحَبَّتْك آسِيَة بِنْت مُزَاحِم فَتَبَنَّتْك .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد أَنَّ ذَلِكَ بِعَيْنِي حَيْثُ جُعِلْت فِي التَّابُوت , وَحَيْثُ أُلْقِيَ التَّابُوت فِي الْبَحْر , وَحَيْثُ اِلْتَقَطَك جَوَارِي اِمْرَأَة فِرْعَوْن ; فَأَرَدْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوت لِيَنْظُرْنَ مَا فِيهِ , فَقَالَتْ مِنْهُنَّ وَاحِدَة : لَا تَفْتَحْنَهُ حَتَّى تَأْتِينَ بِهِ سَيِّدَتكُنَّ فَهُوَ أَحْظَى لَكُنَّ عِنْدهَا , وَأَجْدَر بِأَلَّا تَتَّهِمكُنَّ بِأَنَّكُنَّ وَجَدْتُنَّ فِيهِ شَيْئًا فَأَخَذْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُنَّ . وَكَانَتْ اِمْرَأَة فِرْعَوْن لَا تَشْرَب مِنْ الْمَاء إِلَّا مَا اِسْتَقَيْنَهُ أُولَئِكَ الْجَوَارِي فَذَهَبْنَ بِالتَّابُوتِ إِلَيْهَا مُغْلَقًا , فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ صَبِيًّا لَمْ يُرَ مِثْله قَطُّ ; وَأُلْقِيَ عَلَيْهَا مَحَبَّته فَأَخَذَتْهُ فَدَخَلَتْ بِهِ عَلَى فِرْعَوْن , فَقَالَتْ لَهُ : " قُرَّة عَيْن لِي وَلَك " [ الْقَصَص : 9 ] قَالَ لَهَا فِرْعَوْن : أَمَّا لَك فَنَعَمْ , وَأَمَّا لِي فَلَا . فَبَلَغْنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْ أَنَّ فِرْعَوْن قَالَ نَعَمْ هُوَ قُرَّة عَيْن لِي وَلَك لَآمَنَ وَصَدَّقَ ) فَقَالَتْ : هَبْهُ لِي وَلَا تَقْتُلهُ ; فَوَهَبَهُ لَهَا . وَقِيلَ : " وَلِتُصْنَع عَلَى عَيْنِي " أَيْ تُرَبَّى وَتُغَذَّى عَلَى مَرْأًى مِنِّي ; قَالَهُ قَتَادَة . قَالَ النَّحَّاس : وَذَلِكَ مَعْرُوف فِي اللُّغَة ; يُقَال : صَنَعْت الْفَرَس وَأَصْنَعْته إِذَا أَحْسَنْت الْقِيَام عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى " وَلِتُصْنَع عَلَى عَيْنِي " فَعَلْت ذَلِكَ . وَقِيلَ : اللَّام مُتَعَلِّقَة بِمَا بَعْدهَا مِنْ قَوْله : " إِذْ تَمْشِي أُخْتك " عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ف " إِذْ " ظَرْف " لِتُصْنَع " . وَقِيلَ : الْوَاو فِي " وَلِتُصْنَع " زَائِدَة . وَقَرَأَ اِبْن الْقَعْقَاع " وَلِتُصْنَع " بِإِسْكَانِ اللَّام عَلَى الْأَمْر , وَظَاهِره لِلْمُخَاطَبِ وَالْمَأْمُور غَائِب . وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك " وَلِتَصْنَع " بِفَتْحِ التَّاء . وَالْمَعْنَى وَلِتَكُونَ حَرَكَتك وَتَصَرُّفك بِمَشِيئَتِي وَعَلَى عَيْن مِنِّي . ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ .
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ↓
" إِذْ تَمْشِي أُخْتك " الْعَامِل فِي " إِذْ تَمْشِي " " أَلْقَيْت " أَوْ " تُصْنَع " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون بَدَلًا مِنْ " إِذْ أَوْحَيْنَا " وَأُخْته اِسْمهَا مَرْيَم
وَذَلِكَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مُتَعَرِّفَة خَبَره , وَكَانَ مُوسَى لَمَّا وَهَبَهُ فِرْعَوْن مِنْ اِمْرَأَته طَلَبَتْ لَهُ الْمَرَاضِع , وَكَانَ لَا يَأْخُذ مِنْ أَحَد حَتَّى أَقْبَلَتْ أُخْته , فَأَخَذَتْهُ وَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرهَا وَنَاوَلَتْهُ ثَدْيهَا فَمَصَّهُ وَفَرِحَ بِهِ . فَقَالُوا لَهَا : تُقِيمِينَ عِنْدنَا ; فَقَالَتْ : إِنَّهُ لَا لَبَن لِي وَلَكِنْ أَدُلّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلهُ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ . قَالُوا : وَمَنْ هِيَ ؟ . قَالَتْ : أُمِّي . فَقَالُوا : لَهَا لَبَن ؟ قَالَتْ : لَبَن أَخِي هَارُون . وَكَانَ هَارُون أَكْبَر مِنْ مُوسَى بِسَنَةٍ . وَقِيلَ بِثَلَاثٍ . وَقِيلَ بِأَرْبَعٍ . وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْن رَحِمَ بَنِي إِسْرَائِيل فَرَفَعَ عَنْهُمْ الْقَتْل أَرْبَع سِنِينَ , فَوُلِدَ هَارُون فِيهَا ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَجَاءَتْ الْأُمّ فَقَبِلَ ثَدْيهَا .
وَفَى مُصْحَف أُبَيّ " فَرَدَدْنَاك "
وَرَوَى عَبْد الْحَمِيد عَنْ اِبْن عَامِر " كَيْ تَقِرّ عَيْنهَا " بِكَسْرِ الْقَاف . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَقَرِرْت بِهِ عَيْنًا وَقَرَرْت بِهِ قُرَّة وَقُرُورًا فِيهِمَا . رَجُل قَرِير الْعَيْن ; وَقَدْ قَرَّتْ عَيْنه تَقِرّ وَتَقَرّ نَقِيض سَخِنَتْ . وَأَقَرَّ اللَّه عَيْنه أَيْ أَعْطَاهُ حَتَّى تَقَرّ فَلَا تَطْمَح إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقه , وَيُقَال : حَتَّى تَبْرُد وَلَا تَسْخَن . وَلِلسُّرُورِ دَمْعَة بَارِدَة , وَلِلْحُزْنِ دَمْعَة حَارَّة .
أَيْ عَلَى فَقْدك .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَتَلَ قِبْطِيًّا كَافِرًا . قَالَ كَعْب : وَكَانَ إِذْ ذَاكَ اِبْن اِثْنَتَيْ عَشْرَة سَنَة . فِي صَحِيح مُسْلِم : وَكَانَ قَتْله خَطَأ ; عَلَى مَا يَأْتِي
أَيْ آمَنَّاك مِنْ الْخَوْف وَالْقَتْل وَالْحَبْس .
أَيْ اِخْتَبَرْنَاك اِخْتِبَارًا حَتَّى صَلَحْت لِلرِّسَالَةِ , وَقَالَ قَتَادَة : بَلَوْنَاك بَلَاء . مُجَاهِد : أَخْلَصْنَاك إِخْلَاصًا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : اِخْتَبَرْنَاك بِأَشْيَاء قَبْل الرِّسَالَة , أَوَّلهَا حَمَلَتْهُ أُمّه فِي السَّنَة الَّتِي كَانَ فِرْعَوْن يَذْبَح فِيهَا الْأَطْفَال , ثُمَّ إِلْقَاؤُهُ فِي الْيَمّ , ثُمَّ مَنْعه مِنْ الرَّضَاع إِلَّا مِنْ ثَدْي أُمّه , ثُمَّ جَرّه بِلِحْيَةِ فِرْعَوْن , ثُمَّ تَنَاوُله الْجَمْرَة بَدَل الدُّرَّة , فَدَرَأَ ذَلِكَ عَنْهُ قَتْل فِرْعَوْن , ثُمَّ قَتْله الْقِبْطِيّ وَخُرُوجه خَائِفًا يَتَرَقَّب , ثُمَّ رِعَايَته الْغَنَم لِيَتَدَرَّب بِهَا عَلَى رِعَايَة الْخَلْق . فَيُقَال : إِنَّهُ نَدَّ لَهُ مِنْ الْغَنَم جَدْي فَاتَّبَعَهُ أَكْثَر النَّهَار , وَأَتْعَبَهُ , ثُمَّ أَخَذَهُ فَقَبَّلَهُ وَضَمَّهُ إِلَى صَدْره , وَقَالَ لَهُ أَتْعَبْتنِي وَأَتْعَبْت نَفْسك ; وَلَمْ يَغْضَب عَلَيْهِ . قَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : وَلِهَذَا اِتَّخَذَهُ اللَّه كَلِيمًا .
يُرِيد عَشْر سِنِينَ أَتَمّ الْأَجَلَيْنِ . وَقَالَ وَهْب : لَبِثَ عِنْد شُعَيْب ثَمَانِي وَعِشْرِينَ سَنَة , مِنْهَا عَشَرَة مَهْر اِمْرَأَته صفورا اِبْنَة شُعَيْب , وَثَمَانِي عَشْرَة أَقَامَهَا عِنْده حَتَّى وُلِدَ لَهُ عِنْده .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَعَبْد الرَّحْمَن بْن كَيْسَان : يُرِيد مُوَافِقًا لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَة ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاء لَا يُبْعَثُونَ إِلَّا أَبْنَاء أَرْبَعِينَ سَنَة . وَقَالَ مُجَاهِد وَمُقَاتِل : " عَلَى قَدَر " عَلَى وَعْد . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : ثُمَّ جِئْت عَلَى الْقَدَر الَّذِي قَدَّرْت لَك أَنَّك تَجِيء فِيهِ . وَالْمَعْنَى وَاحِد . أَيْ جِئْت الْوَقْت الَّذِي أَرَدْنَا إِرْسَالك فِيهِ . وَقَالَ الشَّاعِر : نَالَ الْخِلَافَة أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَر
وَذَلِكَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مُتَعَرِّفَة خَبَره , وَكَانَ مُوسَى لَمَّا وَهَبَهُ فِرْعَوْن مِنْ اِمْرَأَته طَلَبَتْ لَهُ الْمَرَاضِع , وَكَانَ لَا يَأْخُذ مِنْ أَحَد حَتَّى أَقْبَلَتْ أُخْته , فَأَخَذَتْهُ وَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرهَا وَنَاوَلَتْهُ ثَدْيهَا فَمَصَّهُ وَفَرِحَ بِهِ . فَقَالُوا لَهَا : تُقِيمِينَ عِنْدنَا ; فَقَالَتْ : إِنَّهُ لَا لَبَن لِي وَلَكِنْ أَدُلّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلهُ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ . قَالُوا : وَمَنْ هِيَ ؟ . قَالَتْ : أُمِّي . فَقَالُوا : لَهَا لَبَن ؟ قَالَتْ : لَبَن أَخِي هَارُون . وَكَانَ هَارُون أَكْبَر مِنْ مُوسَى بِسَنَةٍ . وَقِيلَ بِثَلَاثٍ . وَقِيلَ بِأَرْبَعٍ . وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْن رَحِمَ بَنِي إِسْرَائِيل فَرَفَعَ عَنْهُمْ الْقَتْل أَرْبَع سِنِينَ , فَوُلِدَ هَارُون فِيهَا ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَجَاءَتْ الْأُمّ فَقَبِلَ ثَدْيهَا .
وَفَى مُصْحَف أُبَيّ " فَرَدَدْنَاك "
وَرَوَى عَبْد الْحَمِيد عَنْ اِبْن عَامِر " كَيْ تَقِرّ عَيْنهَا " بِكَسْرِ الْقَاف . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَقَرِرْت بِهِ عَيْنًا وَقَرَرْت بِهِ قُرَّة وَقُرُورًا فِيهِمَا . رَجُل قَرِير الْعَيْن ; وَقَدْ قَرَّتْ عَيْنه تَقِرّ وَتَقَرّ نَقِيض سَخِنَتْ . وَأَقَرَّ اللَّه عَيْنه أَيْ أَعْطَاهُ حَتَّى تَقَرّ فَلَا تَطْمَح إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقه , وَيُقَال : حَتَّى تَبْرُد وَلَا تَسْخَن . وَلِلسُّرُورِ دَمْعَة بَارِدَة , وَلِلْحُزْنِ دَمْعَة حَارَّة .
أَيْ عَلَى فَقْدك .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَتَلَ قِبْطِيًّا كَافِرًا . قَالَ كَعْب : وَكَانَ إِذْ ذَاكَ اِبْن اِثْنَتَيْ عَشْرَة سَنَة . فِي صَحِيح مُسْلِم : وَكَانَ قَتْله خَطَأ ; عَلَى مَا يَأْتِي
أَيْ آمَنَّاك مِنْ الْخَوْف وَالْقَتْل وَالْحَبْس .
أَيْ اِخْتَبَرْنَاك اِخْتِبَارًا حَتَّى صَلَحْت لِلرِّسَالَةِ , وَقَالَ قَتَادَة : بَلَوْنَاك بَلَاء . مُجَاهِد : أَخْلَصْنَاك إِخْلَاصًا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : اِخْتَبَرْنَاك بِأَشْيَاء قَبْل الرِّسَالَة , أَوَّلهَا حَمَلَتْهُ أُمّه فِي السَّنَة الَّتِي كَانَ فِرْعَوْن يَذْبَح فِيهَا الْأَطْفَال , ثُمَّ إِلْقَاؤُهُ فِي الْيَمّ , ثُمَّ مَنْعه مِنْ الرَّضَاع إِلَّا مِنْ ثَدْي أُمّه , ثُمَّ جَرّه بِلِحْيَةِ فِرْعَوْن , ثُمَّ تَنَاوُله الْجَمْرَة بَدَل الدُّرَّة , فَدَرَأَ ذَلِكَ عَنْهُ قَتْل فِرْعَوْن , ثُمَّ قَتْله الْقِبْطِيّ وَخُرُوجه خَائِفًا يَتَرَقَّب , ثُمَّ رِعَايَته الْغَنَم لِيَتَدَرَّب بِهَا عَلَى رِعَايَة الْخَلْق . فَيُقَال : إِنَّهُ نَدَّ لَهُ مِنْ الْغَنَم جَدْي فَاتَّبَعَهُ أَكْثَر النَّهَار , وَأَتْعَبَهُ , ثُمَّ أَخَذَهُ فَقَبَّلَهُ وَضَمَّهُ إِلَى صَدْره , وَقَالَ لَهُ أَتْعَبْتنِي وَأَتْعَبْت نَفْسك ; وَلَمْ يَغْضَب عَلَيْهِ . قَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : وَلِهَذَا اِتَّخَذَهُ اللَّه كَلِيمًا .
