اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْحُرُوف الَّتِي فِي أَوَائِل السُّورَة ; فَقَالَ عَامِر الشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْمُحَدِّثِينَ : هِيَ سِرّ اللَّه فِي الْقُرْآن , وَلِلَّهِ فِي كُلّ كِتَاب مِنْ كُتُبه سِرّ . فَهِيَ مِنْ الْمُتَشَابِه الَّذِي اِنْفَرَدَ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِهِ , وَلَا يَجِب أَنْ يُتَكَلَّم فِيهَا , وَلَكِنْ نُؤْمِن بِهَا وَنَقْرَأ كَمَا جَاءَتْ . وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق وَعَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمْ قَالُوا : الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة مِنْ الْمَكْتُوم الَّذِي لَا يُفَسَّر . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : لَمْ نَجِد الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي أَوَائِل السُّوَر , وَلَا نَدْرِي مَا أَرَادَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِهَا .
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الْحُبَاب حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي طَالِب حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِر الْوَاسِطِيّ عَنْ مَالِك بْن مِغْوَل عَنْ سَعِيد بْن مَسْرُوق عَنْ الرَّبِيع بْن خُثَيْم قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآن فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ , وَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا شَاءَ , فَأَمَّا مَا اِسْتَأْثَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَسْتُمْ بِنَائِلِيهِ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ , وَأَمَّا الَّذِي أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ وَتُخْبَرُونَ بِهِ , وَمَا بِكُلِّ الْقُرْآن تَعْلَمُونَ , وَلَا بِكُلِّ مَا تَعْلَمُونَ تَعْمَلُونَ . قَالَ أَبُو بَكْر : فَهَذَا يُوَضِّح أَنَّ حُرُوفًا مِنْ الْقُرْآن سُتِرَتْ مَعَانِيهَا عَنْ جَمِيع الْعَالَم , اِخْتِبَارًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَامْتِحَانًا ; فَمَنْ آمَنَ بِهَا أُثِيبَ وَسَعِدَ , وَمَنْ كَفَرَ وَشَكَّ أَثِمَ وَبَعُدَ . حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف بْن يَعْقُوب الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ عَنْ سُفْيَان عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عُمَارَة عَنْ حُرَيْث بْن ظُهَيْر عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : مَا آمَنَ مُؤْمِن أَفْضَل مِنْ إِيمَان بِغَيْبٍ , ثُمَّ قَرَأَ : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " [ الْبَقَرَة : 3 ] .
قُلْت : هَذَا الْقَوْل فِي الْمُتَشَابِه وَحُكْمه , وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي ( آل عِمْرَان ) إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ جَمْع مِنْ الْعُلَمَاء كَبِير : بَلْ يَجِب أَنْ نَتَكَلَّم فِيهَا , وَنَلْتَمِس الْفَوَائِد الَّتِي تَحْتهَا , وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَخَرَّج عَلَيْهَا ; وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَلِيّ أَيْضًا أَنَّ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي الْقُرْآن اِسْم اللَّه الْأَعْظَم , إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِف تَأْلِيفه مِنْهَا . وَقَالَ قُطْرُب وَالْفَرَّاء وَغَيْرهمَا : هِيَ إِشَارَة إِلَى حُرُوف الْهِجَاء أَعْلَمَ اللَّه بِهَا الْعَرَب حِينَ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُؤْتَلِف مِنْ حُرُوف هِيَ الَّتِي مِنْهَا بِنَاء كَلَامهمْ ; لِيَكُونَ عَجْزهمْ عَنْهُ أَبْلَغ فِي الْحُجَّة عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَخْرُج عَنْ كَلَامهمْ . قَالَ قُطْرُب : كَانُوا يَنْفِرُونَ عِنْدَ اِسْتِمَاع الْقُرْآن , فَلَمَّا سَمِعُوا : " الم " وَ " المص " اِسْتَنْكَرُوا هَذَا اللَّفْظ , فَلَمَّا أَنْصَتُوا لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُؤْتَلِف لِيُثَبِّتهُ فِي أَسْمَاعهمْ وَآذَانهمْ وَيُقِيم الْحُجَّة عَلَيْهِمْ . وَقَالَ قَوْم : رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاع الْقُرْآن بِمَكَّة وَقَالُوا : " لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فِيهِ " [ فُصِّلَتْ : 26 ] نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعهمْ فَيَسْمَعُونَ الْقُرْآن بَعْدهَا فَتَجِب عَلَيْهِمْ الْحُجَّة . وَقَالَ جَمَاعَة : هِيَ حُرُوف دَالَّة عَلَى أَسْمَاء أُخِذَتْ مِنْهَا وَحُذِفَتْ بَقِيَّتهَا ; كَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْأَلِف مِنْ اللَّه , وَاللَّام مِنْ جِبْرِيل , وَالْمِيم مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْأَلِف مِفْتَاح اِسْمه اللَّه , وَاللَّام مِفْتَاح اِسْمه لَطِيف , وَالْمِيم مِفْتَاح اِسْمه مَجِيد . وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " الم " قَالَ : أَنَا اللَّه أَعْلَم , " الر " أَنَا اللَّه أَرَى , " المص " أَنَا اللَّه أَفْضَل . فَالْأَلِف تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَنَا , وَاللَّام تُؤَدِّي عَنْ اِسْم اللَّه , وَالْمِيم تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَعْلَم . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل الزَّجَّاج وَقَالَ : أذْهَب إِلَى أَنَّ كُلّ حَرْف مِنْهَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى ; وَقَدْ تَكَلَّمَتْ الْعَرَب بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَة نَظْمًا لَهَا وَوَضْعًا بَدَل الْكَلِمَات الَّتِي الْحُرُوف مِنْهَا , كَقَوْلِهِ : فَقُلْت لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَاف أَرَادَ : قَالَتْ وَقَفْت . وَقَالَ زُهَيْر : بِالْخَيْرِ خَيْرَات وَإِنْ شَرًّا فا وَلَا أُرِيد الشَّرّ إِلَّا أَنْ تا أَرَادَ : وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ . وَأَرَادَ : إِلَّا أَنْ تَشَاء . وَقَالَ آخَر : نَادَوْهُمُ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تَا قَالُوا جَمِيعًا كُلّهمْ أَلَا فا أَرَادَ : أَلَا تَرْكَبُونَ , قَالُوا : أَلَا فَارْكَبُوا . وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُسْلِم بِشَطْرِ كَلِمَة ) قَالَ شَقِيق : هُوَ أَنْ يَقُول فِي اُقْتُلْ : اُقْ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( كَفَى بِالسَّيْفِ شا ) مَعْنَاهُ : شَافِيًا .
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : هِيَ أَسْمَاء لِلسُّوَرِ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : هِيَ أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه تَعَالَى بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلهَا , وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَرَدَ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل فَقَالَ : لَا يَصِحّ أَنْ يَكُون قَسَمًا لِأَنَّ الْقَسَم مَعْقُود عَلَى حُرُوف مِثْل : إِنْ وَقَدْ وَلَقَدْ وَمَا ; وَلَمْ يُوجَد هَا هُنَا حَرْف مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون يَمِينًا . وَالْجَوَاب أَنْ يُقَال : مَوْضِع الْقَسَم قَوْله تَعَالَى : " لَا رَيْب فِيهِ " فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا حَلَفَ فَقَالَ : وَاَللَّه هَذَا الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ ; لَكَانَ الْكَلَام سَدِيدًا , وَتَكُون " لَا " جَوَاب الْقَسَم . فَثَبَتَ أَنَّ قَوْل الْكَلْبِيّ وَمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس سَدِيد صَحِيح .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْحِكْمَة فِي الْقَسَم مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَكَانَ الْقَوْم فِي ذَلِكَ الزَّمَان عَلَى صِنْفَيْنِ : مُصَدِّق , وَمُكَذِّب ; فَالْمُصَدِّق يُصَدِّق بِغَيْرِ قَسَم , وَالْمُكَذِّب لَا يُصَدِّق مَعَ الْقَسَم ؟ . قِيلَ لَهُ : الْقُرْآن نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَب ; وَالْعَرَب إِذَا أَرَادَ بَعْضهمْ أَنْ يُؤَكِّد كَلَامه أَقْسَمَ عَلَى كَلَامه ; وَاَللَّه تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّد عَلَيْهِمْ الْحُجَّة فَأَقْسَمَ أَنَّ الْقُرْآن مِنْ عِنْده . وَقَالَ بَعْضهمْ : " الم " أَيْ أَنْزَلْت عَلَيْك هَذَا الْكِتَاب مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقَالَ قَتَادَة فِي قَوْله : " الم " قَالَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْدَعَ جَمِيع مَا فِي تِلْكَ السُّورَة مِنْ الْأَحْكَام وَالْقِصَص فِي الْحُرُوف الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّل السُّورَة , وَلَا يَعْرِف ذَلِكَ إِلَّا نَبِيّ أَوْ وَلِيّ , ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَمِيع السُّورَة لِيَفْقَه النَّاس . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِنْ الْأَقْوَال ; فَاَللَّه أَعْلَم .
وَالْوَقْف عَلَى هَذِهِ الْحُرُوف عَلَى السُّكُون لِنُقْصَانِهَا إِلَّا إِذَا أَخْبَرْت عَنْهَا أَوْ عَطَفْتهَا فَإِنَّك تُعْرِبهَا . وَاخْتُلِفَ : هَلْ لَهَا مَحَلّ مِنْ الْإِعْرَاب ؟ فَقِيلَ : لَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْمَاء مُتَمَكِّنَة , وَلَا أَفْعَالًا مُضَارِعَة ; وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ حُرُوف التَّهَجِّي فَهِيَ مَحْكِيَّة . هَذَا مَذْهَب الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ . وَمَنْ قَالَ : إِنَّهَا أَسْمَاء السُّوَر فَمَوْضِعهَا عِنْده الرَّفْع عَلَى أَنَّهَا عِنْده خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر ; أَيْ هَذِهِ " الم " ; كَمَا تَقُول : هَذِهِ سُورَة الْبَقَرَة . أَوْ تَكُون رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر ذَلِكَ ; كَمَا تَقُول : زَيْد ذَلِكَ الرَّجُل . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان النَّحْوِيّ : " الم " فِي مَوْضِع نَصْب ; كَمَا تَقُول : اِقْرَأْ " الم " أَوْ عَلَيْك " الم " . وَقِيلَ : فِي مَوْضِع خَفْض بِالْقَسَمِ ; لِقَوْلِ اِبْن عَبَّاس : إِنَّهَا أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه بِهَا .
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الْحُبَاب حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي طَالِب حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِر الْوَاسِطِيّ عَنْ مَالِك بْن مِغْوَل عَنْ سَعِيد بْن مَسْرُوق عَنْ الرَّبِيع بْن خُثَيْم قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآن فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ , وَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا شَاءَ , فَأَمَّا مَا اِسْتَأْثَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَسْتُمْ بِنَائِلِيهِ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ , وَأَمَّا الَّذِي أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ وَتُخْبَرُونَ بِهِ , وَمَا بِكُلِّ الْقُرْآن تَعْلَمُونَ , وَلَا بِكُلِّ مَا تَعْلَمُونَ تَعْمَلُونَ . قَالَ أَبُو بَكْر : فَهَذَا يُوَضِّح أَنَّ حُرُوفًا مِنْ الْقُرْآن سُتِرَتْ مَعَانِيهَا عَنْ جَمِيع الْعَالَم , اِخْتِبَارًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَامْتِحَانًا ; فَمَنْ آمَنَ بِهَا أُثِيبَ وَسَعِدَ , وَمَنْ كَفَرَ وَشَكَّ أَثِمَ وَبَعُدَ . حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف بْن يَعْقُوب الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ عَنْ سُفْيَان عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عُمَارَة عَنْ حُرَيْث بْن ظُهَيْر عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : مَا آمَنَ مُؤْمِن أَفْضَل مِنْ إِيمَان بِغَيْبٍ , ثُمَّ قَرَأَ : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " [ الْبَقَرَة : 3 ] .
قُلْت : هَذَا الْقَوْل فِي الْمُتَشَابِه وَحُكْمه , وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي ( آل عِمْرَان ) إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ جَمْع مِنْ الْعُلَمَاء كَبِير : بَلْ يَجِب أَنْ نَتَكَلَّم فِيهَا , وَنَلْتَمِس الْفَوَائِد الَّتِي تَحْتهَا , وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَخَرَّج عَلَيْهَا ; وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَلِيّ أَيْضًا أَنَّ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي الْقُرْآن اِسْم اللَّه الْأَعْظَم , إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِف تَأْلِيفه مِنْهَا . وَقَالَ قُطْرُب وَالْفَرَّاء وَغَيْرهمَا : هِيَ إِشَارَة إِلَى حُرُوف الْهِجَاء أَعْلَمَ اللَّه بِهَا الْعَرَب حِينَ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُؤْتَلِف مِنْ حُرُوف هِيَ الَّتِي مِنْهَا بِنَاء كَلَامهمْ ; لِيَكُونَ عَجْزهمْ عَنْهُ أَبْلَغ فِي الْحُجَّة عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَخْرُج عَنْ كَلَامهمْ . قَالَ قُطْرُب : كَانُوا يَنْفِرُونَ عِنْدَ اِسْتِمَاع الْقُرْآن , فَلَمَّا سَمِعُوا : " الم " وَ " المص " اِسْتَنْكَرُوا هَذَا اللَّفْظ , فَلَمَّا أَنْصَتُوا لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُؤْتَلِف لِيُثَبِّتهُ فِي أَسْمَاعهمْ وَآذَانهمْ وَيُقِيم الْحُجَّة عَلَيْهِمْ . وَقَالَ قَوْم : رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاع الْقُرْآن بِمَكَّة وَقَالُوا : " لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فِيهِ " [ فُصِّلَتْ : 26 ] نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعهمْ فَيَسْمَعُونَ الْقُرْآن بَعْدهَا فَتَجِب عَلَيْهِمْ الْحُجَّة . وَقَالَ جَمَاعَة : هِيَ حُرُوف دَالَّة عَلَى أَسْمَاء أُخِذَتْ مِنْهَا وَحُذِفَتْ بَقِيَّتهَا ; كَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْأَلِف مِنْ اللَّه , وَاللَّام مِنْ جِبْرِيل , وَالْمِيم مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْأَلِف مِفْتَاح اِسْمه اللَّه , وَاللَّام مِفْتَاح اِسْمه لَطِيف , وَالْمِيم مِفْتَاح اِسْمه مَجِيد . وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " الم " قَالَ : أَنَا اللَّه أَعْلَم , " الر " أَنَا اللَّه أَرَى , " المص " أَنَا اللَّه أَفْضَل . فَالْأَلِف تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَنَا , وَاللَّام تُؤَدِّي عَنْ اِسْم اللَّه , وَالْمِيم تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَعْلَم . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل الزَّجَّاج وَقَالَ : أذْهَب إِلَى أَنَّ كُلّ حَرْف مِنْهَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى ; وَقَدْ تَكَلَّمَتْ الْعَرَب بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَة نَظْمًا لَهَا وَوَضْعًا بَدَل الْكَلِمَات الَّتِي الْحُرُوف مِنْهَا , كَقَوْلِهِ : فَقُلْت لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَاف أَرَادَ : قَالَتْ وَقَفْت . وَقَالَ زُهَيْر : بِالْخَيْرِ خَيْرَات وَإِنْ شَرًّا فا وَلَا أُرِيد الشَّرّ إِلَّا أَنْ تا أَرَادَ : وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ . وَأَرَادَ : إِلَّا أَنْ تَشَاء . وَقَالَ آخَر : نَادَوْهُمُ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تَا قَالُوا جَمِيعًا كُلّهمْ أَلَا فا أَرَادَ : أَلَا تَرْكَبُونَ , قَالُوا : أَلَا فَارْكَبُوا . وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُسْلِم بِشَطْرِ كَلِمَة ) قَالَ شَقِيق : هُوَ أَنْ يَقُول فِي اُقْتُلْ : اُقْ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( كَفَى بِالسَّيْفِ شا ) مَعْنَاهُ : شَافِيًا .
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : هِيَ أَسْمَاء لِلسُّوَرِ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : هِيَ أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه تَعَالَى بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلهَا , وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَرَدَ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل فَقَالَ : لَا يَصِحّ أَنْ يَكُون قَسَمًا لِأَنَّ الْقَسَم مَعْقُود عَلَى حُرُوف مِثْل : إِنْ وَقَدْ وَلَقَدْ وَمَا ; وَلَمْ يُوجَد هَا هُنَا حَرْف مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون يَمِينًا . وَالْجَوَاب أَنْ يُقَال : مَوْضِع الْقَسَم قَوْله تَعَالَى : " لَا رَيْب فِيهِ " فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا حَلَفَ فَقَالَ : وَاَللَّه هَذَا الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ ; لَكَانَ الْكَلَام سَدِيدًا , وَتَكُون " لَا " جَوَاب الْقَسَم . فَثَبَتَ أَنَّ قَوْل الْكَلْبِيّ وَمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس سَدِيد صَحِيح .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْحِكْمَة فِي الْقَسَم مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَكَانَ الْقَوْم فِي ذَلِكَ الزَّمَان عَلَى صِنْفَيْنِ : مُصَدِّق , وَمُكَذِّب ; فَالْمُصَدِّق يُصَدِّق بِغَيْرِ قَسَم , وَالْمُكَذِّب لَا يُصَدِّق مَعَ الْقَسَم ؟ . قِيلَ لَهُ : الْقُرْآن نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَب ; وَالْعَرَب إِذَا أَرَادَ بَعْضهمْ أَنْ يُؤَكِّد كَلَامه أَقْسَمَ عَلَى كَلَامه ; وَاَللَّه تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّد عَلَيْهِمْ الْحُجَّة فَأَقْسَمَ أَنَّ الْقُرْآن مِنْ عِنْده . وَقَالَ بَعْضهمْ : " الم " أَيْ أَنْزَلْت عَلَيْك هَذَا الْكِتَاب مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقَالَ قَتَادَة فِي قَوْله : " الم " قَالَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْدَعَ جَمِيع مَا فِي تِلْكَ السُّورَة مِنْ الْأَحْكَام وَالْقِصَص فِي الْحُرُوف الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّل السُّورَة , وَلَا يَعْرِف ذَلِكَ إِلَّا نَبِيّ أَوْ وَلِيّ , ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَمِيع السُّورَة لِيَفْقَه النَّاس . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِنْ الْأَقْوَال ; فَاَللَّه أَعْلَم .
وَالْوَقْف عَلَى هَذِهِ الْحُرُوف عَلَى السُّكُون لِنُقْصَانِهَا إِلَّا إِذَا أَخْبَرْت عَنْهَا أَوْ عَطَفْتهَا فَإِنَّك تُعْرِبهَا . وَاخْتُلِفَ : هَلْ لَهَا مَحَلّ مِنْ الْإِعْرَاب ؟ فَقِيلَ : لَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْمَاء مُتَمَكِّنَة , وَلَا أَفْعَالًا مُضَارِعَة ; وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ حُرُوف التَّهَجِّي فَهِيَ مَحْكِيَّة . هَذَا مَذْهَب الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ . وَمَنْ قَالَ : إِنَّهَا أَسْمَاء السُّوَر فَمَوْضِعهَا عِنْده الرَّفْع عَلَى أَنَّهَا عِنْده خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر ; أَيْ هَذِهِ " الم " ; كَمَا تَقُول : هَذِهِ سُورَة الْبَقَرَة . أَوْ تَكُون رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر ذَلِكَ ; كَمَا تَقُول : زَيْد ذَلِكَ الرَّجُل . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان النَّحْوِيّ : " الم " فِي مَوْضِع نَصْب ; كَمَا تَقُول : اِقْرَأْ " الم " أَوْ عَلَيْك " الم " . وَقِيلَ : فِي مَوْضِع خَفْض بِالْقَسَمِ ; لِقَوْلِ اِبْن عَبَّاس : إِنَّهَا أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه بِهَا .
فِيهِ خَمْس مَسَائِل [ الْأُولَى ] : قَوْله : " اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " هَذِهِ السُّورَة مَدَنِيَّة بِإِجْمَاعٍ . وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّ اِسْمهَا فِي التَّوْرَاة طَيْبَة , وَقَرَأَ الْحَسَن وَعَمْرو بْن عُبَيْد وَعَاصِم بْن أَبِي النَّجُود وَأَبُو جَعْفَر الرُّؤَاسِيّ " الم . اللَّه " بِقَطْعِ أَلِف الْوَصْل , عَلَى تَقْدِير الْوَقْف عَلَى " الم " كَمَا يُقَدِّرُونَ الْوَقْف عَلَى أَسْمَاء الْأَعْدَاد فِي نَحْو وَاحِد , اِثْنَانِ , ثَلَاثَة , أَرْبَعَة , وَهُمْ وَاصِلُونَ . قَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : وَيَجُوز " المِ اللَّه " بِكَسْرِ الْمِيم لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . قَالَ الزَّجَّاج : هَذَا خَطَأ , وَلَا تَقُولهُ الْعَرَب لِثِقَلِهِ . قَالَ النَّحَّاس : الْقِرَاءَة الْأُولَى قِرَاءَة الْعَامَّة , وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ الْقُدَمَاء ; فَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمِيم فُتِحَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَاخْتَارُوا لَهَا الْفَتْح لِئَلَّا يُجْمَع بَيْن كَسْرَة وَيَاء وَكَسْرَة قَبْلهَا . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : حُرُوف التَّهَجِّي إِذَا لَقِيَتْهَا أَلِف وَصْل فَحُذِفَتْ أَلِف الْوَصْل حَرَّكْتهَا بِحَرَكَةِ الْأَلِف فَقُلْت : الم اللَّه , والم اُذْكُرْ , والم اِقْتَرَبَتْ . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْأَصْل " الم اللَّه " كَمَا قَرَأَ الرُّؤَاسِيّ فَأُلْقِيَتْ حَرَكَة الْهَمْزَة عَلَى الْمِيم . وَقَرَأَ عُمَر بْن الْخَطَّاب " الْحَيّ الْقَيَّام " . وَقَالَ خَارِجَة : فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه " الْحَيّ الْقَيِّم " . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ آرَاء فِي الْحُرُوف الَّتِي فِي أَوَائِل السُّوَر فِي أَوَّل " الْبَقَرَة " . وَمِنْ حَيْثُ جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَة : " اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " جُمْلَة قَائِمَة بِنَفْسِهَا فَتَتَصَوَّر تِلْكَ الْأَقْوَال كُلّهَا . [ الثَّانِيَة ] : رَوَى الْكِسَائِيّ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صَلَّى الْعِشَاء فَاسْتَفْتَحَ " آل عِمْرَان " فَقَرَأَ " الم . اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيَّام " فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَة الْأُولَى بِمِائَةِ آيَة , وَفِي الثَّانِيَة بِالْمِائَةِ الْبَاقِيَة . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَلَا يَقْرَأ سُورَة فِي رَكْعَتَيْنِ , فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ . وَقَالَ مَالِك فِي الْمَجْمُوعَة : لَا بَأْس بِهِ , وَمَا هُوَ بِالشَّأْنِ .
قُلْت : الصَّحِيح جَوَاز ذَلِكَ . وَقَدْ قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَعْرَافِ فِي الْمَغْرِب فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ , خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا , وَصَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ , وَسَيَأْتِي . [ الثَّالِثَة ] : هَذِهِ السُّورَة وَرَدَ فِي فَضْلهَا آثَار وَأَخْبَار ; فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ أَنَّهَا أَمَان مِنْ الْحَيَّات , وَكَنْز لِلصُّعْلُوكِ , وَأَنَّهَا تُحَاجّ عَنْ قَارِئِهَا فِي الْآخِرَة , وَيُكْتَب لِمَنْ قَرَأَ آخِرهَا فِي لَيْلَة كَقِيَامِ لَيْلَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ . ذَكَرَ الدِّرَامِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَّام قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه الْأَشْجَعِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي مِسْعَر قَالَ حَدَّثَنِي جَابِر , قَبْل أَنْ يَقَع فِيمَا وَقَعَ فِيهِ , عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ قَالَ عَبْد اللَّه : ( نِعْمَ كَنْز الصُّعْلُوك سُورَة " آل عِمْرَان " يَقُوم بِهَا فِي آخِر اللَّيْل ) حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعِيد حَدَّثَنَا عَبْد السَّلَام عَنْ الْجُرِيرِيّ عَنْ أَبِي السَّلِيل قَالَ : أَصَابَ رَجُل دَمًا قَالَ : فَأَوَى إِلَى وَادِي مَجَنَّة : وَادٍ لَا يَمْشِي فِيهِ أَحَد إِلَّا أَصَابَتْهُ حَيَّة , وَعَلَى شَفِير الْوَادِي رَاهِبَانِ ; فَلَمَّا أَمْسَى قَالَ أَحَدهمَا لِصَاحِبِهِ : هَلَكَ وَاَللَّه الرَّجُل ! قَالَ : فَافْتَتَحَ سُورَة " آل عِمْرَان " قَالَا : فَقَرَأَ سُورَة طَيْبَة لَعَلَّهُ سَيَنْجُو . قَالَ : فَأَصْبَحَ سَلِيمًا . وَأَسْنَدَ عَنْ مَكْحُول قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ سُورَة " آل عِمْرَان " يَوْم الْجُمْعَة صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة إِلَى اللَّيْل ) وَأَسْنَدَ عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ آخِر سُورَة " آل عِمْرَان " فِي لَيْلَة كُتِبَ لَهُ قِيَام لَيْلَة ) فِي طَرِيقه اِبْن لَهِيعَة . وَخَرَّجَ مُسْلِم عَنْ النَّوَّاس بْن سِمْعَان الْكِلَابِيّ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْم الْقِيَامَة وَأَهْله الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمهُ سُورَة الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان ) , وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَة أَمْثَال مَا نَسِيتهنَّ بَعْد , قَالَ : - كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنهمَا شَرْق , أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَان مِنْ طَيْر صَوَافّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبهمَا . وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( اِقْرَءُوا الْقُرْآن فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اِقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَة وَسُورَة آل عِمْرَان فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْر صَوَافّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابهمَا اِقْرَءُوا سُورَة الْبَقَرَة فَإِنَّ أَخْذهَا بَرَكَة وَتَرْكهَا حَسْرَة وَلَا يَسْتَطِيعهَا الْبَطَلَة ) . قَالَ مُعَاوِيَة : وَبَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَة السَّحَرَة . [ الرَّابِعَة ] : لِلْعُلَمَاءِ فِي تَسْمِيَة " الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان " بِالزَّهْرَاوَيْنِ ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : إِنَّهُمَا النَّيِّرَتَانِ , مَأْخُوذ مِنْ الزَّهْر وَالزُّهْرَة ; فَإِمَّا لِهِدَايَتِهِمَا قَارِئَهُمَا بِمَا يُزْهِر لَهُ مِنْ أَنْوَارهمَا , أَيْ مِنْ مَعَانِيهمَا . وَإِمَّا لِمَا يَتَرَتَّب عَلَى قِرَاءَتهمَا مِنْ النُّور التَّامّ يَوْم الْقِيَامَة , وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي . الثَّالِث : سُمِّيَتَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا اِشْتَرَكَتَا فِيمَا تَضَمَّنَهُ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم ; كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْره عَنْ أَسْمَاء بِنْت يَزِيد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَإِلَهكُمْ إِلَه وَاحِد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم وَاَلَّتِي فِي آل عِمْرَان اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم ) أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ أَيْضًا . وَالْغَمَام : السَّحَاب الْمُلْتَفّ , وَهُوَ الْغَيَايَة إِذَا كَانَتْ قَرِيبًا مِنْ الرَّأْس , وَهِيَ الظُّلَّة أَيْضًا . وَالْمَعْنَى : إِنَّ قَارِئَهُمَا فِي ظِلّ ثَوَابهمَا ; كَمَا جَاءَ ( الرَّجُل فِي ظِلّ صَدَقَته ) وَقَوْله : ( تُحَاجَّانِ ) أَيْ يَخْلُق اللَّه مَنْ يُجَادِل عَنْهُ بِثَوَابِهِمَا مَلَائِكَة كَمَا جَاءَ فِي بَعْض الْحَدِيث : ( إِنَّ مَنْ قَرَأَ " شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ . .. " الْآيَة خَلَقَ اللَّه سَبْعِينَ مَلَكًا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَقَوْله : ( بَيْنهمَا شَرْق ) قُيِّدَ بِسُكُونِ الرَّاء وَفَتْحهَا وَهُوَ تَنْبِيه عَلَى الضِّيَاء ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : ( سَوْدَاوَانِ ) قَدْ يُتَوَهَّم أَنَّهُمَا مُظْلِمَتَانِ , فَنَفَى ذَلِكَ . بِقَوْلِهِ : ( بَيْنهمَا شَرْق ) . وَيَعْنِي بِكَوْنِهِمَا سَوْدَاوَانِ أَيْ مِنْ كَثَافَتهمَا الَّتِي بِسَبَبِهَا حَالَتَا بَيْنَ مَنْ تَحْتهمَا وَبَيْن حَرَارَة الشَّمْس وَشِدَّة اللَّهَب . وَاَللَّه أَعْلَم . [ الْخَامِسَة ] : صَدْر هَذِهِ السُّورَة نَزَلَ بِسَبَبِ وَفْد نَجْرَان فِيمَا ذَكَرَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر , وَكَانُوا نَصَارَى وَفَدُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا , فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافهمْ أَرْبَعَة عَشَر رَجُلًا , فِي الْأَرْبَعَة عَشَر ثَلَاثَة نَفَر إِلَيْهِمْ يَرْجِع أَمْرهمْ : الْعَاقِب أَمِير الْقَوْم وَذُو آرَائِهِمْ وَاسْمه عَبْد الْمَسِيح , وَالسَّيِّد ثِمَالهمْ وَصَاحِب مُجْتَمَعهمْ وَاسْمه الْأَيْهَم , وَأَبُو حَارِثَة بْن عَلْقَمَة أَحَد بَكْر بْن وَائِل أُسْقُفّهمْ وَعَالِمهمْ ; فَدَخَلُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْر صَلَاة الْعَصْر , عَلَيْهِمْ ثِيَاب الْحِبَرَات جُبَب وَأَرْدِيَة فَقَالَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا رَأَيْنَا وَفْدًا مِثْلهمْ جَمَالًا وَجَلَالَة . وَحَانَتْ صَلَاتهمْ فَقَامُوا فَصَلَّوْا فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَشْرِق . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( دَعُوهُمْ ) . ثُمَّ أَقَامُوا بِهَا أَيَّامًا يُنَاظِرُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ اِبْن اللَّه , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَقْوَال شَنِيعَة مُضْطَرِبَة , وَرَسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدّ عَلَيْهِمْ بِالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَة وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ , وَنَزَلَ فِيهِمْ صَدْر هَذِهِ السُّورَة إِلَى نَيِّف وَثَمَانِينَ آيَة ; إِلَى أَنْ آل أَمْرهمْ إِلَى أَنْ دَعَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُبَاهَلَة , حَسْب مَا هُوَ مَذْكُور فِي سِيرَة اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره .
قُلْت : الصَّحِيح جَوَاز ذَلِكَ . وَقَدْ قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَعْرَافِ فِي الْمَغْرِب فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ , خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا , وَصَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ , وَسَيَأْتِي . [ الثَّالِثَة ] : هَذِهِ السُّورَة وَرَدَ فِي فَضْلهَا آثَار وَأَخْبَار ; فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ أَنَّهَا أَمَان مِنْ الْحَيَّات , وَكَنْز لِلصُّعْلُوكِ , وَأَنَّهَا تُحَاجّ عَنْ قَارِئِهَا فِي الْآخِرَة , وَيُكْتَب لِمَنْ قَرَأَ آخِرهَا فِي لَيْلَة كَقِيَامِ لَيْلَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ . ذَكَرَ الدِّرَامِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَّام قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه الْأَشْجَعِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي مِسْعَر قَالَ حَدَّثَنِي جَابِر , قَبْل أَنْ يَقَع فِيمَا وَقَعَ فِيهِ , عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ قَالَ عَبْد اللَّه : ( نِعْمَ كَنْز الصُّعْلُوك سُورَة " آل عِمْرَان " يَقُوم بِهَا فِي آخِر اللَّيْل ) حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعِيد حَدَّثَنَا عَبْد السَّلَام عَنْ الْجُرِيرِيّ عَنْ أَبِي السَّلِيل قَالَ : أَصَابَ رَجُل دَمًا قَالَ : فَأَوَى إِلَى وَادِي مَجَنَّة : وَادٍ لَا يَمْشِي فِيهِ أَحَد إِلَّا أَصَابَتْهُ حَيَّة , وَعَلَى شَفِير الْوَادِي رَاهِبَانِ ; فَلَمَّا أَمْسَى قَالَ أَحَدهمَا لِصَاحِبِهِ : هَلَكَ وَاَللَّه الرَّجُل ! قَالَ : فَافْتَتَحَ سُورَة " آل عِمْرَان " قَالَا : فَقَرَأَ سُورَة طَيْبَة لَعَلَّهُ سَيَنْجُو . قَالَ : فَأَصْبَحَ سَلِيمًا . وَأَسْنَدَ عَنْ مَكْحُول قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ سُورَة " آل عِمْرَان " يَوْم الْجُمْعَة صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة إِلَى اللَّيْل ) وَأَسْنَدَ عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ آخِر سُورَة " آل عِمْرَان " فِي لَيْلَة كُتِبَ لَهُ قِيَام لَيْلَة ) فِي طَرِيقه اِبْن لَهِيعَة . وَخَرَّجَ مُسْلِم عَنْ النَّوَّاس بْن سِمْعَان الْكِلَابِيّ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْم الْقِيَامَة وَأَهْله الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمهُ سُورَة الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان ) , وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَة أَمْثَال مَا نَسِيتهنَّ بَعْد , قَالَ : - كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنهمَا شَرْق , أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَان مِنْ طَيْر صَوَافّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبهمَا . وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( اِقْرَءُوا الْقُرْآن فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اِقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَة وَسُورَة آل عِمْرَان فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْر صَوَافّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابهمَا اِقْرَءُوا سُورَة الْبَقَرَة فَإِنَّ أَخْذهَا بَرَكَة وَتَرْكهَا حَسْرَة وَلَا يَسْتَطِيعهَا الْبَطَلَة ) . قَالَ مُعَاوِيَة : وَبَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَة السَّحَرَة . [ الرَّابِعَة ] : لِلْعُلَمَاءِ فِي تَسْمِيَة " الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان " بِالزَّهْرَاوَيْنِ ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : إِنَّهُمَا النَّيِّرَتَانِ , مَأْخُوذ مِنْ الزَّهْر وَالزُّهْرَة ; فَإِمَّا لِهِدَايَتِهِمَا قَارِئَهُمَا بِمَا يُزْهِر لَهُ مِنْ أَنْوَارهمَا , أَيْ مِنْ مَعَانِيهمَا . وَإِمَّا لِمَا يَتَرَتَّب عَلَى قِرَاءَتهمَا مِنْ النُّور التَّامّ يَوْم الْقِيَامَة , وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي . الثَّالِث : سُمِّيَتَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا اِشْتَرَكَتَا فِيمَا تَضَمَّنَهُ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم ; كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْره عَنْ أَسْمَاء بِنْت يَزِيد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَإِلَهكُمْ إِلَه وَاحِد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم وَاَلَّتِي فِي آل عِمْرَان اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم ) أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ أَيْضًا . وَالْغَمَام : السَّحَاب الْمُلْتَفّ , وَهُوَ الْغَيَايَة إِذَا كَانَتْ قَرِيبًا مِنْ الرَّأْس , وَهِيَ الظُّلَّة أَيْضًا . وَالْمَعْنَى : إِنَّ قَارِئَهُمَا فِي ظِلّ ثَوَابهمَا ; كَمَا جَاءَ ( الرَّجُل فِي ظِلّ صَدَقَته ) وَقَوْله : ( تُحَاجَّانِ ) أَيْ يَخْلُق اللَّه مَنْ يُجَادِل عَنْهُ بِثَوَابِهِمَا مَلَائِكَة كَمَا جَاءَ فِي بَعْض الْحَدِيث : ( إِنَّ مَنْ قَرَأَ " شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ . .. " الْآيَة خَلَقَ اللَّه سَبْعِينَ مَلَكًا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَقَوْله : ( بَيْنهمَا شَرْق ) قُيِّدَ بِسُكُونِ الرَّاء وَفَتْحهَا وَهُوَ تَنْبِيه عَلَى الضِّيَاء ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : ( سَوْدَاوَانِ ) قَدْ يُتَوَهَّم أَنَّهُمَا مُظْلِمَتَانِ , فَنَفَى ذَلِكَ . بِقَوْلِهِ : ( بَيْنهمَا شَرْق ) . وَيَعْنِي بِكَوْنِهِمَا سَوْدَاوَانِ أَيْ مِنْ كَثَافَتهمَا الَّتِي بِسَبَبِهَا حَالَتَا بَيْنَ مَنْ تَحْتهمَا وَبَيْن حَرَارَة الشَّمْس وَشِدَّة اللَّهَب . وَاَللَّه أَعْلَم . [ الْخَامِسَة ] : صَدْر هَذِهِ السُّورَة نَزَلَ بِسَبَبِ وَفْد نَجْرَان فِيمَا ذَكَرَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر , وَكَانُوا نَصَارَى وَفَدُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا , فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافهمْ أَرْبَعَة عَشَر رَجُلًا , فِي الْأَرْبَعَة عَشَر ثَلَاثَة نَفَر إِلَيْهِمْ يَرْجِع أَمْرهمْ : الْعَاقِب أَمِير الْقَوْم وَذُو آرَائِهِمْ وَاسْمه عَبْد الْمَسِيح , وَالسَّيِّد ثِمَالهمْ وَصَاحِب مُجْتَمَعهمْ وَاسْمه الْأَيْهَم , وَأَبُو حَارِثَة بْن عَلْقَمَة أَحَد بَكْر بْن وَائِل أُسْقُفّهمْ وَعَالِمهمْ ; فَدَخَلُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْر صَلَاة الْعَصْر , عَلَيْهِمْ ثِيَاب الْحِبَرَات جُبَب وَأَرْدِيَة فَقَالَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا رَأَيْنَا وَفْدًا مِثْلهمْ جَمَالًا وَجَلَالَة . وَحَانَتْ صَلَاتهمْ فَقَامُوا فَصَلَّوْا فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَشْرِق . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( دَعُوهُمْ ) . ثُمَّ أَقَامُوا بِهَا أَيَّامًا يُنَاظِرُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ اِبْن اللَّه , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَقْوَال شَنِيعَة مُضْطَرِبَة , وَرَسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدّ عَلَيْهِمْ بِالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَة وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ , وَنَزَلَ فِيهِمْ صَدْر هَذِهِ السُّورَة إِلَى نَيِّف وَثَمَانِينَ آيَة ; إِلَى أَنْ آل أَمْرهمْ إِلَى أَنْ دَعَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُبَاهَلَة , حَسْب مَا هُوَ مَذْكُور فِي سِيرَة اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره .
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ↓
يَعْنِي الْقُرْآن وَالْقُرْآن نُزِّلَ نُجُومًا : شَيْئًا بَعْد شَيْء ; فَلِذَلِكَ قَالَ " نَزَّلَ " وَالتَّنْزِيل مَرَّة بَعْد مَرَّة . وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل نَزَلَا دُفْعَة وَاحِدَة فَلِذَلِكَ قَالَ " أَنْزَلَ " وَالْبَاء فِي قَوْله " بِالْحَقِّ " فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ الْكِتَاب وَالْبَاء مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ التَّقْدِير آتَيَا بِالْحَقِّ وَلَا تَتَعَلَّق ب " نَزَّلَ " لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا بِحَرْفِ جَرّ , وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى ثَالِث .
أَيْ بِالصِّدْقِ وَقِيلَ : بِالْحُجَّةِ الْغَالِبَة .
حَال مُؤَكَّدَة غَيْر مُنْتَقِلَة ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن أَنْ يَكُون غَيْر مُصَدِّق , أَيْ غَيْر مُوَافِق ; هَذَا قَوْل الْجُمْهُور . وَقَدَّرَ فِيهِ بَعْضهمْ الِانْتِقَال , عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُصَدِّق لِنَفْسِهِ وَمُصَدِّق لِغَيْرِهِ .
يَعْنِي مِنْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة .
وَالتَّوْرَاة مَعْنَاهَا الضِّيَاء وَالنُّور مُشْتَقَّة مِنْ وَرَى الزَّنْد وَوَرِيَ لُغَتَانِ إِذَا خَرَجَتْ نَاره وَأَصْلهَا تَوْرِيَة عَلَى وَزْن تَفْعِلَة التَّاء زَائِدَة وَتَحَرَّكَتْ الْيَاء وَقَبْلهَا فَتْحَة فَقُلِبَتْ أَلِفًا وَيَجُوز أَنْ تَكُون تَفْعِلَة فَتُنْقَل الرَّاء مِنْ الْكَسْر إِلَى الْفَتْح كَمَا قَالُوا فِي جَارِيَة جَارَاة وَفِي نَاصِيَة نَاصَاة كِلَاهُمَا عَنْ الْفَرَّاء وَقَالَ الْخَلِيل : أَصْلهَا فَوْعَلَة فَالْأَصْل وَوْرَيَة قُلِبَتْ الْوَاو الْأُولَى تَاء كَمَا قُلِبَتْ فِي تَوْلَج وَالْأَصْل وَوْلَج فَوْعَل مِنْ وَلَجَت وَقُلِبَتْ الْيَاء أَلِفًا لِحَرَكَتِهَا وَانْفِتَاح مَا قَبْلهَا وَبِنَاء فَوْعَلَة أَكْثَر مِنْ تَفْعِلَة . وَقِيلَ : التَّوْرَاة مَأْخُوذَة مِنْ التَّوْرِيَة , وَهِيَ التَّعْرِيض بِالشَّيْءِ وَالْكِتْمَان لِغَيْرِهِ ; فَكَأَنَّ أَكْثَر التَّوْرَاة مَعَارِيض وَتَلْوِيحَات مِنْ غَيْر تَصْرِيح وَإِيضَاح , هَذَا قَوْل الْمُؤَرِّج . وَالْجُمْهُور عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُون الْفُرْقَان وَضِيَاء وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 48 ] يَعْنِي التَّوْرَاة . وَالْإِنْجِيل إِفْعِيل مِنْ النَّجْل وَهُوَ الْأَصْل , وَيُجْمَع عَلَى أَنَاجِيل وَتَوْرَاة عَلَى تَوَارٍ ; فَالْإِنْجِيل أَصْل لِعُلُومٍ وَحِكَم . وَيُقَال : لَعَنَ اللَّه نَاجِلَيْهِ , يَعْنِي وَالِدَيْهِ , إِذْ كَانَ أَصْله . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ نَجَلْت الشَّيْء إِذَا اِسْتَخْرَجْته ; فَالْإِنْجِيل مُسْتَخْرَج بِهِ عُلُوم وَحِكَم ; وَمِنْهُ سُمِّيَ الْوَلَد وَالنَّسْل نَجْلًا لِخُرُوجِهِ ; كَمَا قَالَ : إِلَى مَعْشَر لَمْ يُورِث اللُّؤْم جَدّهمْ أَصَاغِرهمْ وَكُلّ فَحْل لَهُمْ نَجْلُ وَالنَّجْل الْمَاء الَّذِي يَخْرُج مِنْ النَّزّ . وَاسْتَنْجَلَتْ الْأَرْض , وَبِهَا نِجَال إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْمَاء , فَسُمِّيَ الْإِنْجِيل بِهِ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْرَجَ بِهِ دَارِسًا مِنْ الْحَقّ عَافِيًا . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ النَّجَل فِي الْعَيْن ( بِالتَّحْرِيكِ ) وَهُوَ سَعَتهَا ; وَطَعْنَة نَجْلَاء , أَيْ وَاسِعَة ; قَالَ : رُبَّمَا ضَرْبَة بِسَيْفٍ صَقِيل بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَة نَجْلَاء فَسُمِّيَ الْإِنْجِيل بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَصْل أَخْرَجَهُ لَهُمْ وَوَسَّعَهُ عَلَيْهِمْ وَنُورًا وَضِيَاء . وَقِيلَ : التَّنَاجُل التَّنَازُع ; وَسُمِّيَ إِنْجِيلًا لِتَنَازُعِ النَّاس فِيهِ . وَحَكَى شَمِر عَنْ بَعْضهمْ : الْإِنْجِيل كُلّ كِتَاب مَكْتُوب وَافِر السُّطُور . وَقِيلَ : نَجَلَ عَمِلَ وَصَنَعَ ; قَالَ : وَأَنْجَل فِي ذَاكَ الصَّنِيع كَمَا نَجَل أَيْ اِعْمَلْ وَاصْنَعْ . وَقِيلَ : التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مِنْ اللُّغَة السُّرْيَانِيَّة . وَقِيلَ : الْإِنْجِيل بِالسُّرْيَانِيَّةِ إنكليون ; حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْإِنْجِيل كِتَاب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يُذَكَّر وَيُؤَنَّث ; فَمَنْ أَنَّثَ أَرَادَ الصَّحِيفَة , وَمَنْ ذَكَّرَ أَرَادَ الْكِتَاب . قَالَ غَيْره : وَقَدْ يُسَمَّى الْقُرْآن إِنْجِيلًا أَيْضًا ; كَمَا رُوِيَ فِي قِصَّة مُنَاجَاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : ( يَا رَبّ أَرَى فِي الْأَلْوَاح أَقْوَامًا أَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي ) . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ : ( تِلْكَ أُمَّة أَحْمَد ) صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْأَنَاجِيلِ الْقُرْآن . وَقَرَأَ الْحَسَن : " وَالْأَنْجِيل " بِفَتْحِ الْهَمْزَة , وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ مِثْل الْإِكْلِيل , لُغَتَانِ . وَيَحْتَمِل إِنْ سُمِعَ أَنْ يَكُون مِمَّا عَرَّبَتْهُ الْعَرَب مِنْ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة , وَلَا مِثَال لَهُ فِي كَلَامهَا .
أَيْ بِالصِّدْقِ وَقِيلَ : بِالْحُجَّةِ الْغَالِبَة .
حَال مُؤَكَّدَة غَيْر مُنْتَقِلَة ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن أَنْ يَكُون غَيْر مُصَدِّق , أَيْ غَيْر مُوَافِق ; هَذَا قَوْل الْجُمْهُور . وَقَدَّرَ فِيهِ بَعْضهمْ الِانْتِقَال , عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُصَدِّق لِنَفْسِهِ وَمُصَدِّق لِغَيْرِهِ .
يَعْنِي مِنْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة .
وَالتَّوْرَاة مَعْنَاهَا الضِّيَاء وَالنُّور مُشْتَقَّة مِنْ وَرَى الزَّنْد وَوَرِيَ لُغَتَانِ إِذَا خَرَجَتْ نَاره وَأَصْلهَا تَوْرِيَة عَلَى وَزْن تَفْعِلَة التَّاء زَائِدَة وَتَحَرَّكَتْ الْيَاء وَقَبْلهَا فَتْحَة فَقُلِبَتْ أَلِفًا وَيَجُوز أَنْ تَكُون تَفْعِلَة فَتُنْقَل الرَّاء مِنْ الْكَسْر إِلَى الْفَتْح كَمَا قَالُوا فِي جَارِيَة جَارَاة وَفِي نَاصِيَة نَاصَاة كِلَاهُمَا عَنْ الْفَرَّاء وَقَالَ الْخَلِيل : أَصْلهَا فَوْعَلَة فَالْأَصْل وَوْرَيَة قُلِبَتْ الْوَاو الْأُولَى تَاء كَمَا قُلِبَتْ فِي تَوْلَج وَالْأَصْل وَوْلَج فَوْعَل مِنْ وَلَجَت وَقُلِبَتْ الْيَاء أَلِفًا لِحَرَكَتِهَا وَانْفِتَاح مَا قَبْلهَا وَبِنَاء فَوْعَلَة أَكْثَر مِنْ تَفْعِلَة . وَقِيلَ : التَّوْرَاة مَأْخُوذَة مِنْ التَّوْرِيَة , وَهِيَ التَّعْرِيض بِالشَّيْءِ وَالْكِتْمَان لِغَيْرِهِ ; فَكَأَنَّ أَكْثَر التَّوْرَاة مَعَارِيض وَتَلْوِيحَات مِنْ غَيْر تَصْرِيح وَإِيضَاح , هَذَا قَوْل الْمُؤَرِّج . وَالْجُمْهُور عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُون الْفُرْقَان وَضِيَاء وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 48 ] يَعْنِي التَّوْرَاة . وَالْإِنْجِيل إِفْعِيل مِنْ النَّجْل وَهُوَ الْأَصْل , وَيُجْمَع عَلَى أَنَاجِيل وَتَوْرَاة عَلَى تَوَارٍ ; فَالْإِنْجِيل أَصْل لِعُلُومٍ وَحِكَم . وَيُقَال : لَعَنَ اللَّه نَاجِلَيْهِ , يَعْنِي وَالِدَيْهِ , إِذْ كَانَ أَصْله . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ نَجَلْت الشَّيْء إِذَا اِسْتَخْرَجْته ; فَالْإِنْجِيل مُسْتَخْرَج بِهِ عُلُوم وَحِكَم ; وَمِنْهُ سُمِّيَ الْوَلَد وَالنَّسْل نَجْلًا لِخُرُوجِهِ ; كَمَا قَالَ : إِلَى مَعْشَر لَمْ يُورِث اللُّؤْم جَدّهمْ أَصَاغِرهمْ وَكُلّ فَحْل لَهُمْ نَجْلُ وَالنَّجْل الْمَاء الَّذِي يَخْرُج مِنْ النَّزّ . وَاسْتَنْجَلَتْ الْأَرْض , وَبِهَا نِجَال إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْمَاء , فَسُمِّيَ الْإِنْجِيل بِهِ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْرَجَ بِهِ دَارِسًا مِنْ الْحَقّ عَافِيًا . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ النَّجَل فِي الْعَيْن ( بِالتَّحْرِيكِ ) وَهُوَ سَعَتهَا ; وَطَعْنَة نَجْلَاء , أَيْ وَاسِعَة ; قَالَ : رُبَّمَا ضَرْبَة بِسَيْفٍ صَقِيل بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَة نَجْلَاء فَسُمِّيَ الْإِنْجِيل بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَصْل أَخْرَجَهُ لَهُمْ وَوَسَّعَهُ عَلَيْهِمْ وَنُورًا وَضِيَاء . وَقِيلَ : التَّنَاجُل التَّنَازُع ; وَسُمِّيَ إِنْجِيلًا لِتَنَازُعِ النَّاس فِيهِ . وَحَكَى شَمِر عَنْ بَعْضهمْ : الْإِنْجِيل كُلّ كِتَاب مَكْتُوب وَافِر السُّطُور . وَقِيلَ : نَجَلَ عَمِلَ وَصَنَعَ ; قَالَ : وَأَنْجَل فِي ذَاكَ الصَّنِيع كَمَا نَجَل أَيْ اِعْمَلْ وَاصْنَعْ . وَقِيلَ : التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مِنْ اللُّغَة السُّرْيَانِيَّة . وَقِيلَ : الْإِنْجِيل بِالسُّرْيَانِيَّةِ إنكليون ; حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْإِنْجِيل كِتَاب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يُذَكَّر وَيُؤَنَّث ; فَمَنْ أَنَّثَ أَرَادَ الصَّحِيفَة , وَمَنْ ذَكَّرَ أَرَادَ الْكِتَاب . قَالَ غَيْره : وَقَدْ يُسَمَّى الْقُرْآن إِنْجِيلًا أَيْضًا ; كَمَا رُوِيَ فِي قِصَّة مُنَاجَاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : ( يَا رَبّ أَرَى فِي الْأَلْوَاح أَقْوَامًا أَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي ) . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ : ( تِلْكَ أُمَّة أَحْمَد ) صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْأَنَاجِيلِ الْقُرْآن . وَقَرَأَ الْحَسَن : " وَالْأَنْجِيل " بِفَتْحِ الْهَمْزَة , وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ مِثْل الْإِكْلِيل , لُغَتَانِ . وَيَحْتَمِل إِنْ سُمِعَ أَنْ يَكُون مِمَّا عَرَّبَتْهُ الْعَرَب مِنْ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة , وَلَا مِثَال لَهُ فِي كَلَامهَا .
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ↓
يَعْنِي الْقُرْآن
قَالَ اِبْن فُورك : التَّقْدِير هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ ; دَلِيله فِي الْبَقَرَة " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " [ الْبَقَرَة : 2 ] فَرَدَّ هَذَا الْعَامّ إِلَى ذَلِكَ الْخَاصّ . و " هُدًى " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال .
الْقُرْآن وَقَدْ تَقَدَّمَ .
قَالَ اِبْن فُورك : التَّقْدِير هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ ; دَلِيله فِي الْبَقَرَة " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " [ الْبَقَرَة : 2 ] فَرَدَّ هَذَا الْعَامّ إِلَى ذَلِكَ الْخَاصّ . و " هُدًى " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال .
الْقُرْآن وَقَدْ تَقَدَّمَ .
هَذَا خَبَر عَنْ عِلْمه تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ عَلَى التَّفْصِيل ; وَمِثْله فِي الْقُرْآن كَثِير . فَهُوَ الْعَالِم بِمَا كَانَ وَمَا يَكُون وَمَا لَا يَكُون ; فَكَيْفَ يَكُون عِيسَى إِلَهًا أَوْ ابْن إِلَه وَهُوَ تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاء .
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ↓
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَصْوِيره لِلْبَشَرِ فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات , وَأَصْل الرَّحِم مِنْ الرَّحْمَة , لِأَنَّهَا مِمَّا يُتَرَاحَم بِهِ . وَاشْتِقَاق الصُّورَة مِنْ صَارَهُ إِلَى كَذَا إِذَا أَمَالَهُ ; فَالصُّورَة مَائِلَة إِلَى شَبَه وَهَيْئَة . وَهَذِهِ الْآيَة تَعْظِيم لِلَّهِ تَعَالَى , وَفِي ضِمْنهَا الرَّدّ عَلَى نَصَارَى نَجْرَان , وَأَنَّ عِيسَى مِنْ الْمُصَوَّرِينَ , وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْكِرهُ عَاقِل . وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى شَرْح التَّصْوِير فِي سُورَة " الْحَجّ " و " الْمُؤْمِنُونَ " . وَكَذَلِكَ شَرَحَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود , عَلَى مَا يَأْتِي هُنَاكَ بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَفِيهَا الرَّدّ عَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ أَيْضًا إِذْ يَجْعَلُونَهَا فَاعِلَة مُسْتَبِدَّة . وَقَدْ مَضَى الرَّدّ عَلَيْهِمْ فِي آيَة التَّوْحِيد وَفِي مُسْنَد اِبْن سَنْجَر - وَاسْمه مُحَمَّد بْن سَنْجَر - حَدِيث ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَخْلُق عِظَام الْجَنِين وَغَضَارِيفه مِنْ مَنِيّ الرَّجُل وَشَحْمه وَلَحْمه مِنْ مَنِيّ الْمَرْأَة ) . وَفِي هَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْوَلَد يَكُون مِنْ مَاء الرَّجُل وَالْمَرْأَة , وَهُوَ صَرِيح فِي قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيّهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثَى " [ الْحُجُرَات : 13 ] وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث ثَوْبَان وَفِيهِ أَنَّ الْيَهُودِيّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَجِئْت أَسْأَلك عَنْ شَيْء لَا يَعْلَمهُ أَحَد مِنْ أَه2ْل الْأَرْض إِلَّا نَبِيّ أَوْ رَجُل أَوْ رَجُلَانِ . قَالَ : ( يَنْفَعك إِنْ حَدَّثْتُك ) ؟ . قَالَ : أَسْمَع بِأُذُنِي , قَالَ : جِئْتُك أَسْأَلك عَنْ الْوَلَد . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَاء الرَّجُل أَبْيَض وَمَاء الْمَرْأَة أَصْفَر فَإِذَا اِجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيّ الرَّجُل مَنِيَّ الْمَرْأَة أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَة مَنِيّ الرَّجُل آنَثَا بِإِذْنِ اللَّه . .. ) الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي بَيَانه آخِر " الشُّورَى " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
يَعْنِي مِنْ حُسْن وَقُبْح وَسَوَاد وَبَيَاض وَطُول وَقِصَر وَسَلَامَة وَعَاهَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الشَّقَاء وَالسَّعَادَة . وَذُكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَدْهَم أَنَّ الْقُرَّاء اِجْتَمَعُوا إِلَيْهِ لِيَسْمَعُوا مَا عِنْده مِنْ الْأَحَادِيث , فَقَالَ لَهُمْ : إِنِّي مَشْغُول عَنْكُمْ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاء , فَلَا أَتَفَرَّغ لِرِوَايَةِ الْحَدِيث . فَقِيلَ لَهُ : وَمَا ذَاكَ الشُّغْل ؟ قَالَ : أَحَدهَا إِنِّي أَتَفَكَّر فِي يَوْم الْمِيثَاق حَيْثُ قَالَ : ( هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّة وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي ) فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ كُنْت فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَالثَّانِي حَيْثُ صُوِّرْت فِي الرَّحِم فَقَالَ الْمَلَك الَّذِي هُوَ مُوَكَّل عَلَى الْأَرْحَام : ( يَا رَبّ شَقِيّ هُوَ أَمْ سَعِيد ) فَلَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ الْجَوَاب فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَالثَّالِث حِينَ يَقْبِض مَلَك الْمَوْت رُوحِي فَيَقُول : ( يَا رَبّ مَعَ الْكُفْر أَمْ مَعَ الْإِيمَان ) فَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَخْرُج الْجَوَاب وَالرَّابِع حَيْثُ يَقُول : " وَامْتَازُوا الْيَوْم أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ " [ يس : 59 ] فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكُون .
أَيْ لَا خَالِق وَلَا مُصَوِّر سِوَاهُ وَذَلِكَ دَلِيل عَلَى وَحْدَانِيّته , فَكَيْفَ يَكُون عِيسَى إِلَهًا مُصَوِّرًا وَهُوَ مُصَوَّر .
الَّذِي لَا يُغَالَب .
ذُو الْحِكْمَة أَوْ الْمُحْكِم , وَهَذَا أَخَصّ بِمَا ذُكِرَ مِنْ التَّصْوِير .
يَعْنِي مِنْ حُسْن وَقُبْح وَسَوَاد وَبَيَاض وَطُول وَقِصَر وَسَلَامَة وَعَاهَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الشَّقَاء وَالسَّعَادَة . وَذُكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَدْهَم أَنَّ الْقُرَّاء اِجْتَمَعُوا إِلَيْهِ لِيَسْمَعُوا مَا عِنْده مِنْ الْأَحَادِيث , فَقَالَ لَهُمْ : إِنِّي مَشْغُول عَنْكُمْ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاء , فَلَا أَتَفَرَّغ لِرِوَايَةِ الْحَدِيث . فَقِيلَ لَهُ : وَمَا ذَاكَ الشُّغْل ؟ قَالَ : أَحَدهَا إِنِّي أَتَفَكَّر فِي يَوْم الْمِيثَاق حَيْثُ قَالَ : ( هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّة وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي ) فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ كُنْت فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَالثَّانِي حَيْثُ صُوِّرْت فِي الرَّحِم فَقَالَ الْمَلَك الَّذِي هُوَ مُوَكَّل عَلَى الْأَرْحَام : ( يَا رَبّ شَقِيّ هُوَ أَمْ سَعِيد ) فَلَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ الْجَوَاب فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَالثَّالِث حِينَ يَقْبِض مَلَك الْمَوْت رُوحِي فَيَقُول : ( يَا رَبّ مَعَ الْكُفْر أَمْ مَعَ الْإِيمَان ) فَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَخْرُج الْجَوَاب وَالرَّابِع حَيْثُ يَقُول : " وَامْتَازُوا الْيَوْم أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ " [ يس : 59 ] فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكُون .
أَيْ لَا خَالِق وَلَا مُصَوِّر سِوَاهُ وَذَلِكَ دَلِيل عَلَى وَحْدَانِيّته , فَكَيْفَ يَكُون عِيسَى إِلَهًا مُصَوِّرًا وَهُوَ مُصَوَّر .
الَّذِي لَا يُغَالَب .
ذُو الْحِكْمَة أَوْ الْمُحْكِم , وَهَذَا أَخَصّ بِمَا ذُكِرَ مِنْ التَّصْوِير .
هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ↓
خَرَّجَ مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رِضَى اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَر مُتَشَابِهَات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ اِبْتِغَاء الْفِتْنَة وَابْتِغَاء تَأْوِيله وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّر إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب " قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّه فَاحْذَرُوهُمْ ) . وَعَنْ أَبِي غَالِب قَالَ : كُنْت أَمْشِي مَعَ أَبِي أُمَامَة وَهُوَ عَلَى حِمَار لَهُ , حَتَّى إِذَا اِنْتَهَى إِلَى دَرَج مَسْجِد دِمَشْق فَإِذَا رُءُوس مَنْصُوبَة ; فَقَالَ : مَا هَذِهِ الرُّءُوس ؟ قِيلَ : هَذِهِ رُءُوس خَوَارِج يُجَاء بِهِمْ مِنْ الْعِرَاق فَقَالَ أَبُو أُمَامَة : ( كِلَاب النَّار كِلَاب النَّار كِلَاب النَّار شَرّ قَتْلَى تَحْت ظِلّ السَّمَاء , طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ - يَقُولهَا ثَلَاثًا - ثُمَّ بَكَى ) فَقُلْت : مَا يُبْكِيك يَا أَبَا أُمَامَة ؟ قَالَ : رَحْمَة لَهُمْ , ( إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْل الْإِسْلَام فَخَرَجُوا مِنْهُ ; ثُمَّ قَرَأَ " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات . .. " إِلَى آخِر الْآيَات . ثُمَّ قَرَأَ " وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَات . .. " [ آل عِمْرَان : 105 ] . فَقُلْت : يَا أَبَا أُمَامَة , هُمْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ نَعَمْ . قُلْت : أَشَيْء تَقُولهُ بِرَأْيِك أَمْ شَيْء سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : إِنِّي إِذًا لَجَرِيء إِنِّي إِذًا لَجَرِيء بَلْ سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر مَرَّة وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاث وَلَا أَرْبَع وَلَا خَمْس وَلَا سِتّ وَلَا سَبْع , وَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ , قَالَ : وَإِلَّا فَصُمَّتَا - قَالَهَا ثَلَاثًا - ) ثُمَّ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيل عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَة وَاحِدَة فِي الْجَنَّة وَسَائِرهمْ فِي النَّار وَلِتَزِيدَن عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأُمَّة وَاحِدَة وَاحِدَة فِي الْجَنَّة وَسَائِرهمْ فِي النَّار ) .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُحْكَمَات وَالْمُتَشَابِهَات عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل الشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَغَيْرهمَا : ( الْمُحْكَمَات مِنْ آي الْقُرْآن مَا عُرِفَ تَأْوِيله وَفُهِمَ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيره وَالْمُتَشَابِه مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمه سَبِيل مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِهِ دُونَ خَلْقه , قَالَ بَعْضهمْ : وَذَلِكَ مِثْل وَقْت قِيَام السَّاعَة , وَخُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَالدَّجَّال وَعِيسَى , وَنَحْو الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي أَوَائِل السُّوَر )
قُلْت : هَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ فِي الْمُتَشَابِه . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَائِل سُورَة الْبَقَرَة عَنْ الرَّبِيع بْن خُثَيْم ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآن فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ . .. ) الْحَدِيث . وَقَالَ أَبُو عُثْمَان : الْمُحْكَم فَاتِحَة الْكِتَاب الَّتِي لَا تُجْزِئ الصَّلَاة إِلَّا بِهَا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْفَضْل : سُورَة الْإِخْلَاص , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التَّوْحِيد فَقَطْ . وَقَدْ قِيلَ : الْقُرْآن كُلّه مُحْكَم : لِقَوْلِ تَعَالَى : " كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاته " [ هُود : 1 ] . وَقِيلَ : كُلّه مُتَشَابِه ; لِقَوْلِهِ : " كِتَابًا مُتَشَابِهًا " [ الزُّمَر : 23 ] .
قُلْت : وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَعْنَى الْآيَة فِي شَيْء ; فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : " كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاته " أَيْ فِي النَّظْم وَالرَّصْف وَأَنَّهُ حَقّ مِنْ عِنْد اللَّه . وَمَعْنَى " كِتَابًا مُتَشَابِهًا " , أَيْ يُشْبِه بَعْضه بَعْضًا وَيُصَدِّق بَعْضه بَعْضًا . وَلَيْسَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " آيَات مُحْكَمَات وَأُخَر مُتَشَابِهَات " هَذَا الْمَعْنَى ; وَإِنَّمَا الْمُتَشَابِه فِي هَذِهِ الْآيَة مِنْ بَاب الِاحْتِمَال وَالِاشْتِبَاه , مِنْ قَوْله : " إِنَّ الْبَقَر تَشَابَهَ عَلَيْنَا " [ الْبَقَرَة : 70 ] أَيْ اِلْتَبَسَ عَلَيْنَا , أَيْ يَحْتَمِل أَنْوَاعًا كَثِيرَة مِنْ الْبَقَر . وَالْمُرَاد بِالْمُحْكَمِ مَا فِي مُقَابَلَة هَذَا , وَهُوَ مَا لَا اِلْتِبَاس فِيهِ وَلَا يَحْتَمِل إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُتَشَابِه مَا يَحْتَمِل وُجُوهًا , ثُمَّ إِذَا رُدَّتْ الْوُجُوه إِلَى وَجْه وَاحِد وَأَبْطَلَ الْبَاقِي صَارَ الْمُتَشَابِه مُحْكَمًا . فَالْمُحْكَم أَبَدًا أَصْل تُرَدّ إِلَيْهِ الْفُرُوع ; وَالْمُتَشَابِه هُوَ الْفَرْع . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( الْمُحْكَمَات هُوَ قَوْله فِي سُورَة الْأَنْعَام " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ " [ الْأَنْعَام : 151 ] إِلَى ثَلَاث آيَات , وَقَوْله فِي بَنِي إِسْرَائِيل : " وَقَضَى رَبّك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " [ الْإِسْرَاء : 23 ] قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا عِنْدِي مِثَال أَعْطَاهُ فِي الْمُحْكَمَات . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : ( الْمُحْكَمَات نَاسِخه وَحَرَامه وَفَرَائِضه وَمَا يُؤْمِن بِهِ وَيَعْمَل بِهِ , وَالْمُتَشَابِهَات الْمَنْسُوخَات وَمُقَدَّمه وَمُؤَخَّره وَأَمْثَاله وَأَقْسَامه وَمَا يُؤْمِن بِهِ وَلَا يَعْمَل بِهِ ) وَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره : ( الْمُحْكَمَات النَّاسِخَات , وَالْمُتَشَابِهَات الْمَنْسُوخَات ) وَقَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع وَالضَّحَّاك . وَقَالَ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر : الْمُحْكَمَات هِيَ الَّتِي فِيهَا حُجَّة الرَّبّ وَعِصْمَة الْعِبَاد وَدَفْع الْخُصُوم وَالْبَاطِل , لَيْسَ لَهَا تَصْرِيف وَلَا تَحْرِيف عَمَّا وُضِعْنَ عَلَيْهِ . وَالْمُتَشَابِهَات لَهُنَّ تَصْرِيف وَتَحْرِيف وَتَأْوِيل , اِبْتَلَى اللَّه فِيهِنَّ الْعِبَاد ; وَقَالَهُ مُجَاهِد وَابْن إِسْحَاق . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا أَحْسَن الْأَقْوَال فِي هَذِهِ الْآيَة . قَالَ النَّحَّاس : أَحْسَن مَا قِيلَ فِي الْمُحْكَمَات , وَالْمُتَشَابِهَات أَنَّ الْمُحْكَمَات مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاج أَنْ يَرْجِع فِيهِ إِلَى غَيْره ; نَحْو " لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَد " [ الْإِخْلَاص : 4 ] " وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تَابَ " [ طَه : 82 ] . وَالْمُتَشَابِهَات نَحْو " إِنَّ اللَّه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا " [ الزُّمَر : 53 ] يَرْجِع فِيهِ إِلَى قَوْله جَلَّ وَعَلَا : " وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تَابَ " [ طَه : 82 ] وَإِلَى قَوْل عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ " [ النِّسَاء : 48 , 116 ] .
قُلْت : مَا قَالَهُ النَّحَّاس يُبَيِّن مَا اِخْتَارَهُ اِبْن عَطِيَّة , وَهُوَ الْجَارِي عَلَى وَضْع اللِّسَان ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحْكِم اِسْم مَفْعُول مِنْ أَحْكَمَ , وَالْإِحْكَام الْإِتْقَان ; وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا كَانَ وَاضِح الْمَعْنَى , لَا إِشْكَال فِيهِ وَلَا تَرَدُّد , إِنَّمَا يَكُون كَذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَدَات كَلِمَاته وَإِتْقَان تَرْكِيبهَا ; وَمَتَى اِخْتَلَّ أَحَد الْأَمْرَيْنِ جَاءَ التَّشَابُه وَالْإِشْكَال . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : لِلْمُتَشَابِهِ وُجُوه , وَاَلَّذِي يَتَعَلَّق بِهِ الْحُكْم مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاء أَيّ الْآيَتَيْنِ نَسَخَتْ الْأُخْرَى ; كَقَوْلِ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس فِي الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا ( تَعْتَدّ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ ) فَكَانَ عُمَر وَزَيْد بْن ثَابِت وَابْن مَسْعُود وَغَيْرهمْ يَقُولُونَ ( وَضْع الْحَمْل ) وَيَقُولُونَ : ( سُورَة النِّسَاء الْقُصْرَى نَسَخَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ) وَكَانَ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس يَقُولَانِ لَمْ تَنْسَخ . وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَصِيَّة لِلْوَارِثِ هَلْ نُسِخَتْ أَمْ لَمْ تُنْسَخ . وَكَتَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ أَيّهمَا أَوْلَى أَنْ تُقَدَّم إِذَا لَمْ يُعْرَف النَّسْخ وَلَمْ تُوجَد شَرَائِطه ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ " [ النِّسَاء : 24 ] يَقْتَضِي الْجَمْع بَيْنَ الْأَقَارِب مِنْ مِلْك الْيَمِين , وَقَوْله تَعَالَى : " وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " [ النِّسَاء : 23 ] يَمْنَع ذَلِكَ . وَمِنْهُ أَيْضًا تَعَارُض الْأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَارُض الْأَقْيِسَة , فَذَلِكَ الْمُتَشَابِه . وَلَيْسَ مِنْ الْمُتَشَابِه أَنْ تَقْرَأ الْآيَة بِقِرَاءَتَيْنِ وَيَكُون الِاسْم مُحْتَمِلًا أَوْ مُجْمَلًا يَحْتَاج إِلَى تَفْسِير لِأَنَّ الْوَاجِب مِنْهُ قَدْر مَا يَتَنَاوَل الِاسْم أَوْ جَمِيعه . وَالْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ يَجِب الْعَمَل بِمُوجِبِهِمَا جَمِيعًا ; كَمَا قُرِئَ : " وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ " [ الْمَائِدَة : 6 ] بِالْفَتْحِ وَالْكَسْر , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه " فِي الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : قَالَ رَجُل لِابْنِ عَبَّاس : إِنِّي أَجِد فِي الْقُرْآن أَشْيَاء تَخْتَلِف عَلَيَّ . قَالَ : مَا هُوَ ؟ قَالَ : " فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 101 ] وَقَالَ : " وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ " [ الصَّافَّات : 27 ] وَقَالَ : " وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا " [ النِّسَاء : 42 ] وَقَالَ : " وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " [ الْأَنْعَام : 23 ] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَة . وَفِي النَّازِعَات " أَمْ السَّمَاء بَنَاهَا " إِلَى قَوْله " دَحَاهَا " [ النَّازِعَات : 26 27 - 28 - 29 - 30 ] فَذَكَرَ خَلْق السَّمَاء قَبْل خَلْق الْأَرْض , ثُمَّ قَالَ : " أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ . .. إِلَى : طَائِعِينَ " [ فُصِّلَتْ : 9 , 10 , 11 ] فَذَكَرَ فِي هَذَا خَلْق الْأَرْض قَبْل خَلْق السَّمَاء . وَقَالَ : " وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا " [ النِّسَاء : 100 ] " وَكَانَ اللَّه عَزِيزًا حَكِيمًا " [ النِّسَاء : 158 ] . " وَكَانَ اللَّه سَمِيعًا بَصِيرًا " [ النِّسَاء : 134 ] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى . فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( " فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ " فِي النَّفْخَة الْأُولَى , ثُمَّ يُنْفَخ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه , فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ عِنْد ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ; ثُمَّ فِي النَّفْخَة الْآخِرَة أَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ . وَأَمَّا قَوْله : " مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا " فَإِنَّ اللَّه يَغْفِر لِأَهْلِ الْإِخْلَاص ذُنُوبهمْ , وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : تَعَالَوْا نَقُول : لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ ; فَخَتَمَ اللَّه عَلَى أَفْوَاههمْ فَتَنْطِق جَوَارِحهمْ بِأَعْمَالِهِمْ ; فَعِنْد ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّه لَا يُكْتَم حَدِيثًا , وَعِنْده يَوَدّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ . وَخَلَقَ اللَّه الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ , ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَاوَات فِي يَوْمَيْنِ , ثُمَّ دَحَا الْأَرْض أَيْ بَسَطَهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاء وَالْمَرْعَى , وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَال وَالْأَشْجَار وَالْآكَام وَمَا بَيْنهَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ; فَذَلِكَ قَوْله : " وَالْأَرْض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا " . فَخُلِقَتْ الْأَرْض وَمَا فِيهَا فِي أَرْبَعَة أَيَّام , وَخُلِقَتْ السَّمَاء فِي يَوْمَيْنِ . وَقَوْله : " وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا " يَعْنِي نَفْسه ذَلِكَ , أَيْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَال كَذَلِكَ ; فَإِنَّ اللَّه لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ . وَيْحك فَلَا يَخْتَلِف عَلَيْك الْقُرْآن ; فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْد اللَّه )
" وَأُخَر مُتَشَابِهَات " لَمْ تُصْرَف " أُخَر " لِأَنَّهَا عُدِلَتْ عَنْ الْأَلِف وَاللَّام ; لِأَنَّ أَصْلهَا أَنْ تَكُون صِفَة بِالْأَلِفِ وَاللَّام كَالْكِبَرِ وَالصِّغَر ; فَلَمَّا عُدِلَتْ عَنْ مَجْرَى الْأَلِف وَاللَّام مُنِعَتْ الصَّرْف . أَبُو عُبَيْد : لَمْ يَصْرِفُوهَا لِأَنَّ وَاحِدهَا لَا يَنْصَرِف فِي مَعْرِفَة وَلَا نَكِرَة . وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُبَرِّد وَقَالَ : يَجِب عَلَى هَذَا أَلَّا يَنْصَرِف غِضَاب وَعِطَاش . الْكِسَائِيّ : لَمْ تَنْصَرِف لِأَنَّهَا صِفَة . وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّد أَيْضًا وَقَالَ : إِنَّ لُبَدًا وَحُطَمًا صِفَتَانِ وَهُمَا مُنْصَرِفَانِ . سِيبَوَيْهِ : لَا يَجُوز أَنْ تَكُون أُخَر مَعْدُولَة عَنْ الْأَلِف وَاللَّام ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْدُولَة عَنْ الْأَلِف وَاللَّام لَكَانَ مَعْرِفَة , أَلَا تَرَى أَنَّ سَحَرَ مَعْرِفَة فِي جَمِيع الْأَقَاوِيل لَمَّا كَانَتْ مَعْدُولَة عَنْ السِّحْر , وَأَمْس فِي قَوْل مَنْ قَالَ : ذَهَبَ أَمْس مَعْدُولًا عَنْ الْأَمْس ; فَلَوْ كَانَ أُخَر مَعْدُولًا أَيْضًا عَنْ الْأَلِف وَاللَّام لَكَانَ مَعْرِفَة , وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِالنَّكِرَةِ .
الَّذِينَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر " فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ " . وَالزَّيْغ الْمَيْل ; وَمِنْهُ زَاغَتْ الشَّمْس , وَزَاغَتْ الْأَبْصَار . وَيُقَال : زَاغَ يَزِيغ زَيْغًا إِذَا تُرِكَ الْقَصْد ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ " [ الصَّفّ : 5 ] . وَهَذِهِ الْآيَة تَعُمّ كُلّ طَائِفَة مِنْ كَافِر وَزِنْدِيق وَجَاهِل وَصَاحِب بِدْعَة , وَإِنْ كَانَتْ الْإِشَارَة بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْت إِلَى نَصَارَى نَجْرَان . وَقَالَ قَتَادَة فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى : " فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ " : إِنْ لَمْ يَكُونُوا الْحَرُورِيَّة وَأَنْوَاع الْخَوَارِج فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ .
قُلْت : قَدْ مَرَّ هَذَا التَّفْسِير عَنْ أَبِي أُمَامَة مَرْفُوعًا , وَحَسْبك .
قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِ : مُتَّبِعُو الْمُتَشَابِه لَا يَخْلُو أَنْ يَتَّبِعُوهُ وَيَجْمَعُوهُ طَلَبًا لِلتَّشْكِيكِ فِي الْقُرْآن وَإِضْلَال الْعَوَامّ , كَمَا فَعَلَتْهُ الزَّنَادِقَة وَالْقَرَامِطَة الطَّاعِنُونَ فِي الْقُرْآن ; أَوْ طَلَبًا لِاعْتِقَادِ ظَوَاهِر الْمُتَشَابِه , كَمَا فَعَلَتْهُ الْمُجَسِّمَة الَّذِينَ جَمَعُوا مَا فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة مِمَّا ظَاهِره الْجِسْمِيَّة حَتَّى اِعْتَقَدُوا أَنَّ الْبَارِئ تَعَالَى جِسْم مُجَسَّم وَصُورَة مُصَوَّرَة ذَات وَجْه وَعَيْن وَيَد وَجَنْب وَرِجْل وَأُصْبُع , تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ; أَوْ يَتَّبِعُوهُ عَلَى جِهَة إِبْدَاء تَأْوِيلَاتهَا وَإِيضَاح مَعَانِيهَا , أَوْ كَمَا فَعَلَ صَبِيغ حِينَ أَكْثَر عَلَى عُمَر فِيهِ السُّؤَال . فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقْسَام : [ الْأَوَّل ] لَا شَكَّ فِي كُفْرهمْ , وَإِنَّ حُكْم اللَّه فِيهِمْ الْقَتْل مِنْ غَيْر اِسْتِتَابَة . [ الثَّانِي ] الصَّحِيح الْقَوْل بِتَكْفِيرِهِمْ , إِذْ لَا فَرْق بَيْنهمْ وَبَيْنَ عُبَّاد الْأَصْنَام وَالصُّوَر , وَيُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا كَمَا يُفْعَل بِمَنْ اِرْتَدَّ . [ الثَّالِث ] اِخْتَلَفُوا فِي جَوَاز ذَلِكَ بِنَاء عَلَى الْخِلَاف فِي جَوَاز تَأْوِيلهَا . وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ مَذْهَب السَّلَف تَرْك التَّعَرُّض لِتَأْوِيلِهَا مَعَ قَطْعهمْ بِاسْتِحَالَةِ ظَوَاهِرهَا , فَيَقُولُونَ أَمِّرُوهَا كَمَا جَاءَتْ . وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى إِبْدَاء تَأْوِيلَاتهَا وَحَمْلهَا عَلَى مَا يَصِحّ حَمْله فِي اللِّسَان عَلَيْهَا مِنْ غَيْر قَطْع بِتَعْيِينِ مُجْمَل مِنْهَا . [ الرَّابِع ] الْحُكْم فِيهِ الْأَدَب الْبَلِيغ , كَمَا فَعَلَهُ عُمَر بِصَبِيغٍ . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَقَدْ كَانَ الْأَئِمَّة مِنْ السَّلَف يُعَاقِبُونَ مَنْ يَسْأَل عَنْ تَفْسِير الْحُرُوف الْمُشْكِلَات فِي الْقُرْآن , لِأَنَّ السَّائِل إِنْ كَانَ يَبْغِي بِسُؤَالِهِ تَخْلِيد الْبِدْعَة وَإِثَارَة الْفِتْنَة فَهُوَ حَقِيق بِالنَّكِيرِ وَأَعْظَم التَّعْزِير , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْصِده فَقَدْ اِسْتَحَقَّ الْعَتْب بِمَا اِجْتَرَمَ مِنْ الذَّنْب , إِذْ أَوْجَدَ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت سَبِيلًا إِلَى أَنْ يَقْصِدُوا ضَعَفَة الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشْكِيكِ وَالتَّضْلِيل فِي تَحْرِيف الْقُرْآن عَنْ مَنَاهِج التَّنْزِيل وَحَقَائِق التَّأْوِيل . فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق الْقَاضِي أَنْبَأَنَا سُلَيْمَان بْن حَرْب عَنْ حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ يَزِيد بْن حَازِم عَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَار أَنَّ صَبِيغ بْن عِسْل قَدِمَ الْمَدِينَة فَجَعَلَ يَسْأَل عَنْ مُتَشَابِه الْقُرْآن وَعَنْ أَشْيَاء ; فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَر فَأَحْضَرَهُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِين مِنْ عَرَاجِين النَّخْل . فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ لَهُ عُمَر : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا عَبْد اللَّه صَبِيغ . فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَأَنَا عَبْد اللَّه عُمَر ; ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ رَأْسه بِعُرْجُونٍ فَشَجَّهُ , ثُمَّ تَابَعَ ضَرْبه حَتَّى سَالَ دَمه عَلَى وَجْهه , فَقَالَ : حَسْبك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ وَاَللَّه ذَهَبَ مَا كُنْت أَجِد فِي رَأْسِي . وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات فِي أَدَبه , وَسَيَأْتِي ذِكْرهَا فِي " الذَّارِيَات " . ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَلْهَمَهُ التَّوْبَة وَقَذَفَهَا فِي قَلْبه فَتَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَته .
طَلَب الشُّبُهَات وَاللَّبْس عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُفْسِدُوا ذَات بَيْنهمْ , وَيَرُدُّوا النَّاس إِلَى زَيْغهمْ .
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : مَعْنَى " اِبْتِغَاء تَأْوِيله " أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْوِيل بَعْثهمْ وَإِحْيَائِهِمْ , فَأَعْلَمَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ تَأْوِيل ذَلِكَ وَوَقْته لَا يَعْلَمهُ إِلَّا اللَّه . قَالَ : وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيله يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله " أَيْ يَوْم يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ مِنْ الْبَعْث وَالنُّشُور وَالْعَذَاب " يَقُول الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْل " أَيْ تَرَكُوهُ - " قَدْ جَاءَتْ رُسُل رَبّنَا بِالْحَقِّ " [ الْأَعْرَاف : 43 ] أَيْ قَدْ رَأَيْنَا تَأْوِيل مَا أَنْبَأَتْنَا بِهِ الرُّسُل قَالَ : فَالْوَقْف عَلَى قَوْله تَعَالَى : " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه " أَيْ لَا يَعْلَم أَحَد مَتَى الْبَعْث إِلَّا اللَّه .
