سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ↓
نَظِيره " وَقَذَفَ فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب " . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَالْكِسَائِيّ " الرُّعُب " بِضَمِّ الْعَيْن ; وَهُمَا لُغَتَانِ . وَالرُّعْب : الْخَوْف ; يُقَال : رَعَبْته رُعْبًا وَرُعُبًا , فَهُوَ مَرْعُوب . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الرُّعْب مَصْدَرًا , وَالرُّعْب الِاسْم . وَأَصْله مِنْ الْمَلْء ; يُقَال سَيْل رَاعِب يَمْلَأ الْوَادِي . وَرَعَبْت الْحَوْض مَلَأْته . وَالْمَعْنَى : سَنَمْلَأُ قُلُوب الْمُشْرِكِينَ خَوْفًا وَفَزَعًا . وَقَرَأَ السَّخْتِيَانِيّ " سَيُلْقِي " بِالْيَاءِ , وَالْبَاقُونَ بِنُونِ الْعَظَمَة . قَالَ السُّدِّيّ وَغَيْره : لَمَّا اِرْتَحَلَ أَبُو سُفْيَان وَالْمُشْرِكُونَ يَوْم أُحُد مُتَوَجِّهِينَ إِلَى مَكَّة اِنْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيق نَدِمُوا وَقَالُوا : بِئْسَ مَا صَنَعْنَا ! قَتَلْنَاهُمْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيد تَرَكْنَاهُمْ , اِرْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ ; فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّه فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب حَتَّى رَجَعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ . وَالْإِلْقَاء يُسْتَعْمَل حَقِيقَة فِي الْأَجْسَام ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَأَلْقَى الْأَلْوَاح " [ الْأَعْرَاف : 150 ] " فَالْقَوْا حِبَالهمْ وَعِصِيّهمْ " [ الشُّعَرَاء : 44 ] " فَأَلْقَى عَصَاهُ " [ الْأَعْرَاف : 107 ] . قَالَ الشَّاعِر : فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَل مَجَازًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَقَوْله : " وَأَلْقَيْت عَلَيْك مَحَبَّة مِنِّي " [ طَه : 39 ] . وَأُلْقِي عَلَيْك مَسْأَلَة .
تَعْلِيل ; أَيْ كَانَ سَبَب إِلْقَاء الرُّعْب فِي قُلُوبهمْ إِشْرَاكهمْ ; فَمَا لِلْمَصْدَرِ . وَيُقَال أَشْرَكَ بِهِ أَيْ عَدَلَ بِهِ غَيْره لِيَجْعَلهُ شَرِيكًا .
حُجَّة وَبَيَانًا , وَعُذْرًا وَبُرْهَانًا ; وَمِنْ هَذَا قِيلَ , لِلْوَالِي سُلْطَان ; لِأَنَّهُ حُجَّة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْض . وَيُقَال : إِنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ السَّلِيط وَهُوَ مَا يُضَاء بِهِ السِّرَاج , وَهُوَ دُهْن السِّمْسِم ; قَالَ امْرُؤُ الْقَيْس : أَمَالَ السَّلِيط بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ فَالسُّلْطَان يُسْتَضَاء بِهِ فِي إِظْهَار الْحَقّ وَقَمْع الْبَاطِل . وَقِيلَ السَّلِيط الْحَدِيد . وَالسَّلَاطَة الْحِدَّة . وَالسَّلَاطَة مِنْ التَّسْلِيط وَهُوَ الْقَهْر ; وَالسُّلْطَان مِنْ ذَلِكَ , فَالنُّون زَائِدَة . فَأَصْل السُّلْطَان الْقُوَّة , فَإِنَّهُ يُقْهَرُ بِهَا كَمَا يُقْهَرُ بِالسُّلْطَانِ . وَالسَّلِيطَة الْمَرْأَة الصَّاخِبَة . وَالسَّلِيط الرَّجُل الْفَصِيح اللِّسَان . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ تَثْبُت عِبَادَة الْأَوْثَان فِي شَيْء مِنْ الْمِلَل . وَلَمْ يَدُلّ عَقْل عَلَى جَوَاز ذَلِكَ . ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ مَصِيرهمْ وَمَرْجِعهمْ فَقَالَ : " وَمَأْوَاهُمْ النَّار " ثُمَّ ذَمَّهُ فَقَالَ : " وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ " وَالْمَثْوَى : الْمَكَان الَّذِي يُقَام فِيهِ ; يُقَال : ثَوَى يَثْوِي ثَوَاء . وَالْمَأْوَى : كُلّ مَكَان يَرْجِع إِلَيْهِ شَيْء لَيْلًا أَوْ نَهَارًا .
تَعْلِيل ; أَيْ كَانَ سَبَب إِلْقَاء الرُّعْب فِي قُلُوبهمْ إِشْرَاكهمْ ; فَمَا لِلْمَصْدَرِ . وَيُقَال أَشْرَكَ بِهِ أَيْ عَدَلَ بِهِ غَيْره لِيَجْعَلهُ شَرِيكًا .
حُجَّة وَبَيَانًا , وَعُذْرًا وَبُرْهَانًا ; وَمِنْ هَذَا قِيلَ , لِلْوَالِي سُلْطَان ; لِأَنَّهُ حُجَّة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْض . وَيُقَال : إِنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ السَّلِيط وَهُوَ مَا يُضَاء بِهِ السِّرَاج , وَهُوَ دُهْن السِّمْسِم ; قَالَ امْرُؤُ الْقَيْس : أَمَالَ السَّلِيط بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ فَالسُّلْطَان يُسْتَضَاء بِهِ فِي إِظْهَار الْحَقّ وَقَمْع الْبَاطِل . وَقِيلَ السَّلِيط الْحَدِيد . وَالسَّلَاطَة الْحِدَّة . وَالسَّلَاطَة مِنْ التَّسْلِيط وَهُوَ الْقَهْر ; وَالسُّلْطَان مِنْ ذَلِكَ , فَالنُّون زَائِدَة . فَأَصْل السُّلْطَان الْقُوَّة , فَإِنَّهُ يُقْهَرُ بِهَا كَمَا يُقْهَرُ بِالسُّلْطَانِ . وَالسَّلِيطَة الْمَرْأَة الصَّاخِبَة . وَالسَّلِيط الرَّجُل الْفَصِيح اللِّسَان . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ تَثْبُت عِبَادَة الْأَوْثَان فِي شَيْء مِنْ الْمِلَل . وَلَمْ يَدُلّ عَقْل عَلَى جَوَاز ذَلِكَ . ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ مَصِيرهمْ وَمَرْجِعهمْ فَقَالَ : " وَمَأْوَاهُمْ النَّار " ثُمَّ ذَمَّهُ فَقَالَ : " وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ " وَالْمَثْوَى : الْمَكَان الَّذِي يُقَام فِيهِ ; يُقَال : ثَوَى يَثْوِي ثَوَاء . وَالْمَأْوَى : كُلّ مَكَان يَرْجِع إِلَيْهِ شَيْء لَيْلًا أَوْ نَهَارًا .
