الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَسورة الزمر الآية رقم 61
وَقُرِئَ : " وَيُنْجَى " أَيْ مِنْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِي . " بِمَفَازَتِهِمْ " عَلَى التَّوْحِيد قِرَاءَة الْعَامَّة لِأَنَّهَا مَصْدَر . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ : " بِمَفَازَاتِهِمْ " وَهُوَ جَائِز كَمَا تَقُول بِسَعَادَاتِهِمْ . وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة , قَالَ : ( يَحْشُر اللَّه مَعَ كُلّ اِمْرِئٍ عَمَلَهُ فَيَكُون عَمَل الْمُؤْمِن مَعَهُ فِي أَحْسَن صُورَة وَأَطْيَب رِيح فَكُلَّمَا كَانَ رُعْب أَوْ خَوْف قَالَ لَهُ لَا تُرَعْ فَمَا أَنْتَ بِالْمُرَادِ بِهِ وَلَا أَنْتَ بِالْمَعْنِيِّ بِهِ فَإِذَا كَثُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَالَ فَمَا أَحْسَنَك فَمَنْ أَنْتَ فَيَقُول أَمَا تَعْرِفُنِي أَنَا عَمَلُك الصَّالِح حَمَلْتنِي عَلَى ثِقَلِي فَوَاَللَّهِ لَأَحْمِلَنَّكَ وَلَأَدْفَعَنَّ عَنْك فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّه : " وَيُنَجِّي اللَّه الَّذِينَ اِتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسّهُمْ السُّوء وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " .
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌسورة الزمر الآية رقم 62
أَيْ حَافِظ وَقَائِم بِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَسورة الزمر الآية رقم 63
وَاحِدُهَا مِقْلِيد . وَقِيلَ : مِقْلَاد وَأَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل فِيهِ إِقْلِيد . وَالْمَقَالِيد الْمَفَاتِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقَالَ السُّدِّيّ : خَزَائِن السَّمَاوَات وَالْأَرْض . وَقَالَ غَيْره : خَزَائِن السَّمَاوَات الْمَطَر , وَخَزَائِن الْأَرْض النَّبَات . وَفِيهِ لُغَة أُخْرَى أَقَالِيد وَعَلَيْهَا يَكُون وَاحِدهَا إِقْلِيد . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْإِقْلِيد الْمِفْتَاح , وَالْمِقْلَد مِفْتَاح كَالْمِنْجَلِ رُبَّمَا يُقَلَّد بِهِ الْكَلَأ كَمَا يُقَلَّد الْقَتّ إِذَا جُعِلَ حِبَالًا ; أَيْ يُفْتَل وَالْجَمْع الْمَقَالِيد . وَأَقْلَدَ الْبَحْرُ عَلَى خَلْق كَثِير أَيْ غَرَّقَهُمْ كَأَنَّهُ أَغْلَقَ عَلَيْهِمْ . وَخَرَّجَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى : " لَهُ مَقَالِيد السَّمَاوَات وَالْأَرْض " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَد لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر وَسُبْحَان اللَّه وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّه وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيّ الْعَظِيم هُوَ الْأَوَّل وَالْآخِر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن يُحْيِي وَيُمِيت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره , وَزَادَ مَنْ قَالَهَا إِذَا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى عَشْر مَرَّات أَعْطَاهُ اللَّه سِتّ خِصَال : أَوَّلُهَا يُحْرَس مِنْ إِبْلِيس , وَالثَّانِيَة يَحْضُرهُ اِثْنَا عَشَرَ أَلْف مَلَك , وَالثَّالِثَة يُعْطَى قِنْطَارًا مِنْ الْأَجْر , وَالرَّابِعَة تُرْفَع لَهُ دَرَجَة , وَالْخَامِسَة يُزَوِّجُهُ اللَّه مِنْ الْحُور الْعِين , وَالسَّادِسَة يَكُون لَهُ مِنْ الْأَجْر كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآن وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور , وَلَهُ أَيْضًا مِنْ الْأَجْر كَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فَقُبِلَتْ حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ , فَإِنْ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ مَاتَ شَهِيدًا . وَرَوَى الْحَارِث عَنْ عَلِيّ قَالَ : سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِير الْمَقَالِيد فَقَالَ : ( يَا عَلِيّ لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيم الْمَقَالِيد هُوَ أَنْ تَقُول عَشْرًا إِذَا أَصْبَحْت وَعَشْرًا إِذَا أَمْسَيْت لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر وَسُبْحَانَ اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّه وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ الْأَوَّل وَالْآخِر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير مَنْ قَالَهَا عَشْرًا إِذَا أَصْبَحَ , وَعَشْرًا إِذَا أَمْسَى أَعْطَاهُ اللَّه خِصَالًا سِتًّا : أَوَّلهَا يَحْرُسهُ مِنْ الشَّيْطَان وَجُنُوده فَلَا يَكُون لَهُمْ عَلَيْهِ سُلْطَان , وَالثَّانِيَة يُعْطَى قِنْطَارًا فِي الْجَنَّة هُوَ أَثْقَل فِي مِيزَانه مِنْ جَبَل أُحُد , وَالثَّالِثَة تُرْفَع لَهُ دَرَجَة لَا يَنَالهَا إِلَّا الْأَبْرَار , وَالرَّابِعَة يُزَوِّجهُ اللَّه مِنْ الْحُور الْعِين , وَالْخَامِسَة يَشْهَدُهُ اِثْنَا عَشَرَ أَلْف مَلَك يَكْتُبُونَهَا لَهُ فِي رَقّ مَنْشُور وَيَشْهَدُونَ لَهُ بِهَا يَوْم الْقِيَامَة , وَالسَّادِسَة يَكُون لَهُ مِنْ الْأَجْر كَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفُرْقَان , وَكَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فَقَبِلَ اللَّه حَجَّتَهُ وَعُمْرَتَهُ , وَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمه أَوْ لَيْلَته أَوَشَهْره طُبِعَ بِطَابَعِ الشُّهَدَاء . وَقِيلَ : الْمَقَالِيد الطَّاعَة يُقَال أَلْقَى إِلَى فُلَان بِالْمَقَالِيدِ أَيْ أَطَاعَهُ فِيمَا يَأْمُرهُ ; فَمَعْنَى الْآيَة لَهُ طَاعَة مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض .

أَيْ بِالْقُرْآنِ وَالْحُجَج وَالدَّلَالَات .

اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَ " هُمْ " زَائِدَة ; وَيَجُوز أَنْ تَكُون " هُمْ " اِبْتِدَاء ثَانٍ , " الْخَاسِرُونَ " خَبَره , وَالثَّانِي وَخَبَره خَبَر الْأَوَّل كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْخَاسِر : الَّذِي نَقَصَ نَفْسَهُ حَظَّهَا مِنْ الْفَلَاح وَالْفَوْز . وَالْخُسْرَان : النُّقْصَان , كَانَ فِي مِيزَان أَوْ غَيْره ; قَالَ جَرِير : إِنَّ سُلَيْطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهْ أَوْلَادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ يَعْنِي بِالْخَسَارِ مَا يَنْقُص مِنْ حُظُوظهمْ وَشَرَفهمْ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَخَسِرْت الشَّيْء ( بِالْفَتْحِ ) وَأَخْسَرْتُهُ نَقَصْته . وَالْخَسَار وَالْخَسَارَة وَالْخَيْسَرَى : الضَّلَال وَالْهَلَاك . فَقِيلَ لِلْهَالِكِ : خَاسِر ; لِأَنَّهُ خَسِرَ نَفْسه وَأَهْله يَوْم الْقِيَامَة وَمُنِعَ مَنْزِله مِنْ الْجَنَّة .
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَسورة الزمر الآية رقم 64
وَذَلِكَ حِين دَعَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَة الْأَصْنَام وَقَالُوا هُوَ دِين آبَائِك . وَ " غَيْر " نَصْب بِ " أَعْبُد " عَلَى تَقْدِير أَعْبُد غَيْر اللَّه فِيمَا تَأْمُرُونَنِي . وَيَجُوز أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ " تَأْمُرُونِّي " عَلَى حَذْف حَرْف الْجَرّ ; التَّقْدِير : أَتَأْمُرُونَنِي بِغَيْرِ اللَّه أَنْ أَعْبُدَهُ , لِأَنَّ أَنْ مُقَدَّرَة وَأَنْ وَالْفِعْل مَصْدَر , وَهِيَ بَدَل مِنْ غَيْر ; التَّقْدِير : أَتَأْمُرُونَنِي بِعِبَادَةِ غَيْر اللَّه . وَقَرَأَ نَافِع : " تَأْمُرُونِي " بِنُونٍ وَاحِدَة مُخَفَّفَة وَفَتْح الْيَاء . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر : " تَأْمُرُونَنِي " بِنُونَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ عَلَى الْأَصْل . الْبَاقُونَ بِنُون وَاحِدَة مُشَدَّدَة عَلَى الْإِدْغَام , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مُصْحَف عُثْمَان بِنُونٍ وَاحِدَة . وَقَرَأَ نَافِع عَلَى حَذْف النُّون الثَّانِيَة , وَإِنَّمَا كَانَتْ الْمَحْذُوفَة الثَّانِيَة ; لِأَنَّ التَّكْرِير وَالتَّثْقِيل يَقَع بِهَا , وَأَيْضًا حَذْف الْأُولَى لَا يَجُوز ; لِأَنَّهَا دَلَالَة الرَّفْع . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْأَنْعَام ] بَيَانه عِنْد قَوْله تَعَالَى : " أَتُحَاجُّونَنِي " . " أَعْبُد " أَيْ أَنْ أَعْبُد فَلَمَّا حَذَفَ " أَنْ " رَفَعَ ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : أَلَّا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا الْوَجْه قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " أَعْبُدَ " بِالنَّصْبِ .
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَسورة الزمر الآية رقم 65
قِيلَ : إِنَّ فِي الْكَلَام تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ; وَالتَّقْدِير : لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْك لَئِنْ أَشْرَكْت وَأُوحِيَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك كَذَلِكَ . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى بَابه ; قَالَ مُقَاتِل : أَيْ أُوحِيَ إِلَيْك وَإِلَى الْأَنْبِيَاء قَبْلك بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْحِيد مَحْذُوف . ثُمَّ قَالَ : " لَئِنْ أَشْرَكْت " يَا مُحَمَّد : لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك .

وَهُوَ خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة . وَقِيلَ : الْخِطَاب لَهُ وَالْمُرَاد أُمَّتُهُ ; إِذْ قَدْ عَلِمَ اللَّه أَنَّهُ لَا يُشْرِك وَلَا يَقَع مِنْهُ إِشْرَاك . وَالْإِحْبَاط الْإِبْطَال وَالْفَسَاد ; قَالَ الْقُشَيْرِيّ : فَمَنْ اِرْتَدَّ لَمْ تَنْفَعْهُ طَاعَاته السَّابِقَة وَلَكِنَّ إِحْبَاطَ الرِّدَّةِ الْعَمَلَ مَشْرُوط بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْر ; وَلِهَذَا قَالَ : " مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالهمْ " [ الْبَقَرَة : 217 ] فَالْمُطْلَق هَاهُنَا مَحْمُول عَلَى الْمُقَيَّد ; وَلِهَذَا قُلْنَا : مَنْ حَجَّ ثُمَّ اِرْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَام لَا يَجِب عَلَيْهِ إِعَادَة الْحَجّ . قُلْت : هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ . وَعِنْد مَالِك تَجِب عَلَيْهِ الْإِعَادَة وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] بَيَان هَذَا مُسْتَوْفًى .
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَسورة الزمر الآية رقم 66
النَّحَّاس : فِي كِتَابِي عَنْ أَبِي إِسْحَاق لَفْظ اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَنْصُوبٌ بِ " اُعْبُدْ " قَالَ : وَلَا اِخْتِلَاف فِي هَذَا بَيْن الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ . قَالَ النَّحَّاس : وَقَالَ الْفَرَّاء يَكُون مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْل . وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ عَنْ الْكِسَائِيّ . فَأَمَّا الْفَاء فَقَالَ الزَّجَّاج : إِنَّهَا لِلْمُجَازَاةِ . وَقَالَ الْأَخْفَش : هِيَ زَائِدَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " فَاعْبُدْ " أَيْ فَوَحِّدْ . وَقَالَ غَيْره : " بَلْ اللَّه " فَأَطِعْ

لِنِعَمِهِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَسورة الزمر الآية رقم 67
قَالَ الْمُبَرِّد : مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ مِنْ قَوْلِك فُلَان عَظِيم الْقَدْر . قَالَ النَّحَّاس : وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَمَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَته إِذَا عَبَدُوا مَعَهُ غَيْره , وَهُوَ خَالِق الْأَشْيَاء وَمَالِكهَا . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : جَاءَ يَهُودِيّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : يَا مُحَمَّد إِنَّ اللَّه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَع وَالْخَلَائِق عَلَى إِصْبَع ثُمَّ يَقُول أَنَا الْمَلِكُ . فَضَحِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ : " وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره " . قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .

أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَته وَعَظَمَته . وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَقْبِض اللَّه الْأَرْض يَوْم الْقِيَامَة وَيَطْوِي السَّمَاء بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُول أَنَا الْمَلِك أَيْنَ مُلُوك الْأَرْض ) . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله : " وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ " قَالَتْ : قُلْت فَأَيْنَ النَّاس يَوْمَئِذٍ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( عَلَى جِسْر جَهَنَّم ) فِي رِوَايَة ( عَلَى الصِّرَاط يَا عَائِشَة ) قَالَ : حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَقَوْله : " وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ " ( وَيَقْبِض اللَّه الْأَرْض ) عِبَارَة عَنْ قُدْرَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِجَمِيعِ مَخْلُوقَاته ; يُقَال : مَا فُلَان إِلَّا فِي قَبْضَتِي , بِمَعْنَى مَا فُلَان إِلَّا فِي قُدْرَتِي , وَالنَّاس يَقُولُونَ الْأَشْيَاء فِي قَبْضَتِهِ يُرِيدُونَ فِي مِلْكِهِ وَقُدْرَته . وَقَدْ يَكُون مَعْنَى الْقَبْض وَالطَّيّ إِفْنَاء الشَّيْء وَإِذْهَابه فَقَوْله جَلَّ وَعَزَّ : " وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَته " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهِ وَالْأَرْض جَمِيعًا ذَاهِبَة فَانِيَة يَوْم الْقِيَامَة , وَالْمُرَاد بِالْأَرْضِ الْأَرَضُونَ السَّبْع ; يَشْهَد لِذَلِكَ شَاهِدَانِ : قَوْله : " وَالْأَرْض جَمِيعًا " وَلِأَنَّ الْمَوْضِع مَوْضِع تَفْخِيم وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلْمُبَالَغَةِ . وَقَوْله : " وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ " لَيْسَ يُرِيد بِهِ طَيًّا بِعِلَاجٍ وَانْتِصَاب , وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِذَلِكَ الْفَنَاء وَالذَّهَاب ; يُقَال : قَدْ اِنْطَوَى عَنَّا مَا كُنَّا فِيهِ وَجَاءَنَا غَيْره . وَانْطَوَى عَنَّا دَهْر بِمَعْنَى الْمُضِيّ وَالذَّهَاب . وَالْيَمِين فِي كَلَام الْعَرَب قَدْ تَكُون بِمَعْنَى الْقُدْرَة وَالْمِلْك ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " [ النِّسَاء : 3 ] يُرِيد بِهِ الْمِلْك ; وَقَالَ : " لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ " [ الْحَاقَّة : 45 ] أَيْ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَة أَيْ لَأَخَذْنَا قُوَّتَهُ وَقُدْرَتَهُ . قَالَ الْفَرَّاء وَالْمُبَرِّد : الْيَمِين الْقُوَّة وَالْقُدْرَة . وَأَنْشَدَا : إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلْقَاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ وَقَالَ آخَر : وَلَمَّا رَأَيْت الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُورُهَا تَنَاوَلْت مِنْهَا حَاجَتِي بِيَمِينِ قَتَلْت شُنَيْفًا ثُمَّ فَارَانَ بَعْدَهُ وَكَانَ عَلَى الْآيَاتِ غَيْرَ أَمِينِ وَإِنَّمَا خُصَّ يَوْم الْقِيَامَة بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَتْ قُدْرَته شَامِلَة لِكُلِّ شَيْء أَيْضًا ; لِأَنَّ الدَّعَاوَى تَنْقَطِع ذَلِكَ الْيَوْم , كَمَا قَالَ : " وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ " [ الِانْفِطَار : 19 ] وَقَالَ : " مَالِك يَوْم الدِّين " [ الْفَاتِحَة : 3 ] حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي [ الْفَاتِحَة ] وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيث : ( ثُمَّ يَقُول أَنَا الْمَلِك أَيْنَ مُلُوك الْأَرْض ) وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَاب فِي التَّذْكِرَة بَيَانًا , وَتَكَلَّمْنَا عَلَى ذِكْر الشِّمَال فِي حَدِيث اِبْن عُمَر قَوْله : ( ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْض بِشِمَالِهِ ) .

نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُون ذَلِكَ بِجَارِحَةٍ .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَسورة الزمر الآية رقم 68
بَيَّنَ مَا يَكُون بَعْد قَبْض الْأَرْض وَطَيّ السَّمَاء وَهُوَ النَّفْخ فِي الصُّور , وَإِنَّمَا هُمَا نَفْخَتَانِ ; يَمُوت الْخَلْق فِي الْأُولَى مِنْهُمَا وَيَحْيَوْنَ فِي الثَّانِيَة , وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي هَذَا فِي [ النَّمْل ] وَ [ الْأَنْعَام ] أَيْضًا . وَاَلَّذِي يَنْفُخ فِي الصُّور هُوَ إِسْرَافِيل عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يَكُون مَعَهُ جِبْرِيل لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ صَاحِبَيْ الصُّور بِأَيْدِيهِمَا - أَوْ فِي أَيْدِيهمَا - قَرْنَانِ يُلَاحِظَانِ النَّظَر مَتَى يُؤْمَرَانِ ) خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي السُّنَن . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : ذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِب الصُّور , وَقَالَ : ( عَنْ يَمِينه جَبْرَائِيل وَعَنْ يَسَاره مِيكَائِيل ) . وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسْتَثْنَى مَنْ هُمْ ؟ فَقِيلَ : هُمْ الشُّهَدَاء مُتَقَلِّدِينَ أَسْيَافَهُمْ حَوْل الْعَرْش . رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِيمَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ , وَمِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عُمَر فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ . وَقِيلَ : جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت عَلَيْهِمْ السَّلَام . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا : " وَنُفِخَ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " فَقَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه مَنْ هُمْ الَّذِينَ اِسْتَثْنَى اللَّه تَعَالَى ؟ قَالَ : ( هُمْ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِمَلَكِ الْمَوْت يَا مَلَكَ الْمَوْت مَنْ بَقِيَ مِنْ خَلْقِي وَهُوَ أَعْلَم فَيَقُول يَا رَبّ بَقِيَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَعَبْدُك الضَّعِيف مَلَك الْمَوْت فَيَقُول اللَّه تَعَالَى خُذْ نَفْس إِسْرَافِيل وَمِيكَائِيل فَيَخِرَّانِ مَيِّتَيْنِ كَالطَّوْدَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ فَيَقُول مُتّ يَا مَلَك الْمَوْت فَيَمُوت فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِجِبْرِيل يَا جِبْرِيل مَنْ بَقِيَ فَيَقُول تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت ذَا الْجَلَال وَالْإِكْرَام وَجْهُك الْبَاقِي الدَّائِم وَجِبْرِيل الْمَيِّت الْفَانِي فَيَقُول اللَّه تَعَالَى يَا جِبْرِيل لَا بُدّ مِنْ مَوْتك فَيَقَع سَاجِدًا يَخْفِق بِجَنَاحَيْهِ يَقُول سُبْحَانَك رَبِّي تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت يَا ذَا الْجَلَال وَالْإِكْرَام ) قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ فَضْل خَلْقه عَلَى خَلْق مِيكَائِيل كَالطَّوْدِ الْعَظِيم عَلَى الظَّرِب مِنْ الظِّرَاب ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَذَكَرَهُ النَّحَّاس أَيْضًا مِنْ حَدِيث مُحَمَّد بْن إِسْحَاق , عَنْ يَزِيد الرَّقَاشِيّ , عَنْ أَنَس بْن مَالِك , عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله جَلَّ وَعَزَّ : " فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " قَالَ : ( جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَحَمَلَة الْعَرْش وَمَلَك الْمَوْت وَإِسْرَافِيل ) وَفِي هَذَا الْحَدِيث : ( إِنَّ آخِرهمْ مَوْتًا جِبْرِيل عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ السَّلَام ) وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي الشُّهَدَاء أَصَحّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ النَّمْل ] . وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ رِضْوَان وَالْحُور وَمَالِك وَالزَّبَانِيَة . وَقِيلَ : عَقَارِب أَهْل النَّار وَحَيَّاتهَا . وَقَالَ الْحَسَن : هُوَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار وَمَا يَدَع أَحَدًا مِنْ أَهْل السَّمَاء وَالْأَرْض إِلَّا أَذَاقَهُ الْمَوْت . وَقَالَ قَتَادَة : اللَّه أَعْلَم بِثُنْيَاهُ . وَقِيلَ : الِاسْتِئْنَاء فِي قَوْله : " إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " يَرْجِع إِلَى مَنْ مَاتَ قَبْل النَّفْخَة الْأُولَى ; أَيْ فَيَمُوت مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَنْ سَبَقَ مَوْته لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ مَاتُوا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَابْن مَاجَهْ وَاللَّفْظ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَجُل مِنْ الْيَهُود بِسُوقَيْ الْمَدِينَة , وَاَلَّذِي اِصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَر فَرَفَعَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يَده فَلَطَمَهُ ; قَالَ : تَقُول هَذَا وَفِينَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَنُفِخَ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَام يَنْظُرُونَ " فَأَكُون أَوَّل مَنْ رَفَعَ رَأْسه فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِم الْعَرْش فَلَا أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسه قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اِسْتَثْنَى اللَّه وَمَنْ قَالَ أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس بْن مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ ) وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا , وَقَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَمَنْ حَمَلَ الِاسْتِثْنَاء عَلَى مُوسَى وَالشُّهَدَاء فَهَؤُلَاءِ قَدْ مَاتُوا غَيْر أَنَّهُمْ أَحْيَاء عِنْد اللَّه . فَيَجُوز أَنْ تَكُون الصَّعْقَة بِزَوَالِ الْعَقْل زَوَال الْحَيَاةِ , وَيَجُوز أَنْ تَكُون بِالْمَوْتِ , وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون الْمَوْت وَالْحَيَاة فَكُلّ ذَلِكَ مِمَّا يُجَوِّزُهُ الْعَقْل , وَالْأَمْر فِي وُقُوعه مَوْقُوف عَلَى خَبَر صِدْق . قُلْت : جَاءَ فِي بَعْض طُرُق أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : ( لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاس يُصْعَقُونَ فَأَكُون أَوَّل مَنْ يُفِيق فَإِذَا مُوسَى بَاطِش بِجَانِبِ الْعَرْش فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنْ اِسْتَثْنَى اللَّه ) خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَنَحْوه عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ ; وَالْإِفَاقَة إِنَّمَا تَكُون عَنْ غَشْيَة وَزَوَال عَقْل لَا عَنْ مَوْت بِرَدِّ الْحَيَاة . وَاَللَّه أَعْلَم .