يُرِيد عَشْر سِنِينَ أَتَمّ الْأَجَلَيْنِ . وَقَالَ وَهْب : لَبِثَ عِنْد شُعَيْب ثَمَانِي وَعِشْرِينَ سَنَة , مِنْهَا عَشَرَة مَهْر اِمْرَأَته صفورا اِبْنَة شُعَيْب , وَثَمَانِي عَشْرَة أَقَامَهَا عِنْده حَتَّى وُلِدَ لَهُ عِنْده .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَعَبْد الرَّحْمَن بْن كَيْسَان : يُرِيد مُوَافِقًا لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَة ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاء لَا يُبْعَثُونَ إِلَّا أَبْنَاء أَرْبَعِينَ سَنَة . وَقَالَ مُجَاهِد وَمُقَاتِل : " عَلَى قَدَر " عَلَى وَعْد . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : ثُمَّ جِئْت عَلَى الْقَدَر الَّذِي قَدَّرْت لَك أَنَّك تَجِيء فِيهِ . وَالْمَعْنَى وَاحِد . أَيْ جِئْت الْوَقْت الَّذِي أَرَدْنَا إِرْسَالك فِيهِ . وَقَالَ الشَّاعِر : نَالَ الْخِلَافَة أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَر
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ اِصْطَفَيْتُك لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي .
وَقِيلَ : " اِصْطَنَعْتُك " خَلَقْتُك ; مَأْخُوذ مِنْ الصَّنْعَة . وَقِيلَ قَوَّيْتُك وَعَلَّمْتُك لِتُبَلِّغ عِبَادِي أَمْرِي وَنَهْي .
وَقِيلَ : " اِصْطَنَعْتُك " خَلَقْتُك ; مَأْخُوذ مِنْ الصَّنْعَة . وَقِيلَ قَوَّيْتُك وَعَلَّمْتُك لِتُبَلِّغ عِبَادِي أَمْرِي وَنَهْي .
قَالَ اِبْن عَبَّاس يُرِيد التِّسْع الْآيَات الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَضْعُفَا أَيْ فِي أَمْر الرِّسَالَة ; وَقَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : تَفْتُرَا . قَالَ الشَّاعِر : فَمَا وَنَى مُحَمَّد مُذْ اَنْ غَفَرْ لَهُ الْإِلَه مَا مَضَى وَمَا غَبَرْ وَالْوَنَى الضَّعْف وَالْفُتُور , وَالْكَلَال وَالْإِعْيَاء . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : مِسَحٍّ إِذَا مَا السَّابِحَات عَلَى الْوَنَى أَثَرْنَ غُبَارًا بِالْكَدِيدِ الْمُرَكَّل وَيُقَال : وَنَيْت فِي الْأَمْر أَنِي وَنًى وَوَنْيًا أَيْ ضَعُفْت فَأَنَا وَانٍ وَنَاقَة وَانِيَة وَأَوْنَيْتهَا أَنَا أَضْعَفْتهَا وَأَتْعَبْتهَا : وَفُلَان لَا يَنِي كَذَا , أَيْ لَا يَزَال , وَبِهِ فَسَّرَ أَبَان مَعْنَى الْآيَة وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ طَرَفَة : كَأَنَّ الْقُدُور الرَّاسِيَات أَمَامهمْ قِبَاب بَنَوْهَا لَا تَنِي أَبَدًا تَغْلِي وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : لَا تَبْطَئَا . وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " وَلَا تَهِنَا فِي ذِكْرِي " وَتَحْمِيدِي وَتَمْجِيدِي وَتَبْلِيغ رِسَالَتِي .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَضْعُفَا أَيْ فِي أَمْر الرِّسَالَة ; وَقَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : تَفْتُرَا . قَالَ الشَّاعِر : فَمَا وَنَى مُحَمَّد مُذْ اَنْ غَفَرْ لَهُ الْإِلَه مَا مَضَى وَمَا غَبَرْ وَالْوَنَى الضَّعْف وَالْفُتُور , وَالْكَلَال وَالْإِعْيَاء . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : مِسَحٍّ إِذَا مَا السَّابِحَات عَلَى الْوَنَى أَثَرْنَ غُبَارًا بِالْكَدِيدِ الْمُرَكَّل وَيُقَال : وَنَيْت فِي الْأَمْر أَنِي وَنًى وَوَنْيًا أَيْ ضَعُفْت فَأَنَا وَانٍ وَنَاقَة وَانِيَة وَأَوْنَيْتهَا أَنَا أَضْعَفْتهَا وَأَتْعَبْتهَا : وَفُلَان لَا يَنِي كَذَا , أَيْ لَا يَزَال , وَبِهِ فَسَّرَ أَبَان مَعْنَى الْآيَة وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ طَرَفَة : كَأَنَّ الْقُدُور الرَّاسِيَات أَمَامهمْ قِبَاب بَنَوْهَا لَا تَنِي أَبَدًا تَغْلِي وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : لَا تَبْطَئَا . وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " وَلَا تَهِنَا فِي ذِكْرِي " وَتَحْمِيدِي وَتَمْجِيدِي وَتَبْلِيغ رِسَالَتِي .
" اِذْهَبَا " قَالَ فِي أَوَّل الْآيَة : " اِذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوك بِآيَاتِي " وَقَالَ هُنَا " اِذْهَبَا " فَقِيلَ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى وَهَارُون فِي هَذِهِ الْآيَة بِالنُّفُوذِ إِلَى دَعْوَة فِرْعَوْن , وَخَاطَبَ أَوَّلًا مُوسَى وَحْده تَشْرِيفًا لَهُ ; ثُمَّ كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ . وَقِيلَ بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَكْفِي ذَهَاب أَحَدهمَا .
وَقِيلَ : الْأَوَّل أَمْر بِالذَّهَابِ إِلَى كُلّ النَّاس , وَالثَّانِي بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْن .
وَقِيلَ : الْأَوَّل أَمْر بِالذَّهَابِ إِلَى كُلّ النَّاس , وَالثَّانِي بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْن .
دَلِيل عَلَى جَوَاز الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُون بِاللَّيِّنِ مِنْ الْقَوْل لِمَنْ مَعَهُ الْقُوَّة , وَضُمِنَتْ لَهُ الْعِصْمَة , أَلَا تَرَاهُ قَالَ : " فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا " وَقَالَ : " لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَع وَأَرَى " [ طَه : 46 ] فَكَيْفَ بِنَا فَنَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَحِينَئِذٍ يَحْصُل الْآمِر وَالنَّاهِي عَلَى مَرْغُوبه , وَيَظْفَر بِمَطْلُوبِهِ ; وَهَذَا وَاضِح .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي مَعْنَى قَوْله ( لَيِّنًا ) فَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ الْكَلْبِيّ وَعِكْرِمَة : مَعْنَاهُ كَنِّيَاهُ ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالسُّدِّيّ . ثُمَّ قِيلَ : وَكُنْيَته أَبُو الْعَبَّاس . وَقِيلَ : أَبُو الْوَلِيد . وَقِيلَ : أَبُو مُرَّة ; فَعَلَى هَذَا الْقَوْل تَكْنِيَة الْكَافِر جَائِزَة إِذَا كَانَ وَجِيهًا ذَا شَرَف وَطُمِعَ بِإِسْلَامِهِ . وَقَدْ يَجُوز ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُطْمَع بِإِسْلَامِهِ , لِأَنَّ الطَّمَع لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ تُوجِب عَمَلًا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيم قَوْم فَأَكْرِمُوهُ ) وَلَمْ يَقُلْ وَإِنْ طَمِعْتُمْ فِي إِسْلَامه , وَمِنْ الْإِكْرَام دُعَاؤُهُ بِالْكُنْيَةِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَان بْن أُمَيَّة : ( اِنْزِلْ أَبَا وَهْب ) فَكَنَّاهُ . وَقَالَ لِسَعْدٍ : ( أَلَمْ تَسْمَع مَا يَقُول أَبُو حُبَاب ) يَعْنِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ . وَرُوِيَ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ عَلَى بَاب فِرْعَوْن سَنَة , لَا يَجِد رَسُولًا يُبَلِّغ كَلَامًا حَتَّى خَرَجَ . فَجَرَى لَهُ مَا قَضَى اللَّه مِنْ ذَلِكَ , وَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَة لِمَنْ جَاءَ بَعْده مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي سِيرَتهمْ مَعَ الظَّالِمِينَ , وَرَبّك أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ . وَقِيلَ قَالَ لَهُ مُوسَى تُؤْمِنْ بِمَا جِئْت بِهِ , وَتَعْبُدْ رَبّ الْعَالَمِينَ ; عَلَى أَنَّ لَك شَبَابًا لَا يَهْرَم إِلَى الْمَوْت , وَمُلْكًا لَا يُنْزَع مِنْك إِلَى الْمَوْت , وَيُنْسَأ فِي أَجَلك أَرْبَعمِائَةِ سَنَة , فَإِذَا مُتّ دَخَلْت الْجَنَّة . فَهَذَا الْقَوْل اللَّيِّن . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود الْقَوْل اللَّيِّن قَوْله تَعَالَى " فَقُلْ هَلْ لَك إِلَى أَنْ تَزَكَّى . وَأَهْدِيك إِلَى رَبّك فَتَخْشَى " [ النَّازِعَات : 18 - 19 ] . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْقَوْل اللَّيِّن قَوْل مُوسَى : يَا فِرْعَوْن إِنَّا رَسُولَا رَبّك رَبّ الْعَالَمِينَ . فَسَمَّاهُ بِهَذَا الِاسْم لِأَنَّهُ أَحَبّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ مِمَّا قِيلَ لَهُ , كَمَا يُسَمَّى عِنْدنَا الْمَلِك وَنَحْوه . قُلْت : الْقَوْل اللَّيِّن هُوَ الْقَوْل الَّذِي لَا خُشُونَة فِيهِ ; يُقَال : لَانَ الشَّيْء يَلِين لَيْنًا ; وَشَيْء لَيِّن وَلَيْن مُخَفَّف مِنْهُ ; وَالْجَمْع أَلْيِنَاء . فَإِذَا كَانَ مُوسَى أُمِرَ بِأَنْ يَقُول لِفِرْعَوْن قَوْلًا لَيِّنًا , فَمَنْ دُونه أَحْرَى بِأَنْ يَقْتَدِي بِذَلِكَ فِي خِطَابه , وَأَمْره بِالْمَعْرُوفِ فِي كَلَامه . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى " وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا " [ الْبَقَرَة : 83 ] . عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " بَيَانه وَالْحَمْد لِلَّهِ .