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ↓
قَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : لَمَّا رَجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة بَعْد أُحُد وَقَدْ أُصِيبُوا قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّه النَّصْر ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا صَاحِب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ وَسَبْعَة نَفَر مِنْهُمْ بَعْده عَلَى اللِّوَاء , وَكَانَ الظَّفَر اِبْتِدَاء لِلْمُسْلِمِينَ غَيْر أَنَّهُمْ اِشْتَغَلُوا بِالْغَنِيمَةِ , وَتَرَكَ بَعْض الرُّمَاة أَيْضًا مَرْكَزهمْ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَب الْهَزِيمَة . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم أُحُد وَلَقِينَا الْمُشْرِكِينَ أَجْلَسَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاسًا مِنْ الرُّمَاة وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر وَقَالَ لَهُمْ : ( لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا عَلَيْهِمْ ) قَالَ : فَلَمَّا اِلْتَقَى الْقَوْم وَهَزَمَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى نَظَرْنَا إِلَى النِّسَاء يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَل , وَقَدْ رَفَعْنَ عَنْ سُوقهنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلهنَّ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ : الْغَنِيمَة الْغَنِيمَة . فَقَالَ لَهُمْ عَبْد اللَّه : أَمْهِلُوا ! أَمَا عَهِدَ إِلَيْكُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَلَّا تَبْرَحُوا , فَانْطَلَقُوا فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صَرَفَ اللَّه وُجُوههمْ وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ رَجُلًا . ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب أَشْرَفَ عَلَيْنَا وَهُوَ فِي نَشَز فَقَالَ : أَفِي الْقَوْم مُحَمَّد ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُجِيبُوهُ ) حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا . ثُمَّ قَالَ : أَفِي الْقَوْم اِبْن أَبِي قُحَافَة ؟ ثَلَاثًا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُجِيبُوهُ ) ثُمَّ قَالَ : أَفِي الْقَوْم عُمَر بْن الْخَطَّاب ؟ ثَلَاثًا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُجِيبُوهُ ) ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا . فَلَمْ يَمْلِك عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ نَفْسه دُون أَنْ قَالَ : كَذَبْت يَا عَدُوّ اللَّه ! قَدْ أَبْقَى اللَّه لَك مَنْ يُخْزِيك بِهِ . فَقَالَ : اُعْلُ هُبَل ; مَرَّتَيْنِ . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَجِيبُوهُ ) فَقَالُوا : مَا نَقُول يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( قُولُوا اللَّه أَعْلَى وَأَجَلّ ) . قَالَ أَبُو سُفْيَان : لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ( أَجِيبُوهُ ) . قَالُوا : مَا نَقُول يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : قُولُوا ( اللَّه مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ ) . قَالَ أَبُو سُفْيَان : يَوْم بِيَوْمِ بَدْر , وَالْحَرْب سِجَال , أَمَّا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْم مُثْلَة لَمْ آمُر بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي . وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ : رَأَيْت عَنْ يَمِين رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ شِمَاله يَوْم أُحُد رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَاب بِيض يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَدَّ الْقِتَال . وَفِي رِوَايَة عَنْ سَعْد : عَلَيْهِمَا ثِيَاب بِيض مَا رَأَيْتهمَا قَبْل وَلَا بَعْد . يَعْنِي جِبْرِيل وَمِيكَائِيل . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى : يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدّ الْقِتَال مَا رَأَيْتهمَا قَبْل ذَلِكَ الْيَوْم وَلَا بَعْده . وَعَنْ مُجَاهِد قَالَ : لَمْ تُقَاتِل الْمَلَائِكَة مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ , وَلَا قَبْله وَلَا بَعْده إِلَّا يَوْم بَدْر . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : إِنَّمَا أَرَادَ مُجَاهِد أَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا يَوْم أُحُد عَنْ الْقَوْم حِين عَصَوْا الرَّسُول وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ . وَعَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر قَالَ : وَكَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَهُمْ عَلَى الصَّبْر وَالتَّقْوَى أَنْ يُمِدّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة مُسَوِّمِينَ : وَكَانَ قَدْ فَعَلَ ; فَلَمَّا عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُول وَتَرَكُوا مَصَافَّهُمْ وَتَرَكُوا الرُّمَاة عَهِدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَلَّا يَبْرَحُوا مِنْ مَنَازِلهمْ , وَأَرَادُوا الدُّنْيَا , رَفَعَ عَنْهُمْ مَدَّة الْمَلَائِكَة , وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّه وَعْده إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ " [ آل عِمْرَان : 152 ] فَصَدَقَ اللَّه وَعْده وَأَرَاهُمْ الْفَتْح , فَلَمَّا عَصَوْا أَعْقَبَهُمْ الْبَلَاء . وَعَنْ عُمَيْر بْن إِسْحَاق قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم أُحُد اِنْكَشَفُوا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْد يَرْمِي بَيْنَ يَدَيْهِ , وَفَتًى يُنَبِّل لَهُ , كُلَّمَا ذَهَبَتْ نَبْلَة أَتَاهُ بِهَا . قَالَ اِرْمِ أَبَا إِسْحَاق . فَلَمَّا فَرَغُوا نَظَرُوا مَنْ الشَّابّ ؟ فَلَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : وَلَمَّا قُتِلَ صَاحِب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ وَسَقَطَ لِوَاؤُهُمْ , رَفَعَتْهُ عَمْرَة بِنْت عَلْقَمَة الْحَارِثِيَّة ; وَفِي ذَلِكَ يَقُول حَسَّان : فَلَوْلَا لِوَاء الْحَارِثِيَّة أَصْبَحُوا يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاق بَيْعَ الْجَلَائِبِ
مَعْنَاهُ تَقْتُلُونَهُمْ وَتَسْتَأْصِلُونَهُمْ ; قَالَ الشَّاعِر : حَسَسْنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا وَقَالَ جَرِير : تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى حَرِيقُ النَّارِ فِي الْأَجَمِ الْحَصِيدِ قَالَ أَبُو عُبَيْد : الْحَسّ الِاسْتِئْصَال بِالْقَتْلِ ; يُقَال : جَرَاد مَحْسُوس إِذَا قَتَلَهُ الْبَرْد . وَالْبَرْد مُحَسَّة لِلنَّبْتِ . أَيْ مَحْرَقَةً لَهُ ذَاهِبَة بِهِ . وَسَنَة حَسُوس أَيْ جَدْبَة تَأْكُل كُلّ شَيْء ; قَالَ رُؤْبَة : إِذَا شَكَوْنَا سَنَة حَسُوسَا تَأْكُلُ بَعْدَ الْأَخْضَرِ الْيَبِيسَا وَأَصْله مِنْ الْحِسّ الَّذِي هُوَ الْإِدْرَاك بِالْحَاسَّةِ . فَمَعْنَى حَسَّهُ أَذْهَبَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ .
بِعِلْمِهِ , أَوْ بِقَضَائِهِ وَأَمْره .
أَيْ جَبُنْتُمْ وَضَعُفْتُمْ . يُقَال فَشِلَ يَفْشَل فَهُوَ فَشْل وَفَشِل . وَجَوَاب " حَتَّى " مَحْذُوف , أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ اُمْتُحِنْتُمْ . وَمِثْل هَذَا جَائِز كَقَوْلِهِ : " فَإِنْ اِسْتَطَعْت أَنْ تَبْتَغِي نَفَقًا فِي الْأَرْض أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء " [ الْأَنْعَام : 35 ] فَافْعَلْ . وَقَالَ الْفَرَّاء : جَوَاب " حَتَّى " , " وَتَنَازَعْتُمْ " وَالْوَاو مُقْحَمَة زَائِدَة ; كَقَوْلِهِ " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ " [ الصَّافَّات : 103 - 104 ] أَيْ نَادَيْنَاهُ . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى أَيْ اِنْتَحَى . وَعِنْد هَؤُلَاءِ يَجُوز إِقْحَام الْوَاو مِنْ " وَعَصَيْتُمْ " . أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ عَصَيْتُمْ . وَعَلَى هَذَا فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ فَشِلْتُمْ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون الْجَوَاب " صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ " , " ثُمَّ " زَائِدَة , وَالتَّقْدِير حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْض النَّحْوِيِّينَ فِي زِيَادَتهَا قَوْل الشَّاعِر أَرَانِي إِذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوَى فَثُمَّ إِذَا أَصْبَحْت أَصْبَحْت عَادِيًا وَجَوَّزَ الْأَخْفَش أَنْ تَكُون زَائِدَة ; كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسهمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأ مِنْ اللَّه إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ " [ التَّوْبَة : 118 ] . وَقِيلَ : " حَتَّى " بِمَعْنَى " إِلَى " وَحِينَئِذٍ لَا جَوَاب لَهُ ; أَيْ صَدَقَكُمْ اللَّه وَعْده إِلَى أَنْ فَشِلْتُمْ , أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعْد بِشَرْطِ الثَّبَات .
اِخْتَلَفْتُمْ ; يَعْنِي الرُّمَاة حِين قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : نَلْحَق الْغَنَائِم . وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ نَثْبُت فِي مَكَاننَا الَّذِي أَمَرَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثُّبُوتِ فِيهِ .
أَيْ خَالَفْتُمْ أَمْر الرَّسُول فِي الثُّبُوت .
يَعْنِي مِنْ الْغَلَبَة الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْم أُحُد أَوَّل أَمْرهمْ ; وَذَلِكَ حِين صُرِعَ صَاحِب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا صُرِعَ اِنْتَشَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَصَارُوا كَتَائِبِ مُتَفَرِّقَة فَحَاسُوا الْعَدُوّ ضَرْبًا حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ عَنْ أَثْقَالهمْ . وَحَمَلَتْ خَيْل الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثَلَاث مَرَّات كُلّ ذَلِكَ تُنْضَح بِالنَّبْلِ فَتَرْجِع مَغْلُوبَة , وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ فَنَهَكُوهُمْ قَتْلًا . فَلَمَّا أَبْصَرَ الرُّمَاة الْخَمْسُونَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَتَحَ لِإِخْوَانِهِمْ قَالُوا : وَاَللَّه مَا نَجْلِس هَهُنَا لِشَيْءٍ , قَدْ أَهْلَكَ اللَّه الْعَدُوّ وَإِخْوَاننَا فِي عَسْكَر الْمُشْرِكِينَ . وَقَالَ طَوَائِف مِنْهُمْ : عَلَامَ نَقِف وَقَدْ هَزَمَ اللَّه الْعَدُوّ ؟ فَتَرَكُوا مَنَازِلهمْ الَّتِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَتْرُكُوهَا , وَتَنَازَعُوا وَفَشِلُوا وَعَصَوْا الرَّسُول فَأَوْجَفَتْ الْخَيْل فِيهِمْ قَتْلًا . وَأَلْفَاظ الْآيَة تَقْتَضِي التَّوْبِيخ لَهُمْ , وَوَجْه التَّوْبِيخ لَهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا مَبَادِئ النَّصْر , فَكَانَ الْوَاجِب أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ تَمَام النَّصْر فِي الثَّبَات لَا فِي الِانْهِزَام . ثُمَّ بَيَّنَ سَبَب التَّنَازُع .
يَعْنِي الْغَنِيمَة . قَالَ اِبْن مَسْعُود : مَا شَعَرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيد الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا حَتَّى كَانَ يَوْم أُحُد .
وَهُمْ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي مَرْكَزهمْ , وَلَمْ يُخَالِفُوا أَمْر نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَمِيرهمْ عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر ; فَحَمَلَ خَالِد بْن الْوَلِيد وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل عَلَيْهِ , وَكَانَا يَوْمَئِذٍ كَافِرَيْنِ فَقَتَلُوهُ مَعَ مَنْ بَقِيَ , رَحِمَهُمْ اللَّه . وَالْعِتَاب مَعَ مَنْ اِنْهَزَمَ لَا مَعَ مَنْ ثَبَتَ , فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ فَازَ بِالثَّوَابِ , وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إِذَا حَلَّ بِقَوْمِ عُقُوبَة عَامَّة فَأَهْل الصَّلَاح وَالصِّبْيَان يَهْلِكُونَ ; وَلَكِنْ لَا يَكُون مَا حَلَّ بِهِمْ عُقُوبَة , بَلْ هُوَ سَبَب الْمَثُوبَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ بَعْد أَنْ اِسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهِمْ رَدَّكُمْ عَنْهُمْ بِالِانْهِزَامِ .
وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَة مَخْلُوقَة لِلَّهِ تَعَالَى . وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة : الْمَعْنَى ثُمَّ اِنْصَرَفْتُمْ ; فَإِضَافَته إِلَى اللَّه تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ الرُّعْب مِنْ قُلُوب الْكَافِرِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اِبْتِلَاء لَهُمْ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا لَا يُغْنِيهِمْ ; لِأَنَّ إِخْرَاج الرُّعْب مِنْ قُلُوب الْكَافِرِينَ حَتَّى يَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ قَبِيح وَلَا يَجُوز عِنْدهمْ , أَنْ يَقَع مِنْ اللَّه قَبِيح , فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ : " ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ " مَعْنَى . وَقِيلَ : مَعْنَى " صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ " أَيْ لَمْ يُكَلِّفكُمْ طَلَبهمْ .
أَيْ لَمْ يَسْتَأْصِلكُمْ بَعْد الْمَعْصِيَة وَالْمُخَالَفَة . وَالْخِطَاب قِيلَ هُوَ لِلْجَمِيعِ . وَقِيلَ : هُوَ لِلرُّمَاةِ الَّذِينَ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ , وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله : " ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ " [ الْبَقَرَة : 52 ] . " وَاَللَّه ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَة . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا نُصِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْطِن كَمَا نُصِرَ يَوْم أُحُد , قَالَ : وَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول فِي يَوْم أُحُد : " وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّه وَعْده إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ - يَقُول اِبْن عَبَّاس : وَالْحَسّ الْقَتْل - حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْد مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الْآخِرَة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاَللَّه ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " وَإِنَّمَا عَنَى بِهَذَا الرُّمَاة . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِع ثُمَّ قَالَ : ( اِحْمُوا ظُهُورنَا فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَل فَلَا تَنْصُرُونَا وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا ) . فَلَمَّا غَنِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحُوا عَسْكَر الْمُشْرِكِينَ اِنْكَفَأَتْ الرُّمَاة جَمِيعًا فَدَخَلُوا فِي الْعَسْكَر يَنْتَهِبُونَ , وَقَدْ اِلْتَقَتْ صُفُوف أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَهُمْ هَكَذَا - وَشَبَّكَ أَصَابِع يَدَيْهِ - وَالْتَبَسُوا . فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاة تِلْكَ الْخَلَّة الَّتِي كَانُوا فِيهَا دَخَلَتْ الْخَيْل مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِع عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ بَعْضهمْ بَعْضًا وَالْتَبَسُوا , وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ نَاس كَثِير , وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه أَوَّل النَّهَار حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَاب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ سَبْعَة أَوْ تِسْعَة , وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ نَحْو الْجَبَل , وَلَمْ يَبْلُغُوا حَيْثُ يَقُول النَّاس : الْغَار , إِنَّمَا كَانُوا تَحْت الْمِهْرَاس وَصَاحَ الشَّيْطَان : قُتِلَ مُحَمَّد . فَلَمْ يَشُكّ فِيهِ أَنَّهُ حَقّ , فَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ مَا نَشُكّ أَنَّهُ قُتِلَ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ السَّعْدَيْنِ , نَعْرِفهُ بِتَكَفُّئِهِ إِذَا مَشَى . قَالَ : فَفَرِحْنَا حَتَّى كَأَنَّا لَمْ يُصِبْنَا مَا أَصَابَنَا . قَالَ : فَرَقِيَ نَحْونَا وَهُوَ يَقُول : ( اِشْتَدَّ غَضَب اللَّه عَلَى قَوْم دَمَّوْا وَجْه نَبِيّهمْ ) . وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك : أَنَا كُنْت أَوَّل مَنْ عَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ; عَرَفْته بِعَيْنَيْهِ مِنْ تَحْت الْمِغْفَر تُزْهِرَانِ فَنَادَيْت بِأَعْلَى صَوْتِي : يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ ! أَبْشِرُوا , هَذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْبَلَ . فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ اُسْكُتْ .
مَعْنَاهُ تَقْتُلُونَهُمْ وَتَسْتَأْصِلُونَهُمْ ; قَالَ الشَّاعِر : حَسَسْنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا وَقَالَ جَرِير : تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى حَرِيقُ النَّارِ فِي الْأَجَمِ الْحَصِيدِ قَالَ أَبُو عُبَيْد : الْحَسّ الِاسْتِئْصَال بِالْقَتْلِ ; يُقَال : جَرَاد مَحْسُوس إِذَا قَتَلَهُ الْبَرْد . وَالْبَرْد مُحَسَّة لِلنَّبْتِ . أَيْ مَحْرَقَةً لَهُ ذَاهِبَة بِهِ . وَسَنَة حَسُوس أَيْ جَدْبَة تَأْكُل كُلّ شَيْء ; قَالَ رُؤْبَة : إِذَا شَكَوْنَا سَنَة حَسُوسَا تَأْكُلُ بَعْدَ الْأَخْضَرِ الْيَبِيسَا وَأَصْله مِنْ الْحِسّ الَّذِي هُوَ الْإِدْرَاك بِالْحَاسَّةِ . فَمَعْنَى حَسَّهُ أَذْهَبَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ .
بِعِلْمِهِ , أَوْ بِقَضَائِهِ وَأَمْره .