يُقَال : إِنَّ جَمَاعَة مِنْ الْيَهُود مِنْهُمْ حُيَيّ بْن أَخْطَب دَخَلُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : بَلَغَنَا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْك " الم " فَإِنْ كُنْت صَادِقًا فِي مَقَالَتك فَإِنَّ مُلْك أُمَّتك يَكُون إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَة ; لِأَنَّ الْأَلِف فِي حِسَاب الْجُمَّل وَاحِد , وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالْمِيم أَرْبَعُونَ , فَنَزَلَ " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه " . وَالتَّأْوِيل يَكُون بِمَعْنَى التَّفْسِير , كَقَوْلِك : تَأْوِيل هَذِهِ الْكَلِمَة عَلَى كَذَا . وَيَكُون بِمَعْنَى مَا يَؤُول الْأَمْر إِلَيْهِ . وَاشْتِقَاقه مِنْ آلَ الْأَمْر إِلَى كَذَا يَؤُول إِلَيْهِ , أَيْ صَارَ . وَأَوَّلْته تَأْوِيلًا أَيْ صَيَّرْته . وَقَدْ حَدَّهُ بَعْض الْفُقَهَاء فَقَالُوا : هُوَ إِبْدَاء اِحْتِمَال فِي اللَّفْظ مَقْصُود بِدَلِيلٍ خَارِج عَنْهُ . فَالتَّفْسِير بَيَان اللَّفْظ ; كَقَوْلِهِ " لَا رَيْب فِيهِ " [ الْبَقَرَة : 2 ] أَيْ لَا شَكَّ . وَأَصْله مِنْ الْفَسْر وَهُوَ الْبَيَان ; يُقَال : فَسَرْت الشَّيْء ( مُخَفَّفًا ) أَفْسِره ( بِالْكَسْرِ ) فَسْرًا . وَالتَّأْوِيل بَيَان الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْد الْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِأَنَّهُ حَقّ فِي نَفْسه فَلَا يَقْبَل ذَاته الشَّكّ وَإِنَّمَا الشَّكّ وَصْف الشَّاكّ . وَكَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس فِي الْجَدّ أَبًا لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " يَا بَنِي آدَم " .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم " هَلْ هُوَ اِبْتِدَاء كَلَام مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , أَوْ هُوَ مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْله فَتَكُون الْوَاو لِلْجَمْعِ . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنَّهُ مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , وَأَنَّ الْكَلَام تَمَّ عِنْد قَوْله " إِلَّا اللَّه " هَذَا قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَغَيْرهمْ , وَهُوَ مَذْهَب الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش وَالْفَرَّاء وَأَبِي عُبَيْد وَغَيْرهمْ . قَالَ أَبُو نَهِيك الْأَسَدِيّ : إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَة وَإِنَّهَا مَقْطُوعَة . وَمَا اِنْتَهَى عِلْم الرَّاسِخِينَ إِلَّا إِلَى قَوْلهمْ " آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا " . وَقَالَ مِثْل هَذَا عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , وَحَكَى الطَّبَرِيّ نَحْوه عَنْ يُونُس عَنْ أَشْهَب عَنْ مَالِك بْن أَنَس . وَ " يَقُولُونَ " عَلَى هَذَا خَبَر " الرَّاسِخُونَ " . قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَقَدْ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى آيَات كِتَابه الَّذِي أَمَرَنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيق بِمَا فِيهِ قِسْمَيْنِ : مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا ; فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِل : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَر مُتَشَابِهَات . .. إِلَى قَوْله : " كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا " فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَشَابِه مِنْ الْكِتَاب قَدْ اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِعِلْمِهِ , فَلَا يَعْلَم تَأْوِيله أَحَد غَيْره , ثُمَّ أَثْنَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْم بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ . وَلَوْلَا صِحَّة الْإِيمَان مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا الثَّنَاء عَلَيْهِ . وَمَذْهَب أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْوَقْف التَّامّ فِي هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا هُوَ عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه " وَأَنَّ مَا بَعْده اِسْتِئْنَاف كَلَام آخَر , وَهُوَ قَوْله " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ " . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَأُبَيّ بْن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة . وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ نَسَق " الرَّاسِخُونَ " عَلَى مَا قَبْله وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ . وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْض أَهْل اللُّغَة فَقَالَ : مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا ; وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِع " يَقُولُونَ " نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَعَامَّة أَهْل اللُّغَة يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ ; لِأَنَّ الْعَرَب لَا تُضْمِر الْفِعْل وَالْمَفْعُول مَعًا , وَلَا تَذْكُر حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُور الْفِعْل ; فَإِذَا لَمْ يَظْهَر فِعْل فَلَا يَكُون حَال ; وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَال : عَبْد اللَّه رَاكِبًا , بِمَعْنَى أَقْبَلَ عَبْد اللَّه رَاكِبًا ; وَإِنَّمَا يَجُوز ذَلِكَ مَعَ ذِكْر الْفِعْل كَقَوْلِهِ : عَبْد اللَّه يَتَكَلَّم يُصْلِح بَيْن النَّاس ; فَكَانَ " يُصْلِح " حَالًا ; كَقَوْلِ الشَّاعِر - أَنَشَدَنِيهِ أَبُو عُمَر قَالَ أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب - : أَرْسَلْت فِيهَا قَطِمًا لُكَالِكَا يَقْصُر يَمْشِي وَيَطُول بَارِكَا أَيْ يَقْصُر مَاشِيًا ; فَكَانَ قَوْل عَامَّة الْعُلَمَاء مَعَ مُسَاعَدَة مَذَاهِب النَّحْوِيِّينَ لَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْل مُجَاهِد وَحْده , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَنْفِيَ اللَّه سُبْحَانه شَيْئًا عَنْ الْخَلْق وَيُثْبِتهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يَكُون لَهُ فِي ذَلِكَ شَرِيك . أَلَا تَرَى قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " قُلْ لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه " [ النَّمْل : 65 ] وَقَوْله : " لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ " [ الْأَعْرَاف : 187 ] وَقَوْله : " كُلّ شَيْء هَالِك إِلَّا وَجْهه " [ الْقَصَص : 88 ] , فَكَانَ هَذَا كُلّه مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه سُبْحَانه بِعِلْمِهِ لَا يُشْرِكهُ فِيهِ غَيْره . وَكَذَلِكَ قَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى : " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه " . وَلَوْ كَانَتْ الْوَاو فِي قَوْله : " وَالرَّاسِخُونَ " لِلنَّسَقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ : " كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا " فَائِدَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
قُلْت : مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجَاهِد غَيْره فَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الرَّاسِخِينَ مَعْطُوف عَلَى اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْم الْمُتَشَابِه , وَأَنَّهُمْ مَعَ عِلْمهمْ بِهِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ; وَقَالَ الرَّبِيع وَمُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَغَيْرهمْ . وَ " يَقُولُونَ " عَلَى هَذَا التَّأْوِيل نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الرَّاسِخِينَ ; كَمَا قَالَ : الرِّيح تَبْكِي شَجْوَهَا وَالْبَرْق يَلْمَع فِي الْغَمَامَهْ وَهَذَا الْبَيْت يَحْتَمِل الْمَعْنَيَيْنِ ; فَيَجُوز أَنْ يَكُون " وَالْبَرْق " مُبْتَدَأ , وَالْخَبَر " يَلْمَع " عَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل , فَيَكُون مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْله . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْطُوفًا عَلَى الرِّيح , و " يَلْمَع " فِي مَوْضِع الْحَال عَلَى التَّأْوِيل الثَّانِي أَيْ لَامِعًا . وَاحْتَجَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة أَيْضًا بِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْم ; فَكَيْفَ يَمْدَحهُمْ وَهُمْ جُهَّال وَقَدْ قَالَ اِبْن عَبَّاس : ( أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله ) وَقَرَأَ مُجَاهِد هَذِهِ الْآيَة وَقَالَ : أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله ; حَكَاهُ عَنْهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي .
قُلْت : وَقَدْ رَدَّ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل إِلَى الْقَوْل الْأَوَّل فَقَالَ : وَتَقْدِير تَمَام الْكَلَام " عِنْد اللَّه " أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه يَعْنِي تَأْوِيل الْمُتَشَابِهَات , وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَ بَعْضه قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا بِمَا نَصَبَ مِنْ الدَّلَائِل فِي الْمُحْكَم وَمَكَّنَ مِنْ رَدّه إِلَيْهِ . فَإِذَا عَلِمُوا تَأْوِيل بَعْضه وَلَمْ يَعْلَمُوا الْبَعْض قَالُوا آمَنَّا بِالْجَمِيعِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا , وَمَا لَمْ يُحَطْ بِهِ عِلْمنَا مِنْ الْخَفَايَا مِمَّا فِي شَرْعِهِ الصَّالِح فَعِلْمه عِنْد رَبّنَا فَإِنْ قَالَ قَائِل : قَدْ أَشْكَلَ عَلَى الرَّاسِخِينَ بَعْض تَفْسِيره حَتَّى قَالَ اِبْن عَبَّاس : ( لَا أَدْرِي مَا الْأَوَّاه وَلَا مَا غِسْلِين ) قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يَلْزَم ; لِأَنَّ اِبْن عَبَّاس قَدْ عَلِمَ بَعْد ذَلِكَ فَفَسَّرَ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ . وَجَوَاب أَقْطَع مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانه لَمْ يَقُلْ وَكُلّ رَاسِخ فَيَجِب هَذَا فَإِذَا لَمْ يَعْلَمهُ أَحَد عَلِمَهُ الْآخَر . وَرَجَّحَ اِبْن فُورك أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيل وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ ; وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِابْنِ عَبَّاس : ( اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّين وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل ) مَا يُبَيِّن لَك ذَلِكَ , أَيْ عَلِّمْهُ مَعَانِي كِتَابك .
وَالْوَقْف عَلَى هَذَا يَكُون عِنْد قَوْله " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم " . قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عُمَر : وَهُوَ الصَّحِيح ; فَإِنَّ تَسْمِيَتهمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَر مِنْ الْمُحْكَم الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمه جَمِيع مَنْ يَفْهَم كَلَام الْعَرَب . وَفِي أَيّ شَيْء هُوَ رُسُوخهمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَم الْجَمِيع .
لَكِنَّ الْمُتَشَابِه يَتَنَوَّع , فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَم الْبَتَّة كَأَمْرِ الرُّوح وَالسَّاعَة مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِغَيْبِهِ , وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمه أَحَد لَا اِبْن عَبَّاس وَلَا غَيْره . فَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاء الْحُذَّاق بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْم الْمُتَشَابِه فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْع , وَأَمَّا مَا يُمْكِن حَمْله عَلَى وُجُوه فِي اللُّغَة وَمَنَاحٍ فِي كَلَام الْعَرَب فَيُتَأَوَّل وَيُعْلَم تَأْوِيله الْمُسْتَقِيم , وَيُزَال مَا فِيهِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَتَعَلَّق مِنْ تَأْوِيل غَيْر مُسْتَقِيم ; كَقَوْلِهِ فِي عِيسَى : " وَرُوح مِنْهُ " [ النِّسَاء : 171 ] إِلَى غَيْر ذَلِكَ فَلَا يُسَمَّى أَحَد رَاسِخًا إِلَّا أَنْ يَعْلَم مِنْ هَذَا النَّوْع كَثِيرًا بِحَسْب مَا قُدِّرَ لَهُ .
وَأَمَّا مَنْ يَقُول : إِنَّ الْمُتَشَابِه هُوَ الْمَنْسُوخ فَيَسْتَقِيم عَلَى قَوْله إِدْخَال الرَّاسِخِينَ فِي عِلْم التَّأْوِيل ; لَكِنَّ تَخْصِيصه الْمُتَشَابِهَات بِهَذَا النَّوْع غَيْر صَحِيح .
وَالرُّسُوخ : الثُّبُوت فِي الشَّيْء , وَكُلّ ثَابِت رَاسِخ . وَأَصْله فِي الْأَجْرَام أَنْ يَرْسَخ الْجَبَل وَالشَّجَر فِي الْأَرْض ; قَالَ الشَّاعِر : لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتهَا أَنْ تَغَيَّرَا وَرَسَخَ الْإِيمَان فِي قَلْب فُلَان يَرْسَخ رُسُوخًا . وَحَكَى بَعْضهمْ : رَسَخَ الْغَدِير : نَضَبَ مَاؤُهُ ; حَكَاهُ اِبْن فَارِس فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد . وَرَسَخَ وَرَضَخَ وَرَصَنَ وَرَسَبَ كُلّه ثَبَتَ فِيهِ . وَسُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْم فَقَالَ : ( هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينه وَصَدَقَ لِسَانه وَاسْتَقَامَ قَلْبه ) . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ كَانَ فِي الْقُرْآن مُتَشَابِه وَاَللَّه يَقُول : " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْك الذِّكْر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ " [ النَّحْل : 44 ] فَكَيْفَ لَمْ يَجْعَلهُ كُلّه وَاضِحًا ؟ قِيلَ لَهُ : الْحِكْمَة فِي ذَلِكَ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنْ يَظْهَر فَضْل الْعُلَمَاء ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلّه وَاضِحًا لَمْ يَظْهَر فَضْل بَعْضهمْ عَلَى بَعْض . وَهَكَذَا يَفْعَل مَنْ يُصَنِّف تَصْنِيفًا يَجْعَل بَعْضه وَاضِحًا وَبَعْضه مُشْكِلًا , وَيَتْرُك لِلْجُثْوَةِ مَوْضِعًا ; لِأَنَّ مَا هَانَ وُجُوده قَلَّ بَهَاؤُهُ . وَاَللَّه أَعْلَم .
فِيهِ ضَمِير عَائِد عَلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى مُحْكَمه وَمُتَشَابِهه ; وَالتَّقْدِير : كُلّه مِنْ عِنْد رَبّنَا . وَحَذَفَ الضَّمِير لِدَلَالَةِ " كُلّ " عَلَيْهِ ; إِذْ هِيَ لَفْظَة تَقْتَضِي الْإِضَافَة .
أَيْ مَا يَقُول هَذَا وَيُؤْمِن وَيَقِف حَيْثُ وَقَفَ وَيَدَع اِتِّبَاع الْمُتَشَابِه إِلَّا ذُو لُبّ , وَهُوَ الْعَقْل . وَلُبّ كُلّ شَيْء خَالِصه ; فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْعَقْلِ لُبّ . وَ " أُولُو " جَمْع ذُو .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُحْكَمَات وَالْمُتَشَابِهَات عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل الشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَغَيْرهمَا : ( الْمُحْكَمَات مِنْ آي الْقُرْآن مَا عُرِفَ تَأْوِيله وَفُهِمَ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيره وَالْمُتَشَابِه مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمه سَبِيل مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِهِ دُونَ خَلْقه , قَالَ بَعْضهمْ : وَذَلِكَ مِثْل وَقْت قِيَام السَّاعَة , وَخُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَالدَّجَّال وَعِيسَى , وَنَحْو الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي أَوَائِل السُّوَر )
قُلْت : هَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ فِي الْمُتَشَابِه . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَائِل سُورَة الْبَقَرَة عَنْ الرَّبِيع بْن خُثَيْم ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآن فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ . .. ) الْحَدِيث . وَقَالَ أَبُو عُثْمَان : الْمُحْكَم فَاتِحَة الْكِتَاب الَّتِي لَا تُجْزِئ الصَّلَاة إِلَّا بِهَا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْفَضْل : سُورَة الْإِخْلَاص , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التَّوْحِيد فَقَطْ . وَقَدْ قِيلَ : الْقُرْآن كُلّه مُحْكَم : لِقَوْلِ تَعَالَى : " كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاته " [ هُود : 1 ] . وَقِيلَ : كُلّه مُتَشَابِه ; لِقَوْلِهِ : " كِتَابًا مُتَشَابِهًا " [ الزُّمَر : 23 ] .
قُلْت : وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَعْنَى الْآيَة فِي شَيْء ; فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : " كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاته " أَيْ فِي النَّظْم وَالرَّصْف وَأَنَّهُ حَقّ مِنْ عِنْد اللَّه . وَمَعْنَى " كِتَابًا مُتَشَابِهًا " , أَيْ يُشْبِه بَعْضه بَعْضًا وَيُصَدِّق بَعْضه بَعْضًا . وَلَيْسَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " آيَات مُحْكَمَات وَأُخَر مُتَشَابِهَات " هَذَا الْمَعْنَى ; وَإِنَّمَا الْمُتَشَابِه فِي هَذِهِ الْآيَة مِنْ بَاب الِاحْتِمَال وَالِاشْتِبَاه , مِنْ قَوْله : " إِنَّ الْبَقَر تَشَابَهَ عَلَيْنَا " [ الْبَقَرَة : 70 ] أَيْ اِلْتَبَسَ عَلَيْنَا , أَيْ يَحْتَمِل أَنْوَاعًا كَثِيرَة مِنْ الْبَقَر . وَالْمُرَاد بِالْمُحْكَمِ مَا فِي مُقَابَلَة هَذَا , وَهُوَ مَا لَا اِلْتِبَاس فِيهِ وَلَا يَحْتَمِل إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُتَشَابِه مَا يَحْتَمِل وُجُوهًا , ثُمَّ إِذَا رُدَّتْ الْوُجُوه إِلَى وَجْه وَاحِد وَأَبْطَلَ الْبَاقِي صَارَ الْمُتَشَابِه مُحْكَمًا . فَالْمُحْكَم أَبَدًا أَصْل تُرَدّ إِلَيْهِ الْفُرُوع ; وَالْمُتَشَابِه هُوَ الْفَرْع . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( الْمُحْكَمَات هُوَ قَوْله فِي سُورَة الْأَنْعَام " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ " [ الْأَنْعَام : 151 ] إِلَى ثَلَاث آيَات , وَقَوْله فِي بَنِي إِسْرَائِيل : " وَقَضَى رَبّك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " [ الْإِسْرَاء : 23 ] قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا عِنْدِي مِثَال أَعْطَاهُ فِي الْمُحْكَمَات . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : ( الْمُحْكَمَات نَاسِخه وَحَرَامه وَفَرَائِضه وَمَا يُؤْمِن بِهِ وَيَعْمَل بِهِ , وَالْمُتَشَابِهَات الْمَنْسُوخَات وَمُقَدَّمه وَمُؤَخَّره وَأَمْثَاله وَأَقْسَامه وَمَا يُؤْمِن بِهِ وَلَا يَعْمَل بِهِ ) وَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره : ( الْمُحْكَمَات النَّاسِخَات , وَالْمُتَشَابِهَات الْمَنْسُوخَات ) وَقَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع وَالضَّحَّاك . وَقَالَ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر : الْمُحْكَمَات هِيَ الَّتِي فِيهَا حُجَّة الرَّبّ وَعِصْمَة الْعِبَاد وَدَفْع الْخُصُوم وَالْبَاطِل , لَيْسَ لَهَا تَصْرِيف وَلَا تَحْرِيف عَمَّا وُضِعْنَ عَلَيْهِ . وَالْمُتَشَابِهَات لَهُنَّ تَصْرِيف وَتَحْرِيف وَتَأْوِيل , اِبْتَلَى اللَّه فِيهِنَّ الْعِبَاد ; وَقَالَهُ مُجَاهِد وَابْن إِسْحَاق . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا أَحْسَن الْأَقْوَال فِي هَذِهِ الْآيَة . قَالَ النَّحَّاس : أَحْسَن مَا قِيلَ فِي الْمُحْكَمَات , وَالْمُتَشَابِهَات أَنَّ الْمُحْكَمَات مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاج أَنْ يَرْجِع فِيهِ إِلَى غَيْره ; نَحْو " لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَد " [ الْإِخْلَاص : 4 ] " وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تَابَ " [ طَه : 82 ] . وَالْمُتَشَابِهَات نَحْو " إِنَّ اللَّه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا " [ الزُّمَر : 53 ] يَرْجِع فِيهِ إِلَى قَوْله جَلَّ وَعَلَا : " وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تَابَ " [ طَه : 82 ] وَإِلَى قَوْل عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ " [ النِّسَاء : 48 , 116 ] .
قُلْت : مَا قَالَهُ النَّحَّاس يُبَيِّن مَا اِخْتَارَهُ اِبْن عَطِيَّة , وَهُوَ الْجَارِي عَلَى وَضْع اللِّسَان ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحْكِم اِسْم مَفْعُول مِنْ أَحْكَمَ , وَالْإِحْكَام الْإِتْقَان ; وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا كَانَ وَاضِح الْمَعْنَى , لَا إِشْكَال فِيهِ وَلَا تَرَدُّد , إِنَّمَا يَكُون كَذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَدَات كَلِمَاته وَإِتْقَان تَرْكِيبهَا ; وَمَتَى اِخْتَلَّ أَحَد الْأَمْرَيْنِ جَاءَ التَّشَابُه وَالْإِشْكَال . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : لِلْمُتَشَابِهِ وُجُوه , وَاَلَّذِي يَتَعَلَّق بِهِ الْحُكْم مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاء أَيّ الْآيَتَيْنِ نَسَخَتْ الْأُخْرَى ; كَقَوْلِ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس فِي الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا ( تَعْتَدّ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ ) فَكَانَ عُمَر وَزَيْد بْن ثَابِت وَابْن مَسْعُود وَغَيْرهمْ يَقُولُونَ ( وَضْع الْحَمْل ) وَيَقُولُونَ : ( سُورَة النِّسَاء الْقُصْرَى نَسَخَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ) وَكَانَ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس يَقُولَانِ لَمْ تَنْسَخ . وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَصِيَّة لِلْوَارِثِ هَلْ نُسِخَتْ أَمْ لَمْ تُنْسَخ . وَكَتَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ أَيّهمَا أَوْلَى أَنْ تُقَدَّم إِذَا لَمْ يُعْرَف النَّسْخ وَلَمْ تُوجَد شَرَائِطه ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ " [ النِّسَاء : 24 ] يَقْتَضِي الْجَمْع بَيْنَ الْأَقَارِب مِنْ مِلْك الْيَمِين , وَقَوْله تَعَالَى : " وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " [ النِّسَاء : 23 ] يَمْنَع ذَلِكَ . وَمِنْهُ أَيْضًا تَعَارُض الْأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَارُض الْأَقْيِسَة , فَذَلِكَ الْمُتَشَابِه . وَلَيْسَ مِنْ الْمُتَشَابِه أَنْ تَقْرَأ الْآيَة بِقِرَاءَتَيْنِ وَيَكُون الِاسْم مُحْتَمِلًا أَوْ مُجْمَلًا يَحْتَاج إِلَى تَفْسِير لِأَنَّ الْوَاجِب مِنْهُ قَدْر مَا يَتَنَاوَل الِاسْم أَوْ جَمِيعه . وَالْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ يَجِب الْعَمَل بِمُوجِبِهِمَا جَمِيعًا ; كَمَا قُرِئَ : " وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ " [ الْمَائِدَة : 6 ] بِالْفَتْحِ وَالْكَسْر , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه " فِي الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : قَالَ رَجُل لِابْنِ عَبَّاس : إِنِّي أَجِد فِي الْقُرْآن أَشْيَاء تَخْتَلِف عَلَيَّ . قَالَ : مَا هُوَ ؟ قَالَ : " فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 101 ] وَقَالَ : " وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ " [ الصَّافَّات : 27 ] وَقَالَ : " وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا " [ النِّسَاء : 42 ] وَقَالَ : " وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " [ الْأَنْعَام : 23 ] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَة . وَفِي النَّازِعَات " أَمْ السَّمَاء بَنَاهَا " إِلَى قَوْله " دَحَاهَا " [ النَّازِعَات : 26 27 - 28 - 29 - 30 ] فَذَكَرَ خَلْق السَّمَاء قَبْل خَلْق الْأَرْض , ثُمَّ قَالَ : " أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ . .. إِلَى : طَائِعِينَ " [ فُصِّلَتْ : 9 , 10 , 11 ] فَذَكَرَ فِي هَذَا خَلْق الْأَرْض قَبْل خَلْق السَّمَاء . وَقَالَ : " وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا " [ النِّسَاء : 100 ] " وَكَانَ اللَّه عَزِيزًا حَكِيمًا " [ النِّسَاء : 158 ] . " وَكَانَ اللَّه سَمِيعًا بَصِيرًا " [ النِّسَاء : 134 ] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى . فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( " فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ " فِي النَّفْخَة الْأُولَى , ثُمَّ يُنْفَخ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه , فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ عِنْد ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ; ثُمَّ فِي النَّفْخَة الْآخِرَة أَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ . وَأَمَّا قَوْله : " مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا " فَإِنَّ اللَّه يَغْفِر لِأَهْلِ الْإِخْلَاص ذُنُوبهمْ , وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : تَعَالَوْا نَقُول : لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ ; فَخَتَمَ اللَّه عَلَى أَفْوَاههمْ فَتَنْطِق جَوَارِحهمْ بِأَعْمَالِهِمْ ; فَعِنْد ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّه لَا يُكْتَم حَدِيثًا , وَعِنْده يَوَدّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ . وَخَلَقَ اللَّه الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ , ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَاوَات فِي يَوْمَيْنِ , ثُمَّ دَحَا الْأَرْض أَيْ بَسَطَهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاء وَالْمَرْعَى , وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَال وَالْأَشْجَار وَالْآكَام وَمَا بَيْنهَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ; فَذَلِكَ قَوْله : " وَالْأَرْض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا " . فَخُلِقَتْ الْأَرْض وَمَا فِيهَا فِي أَرْبَعَة أَيَّام , وَخُلِقَتْ السَّمَاء فِي يَوْمَيْنِ . وَقَوْله : " وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا " يَعْنِي نَفْسه ذَلِكَ , أَيْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَال كَذَلِكَ ; فَإِنَّ اللَّه لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ . وَيْحك فَلَا يَخْتَلِف عَلَيْك الْقُرْآن ; فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْد اللَّه )
" وَأُخَر مُتَشَابِهَات " لَمْ تُصْرَف " أُخَر " لِأَنَّهَا عُدِلَتْ عَنْ الْأَلِف وَاللَّام ; لِأَنَّ أَصْلهَا أَنْ تَكُون صِفَة بِالْأَلِفِ وَاللَّام كَالْكِبَرِ وَالصِّغَر ; فَلَمَّا عُدِلَتْ عَنْ مَجْرَى الْأَلِف وَاللَّام مُنِعَتْ الصَّرْف . أَبُو عُبَيْد : لَمْ يَصْرِفُوهَا لِأَنَّ وَاحِدهَا لَا يَنْصَرِف فِي مَعْرِفَة وَلَا نَكِرَة . وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُبَرِّد وَقَالَ : يَجِب عَلَى هَذَا أَلَّا يَنْصَرِف غِضَاب وَعِطَاش . الْكِسَائِيّ : لَمْ تَنْصَرِف لِأَنَّهَا صِفَة . وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّد أَيْضًا وَقَالَ : إِنَّ لُبَدًا وَحُطَمًا صِفَتَانِ وَهُمَا مُنْصَرِفَانِ . سِيبَوَيْهِ : لَا يَجُوز أَنْ تَكُون أُخَر مَعْدُولَة عَنْ الْأَلِف وَاللَّام ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْدُولَة عَنْ الْأَلِف وَاللَّام لَكَانَ مَعْرِفَة , أَلَا تَرَى أَنَّ سَحَرَ مَعْرِفَة فِي جَمِيع الْأَقَاوِيل لَمَّا كَانَتْ مَعْدُولَة عَنْ السِّحْر , وَأَمْس فِي قَوْل مَنْ قَالَ : ذَهَبَ أَمْس مَعْدُولًا عَنْ الْأَمْس ; فَلَوْ كَانَ أُخَر مَعْدُولًا أَيْضًا عَنْ الْأَلِف وَاللَّام لَكَانَ مَعْرِفَة , وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِالنَّكِرَةِ .
الَّذِينَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر " فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ " . وَالزَّيْغ الْمَيْل ; وَمِنْهُ زَاغَتْ الشَّمْس , وَزَاغَتْ الْأَبْصَار . وَيُقَال : زَاغَ يَزِيغ زَيْغًا إِذَا تُرِكَ الْقَصْد ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ " [ الصَّفّ : 5 ] . وَهَذِهِ الْآيَة تَعُمّ كُلّ طَائِفَة مِنْ كَافِر وَزِنْدِيق وَجَاهِل وَصَاحِب بِدْعَة , وَإِنْ كَانَتْ الْإِشَارَة بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْت إِلَى نَصَارَى نَجْرَان . وَقَالَ قَتَادَة فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى : " فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ " : إِنْ لَمْ يَكُونُوا الْحَرُورِيَّة وَأَنْوَاع الْخَوَارِج فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ .
قُلْت : قَدْ مَرَّ هَذَا التَّفْسِير عَنْ أَبِي أُمَامَة مَرْفُوعًا , وَحَسْبك .
قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِ : مُتَّبِعُو الْمُتَشَابِه لَا يَخْلُو أَنْ يَتَّبِعُوهُ وَيَجْمَعُوهُ طَلَبًا لِلتَّشْكِيكِ فِي الْقُرْآن وَإِضْلَال الْعَوَامّ , كَمَا فَعَلَتْهُ الزَّنَادِقَة وَالْقَرَامِطَة الطَّاعِنُونَ فِي الْقُرْآن ; أَوْ طَلَبًا لِاعْتِقَادِ ظَوَاهِر الْمُتَشَابِه , كَمَا فَعَلَتْهُ الْمُجَسِّمَة الَّذِينَ جَمَعُوا مَا فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة مِمَّا ظَاهِره الْجِسْمِيَّة حَتَّى اِعْتَقَدُوا أَنَّ الْبَارِئ تَعَالَى جِسْم مُجَسَّم وَصُورَة مُصَوَّرَة ذَات وَجْه وَعَيْن وَيَد وَجَنْب وَرِجْل وَأُصْبُع , تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ; أَوْ يَتَّبِعُوهُ عَلَى جِهَة إِبْدَاء تَأْوِيلَاتهَا وَإِيضَاح مَعَانِيهَا , أَوْ كَمَا فَعَلَ صَبِيغ حِينَ أَكْثَر عَلَى عُمَر فِيهِ السُّؤَال . فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقْسَام : [ الْأَوَّل ] لَا شَكَّ فِي كُفْرهمْ , وَإِنَّ حُكْم اللَّه فِيهِمْ الْقَتْل مِنْ غَيْر اِسْتِتَابَة . [ الثَّانِي ] الصَّحِيح الْقَوْل بِتَكْفِيرِهِمْ , إِذْ لَا فَرْق بَيْنهمْ وَبَيْنَ عُبَّاد الْأَصْنَام وَالصُّوَر , وَيُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا كَمَا يُفْعَل بِمَنْ اِرْتَدَّ . [ الثَّالِث ] اِخْتَلَفُوا فِي جَوَاز ذَلِكَ بِنَاء عَلَى الْخِلَاف فِي جَوَاز تَأْوِيلهَا . وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ مَذْهَب السَّلَف تَرْك التَّعَرُّض لِتَأْوِيلِهَا مَعَ قَطْعهمْ بِاسْتِحَالَةِ ظَوَاهِرهَا , فَيَقُولُونَ أَمِّرُوهَا كَمَا جَاءَتْ . وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى إِبْدَاء تَأْوِيلَاتهَا وَحَمْلهَا عَلَى مَا يَصِحّ حَمْله فِي اللِّسَان عَلَيْهَا مِنْ غَيْر قَطْع بِتَعْيِينِ مُجْمَل مِنْهَا . [ الرَّابِع ] الْحُكْم فِيهِ الْأَدَب الْبَلِيغ , كَمَا فَعَلَهُ عُمَر بِصَبِيغٍ . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَقَدْ كَانَ الْأَئِمَّة مِنْ السَّلَف يُعَاقِبُونَ مَنْ يَسْأَل عَنْ تَفْسِير الْحُرُوف الْمُشْكِلَات فِي الْقُرْآن , لِأَنَّ السَّائِل إِنْ كَانَ يَبْغِي بِسُؤَالِهِ تَخْلِيد الْبِدْعَة وَإِثَارَة الْفِتْنَة فَهُوَ حَقِيق بِالنَّكِيرِ وَأَعْظَم التَّعْزِير , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْصِده فَقَدْ اِسْتَحَقَّ الْعَتْب بِمَا اِجْتَرَمَ مِنْ الذَّنْب , إِذْ أَوْجَدَ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت سَبِيلًا إِلَى أَنْ يَقْصِدُوا ضَعَفَة الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشْكِيكِ وَالتَّضْلِيل فِي تَحْرِيف الْقُرْآن عَنْ مَنَاهِج التَّنْزِيل وَحَقَائِق التَّأْوِيل . فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق الْقَاضِي أَنْبَأَنَا سُلَيْمَان بْن حَرْب عَنْ حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ يَزِيد بْن حَازِم عَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَار أَنَّ صَبِيغ بْن عِسْل قَدِمَ الْمَدِينَة فَجَعَلَ يَسْأَل عَنْ مُتَشَابِه الْقُرْآن وَعَنْ أَشْيَاء ; فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَر فَأَحْضَرَهُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِين مِنْ عَرَاجِين النَّخْل . فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ لَهُ عُمَر : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا عَبْد اللَّه صَبِيغ . فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَأَنَا عَبْد اللَّه عُمَر ; ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ رَأْسه بِعُرْجُونٍ فَشَجَّهُ , ثُمَّ تَابَعَ ضَرْبه حَتَّى سَالَ دَمه عَلَى وَجْهه , فَقَالَ : حَسْبك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ وَاَللَّه ذَهَبَ مَا كُنْت أَجِد فِي رَأْسِي . وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات فِي أَدَبه , وَسَيَأْتِي ذِكْرهَا فِي " الذَّارِيَات " . ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَلْهَمَهُ التَّوْبَة وَقَذَفَهَا فِي قَلْبه فَتَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَته .
طَلَب الشُّبُهَات وَاللَّبْس عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُفْسِدُوا ذَات بَيْنهمْ , وَيَرُدُّوا النَّاس إِلَى زَيْغهمْ .
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : مَعْنَى " اِبْتِغَاء تَأْوِيله " أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْوِيل بَعْثهمْ وَإِحْيَائِهِمْ , فَأَعْلَمَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ تَأْوِيل ذَلِكَ وَوَقْته لَا يَعْلَمهُ إِلَّا اللَّه . قَالَ : وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيله يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله " أَيْ يَوْم يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ مِنْ الْبَعْث وَالنُّشُور وَالْعَذَاب " يَقُول الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْل " أَيْ تَرَكُوهُ - " قَدْ جَاءَتْ رُسُل رَبّنَا بِالْحَقِّ " [ الْأَعْرَاف : 43 ] أَيْ قَدْ رَأَيْنَا تَأْوِيل مَا أَنْبَأَتْنَا بِهِ الرُّسُل قَالَ : فَالْوَقْف عَلَى قَوْله تَعَالَى : " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه " أَيْ لَا يَعْلَم أَحَد مَتَى الْبَعْث إِلَّا اللَّه .
يُقَال : إِنَّ جَمَاعَة مِنْ الْيَهُود مِنْهُمْ حُيَيّ بْن أَخْطَب دَخَلُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : بَلَغَنَا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْك " الم " فَإِنْ كُنْت صَادِقًا فِي مَقَالَتك فَإِنَّ مُلْك أُمَّتك يَكُون إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَة ; لِأَنَّ الْأَلِف فِي حِسَاب الْجُمَّل وَاحِد , وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالْمِيم أَرْبَعُونَ , فَنَزَلَ " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه " . وَالتَّأْوِيل يَكُون بِمَعْنَى التَّفْسِير , كَقَوْلِك : تَأْوِيل هَذِهِ الْكَلِمَة عَلَى كَذَا . وَيَكُون بِمَعْنَى مَا يَؤُول الْأَمْر إِلَيْهِ . وَاشْتِقَاقه مِنْ آلَ الْأَمْر إِلَى كَذَا يَؤُول إِلَيْهِ , أَيْ صَارَ . وَأَوَّلْته تَأْوِيلًا أَيْ صَيَّرْته . وَقَدْ حَدَّهُ بَعْض الْفُقَهَاء فَقَالُوا : هُوَ إِبْدَاء اِحْتِمَال فِي اللَّفْظ مَقْصُود بِدَلِيلٍ خَارِج عَنْهُ . فَالتَّفْسِير بَيَان اللَّفْظ ; كَقَوْلِهِ " لَا رَيْب فِيهِ " [ الْبَقَرَة : 2 ] أَيْ لَا شَكَّ . وَأَصْله مِنْ الْفَسْر وَهُوَ الْبَيَان ; يُقَال : فَسَرْت الشَّيْء ( مُخَفَّفًا ) أَفْسِره ( بِالْكَسْرِ ) فَسْرًا . وَالتَّأْوِيل بَيَان الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْد الْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِأَنَّهُ حَقّ فِي نَفْسه فَلَا يَقْبَل ذَاته الشَّكّ وَإِنَّمَا الشَّكّ وَصْف الشَّاكّ . وَكَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس فِي الْجَدّ أَبًا لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " يَا بَنِي آدَم " .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم " هَلْ هُوَ اِبْتِدَاء كَلَام مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , أَوْ هُوَ مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْله فَتَكُون الْوَاو لِلْجَمْعِ . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنَّهُ مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , وَأَنَّ الْكَلَام تَمَّ عِنْد قَوْله " إِلَّا اللَّه " هَذَا قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَغَيْرهمْ , وَهُوَ مَذْهَب الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش وَالْفَرَّاء وَأَبِي عُبَيْد وَغَيْرهمْ . قَالَ أَبُو نَهِيك الْأَسَدِيّ : إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَة وَإِنَّهَا مَقْطُوعَة . وَمَا اِنْتَهَى عِلْم الرَّاسِخِينَ إِلَّا إِلَى قَوْلهمْ " آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا " . وَقَالَ مِثْل هَذَا عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , وَحَكَى الطَّبَرِيّ نَحْوه عَنْ يُونُس عَنْ أَشْهَب عَنْ مَالِك بْن أَنَس . وَ " يَقُولُونَ " عَلَى هَذَا خَبَر " الرَّاسِخُونَ " . قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَقَدْ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى آيَات كِتَابه الَّذِي أَمَرَنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيق بِمَا فِيهِ قِسْمَيْنِ : مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا ; فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِل : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَر مُتَشَابِهَات . .. إِلَى قَوْله : " كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا " فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَشَابِه مِنْ الْكِتَاب قَدْ اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِعِلْمِهِ , فَلَا يَعْلَم تَأْوِيله أَحَد غَيْره , ثُمَّ أَثْنَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْم بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ . وَلَوْلَا صِحَّة الْإِيمَان مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا الثَّنَاء عَلَيْهِ . وَمَذْهَب أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْوَقْف التَّامّ فِي هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا هُوَ عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه " وَأَنَّ مَا بَعْده اِسْتِئْنَاف كَلَام آخَر , وَهُوَ قَوْله " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ " . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَأُبَيّ بْن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة . وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ نَسَق " الرَّاسِخُونَ " عَلَى مَا قَبْله وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ . وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْض أَهْل اللُّغَة فَقَالَ : مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا ; وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِع " يَقُولُونَ " نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَعَامَّة أَهْل اللُّغَة يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ ; لِأَنَّ الْعَرَب لَا تُضْمِر الْفِعْل وَالْمَفْعُول مَعًا , وَلَا تَذْكُر حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُور الْفِعْل ; فَإِذَا لَمْ يَظْهَر فِعْل فَلَا يَكُون حَال ; وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَال : عَبْد اللَّه رَاكِبًا , بِمَعْنَى أَقْبَلَ عَبْد اللَّه رَاكِبًا ; وَإِنَّمَا يَجُوز ذَلِكَ مَعَ ذِكْر الْفِعْل كَقَوْلِهِ : عَبْد اللَّه يَتَكَلَّم يُصْلِح بَيْن النَّاس ; فَكَانَ " يُصْلِح " حَالًا ; كَقَوْلِ الشَّاعِر - أَنَشَدَنِيهِ أَبُو عُمَر قَالَ أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب - : أَرْسَلْت فِيهَا قَطِمًا لُكَالِكَا يَقْصُر يَمْشِي وَيَطُول بَارِكَا أَيْ يَقْصُر مَاشِيًا ; فَكَانَ قَوْل عَامَّة الْعُلَمَاء مَعَ مُسَاعَدَة مَذَاهِب النَّحْوِيِّينَ لَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْل مُجَاهِد وَحْده , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَنْفِيَ اللَّه سُبْحَانه شَيْئًا عَنْ الْخَلْق وَيُثْبِتهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يَكُون لَهُ فِي ذَلِكَ شَرِيك . أَلَا تَرَى قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " قُلْ لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه " [ النَّمْل : 65 ] وَقَوْله : " لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ " [ الْأَعْرَاف : 187 ] وَقَوْله : " كُلّ شَيْء هَالِك إِلَّا وَجْهه " [ الْقَصَص : 88 ] , فَكَانَ هَذَا كُلّه مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه سُبْحَانه بِعِلْمِهِ لَا يُشْرِكهُ فِيهِ غَيْره . وَكَذَلِكَ قَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى : " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه " . وَلَوْ كَانَتْ الْوَاو فِي قَوْله : " وَالرَّاسِخُونَ " لِلنَّسَقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ : " كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا " فَائِدَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
قُلْت : مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجَاهِد غَيْره فَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الرَّاسِخِينَ مَعْطُوف عَلَى اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْم الْمُتَشَابِه , وَأَنَّهُمْ مَعَ عِلْمهمْ بِهِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ; وَقَالَ الرَّبِيع وَمُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَغَيْرهمْ . وَ " يَقُولُونَ " عَلَى هَذَا التَّأْوِيل نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الرَّاسِخِينَ ; كَمَا قَالَ : الرِّيح تَبْكِي شَجْوَهَا وَالْبَرْق يَلْمَع فِي الْغَمَامَهْ وَهَذَا الْبَيْت يَحْتَمِل الْمَعْنَيَيْنِ ; فَيَجُوز أَنْ يَكُون " وَالْبَرْق " مُبْتَدَأ , وَالْخَبَر " يَلْمَع " عَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل , فَيَكُون مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْله . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْطُوفًا عَلَى الرِّيح , و " يَلْمَع " فِي مَوْضِع الْحَال عَلَى التَّأْوِيل الثَّانِي أَيْ لَامِعًا . وَاحْتَجَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة أَيْضًا بِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْم ; فَكَيْفَ يَمْدَحهُمْ وَهُمْ جُهَّال وَقَدْ قَالَ اِبْن عَبَّاس : ( أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله ) وَقَرَأَ مُجَاهِد هَذِهِ الْآيَة وَقَالَ : أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله ; حَكَاهُ عَنْهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي .
قُلْت : وَقَدْ رَدَّ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل إِلَى الْقَوْل الْأَوَّل فَقَالَ : وَتَقْدِير تَمَام الْكَلَام " عِنْد اللَّه " أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه يَعْنِي تَأْوِيل الْمُتَشَابِهَات , وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَ بَعْضه قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا بِمَا نَصَبَ مِنْ الدَّلَائِل فِي الْمُحْكَم وَمَكَّنَ مِنْ رَدّه إِلَيْهِ . فَإِذَا عَلِمُوا تَأْوِيل بَعْضه وَلَمْ يَعْلَمُوا الْبَعْض قَالُوا آمَنَّا بِالْجَمِيعِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا , وَمَا لَمْ يُحَطْ بِهِ عِلْمنَا مِنْ الْخَفَايَا مِمَّا فِي شَرْعِهِ الصَّالِح فَعِلْمه عِنْد رَبّنَا فَإِنْ قَالَ قَائِل : قَدْ أَشْكَلَ عَلَى الرَّاسِخِينَ بَعْض تَفْسِيره حَتَّى قَالَ اِبْن عَبَّاس : ( لَا أَدْرِي مَا الْأَوَّاه وَلَا مَا غِسْلِين ) قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يَلْزَم ; لِأَنَّ اِبْن عَبَّاس قَدْ عَلِمَ بَعْد ذَلِكَ فَفَسَّرَ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ . وَجَوَاب أَقْطَع مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانه لَمْ يَقُلْ وَكُلّ رَاسِخ فَيَجِب هَذَا فَإِذَا لَمْ يَعْلَمهُ أَحَد عَلِمَهُ الْآخَر . وَرَجَّحَ اِبْن فُورك أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيل وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ ; وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِابْنِ عَبَّاس : ( اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّين وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل ) مَا يُبَيِّن لَك ذَلِكَ , أَيْ عَلِّمْهُ مَعَانِي كِتَابك .
وَالْوَقْف عَلَى هَذَا يَكُون عِنْد قَوْله " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم " . قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عُمَر : وَهُوَ الصَّحِيح ; فَإِنَّ تَسْمِيَتهمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَر مِنْ الْمُحْكَم الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمه جَمِيع مَنْ يَفْهَم كَلَام الْعَرَب . وَفِي أَيّ شَيْء هُوَ رُسُوخهمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَم الْجَمِيع .