أَيْ فَإِذَا الْأَمْوَات مِنْ أَهْل الْأَرْض وَالسَّمَاء أَحْيَاء بُعِثُوا مِنْ قُبُورهمْ , وَأُعِيدَتْ إِلَيْهِمْ أَبْدَانهمْ وَأَرْوَاحهمْ , فَقَامُوا يَنْظُرُونَ مَاذَا يُؤْمَرُونَ . وَقِيلَ : قِيَام عَلَى أَرْجُلهمْ يَنْظُرُونَ إِلَى الْبَعْث الَّذِي وُعِدُوا بِهِ . وَقِيلَ : هَذَا النَّظَر بِمَعْنَى الِانْتِظَار ; أَيْ يَنْتَظِرُونَ مَا يُفْعَل بِهِمْ . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ قِيَامًا بِالنَّصْبِ ; كَمَا تَقُول : خَرَجْت فَإِذَا زَيْد جَالِسًا .
وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَسورة الزمر الآية رقم 69
إِشْرَاقُهَا إِضَاءَتُهَا ; يُقَال : أَشْرَقَتْ الشَّمْس إِذَا أَضَاءَتْ وَشَرَقَتْ إِذَا طَلَعَتْ . وَمَعْنَى : " بِنُورِ رَبِّهَا " بِعَدْلِ رَبّهَا ; قَالَهُ الْحَسَن وَغَيْره . وَقَالَ الضَّحَّاك : بِحُكْمِ رَبّهَا ; وَالْمَعْنَى وَاحِد ; أَيْ أَنَارَتْ وَأَضَاءَتْ بِعَدْلِ اللَّه وَقَضَائِهِ بِالْحَقِّ بَيْن عِبَاده . وَالظُّلْم ظُلُمَات وَالْعَدْل نُور . وَقِيلَ : إِنَّ اللَّه يَخْلُق نُورًا يَوْم الْقِيَامَة يُلْبِسُهُ وَجْه الْأَرْض فَتُشْرِق الْأَرْض بِهِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : النُّور الْمَذْكُور هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ نُور الشَّمْس وَالْقَمَر , بَلْ هُوَ نُور يَخْلُقهُ اللَّه فَيُضِيء بِهِ الْأَرْض . وَرُوِيَ أَنَّ الْأَرْض يَوْمئِذٍ مِنْ فِضَّة تُشْرِق بِنُورِ اللَّه تَعَالَى حِين يَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاء . وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَشْرَقَتْ بِنُورٍ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى , فَأَضَافَ النُّور إِلَيْهِ عَلَى حَدّ إِضَافَة الْمِلْك إِلَى الْمَالِك . وَقِيلَ : إِنَّهُ الْيَوْم الَّذِي يَقْضِي فِيهِ بَيْن خَلْقه ; لِأَنَّهُ نَهَار لَا لَيْل مَعَهُ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَعُبَيْد بْن عُمَيْر : " وَأَشْرَقَتْ الْأَرْض " عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله وَهِيَ قِرَاءَة عَلَى التَّفْسِير . وَقَدْ ضَلَّ قَوْم هَاهُنَا فَتَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جِنْس النُّور وَالضِّيَاء الْمَحْسُوس , وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَحْسُوسَات , بَلْ هُوَ مُنَوِّر السَّمَاوَات وَالْأَرْض , فَمِنْهُ كُلّ نُور خَلْقًا وَإِنْشَاء . وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَأَشْرَقَتْ الْأَرْض بِنُورِ رَبّهَا " يُبَيِّنُ هَذَا الْحَدِيث الْمَرْفُوع مِنْ طُرُق كَثِيرَة صِحَاح ( تَنْظُرُونَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَته ) وَهُوَ يُرْوَى عَلَى أَرْبَعَة أَوْجُه : لَا تُضَامُونَ وَلَا تُضَارُونَ وَلَا تُضَامُّونَ وَلَا تُضَارُّونَ ; فَمَعْنَى ( لَا تُضَامُونَ ) لَا يَلْحَقُكُمْ ضَيْم كَمَا يَلْحَقُكُمْ فِي الدُّنْيَا فِي النَّظَر إِلَى الْمُلُوك . وَ ( لَا تُضَارُونَ ) لَا يَلْحَقكُمْ ضَيْر . وَ ( لَا تُضَامُّونَ ) لَا يَنْضَمُّ بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض لِيَسْأَلهُ أَنْ يُرِيَهُ . وَ ( لَا تُضَارُّونَ ) لَا يُخَالِف بَعْضكُمْ بَعْضًا . يُقَال : ضَارَّهُ مُضَارَّة وَضِرَارًا أَيْ خَالَفَهُ .

قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقَالَ قَتَادَة : يُرِيد الْكِتَاب وَالصُّحُف الَّتِي فِيهَا أَعْمَال بَنِي آدَم , فَآخِذ بِيَمِينِهِ وَآخِذ بِشِمَالِهِ .

أَيْ جِيءَ بِهِمْ فَسَأَلَهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ .

الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْأُمَم مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس " [ الْبَقَرَة : 143 ] . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ اُسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيل اللَّه , فَيَشْهَدُونَ يَوْم الْقِيَامَة لِمَنْ ذَبَّ عَنْ دِين اللَّه ; قَالَهُ السُّدِّيّ . قَالَ اِبْن زَيْد : هُمْ الْحَفَظَة الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاس بِأَعْمَالِهِمْ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَجَاءَتْ كُلّ نَفْس مَعَهَا سَائِق وَشَهِيد " [ ق : 21 ] فَالسَّائِق يَسُوقهَا إِلَى الْحِسَاب وَالشَّهِيد يَشْهَد عَلَيْهَا , وَهُوَ الْمَلَك الْمُوَكَّل بِالْإِنْسَانِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ ق ] .

أَيْ بِالصِّدْقِ وَالْعَدْل .

قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : لَا يُنْقَص مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَاد عَلَى سَيِّئَاتهمْ .
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَسورة الزمر الآية رقم 70
مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ .

فِي الدُّنْيَا وَلَا حَاجَة بِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى كِتَاب وَلَا إِلَى شَاهِد , وَمَعَ ذَلِكَ فَتَشْهَد الْكُتُب وَالشُّهُود إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ .
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَسورة الزمر الآية رقم 71
هَذَا بَيَان تَوْفِيَة كُلّ نَفْس عَمَلَهَا , فَيُسَاق الْكَافِر إِلَى النَّار وَالْمُؤْمِن إِلَى الْجَنَّة . وَالزُّمَر : الْجَمَاعَات وَاحِدَتهَا زُمْرَة كَظُلْمَةٍ وَغُرْفَةٍ . وَقَالَ الْأَخْفَش وَأَبُو عُبَيْدَة : " زُمَرًا " جَمَاعَات مُتَفَرِّقَة بَعْضهَا إِثْر بَعْض . قَالَ الشَّاعِر : وَتَرَى النَّاسَ إِلَى مَنْزِلِهْ زُمَرًا تَنْتَابُهُ بَعْدَ زُمَرْ وَقَالَ آخَر : حَتَّى اِحْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ وَقِيلَ : دَفْعًا وَزَجْرًا بِصَوْتٍ كَصَوْتِ الْمِزْمَار .

جَوَاب إِذَا , وَهِيَ سَبْعَة أَبْوَاب . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْحِجْر ] .

وَاحِدهمْ خَازِن نَحْو سَدَنَة وَسَادِن ,

يَقُولُونَ لَهُمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا . " أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ "

أَيْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة عَلَى الْأَنْبِيَاء .

أَيْ يُخَوِّفُونَكُمْ لِقَاء يَوْمكُمْ هَذَا

أَيْ قَدْ جَاءَتْنَا , وَهَذَا اِعْتِرَاف مِنْهُمْ بِقِيَامِ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ

وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " [ السَّجْدَة : 13 ] .
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَسورة الزمر الآية رقم 72
أَيْ يُقَال لَهُمْ اُدْخُلُوا جَهَنَّم . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي أَبْوَابهَا . قَالَ وَهْب : تَسْتَقْبِلهُمْ الزَّبَانِيَة بِمَقَامِعَ مِنْ نَار فَيَدْفَعُونَهُمْ بِمَقَامِعِهِمْ , فَإِنَّهُ لَيَقَع فِي الدَّفْعَة الْوَاحِدَة إِلَى النَّار بِعَدَدِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ .

بَيَّنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْكِبْر فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْص النَّاس ) أَيْ اِحْتِقَارهمْ . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] وَغَيْرهَا . وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُحْشَر الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْم الْقِيَامَة كَالذَّرِّ يَلْحَقُهُمْ الصَّغَار حَتَّى يُؤْتَى بِهِمْ إِلَى سِجْن جَهَنَّم ) .
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَسورة الزمر الآية رقم 73
يَعْنِي مِنْ الشُّهَدَاء وَالزُّهَّاد وَالْعُلَمَاء وَالْقُرَّاء وَغَيْرهمْ , مِمَّنْ اِتَّقَى اللَّه تَعَالَى وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ . وَقَالَ فِي حَقّ الْفَرِيقَيْنِ : " وَسِيقَ " بِلَفْظٍ وَاحِد , فَسَوْقُ أَهْل النَّار طَرْدُهُمْ إِلَيْهَا بِالْخِزْيِ وَالْهَوَان , كَمَا يُفْعَل بِالْأُسَارَى وَالْخَارِجِينَ عَلَى السُّلْطَان إِذَا سِيقُوا إِلَى حَبْس أَوْ قَتْل , وَسَوْق أَهْل الْجِنَان سَوْق مَرَاكِبهمْ إِلَى دَار الْكَرَامَة وَالرِّضْوَان ; لِأَنَّهُ لَا يُذْهَب بِهِمْ إِلَّا رَاكِبِينَ كَمَا يُفْعَل بِمَنْ يُشَرَّف وَيُكَرَّم مِنْ الْوَافِدِينَ عَلَى بَعْض الْمُلُوك , فَشَتَّانَ مَا بَيْن السَّوْقَيْنِ .

قِيلَ : الْوَاو هُنَا لِلْعَطْفِ عَطْف عَلَى جُمْلَة وَالْجَوَاب مَحْذُوف . قَالَ الْمُبَرِّد : أَيْ سُعِدُوا وَفُتِحَتْ , وَحَذْف الْجَوَاب بَلِيغ فِي كَلَام الْعَرَب . وَأَنْشَدَ : فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا فَحَذَفَ جَوَاب لَوْ وَالتَّقْدِير لَكَانَ أَرْوَحَ . وَقَالَ الزَّجَّاج : " حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا " دَخَلُوهَا وَهُوَ قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَقِيلَ : الْوَاو زَائِدَة . قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ خَطَأ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ زِيَادَة الْوَاو دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَبْوَاب فُتِحَتْ لَهُمْ قَبْل أَنْ يَأْتُوا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّه تَعَالَى , وَالتَّقْدِير حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَأَبْوَابهَا مُفَتَّحَةٌ , بِدَلِيلِ قَوْله : " جَنَّات عَدْن مُفَتَّحَةً لَهُمْ الْأَبْوَابُ " [ ص : 50 ] وَحَذَفَ الْوَاو فِي قِصَّة أَهْل النَّار ; لِأَنَّهُمْ وُقِفُوا عَلَى النَّار وَفُتِحَتْ بَعْد وُقُوفهمْ إِذْلَالًا وَتَرْوِيعًا لَهُمْ . ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ وَحَكَى مَعْنَاهُ النَّحَّاس قَبْله . قَالَ النَّحَّاس : فَأَمَّا الْحِكْمَة فِي إِثْبَات الْوَاو فِي الثَّانِي وَحَذْفهَا مِنْ الْأَوَّل , فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْض أَهْل الْعِلْم بِقَوْلٍ لَا أَعْلَم أَنَّهُ سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَحَد , وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي أَهْل النَّار : " حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابهَا " دَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُغْلَقَة وَلَمَّا قَالَ فِي أَهْل الْجَنَّة : " حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابهَا " دَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُفَتَّحَة قَبْل أَنْ يَجِيئُوهَا ; وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : إِنَّهَا وَاو الثَّمَانِيَة . وَذَلِكَ مِنْ عَادَة قُرَيْش أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ الْوَاحِد فَيَقُولُونَ خَمْسَة سِتَّة سَبْعَة وَثَمَانِيَّة , فَإِذَا بَلَغُوا السَّبْعَة قَالُوا وَثَمَانِيَّة . قَالَ أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَّة أَيَّام " [ الْحَاقَّة : 7 ] وَقَالَ : " التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ " [ التَّوْبَة : 112 ] ثُمَّ قَالَ فِي الثَّامِن : " وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَر " [ التَّوْبَة : 112 ] وَقَالَ : " وَيَقُولُونَ سَبْعَة وَثَامِنُهُمْ " [ الْكَهْف : 22 ] وَقَالَ " ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا " [ التَّحْرِيم : 5 ] وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي [ بَرَاءَة ] مُسْتَوْفًى وَفِي [ الْكَهْف ] أَيْضًا . قُلْت : وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ إِنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة ثَمَانِيَة ; وَذَكَرُوا حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغ - أَوْ فَيُسْبِغ الْوُضُوء - ثُمَّ قَالَ أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَاب الْجَنَّة الثَّمَانِيَة يَدْخُل مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ) خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث عُمَر هَذَا وَقَالَ فِيهِ : ( فُتِحَ لَهُ مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة ثَمَانِيَة أَبْوَاب يَوْم الْقِيَامَة ) بِزِيَادَةِ مِنْ وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة أَكْثَر مِنْ ثَمَانِيَة . وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة وَانْتَهَى عَدَدهَا إِلَى ثَلَاثَة عَشَر بَابًا , وَذَكَرْنَا هُنَاكَ عِظَمَ أَبْوَابهَا وَسَعَتَهَا حَسَبَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث مِنْ ذَلِكَ , فَمَنْ أَرَادَهُ وَقَفَ عَلَيْهِ هُنَاكَ .