أَيْ جَبُنْتُمْ وَضَعُفْتُمْ . يُقَال فَشِلَ يَفْشَل فَهُوَ فَشْل وَفَشِل . وَجَوَاب " حَتَّى " مَحْذُوف , أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ اُمْتُحِنْتُمْ . وَمِثْل هَذَا جَائِز كَقَوْلِهِ : " فَإِنْ اِسْتَطَعْت أَنْ تَبْتَغِي نَفَقًا فِي الْأَرْض أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء " [ الْأَنْعَام : 35 ] فَافْعَلْ . وَقَالَ الْفَرَّاء : جَوَاب " حَتَّى " , " وَتَنَازَعْتُمْ " وَالْوَاو مُقْحَمَة زَائِدَة ; كَقَوْلِهِ " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ " [ الصَّافَّات : 103 - 104 ] أَيْ نَادَيْنَاهُ . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى أَيْ اِنْتَحَى . وَعِنْد هَؤُلَاءِ يَجُوز إِقْحَام الْوَاو مِنْ " وَعَصَيْتُمْ " . أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ عَصَيْتُمْ . وَعَلَى هَذَا فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ فَشِلْتُمْ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون الْجَوَاب " صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ " , " ثُمَّ " زَائِدَة , وَالتَّقْدِير حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْض النَّحْوِيِّينَ فِي زِيَادَتهَا قَوْل الشَّاعِر أَرَانِي إِذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوَى فَثُمَّ إِذَا أَصْبَحْت أَصْبَحْت عَادِيًا وَجَوَّزَ الْأَخْفَش أَنْ تَكُون زَائِدَة ; كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسهمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأ مِنْ اللَّه إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ " [ التَّوْبَة : 118 ] . وَقِيلَ : " حَتَّى " بِمَعْنَى " إِلَى " وَحِينَئِذٍ لَا جَوَاب لَهُ ; أَيْ صَدَقَكُمْ اللَّه وَعْده إِلَى أَنْ فَشِلْتُمْ , أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعْد بِشَرْطِ الثَّبَات .
اِخْتَلَفْتُمْ ; يَعْنِي الرُّمَاة حِين قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : نَلْحَق الْغَنَائِم . وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ نَثْبُت فِي مَكَاننَا الَّذِي أَمَرَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثُّبُوتِ فِيهِ .
أَيْ خَالَفْتُمْ أَمْر الرَّسُول فِي الثُّبُوت .
يَعْنِي مِنْ الْغَلَبَة الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْم أُحُد أَوَّل أَمْرهمْ ; وَذَلِكَ حِين صُرِعَ صَاحِب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا صُرِعَ اِنْتَشَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَصَارُوا كَتَائِبِ مُتَفَرِّقَة فَحَاسُوا الْعَدُوّ ضَرْبًا حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ عَنْ أَثْقَالهمْ . وَحَمَلَتْ خَيْل الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثَلَاث مَرَّات كُلّ ذَلِكَ تُنْضَح بِالنَّبْلِ فَتَرْجِع مَغْلُوبَة , وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ فَنَهَكُوهُمْ قَتْلًا . فَلَمَّا أَبْصَرَ الرُّمَاة الْخَمْسُونَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَتَحَ لِإِخْوَانِهِمْ قَالُوا : وَاَللَّه مَا نَجْلِس هَهُنَا لِشَيْءٍ , قَدْ أَهْلَكَ اللَّه الْعَدُوّ وَإِخْوَاننَا فِي عَسْكَر الْمُشْرِكِينَ . وَقَالَ طَوَائِف مِنْهُمْ : عَلَامَ نَقِف وَقَدْ هَزَمَ اللَّه الْعَدُوّ ؟ فَتَرَكُوا مَنَازِلهمْ الَّتِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَتْرُكُوهَا , وَتَنَازَعُوا وَفَشِلُوا وَعَصَوْا الرَّسُول فَأَوْجَفَتْ الْخَيْل فِيهِمْ قَتْلًا . وَأَلْفَاظ الْآيَة تَقْتَضِي التَّوْبِيخ لَهُمْ , وَوَجْه التَّوْبِيخ لَهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا مَبَادِئ النَّصْر , فَكَانَ الْوَاجِب أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ تَمَام النَّصْر فِي الثَّبَات لَا فِي الِانْهِزَام . ثُمَّ بَيَّنَ سَبَب التَّنَازُع .
يَعْنِي الْغَنِيمَة . قَالَ اِبْن مَسْعُود : مَا شَعَرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيد الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا حَتَّى كَانَ يَوْم أُحُد .
وَهُمْ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي مَرْكَزهمْ , وَلَمْ يُخَالِفُوا أَمْر نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَمِيرهمْ عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر ; فَحَمَلَ خَالِد بْن الْوَلِيد وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل عَلَيْهِ , وَكَانَا يَوْمَئِذٍ كَافِرَيْنِ فَقَتَلُوهُ مَعَ مَنْ بَقِيَ , رَحِمَهُمْ اللَّه . وَالْعِتَاب مَعَ مَنْ اِنْهَزَمَ لَا مَعَ مَنْ ثَبَتَ , فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ فَازَ بِالثَّوَابِ , وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إِذَا حَلَّ بِقَوْمِ عُقُوبَة عَامَّة فَأَهْل الصَّلَاح وَالصِّبْيَان يَهْلِكُونَ ; وَلَكِنْ لَا يَكُون مَا حَلَّ بِهِمْ عُقُوبَة , بَلْ هُوَ سَبَب الْمَثُوبَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ بَعْد أَنْ اِسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهِمْ رَدَّكُمْ عَنْهُمْ بِالِانْهِزَامِ .
وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَة مَخْلُوقَة لِلَّهِ تَعَالَى . وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة : الْمَعْنَى ثُمَّ اِنْصَرَفْتُمْ ; فَإِضَافَته إِلَى اللَّه تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ الرُّعْب مِنْ قُلُوب الْكَافِرِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اِبْتِلَاء لَهُمْ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا لَا يُغْنِيهِمْ ; لِأَنَّ إِخْرَاج الرُّعْب مِنْ قُلُوب الْكَافِرِينَ حَتَّى يَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ قَبِيح وَلَا يَجُوز عِنْدهمْ , أَنْ يَقَع مِنْ اللَّه قَبِيح , فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ : " ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ " مَعْنَى . وَقِيلَ : مَعْنَى " صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ " أَيْ لَمْ يُكَلِّفكُمْ طَلَبهمْ .