لَكِنَّ الْمُتَشَابِه يَتَنَوَّع , فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَم الْبَتَّة كَأَمْرِ الرُّوح وَالسَّاعَة مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِغَيْبِهِ , وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمه أَحَد لَا اِبْن عَبَّاس وَلَا غَيْره . فَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاء الْحُذَّاق بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْم الْمُتَشَابِه فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْع , وَأَمَّا مَا يُمْكِن حَمْله عَلَى وُجُوه فِي اللُّغَة وَمَنَاحٍ فِي كَلَام الْعَرَب فَيُتَأَوَّل وَيُعْلَم تَأْوِيله الْمُسْتَقِيم , وَيُزَال مَا فِيهِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَتَعَلَّق مِنْ تَأْوِيل غَيْر مُسْتَقِيم ; كَقَوْلِهِ فِي عِيسَى : " وَرُوح مِنْهُ " [ النِّسَاء : 171 ] إِلَى غَيْر ذَلِكَ فَلَا يُسَمَّى أَحَد رَاسِخًا إِلَّا أَنْ يَعْلَم مِنْ هَذَا النَّوْع كَثِيرًا بِحَسْب مَا قُدِّرَ لَهُ .
وَأَمَّا مَنْ يَقُول : إِنَّ الْمُتَشَابِه هُوَ الْمَنْسُوخ فَيَسْتَقِيم عَلَى قَوْله إِدْخَال الرَّاسِخِينَ فِي عِلْم التَّأْوِيل ; لَكِنَّ تَخْصِيصه الْمُتَشَابِهَات بِهَذَا النَّوْع غَيْر صَحِيح .
وَالرُّسُوخ : الثُّبُوت فِي الشَّيْء , وَكُلّ ثَابِت رَاسِخ . وَأَصْله فِي الْأَجْرَام أَنْ يَرْسَخ الْجَبَل وَالشَّجَر فِي الْأَرْض ; قَالَ الشَّاعِر : لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتهَا أَنْ تَغَيَّرَا وَرَسَخَ الْإِيمَان فِي قَلْب فُلَان يَرْسَخ رُسُوخًا . وَحَكَى بَعْضهمْ : رَسَخَ الْغَدِير : نَضَبَ مَاؤُهُ ; حَكَاهُ اِبْن فَارِس فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد . وَرَسَخَ وَرَضَخَ وَرَصَنَ وَرَسَبَ كُلّه ثَبَتَ فِيهِ . وَسُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْم فَقَالَ : ( هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينه وَصَدَقَ لِسَانه وَاسْتَقَامَ قَلْبه ) . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ كَانَ فِي الْقُرْآن مُتَشَابِه وَاَللَّه يَقُول : " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْك الذِّكْر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ " [ النَّحْل : 44 ] فَكَيْفَ لَمْ يَجْعَلهُ كُلّه وَاضِحًا ؟ قِيلَ لَهُ : الْحِكْمَة فِي ذَلِكَ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنْ يَظْهَر فَضْل الْعُلَمَاء ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلّه وَاضِحًا لَمْ يَظْهَر فَضْل بَعْضهمْ عَلَى بَعْض . وَهَكَذَا يَفْعَل مَنْ يُصَنِّف تَصْنِيفًا يَجْعَل بَعْضه وَاضِحًا وَبَعْضه مُشْكِلًا , وَيَتْرُك لِلْجُثْوَةِ مَوْضِعًا ; لِأَنَّ مَا هَانَ وُجُوده قَلَّ بَهَاؤُهُ . وَاَللَّه أَعْلَم .
فِيهِ ضَمِير عَائِد عَلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى مُحْكَمه وَمُتَشَابِهه ; وَالتَّقْدِير : كُلّه مِنْ عِنْد رَبّنَا . وَحَذَفَ الضَّمِير لِدَلَالَةِ " كُلّ " عَلَيْهِ ; إِذْ هِيَ لَفْظَة تَقْتَضِي الْإِضَافَة .
أَيْ مَا يَقُول هَذَا وَيُؤْمِن وَيَقِف حَيْثُ وَقَفَ وَيَدَع اِتِّبَاع الْمُتَشَابِه إِلَّا ذُو لُبّ , وَهُوَ الْعَقْل . وَلُبّ كُلّ شَيْء خَالِصه ; فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْعَقْلِ لُبّ . وَ " أُولُو " جَمْع ذُو .
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ↓
فِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره يَقُولُونَ . وَهَذَا حِكَايَة عَنْ الرَّاسِخِينَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّد , وَيُقَال : إِزَاغَة الْقَلْب فَسَاد وَمَيْل عَنْ الدِّين , أَفَكَانُوا يَخَافُونَ وَقَدْ هُدُوا أَنْ يَنْقُلهُمْ اللَّه إِلَى الْفَسَاد ؟ فَالْجَوَاب أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوا إِذْ هَدَاهُمْ اللَّه أَلَّا يَبْتَلِيهِمْ بِمَا يَثْقُل عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَعْمَال فَيَعْجِزُوا عَنْهُ ; نَحْو " وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ . .. " [ النِّسَاء : 66 ] . قَالَ اِبْن كَيْسَان : سَأَلُوا أَلَّا يَزِيغُوا فَيُزِيغ اللَّه قُلُوبهمْ ; نَحْو " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ . .. " [ الصَّفّ : 5 ] أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى هِدَايَتك إِذْ هَدَيْتنَا وَأَلَّا نَزِيغ فَنَسْتَحِقّ أَنْ تُزِيغ قُلُوبنَا . وَقِيلَ : هُوَ مُنْقَطِع مِمَّا قَبْل ; وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَهْل الزَّيْغ . عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ عَلَّمَ عِبَاده الدُّعَاء إِلَيْهِ فِي أَلَّا يَكُونُوا مِنْ الطَّائِفَة الذَّمِيمَة الَّتِي ذُكِرَتْ وَهِيَ أَهْل الزَّيْغ .
وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه الصُّنَابِحِيّ أَنَّهُ قَالَ : قَدِمْت الْمَدِينَة فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فَصَلَّيْت وَرَاءَهُ الْمَغْرِب , فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآن وَسُورَة مِنْ قِصَار الْمُفَصَّل , ثُمَّ قَامَ فِي الثَّالِثَة , فَدَنَوْت مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِي لَتَكَاد تَمَسّ ثِيَابه , فَسَمِعْته يَقْرَأ بِأُمِّ الْقُرْآن وَهَذِهِ الْآيَة " رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا " الْآيَة . قَالَ الْعُلَمَاء : قِرَاءَته بِهَذِهِ الْآيَة ضَرْب مِنْ الْقُنُوت وَالدُّعَاء لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْر أَهْل الرِّدَّة . وَالْقُنُوت جَائِز فِي الْمَغْرِب عِنْد جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم , وَفِي كُلّ صَلَاة أَيْضًا إِذَا دَهَمَ الْمُسْلِمِينَ أَمْر عَظِيم يُفْزِعهُمْ وَيَخَافُونَ مِنْهُ عَلَى أَنْفُسهمْ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث شَهْر بْن حَوْشَب قَالَ : قُلْت لِأُمِّ سَلَمَة : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , مَا كَانَ أَكْثَر دُعَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدك ؟ قَالَتْ : كَانَ أَكْثَر دُعَائِهِ ( يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك ) . فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه , مَا أَكْثَر دُعَاءَك يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك قَالَ : ( يَا أُمّ سَلَمَة إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيّ إِلَّا وَقَلْبه بَيْن أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِع اللَّه فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ ) . فَتَلَا مُعَاذ " رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا بَعْد إِذْ هَدَيْتنَا " . قَالَ : حَدِيث حَسَن . وَهَذِهِ الْآيَة حُجَّة عَلَى الْمُعْتَزِلَة فِي قَوْلهمْ : إِنَّ اللَّه لَا يُضِلّ الْعِبَاد . وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِزَاغَة مِنْ قَبْله لَمَا جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ فِي دَفْع مَا لَا يَجُوز عَلَيْهِ فِعْله . وَقَرَأَ أَبُو وَاقِد الْجَرَّاح " لَا تَزِغْ قُلُوبنَا " بِإِسْنَادِ الْفِعْل إِلَى الْقُلُوب , وَهَذِهِ رَغْبَة إِلَى اللَّه تَعَالَى . وَمَعْنَى الْآيَة عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَلَّا يَكُون مِنْك خَلْق الزَّيْغ فِيهَا فَتَزِيغ .
أَيْ مِنْ عِنْدك وَمِنْ قِبَلك تَفَضُّلًا لَا عَنْ سَبَب مِنَّا وَلَا عَمَل . وَفِي هَذَا اِسْتِسْلَام وَتَطَارُح . وَفِي " لَدُنْ " أَرْبَع لُغَات : لَدُنْ بِفَتْحِ اللَّام وَضَمّ الدَّال وَجَزْم النُّون , وَهِيَ أَفْصَحهَا , وَبِفَتْحِ اللَّام وَضَمّ الدَّال وَحَذْف النُّون ; وَبِضَمِّ اللَّام وَجَزْم الدَّال وَفَتْح النُّون ; وَبِفَتْحِ اللَّام وَسُكُون الدَّال وَفَتْح النُّون .
وَلَعَلَّ جُهَّال الْمُتَصَوِّفَة وَزَنَادِقَة الْبَاطِنِيَّة يَتَشَبَّثُونَ بِهَذِهِ الْآيَة وَأَمْثَالهَا فَيَقُولُونَ : الْعِلْم مَا وَهَبَهُ اللَّه اِبْتِدَاء مِنْ غَيْر كَسْب , وَالنَّظَر فِي الْكُتُب وَالْأَوْرَاق حِجَاب . وَهَذَا مَرْدُود عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي هَذَا الْمَوْضِع .
وَمَعْنَى الْآيَة : هَبْ لَنَا نَعِيمًا صَادِرًا عَنْ الرَّحْمَة ; لِأَنَّ الرَّحْمَة رَاجِعَة إِلَى صِفَة الذَّات فَلَا يُتَصَوَّر فِيهَا الْهِبَة يُقَال وَهَبَ يَهَب ; وَالْأَصْل يُوهِب بِكَسْرِ الْهَاء . وَمَنْ قَالَ : الْأَصْل يُوهَب بِفَتْحِ الْهَاء فَقَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ تُحْذَف الْوَاو كَمَا لَمْ تُحْذَف فِي يَوْجَل وَإِنَّمَا حُذِفَتْ الْوَاو لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاء وَكَسْرَة ثُمَّ فُتِحَ بَعْد حَذْفهَا لِأَنَّ فِيهِ حَرْفًا مِنْ حُرُوف الْحَلْق .
وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه الصُّنَابِحِيّ أَنَّهُ قَالَ : قَدِمْت الْمَدِينَة فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فَصَلَّيْت وَرَاءَهُ الْمَغْرِب , فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآن وَسُورَة مِنْ قِصَار الْمُفَصَّل , ثُمَّ قَامَ فِي الثَّالِثَة , فَدَنَوْت مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِي لَتَكَاد تَمَسّ ثِيَابه , فَسَمِعْته يَقْرَأ بِأُمِّ الْقُرْآن وَهَذِهِ الْآيَة " رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا " الْآيَة . قَالَ الْعُلَمَاء : قِرَاءَته بِهَذِهِ الْآيَة ضَرْب مِنْ الْقُنُوت وَالدُّعَاء لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْر أَهْل الرِّدَّة . وَالْقُنُوت جَائِز فِي الْمَغْرِب عِنْد جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم , وَفِي كُلّ صَلَاة أَيْضًا إِذَا دَهَمَ الْمُسْلِمِينَ أَمْر عَظِيم يُفْزِعهُمْ وَيَخَافُونَ مِنْهُ عَلَى أَنْفُسهمْ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث شَهْر بْن حَوْشَب قَالَ : قُلْت لِأُمِّ سَلَمَة : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , مَا كَانَ أَكْثَر دُعَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدك ؟ قَالَتْ : كَانَ أَكْثَر دُعَائِهِ ( يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك ) . فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه , مَا أَكْثَر دُعَاءَك يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك قَالَ : ( يَا أُمّ سَلَمَة إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيّ إِلَّا وَقَلْبه بَيْن أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِع اللَّه فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ ) . فَتَلَا مُعَاذ " رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا بَعْد إِذْ هَدَيْتنَا " . قَالَ : حَدِيث حَسَن . وَهَذِهِ الْآيَة حُجَّة عَلَى الْمُعْتَزِلَة فِي قَوْلهمْ : إِنَّ اللَّه لَا يُضِلّ الْعِبَاد . وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِزَاغَة مِنْ قَبْله لَمَا جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ فِي دَفْع مَا لَا يَجُوز عَلَيْهِ فِعْله . وَقَرَأَ أَبُو وَاقِد الْجَرَّاح " لَا تَزِغْ قُلُوبنَا " بِإِسْنَادِ الْفِعْل إِلَى الْقُلُوب , وَهَذِهِ رَغْبَة إِلَى اللَّه تَعَالَى . وَمَعْنَى الْآيَة عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَلَّا يَكُون مِنْك خَلْق الزَّيْغ فِيهَا فَتَزِيغ .
أَيْ مِنْ عِنْدك وَمِنْ قِبَلك تَفَضُّلًا لَا عَنْ سَبَب مِنَّا وَلَا عَمَل . وَفِي هَذَا اِسْتِسْلَام وَتَطَارُح . وَفِي " لَدُنْ " أَرْبَع لُغَات : لَدُنْ بِفَتْحِ اللَّام وَضَمّ الدَّال وَجَزْم النُّون , وَهِيَ أَفْصَحهَا , وَبِفَتْحِ اللَّام وَضَمّ الدَّال وَحَذْف النُّون ; وَبِضَمِّ اللَّام وَجَزْم الدَّال وَفَتْح النُّون ; وَبِفَتْحِ اللَّام وَسُكُون الدَّال وَفَتْح النُّون .
وَلَعَلَّ جُهَّال الْمُتَصَوِّفَة وَزَنَادِقَة الْبَاطِنِيَّة يَتَشَبَّثُونَ بِهَذِهِ الْآيَة وَأَمْثَالهَا فَيَقُولُونَ : الْعِلْم مَا وَهَبَهُ اللَّه اِبْتِدَاء مِنْ غَيْر كَسْب , وَالنَّظَر فِي الْكُتُب وَالْأَوْرَاق حِجَاب . وَهَذَا مَرْدُود عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي هَذَا الْمَوْضِع .
وَمَعْنَى الْآيَة : هَبْ لَنَا نَعِيمًا صَادِرًا عَنْ الرَّحْمَة ; لِأَنَّ الرَّحْمَة رَاجِعَة إِلَى صِفَة الذَّات فَلَا يُتَصَوَّر فِيهَا الْهِبَة يُقَال وَهَبَ يَهَب ; وَالْأَصْل يُوهِب بِكَسْرِ الْهَاء . وَمَنْ قَالَ : الْأَصْل يُوهَب بِفَتْحِ الْهَاء فَقَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ تُحْذَف الْوَاو كَمَا لَمْ تُحْذَف فِي يَوْجَل وَإِنَّمَا حُذِفَتْ الْوَاو لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاء وَكَسْرَة ثُمَّ فُتِحَ بَعْد حَذْفهَا لِأَنَّ فِيهِ حَرْفًا مِنْ حُرُوف الْحَلْق .
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ↓
أَيْ بَاعِثهمْ وَمُحْيِيهمْ بَعْد تَفَرُّقهمْ , وَفِي هَذَا إِقْرَار بِالْبَعْثِ لِيَوْمِ الْقِيَامَة . قَالَ الزَّجَّاج : هَذَا هُوَ التَّأْوِيل الَّذِي عَلِمَهُ الرَّاسِخُونَ وَأَقَرُّوا بِهِ , وَخَالَفَ الَّذِينَ اِتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْر الْبَعْث حَتَّى أَنْكَرُوهُ . وَالرَّيْب الشَّكّ , وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَحَامِله فِي الْبَقَرَة . وَالْمِيعَاد مِفْعَال مِنْ الْوَعْد .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ↓
مَعْنَاهُ بَيِّنٌ , أَيْ لَنْ تَدْفَع عَنْهُمْ أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ مِنْ عَذَاب اللَّه شَيْئًا . وَقَرَأَ السُّلَمِيّ " لَنْ يُغْنِيَ " بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْل وَدُخُول الْحَائِل بَيْنَ الِاسْم وَالْفِعْل . وَقَرَأَ الْحَسَن " يُغْنِي " بِالْيَاءِ وَسُكُون الْيَاء الْآخِرَة لِلتَّخْفِيفِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِر : كَفَى بِالْيَأْسِ مِنْ أَسْمَاء كَافِي وَلَيْسَ لِسُقْمِهَا إِذْ طَالَ شَافِي وَكَانَ حَقّه أَنْ يَقُول كَافِيًا , فَأَرْسَلَ الْيَاء . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء فِي مِثْله : كَأَنَّ أَيْدِيهنَّ بِالْقَاعِ الْقَرِق أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الْوَرِق الْقَرِق وَالْقَرِقَة لُغَتَانِ فِي الْقَاع . و " مِنْ " فِي قَوْله " مِنْ اللَّه " بِمَعْنَى عِنْد ; قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَة .
وَالْوُقُود اِسْم لِلْحَطَبِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . وَقَرَأَ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف " وُقُود " بِضَمِّ الْوَاو عَلَى حَذْف مُضَاف تَقْدِيره حَطَب وُقُود النَّار . وَيَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة إِذَا ضُمَّ الْوَاو أَنْ تَقُول أُقُود مِثْل أُقِّتَتَ . وَالْوُقُود بِضَمِّ الْوَاو الْمَصْدَر ; وُقِدَتْ النَّار تَقِد إِذَا اِشْتَعَلَتْ . وَخَرَّجَ اِبْن الْمُبَارَك مِنْ حَدِيث الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَظْهَر هَذَا الدِّين حَتَّى يُجَاوِز الْبِحَار وَحَتَّى تُخَاض الْبِحَار بِالْخَيْلِ فِي سَبِيل اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ يَأْتِي أَقْوَام يَقْرَءُونَ الْقُرْآن فَإِذَا قَرَءُوهُ قَالُوا مَنْ أَقْرَأ مِنَّا مَنْ أَعْلَمَ مِنَّا ؟ ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ : هَلْ تَرَوْنَ فِي أُوْلَئِكُمْ مِنْ خَيْر ) ؟ قَالُوا لَا . قَالَ : ( أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُود النَّار ) .
وَالْوُقُود اِسْم لِلْحَطَبِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . وَقَرَأَ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف " وُقُود " بِضَمِّ الْوَاو عَلَى حَذْف مُضَاف تَقْدِيره حَطَب وُقُود النَّار . وَيَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة إِذَا ضُمَّ الْوَاو أَنْ تَقُول أُقُود مِثْل أُقِّتَتَ . وَالْوُقُود بِضَمِّ الْوَاو الْمَصْدَر ; وُقِدَتْ النَّار تَقِد إِذَا اِشْتَعَلَتْ . وَخَرَّجَ اِبْن الْمُبَارَك مِنْ حَدِيث الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَظْهَر هَذَا الدِّين حَتَّى يُجَاوِز الْبِحَار وَحَتَّى تُخَاض الْبِحَار بِالْخَيْلِ فِي سَبِيل اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ يَأْتِي أَقْوَام يَقْرَءُونَ الْقُرْآن فَإِذَا قَرَءُوهُ قَالُوا مَنْ أَقْرَأ مِنَّا مَنْ أَعْلَمَ مِنَّا ؟ ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ : هَلْ تَرَوْنَ فِي أُوْلَئِكُمْ مِنْ خَيْر ) ؟ قَالُوا لَا . قَالَ : ( أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُود النَّار ) .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ↓
الدَّأْب الْعَادَة وَالشَّأْن . وَدَأَبَ الرَّجُل فِي عَمَله يَدْأَب دَأَبًا وَدُءُوبًا إِذَا جَدَّ وَاجْتَهَدَ , وَأَدْأَبْته أَنَا . وَأَدْأَبَ بَعِيره إِذَا جَهِدَه فِي السَّيْر . وَالدَّائِبَانِ اللَّيْل وَالنَّهَار . قَالَ أَبُو حَاتِم : وَسَمِعْت يَعْقُوب يَذْكُر " كَدَأَبِ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة , وَقَالَ لِي وَأَنَا غُلَيِّم : عَلَى أَيّ شَيْء يَجُوز " كَدَأَبِ " ؟ فَقُلْت لَهُ : أَظُنّهُ مِنْ دَئِبَ يَدْأَب دَأَبًا . فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي وَتَعَجَّبَ مِنْ جَوْدَة تَقْدِيرِي عَلَى صِغَرِي ; وَلَا أَدْرِي أَيُقَالُ أَمْ لَا . قَالَ النَّحَّاس : " وَهَذَا الْقَوْل خَطَأ , لَا يُقَال الْبَتَّة دَئِبَ ; وَإِنَّمَا يُقَال : دَأَبَ يَدْأَب دُءُوبًا وَدَأْبًا ; هَكَذَا حَكَى النَّحْوِيُّونَ , مِنْهُمْ الْفَرَّاء حَكَاهُ فِي كِتَاب الْمَصَادِر ; كَمَا قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : كَدَأْبِك مِنْ أُمّ الْحُوَيْرِث قَبْلهَا وَجَازَتْهَا أُمّ الرَّبَاب بِمَأْسَلِ فَأَمَّا الدَّأَب فَإِنَّهُ يَجُوز ; كَمَا يُقَال : شَعْر وَشَعَر وَنَهْر وَنَهَر ; لِأَنَّ فِيهِ حَرْفًا مِنْ " حُرُوف الْحَلْق " . وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَاف ; فَقِيلَ : هِيَ فِي مَوْضِع رَفْع تَقْدِيره دَأْبهمْ كَدَأْبِ آل فِرْعَوْن , أَيْ صَنِيع الْكُفَّار مَعَك كَصَنِيعِ آل فِرْعَوْن مَعَ مُوسَى . وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ الْمَعْنَى : كَفَرَتْ الْعَرَب كَكُفْرِ آل فِرْعَوْن . قَالَ النَّحَّاس : لَا يَجُوز أَنْ تَكُون الْكَاف مُتَعَلِّقَة بِكَفَرُوا , لِأَنَّ كَفَرُوا دَاخِلَة فِي الصِّلَة . وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة ب " أَخَذَهُمْ اللَّه " , أَيْ أَخَذَهُمْ أَخْذًا كَمَا أَخَذَ آل فِرْعَوْن . وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ . .. " [ آل عِمْرَان : 10 ] أَيْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَمَا لَمْ تُغْنِ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد عَنْ آل فِرْعَوْن . وَهَذَا جَوَاب لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجِهَاد وَقَالَ : شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا وَأَهْلُونَا . وَيَصِحّ أَنْ يَعْمَل فِيهِ فِعْل مُقَدَّر مِنْ لَفْظ الْوَقُود , وَيَكُون التَّشْبِيه فِي نَفْس الِاحْتِرَاق . وَيُؤَيِّد هَذَا الْمَعْنَى " ... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْن سُوء الْعَذَاب . " النَّار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْم تَقُوم السَّاعَة أَدْخِلُوا آل فِرْعَوْن أَشَدّ الْعَذَاب " [ الْمُؤْمِن : 46 ] . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَرْجَح , وَاخْتَارَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ الْعُلَمَاء . قَالَ اِبْن عَرَفَة : " كَدَأْبِ آل فِرْعَوْن " أَيْ كَعَادَةِ آل فِرْعَوْن . يَقُول : اِعْتَادَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة الْإِلْحَاد وَالْإِعْنَات لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اِعْتَادَ آل فِرْعَوْن مِنْ إِعْنَات الْأَنْبِيَاء ; وَقَالَ مَعْنَاهُ الْأَزْهَرِيّ .
فَأَمَّا قَوْله فِي سُورَة ( الْأَنْفَال ) " كَدَأْبِ آل فِرْعَوْن " فَالْمَعْنَى جُوزِيَ هَؤُلَاءِ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْر كَمَا جُوزِيَ آل فِرْعَوْن بِالْغَرَقِ وَالْهَلَاك .
يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد الْآيَات الْمَتْلُوَّة , وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد الْآيَات الْمَنْصُوبَة لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّة .
فَأَمَّا قَوْله فِي سُورَة ( الْأَنْفَال ) " كَدَأْبِ آل فِرْعَوْن " فَالْمَعْنَى جُوزِيَ هَؤُلَاءِ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْر كَمَا جُوزِيَ آل فِرْعَوْن بِالْغَرَقِ وَالْهَلَاك .
يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد الْآيَات الْمَتْلُوَّة , وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد الْآيَات الْمَنْصُوبَة لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّة .
يَعْنِي الْيَهُود , قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : لَمَّا أَصَابَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ وَقَدِمَ الْمَدِينَة جَمَعَ الْيَهُود فَقَالَ : ( يَا مَعْشَر الْيَهُود اِحْذَرُوا مِنْ اللَّه مِثْل مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ يَوْم بَدْر قَبْل أَنْ يَنْزِل بِكُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ فَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيّ مُرْسَل تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابكُمْ وَعَهْد اللَّه إِلَيْكُمْ ) , فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد , لَا يَغُرَّنَّك أَنَّك قَتَلْت أَقْوَامًا أَغْمَارًا لَا عِلْم لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَأَصَبْت فِيهِمْ فُرْصَة وَاَللَّه لَوْ قَاتَلْتنَا لَعَرَفْت أَنَّا نَحْنُ النَّاس . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ " بِالتَّاءِ يَعْنِي الْيَهُود : أَيْ تُهْزَمُونَ
فِي الْآخِرَة . فَهَذِهِ رِوَايَة عِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَفِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْهُ أَنَّ الْيَهُود لَمَّا فَرِحُوا بِمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْم أُحُد نَزَلَتْ . فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا " سَيُغْلَبُونَ " بِالْيَاءِ , يَعْنِي قُرَيْشًا , " وَيُحْشَرُونَ " بِالْيَاءِ فِيهِمَا , وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع .
يَعْنِي جَهَنَّم ; هَذَا ظَاهِر الْآيَة . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى بِئْسَ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ , فَكَأَنَّ الْمَعْنَى : بِئْسَ فِعْلهمْ الَّذِي أَدَّاهُمْ إِلَى جَهَنَّم .
فِي الْآخِرَة . فَهَذِهِ رِوَايَة عِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَفِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْهُ أَنَّ الْيَهُود لَمَّا فَرِحُوا بِمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْم أُحُد نَزَلَتْ . فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا " سَيُغْلَبُونَ " بِالْيَاءِ , يَعْنِي قُرَيْشًا , " وَيُحْشَرُونَ " بِالْيَاءِ فِيهِمَا , وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع .
يَعْنِي جَهَنَّم ; هَذَا ظَاهِر الْآيَة . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى بِئْسَ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ , فَكَأَنَّ الْمَعْنَى : بِئْسَ فِعْلهمْ الَّذِي أَدَّاهُمْ إِلَى جَهَنَّم .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِ ↓
أَيْ عَلَامَة . وَقَالَ " كَانَ " وَلَمْ يَقُلْ " كَانَتْ " لِأَنَّ " آيَة " تَأْنِيثهَا غَيْر حَقِيقِيّ . وَقِيلَ : رَدَّهَا إِلَى الْبَيَان , أَيْ قَدْ كَانَ لَكُمْ بَيَان ; فَذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى وَتَرَكَ اللَّفْظ ; كَقَوْلِ اِمْرِئِ الْقَيْس : بَرَهْرَهَةٌ رُؤْدَة رَخْصَة كَخُرْعُوبَة الْبَانَة الْمُنْفَطِر وَلَمْ يَقُلْ الْمُنْفَطِرَة ; لِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْقَضِيب . وَقَالَ الْفَرَّاء : ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنهمَا بِالصِّفَةِ , فَلَمَّا حَالَتْ الصِّفَة بَيْنَ الِاسْم وَالْفِعْل ذَكَرَ الْفِعْل . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَة فِي قَوْله تَعَالَى : " كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدكُمْ الْمَوْت إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة " [ الْبَقَرَة : 180 ]
يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ يَوْم بَدْر " فِئَة " قَرَأَ الْجُمْهُور " فِئَة " بِالرَّفْعِ , بِمَعْنَى إِحْدَاهُمَا فِئَة . وَقَرَأَ الْحَسَن وَمُجَاهِد " فِئَة " بِالْخَفْضِ " وَأُخْرَى كَافِرَة " عَلَى الْبَدَل . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة بِالنَّصْبِ فِيهِمَا . قَالَ أَحْمَد بْن يَحْيَى : وَيَجُوز النَّصْب عَلَى الْحَال , أَيْ اِلْتَقَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ مُؤْمِنَة وَكَافِرَة . قَالَ الزَّجَّاج : النَّصْب بِمَعْنَى أَعْنِي . وَسُمِّيَتْ الْجَمَاعَة مِنْ النَّاس فِئَة لِأَنَّهَا يُفَاء إِلَيْهَا , أَيْ يُرْجَع إِلَيْهَا فِي وَقْت الشِّدَّة . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْفِئَة الْفِرْقَة , مَأْخُوذَة مِنْ فَأَوْتُ رَأْسه بِالسَّيْفِ - وَيُقَال : فَأَيْته - إِذَا فَلَقْته . وَلَا خِلَاف أَنَّ الْإِشَارَة بِهَاتَيْنِ الْفِئَتَيْنِ هِيَ إِلَى يَوْم بَدْر . وَاخْتُلِفَ مَنْ الْمُخَاطَب بِهَا ; فَقِيلَ : يَحْتَمِل أَنْ يُخَاطَب بِهَا الْمُؤْمِنُونَ , وَيَحْتَمِل أَنْ يُخَاطَب بِهَا جَمِيع الْكُفَّار , وَيَحْتَمِل أَنْ يُخَاطَب بِهَا يَهُود الْمَدِينَة ; وَبِكُلِّ اِحْتِمَال مِنْهَا قَدْ قَالَ قَوْم . وَفَائِدَة الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيت النُّفُوس وَتَشْجِيعهَا حَتَّى يَقْدَمُوا عَلَى مِثْلَيْهِمْ وَأَمْثَالهمْ كَمَا قَدْ وَقَعَ .
قَالَ أَبُو عَلِيّ الرُّؤْيَة فِي هَذِهِ الْآيَة رُؤْيَة عَيْن ; وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُول وَاحِد . قَالَ مَكِّيّ وَالْمَهْدَوِيّ : يَدُلّ عَلَيْهِ " رَأْي الْعَيْن " . وَقَرَأَ نَافِع " تَرَوْنَهُمْ " بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ . " مِثْلَيْهِمْ " نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الْهَاء وَالْمِيم فِي " تَرَوْنَهُمْ " . وَالْجُمْهُور مِنْ النَّاس عَلَى أَنَّ الْفَاعِل بِتَرَوْنَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , وَالضَّمِير الْمُتَّصِل هُوَ لِلْكُفَّارِ . وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرو أَنْ يُقْرَأ " تَرَوْنَهُمْ " بِالتَّاءِ ; قَالَ : وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِثْلَيْكُمْ . قَالَ النَّحَّاس " وَذَا لَا يَلْزَم , وَلَكِنْ يَجُوز أَنْ يَكُون مِثْلَيْ أَصْحَابكُمْ . قَالَ مَكِّيّ : " تَرَوْنَهُمْ " بِالتَّاءِ جَرَى عَلَى الْخِطَاب فِي " لَكُمْ " فَيَحْسُن أَنْ يَكُون الْخِطَاب لِلْمُسْلِمِينَ , وَالْهَاء وَالْمِيم لِلْمُشْرِكِينَ . وَقَدْ كَانَ يَلْزَم مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ أَنْ يَقْرَأ مِثْلَيْكُمْ بِالْكَافِ , وَذَلِكَ لَا يَجُوز لِمُخَالَفَةِ الْخَطّ ; وَلَكِنْ جَرَى الْكَلَام عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِطَاب إِلَى الْغَيْبَة , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ " [ يُونُس : 22 ] , وَقَوْله تَعَالَى : " وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاة " [ الرُّوم : 39 ] فَخَاطَبَ ثُمَّ قَالَ : " فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ " [ الرُّوم : 39 ] فَرَجَعَ إِلَى الْغَيْبَة . فَالْهَاء وَالْمِيم فِي " مِثْلَيْهِمْ " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ , أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَد ; وَهُوَ بَعِيد فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُكَثِّر الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُن الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَعْلَمَنَا أَنَّهُ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُن الْمُؤْمِنِينَ , فَيَكُون الْمَعْنَى تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْكُمْ فِي الْعَدَد وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَة أَمْثَالهمْ , فَقَلَّلَ اللَّه الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُن الْمُسْلِمِينَ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ مِثْلَيْ عِدَّتهمْ لِتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ وَيَقَع التَّجَاسُر , وَقَدْ كَانُوا أُعْلِمُوا أَنَّ الْمِائَة مِنْهُمْ تَغْلِب الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْكُفَّار , وَقَلَّلَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُن الْمُشْرِكِينَ لِيَجْتَرِئُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْفُذ حُكْم اللَّه فِيهِمْ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الضَّمِير فِي " مِثْلَيْهِمْ " لِلْمُسْلِمِينَ , أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَد , أَيْ تَرَوْنَ أَنْفُسكُمْ مِثْلَيْ عَدَدكُمْ ; فَعَلَ اللَّه ذَلِكَ بِهِمْ لِتَقْوَى أَنْفُسهمْ عَلَى لِقَاء الْمُشْرِكِينَ . وَالتَّأْوِيل الْأَوَّل أَوْلَى ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّه فِي مَنَامك قَلِيلًا " [ الْأَنْفَال : 43 ] وَقَوْله : " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنكُمْ قَلِيلًا " [ الْأَنْفَال : 44 ] وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : قُلْت لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي : أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ ؟ قَالَ : أَظُنّهُمْ مِائَة فَلَمَّا أَخَذْنَا الْأُسَارَى أَخْبَرُونَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ قَالُوا : بَلْ كَثَّرَ اللَّه عَدَد الْمُؤْمِنِينَ فِي عُيُون الْكَافِرِينَ حَتَّى كَانُوا عِنْدهمْ ضِعْفَيْنِ . وَضَعَّفَ الطَّبَرِيّ هَذَا الْقَوْل . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْدُود مِنْ جِهَات . بَلْ قَلَّلَ اللَّه الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُن الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل كَانَ يَكُون " تَرَوْنَ " لِلْكَافِرِينَ , أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْكَافِرُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْهِمْ , وَيَحْتَمِل مِثْلَيْكُمْ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ الْمَعْنَى تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ثَلَاثَة أَمْثَالهمْ . وَهُوَ بَعِيد غَيْر مَعْرُوف فِي اللُّغَة . قَالَ الزَّجَّاج : وَهَذَا بَاب الْغَلَط , فِيهِ غَلَط فِي جَمِيع الْمَقَايِيس ; لِأَنَّا إِنَّمَا نَعْقِل مِثْل الشَّيْء مُسَاوِيًا لَهُ , وَنَعْقِل مِثْله مَا يُسَاوِيه مَرَّتَيْنِ . قَالَ اِبْن كَيْسَان : وَقَدْ بَيَّنَ الْفَرَّاء قَوْله بِأَنْ قَالَ : كَمَا تَقُول وَعِنْدك عَبْد : أَحْتَاج إِلَى مِثْله , فَأَنْتَ مُحْتَاج إِلَيْهِ وَإِلَى مِثْله . وَتَقُول : أَحْتَاج إِلَى مِثْلَيْهِ , فَأَنْتَ مُحْتَاج إِلَى ثَلَاثَة . وَالْمَعْنَى عَلَى خِلَاف مَا قَالَهُ , وَاللُّغَة . وَاَلَّذِي أَوْقَعَ الْفَرَّاء فِي هَذَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا ثَلَاثَة أَمْثَال الْمُؤْمِنِينَ يَوْم بَدْر ; فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُمْ إِلَّا عَلَى عِدَّتهمْ , وَهَذَا بَعِيد وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا أَرَاهُمْ اللَّه عَلَى غَيْر عُدّتهمْ لِجِهَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ رَأَى الصَّلَاح فِي ذَلِكَ , لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقْوَى قُلُوبهمْ بِذَلِكَ . وَالْأُخْرَى أَنَّهُ آيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَسَيَأْتِي ذِكْر وَقْعَة بَدْر إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا قِرَاءَة الْيَاء فَقَالَ اِبْن كَيْسَان : الْهَاء وَالْمِيم فِي " يَرَوْنَهُمْ " عَائِدَة عَلَى " وَأُخْرَى كَافِرَة " وَالْهَاء وَالْمِيم فِي " مِثْلَيْهِمْ " عَائِدَة عَلَى " فِئَة تُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه " وَهَذَا مِنْ الْإِضْمَار الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام , وَهُوَ قَوْله : " يُؤَيِّد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاء " . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا مِثْلَيْ الْمُسْلِمِينَ فِي رَأْي الْعَيْن وَثَلَاثَة أَمْثَالهمْ فِي الْعَدَد . قَالَ : وَالرُّؤْيَة هُنَا لِلْيَهُودِ . وَقَالَ مَكِّيّ : الرُّؤْيَة لِلْفِئَةِ الْمُقَاتِلَة فِي سَبِيل اللَّه , وَالْمَرْئِيَّة الْفِئَة الْكَافِرَة ; أَيْ تَرَى الْفِئَة الْمُقَاتِلَة فِي سَبِيل اللَّه الْفِئَة الْكَافِرَة مِثْلَيْ الْفِئَة الْمُؤْمِنَة , وَقَدْ كَانَتْ الْفِئَة الْكَافِرَة ثَلَاثَة أَمْثَال الْمُؤْمِنَة فَقَلَّلَهُمْ اللَّه فِي أَعْيُنهمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَالْخِطَاب فِي " لَكُمْ " لِلْيَهُودِ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَطَلْحَة " تُرَوْنَهُمْ " بِضَمِّ التَّاء , وَالسُّلَمِيّ بِالتَّاءِ الْمَضْمُومَة عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله .
يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ يَوْم بَدْر " فِئَة " قَرَأَ الْجُمْهُور " فِئَة " بِالرَّفْعِ , بِمَعْنَى إِحْدَاهُمَا فِئَة . وَقَرَأَ الْحَسَن وَمُجَاهِد " فِئَة " بِالْخَفْضِ " وَأُخْرَى كَافِرَة " عَلَى الْبَدَل . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة بِالنَّصْبِ فِيهِمَا . قَالَ أَحْمَد بْن يَحْيَى : وَيَجُوز النَّصْب عَلَى الْحَال , أَيْ اِلْتَقَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ مُؤْمِنَة وَكَافِرَة . قَالَ الزَّجَّاج : النَّصْب بِمَعْنَى أَعْنِي . وَسُمِّيَتْ الْجَمَاعَة مِنْ النَّاس فِئَة لِأَنَّهَا يُفَاء إِلَيْهَا , أَيْ يُرْجَع إِلَيْهَا فِي وَقْت الشِّدَّة . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْفِئَة الْفِرْقَة , مَأْخُوذَة مِنْ فَأَوْتُ رَأْسه بِالسَّيْفِ - وَيُقَال : فَأَيْته - إِذَا فَلَقْته . وَلَا خِلَاف أَنَّ الْإِشَارَة بِهَاتَيْنِ الْفِئَتَيْنِ هِيَ إِلَى يَوْم بَدْر . وَاخْتُلِفَ مَنْ الْمُخَاطَب بِهَا ; فَقِيلَ : يَحْتَمِل أَنْ يُخَاطَب بِهَا الْمُؤْمِنُونَ , وَيَحْتَمِل أَنْ يُخَاطَب بِهَا جَمِيع الْكُفَّار , وَيَحْتَمِل أَنْ يُخَاطَب بِهَا يَهُود الْمَدِينَة ; وَبِكُلِّ اِحْتِمَال مِنْهَا قَدْ قَالَ قَوْم . وَفَائِدَة الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيت النُّفُوس وَتَشْجِيعهَا حَتَّى يَقْدَمُوا عَلَى مِثْلَيْهِمْ وَأَمْثَالهمْ كَمَا قَدْ وَقَعَ .