قِيلَ : الْوَاو مُلْغَاة تَقْدِيره حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحْت أَبْوَابهَا " قَالَ لَهُمْ خَزَنَتهَا سَلَام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ " أَيْ فِي الدُّنْيَا . قَالَ مُجَاهِد : بِطَاعَةِ اللَّه . وَقِيلَ : بِالْعَمَلِ الصَّالِح . حَكَاهُ النَّقَّاش وَالْمَعْنَى وَاحِد . وَقَالَ مُقَاتِل : إِذَا قَطَعُوا جِسْر جَهَنَّم حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَة بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار , فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْض مَظَالِم كَانَتْ بَيْنهمْ فِي الدُّنْيَا , حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَطُيِّبُوا قَالَ لَهُمْ رِضْوَان وَأَصْحَابه : " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " بِمَعْنَى التَّحِيَّة " طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ " . قُلْت : خَرَّجَ الْبُخَارِيّ حَدِيث الْقَنْطَرَة هَذَا فِي جَامِعه مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَخْلُص الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّار فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَة بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْض مَظَالِم كَانَتْ بَيْنهمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُول الْجَنَّة فَوَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّة مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا ) وَحَكَى النَّقَّاش : إِنَّ عَلَى بَاب الْجَنَّة شَجَرَةً يَنْبُعُ مِنْ سَاقِهَا عَيْنَانِ يَشْرَب الْمُؤْمِنُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَتُطَهِّرُ أَجْوَافهمْ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَسَقَاهُمْ رَبّهمْ شَرَابًا طَهُورًا " [ الْإِنْسَان : 21 ] ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ مِنْ الْأُخْرَى فَتَطِيب أَبْشَارُهُمْ فَعِنْدهَا يَقُول لَهُمْ خَزَنَتُهَا : " سَلَام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ " وَهَذَا يُرْوَى مَعْنَاهُ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثْنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَسورة الزمر الآية رقم 74
أَيْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّة قَالُوا هَذَا .

أَيْ أَرْض الْجَنَّة قِيلَ : إِنَّهُمْ وَرِثُوا الْأَرْض الَّتِي كَانَتْ تَكُون لِأَهْلِ النَّار لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ; قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَة وَأَبُو صَالِح وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ : إِنَّهَا أَرْض الدُّنْيَا عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير .

قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْلهمْ أَيْ نِعْمَ الثَّوَاب هَذَا . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى ; أَيْ نِعْمَ ثَوَاب الْمُحْسِنِينَ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتهمْ .
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الزمر الآية رقم 75
يَا مُحَمَّد

أَيْ مُحْدِقِينَ وَالْحَافُّونَ أُخِذَ مِنْ حَافَّات الشَّيْء وَنَوَاحِيه . قَالَ الْأَخْفَش : وَاحِدهمْ حَافّ . وَقَالَ الْفَرَّاء : لَا وَاحِد لَهُ إِذْ لَا يَقَع لَهُمْ الِاسْم إِلَّا مُجْتَمِعِينَ .

فِي ذَلِكَ الْيَوْم وَدَخَلَتْ " مِنْ " عَلَى " حَوْل " لِأَنَّهُ ظَرْف وَالْفِعْل يَتَعَدَّى إِلَى الظَّرْف بِحَرْفٍ وَبِغَيْرِ حَرْف . وَقَالَ الْأَخْفَش : " مِنْ " زَائِدَة أَيْ حَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْش . وَهُوَ كَقَوْلِك : مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَد , فَمِنْ تَوْكِيد . الثَّعْلَبِيّ : وَالْعَرَب تُدْخِل الْبَاء أَحْيَانًا فِي التَّسْبِيح وَتَحْذِفهَا أَحْيَانًا , فَيَقُولُونَ : سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّك , وَسَبِّحْ حَمْدًا لِلَّهِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى " [ الْأَعْلَى : 1 ] وَقَالَ : " فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّك الْعَظِيم " [ الْوَاقِعَة : 74 ] .

مُتَلَذِّذِينَ بِذَلِكَ لَا مُتَعَبِّدِينَ بِهِ ; أَيْ يُصَلُّونَ حَوْل الْعَرْش شُكْرًا لِرَبِّهِمْ .

بَيْن أَهْل الْجَنَّة وَالنَّار . وَقِيلَ : قُضِيَ بَيْن النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جِيءَ بِهِمْ مَعَ الشُّهَدَاء وَبَيْن أُمَمهمْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْل .

أَيْ يَقُول الْمُؤْمِنُونَ الْحَمْد لِلَّهِ عَلَى مَا أَثَابَنَا مِنْ نِعَمه وَإِحْسَانه وَنَصَرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا . وَقَالَ قَتَادَة فِي هَذِهِ الْآيَة : اِفْتَتَحَ اللَّه أَوَّل الْخَلْق بِالْحَمْد لِلَّهِ , فَقَالَ : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ " [ الْأَنْعَام : 1 ] وَخَتَمَ بِالْحَمْدِ فَقَالَ : " وَقَضَى بَيْنهمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " فَلَزِمَ الِاقْتِدَاء بِهِ , وَالْأَخْذ فِي اِبْتِدَاء كُلّ أَمْر بِحَمْدِهِ وَخَاتِمَته بِحَمْدِهِ . وَقِيلَ : إِنَّ قَوْل " الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة فَعَلَى هَذَا يَكُون حَمْدُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عَدْله وَقَضَائِهِ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَر آخِرَ سُورَةِ " الزُّمَر " فَتَحَرَّكَ الْمِنْبَرُ مَرَّتَيْنِ
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3