أَيْ لَمْ يَسْتَأْصِلكُمْ بَعْد الْمَعْصِيَة وَالْمُخَالَفَة . وَالْخِطَاب قِيلَ هُوَ لِلْجَمِيعِ . وَقِيلَ : هُوَ لِلرُّمَاةِ الَّذِينَ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ , وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله : " ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ " [ الْبَقَرَة : 52 ] . " وَاَللَّه ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَة . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا نُصِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْطِن كَمَا نُصِرَ يَوْم أُحُد , قَالَ : وَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول فِي يَوْم أُحُد : " وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّه وَعْده إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ - يَقُول اِبْن عَبَّاس : وَالْحَسّ الْقَتْل - حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْد مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الْآخِرَة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاَللَّه ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " وَإِنَّمَا عَنَى بِهَذَا الرُّمَاة . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِع ثُمَّ قَالَ : ( اِحْمُوا ظُهُورنَا فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَل فَلَا تَنْصُرُونَا وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا ) . فَلَمَّا غَنِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحُوا عَسْكَر الْمُشْرِكِينَ اِنْكَفَأَتْ الرُّمَاة جَمِيعًا فَدَخَلُوا فِي الْعَسْكَر يَنْتَهِبُونَ , وَقَدْ اِلْتَقَتْ صُفُوف أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَهُمْ هَكَذَا - وَشَبَّكَ أَصَابِع يَدَيْهِ - وَالْتَبَسُوا . فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاة تِلْكَ الْخَلَّة الَّتِي كَانُوا فِيهَا دَخَلَتْ الْخَيْل مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِع عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ بَعْضهمْ بَعْضًا وَالْتَبَسُوا , وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ نَاس كَثِير , وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه أَوَّل النَّهَار حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَاب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ سَبْعَة أَوْ تِسْعَة , وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ نَحْو الْجَبَل , وَلَمْ يَبْلُغُوا حَيْثُ يَقُول النَّاس : الْغَار , إِنَّمَا كَانُوا تَحْت الْمِهْرَاس وَصَاحَ الشَّيْطَان : قُتِلَ مُحَمَّد . فَلَمْ يَشُكّ فِيهِ أَنَّهُ حَقّ , فَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ مَا نَشُكّ أَنَّهُ قُتِلَ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ السَّعْدَيْنِ , نَعْرِفهُ بِتَكَفُّئِهِ إِذَا مَشَى . قَالَ : فَفَرِحْنَا حَتَّى كَأَنَّا لَمْ يُصِبْنَا مَا أَصَابَنَا . قَالَ : فَرَقِيَ نَحْونَا وَهُوَ يَقُول : ( اِشْتَدَّ غَضَب اللَّه عَلَى قَوْم دَمَّوْا وَجْه نَبِيّهمْ ) . وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك : أَنَا كُنْت أَوَّل مَنْ عَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ; عَرَفْته بِعَيْنَيْهِ مِنْ تَحْت الْمِغْفَر تُزْهِرَانِ فَنَادَيْت بِأَعْلَى صَوْتِي : يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ ! أَبْشِرُوا , هَذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْبَلَ . فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ اُسْكُتْ .
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ↓
" إِذْ " مُتَعَلِّق بِقَوْلِهِ : " وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ " . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " تُصْعِدُونَ " بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الْعَيْن . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء الْعُطَارِدِيّ وَأَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَالْحَسَن وَقَتَادَة بِفَتْحِ التَّاء وَالْعَيْن , يَعْنِي تَصْعَدُونَ الْجَبَل . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَشِبْل " إِذْ يَصْعَدُونَ وَلَا يَلْوُونَ " بِالْيَاءِ فِيهِمَا . وَقَرَأَ الْحَسَن " تَلُونَ " بِوَاوٍ وَاحِدَة . وَرَوَى أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش عَنْ عَاصِم " وَلَا تُلْوُونَ " بِضَمِّ التَّاء ; وَهِيَ لُغَة شَاذَّة ذَكَرَهَا النَّحَّاس . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : أَصْعَدْت إِذَا مَضَيْت حِيَال وَجْهك , وَصَعِدْت إِذَا اِرْتَقَيْت فِي جَبَل أَوْ غَيْره . فَالْإِصْعَاد : السَّيْر فِي مُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْض وَبُطُون الْأَوْدِيَة وَالشِّعَاب . وَالصُّعُود : الِارْتِفَاع عَلَى الْجِبَال وَالسُّطُوح وَالسَّلَالِيم وَالدَّرَج . فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون صُعُودهمْ فِي الْجَبَل بَعْد إِصْعَادهمْ فِي الْوَادِي ; فَيَصِحّ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَة " تُصْعِدُونَ " و " تَصْعَدُونَ " . قَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع : أَصَعَدُوا يَوْم أُحُد فِي الْوَادِي . وَقِرَاءَة أُبَيّ " إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي " . قَالَ اِبْن عَبَّاس : صَعِدُوا فِي أُحُدٍ فِرَارًا . فَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ صَوَاب ; كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْمُنْهَزِمِينَ مُصْعَد وَصَاعِد . وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ الْقُتَبِيّ وَالْمُبَرِّد : أَصْعَدَ إِذَا أَبْعَدَ فِي الذَّهَاب وَأَمْعَنَ فِيهِ ; فَكَأَنَّ الْإِصْعَاد إِبْعَاد فِي الْأَرْض كَإِبْعَادِ الِارْتِفَاع ; قَالَ الشَّاعِر : أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ أُصْعِدَتْ فَإِنّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا وَقَالَ الْفَرَّاء : الْإِصْعَاد الِابْتِدَاء فِي السَّفَر , وَالِانْحِدَار الرُّجُوع مِنْهُ ; يُقَال : أَصْعَدنَا مِنْ بَغْدَاد إِلَى مَكَّة وَإِلَى خُرَاسَان وَأَشْبَاه ذَلِكَ إِذَا خَرَجْنَا إِلَيْهَا وَأَخَذْنَا فِي السَّفَر , وَانْحَدَرْنَا إِذَا رَجَعْنَا . وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة : قَدْ كُنْت تَبْكِينَ عَلَى الْإِصْعَاد فَالْيَوْم سُرِّحْتِ وَصَاحَ الْحَادِي وَقَالَ الْمُفَضَّل : صَعِدَ وَأَصْعَد وَصَعَّدَ بِمَعْنًى وَاحِد . وَمَعْنَى " تَلْوُونَ " تُعَرِّجُونَ وَتُقِيمُونَ , أَيْ لَا يَلْتَفِت بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض هَرَبًا ; فَإِنَّ الْمُعَرِّج عَلَى الشَّيْء يَلْوِي إِلَيْهِ عُنُقه أَوْ عَنَان دَابَّته . " عَلَى أَحَد " يُرِيد مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ .
أَيْ فِي آخِركُمْ ; يُقَال : جَاءَ فُلَان فِي آخِر النَّاس وَأَخَرَةَ النَّاس وَأُخْرَى النَّاس وَأُخْرَيَات النَّاس . وَفِي الْبُخَارِيّ " أُخْرَاكُمْ " تَأْنِيث آخِركُمْ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن خَالِد حَدَّثَنَا زُهَيْر حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق قَالَ : سَمِعْت الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : جَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجَّالَة يَوْم أُحُد عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُول فِي أُخْرَاهُمْ . وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : كَانَ دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيْ عِبَاد اللَّه اِرْجِعُوا ) وَكَانَ دُعَاءَهُ تَغْيِيرًا لِلْمُنْكَرِ , وَمُحَال أَنْ يَرَى عَلَيْهِ السَّلَام الْمُنْكَر وَهُوَ الِانْهِزَام ثُمَّ لَا يَنْهَى عَنْهُ . قُلْت : هَذَا عَلَى أَنْ يَكُون الِانْهِزَام مَعْصِيَة وَلَيْسَ كَذَلِكَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الْغَمّ فِي اللُّغَة : التَّغْطِيَة . غَمَّمْت الشَّيْء غَطَّيْته . وَيَوْم غَمّ وَلَيْلَة غَمَّة إِذَا كَانَا مُظْلِمَيْنِ . وَمِنْهُ غُمَّ الْهِلَال إِذَا لَمْ يُرَ , وَغَمَّنِي الْأَمْر يَغُمّنِي . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : الْغَمّ الْأَوَّل الْقَتْل وَالْجِرَاح , وَالْغَمّ الثَّانِي الْإِرْجَاف بِقَتْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; إِذْ صَاحَ بِهِ الشَّيْطَان . وَقِيلَ : الْغَمّ الْأَوَّل مَا فَاتَهُمْ مِنْ الظَّفَر وَالْغَنِيمَة , وَالثَّانِي مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْقَتْل وَالْهَزِيمَة . وَقِيلَ : الْغَمّ الْأَوَّل الْهَزِيمَة , وَالثَّانِي إِشْرَاف أَبِي سُفْيَان وَخَالِد عَلَيْهِمْ فِي الْجَبَل ; فَلَمَّا نَظَر إِلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ غَمَّهُمْ ذَلِكَ , وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ فَأَنْسَاهُمْ هَذَا مَا نَالَهُمْ ; فَعِنْد ذَلِكَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ لَا يَعْلُنَّ عَلَيْنَا ) كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْبَاء فِي " بِغَمٍّ " عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عَلَى . وَقِيلَ : هِيَ عَلَى بَابهَا , وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ غَمُّوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ , فَأَثَابَهُمْ بِذَلِكَ غَمّهمْ بِمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ . وَقَالَ الْحَسَن : " فَأَثَابَكُمْ غَمًّا " يَوْم أُحُد " بِغَمٍّ " يَوْم بَدْر لِلْمُشْرِكِينَ . وَسُمِّيَ الْغَمّ ثَوَابًا كَمَا سُمِّيَ جَزَاء الذَّنْب ذَنْبًا . وَقِيلَ : وَقَفَهُمْ اللَّه عَلَى ذَنْبهمْ فَشُغِلُوا بِذَلِكَ عَمَّا أَصَابَهُمْ .
اللَّام مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : " وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ " وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : " فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ " أَيْ كَانَ هَذَا الْغَمّ بَعْد الْغَمّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الْغَنِيمَة , وَلَا مَا أَصَابَكُمْ مِنْ الْهَزِيمَة . وَالْأَوَّل أَحْسَن . و " مَا " فِي قَوْله " مَا أَصَابَكُمْ " فِي مَوْضِع خَفْض . وَقِيلَ : " لَا " صِلَة . أَيْ لِكَيْ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَمَا أَصَابَكُمْ عُقُوبَة لَكُمْ عَلَى مُخَالَفَتكُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ مِثْل قَوْله : " مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد إِذْ أَمَرْتُك " [ الْأَعْرَاف : 12 ] أَيْ أَنْ تَسْجُد . وَقَوْله " لِئَلَّا يَعْلَم أَهْل الْكِتَاب " [ الْحَدِيد : 29 ] أَيْ لِيَعْلَم , وَهَذَا قَوْل الْمُفَضَّل . وَقِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ " فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ " أَيْ تَوَالَتْ عَلَيْكُمْ الْغُمُوم , لِكَيْلَا تَشْتَغِلُوا بَعْد هَذَا بِالْغَنَائِمِ . " وَاَللَّه خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ " فِيهِ مَعْنَى التَّحْذِير وَالْوَعِيد .
أَيْ فِي آخِركُمْ ; يُقَال : جَاءَ فُلَان فِي آخِر النَّاس وَأَخَرَةَ النَّاس وَأُخْرَى النَّاس وَأُخْرَيَات النَّاس . وَفِي الْبُخَارِيّ " أُخْرَاكُمْ " تَأْنِيث آخِركُمْ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن خَالِد حَدَّثَنَا زُهَيْر حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق قَالَ : سَمِعْت الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : جَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجَّالَة يَوْم أُحُد عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُول فِي أُخْرَاهُمْ . وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : كَانَ دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيْ عِبَاد اللَّه اِرْجِعُوا ) وَكَانَ دُعَاءَهُ تَغْيِيرًا لِلْمُنْكَرِ , وَمُحَال أَنْ يَرَى عَلَيْهِ السَّلَام الْمُنْكَر وَهُوَ الِانْهِزَام ثُمَّ لَا يَنْهَى عَنْهُ . قُلْت : هَذَا عَلَى أَنْ يَكُون الِانْهِزَام مَعْصِيَة وَلَيْسَ كَذَلِكَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الْغَمّ فِي اللُّغَة : التَّغْطِيَة . غَمَّمْت الشَّيْء غَطَّيْته . وَيَوْم غَمّ وَلَيْلَة غَمَّة إِذَا كَانَا مُظْلِمَيْنِ . وَمِنْهُ غُمَّ الْهِلَال إِذَا لَمْ يُرَ , وَغَمَّنِي الْأَمْر يَغُمّنِي . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : الْغَمّ الْأَوَّل الْقَتْل وَالْجِرَاح , وَالْغَمّ الثَّانِي الْإِرْجَاف بِقَتْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; إِذْ صَاحَ بِهِ الشَّيْطَان . وَقِيلَ : الْغَمّ الْأَوَّل مَا فَاتَهُمْ مِنْ الظَّفَر وَالْغَنِيمَة , وَالثَّانِي مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْقَتْل وَالْهَزِيمَة . وَقِيلَ : الْغَمّ الْأَوَّل الْهَزِيمَة , وَالثَّانِي إِشْرَاف أَبِي سُفْيَان وَخَالِد عَلَيْهِمْ فِي الْجَبَل ; فَلَمَّا نَظَر إِلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ غَمَّهُمْ ذَلِكَ , وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ فَأَنْسَاهُمْ هَذَا مَا نَالَهُمْ ; فَعِنْد ذَلِكَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ لَا يَعْلُنَّ عَلَيْنَا ) كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْبَاء فِي " بِغَمٍّ " عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عَلَى . وَقِيلَ : هِيَ عَلَى بَابهَا , وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ غَمُّوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ , فَأَثَابَهُمْ بِذَلِكَ غَمّهمْ بِمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ . وَقَالَ الْحَسَن : " فَأَثَابَكُمْ غَمًّا " يَوْم أُحُد " بِغَمٍّ " يَوْم بَدْر لِلْمُشْرِكِينَ . وَسُمِّيَ الْغَمّ ثَوَابًا كَمَا سُمِّيَ جَزَاء الذَّنْب ذَنْبًا . وَقِيلَ : وَقَفَهُمْ اللَّه عَلَى ذَنْبهمْ فَشُغِلُوا بِذَلِكَ عَمَّا أَصَابَهُمْ .