قَالَ أَبُو عَلِيّ الرُّؤْيَة فِي هَذِهِ الْآيَة رُؤْيَة عَيْن ; وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُول وَاحِد . قَالَ مَكِّيّ وَالْمَهْدَوِيّ : يَدُلّ عَلَيْهِ " رَأْي الْعَيْن " . وَقَرَأَ نَافِع " تَرَوْنَهُمْ " بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ . " مِثْلَيْهِمْ " نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الْهَاء وَالْمِيم فِي " تَرَوْنَهُمْ " . وَالْجُمْهُور مِنْ النَّاس عَلَى أَنَّ الْفَاعِل بِتَرَوْنَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , وَالضَّمِير الْمُتَّصِل هُوَ لِلْكُفَّارِ . وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرو أَنْ يُقْرَأ " تَرَوْنَهُمْ " بِالتَّاءِ ; قَالَ : وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِثْلَيْكُمْ . قَالَ النَّحَّاس " وَذَا لَا يَلْزَم , وَلَكِنْ يَجُوز أَنْ يَكُون مِثْلَيْ أَصْحَابكُمْ . قَالَ مَكِّيّ : " تَرَوْنَهُمْ " بِالتَّاءِ جَرَى عَلَى الْخِطَاب فِي " لَكُمْ " فَيَحْسُن أَنْ يَكُون الْخِطَاب لِلْمُسْلِمِينَ , وَالْهَاء وَالْمِيم لِلْمُشْرِكِينَ . وَقَدْ كَانَ يَلْزَم مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ أَنْ يَقْرَأ مِثْلَيْكُمْ بِالْكَافِ , وَذَلِكَ لَا يَجُوز لِمُخَالَفَةِ الْخَطّ ; وَلَكِنْ جَرَى الْكَلَام عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِطَاب إِلَى الْغَيْبَة , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ " [ يُونُس : 22 ] , وَقَوْله تَعَالَى : " وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاة " [ الرُّوم : 39 ] فَخَاطَبَ ثُمَّ قَالَ : " فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ " [ الرُّوم : 39 ] فَرَجَعَ إِلَى الْغَيْبَة . فَالْهَاء وَالْمِيم فِي " مِثْلَيْهِمْ " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ , أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَد ; وَهُوَ بَعِيد فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُكَثِّر الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُن الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَعْلَمَنَا أَنَّهُ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُن الْمُؤْمِنِينَ , فَيَكُون الْمَعْنَى تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْكُمْ فِي الْعَدَد وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَة أَمْثَالهمْ , فَقَلَّلَ اللَّه الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُن الْمُسْلِمِينَ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ مِثْلَيْ عِدَّتهمْ لِتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ وَيَقَع التَّجَاسُر , وَقَدْ كَانُوا أُعْلِمُوا أَنَّ الْمِائَة مِنْهُمْ تَغْلِب الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْكُفَّار , وَقَلَّلَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُن الْمُشْرِكِينَ لِيَجْتَرِئُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْفُذ حُكْم اللَّه فِيهِمْ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الضَّمِير فِي " مِثْلَيْهِمْ " لِلْمُسْلِمِينَ , أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَد , أَيْ تَرَوْنَ أَنْفُسكُمْ مِثْلَيْ عَدَدكُمْ ; فَعَلَ اللَّه ذَلِكَ بِهِمْ لِتَقْوَى أَنْفُسهمْ عَلَى لِقَاء الْمُشْرِكِينَ . وَالتَّأْوِيل الْأَوَّل أَوْلَى ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّه فِي مَنَامك قَلِيلًا " [ الْأَنْفَال : 43 ] وَقَوْله : " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنكُمْ قَلِيلًا " [ الْأَنْفَال : 44 ] وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : قُلْت لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي : أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ ؟ قَالَ : أَظُنّهُمْ مِائَة فَلَمَّا أَخَذْنَا الْأُسَارَى أَخْبَرُونَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ قَالُوا : بَلْ كَثَّرَ اللَّه عَدَد الْمُؤْمِنِينَ فِي عُيُون الْكَافِرِينَ حَتَّى كَانُوا عِنْدهمْ ضِعْفَيْنِ . وَضَعَّفَ الطَّبَرِيّ هَذَا الْقَوْل . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْدُود مِنْ جِهَات . بَلْ قَلَّلَ اللَّه الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُن الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل كَانَ يَكُون " تَرَوْنَ " لِلْكَافِرِينَ , أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْكَافِرُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْهِمْ , وَيَحْتَمِل مِثْلَيْكُمْ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ الْمَعْنَى تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ثَلَاثَة أَمْثَالهمْ . وَهُوَ بَعِيد غَيْر مَعْرُوف فِي اللُّغَة . قَالَ الزَّجَّاج : وَهَذَا بَاب الْغَلَط , فِيهِ غَلَط فِي جَمِيع الْمَقَايِيس ; لِأَنَّا إِنَّمَا نَعْقِل مِثْل الشَّيْء مُسَاوِيًا لَهُ , وَنَعْقِل مِثْله مَا يُسَاوِيه مَرَّتَيْنِ . قَالَ اِبْن كَيْسَان : وَقَدْ بَيَّنَ الْفَرَّاء قَوْله بِأَنْ قَالَ : كَمَا تَقُول وَعِنْدك عَبْد : أَحْتَاج إِلَى مِثْله , فَأَنْتَ مُحْتَاج إِلَيْهِ وَإِلَى مِثْله . وَتَقُول : أَحْتَاج إِلَى مِثْلَيْهِ , فَأَنْتَ مُحْتَاج إِلَى ثَلَاثَة . وَالْمَعْنَى عَلَى خِلَاف مَا قَالَهُ , وَاللُّغَة . وَاَلَّذِي أَوْقَعَ الْفَرَّاء فِي هَذَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا ثَلَاثَة أَمْثَال الْمُؤْمِنِينَ يَوْم بَدْر ; فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُمْ إِلَّا عَلَى عِدَّتهمْ , وَهَذَا بَعِيد وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا أَرَاهُمْ اللَّه عَلَى غَيْر عُدّتهمْ لِجِهَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ رَأَى الصَّلَاح فِي ذَلِكَ , لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقْوَى قُلُوبهمْ بِذَلِكَ . وَالْأُخْرَى أَنَّهُ آيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَسَيَأْتِي ذِكْر وَقْعَة بَدْر إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا قِرَاءَة الْيَاء فَقَالَ اِبْن كَيْسَان : الْهَاء وَالْمِيم فِي " يَرَوْنَهُمْ " عَائِدَة عَلَى " وَأُخْرَى كَافِرَة " وَالْهَاء وَالْمِيم فِي " مِثْلَيْهِمْ " عَائِدَة عَلَى " فِئَة تُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه " وَهَذَا مِنْ الْإِضْمَار الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام , وَهُوَ قَوْله : " يُؤَيِّد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاء " . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا مِثْلَيْ الْمُسْلِمِينَ فِي رَأْي الْعَيْن وَثَلَاثَة أَمْثَالهمْ فِي الْعَدَد . قَالَ : وَالرُّؤْيَة هُنَا لِلْيَهُودِ . وَقَالَ مَكِّيّ : الرُّؤْيَة لِلْفِئَةِ الْمُقَاتِلَة فِي سَبِيل اللَّه , وَالْمَرْئِيَّة الْفِئَة الْكَافِرَة ; أَيْ تَرَى الْفِئَة الْمُقَاتِلَة فِي سَبِيل اللَّه الْفِئَة الْكَافِرَة مِثْلَيْ الْفِئَة الْمُؤْمِنَة , وَقَدْ كَانَتْ الْفِئَة الْكَافِرَة ثَلَاثَة أَمْثَال الْمُؤْمِنَة فَقَلَّلَهُمْ اللَّه فِي أَعْيُنهمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَالْخِطَاب فِي " لَكُمْ " لِلْيَهُودِ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَطَلْحَة " تُرَوْنَهُمْ " بِضَمِّ التَّاء , وَالسُّلَمِيّ بِالتَّاءِ الْمَضْمُومَة عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله .
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ↓
زُيِّنَ مِنْ التَّزْيِين وَاخْتَلَفَ النَّاس مَنْ الْمُزَيِّن ; فَقَالَتْ فِرْقَة : اللَّه زَيَّنَ ذَلِكَ ; وَهُوَ ظَاهِر قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ . وَفِي التَّنْزِيل : " إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْض زِينَة لَهَا " [ الْكَهْف : 7 ] ; وَلَمَّا قَالَ عُمَر : الْآن يَا رَبّ حِينَ زَيَّنْتهَا لَنَا نَزَلَتْ : " قُلْ أَؤُنَبِّئكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ " [ آل عِمْرَان : 15 ] وَقَالَتْ فِرْقَة : الْمُزَيِّن هُوَ الشَّيْطَان ; وَهُوَ ظَاهِر قَوْل الْحَسَن , فَإِنَّهُ قَالَ : مَنْ زَيَّنَهَا ؟ مَا أَحَد أَشَدّ لَهَا ذَمًّا مِنْ خَالِقهَا . فَتَزْيِين اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ بِالْإِيجَادِ وَالتَّهْيِئَة لِلِانْتِفَاعِ وَإِنْشَاء الْجِبِلَّة عَلَى الْمَيْل إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاء . وَتَزْيِين الشَّيْطَان إِنَّمَا هُوَ بِالْوَسْوَسَةِ وَالْخَدِيعَة وَتَحْسِين أَخْذهَا مِنْ غَيْر وُجُوههَا . وَالْآيَة عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ اِبْتِدَاء وَعْظ لِجَمِيعِ النَّاس , وَفِي ضِمْن ذَلِكَ تَوْبِيخ لِمُعَاصِرِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُود وَغَيْرهمْ . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " زُيِّنَ " عَلَى بِنَاء الْفِعْل لِلْمَفْعُولِ , وَرُفِعَ " حُبّ " . وَقَرَأَ الضَّحَّاك وَمُجَاهِد " زُيِّنَ " عَلَى بِنَاء الْفِعْل لِلْفَاعِلِ , وَنَصْب " حُبّ " وَحُرِّكَتْ الْهَاء مِنْ " الشَّهَوَات " فَرْقًا بَيْن الِاسْم وَالنَّعْت وَالشَّهَوَات جَمْع شَهْوَة وَهِيَ مَعْرُوفَة وَرَجُل شَهْوَان لِلشَّيْءِ , وَشَيْء شَهِيّ أَيْ مُشْتَهًى وَاتِّبَاع الشَّهَوَات مُرْدٍ وَطَاعَتهَا مَهْلَكَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : ( حُفَّتْ الْجَنَّة بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّار بِالشَّهَوَاتِ ) رَوَاهُ أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفَائِدَة هَذَا التَّمْثِيل أَنَّ الْجَنَّة لَا تُنَال إِلَّا بِقَطْعِ مَفَاوِز الْمَكَارِه وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا . وَأَنَّ النَّار لَا يُنْجَى مِنْهَا إِلَّا بِتَرْكِ الشَّهَوَات وَفِطَام النَّفْس عَنْهَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( طَرِيق الْجَنَّة حَزْن بِرَبْوَةٍ وَطَرِيق النَّار سَهْل بِسَهْوَةٍ . .. ) ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْله ( حُفَّتْ الْجَنَّة بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّار بِالشَّهَوَاتِ ) . أَيْ طَرِيق الْجَنَّة صَعْبَة الْمَسْلَك فِيهِ أَعْلَى مَا يَكُون مِنْ الرَّوَابِي , وَطَرِيق النَّار سَهْل لَا غِلَظ فِيهِ وَلَا وُعُورَة , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله ( سَهْل بِسَهْوَةٍ ) وَهُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة .
بَدَأَ بِهِنَّ لِكَثْرَةِ تَشَوُّف النُّفُوس إِلَيْهِنَّ ; لِأَنَّهُنَّ حَبَائِل الشَّيْطَان وَفِتْنَة الرِّجَال . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَة أَشَدّ عَلَى الرِّجَال مِنْ النِّسَاء ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . فَفِتْنَة النِّسَاء أَشَدّ مِنْ جَمِيع الْأَشْيَاء . وَيُقَال : فِي النِّسَاء فِتْنَتَانِ , وَفِي الْأَوْلَاد فِتْنَة وَاحِدَة . فَأَمَّا اللَّتَانِ فِي النِّسَاء فَإِحْدَاهُمَا أَنْ تُؤَدِّي إِلَى قَطْع الرَّحِم ; لِأَنَّ الْمَرْأَة تَأْمُر زَوْجهَا بِقَطْعِهِ عَنْ الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالثَّانِيَة يُبْتَلَى بِجَمْعِ الْمَال مِنْ الْحَلَال وَالْحَرَام . وَأَمَّا الْبَنُونَ فَإِنَّ الْفِتْنَة فِيهِمْ وَاحِدَة وَهُوَ مَا اُبْتُلِيَ بِجَمْعِ الْمَال لِأَجْلِهِمْ . وَرَوَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمْ الْغُرَف وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَاب ) . حَذَّرَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ فِي إِسْكَانهنَّ الْغُرَف تَطَلُّعًا إِلَى الرِّجَال , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْصِين لَهُنَّ وَلَا سِتْر ; لِأَنَّهُنَّ قَدْ يَشْرُفْنَ عَلَى الرِّجَال فَتَحْدُث الْفِتْنَة وَالْبَلَاء , وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ خُلِقْنَ مِنْ الرَّجُل ; فَهِمَّتهَا فِي الرَّجُل وَالرَّجُل خُلِقَ فِيهِ الشَّهْوَة وَجُعِلَتْ سَكَنًا لَهُ ; فَغَيْر مَأْمُون كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبه . وَفِي تَعَلُّمهنَّ الْكِتَاب هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الْفِتْنَة وَأَشَدّ . وَفِي كِتَاب الشِّهَاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَعْرُوا النِّسَاء يَلْزَمْنَ الْحِجَال ) . فَعَلَى الْإِنْسَان إِذَا لَمْ يَصْبِر فِي هَذِهِ الْأَزْمَان أَنْ يَبْحَث عَنْ ذَات الدِّين لِيَسْلَم لَهُ الدِّين ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَلَيْك بِذَاتِ الدِّين تَرِبَتْ يَدَاك ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاء لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنهنَّ أَنْ يُرْدِيَهِنَّ وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالهنَّ أَنْ تُطْغِيَهِنَّ وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ , عَلَى الدِّين وَلَأَمَة سَوْدَاء خَرْمَاء ذَات دِين أَفْضَل ) .
عُطِفَ عَلَى مَا قَبْله . وَوَاحِد مِنْ الْبَنِينَ اِبْن . قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوح : ( إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي ) . وَتَقُول فِي التَّصْغِير " بُنَيّ " كَمَا قَالَ لُقْمَان . وَفِي الْخَبَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَشْعَثِ بْن قَيْس : ( هَلْ لَك مِنْ اِبْنَة حَمْزَة مِنْ وَلَد ) ؟ قَالَ : نَعَمْ , لِي مِنْهَا غُلَام وَلَوَدِدْت أَنَّ لِي بِهِ جَفْنَة مِنْ طَعَام أُطْعِمهَا مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي جَبَلَة . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَئِنْ قُلْت ذَلِكَ إِنَّهُمْ لَثَمَرَة الْقُلُوب وَقُرَّة الْأَعْيُن وَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمَجْبَنَة مَبْخَلَة مَحْزَنَة ) .
الْقَنَاطِير جَمْع قِنْطَار , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا " [ النِّسَاء : 20 ] وَهُوَ الْعُقْدَة الْكَبِيرَة مِنْ الْمَال , وَقِيلَ : هُوَ اِسْم لِلْمِعْيَارِ الَّذِي يُوزَن بِهِ ; كَمَا هُوَ الرِّطْل وَالرُّبْع . وَيُقَال لِمَا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَزْن : هَذَا قِنْطَار , أَيْ يَعْدِل الْقِنْطَار . وَالْعَرَب تَقُول : قَنْطَرَ الرَّجُل إِذَا بَلَغَ مَاله أَنْ يُوزَن بِالْقِنْطَارِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْقِنْطَار مَأْخُوذ مِنْ عَقْد الشَّيْء وَإِحْكَامه ; تَقُول الْعَرَب : قَنْطَرْت الشَّيْء إِذَا أَحْكَمْته ; وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْقَنْطَرَة لِإِحْكَامِهَا . قَالَ طَرَفَة : كَقَنْطَرَةِ الرُّومِيِّ أَقْسَمَ رَبُّهَا لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّى تُشَادَ بِقَرْمَدِ وَالْقَنْطَرَة الْمَعْقُودَة ; فَكَأَنَّ الْقِنْطَار عَقْد مَال . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَحْرِير حَدّه كَمْ هُوَ عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَرَوَى أُبَيّ بْن كَعْب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْقِنْطَار أَلْف أُوقِيَّة وَمِائَتَانِ أُوقِيَّة ) ; وَقَالَ بِذَلِكَ مُعَاذ بْن جَبَل وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : " وَهُوَ أَصَحّ الْأَقْوَال , لَكِنَّ الْقِنْطَار عَلَى هَذَا يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْبِلَاد فِي قَدْر الْأُوقِيَّة " . وَقِيلَ : اِثْنَا عَشَر أَلْف أُوقِيَّة ; أَسْنَدَهُ الْبُسْتِيّ فِي مُسْنَده الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْقِنْطَار اِثْنَا عَشَر أَلْف أُوقِيَّة الْأُوقِيَّة خَيْر مِمَّا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض " . وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْل أَبُو هُرَيْرَة أَيْضًا . وَفِي مُسْنَد أَبِي مُحَمَّد الدَّارِمِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : " مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَة عَشْر آيَات كُتِبَ مِنْ الذَّاكِرِينَ , وَمَنْ قَرَأَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ , وَمَنْ قَرَأَ بِخَمْسِمِائَةِ آيَة إِلَى الْأَلْف أَصْبَحَ وَلَهُ قِنْطَار مِنْ الْأَجْر " قِيلَ : وَمَا الْقِنْطَار ؟ قَالَ : " مِلْء مَسْك ثَوْر ذَهَبًا " . مَوْقُوف ; وَقَالَ بِهِ أَبُو نَضْرَة الْعَبْدِيّ . وَذَكَرَ اِبْن سِيدَهْ أَنَّهُ هَكَذَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ . وَقَالَ النَّقَّاش عَنْ اِبْن الْكَلْبِيّ أَنَّهُ هَكَذَا بِلُغَةِ الرُّوم . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن : أَلْف وَمِائَتَا مِثْقَال مِنْ الْفِضَّة ; وَرَفَعَهُ الْحَسَن . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : اِثْنَا عَشَر أَلْف دِرْهَم مِنْ الْفِضَّة , وَمِنْ الذَّهَب أَلْف دِينَار دِيَة الرَّجُل الْمُسْلِم ; وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَالضِّحَاك . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : ثَمَانُونَ أَلْفًا . قَتَادَة : مِائَة رِطْل مِنْ الذَّهَب أَوْ ثَمَانُونَ أَلْف دِرْهَم مِنْ الْفِضَّة . وَقَالَ أَبُو حَمْزَة الثُّمَالِيّ : الْقِنْطَار بِإِفْرِيقِيَّة وَالْأَنْدَلُس ثَمَانِيَة آلَاف مِثْقَال مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة . السُّدِّيّ : أَرْبَعَة آلَاف مِثْقَال . مُجَاهِد : سَبْعُونَ أَلْف مِثْقَال ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر . وَحَكَى مَكِّيّ قَوْلًا أَنَّ الْقِنْطَار أَرْبَعُونَ أُوقِيَّة مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة ; وَقَالَهُ اِبْن سِيدَهْ فِي الْمُحْكَم , وَقَالَ : الْقِنْطَار بِلُغَةِ بَرْبَر أَلْف مِثْقَال . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : الْقِنْطَار الْمَال الْكَثِير بَعْضه عَلَى بَعْض ; وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعَرَب , وَمِنْهُ قَوْله : " وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا " أَيْ مَالًا كَثِيرًا . وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( إِنَّ صَفْوَان بْن أُمَيَّة قَنْطَرَ فِي الْجَاهِلِيَّة وَقَنْطَرَ أَبُوهُ ) أَيْ صَارَ لَهُ قِنْطَار مِنْ الْمَال . وَعَنْ الْحَكَم هُوَ مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض . وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى " الْمُقَنْطَرَة " فَقَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره : مَعْنَاهُ الْمُضَعَّفَة , وَكَأَنَّ الْقَنَاطِير ثَلَاثَة وَالْمُقَنْطَرَة تِسْع . وَرُوِيَ عَنْ الْفَرَّاء أَنَّهُ قَالَ : الْقَنَاطِير جَمْع الْقِنْطَار , وَالْمُقَنْطَرَة جَمْع الْجَمْع , فَيَكُون تِسْع قَنَاطِير . السُّدِّيّ : الْمُقَنْطَرَة الْمَضْرُوبَة حَتَّى صَارَتْ دَنَانِير أَوْ دَرَاهِم . مَكِّيّ : الْمُقَنْطَرَة الْمُكَمَّلَة ; وَحَكَاهُ الْهَرَوِيّ ; كَمَا يُقَال : بِدَر مُبَدَّرَة , وَآلَاف مُؤَلَّفَة . وَقَالَ بَعْضهمْ . وَلِهَذَا سُمِّيَ الْبِنَاء الْقَنْطَرَة لِتَكَاثُفِ الْبِنَاء بَعْضه عَلَى بَعْض . اِبْن كَيْسَان وَالْفَرَّاء : لَا تَكُون الْمُقَنْطَرَة أَقَلّ مِنْ تِسْع قَنَاطِير . وَقِيلَ : الْمُقَنْطَرَة إِشَارَة إِلَى حُضُور الْمَال وَكَوْنه عَتِيدًا . وَفِي صَحِيح الْبُسْتِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَات لَمْ يُكْتَب مِنْ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ ) .
الذَّهَب , مُؤَنَّثَة ; يُقَال : هِيَ الذَّهَب الْحَسَنَة جَمْعهَا ذَهَاب وَذُهُوب . وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع ذَهَبَة , وَيُجْمَع عَلَى الْأَذْهَاب . وَذَهَبَ فُلَان مَذْهَبًا حَسَنًا . وَالذَّهَب : مِكْيَال لِأَهْلِ الْيَمَن . وَرَجُل ذَهِبٌ إِذَا رَأَى مَعْدِن الذَّهَب فَدَهِشَ . وَالْفِضَّة مَعْرُوفَة , وَجَمْعهَا فِضَض . فَالذَّهَب مَأْخُوذَة مِنْ الذَّهَاب , وَالْفِضَّة مَأْخُوذَة مِنْ اِنْفَضَّ الشَّيْء تَفَرَّقَ ; وَمِنْهُ فَضَضْت الْقَوْم فَانْفَضُّوا , أَيْ فَرَّقْتهمْ فَتَفَرَّقُوا . وَهَذَا الِاشْتِقَاق يُشْعِر بِزَوَالِهِمَا وَعَدَم ثُبُوتهمَا كَمَا هُوَ مُشَاهَد فِي الْوُجُود . وَمِنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْل بَعْضهمْ : النَّار آخِر دِينَار نَطَقْتَ بِهِ وَالْهَمّ آخِر هَذَا الدِّرْهَمِ الْجَارِي وَالْمَرْء بَيْنهمَا إِنْ كَانَ ذَا وَرَع مُعَذَّب الْقَلْب بَيْن الْهَمّ وَالنَّار
الْخَيْل مُؤَنَّثَة . قَالَ اِبْن كَيْسَان : حُدِّثْت عَنْ أَبِي عُبَيْدَة أَنَّهُ قَالَ : وَاحِد الْخَيْل خَائِل , مِثْل طَائِر وَطَيْر , وَضَائِن وَضَيْن ; وَسُمِّيَ الْفَرَس بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخْتَال فِي مَشْيه . وَقَالَ غَيْره : هُوَ اِسْم جَمْع لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه وَاحِد فَرَس كَالْقَوْمِ وَالرَّهْط وَالنِّسَاء وَالْإِبِل وَنَحْوهَا . وَفِي الْخَبَر مِنْ حَدِيث عَلِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه خَلَقَ الْفَرَس مِنْ الرِّيح وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا تَطِير بِلَا جَنَاح ) . وَهْب بْن مُنَبِّه : خَلَقَهَا مِنْ رِيح الْجَنُوب . قَالَ وَهْب : فَلَيْسَ تَسْبِيحَة وَلَا تَكْبِيرَة وَلَا تَهْلِيلَة يُكَبِّرهَا صَاحِبهَا إِلَّا وَهُوَ يَسْمَعهَا فَيُجِيبهُ بِمِثْلِهَا . وَسَيَأْتِي لِذِكْرِ الْخَيْل وَوَصْفهَا فِي سُورَة " الْأَنْفَال " مَا فِيهِ كِفَايَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفِي الْخَبَر : ( إِنَّ اللَّه عَرَضَ عَلَى آدَم جَمِيع الدَّوَابّ , فَقِيلَ لَهُ : اِخْتَرْ مِنْهَا وَاحِدًا فَاخْتَارَ الْفَرَس ; فَقِيلَ لَهُ : اِخْتَرْت عِزّك ) ; فَصَارَ اِسْمه الْخَيْر مِنْ هَذَا الْوَجْه . وَسُمِّيَتْ خَيْلًا لِأَنَّهَا مَوْسُومَة بِالْعِزِّ فَمَنْ رَكِبَهُ اِعْتَزَّ بِنِحْلَةِ اللَّه لَهُ وَيَخْتَال بِهِ عَلَى أَعْدَاء اللَّه تَعَالَى . وَسُمِّيَ فَرَسًا لِأَنَّهُ يَفْتَرِس مَسَافَات الْجَوّ اِفْتِرَاس الْأَسَد وَثَبَانًا , وَيَقْطَعهَا كَالِالْتِهَامِ بِيَدَيْهِ عَلَى شَيْء خَبْطًا وَتَنَاوُلًا , وَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ جِيءَ بِهِ مِنْ بَعْد آدَم لِإِسْمَاعِيل جَزَاء عَنْ رَفْع قَوَاعِد الْبَيْت , وَإِسْمَاعِيل عَرَبِيّ , فَصَارَ لَهُ نِحْلَة مِنْ اللَّه تَعَالَى فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا . وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَدْخُل الشَّيْطَان دَارًا فِيهَا فَرَس عَتِيق ) . وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّصَ مِنْ الْهَجَانَة . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر الْخَيْل الْأَدْهَم الْأَقْرَح الْأَرْثَم ثُمَّ الْأَقْرَح الْمُحَجَّل طَلْق الْيَمِين فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَم فَكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة ) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي قَتَادَة . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي أُرِيد أَنْ أَشْتَرِيَ فَرَسًا فَأَيّهَا أَشْتَرِي ؟ قَالَ : ( اِشْتَرِ أَدْهَم أَرْثَم مُحَجَّلًا طَلْق الْيَمِين أَوْ مِنْ الْكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة تَغْنَم وَتَسْلَم ) . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَنَس قَالَ : لَمْ يَكُنْ أَحَبّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد النِّسَاء مِنْ الْخَيْل .
وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْخَيْل ثَلَاثَة لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ . .. ) الْحَدِيث بِطُولِهِ , شُهْرَته أَغْنَتْ عَنْ ذِكْره . وَسَيَأْتِي ذِكْر أَحْكَام الْخَيْل فِي " الْأَنْفَال " و " النَّحْل " بِمَا فِيهِ كِفَايَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
يَعْنِي الرَّاعِيَة فِي الْمُرُوج وَالْمَسَارِح ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . يُقَال : سَامَتْ الدَّابَّة وَالشَّاة إِذَا سَرَحَتْ تَسُوم سَوْمًا فَهِيَ سَائِمَة . وَأَسَمْتهَا أَنَا إِذَا تَرَكْتهَا لِذَلِكَ فَهِيَ مُسَامَة . وَسَوَّمْتهَا تَسْوِيمًا فَهِيَ مُسَوَّمَة . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَلِيّ قَالَ : ( نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّوْم قَبْل طُلُوع الشَّمْس , وَعَنْ ذَبْح ذَوَات الدَّرّ ) السَّوْم هُنَا فِي مَعْنَى الرَّعْي وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " فِيهِ تُسِيمُونَ " [ النَّحْل : 10 ] قَالَ الْأَخْطَل : مِثْل اِبْن بزعة أَوْ كَآخَر مِثْله أَوْلَى لَك اِبْن مِسيمَة الْأَجْمَال أَرَادَ اِبْن رَاعِيَة الْإِبِل . وَالسَّوَام : كُلّ بَهِيمَة تَرْعَى , وَقِيلَ : الْمُعَدَّة لِلْجِهَادِ ; قَالَهُ اِبْن زَيْد . مُجَاهِد : الْمُسَوَّمَة الْمُطَهَّمَة الْحِسَان . وَقَالَ عِكْرِمَة : سَوَّمَهَا الْحُسْن ; وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس , مِنْ قَوْلهمْ : رَجُل وَسِيم . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الْمُسَوَّمَة الْمُعَلَّمَة بِشِيَاتِ الْخَيْل فِي وُجُوههَا مِنْ السِّيمَا وَهِيَ الْعَلَامَة . وَهَذَا مَذْهَب الْكِسَائِيّ وَأَبِي عُبَيْدَة .
قُلْت : كُلّ مَا ذُكِرَ يَحْتَمِلهُ اللَّفْظ , فَتَكُون رَاعِيَة مُعَدَّة حِسَانًا مُعَلَّمَة لِتُعْرَف مِنْ غَيْرهَا . قَالَ أَبُو زَيْد : أَصْل ذَلِكَ أَنْ تَجْعَل عَلَيْهَا صُوفَة أَوْ عَلَامَة تُخَالِف سَائِر جَسَدهَا لِتَبِينَ مِنْ غَيْرهَا فِي الْمَرْعَى . وَحَكَى اِبْن فَارِس اللُّغَوِيّ فِي مُجْمَله : الْمُسَوَّمَة الْمُرْسَلَة وَعَلَيْهَا رُكْبَانهَا . وَقَالَ الْمُؤَرِّج : الْمُسَوَّمَة الْمَكْوِيَّة , الْمُبَرِّد : الْمَعْرُوفَة فِي الْبُلْدَان . اِبْن كَيْسَان : الْبُلْق . وَكُلّهَا مُتَقَارِب مِنْ السِّيمَا . قَالَ النَّابِغَة : وَضُمْر كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَات عَلَيْهَا مَعْشَر أَشْبَاه جِنّ
قَالَ اِبْن كَيْسَان : إِذَا قُلْت نَعَمْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لِلْإِبِلِ , فَإِذَا قُلْت أَنْعَام وَقَعَتْ لِلْإِبِلِ وَكُلّ مَا يَرْعَى . قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مُذَكَّر وَلَا يُؤَنَّث ; يَقُولُونَ هَذَا نَعَم وَارِد , وَيُجْمَع أَنْعَامًا . قَالَ الْهَرَوِيّ : وَالنَّعَم يُذَكَّر وَيُؤَنَّث , وَالْأَنْعَام الْمَوَاشِي مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم ; , وَإِذَا قِيلَ : النَّعَم فَهُوَ الْإِبِل خَاصَّة . وَقَالَ حَسَّان : وَكَانَتْ لَا يَزَال بِهَا أَنِيس خِلَال مُرُوجهَا نَعَم وَشَاء وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عُرْوَة الْبَارِقِيّ يَرْفَعهُ قَالَ : ( الْإِبِل عِزّ لِأَهْلِهَا وَالْغَنَم بَرَكَة وَالْخَيْر مَعْقُود فِي نَوَاصِي الْخَيْل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَفِيهِ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الشَّاة مِنْ دَوَابّ الْجَنَّة ) . وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَغْنِيَاء بِاِتِّخَاذِ الْغَنَم , وَالْفُقَرَاء بِاِتِّخَاذِ الدَّجَاج . وَقَالَ : عِنْد اِتِّخَاذ الْأَغْنِيَاء الدَّجَاج يَأْذَن اللَّه تَعَالَى بِهَلَاكِ الْقُرَى . وَفِيهِ عَنْ أُمّ هَانِئ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : ( اِتَّخِذِي غَنَمًا فَإِنَّ فِيهَا بَرَكَة ) . أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ وَكِيع عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمّ هَانِئ , إِسْنَاد صَحِيح .
الْحَرْث هُنَا اِسْم لِكُلِّ مَا يُحْرَث , وَهُوَ مَصْدَر سُمِّيَ بِهِ ; تَقُول : حَرَثَ الرَّجُل حَرْثًا إِذَا أَثَارَ الْأَرْض لِمَعْنَى الْفِلَاحَة ; فَيَقَع اِسْم الْحِرَاثَة عَلَى زَرْع الْحُبُوب وَعَلَى الْجَنَّات وَعَلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ نَوْع الْفِلَاحَة . وَفِي الْحَدِيث : ( اُحْرُثْ لِدُنْيَاك كَأَنَّك تَعِيش أَبَدًا ) . يُقَال حَرَثْت وَاحْتَرَثْت . وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه ( اُحْرُثُوا هَذَا الْقُرْآن ) أَيْ فَتِّشُوهُ . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : الْحَرْث التَّفْتِيش ; وَفِي الْحَدِيث : ( أَصْدَق الْأَسْمَاء الْحَارِث ) لِأَنَّ الْحَارِث هُوَ الْكَاسِب , وَاحْتِرَاث الْمَال كَسْبه , وَالْمِحْرَاث مُسْعِر النَّار وَالْحَرَاث مَجْرَى الْوَتَر فِي الْقَوْس , وَالْجَمْع أَحْرِثَة , وَأَحْرَثَ الرَّجُل نَاقَته أَهْزَلَهَا . وَفِي حَدِيث مُعَاوِيَة : مَا فَعَلَتْ نَوَاضِحكُمْ ؟ قَالُوا : حَرَثْنَاهَا يَوْم بَدْر . قَالَ أَبُو عُبَيْد : يَعْنُونَ هَزَّلْنَاهَا ; يُقَال : حَرَثْت الدَّابَّة وَأَحْرَثْتهَا , لُغَتَانِ . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ وَقَدْ رَأَى سِكَّة وَشَيْئًا مِنْ آلَة الْحَرْث فَقَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يَدْخُل هَذَا بَيْت قَوْم إِلَّا دَخَلَهُ الذُّلّ ) . قِيلَ : إِنَّ الذُّلّ هُنَا مَا يَلْزَم أَهْل الشُّغْل بِالْحَرْثِ مِنْ حُقُوق الْأَرْض الَّتِي يُطَالِبهُمْ بِهَا الْأَئِمَّة وَالسَّلَاطِين . وَقَالَ الْمُهَلِّب : مَعْنَى قَوْله فِي هَذَا الْحَدِيث وَاَللَّه أَعْلَم الْحَضّ عَلَى مَعَالِي الْأَحْوَال وَطَلَب الرِّزْق مِنْ أَشْرَف الصِّنَاعَات ; وَذَلِكَ لَمَّا خَشِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّته مِنْ الِاشْتِغَال بِالْحَرْثِ وَتَضْيِيع رُكُوب الْخَيْل وَالْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه ; لِأَنَّهُمْ إِنْ اِشْتَغَلُوا بِالْحَرْثِ غَلَبَتْهُمْ الْأُمَم الرَّاكِبَة لِلْخَيْلِ الْمُتَعَيِّشَة مِنْ مَكَاسِبهَا ; فَحَضَّهُمْ عَلَى التَّعَيُّش مِنْ الْجِهَاد لَا مِنْ الْخُلُود إِلَى عِمَارَة الْأَرْض وَلُزُوم الْمِهْنَة . أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَر قَالَ : تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَاقْطَعُوا الرُّكَب وَثِبُوا عَلَى الْخَيْل وَثْبًا لَا تَغْلِبَنَّكُمْ عَلَيْهَا رُعَاة الْإِبِل . فَأَمَرَهُمْ بِمُلَازَمَةِ الْخَيْل , وَرِيَاضَة أَبْدَانهمْ بِالْوُثُوبِ عَلَيْهَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مُسْلِم غَرَسَ غَرْسًا أَوْ زَرَعَ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ طَيْر أَوْ إِنْسَان أَوْ بَهِيمَة إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَة ) .
قَالَ الْعُلَمَاء : ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَرْبَعَة أَصْنَاف مِنْ الْمَال , كُلّ نَوْع مِنْ الْمَال يَتَمَوَّل بِهِ صِنْف مِنْ النَّاس ; أَمَّا الذَّهَب وَالْفِضَّة فَيَتَمَوَّل بِهَا التُّجَّار , وَأَمَّا الْخَيْل الْمُسَوَّمَة فَيَتَمَوَّل بِهَا الْمُلُوك , وَأَمَّا الْأَنْعَام فَيَتَمَوَّل بِهَا أَهْل الْبَوَادِي , وَأَمَّا الْحَرْث فَيَتَمَوَّل بِهَا أَهْل الرَّسَاتِيق . فَتَكُون فِتْنَة كُلّ صِنْف فِي النَّوْع الَّذِي يَتَمَوَّل , فَأَمَّا النِّسَاء وَالْبَنُونَ فَفِتْنَة لِلْجَمِيعِ .
أَيْ مَا يُتَمَتَّع بِهِ فِيهَا ثُمَّ يَذْهَب وَلَا يَبْقَى . وَهَذَا مِنْهُ تَزْهِيد فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيب فِي الْآخِرَة . رَوَى اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاع وَلَيْسَ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا شَيْء أَفْضَل مِنْ الْمَرْأَة الصَّالِحَة ) . وَفِي الْحَدِيث : ( اِزْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبّك اللَّه ) أَيْ فِي مَتَاعهَا مِنْ الْجَاه وَالْمَال الزَّائِد عَلَى الضَّرُورِيّ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ لِابْنِ آدَم حَقّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَال بَيْت يَسْكُنهُ وَثَوْب يُوَارِي عَوْرَته وَجِلْف الْخُبْز وَالْمَاء ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث الْمِقْدَام بْن مَعْد يَكْرُب . وَسُئِلَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : بِمَ يَسْهُل عَلَى الْعَبْد تَرْك الدُّنْيَا وَكُلّ الشَّهَوَات ؟ قَالَ : بِتَشَاغُلِهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ .
اِبْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ . وَالْمَآب الْمَرْجِع ; آبَ يَؤُوبُ إِيَابًا إِذَا رَجَعَ ; قَالَ يَؤُوبُ إِيَابًا إِذَا رَجَعَ ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : وَقَدْ طَوَّفْت فِي الْآفَاق حَتَّى رَضِيت مِنْ الْغَنِيمَة بِالْإِيَابِ وَقَالَ آخَر : وَكُلّ ذِي غَيْبَة يَؤُوبُ وَغَائِب الْمَوْت لَا يَؤُوبُ وَأَصْل مَآب مَأَوِب , قُلِبَتْ حَرَكَة الْوَاو إِلَى الْهَمْزَة وَأُبْدِلَ مِنْ الْوَاو أَلِف , مِثْل مَقَال . وَمَعْنَى الْآيَة تَقْلِيل الدُّنْيَا وَتَحْقِيرهَا وَالتَّرْغِيب فِي حُسْن الْمَرْجِع إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي الْآخِرَة .
بَدَأَ بِهِنَّ لِكَثْرَةِ تَشَوُّف النُّفُوس إِلَيْهِنَّ ; لِأَنَّهُنَّ حَبَائِل الشَّيْطَان وَفِتْنَة الرِّجَال . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَة أَشَدّ عَلَى الرِّجَال مِنْ النِّسَاء ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . فَفِتْنَة النِّسَاء أَشَدّ مِنْ جَمِيع الْأَشْيَاء . وَيُقَال : فِي النِّسَاء فِتْنَتَانِ , وَفِي الْأَوْلَاد فِتْنَة وَاحِدَة . فَأَمَّا اللَّتَانِ فِي النِّسَاء فَإِحْدَاهُمَا أَنْ تُؤَدِّي إِلَى قَطْع الرَّحِم ; لِأَنَّ الْمَرْأَة تَأْمُر زَوْجهَا بِقَطْعِهِ عَنْ الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالثَّانِيَة يُبْتَلَى بِجَمْعِ الْمَال مِنْ الْحَلَال وَالْحَرَام . وَأَمَّا الْبَنُونَ فَإِنَّ الْفِتْنَة فِيهِمْ وَاحِدَة وَهُوَ مَا اُبْتُلِيَ بِجَمْعِ الْمَال لِأَجْلِهِمْ . وَرَوَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمْ الْغُرَف وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَاب ) . حَذَّرَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ فِي إِسْكَانهنَّ الْغُرَف تَطَلُّعًا إِلَى الرِّجَال , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْصِين لَهُنَّ وَلَا سِتْر ; لِأَنَّهُنَّ قَدْ يَشْرُفْنَ عَلَى الرِّجَال فَتَحْدُث الْفِتْنَة وَالْبَلَاء , وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ خُلِقْنَ مِنْ الرَّجُل ; فَهِمَّتهَا فِي الرَّجُل وَالرَّجُل خُلِقَ فِيهِ الشَّهْوَة وَجُعِلَتْ سَكَنًا لَهُ ; فَغَيْر مَأْمُون كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبه . وَفِي تَعَلُّمهنَّ الْكِتَاب هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الْفِتْنَة وَأَشَدّ . وَفِي كِتَاب الشِّهَاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَعْرُوا النِّسَاء يَلْزَمْنَ الْحِجَال ) . فَعَلَى الْإِنْسَان إِذَا لَمْ يَصْبِر فِي هَذِهِ الْأَزْمَان أَنْ يَبْحَث عَنْ ذَات الدِّين لِيَسْلَم لَهُ الدِّين ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَلَيْك بِذَاتِ الدِّين تَرِبَتْ يَدَاك ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاء لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنهنَّ أَنْ يُرْدِيَهِنَّ وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالهنَّ أَنْ تُطْغِيَهِنَّ وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ , عَلَى الدِّين وَلَأَمَة سَوْدَاء خَرْمَاء ذَات دِين أَفْضَل ) .
عُطِفَ عَلَى مَا قَبْله . وَوَاحِد مِنْ الْبَنِينَ اِبْن . قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوح : ( إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي ) . وَتَقُول فِي التَّصْغِير " بُنَيّ " كَمَا قَالَ لُقْمَان . وَفِي الْخَبَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَشْعَثِ بْن قَيْس : ( هَلْ لَك مِنْ اِبْنَة حَمْزَة مِنْ وَلَد ) ؟ قَالَ : نَعَمْ , لِي مِنْهَا غُلَام وَلَوَدِدْت أَنَّ لِي بِهِ جَفْنَة مِنْ طَعَام أُطْعِمهَا مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي جَبَلَة . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَئِنْ قُلْت ذَلِكَ إِنَّهُمْ لَثَمَرَة الْقُلُوب وَقُرَّة الْأَعْيُن وَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمَجْبَنَة مَبْخَلَة مَحْزَنَة ) .
الْقَنَاطِير جَمْع قِنْطَار , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا " [ النِّسَاء : 20 ] وَهُوَ الْعُقْدَة الْكَبِيرَة مِنْ الْمَال , وَقِيلَ : هُوَ اِسْم لِلْمِعْيَارِ الَّذِي يُوزَن بِهِ ; كَمَا هُوَ الرِّطْل وَالرُّبْع . وَيُقَال لِمَا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَزْن : هَذَا قِنْطَار , أَيْ يَعْدِل الْقِنْطَار . وَالْعَرَب تَقُول : قَنْطَرَ الرَّجُل إِذَا بَلَغَ مَاله أَنْ يُوزَن بِالْقِنْطَارِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْقِنْطَار مَأْخُوذ مِنْ عَقْد الشَّيْء وَإِحْكَامه ; تَقُول الْعَرَب : قَنْطَرْت الشَّيْء إِذَا أَحْكَمْته ; وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْقَنْطَرَة لِإِحْكَامِهَا . قَالَ طَرَفَة : كَقَنْطَرَةِ الرُّومِيِّ أَقْسَمَ رَبُّهَا لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّى تُشَادَ بِقَرْمَدِ وَالْقَنْطَرَة الْمَعْقُودَة ; فَكَأَنَّ الْقِنْطَار عَقْد مَال . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَحْرِير حَدّه كَمْ هُوَ عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَرَوَى أُبَيّ بْن كَعْب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْقِنْطَار أَلْف أُوقِيَّة وَمِائَتَانِ أُوقِيَّة ) ; وَقَالَ بِذَلِكَ مُعَاذ بْن جَبَل وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : " وَهُوَ أَصَحّ الْأَقْوَال , لَكِنَّ الْقِنْطَار عَلَى هَذَا يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْبِلَاد فِي قَدْر الْأُوقِيَّة " . وَقِيلَ : اِثْنَا عَشَر أَلْف أُوقِيَّة ; أَسْنَدَهُ الْبُسْتِيّ فِي مُسْنَده الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْقِنْطَار اِثْنَا عَشَر أَلْف أُوقِيَّة الْأُوقِيَّة خَيْر مِمَّا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض " . وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْل أَبُو هُرَيْرَة أَيْضًا . وَفِي مُسْنَد أَبِي مُحَمَّد الدَّارِمِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : " مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَة عَشْر آيَات كُتِبَ مِنْ الذَّاكِرِينَ , وَمَنْ قَرَأَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ , وَمَنْ قَرَأَ بِخَمْسِمِائَةِ آيَة إِلَى الْأَلْف أَصْبَحَ وَلَهُ قِنْطَار مِنْ الْأَجْر " قِيلَ : وَمَا الْقِنْطَار ؟ قَالَ : " مِلْء مَسْك ثَوْر ذَهَبًا " . مَوْقُوف ; وَقَالَ بِهِ أَبُو نَضْرَة الْعَبْدِيّ . وَذَكَرَ اِبْن سِيدَهْ أَنَّهُ هَكَذَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ . وَقَالَ النَّقَّاش عَنْ اِبْن الْكَلْبِيّ أَنَّهُ هَكَذَا بِلُغَةِ الرُّوم . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن : أَلْف وَمِائَتَا مِثْقَال مِنْ الْفِضَّة ; وَرَفَعَهُ الْحَسَن . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : اِثْنَا عَشَر أَلْف دِرْهَم مِنْ الْفِضَّة , وَمِنْ الذَّهَب أَلْف دِينَار دِيَة الرَّجُل الْمُسْلِم ; وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَالضِّحَاك . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : ثَمَانُونَ أَلْفًا . قَتَادَة : مِائَة رِطْل مِنْ الذَّهَب أَوْ ثَمَانُونَ أَلْف دِرْهَم مِنْ الْفِضَّة . وَقَالَ أَبُو حَمْزَة الثُّمَالِيّ : الْقِنْطَار بِإِفْرِيقِيَّة وَالْأَنْدَلُس ثَمَانِيَة آلَاف مِثْقَال مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة . السُّدِّيّ : أَرْبَعَة آلَاف مِثْقَال . مُجَاهِد : سَبْعُونَ أَلْف مِثْقَال ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر . وَحَكَى مَكِّيّ قَوْلًا أَنَّ الْقِنْطَار أَرْبَعُونَ أُوقِيَّة مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة ; وَقَالَهُ اِبْن سِيدَهْ فِي الْمُحْكَم , وَقَالَ : الْقِنْطَار بِلُغَةِ بَرْبَر أَلْف مِثْقَال . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : الْقِنْطَار الْمَال الْكَثِير بَعْضه عَلَى بَعْض ; وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعَرَب , وَمِنْهُ قَوْله : " وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا " أَيْ مَالًا كَثِيرًا . وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( إِنَّ صَفْوَان بْن أُمَيَّة قَنْطَرَ فِي الْجَاهِلِيَّة وَقَنْطَرَ أَبُوهُ ) أَيْ صَارَ لَهُ قِنْطَار مِنْ الْمَال . وَعَنْ الْحَكَم هُوَ مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض . وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى " الْمُقَنْطَرَة " فَقَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره : مَعْنَاهُ الْمُضَعَّفَة , وَكَأَنَّ الْقَنَاطِير ثَلَاثَة وَالْمُقَنْطَرَة تِسْع . وَرُوِيَ عَنْ الْفَرَّاء أَنَّهُ قَالَ : الْقَنَاطِير جَمْع الْقِنْطَار , وَالْمُقَنْطَرَة جَمْع الْجَمْع , فَيَكُون تِسْع قَنَاطِير . السُّدِّيّ : الْمُقَنْطَرَة الْمَضْرُوبَة حَتَّى صَارَتْ دَنَانِير أَوْ دَرَاهِم . مَكِّيّ : الْمُقَنْطَرَة الْمُكَمَّلَة ; وَحَكَاهُ الْهَرَوِيّ ; كَمَا يُقَال : بِدَر مُبَدَّرَة , وَآلَاف مُؤَلَّفَة . وَقَالَ بَعْضهمْ . وَلِهَذَا سُمِّيَ الْبِنَاء الْقَنْطَرَة لِتَكَاثُفِ الْبِنَاء بَعْضه عَلَى بَعْض . اِبْن كَيْسَان وَالْفَرَّاء : لَا تَكُون الْمُقَنْطَرَة أَقَلّ مِنْ تِسْع قَنَاطِير . وَقِيلَ : الْمُقَنْطَرَة إِشَارَة إِلَى حُضُور الْمَال وَكَوْنه عَتِيدًا . وَفِي صَحِيح الْبُسْتِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَات لَمْ يُكْتَب مِنْ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ ) .