مَعْنَاهُ : عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعكُمَا ; فَالتَّوَقُّع فِيهَا إِنَّمَا هُوَ رَاجِع إِلَى جِهَة الْبَشَر ; قَالَهُ كُبَرَاء النَّحْوِيِّينَ : سِيبَوَيْهِ وَغَيْره . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل " الْبَقَرَة "
قَالَ الزَّجَّاج : " لَعَلَّ " لَفْظَة طَمَع وَتَرَجٍّ فَخَاطَبَهُمْ بِمَا يَعْقِلُونَ . وَقِيلَ " لَعَلَّ " هَاهُنَا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَام , وَالْمَعْنَى فَانْظُرْ هَلْ يَتَذَكَّر . وَقِيلَ : هَلْ بِمَعْنَى كَيْ . وَقِيلَ : هُوَ إِخْبَار مِنْ اللَّه تَعَالَى عَنْ قَوْل هَارُون لِمُوسَى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى ; قَالَهُ الْحَسَن . وَقِيلَ : إِنَّ لَعَلَّ وَعَسَى فِي جَمِيع الْقُرْآن لِمَا قَدْ وَقَعَ . وَقَدْ تَذَّكَّر فِرْعَوْن حِين أَدْرَكَهُ الْغَرَق وَخَشِيَ فَقَالَ : " آمَنْت أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنْت بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ " [ يُونُس : 90 ] وَلَكِنْ لَمْ يَنْفَعهُ ذَلِكَ ; قَالَهُ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق وَغَيْره وَقَالَ يَحْيَى بْن مُعَاذ فِي هَذِهِ الْآيَة : هَذَا رِفْقك بِمَنْ يَقُول أَنَا الْإِلَه فَكَيْف رِفْقك بِمَنْ يَقُول أَنْتَ الْإِلَه ؟ ! . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ فِرْعَوْن رَكَنَ إِلَى قَوْل مُوسَى لَمَّا دَعَاهُ , وَشَاوَرَ اِمْرَأَته فَآمَنَتْ وَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ , فَشَاوَرَ هَامَان فَقَالَ : لَا تَفْعَل ; بَعْد أَنْ كُنْت مَالِكًا تَصِير مَمْلُوكًا , وَبَعْد أَنْ كُنْت رَبًّا تَصِير مَرْبُوبًا . وَقَالَ لَهُ : أَنَا أُرِدْك شَابًّا فَخَضَّبَ لِحْيَته بِالسَّوَادِ فَهُوَ أَوَّل مَنْ خَضَّبَ .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي مَعْنَى قَوْله ( لَيِّنًا ) فَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ الْكَلْبِيّ وَعِكْرِمَة : مَعْنَاهُ كَنِّيَاهُ ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالسُّدِّيّ . ثُمَّ قِيلَ : وَكُنْيَته أَبُو الْعَبَّاس . وَقِيلَ : أَبُو الْوَلِيد . وَقِيلَ : أَبُو مُرَّة ; فَعَلَى هَذَا الْقَوْل تَكْنِيَة الْكَافِر جَائِزَة إِذَا كَانَ وَجِيهًا ذَا شَرَف وَطُمِعَ بِإِسْلَامِهِ . وَقَدْ يَجُوز ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُطْمَع بِإِسْلَامِهِ , لِأَنَّ الطَّمَع لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ تُوجِب عَمَلًا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيم قَوْم فَأَكْرِمُوهُ ) وَلَمْ يَقُلْ وَإِنْ طَمِعْتُمْ فِي إِسْلَامه , وَمِنْ الْإِكْرَام دُعَاؤُهُ بِالْكُنْيَةِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَان بْن أُمَيَّة : ( اِنْزِلْ أَبَا وَهْب ) فَكَنَّاهُ . وَقَالَ لِسَعْدٍ : ( أَلَمْ تَسْمَع مَا يَقُول أَبُو حُبَاب ) يَعْنِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ . وَرُوِيَ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ عَلَى بَاب فِرْعَوْن سَنَة , لَا يَجِد رَسُولًا يُبَلِّغ كَلَامًا حَتَّى خَرَجَ . فَجَرَى لَهُ مَا قَضَى اللَّه مِنْ ذَلِكَ , وَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَة لِمَنْ جَاءَ بَعْده مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي سِيرَتهمْ مَعَ الظَّالِمِينَ , وَرَبّك أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ . وَقِيلَ قَالَ لَهُ مُوسَى تُؤْمِنْ بِمَا جِئْت بِهِ , وَتَعْبُدْ رَبّ الْعَالَمِينَ ; عَلَى أَنَّ لَك شَبَابًا لَا يَهْرَم إِلَى الْمَوْت , وَمُلْكًا لَا يُنْزَع مِنْك إِلَى الْمَوْت , وَيُنْسَأ فِي أَجَلك أَرْبَعمِائَةِ سَنَة , فَإِذَا مُتّ دَخَلْت الْجَنَّة . فَهَذَا الْقَوْل اللَّيِّن . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود الْقَوْل اللَّيِّن قَوْله تَعَالَى " فَقُلْ هَلْ لَك إِلَى أَنْ تَزَكَّى . وَأَهْدِيك إِلَى رَبّك فَتَخْشَى " [ النَّازِعَات : 18 - 19 ] . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْقَوْل اللَّيِّن قَوْل مُوسَى : يَا فِرْعَوْن إِنَّا رَسُولَا رَبّك رَبّ الْعَالَمِينَ . فَسَمَّاهُ بِهَذَا الِاسْم لِأَنَّهُ أَحَبّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ مِمَّا قِيلَ لَهُ , كَمَا يُسَمَّى عِنْدنَا الْمَلِك وَنَحْوه . قُلْت : الْقَوْل اللَّيِّن هُوَ الْقَوْل الَّذِي لَا خُشُونَة فِيهِ ; يُقَال : لَانَ الشَّيْء يَلِين لَيْنًا ; وَشَيْء لَيِّن وَلَيْن مُخَفَّف مِنْهُ ; وَالْجَمْع أَلْيِنَاء . فَإِذَا كَانَ مُوسَى أُمِرَ بِأَنْ يَقُول لِفِرْعَوْن قَوْلًا لَيِّنًا , فَمَنْ دُونه أَحْرَى بِأَنْ يَقْتَدِي بِذَلِكَ فِي خِطَابه , وَأَمْره بِالْمَعْرُوفِ فِي كَلَامه . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى " وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا " [ الْبَقَرَة : 83 ] . عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " بَيَانه وَالْحَمْد لِلَّهِ .
مَعْنَاهُ : عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعكُمَا ; فَالتَّوَقُّع فِيهَا إِنَّمَا هُوَ رَاجِع إِلَى جِهَة الْبَشَر ; قَالَهُ كُبَرَاء النَّحْوِيِّينَ : سِيبَوَيْهِ وَغَيْره . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل " الْبَقَرَة "
قَالَ الزَّجَّاج : " لَعَلَّ " لَفْظَة طَمَع وَتَرَجٍّ فَخَاطَبَهُمْ بِمَا يَعْقِلُونَ . وَقِيلَ " لَعَلَّ " هَاهُنَا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَام , وَالْمَعْنَى فَانْظُرْ هَلْ يَتَذَكَّر . وَقِيلَ : هَلْ بِمَعْنَى كَيْ . وَقِيلَ : هُوَ إِخْبَار مِنْ اللَّه تَعَالَى عَنْ قَوْل هَارُون لِمُوسَى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى ; قَالَهُ الْحَسَن . وَقِيلَ : إِنَّ لَعَلَّ وَعَسَى فِي جَمِيع الْقُرْآن لِمَا قَدْ وَقَعَ . وَقَدْ تَذَّكَّر فِرْعَوْن حِين أَدْرَكَهُ الْغَرَق وَخَشِيَ فَقَالَ : " آمَنْت أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنْت بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ " [ يُونُس : 90 ] وَلَكِنْ لَمْ يَنْفَعهُ ذَلِكَ ; قَالَهُ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق وَغَيْره وَقَالَ يَحْيَى بْن مُعَاذ فِي هَذِهِ الْآيَة : هَذَا رِفْقك بِمَنْ يَقُول أَنَا الْإِلَه فَكَيْف رِفْقك بِمَنْ يَقُول أَنْتَ الْإِلَه ؟ ! . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ فِرْعَوْن رَكَنَ إِلَى قَوْل مُوسَى لَمَّا دَعَاهُ , وَشَاوَرَ اِمْرَأَته فَآمَنَتْ وَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ , فَشَاوَرَ هَامَان فَقَالَ : لَا تَفْعَل ; بَعْد أَنْ كُنْت مَالِكًا تَصِير مَمْلُوكًا , وَبَعْد أَنْ كُنْت رَبًّا تَصِير مَرْبُوبًا . وَقَالَ لَهُ : أَنَا أُرِدْك شَابًّا فَخَضَّبَ لِحْيَته بِالسَّوَادِ فَهُوَ أَوَّل مَنْ خَضَّبَ .
قَالَ الضَّحَّاك : " يَفْرُط " يَعْجَل . قَالَ : و " يَطْغَى " يَعْتَدِي . النَّحَّاس : التَّقْدِير نَخَاف أَنْ يَفْرُط عَلَيْنَا مِنْهُ أَمْر , قَالَ الْفَرَّاء : فَرَطَ مِنْهُ أَمْر أَيْ بَدَرَ ; قَالَ : وَأَفْرَطَ أَسْرَفَ . قَالَ : وَفَرَّطَ تَرَكَ وَقِرَاءَة الْجُمْهُور " يَفْرُط " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الرَّاء , وَمَعْنَاهُ يَعْجَل وَيُبَادِر بِعُقُوبَتِنَا . يُقَال : فَرَطَ مِنِّي أَمْر أَيْ بَدَرَ ; وَمِنْهُ الْفَارِط فِي الْمَاء الَّذِي يَتَقَدَّم الْقَوْم إِلَى الْمَاء . أَيْ يُعَذِّبنَا عَذَاب الْفَارِط فِي الذَّنْب وَهُوَ الْمُتَقَدِّم فِيهِ ; قَالَهُ الْمُبَرِّد . وَقَرَأَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ اِبْن مُحَيْصِن " يَفْرَط " بِفَتْحِ الْيَاء وَالرَّاء ; قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَلَعَلَّهَا لُغَة . وَعَنْهُ أَيْضًا بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الرَّاء وَمَعْنَاهَا أَنْ يَحْمِلهُ حَامِل التَّسَرُّع إِلَيْنَا . وَقَرَأَتْ طَائِفَة " يُفْرِط " بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الرَّاء ; وَبِهَا قَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد عِكْرِمَة وَابْن مُحَيْصِن أَيْضًا . وَمَعْنَاهُ يُشْطِط فِي أَذِيَّتنَا ; قَالَ الرَّاجِز : قَدْ أَفْرَطَ الْعِلْج عَلَيْنَا وَعَجَل
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَالَ الْعُلَمَاء : لَمَّا لَحِقَهُمَا مَا يَلْحَق الْبَشَر مِنْ الْخَوْف عَلَى أَنْفُسهمَا عَرَّفَهُمَا اللَّه سُبْحَانه أَنَّ فِرْعَوْن لَا يَصِل إِلَيْهِمَا وَلَا قَوْمه . وَهَذِهِ الْآيَة تَرُدّ عَلَى مَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَا يَخَاف ; وَالْخَوْف مِنْ الْأَعْدَاء سُنَّة اللَّه فِي أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مَعَ مَعْرِفَتهمْ بِهِ وَثِقَتهمْ . وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْبَصْرِيّ رَحِمَهُ اللَّه حِين قَالَ لِلْمُخْبِرِ عَنْ عَامِر بْن عَبْد اللَّه - أَنَّهُ نَزَلَ مَعَ أَصْحَابه فِي طَرِيق الشَّام عَلَى مَاء , فَحَالَ الْأَسَد بَيْنهمْ وَبَيْن الْمَاء , فَجَاءَ عَامِر إِلَى الْمَاء فَأَخَذَ مِنْهُ حَاجَته , فَقِيلَ لَهُ : فَقَدْ خَاطَرْت بِنَفْسِك . فَقَالَ : لَأَنْ تَخْتَلِف الْأَسِنَّة فِي جَوْفِي أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعْلَم اللَّه أَنِّي أَخَاف شَيْئًا سِوَاهُ - قَدْ خَافَ مَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ عَامِر ; مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَالَ لَهُ : " إِنَّ الْمَلَأ يَأْتَمِرُونَ بِك لِيَقْتُلُوك فَاخْرُجْ إِنِّي لَك مِنْ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّب قَالَ رَبّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْم الظَّالِمِينَ " [ الْقَصَص : 20 - 21 ] وَقَالَ : " فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَة خَائِفًا يَتَرَقَّب " [ الْقَصَص : 18 ] وَقَالَ حِين أَلْقَى السَّحَرَة حِبَالهمْ وَعِصِيّهمْ : " فَأَوْجَسَ فِي نَفْسه خِيفَة مُوسَى . قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّك أَنْتَ الْأَعْلَى " [ طَه : 67 - 68 ] . قُلْت : وَمِنْهُ حَفْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَق حَوْل الْمَدِينَة تَحْصِينًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالهمْ , مَعَ كَوْنه مِنْ التَّوَكُّل وَالثِّقَة بِرَبِّهِ بِمَحَلٍّ لَمْ يَبْلُغهُ أَحَدًا ; ثُمَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابه مَا لَا يَجْهَلهُ أَحَد مِنْ تَحَوُّلهمْ عَنْ مَنَازِلهمْ , مَرَّة إِلَى الْحَبَشَة , وَمَرَّة إِلَى الْمَدِينَة ; تَخَوُّفًا عَلَى أَنْفُسهمْ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّة ; وَهَرَبًا بِدِينِهِمْ أَنْ يَفْتِنُوهُمْ عَنْهُ بِتَعْذِيبِهِمْ . وَقَدْ قَالَتْ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس لِعُمَر لَمَّا قَالَ لَهَا سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ , فَنَحْنُ أَحَقّ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ كَذَبْت يَا عُمَر , كَلَّا وَاَللَّه كُنْتُمْ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يُطْعِم جَائِعكُمْ وَيَعِظ جَاهِلكُمْ , وَكُنَّا فِي دَار - أَوْ أَرْض - الْبُعَدَاء الْبَغْضَاء فِي الْحَبَشَة ; وَذَلِكَ فِي اللَّه وَرَسُوله ; وَاَيْم اللَّه لَا أَطْعَم طَعَامًا وَلَا أَشْرَب شَرَابًا حَتَّى أَذْكُر مَا قُلْت لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنُخَاف . الْحَدِيث بِطُولِهِ خَرَّجَهُ مُسْلِم . قَالَ الْعُلَمَاء : فَالْمُخْبِر عَنْ نَفْسه بِخِلَافِ مَا طَبَعَ اللَّه نُفُوس بَنِي آدَم [ عَلَيْهِ ] كَاذِب ; وَقَدْ طَبَعَهُمْ عَلَى الْهَرَب مِمَّا يَضُرّهَا وَيُؤْلِمهَا أَوْ يُتْلِفهَا . قَالُوا : وَلَا ضَارّ أَضَرّ مِنْ سَبُع عَادٍ فِي فَلَاة مِنْ الْأَرْض عَلَى مَنْ لَا آلَة مَعَهُ يَدْفَعهُ بِهَا عَنْ نَفْسه , مِنْ سَيْف أَوْ رُمْح أَوْ نَبْل أَوْ قَوْس وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " إِنَّنِي مَعَكُمَا " يُرِيد بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَة وَالْقُدْرَة عَلَى فِرْعَوْن . وَهَذَا كَمَا تَقُول : الْأَمِير مَعَ فُلَان إِذَا أَرَدْت أَنَّهُ يَحْمِيه . وَقَوْله : " أَسْمَع وَأَرَى " عِبَارَة عَنْ الْإِدْرَاك الَّذِي لَا تَخْفَى مَعَهُ خَافِيَة , تَبَارَكَ اللَّه رَبّ الْعَالَمِينَ .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " إِنَّنِي مَعَكُمَا " يُرِيد بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَة وَالْقُدْرَة عَلَى فِرْعَوْن . وَهَذَا كَمَا تَقُول : الْأَمِير مَعَ فُلَان إِذَا أَرَدْت أَنَّهُ يَحْمِيه . وَقَوْله : " أَسْمَع وَأَرَى " عِبَارَة عَنْ الْإِدْرَاك الَّذِي لَا تَخْفَى مَعَهُ خَافِيَة , تَبَارَكَ اللَّه رَبّ الْعَالَمِينَ .
فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ↓
فِي الْكَلَام حَذْف , وَالْمَعْنَى : فَأَتَيَاهُ فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ .
أَيْ خَلِّ عَنْهُمْ .
أَيْ بِالسُّخْرَةِ وَالتَّعَب فِي الْعَمَل , وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل عِنْد فِرْعَوْن فِي عَذَاب شَدِيد ; يُذَبِّح أَبْنَاءَهُمْ , وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ , وَيُكَلِّفهُمْ مِنْ الْعَمَل فِي الطِّين وَاللَّبِن وَبِنَاء الْمَدَائِن مَا لَا يُطِيقُونَهُ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد الْعَصَا وَالْيَد . وَقِيلَ : إِنَّ فِرْعَوْن قَالَ لَهُ : وَمَا هِيَ ؟ فَأَدْخَلَ يَده فِي جَيْب قَمِيصه , ثُمَّ أَخْرَجَهَا بَيْضَاء لَهَا شُعَاع مِثْل شُعَاع الشَّمْس , غَلَبَ نُورهَا عَلَى نُور الشَّمْس فَعَجِبَ مِنْهَا وَلَمْ يُرِهِ الْعَصَا إِلَّا يَوْم الزِّينَة .
قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى سَلِمَ مِنْ سَخَط اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَعَذَابه . قَالَ : وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ , وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِابْتِدَاءِ لِقَاء وَلَا خِطَاب . الْفَرَّاء : السَّلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى وَلِمَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى سَوَاء .
أَيْ خَلِّ عَنْهُمْ .
أَيْ بِالسُّخْرَةِ وَالتَّعَب فِي الْعَمَل , وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل عِنْد فِرْعَوْن فِي عَذَاب شَدِيد ; يُذَبِّح أَبْنَاءَهُمْ , وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ , وَيُكَلِّفهُمْ مِنْ الْعَمَل فِي الطِّين وَاللَّبِن وَبِنَاء الْمَدَائِن مَا لَا يُطِيقُونَهُ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد الْعَصَا وَالْيَد . وَقِيلَ : إِنَّ فِرْعَوْن قَالَ لَهُ : وَمَا هِيَ ؟ فَأَدْخَلَ يَده فِي جَيْب قَمِيصه , ثُمَّ أَخْرَجَهَا بَيْضَاء لَهَا شُعَاع مِثْل شُعَاع الشَّمْس , غَلَبَ نُورهَا عَلَى نُور الشَّمْس فَعَجِبَ مِنْهَا وَلَمْ يُرِهِ الْعَصَا إِلَّا يَوْم الزِّينَة .
قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى سَلِمَ مِنْ سَخَط اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَعَذَابه . قَالَ : وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ , وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِابْتِدَاءِ لِقَاء وَلَا خِطَاب . الْفَرَّاء : السَّلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى وَلِمَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى سَوَاء .
يَعْنِي الْهَلَاك وَالدَّمَار فِي الدُّنْيَا وَالْخُلُود فِي جَهَنَّم فِي الْآخِرَة .
أَنْبِيَاء اللَّه
أَعْرَضَ عَنْ الْإِيمَان . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ أَرْجَى آيَة لِلْمُوَحِّدِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا وَلَمْ يَتَوَلَّوْا .
أَنْبِيَاء اللَّه
أَعْرَضَ عَنْ الْإِيمَان . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ أَرْجَى آيَة لِلْمُوَحِّدِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا وَلَمْ يَتَوَلَّوْا .
ذَكَرَ فِرْعَوْن مُوسَى دُون هَارُون لِرُءُوسِ الْآي . وَقِيلَ : خَصَّصَهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ صَاحِب الرِّسَالَة وَالْكَلَام وَالْآيَة . وَقِيلَ إِنَّهُمَا جَمِيعًا بَلَّغَا الرِّسَالَة وَإِنْ كَانَ سَاكِتًا ; لِأَنَّهُ فِي وَقْت الْكَلَام إِنَّمَا يَتَكَلَّم وَاحِد , فَإِذَا اِنْقَطَعَ وَازَرَهُ الْآخَر وَأَيَّدَهُ . فَصَارَ لَنَا فِي هَذَا الْبِنَاء فَائِدَة عِلْم ; أَنَّ الِاثْنَيْنِ إِذَا قُلِّدَا أَمْرًا فَقَامَ بِهِ أَحَدهمَا , وَالْآخَر شَخْصه هُنَاكَ مَوْجُود مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي وَقْت دُون وَقْت أَنَّهُمَا أَدَّيَا الْأَمْر الَّذِي قُلِّدَا وَقَامَا بِهِ وَاسْتَوْجَبَا الثَّوَاب ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " اِذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْن " وَقَالَ : " اِذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوك " وَقَالَ : " فَقُولَا لَهُ " فَأَمَرَهُمَا جَمِيعًا بِالذَّهَابِ وَبِالْقَوْلِ , ثُمَّ أَعْلَمَنَا فِي وَقْت الْخِطَاب بِقَوْلِهِ : " فَمَنْ رَبّكُمَا " أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مَعَ مُوسَى .
مُوسَى .
أَيْ أَنَّهُ يُعْرَف بِصِفَاتِهِ , وَلَيْسَ لَهُ اِسْم عَلَم حَتَّى يُقَال فُلَان بَلْ هُوَ خَالِق الْعَالَم , وَاَلَّذِي خَصَّ كُلّ مَخْلُوق بِهَيْئَةٍ وَصُورَة , وَلَوْ كَانَ الْخِطَاب مَعَهُمَا لَقَالَا : قَالَا رَبّنَا وَ " خَلْقه " أَوَّل مَفْعُولَيْ أَعْطَى , أَيْ أَعْطَى خَلِيقَته كُلّ شَيْء يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ , أَوْ ثَانِيهمَا أَيْ أَعْطَى كُلّ شَيْء صُورَته وَشَكْله الَّذِي يُطَابِق الْمَنْفَعَة الْمَنُوطَة بِهِ ; عَلَى قَوْل الضَّحَّاك عَلَى مَا يَأْتِي .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ : أَعْطَى كُلّ شَيْء زَوْجه مِنْ جِنْسه , ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَنْكَحه وَمَطْعَمه وَمَشْرَبه وَمَسْكَنه , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى الْأُلْفَة وَالِاجْتِمَاع وَالْمُنَاكَحَة . وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : أَعْطَى كُلّ شَيْء صَلَاحه , وَهَدَاهُ لِمَا يُصْلِحهُ . وَقَالَ مُجَاهِد : أَعْطَى كُلّ شَيْء صُورَة ; وَلَمْ يَجْعَل خَلْق الْإِنْسَان فِي خَلْق الْبَهَائِم , وَلَا خَلْق الْبَهَائِم فِي خَلْق الْإِنْسَان , وَلَكِنْ خَلَقَ كُلّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا . وَقَالَ الشَّاعِر : وَلَهُ فِي كُلّ شَيْء خِلْقَة وَكَذَاك اللَّه مَا شَاءَ فَعَل يَعْنِي بِالْخِلْقَةِ الصُّورَة ; وَهُوَ قَوْل عَطِيَّة وَمُقَاتِل . وَقَالَ الضَّحَّاك أَعْطَى كُلّ شَيْء خَلْقه مِنْ الْمَنْفَعَة الْمَنُوطَة بِهِ الْمُطَابِقَة لَهُ . يَعْنِي الْيَد لِلْبَطْشِ , وَالرِّجْل لِلْمَشْيِ , وَاللِّسَان لِلنُّطْقِ , وَالْعَيْن لِلنَّظَرِ , وَالْأُذُن لِلسَّمْعِ . وَقِيلَ : أَعْطَى كُلّ شَيْء مَا أَلْهَمَهُ مِنْ عِلْم أَوْ صِنَاعَة . وَقَالَ الْفَرَّاء : خَلَقَ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ وَلِكُلٍّ ذَكَرَ مَا يُوَافِقهُ مِنْ الْإِنَاث ثُمَّ هَدَى الذَّكَر لِلْأُنْثَى . فَالتَّقْدِير عَلَى هَذَا أَعْطَى كُلّ شَيْء مِثْل خَلْقه . قُلْتُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس . الْآيَة بِعُمُومِهَا تَتَنَاوَل جَمِيع الْأَقْوَال . وَرَوَى زَائِدَة عَنْ الْأَعْمَش أَنَّهُ قَرَأَ " الَّذِي أَعْطَى كُلّ شَيْء خَلَقه " بِفَتْحِ اللَّام ; وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن إِسْحَاق . وَرَوَاهَا نُصَيْر عَنْ الْكِسَائِيّ وَغَيْره ; أَيْ أَعْطَى بَنِي آدَم كُلّ شَيْء خَلَقَهُ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ . فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الْمَعْنَى .
أَيْ أَنَّهُ يُعْرَف بِصِفَاتِهِ , وَلَيْسَ لَهُ اِسْم عَلَم حَتَّى يُقَال فُلَان بَلْ هُوَ خَالِق الْعَالَم , وَاَلَّذِي خَصَّ كُلّ مَخْلُوق بِهَيْئَةٍ وَصُورَة , وَلَوْ كَانَ الْخِطَاب مَعَهُمَا لَقَالَا : قَالَا رَبّنَا وَ " خَلْقه " أَوَّل مَفْعُولَيْ أَعْطَى , أَيْ أَعْطَى خَلِيقَته كُلّ شَيْء يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ , أَوْ ثَانِيهمَا أَيْ أَعْطَى كُلّ شَيْء صُورَته وَشَكْله الَّذِي يُطَابِق الْمَنْفَعَة الْمَنُوطَة بِهِ ; عَلَى قَوْل الضَّحَّاك عَلَى مَا يَأْتِي .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ : أَعْطَى كُلّ شَيْء زَوْجه مِنْ جِنْسه , ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَنْكَحه وَمَطْعَمه وَمَشْرَبه وَمَسْكَنه , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى الْأُلْفَة وَالِاجْتِمَاع وَالْمُنَاكَحَة . وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : أَعْطَى كُلّ شَيْء صَلَاحه , وَهَدَاهُ لِمَا يُصْلِحهُ . وَقَالَ مُجَاهِد : أَعْطَى كُلّ شَيْء صُورَة ; وَلَمْ يَجْعَل خَلْق الْإِنْسَان فِي خَلْق الْبَهَائِم , وَلَا خَلْق الْبَهَائِم فِي خَلْق الْإِنْسَان , وَلَكِنْ خَلَقَ كُلّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا . وَقَالَ الشَّاعِر : وَلَهُ فِي كُلّ شَيْء خِلْقَة وَكَذَاك اللَّه مَا شَاءَ فَعَل يَعْنِي بِالْخِلْقَةِ الصُّورَة ; وَهُوَ قَوْل عَطِيَّة وَمُقَاتِل . وَقَالَ الضَّحَّاك أَعْطَى كُلّ شَيْء خَلْقه مِنْ الْمَنْفَعَة الْمَنُوطَة بِهِ الْمُطَابِقَة لَهُ . يَعْنِي الْيَد لِلْبَطْشِ , وَالرِّجْل لِلْمَشْيِ , وَاللِّسَان لِلنُّطْقِ , وَالْعَيْن لِلنَّظَرِ , وَالْأُذُن لِلسَّمْعِ . وَقِيلَ : أَعْطَى كُلّ شَيْء مَا أَلْهَمَهُ مِنْ عِلْم أَوْ صِنَاعَة . وَقَالَ الْفَرَّاء : خَلَقَ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ وَلِكُلٍّ ذَكَرَ مَا يُوَافِقهُ مِنْ الْإِنَاث ثُمَّ هَدَى الذَّكَر لِلْأُنْثَى . فَالتَّقْدِير عَلَى هَذَا أَعْطَى كُلّ شَيْء مِثْل خَلْقه . قُلْتُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس . الْآيَة بِعُمُومِهَا تَتَنَاوَل جَمِيع الْأَقْوَال . وَرَوَى زَائِدَة عَنْ الْأَعْمَش أَنَّهُ قَرَأَ " الَّذِي أَعْطَى كُلّ شَيْء خَلَقه " بِفَتْحِ اللَّام ; وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن إِسْحَاق . وَرَوَاهَا نُصَيْر عَنْ الْكِسَائِيّ وَغَيْره ; أَيْ أَعْطَى بَنِي آدَم كُلّ شَيْء خَلَقَهُ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ . فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الْمَعْنَى .
الْبَال الْحَال ; أَيْ وَمَا حَالهَا وَمَا شَأْنهَا , فَأَعْلَمَهُ أَنَّ عِلْمهَا عِنْد اللَّه تَعَالَى , أَيْ إِنَّ هَذَا مِنْ عِلْم الْغَيْب الَّذِي سَأَلْت عَنْهُ , وَهُوَ مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ لَا يَعْلَمهُ إِلَّا هُوَ , وَمَا أَنَا إِلَّا عَبْد مِثْلك لَا أَعْلَم إِلَّا مَا أَخْبَرَنِي بِهِ عَلَّام الْغُيُوب , وَعِلْم أَحْوَال الْقُرُون مَكْتُوبَة عِنْد اللَّه فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَمَا بَال الْقُرُون الْأُولَى لَمْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ . أَيْ فَمَا بَالهمْ ذَهَبُوا وَقَدْ عَبَدُوا غَيْر رَبّك . وَقِيلَ : إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ أَعْمَال الْقُرُون الْأُولَى فَأَعْلَمَهُ أَنَّهَا مُحْصَاة عِنْد اللَّه تَعَالَى , وَمَحْفُوظَة عِنْده فِي كِتَاب . أَيْ هِيَ مَكْتُوبَة فَسَيُجَازِيهِمْ غَدًا بِهَا وَعَلَيْهَا . وَعَنَى بِالْكِتَابِ اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقِيلَ : هُوَ كِتَاب مَعَ بَعْض الْمَلَائِكَة .
هَذِهِ الْآيَة وَنَائِرهَا مِمَّا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي تَدُلّ عَلَى تَدْوِين الْعُلُوم وَكَتْبهَا لِئَلَّا تُنْسَى . فَإِنَّ الْحِفْظ قَدْ تَعْتَرِيه الْآفَات مِنْ الْغَلَط وَالنِّسْيَان . وَقَدْ لَا يَحْفَظ الْإِنْسَان مَا يَسْمَع فَيُقَيِّدهُ لِئَلَّا يَذْهَب عَنْهُ . وَرُوِّينَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِل عَنْ قَتَادَة أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَنَكْتُبُ مَا نَسْمَع مِنْك ؟ قَالَ : وَمَا يَمْنَعك أَنْ تَكْتُب وَقَدْ أَخْبَرَك اللَّطِيف الْخَبِير أَنَّهُ يَكْتُب ; فَقَالَ : " عِلْمهَا عِنْد رَبِّي فِي كِتَاب لَا يَضِلّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى " . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا قَضَى اللَّه الْخَلْق كَتَبَ فِي كِتَابه عَلَى نَفْسه فَهُوَ مَوْضُوع عِنْده إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِب غَضَبِي ) . وَأَسْنَدَ الْخَطِيب أَبُو بَكْر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : ( كَانَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يَجْلِس إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِع مِنْهُ الْحَدِيث وَيُعْجِبهُ وَلَا يَحْفَظهُ , فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنِّي أَسْمَع مِنْك الْحَدِيث يُعْجِبنِي وَلَا أَحْفَظهُ ; فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اِسْتَعِنْ بِيَمِينِك ) وَأَوْمَأَ إِلَى الْخَطّ وَهَذَا نَصّ . وَعَلَى جَوَاز كَتْب الْعِلْم وَتَدْوِينه جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ; وَقَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَتْبِ الْخُطْبَة الَّتِي خَطَبَ بِهَا فِي الْحَجّ لِأَبِي شَاه - رَجُل مِنْ الْيَمَن - لَمَّا سَأَلَهُ كَتْبهَا . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَرَوَى عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( قَيِّدُوا الْعِلْم بِالْكِتَابَةِ ) . وَقَالَ مُعَاوِيَة بْن قُرَّة : مَنْ لَمْ يَكْتُب الْعِلْم لَمْ يَعُدْ عِلْمه عِلْمًا . وَقَدْ ذَهَبَ قَوْم إِلَى الْمَنْع مِنْ الْكَتْب ; فَرَوَى أَبُو نَصْرَة قَالَ قِيلَ لِأَبِي سَعِيد : أَنَكْتُبُ حَدِيثكُمْ هَذَا ؟ قَالَ : لِمَ تَجْعَلُونَهُ قُرْآنًا ؟ وَلَكِنْ اِحْفَظُوا كَمَا حَفِظْنَا . وَمِمَّنْ كَانَ لَا يَكْتُب الشَّعْبِيّ وَيُونُس بْن عُبَيْد وَخَالِد الْحَذَّاء - قَالَ خَالِد مَا كَتَبْت شَيْئًا قَطُّ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا , فَلَمَّا حَفِظْته مَحَوْته - وَابْن عَوْن وَالزُّهْرِيّ . وَقَدْ كَانَ بَعْضهمْ يَكْتُب فَإِذَا حَفِظَ مَحَاهُ ; مِنْهُمْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَعَاصِم بْن ضَمْرَة . وَقَالَ هِشَام بْن حَسَّان : مَا كَتَبْت حَدِيثًا قَطُّ إِلَّا حَدِيث الْأَعْمَاق فَلَمَّا حَفِظْته مَحَوْته . قُلْت : وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ خَالِد الْحَذَّاء مِثْل هَذَا . وَحَدِيث الْأَعْمَاق خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي آخِر الْكِتَاب : ( لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى يَنْزِل الرُّوم بِالْأَعْمَاقِ - أَوْ - بِدَابِق ) الْحَدِيث ذَكَرَهُ فِي كِتَاب الْفِتَن . وَكَانَ بَعْضهمْ يَحْفَظ ثُمَّ يَكْتُب مَا يَحْفَظ مِنْهُمْ الْأَعْمَش وَعَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس وَهُشَيْم وَغَيْرهمْ . وَهَذَا اِحْتِيَاط عَلَى الْحِفْظ . وَالْكَتْب أَوْلَى عَلَى الْجُمْلَة , وَبِهِ وَرَدَتْ الْآي وَالْأَحَادِيث ; وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر وَعَلِيّ وَجَابِر وَأَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ كُبَرَاء التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ وَعَطَاء وَطَاوُس وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر , وَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ أَهْل الْعِلْم ; قَالَ اللَّه تَعَالَى " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاح مِنْ كُلّ شَيْء " [ الْأَعْرَاف : 145 ] . وَقَالَ تَعَالَى : " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُور مِنْ بَعْد الذِّكْر أَنَّ الْأَرْض يَرِثهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 105 ] . وَقَالَ تَعَالَى : " وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة " [ الْأَعْرَاف : 156 ] الْآيَة . وَقَالَ تَعَالَى : " وَكُلّ شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر . وَكُلّ صَغِير وَكَبِير مُسْتَطَر " [ الْقَمَر : 52 - 53 ] . " قَالَ عِلْمهَا عِنْد رَبِّي فِي كِتَاب " إِلَى غَيْر هَذَا مِنْ الْآي .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعِلْم لَا يُضْبَط إِلَّا بِالْكِتَابِ , ثُمَّ بِالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَارَسَة وَالتَّعَهُّد وَالتَّحَفُّظ وَالْمُذَاكَرَة وَالسُّؤَال وَالْفَحْص عَنْ النَّاقِلِينَ وَالثِّقَة بِمَا نَقَلُوا , وَإِنَّمَا كَرِهَ الْكَتْب مَنْ كَرِهَ مِنْ الصَّدْر الْأَوَّل لِقُرْبِ الْعَهْد , وَتَقَارُب الْإِسْنَاد لِئَلَّا يَعْتَمِدهُ الْكَاتِب فَيُهْمِلهُ , أَوْ يَرْغَب عَنْ حِفْظه وَالْعَمَل بِهِ ; فَأَمَّا وَالْوَقْت مُتَبَاعِد , وَالْإِسْنَاد غَيْر مُتَقَارِب , وَالطُّرُق مُخْتَلِفَة , وَالنَّقَلَة مُتَشَابِهُونَ , وَآفَة النِّسْيَان مُعْتَرِضَة , وَالْوَهْم غَيْر مَأْمُون ; فَإِنَّ تَقْيِيد الْعِلْم بِالْكِتَابِ أَوْلَى وَأَشْفَى , وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبه أَقْوَى ; فَإِنْ اِحْتَجَّ مُحْتَجّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ غَيْر الْقُرْآن فَلْيَمْحُهُ ) خَرَّجَهُ مُسْلِم ; فَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُتَقَدِّمًا ; فَهُوَ مَنْسُوخ بِأَمْرِهِ بِالْكِتَابِ , وَإِبَاحَتهَا لِأَبِي شَاه وَغَيْره . وَأَيْضًا كَانَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُخْلَط بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيد أَيْضًا - حَرَصْنَا أَنْ يَأْذَن لَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابَة فَأَبَى - إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ قَبْل الْهِجْرَة , وَحِين كَانَ لَا يُؤْمَن الِاشْتِغَال بِهِ عَنْ الْقُرْآن .
قَالَ أَبُو بَكْر الْخَطِيب : يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَب الْحَدِيث بِالسَّوَادِ ; ثُمَّ الْحِبْر خَاصَّة دُون الْمِدَاد لِأَنَّ السَّوَاد أَصْبَغ الْأَلْوَان , وَالْحِبْر أَبْقَاهَا عَلَى مَرّ الدُّهُور . وَهُوَ آلَة ذَوِي الْعِلْم , وَعُدَّة أَهْل الْمَعْرِفَة . ذَكَرَ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : رَآنِي الشَّافِعِيّ وَأَنَا فِي مَجْلِسه وَعَلَى قَمِيصِي حِبْر وَأَنَا أُخْفِيه ; فَقَالَ لِمَ تُخْفِيه وَتَسْتُرهُ ؟ إِنَّ الْحِبْر عَلَى الثَّوْب مِنْ الْمُرُوءَة لِأَنَّ صُورَته فِي الْأَبْصَار سَوَاد , وَفِي الْبَصَائِر بَيَاض . وَقَالَ خَالِد بْن زَيْد : الْحِبْر فِي ثَوْب صَاحِب الْحَدِيث مِثْل الْخَلُوق فِي ثَوْب الْعَرُوس . وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو عَبْد اللَّه الْبَلَوِيّ فَقَالَ : مِدَاد الْمَحَابِر طِيب الرِّجَال وَطِيب النِّسَاء مِنْ الزَّعْفَرَان ش فَهَذَا يَلِيق بِأَثْوَابِ ذَا /و وَهَذَا يَلِيق بِثَوْبِ الْحَصَان وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن سُلَيْمَان فِيمَا حُكِيَ ; رَأَى عَلَى بَعْض ثِيَابه أَثَر صُفْرَة ; فَأَخَذَ مِنْ مِدَاد الدَّوَاة وَطَلَاهُ بِهِ , ثُمَّ قَالَ : الْمِدَاد بِنَا أَحْسَن مِنْ الزَّعْفَرَان ; وَأَنْشَدَ : إِنَّمَا الزَّعْفَرَان عِطْر الْعَذَارَى /و وَمِدَاد الدُّوِيّ عِطْر الرِّجَال
اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَال خَمْسَة : الْأَوَّل : إِنَّهُ اِبْتِدَاء كَلَام , تَنْزِيه لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَقَدْ كَانَ الْكَلَام تَمَّ فِي قَوْله : " فِي كِتَاب " . وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاج , وَأَنَّ مَعْنَى " لَا يَضِلّ " لَا يَهْلِك مِنْ قَوْله : " أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْض " [ السَّجْدَة : 10 ] . " وَلَا يَنْسَى " شَيْئًا ; نَزَّهَهُ عَنْ الْهَلَاك وَالنِّسْيَان .
الْقَوْل الثَّانِي " لَا يَضِلّ " لَا يُخْطِئ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس ; أَيْ لَا يُخْطِئ فِي التَّدْبِير , فَمَنْ أَنْظَرَهُ فَلِحِكْمَةٍ أَنْظَرَهُ , وَمَنْ عَاجَلَهُ فَلِحِكْمَةٍ عَاجَلَهُ .
الْقَوْل الثَّالِث " لَا يَضِلّ " لَا يَغِيب . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : أَصْل الضَّلَال الْغَيْبُوبَة ; يُقَال : ضَلَّ النَّاسِي إِذَا غَابَ عَنْهُ حِفْظ الشَّيْء . قَالَ : وَمَعْنَى " لَا يَضِلّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى " أَيْ لَا يَغِيب عَنْهُ شَيْء وَلَا يَغِيب عَنْ شَيْء .
الْقَوْل الرَّابِع : قَالَهُ الزَّجَّاج أَيْضًا وَقَالَ النَّحَّاس أَشْبَههَا بِالْمَعْنَى - أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاج إِلَى كِتَاب ; وَالْمَعْنَى لَا يَضِلّ عَنْهُ عِلْم شَيْء مِنْ الْأَشْيَاء وَلَا مَعْرِفَتهَا , وَلَا يَنْسَى مَا عَلِمَهُ مِنْهَا . قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل رَاجِع إِلَى مَعْنَى قَوْل اِبْن الْأَعْرَابِيّ .
وَقَوْل خَامِس : إِنَّ " لَا يَضِلّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى " فِي مَوْضِع الصِّفَة ل " كِتَاب " أَيْ الْكِتَاب غَيْر ضَالّ عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; أَيْ غَيْر ذَاهِب عَنْهُ .
" وَلَا يَنْسَى " أَيْ غَيْر نَاس لَهُ فَهُمَا نَعْتَانِ ل " كِتَاب " . وَعَلَى هَذَا يَكُون الْكَلَام مُتَّصِلًا , وَلَا يُوقَف عَلَى " كِتَاب " . تَقُول الْعَرَب . ضَلَّنِي الشَّيْء إِذَا لَمْ أَجِدهُ , وَأَضْلَلْته أَنَا إِذَا تَرَكْته فِي مَوْضِع فَلَمْ تَجِدهُ فِيهِ . وَقَرَأَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَعِيسَى بْن عُمَر وَابْن مُحَيْصِن وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ وَابْن كَثِير فِيمَا رَوَى شِبْل عَنْهُ " لَا يُضِلّ " بِضَمِّ الْيَاء عَلَى مَعْنَى لَا يُضَيِّعهُ رَبِّي وَلَا يَنْسَاهُ . قَالَ اِبْن عَرَفَة : الضَّلَالَة عِنْد الْعَرَب سُلُوك سَبِيل غَيْر الْقَصْد ; يُقَال : ضَلَّ عَنْ الطَّرِيق , وَأَضَلَّ الشَّيْء إِذَا أَضَاعَهُ . وَمِنْهُ قَرَأَ مَنْ قَرَأَ " لَا يَضِلّ رَبِّي " أَيْ لَا يُضِيع ; هَذَا مَذْهَب الْعَرَب .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعِلْم لَا يُضْبَط إِلَّا بِالْكِتَابِ , ثُمَّ بِالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَارَسَة وَالتَّعَهُّد وَالتَّحَفُّظ وَالْمُذَاكَرَة وَالسُّؤَال وَالْفَحْص عَنْ النَّاقِلِينَ وَالثِّقَة بِمَا نَقَلُوا , وَإِنَّمَا كَرِهَ الْكَتْب مَنْ كَرِهَ مِنْ الصَّدْر الْأَوَّل لِقُرْبِ الْعَهْد , وَتَقَارُب الْإِسْنَاد لِئَلَّا يَعْتَمِدهُ الْكَاتِب فَيُهْمِلهُ , أَوْ يَرْغَب عَنْ حِفْظه وَالْعَمَل بِهِ ; فَأَمَّا وَالْوَقْت مُتَبَاعِد , وَالْإِسْنَاد غَيْر مُتَقَارِب , وَالطُّرُق مُخْتَلِفَة , وَالنَّقَلَة مُتَشَابِهُونَ , وَآفَة النِّسْيَان مُعْتَرِضَة , وَالْوَهْم غَيْر مَأْمُون ; فَإِنَّ تَقْيِيد الْعِلْم بِالْكِتَابِ أَوْلَى وَأَشْفَى , وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبه أَقْوَى ; فَإِنْ اِحْتَجَّ مُحْتَجّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ غَيْر الْقُرْآن فَلْيَمْحُهُ ) خَرَّجَهُ مُسْلِم ; فَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُتَقَدِّمًا ; فَهُوَ مَنْسُوخ بِأَمْرِهِ بِالْكِتَابِ , وَإِبَاحَتهَا لِأَبِي شَاه وَغَيْره . وَأَيْضًا كَانَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُخْلَط بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيد أَيْضًا - حَرَصْنَا أَنْ يَأْذَن لَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابَة فَأَبَى - إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ قَبْل الْهِجْرَة , وَحِين كَانَ لَا يُؤْمَن الِاشْتِغَال بِهِ عَنْ الْقُرْآن .