الذَّهَب , مُؤَنَّثَة ; يُقَال : هِيَ الذَّهَب الْحَسَنَة جَمْعهَا ذَهَاب وَذُهُوب . وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع ذَهَبَة , وَيُجْمَع عَلَى الْأَذْهَاب . وَذَهَبَ فُلَان مَذْهَبًا حَسَنًا . وَالذَّهَب : مِكْيَال لِأَهْلِ الْيَمَن . وَرَجُل ذَهِبٌ إِذَا رَأَى مَعْدِن الذَّهَب فَدَهِشَ . وَالْفِضَّة مَعْرُوفَة , وَجَمْعهَا فِضَض . فَالذَّهَب مَأْخُوذَة مِنْ الذَّهَاب , وَالْفِضَّة مَأْخُوذَة مِنْ اِنْفَضَّ الشَّيْء تَفَرَّقَ ; وَمِنْهُ فَضَضْت الْقَوْم فَانْفَضُّوا , أَيْ فَرَّقْتهمْ فَتَفَرَّقُوا . وَهَذَا الِاشْتِقَاق يُشْعِر بِزَوَالِهِمَا وَعَدَم ثُبُوتهمَا كَمَا هُوَ مُشَاهَد فِي الْوُجُود . وَمِنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْل بَعْضهمْ : النَّار آخِر دِينَار نَطَقْتَ بِهِ وَالْهَمّ آخِر هَذَا الدِّرْهَمِ الْجَارِي وَالْمَرْء بَيْنهمَا إِنْ كَانَ ذَا وَرَع مُعَذَّب الْقَلْب بَيْن الْهَمّ وَالنَّار
الْخَيْل مُؤَنَّثَة . قَالَ اِبْن كَيْسَان : حُدِّثْت عَنْ أَبِي عُبَيْدَة أَنَّهُ قَالَ : وَاحِد الْخَيْل خَائِل , مِثْل طَائِر وَطَيْر , وَضَائِن وَضَيْن ; وَسُمِّيَ الْفَرَس بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخْتَال فِي مَشْيه . وَقَالَ غَيْره : هُوَ اِسْم جَمْع لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه وَاحِد فَرَس كَالْقَوْمِ وَالرَّهْط وَالنِّسَاء وَالْإِبِل وَنَحْوهَا . وَفِي الْخَبَر مِنْ حَدِيث عَلِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه خَلَقَ الْفَرَس مِنْ الرِّيح وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا تَطِير بِلَا جَنَاح ) . وَهْب بْن مُنَبِّه : خَلَقَهَا مِنْ رِيح الْجَنُوب . قَالَ وَهْب : فَلَيْسَ تَسْبِيحَة وَلَا تَكْبِيرَة وَلَا تَهْلِيلَة يُكَبِّرهَا صَاحِبهَا إِلَّا وَهُوَ يَسْمَعهَا فَيُجِيبهُ بِمِثْلِهَا . وَسَيَأْتِي لِذِكْرِ الْخَيْل وَوَصْفهَا فِي سُورَة " الْأَنْفَال " مَا فِيهِ كِفَايَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفِي الْخَبَر : ( إِنَّ اللَّه عَرَضَ عَلَى آدَم جَمِيع الدَّوَابّ , فَقِيلَ لَهُ : اِخْتَرْ مِنْهَا وَاحِدًا فَاخْتَارَ الْفَرَس ; فَقِيلَ لَهُ : اِخْتَرْت عِزّك ) ; فَصَارَ اِسْمه الْخَيْر مِنْ هَذَا الْوَجْه . وَسُمِّيَتْ خَيْلًا لِأَنَّهَا مَوْسُومَة بِالْعِزِّ فَمَنْ رَكِبَهُ اِعْتَزَّ بِنِحْلَةِ اللَّه لَهُ وَيَخْتَال بِهِ عَلَى أَعْدَاء اللَّه تَعَالَى . وَسُمِّيَ فَرَسًا لِأَنَّهُ يَفْتَرِس مَسَافَات الْجَوّ اِفْتِرَاس الْأَسَد وَثَبَانًا , وَيَقْطَعهَا كَالِالْتِهَامِ بِيَدَيْهِ عَلَى شَيْء خَبْطًا وَتَنَاوُلًا , وَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ جِيءَ بِهِ مِنْ بَعْد آدَم لِإِسْمَاعِيل جَزَاء عَنْ رَفْع قَوَاعِد الْبَيْت , وَإِسْمَاعِيل عَرَبِيّ , فَصَارَ لَهُ نِحْلَة مِنْ اللَّه تَعَالَى فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا . وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَدْخُل الشَّيْطَان دَارًا فِيهَا فَرَس عَتِيق ) . وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّصَ مِنْ الْهَجَانَة . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر الْخَيْل الْأَدْهَم الْأَقْرَح الْأَرْثَم ثُمَّ الْأَقْرَح الْمُحَجَّل طَلْق الْيَمِين فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَم فَكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة ) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي قَتَادَة . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي أُرِيد أَنْ أَشْتَرِيَ فَرَسًا فَأَيّهَا أَشْتَرِي ؟ قَالَ : ( اِشْتَرِ أَدْهَم أَرْثَم مُحَجَّلًا طَلْق الْيَمِين أَوْ مِنْ الْكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة تَغْنَم وَتَسْلَم ) . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَنَس قَالَ : لَمْ يَكُنْ أَحَبّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد النِّسَاء مِنْ الْخَيْل .
وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْخَيْل ثَلَاثَة لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ . .. ) الْحَدِيث بِطُولِهِ , شُهْرَته أَغْنَتْ عَنْ ذِكْره . وَسَيَأْتِي ذِكْر أَحْكَام الْخَيْل فِي " الْأَنْفَال " و " النَّحْل " بِمَا فِيهِ كِفَايَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
يَعْنِي الرَّاعِيَة فِي الْمُرُوج وَالْمَسَارِح ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . يُقَال : سَامَتْ الدَّابَّة وَالشَّاة إِذَا سَرَحَتْ تَسُوم سَوْمًا فَهِيَ سَائِمَة . وَأَسَمْتهَا أَنَا إِذَا تَرَكْتهَا لِذَلِكَ فَهِيَ مُسَامَة . وَسَوَّمْتهَا تَسْوِيمًا فَهِيَ مُسَوَّمَة . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَلِيّ قَالَ : ( نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّوْم قَبْل طُلُوع الشَّمْس , وَعَنْ ذَبْح ذَوَات الدَّرّ ) السَّوْم هُنَا فِي مَعْنَى الرَّعْي وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " فِيهِ تُسِيمُونَ " [ النَّحْل : 10 ] قَالَ الْأَخْطَل : مِثْل اِبْن بزعة أَوْ كَآخَر مِثْله أَوْلَى لَك اِبْن مِسيمَة الْأَجْمَال أَرَادَ اِبْن رَاعِيَة الْإِبِل . وَالسَّوَام : كُلّ بَهِيمَة تَرْعَى , وَقِيلَ : الْمُعَدَّة لِلْجِهَادِ ; قَالَهُ اِبْن زَيْد . مُجَاهِد : الْمُسَوَّمَة الْمُطَهَّمَة الْحِسَان . وَقَالَ عِكْرِمَة : سَوَّمَهَا الْحُسْن ; وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس , مِنْ قَوْلهمْ : رَجُل وَسِيم . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الْمُسَوَّمَة الْمُعَلَّمَة بِشِيَاتِ الْخَيْل فِي وُجُوههَا مِنْ السِّيمَا وَهِيَ الْعَلَامَة . وَهَذَا مَذْهَب الْكِسَائِيّ وَأَبِي عُبَيْدَة .
قُلْت : كُلّ مَا ذُكِرَ يَحْتَمِلهُ اللَّفْظ , فَتَكُون رَاعِيَة مُعَدَّة حِسَانًا مُعَلَّمَة لِتُعْرَف مِنْ غَيْرهَا . قَالَ أَبُو زَيْد : أَصْل ذَلِكَ أَنْ تَجْعَل عَلَيْهَا صُوفَة أَوْ عَلَامَة تُخَالِف سَائِر جَسَدهَا لِتَبِينَ مِنْ غَيْرهَا فِي الْمَرْعَى . وَحَكَى اِبْن فَارِس اللُّغَوِيّ فِي مُجْمَله : الْمُسَوَّمَة الْمُرْسَلَة وَعَلَيْهَا رُكْبَانهَا . وَقَالَ الْمُؤَرِّج : الْمُسَوَّمَة الْمَكْوِيَّة , الْمُبَرِّد : الْمَعْرُوفَة فِي الْبُلْدَان . اِبْن كَيْسَان : الْبُلْق . وَكُلّهَا مُتَقَارِب مِنْ السِّيمَا . قَالَ النَّابِغَة : وَضُمْر كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَات عَلَيْهَا مَعْشَر أَشْبَاه جِنّ
قَالَ اِبْن كَيْسَان : إِذَا قُلْت نَعَمْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لِلْإِبِلِ , فَإِذَا قُلْت أَنْعَام وَقَعَتْ لِلْإِبِلِ وَكُلّ مَا يَرْعَى . قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مُذَكَّر وَلَا يُؤَنَّث ; يَقُولُونَ هَذَا نَعَم وَارِد , وَيُجْمَع أَنْعَامًا . قَالَ الْهَرَوِيّ : وَالنَّعَم يُذَكَّر وَيُؤَنَّث , وَالْأَنْعَام الْمَوَاشِي مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم ; , وَإِذَا قِيلَ : النَّعَم فَهُوَ الْإِبِل خَاصَّة . وَقَالَ حَسَّان : وَكَانَتْ لَا يَزَال بِهَا أَنِيس خِلَال مُرُوجهَا نَعَم وَشَاء وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عُرْوَة الْبَارِقِيّ يَرْفَعهُ قَالَ : ( الْإِبِل عِزّ لِأَهْلِهَا وَالْغَنَم بَرَكَة وَالْخَيْر مَعْقُود فِي نَوَاصِي الْخَيْل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَفِيهِ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الشَّاة مِنْ دَوَابّ الْجَنَّة ) . وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَغْنِيَاء بِاِتِّخَاذِ الْغَنَم , وَالْفُقَرَاء بِاِتِّخَاذِ الدَّجَاج . وَقَالَ : عِنْد اِتِّخَاذ الْأَغْنِيَاء الدَّجَاج يَأْذَن اللَّه تَعَالَى بِهَلَاكِ الْقُرَى . وَفِيهِ عَنْ أُمّ هَانِئ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : ( اِتَّخِذِي غَنَمًا فَإِنَّ فِيهَا بَرَكَة ) . أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ وَكِيع عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمّ هَانِئ , إِسْنَاد صَحِيح .
الْحَرْث هُنَا اِسْم لِكُلِّ مَا يُحْرَث , وَهُوَ مَصْدَر سُمِّيَ بِهِ ; تَقُول : حَرَثَ الرَّجُل حَرْثًا إِذَا أَثَارَ الْأَرْض لِمَعْنَى الْفِلَاحَة ; فَيَقَع اِسْم الْحِرَاثَة عَلَى زَرْع الْحُبُوب وَعَلَى الْجَنَّات وَعَلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ نَوْع الْفِلَاحَة . وَفِي الْحَدِيث : ( اُحْرُثْ لِدُنْيَاك كَأَنَّك تَعِيش أَبَدًا ) . يُقَال حَرَثْت وَاحْتَرَثْت . وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه ( اُحْرُثُوا هَذَا الْقُرْآن ) أَيْ فَتِّشُوهُ . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : الْحَرْث التَّفْتِيش ; وَفِي الْحَدِيث : ( أَصْدَق الْأَسْمَاء الْحَارِث ) لِأَنَّ الْحَارِث هُوَ الْكَاسِب , وَاحْتِرَاث الْمَال كَسْبه , وَالْمِحْرَاث مُسْعِر النَّار وَالْحَرَاث مَجْرَى الْوَتَر فِي الْقَوْس , وَالْجَمْع أَحْرِثَة , وَأَحْرَثَ الرَّجُل نَاقَته أَهْزَلَهَا . وَفِي حَدِيث مُعَاوِيَة : مَا فَعَلَتْ نَوَاضِحكُمْ ؟ قَالُوا : حَرَثْنَاهَا يَوْم بَدْر . قَالَ أَبُو عُبَيْد : يَعْنُونَ هَزَّلْنَاهَا ; يُقَال : حَرَثْت الدَّابَّة وَأَحْرَثْتهَا , لُغَتَانِ . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ وَقَدْ رَأَى سِكَّة وَشَيْئًا مِنْ آلَة الْحَرْث فَقَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يَدْخُل هَذَا بَيْت قَوْم إِلَّا دَخَلَهُ الذُّلّ ) . قِيلَ : إِنَّ الذُّلّ هُنَا مَا يَلْزَم أَهْل الشُّغْل بِالْحَرْثِ مِنْ حُقُوق الْأَرْض الَّتِي يُطَالِبهُمْ بِهَا الْأَئِمَّة وَالسَّلَاطِين . وَقَالَ الْمُهَلِّب : مَعْنَى قَوْله فِي هَذَا الْحَدِيث وَاَللَّه أَعْلَم الْحَضّ عَلَى مَعَالِي الْأَحْوَال وَطَلَب الرِّزْق مِنْ أَشْرَف الصِّنَاعَات ; وَذَلِكَ لَمَّا خَشِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّته مِنْ الِاشْتِغَال بِالْحَرْثِ وَتَضْيِيع رُكُوب الْخَيْل وَالْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه ; لِأَنَّهُمْ إِنْ اِشْتَغَلُوا بِالْحَرْثِ غَلَبَتْهُمْ الْأُمَم الرَّاكِبَة لِلْخَيْلِ الْمُتَعَيِّشَة مِنْ مَكَاسِبهَا ; فَحَضَّهُمْ عَلَى التَّعَيُّش مِنْ الْجِهَاد لَا مِنْ الْخُلُود إِلَى عِمَارَة الْأَرْض وَلُزُوم الْمِهْنَة . أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَر قَالَ : تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَاقْطَعُوا الرُّكَب وَثِبُوا عَلَى الْخَيْل وَثْبًا لَا تَغْلِبَنَّكُمْ عَلَيْهَا رُعَاة الْإِبِل . فَأَمَرَهُمْ بِمُلَازَمَةِ الْخَيْل , وَرِيَاضَة أَبْدَانهمْ بِالْوُثُوبِ عَلَيْهَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مُسْلِم غَرَسَ غَرْسًا أَوْ زَرَعَ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ طَيْر أَوْ إِنْسَان أَوْ بَهِيمَة إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَة ) .
قَالَ الْعُلَمَاء : ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَرْبَعَة أَصْنَاف مِنْ الْمَال , كُلّ نَوْع مِنْ الْمَال يَتَمَوَّل بِهِ صِنْف مِنْ النَّاس ; أَمَّا الذَّهَب وَالْفِضَّة فَيَتَمَوَّل بِهَا التُّجَّار , وَأَمَّا الْخَيْل الْمُسَوَّمَة فَيَتَمَوَّل بِهَا الْمُلُوك , وَأَمَّا الْأَنْعَام فَيَتَمَوَّل بِهَا أَهْل الْبَوَادِي , وَأَمَّا الْحَرْث فَيَتَمَوَّل بِهَا أَهْل الرَّسَاتِيق . فَتَكُون فِتْنَة كُلّ صِنْف فِي النَّوْع الَّذِي يَتَمَوَّل , فَأَمَّا النِّسَاء وَالْبَنُونَ فَفِتْنَة لِلْجَمِيعِ .
أَيْ مَا يُتَمَتَّع بِهِ فِيهَا ثُمَّ يَذْهَب وَلَا يَبْقَى . وَهَذَا مِنْهُ تَزْهِيد فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيب فِي الْآخِرَة . رَوَى اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاع وَلَيْسَ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا شَيْء أَفْضَل مِنْ الْمَرْأَة الصَّالِحَة ) . وَفِي الْحَدِيث : ( اِزْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبّك اللَّه ) أَيْ فِي مَتَاعهَا مِنْ الْجَاه وَالْمَال الزَّائِد عَلَى الضَّرُورِيّ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ لِابْنِ آدَم حَقّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَال بَيْت يَسْكُنهُ وَثَوْب يُوَارِي عَوْرَته وَجِلْف الْخُبْز وَالْمَاء ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث الْمِقْدَام بْن مَعْد يَكْرُب . وَسُئِلَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : بِمَ يَسْهُل عَلَى الْعَبْد تَرْك الدُّنْيَا وَكُلّ الشَّهَوَات ؟ قَالَ : بِتَشَاغُلِهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ .
اِبْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ . وَالْمَآب الْمَرْجِع ; آبَ يَؤُوبُ إِيَابًا إِذَا رَجَعَ ; قَالَ يَؤُوبُ إِيَابًا إِذَا رَجَعَ ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : وَقَدْ طَوَّفْت فِي الْآفَاق حَتَّى رَضِيت مِنْ الْغَنِيمَة بِالْإِيَابِ وَقَالَ آخَر : وَكُلّ ذِي غَيْبَة يَؤُوبُ وَغَائِب الْمَوْت لَا يَؤُوبُ وَأَصْل مَآب مَأَوِب , قُلِبَتْ حَرَكَة الْوَاو إِلَى الْهَمْزَة وَأُبْدِلَ مِنْ الْوَاو أَلِف , مِثْل مَقَال . وَمَعْنَى الْآيَة تَقْلِيل الدُّنْيَا وَتَحْقِيرهَا وَالتَّرْغِيب فِي حُسْن الْمَرْجِع إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي الْآخِرَة .
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ↓
مُنْتَهَى الِاسْتِفْهَام عِنْد قَوْله : " مِنْ ذَلِكُمْ " , " لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا " خَبَر مُقَدَّم , و " جَنَّات " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ . وَقِيلَ : مُنْتَهَاهُ " عِنْد رَبّهمْ " , و " جَنَّات " عَلَى هَذَا رُفِعَ بِابْتِدَاءٍ مُضْمَر تَقْدِيره ذَلِكَ جَنَّات . وَيَجُوز عَلَى هَذَا التَّأْوِيل " جَنَّات " بِالْخَفْضِ بَدَلًا مِنْ " خَيْر " وَلَا يَجُوز ذَلِكَ عَلَى الْأَوَّل . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي قَبْلهَا نَظِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( تُنْكَح الْمَرْأَة لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَحَسَبهَا وَجَمَالهَا وَدِينهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّين تَرِبَتْ يَدَاك ) خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . فَقَوْله ( فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّين ) مِثَال لِهَذِهِ الْآيَة . وَمَا قَبْل مِثَال لِلْأُولَى . فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ تَسْلِيَة عَنْ الدُّنْيَا وَتَقْوِيَة لِنُفُوسِ تَارِكِيهَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة مَعَانِي أَلْفَاظ هَذِهِ الْآيَة . وَالرِّضْوَان مَصْدَر مِنْ الرِّضَا , وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّة يَقُول اللَّه تَعَالَى لَهُمْ ( تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدكُمْ ) ؟ فَيَقُولُونَ : يَا رَبّنَا وَأَيّ شَيْء أَفْضَل مِنْ هَذَا ؟ فَيَقُول : ( رِضَايَ فَلَا أَسْخَط عَلَيْكُمْ بَعْده أَبْدًا ) خَرَّجَهُ مُسْلِم .
وَعْد وَوَعِيد .
وَعْد وَوَعِيد .
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ↓
" الَّذِينَ " بَدَل مِنْ قَوْله " لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا " وَإِنْ شِئْت كَانَ رَفْعًا أَيْ هُمْ الَّذِينَ , أَوْ نَصْبًا عَلَى الْمَدْح .
أَيْ يَا رَبّنَا .
أَيْ صَدَّقْنَا .
دُعَاء بِالْمَغْفِرَةِ .
أَصْل " قِنَا " وَقِنَا حُذِفَتْ الْوَاو كَمَا حُذِفَتْ فِي يَقِي وَيَشِي , لِأَنَّهَا بَيْنَ يَاء وَكَسْرَة , مِثْل يَعِد ; هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : حُذِفَتْ فَرْقًا بَيْن اللَّازِم وَالْمُتَعَدِّي . قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : هَذَا خَطَأ ; لِأَنَّ الْعَرَب تَقُول : وَرِمَ يَرِم ; فَيَحْذِفُونَ الْوَاو . وَالْمُرَاد بِالْآيَةِ الدُّعَاء فِي أَلَّا يَكُون الْمَرْء مِمَّنْ يَدْخُلهَا بِمَعَاصِيهِ وَتُخْرِجهُ الشَّفَاعَة . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون دُعَاء مُؤَكِّدًا لِطَلَبِ دُخُول الْجَنَّة ; لِتَكُونَ الرَّغْبَة فِي مَعْنَى النَّجَاة وَالْفَوْز مِنْ الطَّرَفَيْنِ ; كَمَا قَالَ أَحَد الصَّحَابَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا إِنَّمَا أَقُول فِي دُعَائِي : اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّة وَعَافِنِي مِنْ النَّار , وَلَا أَدْرِي مَا دَنْدَنَتك وَلَا دَنْدَنَة مُعَاذ . فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَوْلهَا نُدَنْدِن ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه وَابْن مَاجَهْ أَيْضًا .
أَيْ يَا رَبّنَا .
أَيْ صَدَّقْنَا .
دُعَاء بِالْمَغْفِرَةِ .
أَصْل " قِنَا " وَقِنَا حُذِفَتْ الْوَاو كَمَا حُذِفَتْ فِي يَقِي وَيَشِي , لِأَنَّهَا بَيْنَ يَاء وَكَسْرَة , مِثْل يَعِد ; هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : حُذِفَتْ فَرْقًا بَيْن اللَّازِم وَالْمُتَعَدِّي . قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : هَذَا خَطَأ ; لِأَنَّ الْعَرَب تَقُول : وَرِمَ يَرِم ; فَيَحْذِفُونَ الْوَاو . وَالْمُرَاد بِالْآيَةِ الدُّعَاء فِي أَلَّا يَكُون الْمَرْء مِمَّنْ يَدْخُلهَا بِمَعَاصِيهِ وَتُخْرِجهُ الشَّفَاعَة . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون دُعَاء مُؤَكِّدًا لِطَلَبِ دُخُول الْجَنَّة ; لِتَكُونَ الرَّغْبَة فِي مَعْنَى النَّجَاة وَالْفَوْز مِنْ الطَّرَفَيْنِ ; كَمَا قَالَ أَحَد الصَّحَابَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا إِنَّمَا أَقُول فِي دُعَائِي : اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّة وَعَافِنِي مِنْ النَّار , وَلَا أَدْرِي مَا دَنْدَنَتك وَلَا دَنْدَنَة مُعَاذ . فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَوْلهَا نُدَنْدِن ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه وَابْن مَاجَهْ أَيْضًا .
يَعْنِي عَنْ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَات , وَقِيلَ : عَلَى الطَّاعَات .
أَيْ فِي الْأَفْعَال وَالْأَقْوَال
" الطَّائِعِينَ .
يَعْنِي فِي سَبِيل اللَّه . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى الْكَمَال . فَفَسَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة أَحْوَال الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّاتِ .
اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ " فَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : هُمْ السَّائِلُونَ الْمَغْفِرَة . قَتَادَة : الْمُصَلُّونَ .
قُلْت : وَلَا تَنَاقُض , فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ . وَخَصَّ السَّحَر بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَظَانّ الْقَبُول وَوَقْت إِجَابَة الدُّعَاء . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام لِبَنِيهِ : " سَوْفَ أَسْتَغْفِر لَكُمْ رَبِّي " [ يُوسُف : 98 ] : ( أَنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى السَّحَر ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَسَيَأْتِي . وَسَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيل ( أَيّ اللَّيْل أَسْمَع ) ؟ فَقَالَ : ( لَا أَدْرِي غَيْر أَنَّ الْعَرْش يَهْتَزّ عِنْد السَّحَر ) . يُقَال سَحَر وَسَحْر , بِفَتْحِ الْحَاء وَسُكُونهَا , وَقَالَ الزَّجَّاج : السَّحَر مِنْ حِين يُدْبِر اللَّيْل إِلَى أَنْ يَطْلُع الْفَجْر الثَّانِي , وَقَالَ اِبْن زَيْد : السَّحَر هُوَ سُدُس اللَّيْل الْآخِر .
قُلْت : أَصَحّ مِنْ هَذَا مَا رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَنْزِل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كُلّ لَيْلَة حِينَ يَمْضِي ثُلُث اللَّيْل الْأَوَّل فَيَقُول أَنَا الْمَلِك أَنَا الْمَلِك مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيب لَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلنِي فَأُعْطِيه مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرنِي فَأغْفِر لَهُ فَلَا يَزَال كَذَلِكَ حَتَّى يَطْلُع الْفَجْر ) فِي رِوَايَة " حَتَّى يَنْفَجِر الصُّبْح " لَفْظ مُسْلِم . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيله ; وَأَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ مَا جَاءَ فِي كِتَاب النَّسَائِيّ مُفَسَّرًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَا : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِل حَتَّى يَمْضِيَ شَطْر اللَّيْل الْأَوَّل ثُمَّ يَأْمُر مُنَادِيًا فَيَقُول هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَاب لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر يُغْفَر لَهُ هَلْ مِنْ سَائِل يُعْطَى ) . صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ , وَهُوَ يَرْفَع الْإِشْكَال وَيُوَضِّح كُلّ اِحْتِمَال , وَأَنَّ الْأَوَّل مِنْ بَاب حَذْف الْمُضَاف , أَيْ يَنْزِل مَلَك رَبّنَا فَيَقُول . وَقَدْ رُوِيَ " يُنْزِل " بِضَمِّ الْيَاء , وَهُوَ يُبَيِّن مَا ذَكَرْنَا , وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقنَا . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْره فِي " الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْج أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى وَصِفَاته الْعُلَى " .
مَسْأَلَة : الِاسْتِغْفَار مَنْدُوب إِلَيْهِ , وَقَدْ أَثْنَى اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُسْتَغْفِرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَة وَغَيْرهَا فَقَالَ : " وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " [ الذَّارِيَات : 18 ] . وَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَغْفِر بِالسَّحَرِ سَبْعِينَ اسْتِغْفَارَة . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : بَلَغَنِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَوَّل اللَّيْل نَادَى مُنَادٍ لِيُقِيمَ الْقَانِتُونَ فَيَقُومُونَ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ إِلَى السَّحَر , فَإِذَا كَانَ عِنْد السَّحَر نَادَى مُنَادٍ : أَيْنَ الْمُسْتَغْفِرُونَ فَيَسْتَغْفِر أُولَئِكَ , وَيَقُوم آخَرُونَ فَيُصَلُّونَ فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ . فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْر نَادَى مُنَادٍ : أَلَا لِيَقُمْ الْغَافِلُونَ فَيَقُومُونَ مِنْ فُرُشهمْ كَالْمَوْتَى نُشِرُوا مِنْ قُبُورهمْ . وَرُوِيَ عَنْ أَنَس سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه يَقُول إِنِّي لَأَهُمّ بِعَذَابِ أَهْل الْأَرْض فَإِذَا نَظَرْت إِلَى عُمَّار بُيُوتِي وَإِلَى الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَإِلَى الْمُتَهَجِّدِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ صَرَفْت عَنْهُمْ الْعَذَاب بِهِمْ ) . قَالَ مَكْحُول : إِذَا كَانَ فِي أُمَّة خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّه كُلّ يَوْم خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّة لَمْ يُؤَاخِذ اللَّه تِلْكَ الْأُمَّة بِعَذَابِ الْعَامَّة . وَذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْم فِي كِتَاب الْحِلْيَة لَهُ . وَقَالَ نَافِع : كَانَ اِبْن عُمَر يَحْيَى اللَّيْل ثُمَّ يَقُول : يَا نَافِع أَسْحَرْنَا ؟ فَأَقُول لَا . فَيُعَاوِد الصَّلَاة ثُمَّ يَسْأَل , فَإِذَا قُلْت نَعَمْ قَعَدَ يَسْتَغْفِر . وَرَوَى إِبْرَاهِيم بْن حَاطِب عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت رَجُلًا فِي السَّحَر فِي نَاحِيَة الْمَسْجِد يَقُول : يَا رَبّ , أَمَرْتنِي فَأَطَعْتُك , وَهَذَا سَحَر فَاغْفِرْ لِي . فَنَظَرْت فَإِذَا هُوَ اِبْن مَسْعُود .
قُلْت : فَهَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ اِسْتِغْفَار بِاللِّسَانِ مَعَ حُضُور الْقَلْب . لَا مَا قَالَ اِبْن زَيْد أَنَّ الْمُرَاد بِالْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ صَلَاة الصُّبْح فِي جَمَاعَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ : ( يَا بُنَيّ لَا يَكُنْ الدِّيك أَكْيَس مِنْك , يُنَادِي بِالْأَسْحَارِ وَأَنْتَ نَائِم ) . وَالْمُخْتَار مِنْ لَفْظ الِاسْتِغْفَار مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ شَدَّاد بْن أَوْس , وَلَيْسَ لَهُ فِي الْجَامِع غَيْره , عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( سَيِّد الِاسْتِغْفَار أَنْ تَقُول اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدك وَأَنَا عَلَى عَهْدك وَوَعْدك مَا اِسْتَطَعْت أَعُوذ بِك مِنْ شَرّ مَا صَنَعْت أَبُوء لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوء بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ - قَالَ - وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَار مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمه قَبْل أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْل وَهُوَ مُوقِن بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْله قَبْل أَنْ يُصْبِح فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة ) . وَرَوَى أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد مِنْ حَدِيث اِبْن لَهِيعَة عَنْ أَبِي صَخْر عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ أَبِي الصَّهْبَاء الْبَكْرِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ثُمَّ قَالَ : ( أَلَّا أُعَلِّمك كَلِمَات تَقُولهُنَّ لَوْ كَانَتْ ذُنُوبك كَمَدَبِّ النَّمْل - أَوْ كَمَدَبِّ الذَّرّ لَغَفَرَهَا اللَّه لَك عَلَى أَنَّهُ مَغْفُور لَك : اللَّهُمَّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك عَمِلْت سُوءًا وَظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ ) .
أَيْ فِي الْأَفْعَال وَالْأَقْوَال
" الطَّائِعِينَ .
يَعْنِي فِي سَبِيل اللَّه . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى الْكَمَال . فَفَسَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة أَحْوَال الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّاتِ .
اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ " فَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : هُمْ السَّائِلُونَ الْمَغْفِرَة . قَتَادَة : الْمُصَلُّونَ .
قُلْت : وَلَا تَنَاقُض , فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ . وَخَصَّ السَّحَر بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَظَانّ الْقَبُول وَوَقْت إِجَابَة الدُّعَاء . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام لِبَنِيهِ : " سَوْفَ أَسْتَغْفِر لَكُمْ رَبِّي " [ يُوسُف : 98 ] : ( أَنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى السَّحَر ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَسَيَأْتِي . وَسَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيل ( أَيّ اللَّيْل أَسْمَع ) ؟ فَقَالَ : ( لَا أَدْرِي غَيْر أَنَّ الْعَرْش يَهْتَزّ عِنْد السَّحَر ) . يُقَال سَحَر وَسَحْر , بِفَتْحِ الْحَاء وَسُكُونهَا , وَقَالَ الزَّجَّاج : السَّحَر مِنْ حِين يُدْبِر اللَّيْل إِلَى أَنْ يَطْلُع الْفَجْر الثَّانِي , وَقَالَ اِبْن زَيْد : السَّحَر هُوَ سُدُس اللَّيْل الْآخِر .
قُلْت : أَصَحّ مِنْ هَذَا مَا رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَنْزِل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كُلّ لَيْلَة حِينَ يَمْضِي ثُلُث اللَّيْل الْأَوَّل فَيَقُول أَنَا الْمَلِك أَنَا الْمَلِك مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيب لَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلنِي فَأُعْطِيه مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرنِي فَأغْفِر لَهُ فَلَا يَزَال كَذَلِكَ حَتَّى يَطْلُع الْفَجْر ) فِي رِوَايَة " حَتَّى يَنْفَجِر الصُّبْح " لَفْظ مُسْلِم . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيله ; وَأَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ مَا جَاءَ فِي كِتَاب النَّسَائِيّ مُفَسَّرًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَا : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِل حَتَّى يَمْضِيَ شَطْر اللَّيْل الْأَوَّل ثُمَّ يَأْمُر مُنَادِيًا فَيَقُول هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَاب لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر يُغْفَر لَهُ هَلْ مِنْ سَائِل يُعْطَى ) . صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ , وَهُوَ يَرْفَع الْإِشْكَال وَيُوَضِّح كُلّ اِحْتِمَال , وَأَنَّ الْأَوَّل مِنْ بَاب حَذْف الْمُضَاف , أَيْ يَنْزِل مَلَك رَبّنَا فَيَقُول . وَقَدْ رُوِيَ " يُنْزِل " بِضَمِّ الْيَاء , وَهُوَ يُبَيِّن مَا ذَكَرْنَا , وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقنَا . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْره فِي " الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْج أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى وَصِفَاته الْعُلَى " .
مَسْأَلَة : الِاسْتِغْفَار مَنْدُوب إِلَيْهِ , وَقَدْ أَثْنَى اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُسْتَغْفِرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَة وَغَيْرهَا فَقَالَ : " وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " [ الذَّارِيَات : 18 ] . وَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَغْفِر بِالسَّحَرِ سَبْعِينَ اسْتِغْفَارَة . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : بَلَغَنِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَوَّل اللَّيْل نَادَى مُنَادٍ لِيُقِيمَ الْقَانِتُونَ فَيَقُومُونَ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ إِلَى السَّحَر , فَإِذَا كَانَ عِنْد السَّحَر نَادَى مُنَادٍ : أَيْنَ الْمُسْتَغْفِرُونَ فَيَسْتَغْفِر أُولَئِكَ , وَيَقُوم آخَرُونَ فَيُصَلُّونَ فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ . فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْر نَادَى مُنَادٍ : أَلَا لِيَقُمْ الْغَافِلُونَ فَيَقُومُونَ مِنْ فُرُشهمْ كَالْمَوْتَى نُشِرُوا مِنْ قُبُورهمْ . وَرُوِيَ عَنْ أَنَس سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه يَقُول إِنِّي لَأَهُمّ بِعَذَابِ أَهْل الْأَرْض فَإِذَا نَظَرْت إِلَى عُمَّار بُيُوتِي وَإِلَى الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَإِلَى الْمُتَهَجِّدِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ صَرَفْت عَنْهُمْ الْعَذَاب بِهِمْ ) . قَالَ مَكْحُول : إِذَا كَانَ فِي أُمَّة خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّه كُلّ يَوْم خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّة لَمْ يُؤَاخِذ اللَّه تِلْكَ الْأُمَّة بِعَذَابِ الْعَامَّة . وَذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْم فِي كِتَاب الْحِلْيَة لَهُ . وَقَالَ نَافِع : كَانَ اِبْن عُمَر يَحْيَى اللَّيْل ثُمَّ يَقُول : يَا نَافِع أَسْحَرْنَا ؟ فَأَقُول لَا . فَيُعَاوِد الصَّلَاة ثُمَّ يَسْأَل , فَإِذَا قُلْت نَعَمْ قَعَدَ يَسْتَغْفِر . وَرَوَى إِبْرَاهِيم بْن حَاطِب عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت رَجُلًا فِي السَّحَر فِي نَاحِيَة الْمَسْجِد يَقُول : يَا رَبّ , أَمَرْتنِي فَأَطَعْتُك , وَهَذَا سَحَر فَاغْفِرْ لِي . فَنَظَرْت فَإِذَا هُوَ اِبْن مَسْعُود .
قُلْت : فَهَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ اِسْتِغْفَار بِاللِّسَانِ مَعَ حُضُور الْقَلْب . لَا مَا قَالَ اِبْن زَيْد أَنَّ الْمُرَاد بِالْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ صَلَاة الصُّبْح فِي جَمَاعَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ : ( يَا بُنَيّ لَا يَكُنْ الدِّيك أَكْيَس مِنْك , يُنَادِي بِالْأَسْحَارِ وَأَنْتَ نَائِم ) . وَالْمُخْتَار مِنْ لَفْظ الِاسْتِغْفَار مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ شَدَّاد بْن أَوْس , وَلَيْسَ لَهُ فِي الْجَامِع غَيْره , عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( سَيِّد الِاسْتِغْفَار أَنْ تَقُول اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدك وَأَنَا عَلَى عَهْدك وَوَعْدك مَا اِسْتَطَعْت أَعُوذ بِك مِنْ شَرّ مَا صَنَعْت أَبُوء لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوء بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ - قَالَ - وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَار مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمه قَبْل أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْل وَهُوَ مُوقِن بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْله قَبْل أَنْ يُصْبِح فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة ) . وَرَوَى أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد مِنْ حَدِيث اِبْن لَهِيعَة عَنْ أَبِي صَخْر عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ أَبِي الصَّهْبَاء الْبَكْرِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ثُمَّ قَالَ : ( أَلَّا أُعَلِّمك كَلِمَات تَقُولهُنَّ لَوْ كَانَتْ ذُنُوبك كَمَدَبِّ النَّمْل - أَوْ كَمَدَبِّ الذَّرّ لَغَفَرَهَا اللَّه لَك عَلَى أَنَّهُ مَغْفُور لَك : اللَّهُمَّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك عَمِلْت سُوءًا وَظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ ) .
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ↓
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل [ الْأُولَى ] قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : كَانَ حَوْل الْكَعْبَة ثَلَاثمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا , فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة خَرَرْنَ سُجَّدًا . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : لَمَّا ظَهَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ قَدِمَ عَلَيْهِ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَار أَهْل الشَّام ; فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَة قَالَ أَحَدهمَا لِصَاحِبِهِ : مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَة بِصِفَةِ مَدِينَة النَّبِيّ الَّذِي يَخْرُج فِي آخِر الزَّمَان . فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَاهُ بِالصِّفَةِ وَالنَّعْت , فَقَالَا لَهُ : أَنْتَ مُحَمَّد ؟ قَالَ ( نَعَمْ ) . قَالَا : وَأَنْتَ أَحْمَد ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) . قَالَا : نَسْأَلك عَنْ شَهَادَة , فَإِنْ أَنْتَ أَخْبَرْتنَا بِهَا آمَنَّا بِك وَصَدَّقْنَاك . فَقَالَ لَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَلَانِي ) . فَقَالَا : أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَم شَهَادَة فِي كِتَاب اللَّه . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ " فَأَسْلَمَ الرَّجُلَانِ وَصَدَّقَا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِأُولِي الْعِلْم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار . مُقَاتِل : مُؤْمِنُو أَهْل الْكِتَاب السُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ : الْمُؤْمِنُونَ كُلّهمْ ; وَهُوَ الْأَظْهَر لِأَنَّهُ عَامّ . [ الثَّانِيَة ] فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى فَضْل الْعِلْم وَشَرَف الْعُلَمَاء وَفَضْلهمْ ; فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَد أَشْرَفَ مِنْ الْعُلَمَاء لَقَرَنَهُمْ اللَّه بِاسْمِهِ وَاسْم مَلَائِكَته كَمَا قَرَنَ اِسْم الْعُلَمَاء . وَقَالَ فِي شَرَف الْعِلْم لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَقُلْ رَبّ زِدْنِي عِلْمًا " [ طَه : 114 ] . فَلَوْ كَانَ شَيْء أَشْرَف مِنْ الْعِلْم لَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلهُ الْمَزِيد مِنْهُ كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدهُ مِنْ الْعِلْم . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء ) . وَقَالَ : ( الْعُلَمَاء أُمَنَاء اللَّه عَلَى خَلْقه ) . وَهَذَا شَرَف لِلْعُلَمَاءِ عَظِيم , وَمَحَلّ لَهُمْ فِي الدِّين خَطِير . وَخَرَّجَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ الْحَافِظ مِنْ حَدِيث بَرَكَة بْن نَشِيط - وَهُوَ عَنْكَل بْن حكارك وَتَفْسِيره بَرَكَة بْن نَشِيط - وَكَانَ حَافِظًا , حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْمُؤَمَّل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي الْخَصِيب حَدَّثَنَا عَنْكَل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق حَدَّثَنَا شَرِيك عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ الْبَرَاء قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء يُحِبّهُمْ أَهْل السَّمَاء وَيَسْتَغْفِر لَهُمْ الْحِيتَان فِي الْبَحْر إِذَا مَاتُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) وَفَى هَذَا الْبَاب حَدِيث عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد . [ الثَّالِثَة ] رَوَى غَالِب الْقَطَّان قَالَ : أَتَيْت الْكُوفَة فِي تِجَارَة فَنَزَلْت قَرِيبًا مِنْ الْأَعْمَش فَكُنْت أَخْتَلِف إِلَيْهِ . فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة أَرَدْت أَنْ أَنْحَدِر إِلَى الْبَصْرَة قَامَ فَتَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْل فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَة : " شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم . إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام " [ آل عِمْرَان : 18 - 19 ] , قَالَ الْأَعْمَش : وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّه بِهِ , وَأَسْتَوْدِع اللَّه هَذِهِ الشَّهَادَة , وَهِيَ لِي عِنْد اللَّه وَدِيعَة , وَإِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام - قَالَهَا مِرَارًا - فَغَدَوْت إِلَيْهِ وَوَدَّعْته ثُمَّ قُلْت : إِنِّي سَمِعْتُك تَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة فَمَا بَلَغَك فِيهَا ؟ أَنَا عِنْدك مُنْذُ سَنَة لَمْ تُحَدِّثنِي بِهِ . قَالَ : وَاَللَّه لَا حَدَّثْتُك بِهِ سَنَة . قَالَ : فَأَقَمْت وَكَتَبْت عَلَى بَابه ذَلِكَ الْيَوْم , فَلَمَّا مَضَتْ السَّنَة قُلْت : يَا أَبَا مُحَمَّد قَدْ مَضَتْ السَّنَة . قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو وَائِل , عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُجَاء بِصَاحِبِهَا يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول اللَّه تَعَالَى عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقّ مَنْ وَفَّى أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّة ) . قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : غَالِب الْقَطَّان هُوَ غَالِب بْن خَطَّاف الْقَطَّان , يَرْوِي عَنْ الْأَعْمَش حَدِيث ( شَهِدَ اللَّه ) وَهُوَ حَدِيث مُعْضَل . قَالَ اِبْن عَدِيّ الضَّعْف عَلَى حَدِيثه بَيِّن . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : غَالِب بْن خَطَّاف الْقَطَّان ثِقَة ثِقَة . وَقَالَ اِبْن مَعِين : ثِقَة . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : صَدُوق صَالِح . قُلْت : يَكْفِيك مِنْ عَدَالَته وَثِقَته أَنْ خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي كِتَابَيْهِمَا , وَحَسْبك . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم عِنْد مَنَامه خَلَقَ اللَّه لَهُ سَبْعِينَ أَلْف مَلَك يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَيُقَال مَنْ أَقَرَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَة عَنْ عَقْد مِنْ قَلْبه فَقَدْ قَامَ بِالْعَدْلِ . وَرُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّهُ قَالَ : كَانَ حَوْل الْكَعْبَة ثَلَاثمِائَةِ وَسِتُّونَ صَنَمًا لِكُلِّ حَيّ مِنْ أَحْيَاء الْعَرَب صَنَم أَوْ صَنَمَانِ . فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة أَصْبَحَتْ الْأَصْنَام قَدْ خَرَّتْ سَاجِدَة لِلَّهِ . [ الرَّابِعَة ] قَوْله تَعَالَى : " شَهِدَ اللَّه " أَيْ بَيَّنَ وَأَعْلَمَ ; كَمَا يُقَال : شَهِدَ فُلَان عِنْد الْقَاضِي إِذَا بَيَّنَ وَأَعْلَمَ لِمَنْ الْحَقّ , أَوْ عَلَى مَنْ هُوَ . قَالَ الزَّجَّاج : الشَّاهِد هُوَ الَّذِي يَعْلَم الشَّيْء وَيُبَيِّنهُ ; فَقَدْ دَلَّنَا اللَّه تَعَالَى عَلَى وَحْدَانِيّته بِمَا خَلَقَ وَبَيَّنَ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : " شَهِدَ اللَّه " بِمَعْنَى قَضَى اللَّه , أَيْ أَعْلَمَ . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا مَرْدُود مِنْ جِهَات . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ بِفَتْحِ " أَنَّ " فِي قَوْله " أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ " وَقَوْله " أَنَّ الدِّين " . قَالَ الْمُبَرِّد : التَّقْدِير : أَنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ , ثُمَّ حُذِفَتْ الْبَاء كَمَا قَالَ : أَمَرْتُك الْخَيْر . أَيْ بِالْخَيْرِ . قَالَ الْكِسَائِيّ : أَنْصِبهُمَا جَمِيعًا , بِمَعْنَى شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ كَذَا , وَأَنَّ الَّذِينَ عِنْد اللَّه . قَالَ اِبْن كَيْسَان : " أَنَّ " الثَّانِيَة بَدَل مِنْ الْأُولَى ; لِأَنَّ الْإِسْلَام تَفْسِير الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ التَّوْحِيد . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس فِيمَا حَكَى الْكِسَائِيّ " شَهِدَ اللَّه إِنَّهُ " " بِالْكَسْرِ " " أَنَّ الدِّين " بِالْفَتْحِ . وَالتَّقْدِير : شَهِدَ اللَّه أَنَّ الدِّين الْإِسْلَام , ثُمَّ اِبْتِدَاء فَقَالَ : إِنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ . وَقَرَأَ أَبُو الْمُهْلِب وَكَانَ قَارِئًا - شُهَدَاء اللَّه بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَال , وَعَنْهُ " شُهَدَاء اللَّه " . وَرَوَى شُعْبَة عَنْ عَاصِم عَنْ زِرّ عَنْ أُبَيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأ " أَنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْحَنِيفِيَّة لَا الْيَهُودِيَّة وَلَا النَّصْرَانِيَّة وَلَا الْمَجُوسِيَّة " . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي تَمْيِيز أَنَّ هَذَا الْكَلَام مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَة التَّفْسِير , أَدْخَلَهُ بَعْض مَنْ نَقَلَ الْحَدِيث فِي الْقُرْآن . و " قَائِمًا " نَصْب عَلَى الْحَال الْمُؤَكَّدَة مِنْ اِسْمه تَعَالَى فِي قَوْله " شَهِدَ اللَّه " أَوْ مِنْ قَوْله " إِلَّا هُوَ " . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ نَصْب عَلَى الْقَطْع , كَانَ أَصْله الْقَائِم , فَلَمَّا قُطِعَتْ الْأَلِف وَاللَّام نُصِبَ كَقَوْلِهِ : " وَلَهُ الدِّين وَاصِبًا " [ النَّحْل : 52 ] . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه " الْقَائِم بِالْقِسْطِ " عَلَى النَّعْت , وَالْقِسْط الْعَدْل . " لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم " كَرَّرَ لِأَنَّ الْأُولَى حَلَّتْ مَحَلّ الدَّعْوَى , وَالشَّهَادَة الثَّانِيَة حَلَّتْ مَحَلّ الْحُكْم . وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق : الْأُولَى وَصْف وَتَوْحِيد , وَالثَّانِيَة رَسْم وَتَعْلِيم ; يَعْنِي قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه الْعَزِيز الْحَكِيم .
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ↓
إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام " الدِّين فِي هَذِهِ الْآيَة الطَّاعَة وَالْمِلَّة , وَالْإِسْلَام بِمَعْنَى الْإِيمَان وَالطَّاعَات ; قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَة , وَعَلَيْهِ جُمْهُور الْمُتَكَلِّمِينَ . وَالْأَصْل فِي مُسَمَّى الْإِيمَان وَالْإِسْلَام التَّغَايُر ; لِحَدِيثِ جِبْرِيل . وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى الْمُرَادَفَة . فَيُسَمَّى كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِاسْمِ الْآخَر ; كَمَا فِي حَدِيث وَفْد عَبْد الْقَيْس وَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْده وَقَالَ : ( هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَان ) ؟ قَالُوا : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم . قَالَ : ( شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه وَإِقَام الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَم ) الْحَدِيث . وَكَذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْإِيمَان بِضْع وَسَبْعُونَ بَابًا فَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى وَأَرْفَعهَا قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ . وَزَادَ مُسْلِم ( وَالْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الْإِيمَان ) . وَيَكُون أَيْضًا بِمَعْنَى التَّدَاخُل وَهُوَ أَنْ يُطْلَق أَحَدهمَا وَيُرَاد بِهِ مُسَمَّاهُ فِي الْأَصْل وَمُسَمَّى الْآخَر , كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة إِذْ قَدْ دَخَلَ فِيهَا التَّصْدِيق وَالْأَعْمَال ; وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْإِيمَان مَعْرِفَة بِالْقَلْبِ وَقَوْل بِاللِّسَانِ وَعَمَل بِالْأَرْكَانِ ) . أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ , وَقَدْ تَقَدَّمَ وَالْحَقِيقَة هُوَ الْأَوَّل وَضْعًا وَشَرْعًا وَمَا عَدَاهُ مِنْ بَاب التَّوَسُّع وَاَللَّه أَعْلَم .
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ اِخْتِلَاف أَهْل الْكِتَاب أَنَّهُ كَانَ عَلَى عِلْم مِنْهُمْ بِالْحَقَائِقِ , وَأَنَّهُ كَانَ بَغْيًا وَطَلَبًا لِلدُّنْيَا . قَالَ اِبْن عُمَر وَغَيْره . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَالْمَعْنَى : وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب بَغْيًا بَيْنهمْ إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْعِلْم ; قَالَهُ الْأَخْفَش . قَالَ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر : الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة النَّصَارَى , وَهِيَ تَوْبِيخ لِنَصَارَى نَجْرَان . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : الْمُرَاد بِهَا الْيَهُود . وَلَفْظ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب يَعُمّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ; أَيْ " وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " يَعْنِي فِي نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَعْنِي بَيَان صِفَته وَنُبُوَّته فِي كُتُبهمْ . وَقِيلَ : أَيْ وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْإِنْجِيل فِي أَمْر عِيسَى وَفَرَّقُوا فِيهِ الْقَوْل إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْعِلْم بِأَنَّ اللَّه إِلَه وَاحِد , وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّه وَرَسُوله .
نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول مِنْ أَجْله , أَوْ عَلَى الْحَال مِنْ ( الَّذِينَ ) وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ اِخْتِلَاف أَهْل الْكِتَاب أَنَّهُ كَانَ عَلَى عِلْم مِنْهُمْ بِالْحَقَائِقِ , وَأَنَّهُ كَانَ بَغْيًا وَطَلَبًا لِلدُّنْيَا . قَالَ اِبْن عُمَر وَغَيْره . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَالْمَعْنَى : وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب بَغْيًا بَيْنهمْ إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْعِلْم ; قَالَهُ الْأَخْفَش . قَالَ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر : الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة النَّصَارَى , وَهِيَ تَوْبِيخ لِنَصَارَى نَجْرَان . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : الْمُرَاد بِهَا الْيَهُود . وَلَفْظ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب يَعُمّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ; أَيْ " وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " يَعْنِي فِي نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَعْنِي بَيَان صِفَته وَنُبُوَّته فِي كُتُبهمْ . وَقِيلَ : أَيْ وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْإِنْجِيل فِي أَمْر عِيسَى وَفَرَّقُوا فِيهِ الْقَوْل إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْعِلْم بِأَنَّ اللَّه إِلَه وَاحِد , وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّه وَرَسُوله .
نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول مِنْ أَجْله , أَوْ عَلَى الْحَال مِنْ ( الَّذِينَ ) وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ↓
أَيْ جَادَلُوك بِالْأَقَاوِيلِ الْمُزَوَّرَة وَالْمُغَالَطَات , فَأَسْنِدْ أَمْرك إِلَى مَا كُلِّفْت مِنْ الْإِيمَان وَالتَّبْلِيغ وَعَلَى اللَّه نَصْرك . وَقَوْله " وَجْهِي " بِمَعْنَى ذَاتِي ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ ) . وَقِيلَ : الْوَجْه هُنَا بِمَعْنَى الْقَصْد ; كَمَا تَقُول : خَرَجَ فُلَان فِي وَجْه كَذَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَة مُسْتَوْفًى ; وَالْأَوَّل أَوْلَى . وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنْ سَائِر الذَّات إِذْ هُوَ أَشْرَف أَعْضَاء الشَّخْص وَأَجْمَعهَا لِلْحَوَاسِّ . وَقَالَ : أَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الْمُزْن تَحْمِل عَذْبًا زُلَالَا وَقَدْ قَالَ حُذَّاق الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَيَبْقَى وَجْه رَبّك " [ الرَّحْمَن : 27 ] : إِنَّهَا عِبَارَة عَنْ الذَّات وَقِيلَ : الْعَمَل الَّذِي يُقْصَد بِهِ وَجْهه .
" مِنْ " فِي مَحَلّ رَفْع عَطْفًا عَلَى التَّاء فِي قَوْله " أَسْلَمْت " أَيْ وَمَنْ اِتَّبَعَنِي أَسْلَمَ أَيْضًا , وَجَازَ الْعَطْف عَلَى الضَّمِير الْمَرْفُوع مِنْ غَيْر تَأْكِيد لِلْفَصْلِ بَيْنهمَا . وَأَثْبَتَ نَافِع وَأَبَا عَمْرو وَيَعْقُوب يَاء " اِتَّبَعَنِي " عَلَى الْأَصْل , وَحَذَفَ الْآخَرُونَ اِتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ إِذْ وَقَعَتْ فِيهِ بِغَيْرِ يَاء . وَقَالَ الشَّاعِر : لَيْسَ تُخْفِي يَسَارَتِي قَدْر يَوْم وَلَقَدْ تُخْفِي شِيمَتِي إِعْسَارِي
يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى " وَالْأُمِّيِّينَ " الَّذِينَ لَا كِتَاب لَهُمْ وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَب . " أَأَسْلَمْتُمْ " اِسْتِفْهَام مَعْنَاهُ التَّقْرِير وَفِي ضِمْنه الْأَمْر , أَيْ أَسْلِمُوا ; كَذَا قَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره . وَقَالَ الزَّجَّاج : " أَأَسْلَمْتُمْ " تَهْدِيد . وَهَذَا حَسَن لِأَنَّ الْمَعْنَى أَأَسْلَمْتُمْ أَمْ لَا . وَجَاءَتْ الْعِبَارَة فِي قَوْله " فَقَدْ اِهْتَدَوْا " بِالْمَاضِي مُبَالَغَة فِي الْإِخْبَار بِوُقُوعِ الْهَدْي لَهُمْ وَتَحْصِيله . و " الْبَلَاغ " مَصْدَر بَلَغَ بِتَخْفِيفِ عَيْن الْفِعْل , أَيْ إِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُبَلِّغ . وَقِيلَ : إِنَّهُ مِمَّا نُسِخَ بِالْجِهَادِ . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى مَعْرِفَة تَارِيخ نُزُولهَا ; وَأَمَّا عَلَى ظَاهِر نُزُول هَذِهِ الْآيَات فِي وَفْد نَجْرَان فَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَإِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُبَلِّغ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك بِمَا فِيهِ مِنْ قِتَال وَغَيْره .
" مِنْ " فِي مَحَلّ رَفْع عَطْفًا عَلَى التَّاء فِي قَوْله " أَسْلَمْت " أَيْ وَمَنْ اِتَّبَعَنِي أَسْلَمَ أَيْضًا , وَجَازَ الْعَطْف عَلَى الضَّمِير الْمَرْفُوع مِنْ غَيْر تَأْكِيد لِلْفَصْلِ بَيْنهمَا . وَأَثْبَتَ نَافِع وَأَبَا عَمْرو وَيَعْقُوب يَاء " اِتَّبَعَنِي " عَلَى الْأَصْل , وَحَذَفَ الْآخَرُونَ اِتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ إِذْ وَقَعَتْ فِيهِ بِغَيْرِ يَاء . وَقَالَ الشَّاعِر : لَيْسَ تُخْفِي يَسَارَتِي قَدْر يَوْم وَلَقَدْ تُخْفِي شِيمَتِي إِعْسَارِي
يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى " وَالْأُمِّيِّينَ " الَّذِينَ لَا كِتَاب لَهُمْ وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَب . " أَأَسْلَمْتُمْ " اِسْتِفْهَام مَعْنَاهُ التَّقْرِير وَفِي ضِمْنه الْأَمْر , أَيْ أَسْلِمُوا ; كَذَا قَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره . وَقَالَ الزَّجَّاج : " أَأَسْلَمْتُمْ " تَهْدِيد . وَهَذَا حَسَن لِأَنَّ الْمَعْنَى أَأَسْلَمْتُمْ أَمْ لَا . وَجَاءَتْ الْعِبَارَة فِي قَوْله " فَقَدْ اِهْتَدَوْا " بِالْمَاضِي مُبَالَغَة فِي الْإِخْبَار بِوُقُوعِ الْهَدْي لَهُمْ وَتَحْصِيله . و " الْبَلَاغ " مَصْدَر بَلَغَ بِتَخْفِيفِ عَيْن الْفِعْل , أَيْ إِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُبَلِّغ . وَقِيلَ : إِنَّهُ مِمَّا نُسِخَ بِالْجِهَادِ . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى مَعْرِفَة تَارِيخ نُزُولهَا ; وَأَمَّا عَلَى ظَاهِر نُزُول هَذِهِ الْآيَات فِي وَفْد نَجْرَان فَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَإِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُبَلِّغ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك بِمَا فِيهِ مِنْ قِتَال وَغَيْره .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ↓
فِيهِ سِتّ مَسَائِل [ الْأُولَى ] قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ " قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد : كَانَ نَاس مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل جَاءَهُمْ النَّبِيُّونَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَتَلُوهُمْ , فَقَامَ أُنَاس مِنْ بَعْدهمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَقَتَلُوهُمْ ; فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَكَذَلِكَ قَالَ مَعْقِل بْن أَبِي مِسْكِين : كَانَتْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ تَجِيء إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِغَيْرِ كِتَاب فَيَقْتُلُونَهُمْ , فَيَقُوم قَوْم مِمَّنْ اِتَّبَعَهُمْ فَيَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ , أَيْ بِالْعَدْلِ , فَيُقْتَلُونَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بِئْسَ الْقَوْم قَوْم يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاس , بِئْسَ الْقَوْم قَوْم لَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر , بِئْسَ الْقَوْم قَوْم يَمْشِي الْمُؤْمِن بَيْنهمْ بِالتَّقِيَّةِ ) وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيل ثَلَاثَة وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّل النَّهَار فِي سَاعَة وَاحِدَة فَقَامَ مِائَة رَجُل وَاثْنَا عَشَر رَجُلًا مِنْ عُبَّاد بَنِي إِسْرَائِيل فَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَر فَقُتِلُوا جَمِيعًا فِي آخِر النَّهَار مِنْ ذَلِكَ الْيَوْم وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَة ) . ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ وَغَيْره . وَرَوَى شُعْبَة عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي عُبَيْدَة عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل تَقْتُل الْيَوْم سَبْعِينَ نَبِيًّا ثُمَّ تَقُوم سُوق بَقْلهمْ مِنْ آخِر النَّهَار .
فَإِنْ قَالَ قَائِل : الَّذِينَ وُعِظُوا بِهَذَا لَمْ يَقْتُلُوا نَبِيًّا . فَالْجَوَاب عَنْ هَذَا أَنَّهُمْ رَضُوا فِعْل مَنْ قَتَلَ فَكَانُوا بِمَنْزِلَتِهِ ; وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَهَمُّوا بِقَتْلِهِمْ ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِذْ يَمْكُر بِك الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك أَوْ يَقْتُلُوك " [ الْأَنْفَال : 30 ] . [ الثَّانِيَة ] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر كَانَ وَاجِبًا فِي الْأُمَم الْمُتَقَدِّمَة , وَهُوَ فَائِدَة الرِّسَالَة وَخِلَافَة النُّبُوَّة . قَالَ الْحَسَن قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهَى عَنْ الْمُنْكَر فَهُوَ خَلِيفَة اللَّه فِي أَرْضه وَخَلِيفَة رَسُوله وَخَلِيفَة كِتَابه ) . وَعَنْ دُرَّة بِنْت أَبِي لَهَب قَالَتْ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر فَقَالَ : مَنْ خَيْر النَّاس يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( آمِرهمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَر وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ وَأَوْصَلهمْ لِرَحِمِهِ ) . وَفِي التَّنْزِيل : " الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات بَعْضهمْ مِنْ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوف " [ التَّوْبَة : 67 ] ثُمَّ قَالَ : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر " [ التَّوْبَة : 71 ] . فَجَعَلَ تَعَالَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَخَصّ أَوْصَاف الْمُؤْمِن الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَرَأْسهَا الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام وَالْقِتَال عَلَيْهِ . ثُمَّ إِنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ لَا يَلِيق بِكُلِّ أَحَد , وَإِنَّمَا يَقُوم بِهِ السُّلْطَان إِذْ كَانَتْ إِقَامَة الْحُدُود إِلَيْهِ , وَالتَّعْزِيز إِلَى رَأْيه , وَالْحَبْس وَالْإِطْلَاق لَهُ , وَالنَّفْي وَالتَّغْرِيب ; فَيَنْصِب فِي كُلّ بَلْدَة رَجُلًا صَالِحًا قَوِيًّا عَالِمًا أَمِينًا وَيَأْمُرهُ بِذَلِكَ , وَيُمْضِي الْحُدُود عَلَى وَجْههَا مِنْ غَيْر زِيَادَة . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهمْ فِي الْأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَر " [ الْحَجّ : 41 ] . [ الثَّالِثَة ] وَلَيْسَ مِنْ شَرْط النَّاهِي أَنْ يَكُون عَدْلًا عِنْد أَهْل السُّنَّة , خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ حَيْثُ تَقُول : لَا يُغَيِّرهُ إِلَّا عَدْل . وَهَذَا سَاقِط ; فَإِنَّ الْعَدَالَة مَحْصُورَة فِي الْقَلِيل مِنْ الْخَلْق , وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر عَامّ فِي جَمِيع النَّاس . فَإِنْ تَشَبَّثُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ " [ الْبَقَرَة : 44 ] وَقَوْله : " كَبُرَ مَقْتًا عِنْد اللَّه أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ " [ الصَّفّ : 3 ] وَنَحْوه , قِيلَ لَهُمْ : إِنَّمَا وَقَعَ الذَّمّ هَاهُنَا عَلَى اِرْتِكَاب مَا نُهِيَ عَنْهُ لَا عَلَى نَهْيه عَنْ الْمُنْكَر . وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النَّهْي عَنْهُ مِمَّنْ يَأْتِيه أَقْبَح مِمَّنْ لَا يَأْتِيه , وَلِذَلِكَ يَدُور فِي جَهَنَّم كَمَا يَدُور الْحِمَار بِالرَّحَى , كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبَقَرَة عِنْد قَوْله تَعَالَى : " أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ " [ الْبَقَرَة : 44 ] . [ الرَّابِعَة ] أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا ذُكِرَ اِبْن عَبْد الْبَرّ أَنَّ الْمُنْكَر وَاجِب تَغْيِيره عَلَى كُلّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ , وَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَلْحَقهُ بِتَغْيِيرِهِ إِلَّا اللَّوْم الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْأَذَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجِب أَنْ يَمْنَعهُ مِنْ تَغْيِيره ; فَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَبِلِسَانِهِ , فَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَبِقَلْبِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ سِوَى ذَلِكَ . قَالَ : وَالْأَحَادِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْكِيد الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر كَثِيرَة جِدًّا وَلَكِنَّهَا مُقَيَّدَة بِالِاسْتِطَاعَةِ . قَالَ الْحَسَن : إِنَّمَا يُكَلَّم مُؤْمِن يُرْجَى أَوْ جَاهِل يُعَلَّم ; فَأَمَّا مَنْ وَضَعَ سَيْفه أَوْ سَوْطه فَقَالَ : اِتَّقِنِي اِتَّقِنِي فَمَا لَك وَلَهُ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : بِحَسْب الْمَرْء إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيع تَغْيِيره أَنْ يَعْلَم اللَّه مِنْ قَلْبه أَنَّهُ لَهُ كَارِه . وَرَوَى اِبْن لَهِيعَة عَنْ الْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلّ نَفْسه ) . قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه وَمَا إِذْلَاله نَفْسه ؟ قَالَ : ( يَتَعَرَّض مِنْ الْبَلَاء لِمَا لَا يَقُوم لَهُ ) .
قُلْت : وَخَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد بْن جُدْعَان عَنْ الْحَسَن بْن جُنْدُب عَنْ حُذَيْفَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكِلَاهُمَا قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الرَّجُل إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيع النَّكِير عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ ثَلَاث مَرَّات " اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا مُنْكَر " فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ , وَزَعَمَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنَّ مَنْ رَجَا زَوَاله وَخَافَ عَلَى نَفْسه مِنْ تَغْيِيره الضَّرْب أَوْ الْقَتْل جَازَ لَهُ عِنْد أَكْثَر الْعُلَمَاء الِاقْتِحَام عِنْد هَذَا الْغَرَر , وَإِنْ لَمْ يَرْجُ زَوَاله فَأَيّ فَائِدَة عِنْده . قَالَ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ النِّيَّة إِذَا خَلَصَتْ فَلْيَقْتَحِمْ كَيْفَ مَا كَانَ وَلَا يُبَالِي .
قُلْت : هَذَا خِلَاف مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر مِنْ الْإِجْمَاع . وَهَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى جَوَاز الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مَعَ خَوْف الْقَتْل . وَقَالَ تَعَالَى : " وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَر وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك " [ لُقْمَان : 17 ] . وَهَذَا إِشَارَة إِلَى الْإِذَايَة . [ الْخَامِسَة ] رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان ) . قَالَ الْعُلَمَاء : الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ بِالْيَدِ عَلَى الْأُمَرَاء , وَبِاللِّسَانِ عَلَى الْعُلَمَاء , وَبِالْقَلْبِ عَلَى الضُّعَفَاء , يَعْنِي عَوَامّ النَّاس . فَالْمُنْكَر إِذَا أَمْكَنَتْ إِزَالَته بِاللِّسَانِ لِلنَّاهِي فَلْيَفْعَلْهُ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنهُ إِلَّا بِالْعُقُوبَةِ أَوْ بِالْقَتْلِ فَلْيَفْعَلْ , فَإِنْ زَالَ بِدُونِ الْقَتْل لَمْ يَجُزْ الْقَتْل ; وَهَذَا تُلُقِّيَ مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْر اللَّه " [ الْحُجُرَات : 9 ] . وَعَلَيْهِ بَنَى الْعُلَمَاء أَنَّهُ إِذَا دَفَعَ الصَّائِل عَلَى النَّفْس أَوْ عَلَى الْمَال عَنْ نَفْسه أَوْ عَنْ مَاله أَوْ نَفْس غَيْره فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ . وَلَوْ رَأَى زَيْد عَمْرًا وَقَدْ قَصَدَ مَال بَكْر فَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعهُ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِب الْمَال قَادِرًا عَلَيْهِ وَلَا رَاضِيًا بِهِ ; حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاء : لَوْ فَرَضْنَا قَوَدًا . وَقِيلَ : كُلّ بَلْدَة يَكُون فِيهَا أَرْبَعَة فَأَهْلهَا مَعْصُومُونَ مِنْ الْبَلَاء : إِمَام عَادِل لَا يَظْلِم , وَعَالِم عَلَى سَبِيل الْهُدَى , وَمَشَايِخ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر وَيُحَرِّضُونَ عَلَى طَلَب الْعِلْم وَالْقُرْآن , وَنِسَاؤُهُمْ مَسْتُورَات لَا يَتَبَرَّجْنَ تَبَرُّج الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى . [ السَّادِسَة ] رَوَى أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قِيلَ يَا رَسُول اللَّه , مَتَى نَتْرُك الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر ؟ قَالَ : ( إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الْأُمَم قَبْلكُمْ ) . قُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه وَمَا ظَهَرَ فِي الْأُمَم قَبْلنَا ؟ قَالَ : ( الْمُلْك فِي صِغَاركُمْ وَالْفَاحِشَة فِي كِبَاركُمْ وَالْعِلْم فِي رُذَالَتكُمْ ) . قَالَ زَيْد : تَفْسِير مَعْنَى قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَالْعِلْم فِي رُذَالَتكُمْ ) إِذَا كَانَ الْعِلْم فِي الْفُسَّاق . خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَاب مَزِيد بَيَان فِي " الْمَائِدَة " وَغَيْرهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَتَقَدَّمَ مَعْنَى " فَبَشِّرْهُمْ "
فَإِنْ قَالَ قَائِل : الَّذِينَ وُعِظُوا بِهَذَا لَمْ يَقْتُلُوا نَبِيًّا . فَالْجَوَاب عَنْ هَذَا أَنَّهُمْ رَضُوا فِعْل مَنْ قَتَلَ فَكَانُوا بِمَنْزِلَتِهِ ; وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَهَمُّوا بِقَتْلِهِمْ ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِذْ يَمْكُر بِك الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك أَوْ يَقْتُلُوك " [ الْأَنْفَال : 30 ] . [ الثَّانِيَة ] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر كَانَ وَاجِبًا فِي الْأُمَم الْمُتَقَدِّمَة , وَهُوَ فَائِدَة الرِّسَالَة وَخِلَافَة النُّبُوَّة . قَالَ الْحَسَن قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهَى عَنْ الْمُنْكَر فَهُوَ خَلِيفَة اللَّه فِي أَرْضه وَخَلِيفَة رَسُوله وَخَلِيفَة كِتَابه ) . وَعَنْ دُرَّة بِنْت أَبِي لَهَب قَالَتْ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر فَقَالَ : مَنْ خَيْر النَّاس يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( آمِرهمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَر وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ وَأَوْصَلهمْ لِرَحِمِهِ ) . وَفِي التَّنْزِيل : " الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات بَعْضهمْ مِنْ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوف " [ التَّوْبَة : 67 ] ثُمَّ قَالَ : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر " [ التَّوْبَة : 71 ] . فَجَعَلَ تَعَالَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَخَصّ أَوْصَاف الْمُؤْمِن الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَرَأْسهَا الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام وَالْقِتَال عَلَيْهِ . ثُمَّ إِنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ لَا يَلِيق بِكُلِّ أَحَد , وَإِنَّمَا يَقُوم بِهِ السُّلْطَان إِذْ كَانَتْ إِقَامَة الْحُدُود إِلَيْهِ , وَالتَّعْزِيز إِلَى رَأْيه , وَالْحَبْس وَالْإِطْلَاق لَهُ , وَالنَّفْي وَالتَّغْرِيب ; فَيَنْصِب فِي كُلّ بَلْدَة رَجُلًا صَالِحًا قَوِيًّا عَالِمًا أَمِينًا وَيَأْمُرهُ بِذَلِكَ , وَيُمْضِي الْحُدُود عَلَى وَجْههَا مِنْ غَيْر زِيَادَة . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهمْ فِي الْأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَر " [ الْحَجّ : 41 ] . [ الثَّالِثَة ] وَلَيْسَ مِنْ شَرْط النَّاهِي أَنْ يَكُون عَدْلًا عِنْد أَهْل السُّنَّة , خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ حَيْثُ تَقُول : لَا يُغَيِّرهُ إِلَّا عَدْل . وَهَذَا سَاقِط ; فَإِنَّ الْعَدَالَة مَحْصُورَة فِي الْقَلِيل مِنْ الْخَلْق , وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر عَامّ فِي جَمِيع النَّاس . فَإِنْ تَشَبَّثُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ " [ الْبَقَرَة : 44 ] وَقَوْله : " كَبُرَ مَقْتًا عِنْد اللَّه أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ " [ الصَّفّ : 3 ] وَنَحْوه , قِيلَ لَهُمْ : إِنَّمَا وَقَعَ الذَّمّ هَاهُنَا عَلَى اِرْتِكَاب مَا نُهِيَ عَنْهُ لَا عَلَى نَهْيه عَنْ الْمُنْكَر . وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النَّهْي عَنْهُ مِمَّنْ يَأْتِيه أَقْبَح مِمَّنْ لَا يَأْتِيه , وَلِذَلِكَ يَدُور فِي جَهَنَّم كَمَا يَدُور الْحِمَار بِالرَّحَى , كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبَقَرَة عِنْد قَوْله تَعَالَى : " أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ " [ الْبَقَرَة : 44 ] . [ الرَّابِعَة ] أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا ذُكِرَ اِبْن عَبْد الْبَرّ أَنَّ الْمُنْكَر وَاجِب تَغْيِيره عَلَى كُلّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ , وَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَلْحَقهُ بِتَغْيِيرِهِ إِلَّا اللَّوْم الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْأَذَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجِب أَنْ يَمْنَعهُ مِنْ تَغْيِيره ; فَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَبِلِسَانِهِ , فَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَبِقَلْبِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ سِوَى ذَلِكَ . قَالَ : وَالْأَحَادِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْكِيد الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر كَثِيرَة جِدًّا وَلَكِنَّهَا مُقَيَّدَة بِالِاسْتِطَاعَةِ . قَالَ الْحَسَن : إِنَّمَا يُكَلَّم مُؤْمِن يُرْجَى أَوْ جَاهِل يُعَلَّم ; فَأَمَّا مَنْ وَضَعَ سَيْفه أَوْ سَوْطه فَقَالَ : اِتَّقِنِي اِتَّقِنِي فَمَا لَك وَلَهُ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : بِحَسْب الْمَرْء إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيع تَغْيِيره أَنْ يَعْلَم اللَّه مِنْ قَلْبه أَنَّهُ لَهُ كَارِه . وَرَوَى اِبْن لَهِيعَة عَنْ الْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلّ نَفْسه ) . قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه وَمَا إِذْلَاله نَفْسه ؟ قَالَ : ( يَتَعَرَّض مِنْ الْبَلَاء لِمَا لَا يَقُوم لَهُ ) .
قُلْت : وَخَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد بْن جُدْعَان عَنْ الْحَسَن بْن جُنْدُب عَنْ حُذَيْفَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكِلَاهُمَا قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الرَّجُل إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيع النَّكِير عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ ثَلَاث مَرَّات " اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا مُنْكَر " فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ , وَزَعَمَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنَّ مَنْ رَجَا زَوَاله وَخَافَ عَلَى نَفْسه مِنْ تَغْيِيره الضَّرْب أَوْ الْقَتْل جَازَ لَهُ عِنْد أَكْثَر الْعُلَمَاء الِاقْتِحَام عِنْد هَذَا الْغَرَر , وَإِنْ لَمْ يَرْجُ زَوَاله فَأَيّ فَائِدَة عِنْده . قَالَ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ النِّيَّة إِذَا خَلَصَتْ فَلْيَقْتَحِمْ كَيْفَ مَا كَانَ وَلَا يُبَالِي .
قُلْت : هَذَا خِلَاف مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر مِنْ الْإِجْمَاع . وَهَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى جَوَاز الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مَعَ خَوْف الْقَتْل . وَقَالَ تَعَالَى : " وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَر وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك " [ لُقْمَان : 17 ] . وَهَذَا إِشَارَة إِلَى الْإِذَايَة . [ الْخَامِسَة ] رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان ) . قَالَ الْعُلَمَاء : الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ بِالْيَدِ عَلَى الْأُمَرَاء , وَبِاللِّسَانِ عَلَى الْعُلَمَاء , وَبِالْقَلْبِ عَلَى الضُّعَفَاء , يَعْنِي عَوَامّ النَّاس . فَالْمُنْكَر إِذَا أَمْكَنَتْ إِزَالَته بِاللِّسَانِ لِلنَّاهِي فَلْيَفْعَلْهُ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنهُ إِلَّا بِالْعُقُوبَةِ أَوْ بِالْقَتْلِ فَلْيَفْعَلْ , فَإِنْ زَالَ بِدُونِ الْقَتْل لَمْ يَجُزْ الْقَتْل ; وَهَذَا تُلُقِّيَ مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْر اللَّه " [ الْحُجُرَات : 9 ] . وَعَلَيْهِ بَنَى الْعُلَمَاء أَنَّهُ إِذَا دَفَعَ الصَّائِل عَلَى النَّفْس أَوْ عَلَى الْمَال عَنْ نَفْسه أَوْ عَنْ مَاله أَوْ نَفْس غَيْره فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ . وَلَوْ رَأَى زَيْد عَمْرًا وَقَدْ قَصَدَ مَال بَكْر فَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعهُ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِب الْمَال قَادِرًا عَلَيْهِ وَلَا رَاضِيًا بِهِ ; حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاء : لَوْ فَرَضْنَا قَوَدًا . وَقِيلَ : كُلّ بَلْدَة يَكُون فِيهَا أَرْبَعَة فَأَهْلهَا مَعْصُومُونَ مِنْ الْبَلَاء : إِمَام عَادِل لَا يَظْلِم , وَعَالِم عَلَى سَبِيل الْهُدَى , وَمَشَايِخ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر وَيُحَرِّضُونَ عَلَى طَلَب الْعِلْم وَالْقُرْآن , وَنِسَاؤُهُمْ مَسْتُورَات لَا يَتَبَرَّجْنَ تَبَرُّج الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى . [ السَّادِسَة ] رَوَى أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قِيلَ يَا رَسُول اللَّه , مَتَى نَتْرُك الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر ؟ قَالَ : ( إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الْأُمَم قَبْلكُمْ ) . قُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه وَمَا ظَهَرَ فِي الْأُمَم قَبْلنَا ؟ قَالَ : ( الْمُلْك فِي صِغَاركُمْ وَالْفَاحِشَة فِي كِبَاركُمْ وَالْعِلْم فِي رُذَالَتكُمْ ) . قَالَ زَيْد : تَفْسِير مَعْنَى قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَالْعِلْم فِي رُذَالَتكُمْ ) إِذَا كَانَ الْعِلْم فِي الْفُسَّاق . خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَاب مَزِيد بَيَان فِي " الْمَائِدَة " وَغَيْرهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَتَقَدَّمَ مَعْنَى " فَبَشِّرْهُمْ "
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ↑
أَيْ بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ ; وَمِنْهُ الْحَبَط وَهُوَ فَسَاد يَلْحَق الْمَوَاشِي فِي بُطُونهَا مِنْ كَثْرَة أَكْلهَا الْكَلَأ فَتَنْتَفِخ أَجْوَافهَا ,
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ↓
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل [ الْأُولَى ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْت الْمِدْرَاس عَلَى جَمَاعَة مِنْ يَهُود فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّه . فَقَالَ لَهُ نُعَيْم بْن عَمْرو وَالْحَارِث بْن زَيْد : عَلَى أَيِّ دِين أَنْتَ يَا مُحَمَّد ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي عَلَى مِلَّة إِبْرَاهِيم ) . فَقَالَا : فَإِنَّ إِبْرَاهِيم كَانَ يَهُودِيًّا . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاة فَهِيَ بَيْننَا وَبَيْنكُمْ ) . فَأَبَيَا عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَذَكَرَ النَّقَّاش أَنَّهَا نَزَلَتْ لِأَنَّ جَمَاعَة مِنْ الْيَهُود أَنْكَرُوا نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاة فَفِيهَا صِفَتِي ) فَأَبَوْا . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " لِيَحْكُم " وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر يَزِيد بْن الْقَعْقَاع " لِيُحْكَم " بِضَمِّ الْيَاء . وَالْقِرَاءَة الْأُولَى أَحْسَن ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " هَذَا كِتَابنَا يَنْطِق عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ " [ الْجَاثِيَة : 29 ] . [ الثَّانِيَة ] فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب اِرْتِفَاع الْمَدْعُوّ إِلَى الْحَاكِم لِأَنَّهُ دُعِيَ إِلَى كِتَاب اللَّه ; فَإِنْ لَمْ يَفْعَل كَانَ مُخَالِفًا يَتَعَيَّن عَلَيْهِ الزَّجْر بِالْأَدَبِ عَلَى قَدْر الْمُخَالِف وَالْمُخَالَف . وَهَذَا الْحُكْم جَارٍ عِنْدنَا بِالْأَنْدَلُسِ وَبِلَاد الْمَغْرِب وَلَيْسَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّة . وَهَذَا الْحُكْم الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُبَيَّن فِي التَّنْزِيل فِي سُورَة " النُّور " فِي قَوْله تَعَالَى : " وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّه وَرَسُوله لِيَحْكُم بَيْنهمْ إِذَا فَرِيق مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ " إِلَى قَوْله " بَلْ أُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ " [ النُّور : 48 - 49 - 50 ] . وَأَسْنَدَ الزُّهْرِيّ عَنْ الْحَسَن أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ دَعَاهُ خَصْمه إِلَى حَاكِم مِنْ حُكَّام الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِب فَهُوَ ظَالِم وَلَا حَقّ لَهُ ) . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا حَدِيث بَاطِل . أَمَّا قَوْله " فَهُوَ ظَالِم " فَكَلَام صَحِيح . وَأَمَّا قَوْله " فَلَا حَقّ لَهُ " فَلَا يَصِحّ , وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد أَنَّهُ عَلَى غَيْر الْحَقّ . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد الْمَالِكِيّ : وَاجِب عَلَى كُلّ مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِس الْحَاكِم أَنْ يُجِيب مَا لَمْ يَعْلَم أَنَّ الْحَاكِم فَاسِق , أَوْ يَعْلَم عَدَاؤُهُ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ . [ الثَّالِثَة ] وَفِيهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ شَرَائِع مَنْ قَبْلنَا شَرِيعَة لَنَا إِلَّا مَا عَلِمْنَا نَسْخه , وَإِنَّهُ يَجِب عَلَيْنَا الْحُكْم بِشَرَائِع الْأَنْبِيَاء قَبْلنَا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَإِنَّمَا لَا نَقْرَأ التَّوْرَاة وَلَا نَعْمَل بِمَا فِيهَا لِأَنَّ مَنْ هِيَ فِي يَده غَيْر أَمِين عَلَيْهَا وَقَدْ غَيَّرَهَا وَبَدَّلَهَا , وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَتَغَيَّر وَلَمْ يَتَبَدَّل جَازَ لَنَا قِرَاءَته . وَنَحْو ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَر حَيْثُ قَالَ لِكَعْبٍ : إِنْ كُنْت تَعْلَم أَنَّهَا التَّوْرَاة الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّه عَلَى مُوسَى بْن عِمْرَان فَاقْرَأْهَا . وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام عَالِمًا بِمَا لَمْ يُغَيَّر مِنْهَا فَلِذَلِكَ دَعَاهُمْ إِلَيْهَا وَإِلَى الْحُكْم بِهَا . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي " الْمَائِدَة " وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ↓
إِشَارَة إِلَى التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاض , وَاغْتِرَار مِنْهُمْ فِي قَوْلهمْ : " نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ " [ الْمَائِدَة : 18 ] إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالهمْ وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي مَعْنَى قَوْلهمْ : " لَنْ تَمَسّنَا النَّار " فِي الْبَقَرَة .