قَالَ أَبُو بَكْر الْخَطِيب : يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَب الْحَدِيث بِالسَّوَادِ ; ثُمَّ الْحِبْر خَاصَّة دُون الْمِدَاد لِأَنَّ السَّوَاد أَصْبَغ الْأَلْوَان , وَالْحِبْر أَبْقَاهَا عَلَى مَرّ الدُّهُور . وَهُوَ آلَة ذَوِي الْعِلْم , وَعُدَّة أَهْل الْمَعْرِفَة . ذَكَرَ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : رَآنِي الشَّافِعِيّ وَأَنَا فِي مَجْلِسه وَعَلَى قَمِيصِي حِبْر وَأَنَا أُخْفِيه ; فَقَالَ لِمَ تُخْفِيه وَتَسْتُرهُ ؟ إِنَّ الْحِبْر عَلَى الثَّوْب مِنْ الْمُرُوءَة لِأَنَّ صُورَته فِي الْأَبْصَار سَوَاد , وَفِي الْبَصَائِر بَيَاض . وَقَالَ خَالِد بْن زَيْد : الْحِبْر فِي ثَوْب صَاحِب الْحَدِيث مِثْل الْخَلُوق فِي ثَوْب الْعَرُوس . وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو عَبْد اللَّه الْبَلَوِيّ فَقَالَ : مِدَاد الْمَحَابِر طِيب الرِّجَال وَطِيب النِّسَاء مِنْ الزَّعْفَرَان ش فَهَذَا يَلِيق بِأَثْوَابِ ذَا /و وَهَذَا يَلِيق بِثَوْبِ الْحَصَان وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن سُلَيْمَان فِيمَا حُكِيَ ; رَأَى عَلَى بَعْض ثِيَابه أَثَر صُفْرَة ; فَأَخَذَ مِنْ مِدَاد الدَّوَاة وَطَلَاهُ بِهِ , ثُمَّ قَالَ : الْمِدَاد بِنَا أَحْسَن مِنْ الزَّعْفَرَان ; وَأَنْشَدَ : إِنَّمَا الزَّعْفَرَان عِطْر الْعَذَارَى /و وَمِدَاد الدُّوِيّ عِطْر الرِّجَال
اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَال خَمْسَة : الْأَوَّل : إِنَّهُ اِبْتِدَاء كَلَام , تَنْزِيه لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَقَدْ كَانَ الْكَلَام تَمَّ فِي قَوْله : " فِي كِتَاب " . وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاج , وَأَنَّ مَعْنَى " لَا يَضِلّ " لَا يَهْلِك مِنْ قَوْله : " أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْض " [ السَّجْدَة : 10 ] . " وَلَا يَنْسَى " شَيْئًا ; نَزَّهَهُ عَنْ الْهَلَاك وَالنِّسْيَان .
الْقَوْل الثَّانِي " لَا يَضِلّ " لَا يُخْطِئ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس ; أَيْ لَا يُخْطِئ فِي التَّدْبِير , فَمَنْ أَنْظَرَهُ فَلِحِكْمَةٍ أَنْظَرَهُ , وَمَنْ عَاجَلَهُ فَلِحِكْمَةٍ عَاجَلَهُ .
الْقَوْل الثَّالِث " لَا يَضِلّ " لَا يَغِيب . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : أَصْل الضَّلَال الْغَيْبُوبَة ; يُقَال : ضَلَّ النَّاسِي إِذَا غَابَ عَنْهُ حِفْظ الشَّيْء . قَالَ : وَمَعْنَى " لَا يَضِلّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى " أَيْ لَا يَغِيب عَنْهُ شَيْء وَلَا يَغِيب عَنْ شَيْء .
الْقَوْل الرَّابِع : قَالَهُ الزَّجَّاج أَيْضًا وَقَالَ النَّحَّاس أَشْبَههَا بِالْمَعْنَى - أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاج إِلَى كِتَاب ; وَالْمَعْنَى لَا يَضِلّ عَنْهُ عِلْم شَيْء مِنْ الْأَشْيَاء وَلَا مَعْرِفَتهَا , وَلَا يَنْسَى مَا عَلِمَهُ مِنْهَا . قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل رَاجِع إِلَى مَعْنَى قَوْل اِبْن الْأَعْرَابِيّ .
وَقَوْل خَامِس : إِنَّ " لَا يَضِلّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى " فِي مَوْضِع الصِّفَة ل " كِتَاب " أَيْ الْكِتَاب غَيْر ضَالّ عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; أَيْ غَيْر ذَاهِب عَنْهُ .
" وَلَا يَنْسَى " أَيْ غَيْر نَاس لَهُ فَهُمَا نَعْتَانِ ل " كِتَاب " . وَعَلَى هَذَا يَكُون الْكَلَام مُتَّصِلًا , وَلَا يُوقَف عَلَى " كِتَاب " . تَقُول الْعَرَب . ضَلَّنِي الشَّيْء إِذَا لَمْ أَجِدهُ , وَأَضْلَلْته أَنَا إِذَا تَرَكْته فِي مَوْضِع فَلَمْ تَجِدهُ فِيهِ . وَقَرَأَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَعِيسَى بْن عُمَر وَابْن مُحَيْصِن وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ وَابْن كَثِير فِيمَا رَوَى شِبْل عَنْهُ " لَا يُضِلّ " بِضَمِّ الْيَاء عَلَى مَعْنَى لَا يُضَيِّعهُ رَبِّي وَلَا يَنْسَاهُ . قَالَ اِبْن عَرَفَة : الضَّلَالَة عِنْد الْعَرَب سُلُوك سَبِيل غَيْر الْقَصْد ; يُقَال : ضَلَّ عَنْ الطَّرِيق , وَأَضَلَّ الشَّيْء إِذَا أَضَاعَهُ . وَمِنْهُ قَرَأَ مَنْ قَرَأَ " لَا يَضِلّ رَبِّي " أَيْ لَا يُضِيع ; هَذَا مَذْهَب الْعَرَب .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ↓
" الَّذِي " فِي مَوْضِع نَعْت " لِرَبِّي " أَيْ لَا يَضِلّ رَبِّي الَّذِي جَعَلَ وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر أَيْ هُوَ " الَّذِي " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " مَهْدًا " هُنَا وَفِي " الزُّخْرُف " بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الْهَاء . الْبَاقُونَ " مِهَادًا " وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قِرَاءَة " أَلَمْ نَجْعَل الْأَرْض مِهَادًا " [ النَّبَأ : 6 ] . النَّحَّاس : وَالْجَمْع أَوْلَى لِأَنَّ " مَهْدًا " مَصْدَر وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِع مَصْدَر إِلَّا عَلَى حَذْف ; أَيْ ذَات مَهْد . الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ " مَهْدًا " جَازَ أَنْ يَكُون مَصْدَرًا كَالْفَرْشِ أَيْ مَهَّدَ لَكُمْ الْأَرْض مَهْدًا , وَجَازَ أَنْ يَكُون عَلَى تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف ; أَيْ ذَات مَهْد . وَمَنْ قَرَأَ " مِهَادًا " جَازَ أَنْ يَكُون مُفْرَدًا كَالْفِرَاشِ . وَجَازَ أَنْ يَكُون جَمْع " مَهْد " اُسْتُعْمِلَ اِسْتِعْمَال الْأَسْمَاء فَكُسِرَ . وَمَعْنَى " مِهَادًا " أَيْ فِرَاشًا وَقَرَارًا تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا .
أَيْ طُرُقًا . نَظِيره " وَاَللَّه جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض بِسَاطًا . لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا " [ نُوح : 19 - 20 ] . وَقَالَ تَعَالَى : " الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " [ الزُّخْرُف : 10 ]
وَهَذَا آخِر كَلَام مُوسَى , ثُمَّ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَأَخْرَجْنَا بِهِ " وَقِيلَ : كُلّه مِنْ كَلَام مُوسَى .
أَيْ بِالْحَرْثِ وَالْمُعَالَجَة ; لِأَنَّ الْمَاء الْمُنَزَّل سَبَب خُرُوج النَّبَات .
ضُرُوبًا وَأَشْبَاهًا , أَيْ أَصْنَافًا مِنْ النَّبَات الْمُخْتَلِفَة الْأَزْوَاج وَالْأَلْوَان . وَقَالَ الْأَخْفَش التَّقْدِير أَزْوَاجًا شَتَّى مِنْ نَبَات . قَالَ : وَقَدْ يَكُون النَّبَات شَتَّى ; ف " شَتَّى " يَجُوز أَنْ يَكُون نَعْتًا لِأَزْوَاجٍ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون نَعْتًا لِلنَّبَاتِ . و " شَتَّى " مَأْخُوذ مِنْ شَتَّ الشَّيْء أَيْ تَفَرَّقَ . يُقَال : أَمْر شَتّ أَيْ مُتَفَرِّق . وَشَتَّ الْأَمْر شَتًّا وَشَتَاتًا تَفَرَّقَ ; وَاسْتَشَتَّ مِثْله . وَكَذَلِكَ التَّشَتُّت . وَشَتَّتَهُ تَشْتِيتًا فَرَّقَهُ . وَأَشَتَّ بِي قَوْمِي أَيْ فَرَّقُوا أَمْرِي . وَالشَّتِيت الْمُتَفَرِّق . قَالَ رُؤْبَة يَصِف إِبِلًا جَاءَتْ مَعًا وَاطَّرَقَتْ شَتِيتَا وَهْيَ تُثِير السَّاطِع السِّخْتِيتَا وَثَغْر شَتِيت أَيْ مُفَلَّج . وَقَوْم شَتَّى , وَأَشْيَاء شَتَّى , وَتَقُول : جَاءُوا أَشْتَاتًا ; أَيْ مُتَفَرِّقِينَ ; وَاحِدهمْ شَتّ ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ .
أَيْ طُرُقًا . نَظِيره " وَاَللَّه جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض بِسَاطًا . لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا " [ نُوح : 19 - 20 ] . وَقَالَ تَعَالَى : " الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " [ الزُّخْرُف : 10 ]
وَهَذَا آخِر كَلَام مُوسَى , ثُمَّ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَأَخْرَجْنَا بِهِ " وَقِيلَ : كُلّه مِنْ كَلَام مُوسَى .
أَيْ بِالْحَرْثِ وَالْمُعَالَجَة ; لِأَنَّ الْمَاء الْمُنَزَّل سَبَب خُرُوج النَّبَات .
ضُرُوبًا وَأَشْبَاهًا , أَيْ أَصْنَافًا مِنْ النَّبَات الْمُخْتَلِفَة الْأَزْوَاج وَالْأَلْوَان . وَقَالَ الْأَخْفَش التَّقْدِير أَزْوَاجًا شَتَّى مِنْ نَبَات . قَالَ : وَقَدْ يَكُون النَّبَات شَتَّى ; ف " شَتَّى " يَجُوز أَنْ يَكُون نَعْتًا لِأَزْوَاجٍ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون نَعْتًا لِلنَّبَاتِ . و " شَتَّى " مَأْخُوذ مِنْ شَتَّ الشَّيْء أَيْ تَفَرَّقَ . يُقَال : أَمْر شَتّ أَيْ مُتَفَرِّق . وَشَتَّ الْأَمْر شَتًّا وَشَتَاتًا تَفَرَّقَ ; وَاسْتَشَتَّ مِثْله . وَكَذَلِكَ التَّشَتُّت . وَشَتَّتَهُ تَشْتِيتًا فَرَّقَهُ . وَأَشَتَّ بِي قَوْمِي أَيْ فَرَّقُوا أَمْرِي . وَالشَّتِيت الْمُتَفَرِّق . قَالَ رُؤْبَة يَصِف إِبِلًا جَاءَتْ مَعًا وَاطَّرَقَتْ شَتِيتَا وَهْيَ تُثِير السَّاطِع السِّخْتِيتَا وَثَغْر شَتِيت أَيْ مُفَلَّج . وَقَوْم شَتَّى , وَأَشْيَاء شَتَّى , وَتَقُول : جَاءُوا أَشْتَاتًا ; أَيْ مُتَفَرِّقِينَ ; وَاحِدهمْ شَتّ ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ .
أَمْر إِبَاحَة . " وَارْعَوْا " مِنْ رَعَتْ الْمَاشِيَة الْكَلَأ , وَرَعَاهَا صَاحِبهَا رِعَايَة ; أَيْ أَسَامَهَا وَسَرَّحَهَا ; لَازِم وَمُتَعَدٍّ .
أَيْ الْعُقُول . الْوَاحِدَة نُهْيَة . قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يُنْتَهَى إِلَى رَأْيهمْ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّفْس عَنْ الْقَبَائِح . وَهَذَا كُلّه مِنْ مُوسَى اِحْتِجَاج عَلَى فِرْعَوْن فِي إِثْبَات الصَّانِع جَوَابًا لِقَوْلِهِ " فَمَنْ رَبّكُمَا يَا مُوسَى " . وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَدِلّ عَلَى الصَّانِع الْيَوْم بِأَفْعَالِهِ .
أَيْ الْعُقُول . الْوَاحِدَة نُهْيَة . قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يُنْتَهَى إِلَى رَأْيهمْ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّفْس عَنْ الْقَبَائِح . وَهَذَا كُلّه مِنْ مُوسَى اِحْتِجَاج عَلَى فِرْعَوْن فِي إِثْبَات الصَّانِع جَوَابًا لِقَوْلِهِ " فَمَنْ رَبّكُمَا يَا مُوسَى " . وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَدِلّ عَلَى الصَّانِع الْيَوْم بِأَفْعَالِهِ .