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ↓
خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّته عَلَى جِهَة التَّوْقِيف وَالتَّعَجُّب , أَيْ فَكَيْفَ يَكُون حَالهمْ أَوْ كَيْفَ يَصْنَعُونَ إِذَا حُشِرُوا يَوْم الْقِيَامَة وَاضْمَحَلَّتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الزَّخَارِف الَّتِي اِدَّعَوْهَا فِي الدُّنْيَا , وَجُوزُوا بِمَا اِكْتَسَبُوهُ مِنْ كُفْرهمْ وَاجْتِرَائِهِمْ وَقَبِيح أَعْمَالهمْ . وَاللَّام فِي قَوْله " لِيَوْمٍ " بِمَعْنَى " فِي " ; قَالَ الْكِسَائِيّ , وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : الْمَعْنَى لِحِسَابِ يَوْم , الطَّبَرِيّ : لِمَا يَحْدُث فِي يَوْم .
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ↓
قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا أَرَادَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُنَزِّل فَاتِحَة الْكِتَاب وَآيَة الْكُرْسِيّ وَشَهِدَ اللَّه وَقُلْ اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك إِلَى قَوْله بِغَيْرِ حِسَاب تَعَلَّقْنَ بِالْعَرْشِ وَلَيْسَ بَيْنهنَّ وَبَيْنَ اللَّه حِجَاب وَقُلْنَ يَا رَبّ تَهْبِط بِنَا دَار الذُّنُوب وَإِلَى مَنْ يَعْصِيك فَقَالَ اللَّه تَعَالَى وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يَقْرَأكُنَّ عَقِب كُلّ صَلَاة مَكْتُوبَة إِلَّا أَسْكَنْته حَظِيرَة الْقُدُس عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ , وَإِلَّا نَظَرْت إِلَيْهِ بِعَيْنِي الْمَكْنُونَة فِي كُلّ يَوْم سَبْعِينَ نَظْرَة , وَإِلَّا قَضَيْت لَهُ فِي كُلّ يَوْم سَبْعِينَ حَاجَة أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَة , وَإِلَّا أَعَذْته مِنْ كُلّ عَدُوّ وَنَصَرْته عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعهُ مِنْ دُخُول الْجَنَّة إِلَّا أَنْ يَمُوت ) . وَقَالَ مُعَاذ بْن جَبَل : اِحْتَبَسْت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَلَمْ أُصَلِّ مَعَهُ الْجُمُعَة فَقَالَ : ( يَا مُعَاذ مَا مَنَعَك مِنْ صَلَاة الْجُمُعَة ) ؟ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , كَانَ لِيُوحَنَّا بْن باريا الْيَهُودِيّ عَلَيَّ أُوقِيَّة مِنْ تِبْر وَكَانَ عَلَى بَابِي يَرْصُدنِي فَأَشْفَقْت أَنْ يَحْبِسنِي دُونك . قَالَ : ( أَتُحِبُّ يَا مُعَاذ أَنْ يَقْضِيَ اللَّه دَيْنك ) ؟ قُلْت نَعَمْ . قَالَ : ( قُلْ كُلّ يَوْم قُلْ اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك - إِلَى قَوْله - بِغَيْرِ حِسَاب رَحْمَن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَرَحِيمهمَا تُعْطِي مِنْهُمَا مَنْ تَشَاء وَتَمْنَع مِنْهُمَا مَنْ تَشَاء اِقْضِ عَنِّي دَيْنِي فَلَوْ كَانَ عَلَيْك مِلْء الْأَرْض ذَهَبًا لَأَدَّاهُ اللَّه عَنْك ) . خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ , أَيْضًا عَنْ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ أَنَّ مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ : عَلَّمَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَات مِنْ الْقُرْآن - أَوْ كَلِمَات - مَا فِي الْأَرْض مُسْلِم يَدْعُو بِهِنَّ وَهُوَ مَكْرُوب أَوْ غَارِم أَوْ ذُو دَيْن إِلَّا قَضَى اللَّه عَنْهُ وَفَرَّجَ هَمَّهُ , اِحْتَبَسْت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَذَكَرَهُ . غَرِيب مِنْ حَدِيث عَطَاء أَرْسَلَهُ عَنْ مُعَاذ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَنَس بْن مَالِك : لَمَّا اِفْتَتَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة وَوَعَدَ أُمَّته مُلْك فَارِس وَالرُّوم قَالَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُود : هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مِنْ أَيْنَ لِمُحَمَّدٍ مُلْك فَارِس وَالرُّوم هُمْ أَعَزّ وَأَمْنَع مِنْ ذَلِكَ , أَلَمْ يَكْفِ مُحَمَّدًا مَكَّة وَالْمَدِينَة حَتَّى طَمِعَ فِي مُلْك فَارِس وَالرُّوم ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة . وَقِيلَ : نَزَلَتْ دَامِغَة لِبَاطِلِ نَصَارَى أَهْل نَجْرَان فِي قَوْلهمْ : إِنَّ عِيسَى هُوَ اللَّه ; وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَاف تُبَيِّن لِكُلِّ صَحِيح الْفِطْرَة أَنَّ عِيسَى لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : أَعْلَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة بِعِنَادِهِمْ وَكُفْرهمْ , وَأَنَّ عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ اللَّه تَعَالَى أَعْطَاهُ آيَات تَدُلّ عَلَى نُبُوَّته مِنْ إِحْيَاء الْمَوْتَى وَغَيْر ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْمُنْفَرِد بِهَذِهِ الْأَشْيَاء ; مِنْ قَوْله : " تُؤْتِي الْمُلْك مَنْ تَشَاء وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء وَتُعِزّ مَنْ تَشَاء وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء " . وَقَوْله : " تُولِج اللَّيْل فِي النَّهَار وَتُولِج النَّهَار فِي اللَّيْل وَتُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت وَتُخْرِج الْمَيِّت مِنْ الْحَيّ وَتَرْزُق مَنْ تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب " [ آل عِمْرَان : 27 ] فَلَوْ كَانَ عِيسَى إِلَهًا كَانَ هَذَا إِلَهًا ; فَكَانَ فِي ذَلِكَ اِعْتِبَار وَآيَة بَيِّنَة . " قُلْ اللَّهُمَّ " اِخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي تَرْكِيب لَفْظَة " اللَّهُمَّ " بَعْد إِجْمَاعهمْ أَنَّهَا مَضْمُومَة الْهَاء مُشَدَّدَة الْمِيم الْمَفْتُوحَة , وَأَنَّهَا مُنَادَى ; وَقَدْ جَاءَتْ مُخَفَّفَة الْمِيم فِي قَوْل الْأَعْشَى : كَدَعْوَةٍ مِنْ أَبِي رَبَاح يَسْمَعهَا اللَّهُمَ الْكُبَار قَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيع الْبَصْرِيِّينَ : إِنَّ أَصْل اللَّهُمَّ يَا اللَّه , فَلَمَّا اُسْتُعْمِلَتْ الْكَلِمَة دُون حَرْف النِّدَاء الَّذِي هُوَ " يَا " جَعَلُوا بَدَله هَذِهِ الْمِيم الْمُشَدَّدَة , فَجَاءُوا بِحَرْفَيْنِ وَهُمَا الْمِيمَانِ عِوَضًا مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا الْيَاء وَالْأَلِف , وَالضَّمَّة فِي الْهَاء هِيَ ضَمَّة الِاسْم الْمُنَادَى الْمُفْرَد . وَذَهَبَ الْفَرَّاء وَالْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْأَصْل فِي اللَّهُمَّ يَا اللَّه أُمّنَا بِخَيْرٍ ; فَحَذَفَ وَخَلَطَ الْكَلِمَتَيْنِ , وَإِنَّ الضَّمَّة الَّتِي فِي الْهَاء هِيَ الضَّمَّة الَّتِي كَانَتْ فِي أُمّنَا لَمَّا حُذِفَتْ الْهَمْزَة اِنْتَقَلَتْ الْحَرَكَة . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا عِنْد الْبَصْرِيِّينَ مِنْ الْخَطَإِ الْعَظِيم , وَالْقَوْل فِي هَذَا مَا قَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ . قَالَ الزَّجَّاج : مُحَال أَنْ يُتْرَك الضَّمّ الَّذِي هُوَ دَلِيل عَلَى النِّدَاء الْمُفْرَد , وَأَنْ يُجْعَل فِي اِسْم اللَّه ضَمّة أُمّ , هَذَا إِلْحَاد فِي اِسْم اللَّه تَعَالَى . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا غُلُوّ مِنْ الزَّجَّاج , وَزَعَمَ أَنَّهُ مَا سُمِعَ قَطُّ يَا اللَّه أُمّ , وَلَا تَقُول الْعَرَب يَا اللَّهُمَّ . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : إِنَّهُ قَدْ يَدْخُل حَرْف النِّدَاء عَلَى " اللَّهُمَّ " وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْل الرَّاجِز : غَفَرْتَ أَوْ عَذَّبْت يَا اللَّهُمَّا آخَر : وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا سَبَّحْت أَوْ هَلَّلْت يَا اللَّهُمَّا اُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخنَا مُسَلَّمَا فَإِنَّنَا مِنْ خَيْره لَنْ نُعْدَمَا آخَر : إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا قَالُوا : فَلَوْ كَانَ الْمِيم عِوَضًا مِنْ حَرْف النِّدَاء لَمَّا اِجْتَمَعَا . قَالَ الزَّجَّاج : وَهَذَا شَاذّ وَلَا يُعْرَف قَائِله , وَلَا يُتْرَك لَهُ مَا كَانَ فِي كِتَاب اللَّه وَفِي جَمِيع دِيوَان الْعَرَب ; وَقَدْ وَرَدَ مِثْله فِي قَوْله : هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِمَا مَا عَلَى النَّابِح الْعَاوِي أَشَدّ رِجَام قَالَ الْكُوفِيُّونَ : وَإِنَّمَا تُزَاد الْمِيم مُخَفَّفَة فِي فَم وَاِبْنُم , وَأَمَّا مِيم مُشَدَّدَة فَلَا تُزَاد . وَقَالَ بَعْض النَّحْوِيِّينَ : مَا قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ خَطَأ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا كَانَ يَجِب أَنْ يُقَال : " اللَّهُمَّ " وَيَقْتَصِر عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَعَهُ دُعَاء . وَأَيْضًا فَقَدْ تَقُول : أَنْتَ اللَّهُمَّ الرَّزَّاق . فَلَوْ كَانَ كَمَا ادَّعَوْا لَكُنْت قَدْ فَصَلْت بِجُمْلَتَيْنِ بَيْنَ الِابْتِدَاء وَالْخَبَر . قَالَ النَّضْر بْن شُمَيْل : مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ فَقَدْ دَعَا اللَّه تَعَالَى بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ كُلّهَا وَقَالَ الْحَسَن : اللَّهُمَّ تَجْمَع الدُّعَاء .
قَالَ قَتَادَة : بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعْطِيَ أُمَّته مُلْك فَارِس فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ مُقَاتِل : سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَل اللَّه لَهُ مُلْك فَارِس وَالرُّوم فِي أُمَّته ; فَعَلَّمَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاء . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ . و " مَالِك " مَنْصُوب عِنْد سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ نِدَاء ثَانٍ ; وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِر السَّمَوَات وَالْأَرْض " [ الزُّمَر : 46 ] وَلَا يَجُوز عِنْده أَنْ يُوصَف اللَّهُمَّ لِأَنَّهُ قَدْ ضُمَّتْ إِلَيْهِ الْمِيم . وَخَالَفَهُ مُحَمَّد بْن يَزِيد وَإِبْرَاهِيم بْن السَّرِيّ الزَّجَّاج فَقَالَا : " مَالِك " فِي الْإِعْرَاب صِفَة لِاسْمِ اللَّه تَعَالَى , وَكَذَلِكَ " فَاطِر السَّمَوَات وَالْأَرْض " . قَالَ أَبُو عَلِيّ ; هُوَ مَذْهَب أَبِي الْعَبَّاس الْمُبَرِّد ; وَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَصْوَب وَأَبْيَن ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاء الْمَوْصُوفَة شَيْء عَلَى حَدّ " اللَّهُمَّ " لِأَنَّهُ اِسْم مُفْرَد ضُمَّ إِلَيْهِ صَوْت , وَالْأَصْوَات لَا تُوصَف ; نَحْو غَاق وَمَا أَشْبَهَهُ . وَكَانَ حُكْم الِاسْم الْمُفْرَد أَلَّا يُوصَف وَإِنْ كَانُوا قَدْ وَصَفُوهُ فِي مَوَاضِع . فَلَمَّا ضُمَّ هُنَا مَا لَا يُوصَف إِلَى مَا كَانَ قِيَاسه أَلَّا يُوصَف صَارَ بِمَنْزِلَةِ صَوْت ضُمَّ إِلَى صَوْت ; نَحْو حَيْهَل فَلَمْ يُوصَف . و " الْمُلْك " هُنَا النُّبُوَّة ; عَنْ مُجَاهِد . وَقِيلَ , الْغَلَبَة . وَقِيلَ : الْمَال وَالْعَبِيد . الزَّجَّاج : الْمَعْنَى مَالِك الْعِبَاد وَمَا مَلَكُوا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَالِك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
أَيْ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام . " مَنْ تَشَاء " أَيْ مَنْ تَشَاء أَنْ تُؤْتِيَهُ إِيَّاهُ , وَكَذَلِكَ مَا بَعْده , وَلَا بُدّ فِيهِ مِنْ تَقْدِير الْحَذْف , أَيْ وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء أَنْ تَنْزِعهُ مِنْهُ , ثُمَّ حَذَفَ هَذَا , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : أَلَا هَلْ لِهَذَا الدَّهْر مِنْ مُتَعَلَّلِ عَلَى النَّاس مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلِ قَالَ الزَّجَّاج : مَهْمَا شَاءَ أَنْ يَفْعَل بِالنَّاسِ يَفْعَل .
أَيْ مَنْ تَشَاء أَنْ تُؤْتِيَهُ إِيَّاهُ , وَكَذَلِكَ مَا بَعْده , وَلَا بُدّ فِيهِ مِنْ تَقْدِير الْحَذْف , أَيْ وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء أَنْ تَنْزِعهُ مِنْهُ , ثُمَّ حَذَفَ هَذَا , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : أَلَا هَلْ لِهَذَا الدَّهْر مِنْ مُتَعَلَّل عَلَى النَّاس مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَل قَالَ الزَّجَّاج : مَهْمَا شَاءَ أَنْ يَفْعَل بِالنَّاسِ يَفْعَل .
يُقَال : عَزَّ إِذَا عَلَا وَقَهَرَ وَغَلَبَ ; وَمِنْهُ , " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] .
ذَلَّ يَذِلّ إِذَا غَلَبَ وَعَلَا وَقَهَرَ . قَالَ طَرَفَة : بَطِيءٍ عَنْ الْجُلَّى سَرِيعٍ إِلَى الْخَنَا ذَلِيلٍ بِأَجْمَاعِ الرِّجَالِ مُلَهَّدِ
أَيْ بِيَدِك الْخَيْر وَالشَّرّ فَحُذِفَ ; كَمَا قَالَ : " سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : 81 ] . وَقِيلَ : خَصَّ الْخَيْر لِأَنَّهُ مَوْضِع دُعَاء وَرَغْبَة فِي فَضْله . قَالَ النَّقَّاش : بِيَدِك الْخَيْر , أَيْ النَّصْر وَالْغَنِيمَة . وَقَالَ أَهْل الْإِشَارَات . كَانَ أَبُو جَهْل يَمْلِك الْمَال الْكَثِير , وَوَقَعَ فِي الرَّسّ يَوْم بَدْر , وَالْفُقَرَاء صُهَيْب وَبِلَال وَخَبَّاب لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَال , وَكَانَ مُلْكهمْ الْإِيمَان , " قُلْ اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك تُؤْتِي الْمُلْك مَنْ تَشَاء " تُقِيم الرَّسُول يَتِيم أَبِي طَالِب عَلَى رَأْس الرَّسّ حَتَّى يُنَادِيَ أَبْدَانًا قَدْ اِنْقَلَبَتْ إِلَى الْقَلِيب : يَا عُتْبَة , يَا شَيْبَة تُعِزّ مَنْ تَشَاء وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء . أَيْ صُهَيْب , أَيْ بِلَال , لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّا مَنَعْنَاكُمْ مِنْ الدُّنْيَا بِبُغْضِكُمْ . بِيَدِك الْخَيْر مَا مَنْعكُمْ مِنْ عَجْز
إِنْعَام الْحَقّ عَامّ يَتَوَلَّى مَنْ يَشَاء .
قَالَ قَتَادَة : بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعْطِيَ أُمَّته مُلْك فَارِس فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ مُقَاتِل : سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَل اللَّه لَهُ مُلْك فَارِس وَالرُّوم فِي أُمَّته ; فَعَلَّمَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاء . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ . و " مَالِك " مَنْصُوب عِنْد سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ نِدَاء ثَانٍ ; وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِر السَّمَوَات وَالْأَرْض " [ الزُّمَر : 46 ] وَلَا يَجُوز عِنْده أَنْ يُوصَف اللَّهُمَّ لِأَنَّهُ قَدْ ضُمَّتْ إِلَيْهِ الْمِيم . وَخَالَفَهُ مُحَمَّد بْن يَزِيد وَإِبْرَاهِيم بْن السَّرِيّ الزَّجَّاج فَقَالَا : " مَالِك " فِي الْإِعْرَاب صِفَة لِاسْمِ اللَّه تَعَالَى , وَكَذَلِكَ " فَاطِر السَّمَوَات وَالْأَرْض " . قَالَ أَبُو عَلِيّ ; هُوَ مَذْهَب أَبِي الْعَبَّاس الْمُبَرِّد ; وَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَصْوَب وَأَبْيَن ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاء الْمَوْصُوفَة شَيْء عَلَى حَدّ " اللَّهُمَّ " لِأَنَّهُ اِسْم مُفْرَد ضُمَّ إِلَيْهِ صَوْت , وَالْأَصْوَات لَا تُوصَف ; نَحْو غَاق وَمَا أَشْبَهَهُ . وَكَانَ حُكْم الِاسْم الْمُفْرَد أَلَّا يُوصَف وَإِنْ كَانُوا قَدْ وَصَفُوهُ فِي مَوَاضِع . فَلَمَّا ضُمَّ هُنَا مَا لَا يُوصَف إِلَى مَا كَانَ قِيَاسه أَلَّا يُوصَف صَارَ بِمَنْزِلَةِ صَوْت ضُمَّ إِلَى صَوْت ; نَحْو حَيْهَل فَلَمْ يُوصَف . و " الْمُلْك " هُنَا النُّبُوَّة ; عَنْ مُجَاهِد . وَقِيلَ , الْغَلَبَة . وَقِيلَ : الْمَال وَالْعَبِيد . الزَّجَّاج : الْمَعْنَى مَالِك الْعِبَاد وَمَا مَلَكُوا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَالِك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
أَيْ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام . " مَنْ تَشَاء " أَيْ مَنْ تَشَاء أَنْ تُؤْتِيَهُ إِيَّاهُ , وَكَذَلِكَ مَا بَعْده , وَلَا بُدّ فِيهِ مِنْ تَقْدِير الْحَذْف , أَيْ وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء أَنْ تَنْزِعهُ مِنْهُ , ثُمَّ حَذَفَ هَذَا , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : أَلَا هَلْ لِهَذَا الدَّهْر مِنْ مُتَعَلَّلِ عَلَى النَّاس مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلِ قَالَ الزَّجَّاج : مَهْمَا شَاءَ أَنْ يَفْعَل بِالنَّاسِ يَفْعَل .
أَيْ مَنْ تَشَاء أَنْ تُؤْتِيَهُ إِيَّاهُ , وَكَذَلِكَ مَا بَعْده , وَلَا بُدّ فِيهِ مِنْ تَقْدِير الْحَذْف , أَيْ وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء أَنْ تَنْزِعهُ مِنْهُ , ثُمَّ حَذَفَ هَذَا , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : أَلَا هَلْ لِهَذَا الدَّهْر مِنْ مُتَعَلَّل عَلَى النَّاس مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَل قَالَ الزَّجَّاج : مَهْمَا شَاءَ أَنْ يَفْعَل بِالنَّاسِ يَفْعَل .
يُقَال : عَزَّ إِذَا عَلَا وَقَهَرَ وَغَلَبَ ; وَمِنْهُ , " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] .
ذَلَّ يَذِلّ إِذَا غَلَبَ وَعَلَا وَقَهَرَ . قَالَ طَرَفَة : بَطِيءٍ عَنْ الْجُلَّى سَرِيعٍ إِلَى الْخَنَا ذَلِيلٍ بِأَجْمَاعِ الرِّجَالِ مُلَهَّدِ
أَيْ بِيَدِك الْخَيْر وَالشَّرّ فَحُذِفَ ; كَمَا قَالَ : " سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : 81 ] . وَقِيلَ : خَصَّ الْخَيْر لِأَنَّهُ مَوْضِع دُعَاء وَرَغْبَة فِي فَضْله . قَالَ النَّقَّاش : بِيَدِك الْخَيْر , أَيْ النَّصْر وَالْغَنِيمَة . وَقَالَ أَهْل الْإِشَارَات . كَانَ أَبُو جَهْل يَمْلِك الْمَال الْكَثِير , وَوَقَعَ فِي الرَّسّ يَوْم بَدْر , وَالْفُقَرَاء صُهَيْب وَبِلَال وَخَبَّاب لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَال , وَكَانَ مُلْكهمْ الْإِيمَان , " قُلْ اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك تُؤْتِي الْمُلْك مَنْ تَشَاء " تُقِيم الرَّسُول يَتِيم أَبِي طَالِب عَلَى رَأْس الرَّسّ حَتَّى يُنَادِيَ أَبْدَانًا قَدْ اِنْقَلَبَتْ إِلَى الْقَلِيب : يَا عُتْبَة , يَا شَيْبَة تُعِزّ مَنْ تَشَاء وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء . أَيْ صُهَيْب , أَيْ بِلَال , لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّا مَنَعْنَاكُمْ مِنْ الدُّنْيَا بِبُغْضِكُمْ . بِيَدِك الْخَيْر مَا مَنْعكُمْ مِنْ عَجْز
إِنْعَام الْحَقّ عَامّ يَتَوَلَّى مَنْ يَشَاء .
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ↓
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن وقَتَادَة وَالسُّدِّيّ فِي مَعْنَى قَوْله " تُولِج اللَّيْل فِي النَّهَار " الْآيَة , أَيْ تُدْخِل مَا نَقَصَ مِنْ أَحَدهمَا فِي الْآخَر , حَتَّى يَصِير النَّهَار خَمْس عَشْرَة سَاعَة وَهُوَ أَطْوَل مَا يَكُون , وَاللَّيْل تِسْع سَاعَات وَهُوَ أَقْصَر مَا يَكُون . وَكَذَا تُولِج النَّهَار فِي اللَّيْل وَهُوَ قَوْل الْكَلْبِيّ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَتَحْتَمِل أَلْفَاظ الْآيَة أَنْ يَدْخُل فِيهَا تَعَاقُب اللَّيْل وَالنَّهَار , كَأَنَّ زَوَال أَحَدهمَا وُلُوج فِي الْآخَر .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَتُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت " فَقَالَ الْحَسَن : مَعْنَاهُ تُخْرِج الْمُؤْمِن مِنْ الْكَافِر وَالْكَافِر مِنْ الْمُؤْمِن , وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ سَلْمَان الْفَارِسِيّ . وَرَوَى مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَإِذَا بِامْرَأَةٍ حَسَنَة الْهَيْئَة قَالَ : ( مَنْ هَذِهِ ) ؟ قُلْنَ إِحْدَى خَالَاتك . قَالَ : ( وَمَنْ هِيَ ) ؟ قُلْنَ : هِيَ خَالِدَة بِنْت الْأَسْوَد بْن عَبْد يَغُوث . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت ) . وَكَانَتْ اِمْرَأَة صَالِحَة وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا . فَالْمُرَاد عَلَى هَذَا الْقَوْل مَوْت قَلْب الْكَافِر وَحَيَاة قَلْب الْمُؤْمِن ; فَالْمَوْت وَالْحَيَاة مُسْتَعَارَانِ . وَذَهَبَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ الْحَيَاة وَالْمَوْت فِي الْآيَة حَقِيقَتَانِ ; فَقَالَ عِكْرِمَة : هِيَ إِخْرَاج الدَّجَاجَة وَهِيَ حَيَّة مِنْ الْبَيْضَة وَهِيَ مَيِّتَة , وَإِخْرَاج الْبَيْضَة وَهِيَ مَيِّتَة مِنْ الدَّجَاجَة وَهِيَ حَيَّة . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : هِيَ النُّطْفَة تَخْرُج مِنْ الرَّجُل وَهِيَ مَيِّتَة وَهُوَ حَيّ , وَيَخْرُج الرَّجُل مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَة . وَقَالَ عِكْرِمَة وَالسُّدِّيّ : هِيَ الْحَبَّة تَخْرُج مِنْ السُّنْبُلَة وَالسُّنْبُلَة تَخْرُج مِنْ الْحَبَّة , وَالنَّوَاة مِنْ النَّخْلَة وَالنَّخْلَة تَخْرُج مِنْ النَّوَاة ; وَالْحَيَاة فِي النَّخْلَة وَالسُّنْبُلَة تَشْبِيه .
أَيْ بِغَيْرِ تَضْيِيق وَلَا تَقْتِير ; كَمَا تَقُول : فُلَان يُعْطِي بِغَيْرِ حِسَاب ; كَأَنَّهُ لَا يَحْسِب مَا يُعْطِي .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَتُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت " فَقَالَ الْحَسَن : مَعْنَاهُ تُخْرِج الْمُؤْمِن مِنْ الْكَافِر وَالْكَافِر مِنْ الْمُؤْمِن , وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ سَلْمَان الْفَارِسِيّ . وَرَوَى مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَإِذَا بِامْرَأَةٍ حَسَنَة الْهَيْئَة قَالَ : ( مَنْ هَذِهِ ) ؟ قُلْنَ إِحْدَى خَالَاتك . قَالَ : ( وَمَنْ هِيَ ) ؟ قُلْنَ : هِيَ خَالِدَة بِنْت الْأَسْوَد بْن عَبْد يَغُوث . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت ) . وَكَانَتْ اِمْرَأَة صَالِحَة وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا . فَالْمُرَاد عَلَى هَذَا الْقَوْل مَوْت قَلْب الْكَافِر وَحَيَاة قَلْب الْمُؤْمِن ; فَالْمَوْت وَالْحَيَاة مُسْتَعَارَانِ . وَذَهَبَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ الْحَيَاة وَالْمَوْت فِي الْآيَة حَقِيقَتَانِ ; فَقَالَ عِكْرِمَة : هِيَ إِخْرَاج الدَّجَاجَة وَهِيَ حَيَّة مِنْ الْبَيْضَة وَهِيَ مَيِّتَة , وَإِخْرَاج الْبَيْضَة وَهِيَ مَيِّتَة مِنْ الدَّجَاجَة وَهِيَ حَيَّة . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : هِيَ النُّطْفَة تَخْرُج مِنْ الرَّجُل وَهِيَ مَيِّتَة وَهُوَ حَيّ , وَيَخْرُج الرَّجُل مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَة . وَقَالَ عِكْرِمَة وَالسُّدِّيّ : هِيَ الْحَبَّة تَخْرُج مِنْ السُّنْبُلَة وَالسُّنْبُلَة تَخْرُج مِنْ الْحَبَّة , وَالنَّوَاة مِنْ النَّخْلَة وَالنَّخْلَة تَخْرُج مِنْ النَّوَاة ; وَالْحَيَاة فِي النَّخْلَة وَالسُّنْبُلَة تَشْبِيه .
أَيْ بِغَيْرِ تَضْيِيق وَلَا تَقْتِير ; كَمَا تَقُول : فُلَان يُعْطِي بِغَيْرِ حِسَاب ; كَأَنَّهُ لَا يَحْسِب مَا يُعْطِي .
لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ↓
قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَهَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّار فَيَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاء ; وَمِثْله " لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ " [ آل عِمْرَان 118 ] وَهُنَاكَ يَأْتِي بَيَان هَذَا الْمَعْنَى .
أَيْ فَلَيْسَ مِنْ حِزْب اللَّه وَلَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي شَيْء ; مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ " هُوَ مِنِّي فَرْسَخَيْنِ " أَيْ مِنْ أَصْحَابِي وَمَعِي . ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ : " إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة "
قَالَ مُعَاذ بْن جَبَل وَمُجَاهِد : كَانَتْ التَّقِيَّة فِي جِدَّة الْإِسْلَام قَبْل قُوَّة الْمُسْلِمِينَ ; فَأَمَّا الْيَوْم فَقَدْ أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَام أَنْ يَتَّقُوا مِنْ عَدُوّهُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ أَنْ يَتَكَلَّم بِلِسَانِهِ وَقَلْبه مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ , وَلَا يُقْتَل وَلَا يَأْتِي مَأْثَمًا . وَقَالَ الْحَسَن : التَّقِيَّة جَائِزَة لِلْإِنْسَانِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَلَا تَقِيَّة فِي الْقَتْل . وَقَرَأَ جَابِر بْن زَيْد وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك : " إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّة " وَقِيلَ : إِنَّ الْمُؤْمِن إِذَا كَانَ قَائِمًا بَيْنَ الْكُفَّار فَلَهُ أَنْ يُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ إِذَا كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسه وَقَلْبه مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقِيَّة لَا تَحِلّ إِلَّا مَعَ خَوْف الْقَتْل أَوْ الْقَطْع أَوْ الْإِيذَاء الْعَظِيم . وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْر فَالصَّحِيح أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَلَّب وَلَا يُجِيب إِلَى التَّلَفُّظ بِكَلِمَةِ الْكُفْر ; بَلْ يَجُوز لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ النَّحْل ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَالَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تُقَاة " , وَفَخَّمَ الْبَاقُونَ ; وَأَصْل " تُقَاة " وُقْيَة عَلَى وَزْن فُعْلَة ; مِثْل تُؤَدَة وَتُهْمَة , قُلِّبَتْ الْوَاو تَاء وَالْيَاء أَلِفًا . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي عُبَادَة بْن الصَّامِت الْأَنْصَارِيّ وَكَانَ بَدْرِيًّا تَقِيًّا وَكَانَ لَهُ حِلْف مِنْ الْيَهُود ; فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْأَحْزَاب قَالَ عُبَادَة : يَا نَبِيّ اللَّه , إِنَّ مَعِي خَمْسمِائَةِ رَجُل مِنْ الْيَهُود , وَقَدْ رَأَيْت أَنْ يَخْرُجُوا مَعِي فَأَسْتَظْهِر بِهِمْ عَلَى الْعَدُوّ . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ " الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّار بْن يَاسِر حِينَ تَكَلَّمَ بِبَعْضِ مَا أَرَادَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ النَّحْل ] .
قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ وَيُحَذِّركُمْ اللَّه إِيَّاهُ . ثُمَّ اِسْتَغْنُوا عَنْ ذَلِكَ بِذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَل ; قَالَ تَعَالَى : " تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَم مَا فِي نَفْسك " [ الْمَائِدَة : 116 ] فَمَعْنَاهُ تَعْلَم مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَم مَا عِنْدك وَلَا مَا فِي حَقِيقَتك . وَقَالَ غَيْره : الْمَعْنَى وَيُحَذِّركُمْ اللَّه عِقَابه ; مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " . وَقَالَ : " تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي " أَيْ مَغِيبِي , فَجُعِلَتْ النَّفْس فِي مَوْضِع الْإِضْمَار لِأَنَّهُ فِيهَا يَكُون .
أَيْ وَإِلَى جَزَاء اللَّه الْمَصِير . وَفِيهِ إِقْرَار بِالْبَعْثِ .
أَيْ فَلَيْسَ مِنْ حِزْب اللَّه وَلَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي شَيْء ; مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ " هُوَ مِنِّي فَرْسَخَيْنِ " أَيْ مِنْ أَصْحَابِي وَمَعِي . ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ : " إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة "
قَالَ مُعَاذ بْن جَبَل وَمُجَاهِد : كَانَتْ التَّقِيَّة فِي جِدَّة الْإِسْلَام قَبْل قُوَّة الْمُسْلِمِينَ ; فَأَمَّا الْيَوْم فَقَدْ أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَام أَنْ يَتَّقُوا مِنْ عَدُوّهُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ أَنْ يَتَكَلَّم بِلِسَانِهِ وَقَلْبه مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ , وَلَا يُقْتَل وَلَا يَأْتِي مَأْثَمًا . وَقَالَ الْحَسَن : التَّقِيَّة جَائِزَة لِلْإِنْسَانِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَلَا تَقِيَّة فِي الْقَتْل . وَقَرَأَ جَابِر بْن زَيْد وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك : " إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّة " وَقِيلَ : إِنَّ الْمُؤْمِن إِذَا كَانَ قَائِمًا بَيْنَ الْكُفَّار فَلَهُ أَنْ يُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ إِذَا كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسه وَقَلْبه مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقِيَّة لَا تَحِلّ إِلَّا مَعَ خَوْف الْقَتْل أَوْ الْقَطْع أَوْ الْإِيذَاء الْعَظِيم . وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْر فَالصَّحِيح أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَلَّب وَلَا يُجِيب إِلَى التَّلَفُّظ بِكَلِمَةِ الْكُفْر ; بَلْ يَجُوز لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ النَّحْل ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَالَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تُقَاة " , وَفَخَّمَ الْبَاقُونَ ; وَأَصْل " تُقَاة " وُقْيَة عَلَى وَزْن فُعْلَة ; مِثْل تُؤَدَة وَتُهْمَة , قُلِّبَتْ الْوَاو تَاء وَالْيَاء أَلِفًا . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي عُبَادَة بْن الصَّامِت الْأَنْصَارِيّ وَكَانَ بَدْرِيًّا تَقِيًّا وَكَانَ لَهُ حِلْف مِنْ الْيَهُود ; فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْأَحْزَاب قَالَ عُبَادَة : يَا نَبِيّ اللَّه , إِنَّ مَعِي خَمْسمِائَةِ رَجُل مِنْ الْيَهُود , وَقَدْ رَأَيْت أَنْ يَخْرُجُوا مَعِي فَأَسْتَظْهِر بِهِمْ عَلَى الْعَدُوّ . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ " الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّار بْن يَاسِر حِينَ تَكَلَّمَ بِبَعْضِ مَا أَرَادَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ النَّحْل ] .
قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ وَيُحَذِّركُمْ اللَّه إِيَّاهُ . ثُمَّ اِسْتَغْنُوا عَنْ ذَلِكَ بِذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَل ; قَالَ تَعَالَى : " تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَم مَا فِي نَفْسك " [ الْمَائِدَة : 116 ] فَمَعْنَاهُ تَعْلَم مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَم مَا عِنْدك وَلَا مَا فِي حَقِيقَتك . وَقَالَ غَيْره : الْمَعْنَى وَيُحَذِّركُمْ اللَّه عِقَابه ; مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " . وَقَالَ : " تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي " أَيْ مَغِيبِي , فَجُعِلَتْ النَّفْس فِي مَوْضِع الْإِضْمَار لِأَنَّهُ فِيهَا يَكُون .
أَيْ وَإِلَى جَزَاء اللَّه الْمَصِير . وَفِيهِ إِقْرَار بِالْبَعْثِ .
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ↓
فَهُوَ الْعَالِم بِخَفِيَّاتِ الصُّدُور وَمَا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ , وَبِمَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا اِحْتَوَتْ عَلَيْهِ , عَلَّام الْغُيُوب لَا يَعْزُب عَنْهُ مِثْقَال ذَرَّة وَلَا يَغِيب عَنْهُ شَيْء , سُبْحَانَهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة .
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ↓
" يَوْم " مَنْصُوب مُتَّصِل بِقَوْلِهِ : " وَيُحَذِّركُمْ اللَّه نَفْسه . يَوْم تَجِد " . وَقِيلَ : هُوَ مُتَّصِل بِقَوْلِهِ : " وَإِلَى اللَّه الْمَصِير . يَوْم تَجِد " . وَقِيلَ : هُوَ مُتَّصِل بِقَوْلِهِ : " وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير . يَوْم تَجِد " وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُنْقَطِعًا عَلَى إِضْمَار اُذْكُرْ ; وَمِثْله قَوْله : " إِنَّ اللَّه عَزِيز ذُو اِنْتِقَام . يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض " [ إِبْرَاهِيم : 47 , 48 ]
حَال مِنْ الضَّمِير الْمَحْذُوف مِنْ صِلَة " مَا " تَقْدِيره يَوْم تَجِد كُلّ نَفْس , مَا عَمِلْته مِنْ خَيْر مُحْضَرًا . هَذَا عَلَى أَنْ يَكُون " تَجِد " مِنْ وُجْدَان الضَّالَّة .
و " مَا " مِنْ قَوْله " وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء " عَطْف عَلَى " مَا " الْأُولَى .
و " تَوَدّ " فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ " مَا " الثَّانِيَة . وَإِنْ جُعِلَتْ " تَجِد " بِمَعْنَى تَعْلَم كَانَ " مَحْضَرًا " الْمَفْعُول الثَّانِي , وَكَذَلِكَ تَكُون " تَوَدّ " فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي ; تَقْدِيره يَوْم تَجِد كُلّ نَفْس جَزَاء مَا عَمِلَتْ مُحْضَرًا . وَيَجُوز أَنْ تَكُون " مَا " الثَّانِيَة رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ , و " تَوَدّ " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى أَنَّهُ خَبَر الِابْتِدَاء , وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُون " مَا " بِمَعْنَى الْجَزَاء ; لِأَنَّ " تَوَدّ " مَرْفُوع , وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَجَازَ أَنْ يَكُون جَزَاء , وَكَانَ يَكُون مَعْنَى الْكَلَام : وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء وَدَّتْ لَوْ أَنَّ بَيْنهَا وَبَيْنه أَمَدًا بَعِيدًا ; أَيْ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب . وَلَا يَكُون الْمُسْتَقْبَل إِذَا جُعِلَتْ " مَا " لِلشَّرْطِ إِلَّا مَجْزُومًا ; إِلَّا أَنْ تَحْمِلهُ عَلَى تَقْدِير حَذْف الْفَاء , عَلَى تَقْدِير : وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء فَهِيَ تَوَدّ . أَبُو عَلِيّ : هُوَ قِيَاس قَوْل الْفَرَّاء عِنْدِي ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ " [ الْأَنْعَام : 121 ] : إِنَّهُ عَلَى حَذْف الْفَاء . وَالْأَمَد : الْغَايَة , وَجَمْعه آمَاد . وَيُقَال : اِسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَد , أَيْ غَلَبَ سَابِقًا . قَالَ النَّابِغَة : إِلَّا لِمِثْلِك أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقه سَبْق الْجَوَاد إِذَا اِسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَد وَالْأَمَد : الْغَضَب . يُقَال : أَمِدَ أَمَدًا , إِذَا غَضِبَ غَضَبًا .
قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ وَيُحَذِّركُمْ اللَّه إِيَّاهُ . ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ ذَلِكَ بِذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَل ; قَالَ تَعَالَى : " تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَم مَا فِي نَفْسك " [ الْمَائِدَة : 116 ] فَمَعْنَاهُ تَعْلَم مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَم مَا عِنْدك وَلَا مَا فِي حَقِيقَتك . وَقَالَ غَيْره : الْمَعْنَى وَيُحَذِّركُمْ اللَّه عِقَابه ; مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " . وَقَالَ : " تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي " أَيْ مَغِيبِي , فَجُعِلَتْ النَّفْس فِي مَوْضِع الْإِضْمَار لِأَنَّهُ فِيهَا يَكُون .
حَال مِنْ الضَّمِير الْمَحْذُوف مِنْ صِلَة " مَا " تَقْدِيره يَوْم تَجِد كُلّ نَفْس , مَا عَمِلْته مِنْ خَيْر مُحْضَرًا . هَذَا عَلَى أَنْ يَكُون " تَجِد " مِنْ وُجْدَان الضَّالَّة .
و " مَا " مِنْ قَوْله " وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء " عَطْف عَلَى " مَا " الْأُولَى .
و " تَوَدّ " فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ " مَا " الثَّانِيَة . وَإِنْ جُعِلَتْ " تَجِد " بِمَعْنَى تَعْلَم كَانَ " مَحْضَرًا " الْمَفْعُول الثَّانِي , وَكَذَلِكَ تَكُون " تَوَدّ " فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي ; تَقْدِيره يَوْم تَجِد كُلّ نَفْس جَزَاء مَا عَمِلَتْ مُحْضَرًا . وَيَجُوز أَنْ تَكُون " مَا " الثَّانِيَة رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ , و " تَوَدّ " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى أَنَّهُ خَبَر الِابْتِدَاء , وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُون " مَا " بِمَعْنَى الْجَزَاء ; لِأَنَّ " تَوَدّ " مَرْفُوع , وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَجَازَ أَنْ يَكُون جَزَاء , وَكَانَ يَكُون مَعْنَى الْكَلَام : وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء وَدَّتْ لَوْ أَنَّ بَيْنهَا وَبَيْنه أَمَدًا بَعِيدًا ; أَيْ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب . وَلَا يَكُون الْمُسْتَقْبَل إِذَا جُعِلَتْ " مَا " لِلشَّرْطِ إِلَّا مَجْزُومًا ; إِلَّا أَنْ تَحْمِلهُ عَلَى تَقْدِير حَذْف الْفَاء , عَلَى تَقْدِير : وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء فَهِيَ تَوَدّ . أَبُو عَلِيّ : هُوَ قِيَاس قَوْل الْفَرَّاء عِنْدِي ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ " [ الْأَنْعَام : 121 ] : إِنَّهُ عَلَى حَذْف الْفَاء . وَالْأَمَد : الْغَايَة , وَجَمْعه آمَاد . وَيُقَال : اِسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَد , أَيْ غَلَبَ سَابِقًا . قَالَ النَّابِغَة : إِلَّا لِمِثْلِك أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقه سَبْق الْجَوَاد إِذَا اِسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَد وَالْأَمَد : الْغَضَب . يُقَال : أَمِدَ أَمَدًا , إِذَا غَضِبَ غَضَبًا .
قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ وَيُحَذِّركُمْ اللَّه إِيَّاهُ . ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ ذَلِكَ بِذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَل ; قَالَ تَعَالَى : " تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَم مَا فِي نَفْسك " [ الْمَائِدَة : 116 ] فَمَعْنَاهُ تَعْلَم مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَم مَا عِنْدك وَلَا مَا فِي حَقِيقَتك . وَقَالَ غَيْره : الْمَعْنَى وَيُحَذِّركُمْ اللَّه عِقَابه ; مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " . وَقَالَ : " تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي " أَيْ مَغِيبِي , فَجُعِلَتْ النَّفْس فِي مَوْضِع الْإِضْمَار لِأَنَّهُ فِيهَا يَكُون .