يَعْنِي آدَم عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ الْأَرْض ; قَالَهُ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج وَغَيْره . وَقِيلَ : كُلّ نُطْفَة مَخْلُوقَة التُّرَاب ; عَلَى هَذَا يَدُلّ ظَاهِر الْقُرْآن . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مَوْلُود إِلَّا وَقَدْ ذُرَّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَاب حُفْرَته ) أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ فِي بَاب اِبْن سِيرِينَ , وَقَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب مِنْ حَدِيث عَوْن لَمْ نَكْتُبهُ إِلَّا مِنْ حَدِيث أَبِي عَاصِم النَّبِيل , وَهُوَ أَحَد الثِّقَات الْأَعْلَام مِنْ أَهْل الْبَصْرَة . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي سُورَة " الْأَنْعَام "
عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ : إِذَا وَقَعَتْ النُّطْفَة فِي الرَّحِم اِنْطَلَقَ الْمَلَك الْمُوَكَّل بِالرَّحِمِ فَأَخَذَ مِنْ تُرَاب الْمَكَان الَّذِي يُدْفَن فِيهِ فَيَذُرّهُ عَلَى النُّطْفَة فَيَخْلُق اللَّه النَّسَمَة مِنْ النُّطْفَة وَمِنْ التُّرَاب ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجكُمْ تَارَة أُخْرَى " .
وَفِي حَدِيث الْبَرَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ الْعَبْد الْمُؤْمِن إِذَا خَرَجَتْ رُوحه صَعِدَتْ بِهِ الْمَلَائِكَة فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأ مِنْ الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا مَا هَذِهِ الرُّوح الطَّيِّبَة فَيَقُولُونَ فُلَان بْن فُلَان بِأَحْسَن أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهَا فَيُفْتَح فَيُشَيِّعهُ مِنْ كُلّ سَمَاء مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " اُكْتُبُوا لِعَبْدِي كِتَابًا فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْض فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتهمْ وَفِيهَا أُعِيدهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجهُمْ تَارَة أُخْرَى " فَتُعَاد رُوحه فِي جَسَده ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِتَمَامِهِ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَمَعْنَى " وَفِيهَا نُعِيدكُمْ " أَيْ بَعْد الْمَوْت " وَمِنْهَا نُخْرِجكُمْ " أَيْ لِلْبَعْثِ وَالْحِسَاب .
يَرْجِع هَذَا إِلَى قَوْله : " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ " لَا إِلَى " نُعِيدكُمْ " . وَهُوَ كَقَوْلِك اِشْتَرَيْت نَاقَة وَدَارًا وَنَاقَة أُخْرَى ; فَالْمَعْنَى : مِنْ الْأَرْض أَخْرَجْنَاكُمْ وَنُخْرِجكُمْ بَعْد الْمَوْت مِنْ الْأَرْض تَارَة أُخْرَى .
عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ : إِذَا وَقَعَتْ النُّطْفَة فِي الرَّحِم اِنْطَلَقَ الْمَلَك الْمُوَكَّل بِالرَّحِمِ فَأَخَذَ مِنْ تُرَاب الْمَكَان الَّذِي يُدْفَن فِيهِ فَيَذُرّهُ عَلَى النُّطْفَة فَيَخْلُق اللَّه النَّسَمَة مِنْ النُّطْفَة وَمِنْ التُّرَاب ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجكُمْ تَارَة أُخْرَى " .
وَفِي حَدِيث الْبَرَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ الْعَبْد الْمُؤْمِن إِذَا خَرَجَتْ رُوحه صَعِدَتْ بِهِ الْمَلَائِكَة فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأ مِنْ الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا مَا هَذِهِ الرُّوح الطَّيِّبَة فَيَقُولُونَ فُلَان بْن فُلَان بِأَحْسَن أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهَا فَيُفْتَح فَيُشَيِّعهُ مِنْ كُلّ سَمَاء مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " اُكْتُبُوا لِعَبْدِي كِتَابًا فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْض فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتهمْ وَفِيهَا أُعِيدهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجهُمْ تَارَة أُخْرَى " فَتُعَاد رُوحه فِي جَسَده ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِتَمَامِهِ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَمَعْنَى " وَفِيهَا نُعِيدكُمْ " أَيْ بَعْد الْمَوْت " وَمِنْهَا نُخْرِجكُمْ " أَيْ لِلْبَعْثِ وَالْحِسَاب .
يَرْجِع هَذَا إِلَى قَوْله : " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ " لَا إِلَى " نُعِيدكُمْ " . وَهُوَ كَقَوْلِك اِشْتَرَيْت نَاقَة وَدَارًا وَنَاقَة أُخْرَى ; فَالْمَعْنَى : مِنْ الْأَرْض أَخْرَجْنَاكُمْ وَنُخْرِجكُمْ بَعْد الْمَوْت مِنْ الْأَرْض تَارَة أُخْرَى .
أَيْ الْمُعْجِزَات الدَّالَّة عَلَى نُبُوَّة مُوسَى وَقِيلَ حُجَج اللَّه الدَّالَّة عَلَى تَوْحِيده
أَيْ لَمْ يُؤْمِن وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَفَرَ عِنَادًا لِأَنَّهُ رَأَى الْآيَات عِيَانًا لَا خَبَرًا نَظِيره " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسهمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا " [ النَّمْل : 14 ]
أَيْ لَمْ يُؤْمِن وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَفَرَ عِنَادًا لِأَنَّهُ رَأَى الْآيَات عِيَانًا لَا خَبَرًا نَظِيره " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسهمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا " [ النَّمْل : 14 ]
لَمَّا رَأَى الْآيَات الَّتِي أَتَاهُ بِهَا مُوسَى قَالَ : إِنَّهَا سِحْر ; وَالْمَعْنَى : جِئْت لِتُوهِم النَّاس أَنَّك جِئْت بِآيَةٍ تُوجِب اِتِّبَاعك وَالْإِيمَان بِك , حَتَّى تَغْلِب عَلَى أَرْضنَا وَعَلَيْنَا .
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى ↓
أَيْ لَنُعَارِضَنَّك بِمِثْلِ مَا جِئْت بِهِ لِيَتَبَيَّن لِلنَّاسِ أَنَّ مَا أَتَيْت بِهِ لَيْسَ مِنْ عِنْد اللَّه .
هُوَ مَصْدَر ; أَيْ وَعْدًا . وَقِيلَ : الْمَوْعِد اِسْم لِمَكَانِ الْوَعْد ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَإِنَّ جَهَنَّم لَمَوْعِدهمْ أَجْمَعِينَ " [ الْحِجْر : 43 ] فَالْمَوْعِد هَاهُنَا مَكَان . وَقِيلَ : الْمَوْعِد اِسْم لِزَمَانِ الْوَعْد ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ مَوْعِدهمْ الصُّبْح " [ هُود : 81 ] فَالْمَعْنَى : اِجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مَعْلُومًا , أَوْ مَكَانًا مَعْرُوفًا . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْأَظْهَر أَنَّهُ مَصْدَر وَلِهَذَا قَالَ : " لَا نُخْلِفهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ " .
أَيْ لَا نُخْلِف ذَلِكَ الْوَعْد , وَالْإِخْلَاف أَنْ يَعِد شَيْئًا وَلَا يُنْجِزهُ . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ وَالْمِيعَاد الْمُوَاعَدَة وَالْوَقْت وَالْمَوْضِع وَكَذَلِكَ الْمَوْعِد . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بْن الْقَعْقَاع وَشَيْبَة وَالْأَعْرَج " لَا نُخْلِفهُ " بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ " اِجْعَلْ " وَمَنْ رَفَعَ فَهُوَ نَعْت ل " مَوْعِد " وَالتَّقْدِير . مَوْعِدًا غَيْر مُخْلَف .
قَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم وَحَمْزَة " سُوًى " بِضَمِّ السِّين . الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا ; وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْل عُدًا وَعِدًا وَطِوًى وَطُوًى . وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم كَسْر السِّين لِأَنَّهَا اللُّغَة الْعَالِيَة الْفَصِيحَة . وَقَالَ النَّحَّاس وَالْكَسْر أَعْرَف وَأَشْهَر . وَكُلّهمْ نَوَّنُوا الْوَاو , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَن , وَاخْتَلَفَ عَنْهُ ضَمّ السِّين بِغَيْرِ تَنْوِين . وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ : سُوًى هَذَا الْمَكَان ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ . وَقِيلَ مَكَانًا مُسْتَوِيًا يَتَبَيَّن لِلنَّاسِ مَا بَيَّنَّا فِيهِ ; قَالَ اِبْن زَيْد : اِبْن عَبَّاس : نَصَفًا . مُجَاهِد : مَنْصَفًا ; وَعَنْهُ أَيْضًا وَقَتَادَة عَدْلًا بَيْننَا وَبَيْنك . قَالَ النَّحَّاس : وَأَهْل التَّفْسِير عَلَى أَنَّ مَعْنَى " سُوًى " نَصَف وَعَدْل وَهُوَ قَوْل حَسَن ; قَالَ سِيبَوَيْهِ يُقَال : سُوًى وَسِوًى أَيْ عَدْل ; يَعْنِي مَكَانًا عَدْل ; بَيْن الْمَكَانَيْنِ فِيهِ النَّصَفَة ; وَأَصْله مِنْ قَوْلك : جَلَسَ فِي سَوَاء الدَّار بِالْمَدِّ أَيْ فِي وَسَطهَا ; وَوَسَط كُلّ شَيْء أَعْدَله ; وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا " [ الْبَقَرَة : 143 ] أَيْ عَدْلًا , وَقَالَ زُهَيْر : أَرُونَا خُطَّة لَا ضَيْم فِيهَا يُسَوِّي بَيْننَا فِيهَا السَّوَاء وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْقُتَبِيّ : وَسَطًا بَيْن الْفَرِيقَيْنِ ; وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة لِمُوسَى بْن جَابِر الْحَنَفِيّ وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ سِوًى بَيْن قَيْس قَيْس عَيْلَان وَالْفِزْر وَالْفِزْر : سَعْد بْن زَيْد مَنَاة بْن تَمِيم . وَقَالَ الْأَخْفَش : " سِوًى " إِذَا كَانَ بِمَعْنَى غَيْر أَوْ بِمَعْنَى الْعَدْل يَكُون فِيهِ ثَلَاث لُغَات : إِنْ ضَمَمْت السِّين أَوْ كَسَرْت قَصَرْت فِيهِمَا جَمِيعًا . وَإِنْ فَتَحْت مَدَدْت , تَقُول : مَكَان سُوًى وَسِوًى وَسَوَاء ; أَيْ عَدْل وَوَسَط فِيمَا بَيْن الْفَرِيقَيْنِ . قَالَ مُوسَى بْن جَابِر : وَجَدْنَا أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ الْبَيْت . وَقِيلَ : " مَكَانًا سُوًى " أَيْ قَصْدًا ; وَأَنْشَدَ صَاحِب هَذَا الْقَوْل : لَوْ تَمَنَّتْ حَبِيبَتِي مَا عَدَتْنِي أَوْ تَمَنَّيْت مَا عَدَوْت سِوَاهَا وَتَقُول : مَرَرْت بِرَجُلٍ سِوَاك وَسُوَاك وَسَوَائِك أَيْ غَيْرك . وَهُمَا فِي هَذَا الْأَمْر سَوَاء وَإِنْ شِئْت سَوَاءَانِ . وَهُمْ سَوَاء لِلْجَمْعِ وَهُمْ أَسَوَاء ; وَهُمْ سَوَاسِيَة مِثْل ثَمَانِيَة عَلَى غَيْر قِيَاس . وَانْتَصَبَ " مَكَانًا " عَلَى الْمَفْعُول الثَّانِي ل " جَعَلَ " . وَلَا يَحْسُن اِنْتِصَابه بِالْمَوْعِدِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول أَوْ ظَرْف لَهُ ; لِأَنَّ الْمَوْعِد قَدْ وُصِفَ , وَالْأَسْمَاء الَّتِي تَعْمَل عَمَل الْأَفْعَال إِذَا وُصِفَتْ أَوْ صُغِّرَتْ لَمْ يَسُغْ أَنْ تَعْمَل لِخُرُوجِهَا عَنْ شَبَه الْفِعْل , وَلَمْ يَحْسُن حَمْله عَلَى أَنَّهُ ظَرْف وَقَعَ مَوْقِع الْمَفْعُول الثَّانِي ; لِأَنَّ الْمَوْعِد إِذَا وَقَعَ بَعْده ظَرْف لَمْ تُجْرِهِ الْعَرَب مَجْرَى الْمَصَادِر مَعَ الظُّرُوف , لَكِنَّهُمْ يَتَّسِعُونَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ مَوْعِدهمْ الصُّبْح " [ هُود : 81 ]
هُوَ مَصْدَر ; أَيْ وَعْدًا . وَقِيلَ : الْمَوْعِد اِسْم لِمَكَانِ الْوَعْد ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَإِنَّ جَهَنَّم لَمَوْعِدهمْ أَجْمَعِينَ " [ الْحِجْر : 43 ] فَالْمَوْعِد هَاهُنَا مَكَان . وَقِيلَ : الْمَوْعِد اِسْم لِزَمَانِ الْوَعْد ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ مَوْعِدهمْ الصُّبْح " [ هُود : 81 ] فَالْمَعْنَى : اِجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مَعْلُومًا , أَوْ مَكَانًا مَعْرُوفًا . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْأَظْهَر أَنَّهُ مَصْدَر وَلِهَذَا قَالَ : " لَا نُخْلِفهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ " .
أَيْ لَا نُخْلِف ذَلِكَ الْوَعْد , وَالْإِخْلَاف أَنْ يَعِد شَيْئًا وَلَا يُنْجِزهُ . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ وَالْمِيعَاد الْمُوَاعَدَة وَالْوَقْت وَالْمَوْضِع وَكَذَلِكَ الْمَوْعِد . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بْن الْقَعْقَاع وَشَيْبَة وَالْأَعْرَج " لَا نُخْلِفهُ " بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ " اِجْعَلْ " وَمَنْ رَفَعَ فَهُوَ نَعْت ل " مَوْعِد " وَالتَّقْدِير . مَوْعِدًا غَيْر مُخْلَف .
قَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم وَحَمْزَة " سُوًى " بِضَمِّ السِّين . الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا ; وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْل عُدًا وَعِدًا وَطِوًى وَطُوًى . وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم كَسْر السِّين لِأَنَّهَا اللُّغَة الْعَالِيَة الْفَصِيحَة . وَقَالَ النَّحَّاس وَالْكَسْر أَعْرَف وَأَشْهَر . وَكُلّهمْ نَوَّنُوا الْوَاو , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَن , وَاخْتَلَفَ عَنْهُ ضَمّ السِّين بِغَيْرِ تَنْوِين . وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ : سُوًى هَذَا الْمَكَان ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ . وَقِيلَ مَكَانًا مُسْتَوِيًا يَتَبَيَّن لِلنَّاسِ مَا بَيَّنَّا فِيهِ ; قَالَ اِبْن زَيْد : اِبْن عَبَّاس : نَصَفًا . مُجَاهِد : مَنْصَفًا ; وَعَنْهُ أَيْضًا وَقَتَادَة عَدْلًا بَيْننَا وَبَيْنك . قَالَ النَّحَّاس : وَأَهْل التَّفْسِير عَلَى أَنَّ مَعْنَى " سُوًى " نَصَف وَعَدْل وَهُوَ قَوْل حَسَن ; قَالَ سِيبَوَيْهِ يُقَال : سُوًى وَسِوًى أَيْ عَدْل ; يَعْنِي مَكَانًا عَدْل ; بَيْن الْمَكَانَيْنِ فِيهِ النَّصَفَة ; وَأَصْله مِنْ قَوْلك : جَلَسَ فِي سَوَاء الدَّار بِالْمَدِّ أَيْ فِي وَسَطهَا ; وَوَسَط كُلّ شَيْء أَعْدَله ; وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا " [ الْبَقَرَة : 143 ] أَيْ عَدْلًا , وَقَالَ زُهَيْر : أَرُونَا خُطَّة لَا ضَيْم فِيهَا يُسَوِّي بَيْننَا فِيهَا السَّوَاء وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْقُتَبِيّ : وَسَطًا بَيْن الْفَرِيقَيْنِ ; وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة لِمُوسَى بْن جَابِر الْحَنَفِيّ وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ سِوًى بَيْن قَيْس قَيْس عَيْلَان وَالْفِزْر وَالْفِزْر : سَعْد بْن زَيْد مَنَاة بْن تَمِيم . وَقَالَ الْأَخْفَش : " سِوًى " إِذَا كَانَ بِمَعْنَى غَيْر أَوْ بِمَعْنَى الْعَدْل يَكُون فِيهِ ثَلَاث لُغَات : إِنْ ضَمَمْت السِّين أَوْ كَسَرْت قَصَرْت فِيهِمَا جَمِيعًا . وَإِنْ فَتَحْت مَدَدْت , تَقُول : مَكَان سُوًى وَسِوًى وَسَوَاء ; أَيْ عَدْل وَوَسَط فِيمَا بَيْن الْفَرِيقَيْنِ . قَالَ مُوسَى بْن جَابِر : وَجَدْنَا أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ الْبَيْت . وَقِيلَ : " مَكَانًا سُوًى " أَيْ قَصْدًا ; وَأَنْشَدَ صَاحِب هَذَا الْقَوْل : لَوْ تَمَنَّتْ حَبِيبَتِي مَا عَدَتْنِي أَوْ تَمَنَّيْت مَا عَدَوْت سِوَاهَا وَتَقُول : مَرَرْت بِرَجُلٍ سِوَاك وَسُوَاك وَسَوَائِك أَيْ غَيْرك . وَهُمَا فِي هَذَا الْأَمْر سَوَاء وَإِنْ شِئْت سَوَاءَانِ . وَهُمْ سَوَاء لِلْجَمْعِ وَهُمْ أَسَوَاء ; وَهُمْ سَوَاسِيَة مِثْل ثَمَانِيَة عَلَى غَيْر قِيَاس . وَانْتَصَبَ " مَكَانًا " عَلَى الْمَفْعُول الثَّانِي ل " جَعَلَ " . وَلَا يَحْسُن اِنْتِصَابه بِالْمَوْعِدِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول أَوْ ظَرْف لَهُ ; لِأَنَّ الْمَوْعِد قَدْ وُصِفَ , وَالْأَسْمَاء الَّتِي تَعْمَل عَمَل الْأَفْعَال إِذَا وُصِفَتْ أَوْ صُغِّرَتْ لَمْ يَسُغْ أَنْ تَعْمَل لِخُرُوجِهَا عَنْ شَبَه الْفِعْل , وَلَمْ يَحْسُن حَمْله عَلَى أَنَّهُ ظَرْف وَقَعَ مَوْقِع الْمَفْعُول الثَّانِي ; لِأَنَّ الْمَوْعِد إِذَا وَقَعَ بَعْده ظَرْف لَمْ تُجْرِهِ الْعَرَب مَجْرَى الْمَصَادِر مَعَ الظُّرُوف , لَكِنَّهُمْ يَتَّسِعُونَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ مَوْعِدهمْ الصُّبْح " [ هُود : 81 ]
وَاخْتُلِفَ فِي يَوْم الزِّينَة , فَقِيلَ هُوَ يَوْم عِيد كَانَ لَهُمْ يَتَزَيَّنُونَ وَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ ; قَالَهُ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَغَيْرهمَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر : كَانَ يَوْم عَاشُورَاء . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : يَوْم سُوق كَانَ لَهُمْ يَتَزَيَّنُونَ فِيهَا ; وَقَالَهُ قَتَادَة أَيْضًا . وَقَالَ الضَّحَّاك : يَوْم السَّبْت . وَقِيلَ : يَوْم النَّيْرُوز ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَقِيلَ : يَوْم يُكْسَر فِيهِ الْخَلِيج ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ فِيهِ يَتَفَرَّجُونَ وَيَتَنَزَّهُونَ ; وَعِنْد ذَلِكَ تَأْمَن الدِّيَار الْمِصْرِيَّة مِنْ قِبَل النِّيل . وَقَرَأَ الْحَسَن وَالْأَعْمَش وَعِيسَى الثَّقَفِيّ وَالسُّلَمِيّ وَهُبَيْرَة عَنْ حَفْص " يَوْمَ الزِّينَة " بِالنَّصْبِ . وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرو ; أَيْ فِي يَوْم الزِّينَة إِنْجَاز مَوْعِدنَا . الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَر الِابْتِدَاء .
أَيْ وَجَمَعَ النَّاس ; ف " أَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " يَوْم " بِالرَّفْعِ . وَعَطَفَ " وَأَنْ يُحْشَر " يُقَوِّي قِرَاءَة الرَّفْع ; لِأَنَّ " أَنْ " لَا تَكُون ظَرْفًا , وَإِنْ كَانَ الْمَصْدَر الصَّرِيح يَكُون ظَرْفًا كَمَقْدِمِ الْحَاجّ ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ آتِيك مَقْدِم الْحَاجّ لَمْ يَقُلْ آتِيك أَنْ يَقْدَم الْحَاجّ . النَّحَّاس : وَأَوْلَى مِنْ هَذَا أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع خَفْض عَطْفًا عَلَى الزِّينَة . وَالضُّحَا مُؤَنَّثَة تُصَغِّرهَا الْعَرَب بِغَيْرِ هَاء لِئَلَّا يُشْبِه تَصْغِيرهَا ضَحْوَة ; قَالَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : ضَحْوَة النَّهَار بَعْد طُلُوع الشَّمْس , ثُمَّ بَعْده الضُّحَى وَهِيَ حِين تُشْرِق الشَّمْس ; مَقْصُورَة تُؤَنَّث وَتُذَكَّر ; فَمَنْ أَنَّثَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا جَمْع ضَحْوَة ; وَمَنْ ذَكَّرَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اِسْم عَلَى فِعْل مِثْل صُرَد وَنُغَر ; وَهُوَ ظَرْف غَيْر مُتَمَكِّن مِثْل سَحَر ; تَقُول : لَقِيته ضُحًا ; وَضُحَا إِذْ أَرَدْت بِهِ ضُحَا يَوْمك لَمْ تُنَوِّنهُ , ثُمَّ بَعْده الضَّحَاء مَمْدُود مُذَكَّر , وَهُوَ عِنْد اِرْتِفَاع النَّهَار الْأَعْلَى . وَخَصَّ الضُّحَى لِأَنَّهُ أَوَّل النَّهَار , فَلَوْ اِمْتَدَّ الْأَمْر فِيمَا بَيْنهمْ كَانَ فِي النَّهَار مُتَّسَع . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَالْجَحْدَرِيّ وَغَيْرهمَا " وَأَنْ يَحْشُر النَّاس ضُحًا " عَلَى مَعْنَى وَأَنْ يَحْشُر اللَّه النَّاس وَنَحْوه . وَعَنْ بَعْض الْقُرَّاء " وَأَنْ تَحْشُر النَّاس " وَالْمَعْنَى وَأَنْ تَحْشُر أَنْتَ يَا فِرْعَوْن النَّاس وَعَنْ الْجَحْدَرِيّ أَيْضًا " وَأَنْ نَحْشُر " بِالنُّونِ وَإِنَّمَا وَاعَدَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْم ; لِيَكُونَ عُلُوّ كَلِمَة اللَّه , وَظُهُور دِينه , وَكَبْت الْكَافِر , وَزَهُوق الْبَاطِل عَلَى رُءُوس الْأَشْهَاد , وَفِي الْمَجْمَع الْغَاصّ لِتَقْوَى رَغْبَة مَنْ رَغِبَ فِي الْحَقّ , وَيُكِلّ حَدّ الْمُبْطِلِينَ وَأَشْيَاعهمْ , وَيُكْثِر الْمُحَدِّث بِذَلِكَ الْأَمْر الْعِلْم فِي كُلّ بَدْو وَحَضَر , وَيُشِيع فِي جَمْع أَهْل الْوَبَر وَالْمَدَر .
أَيْ وَجَمَعَ النَّاس ; ف " أَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " يَوْم " بِالرَّفْعِ . وَعَطَفَ " وَأَنْ يُحْشَر " يُقَوِّي قِرَاءَة الرَّفْع ; لِأَنَّ " أَنْ " لَا تَكُون ظَرْفًا , وَإِنْ كَانَ الْمَصْدَر الصَّرِيح يَكُون ظَرْفًا كَمَقْدِمِ الْحَاجّ ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ آتِيك مَقْدِم الْحَاجّ لَمْ يَقُلْ آتِيك أَنْ يَقْدَم الْحَاجّ . النَّحَّاس : وَأَوْلَى مِنْ هَذَا أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع خَفْض عَطْفًا عَلَى الزِّينَة . وَالضُّحَا مُؤَنَّثَة تُصَغِّرهَا الْعَرَب بِغَيْرِ هَاء لِئَلَّا يُشْبِه تَصْغِيرهَا ضَحْوَة ; قَالَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : ضَحْوَة النَّهَار بَعْد طُلُوع الشَّمْس , ثُمَّ بَعْده الضُّحَى وَهِيَ حِين تُشْرِق الشَّمْس ; مَقْصُورَة تُؤَنَّث وَتُذَكَّر ; فَمَنْ أَنَّثَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا جَمْع ضَحْوَة ; وَمَنْ ذَكَّرَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اِسْم عَلَى فِعْل مِثْل صُرَد وَنُغَر ; وَهُوَ ظَرْف غَيْر مُتَمَكِّن مِثْل سَحَر ; تَقُول : لَقِيته ضُحًا ; وَضُحَا إِذْ أَرَدْت بِهِ ضُحَا يَوْمك لَمْ تُنَوِّنهُ , ثُمَّ بَعْده الضَّحَاء مَمْدُود مُذَكَّر , وَهُوَ عِنْد اِرْتِفَاع النَّهَار الْأَعْلَى . وَخَصَّ الضُّحَى لِأَنَّهُ أَوَّل النَّهَار , فَلَوْ اِمْتَدَّ الْأَمْر فِيمَا بَيْنهمْ كَانَ فِي النَّهَار مُتَّسَع . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَالْجَحْدَرِيّ وَغَيْرهمَا " وَأَنْ يَحْشُر النَّاس ضُحًا " عَلَى مَعْنَى وَأَنْ يَحْشُر اللَّه النَّاس وَنَحْوه . وَعَنْ بَعْض الْقُرَّاء " وَأَنْ تَحْشُر النَّاس " وَالْمَعْنَى وَأَنْ تَحْشُر أَنْتَ يَا فِرْعَوْن النَّاس وَعَنْ الْجَحْدَرِيّ أَيْضًا " وَأَنْ نَحْشُر " بِالنُّونِ وَإِنَّمَا وَاعَدَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْم ; لِيَكُونَ عُلُوّ كَلِمَة اللَّه , وَظُهُور دِينه , وَكَبْت الْكَافِر , وَزَهُوق الْبَاطِل عَلَى رُءُوس الْأَشْهَاد , وَفِي الْمَجْمَع الْغَاصّ لِتَقْوَى رَغْبَة مَنْ رَغِبَ فِي الْحَقّ , وَيُكِلّ حَدّ الْمُبْطِلِينَ وَأَشْيَاعهمْ , وَيُكْثِر الْمُحَدِّث بِذَلِكَ الْأَمْر الْعِلْم فِي كُلّ بَدْو وَحَضَر , وَيُشِيع فِي جَمْع أَهْل الْوَبَر وَالْمَدَر .
أَيْ حِيَله وَسِحْره ; وَالْمُرَاد جَمْع السَّحَرَة . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا اِثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا , مَعَ كُلّ سَاحِر مِنْهُمْ حِبَال وَعِصِيّ . وَقِيلَ : كَانُوا أَرْبَعمِائَةٍ . وَقِيلَ : كَانُوا اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا . وَقِيلَ : أَرْبَعَة عَشَر أَلْفًا . وَقَالَ اِبْن الْمُنْكَدِر : كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا . وَقِيلَ : كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى رَئِيس يُقَال لَهُ شمعون . وَقِيلَ كَانَ اِسْمه يُوحَنَّا مَعَهُ اِثْنَا عَشَر نَقِيبًا , مَعَ كُلّ نَقِيب عِشْرُونَ عَرِيفًا , مَعَ كُلّ عَرِيف أَلْف سَاحِر . وَقِيلَ كَانُوا ثَلَثمِائَةِ أَلْف سَاحِر مِنْ الْفَيُّوم , وَثَلَثمِائَةِ أَلْف سَاحِر مِنْ الصَّعِيد , وَثَلَثمِائَةِ أَلْف سَاحِر مِنْ الرِّيف , فَصَارُوا تِسْعمِائَةِ أَلْف وَكَانَ رَئِيسهمْ أَعْمَى .
أَيْ أَتَى الْمِيعَاد .
أَيْ أَتَى الْمِيعَاد .