اللَّام مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : " وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ " وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : " فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ " أَيْ كَانَ هَذَا الْغَمّ بَعْد الْغَمّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الْغَنِيمَة , وَلَا مَا أَصَابَكُمْ مِنْ الْهَزِيمَة . وَالْأَوَّل أَحْسَن . و " مَا " فِي قَوْله " مَا أَصَابَكُمْ " فِي مَوْضِع خَفْض . وَقِيلَ : " لَا " صِلَة . أَيْ لِكَيْ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَمَا أَصَابَكُمْ عُقُوبَة لَكُمْ عَلَى مُخَالَفَتكُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ مِثْل قَوْله : " مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد إِذْ أَمَرْتُك " [ الْأَعْرَاف : 12 ] أَيْ أَنْ تَسْجُد . وَقَوْله " لِئَلَّا يَعْلَم أَهْل الْكِتَاب " [ الْحَدِيد : 29 ] أَيْ لِيَعْلَم , وَهَذَا قَوْل الْمُفَضَّل . وَقِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ " فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ " أَيْ تَوَالَتْ عَلَيْكُمْ الْغُمُوم , لِكَيْلَا تَشْتَغِلُوا بَعْد هَذَا بِالْغَنَائِمِ . " وَاَللَّه خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ " فِيهِ مَعْنَى التَّحْذِير وَالْوَعِيد .
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ↓
الْأَمَنَة وَالْأَمْن سَوَاء . وَقِيلَ : الْأَمَنَة إِنَّمَا تَكُون مَعَ أَسْبَاب الْخَوْف , وَالْأَمْن مَعَ عَدَمه . وَهِيَ مَنْصُوبَة ب " أَنْزَلَ " , و " نُعَاسًا " بَدَل مِنْهَا . وَقِيلَ : نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول لَهُ ; كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ لِلْأَمَنَةِ نُعَاسًا . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن " أَمْنَة " بِسُكُونِ الْمِيم . تَفَضَّلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَعْد هَذِهِ الْغُمُوم فِي يَوْم أُحُد بِالنُّعَاسِ حَتَّى نَامَ أَكْثَرهمْ ; وَإِنَّمَا يَنْعَس مَنْ يَأْمَن وَالْخَائِف لَا يَنَام . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس أَنَّ أَبَا طَلْحَة قَالَ : غَشِيَنَا النُّعَاس وَنَحْنُ فِي مَصَافّنَا يَوْم أُحُد , قَالَ : فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُط مِنْ يَدِي وَآخُذهُ , وَيَسْقُط وَآخُذهُ .
قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء . الْيَاء لِلنُّعَاسِ , . وَالتَّاء لِلْأَمَنَةِ
وَالطَّائِفَة تُطْلَق عَلَى الْوَاحِد وَالْجَمَاعَة . يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ : مُعَتِّب بْن قُشَيْر وَأَصْحَابه , وَكَانُوا خَرَجُوا طَمَعًا فِي الْغَنِيمَة وَخَوْف الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَغْشَهُمْ النُّعَاس وَجَعَلُوا يَتَأَسَّفُونَ عَلَى الْحُضُور , وَيَقُولُونَ الْأَقَاوِيل . وَمَعْنَى " قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسهمْ " حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْهَمّ , وَالْهَمّ مَا هَمَمْت بِهِ ; يُقَال : أَهَمَّنِي الشَّيْء أَيْ كَانَ مِنْ هَمِّي . وَأَمْر مُهِمّ : شَدِيد . وَأَهَمَّنِي الْأَمْر : أَقْلَقَنِي : وَهَمَّنِي : أَذَابَنِي . وَالْوَاو فِي قَوْله " وَطَائِفَة " وَاو الْحَال بِمَعْنَى إِذْ , أَيْ إِذْ طَائِفَة يَظُنُّونَ أَنَّ أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِل , وَأَنَّهُ لَا يُنْصَر .
أَيْ ظَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة , فَحُذِفَ .
لَفْظه اِسْتِفْهَام وَمَعْنَاهُ الْجَحْد , أَيْ مَا لَنَا شَيْء مِنْ الْأَمْر , أَيْ مِنْ أَمْر الْخُرُوج , وَإِنَّمَا خَرَجْنَا كُرْهًا ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ : " لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْر شَيْء مَا قُلْنَا هَاهُنَا " . قَالَ الزُّبَيْر : أُرْسِلَ عَلَيْنَا النَّوْم ذَلِكَ الْيَوْم , وَإِنِّي لَأَسْمَع قَوْل مُعَتِّب بْن قُشَيْر وَالنُّعَاس يَغْشَانِي يَقُول : لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْر شَيْء مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَقُول لَيْسَ لَنَا مِنْ الظَّفَر الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ مُحَمَّد شَيْء . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب " كُلّه " بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاء , وَخَبَره " لِلَّهِ " ,
وَالْجُمْلَة خَبَر " إِنَّ " . وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " وَيَوْم الْقِيَامَة تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّه وُجُوههمْ مُسْوَدَّة " [ الزُّمَر : 60 ] . وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ ; كَمَا تَقُول : إِنَّ الْأَمْر أَجْمَعَ لِلَّهِ . فَهُوَ تَوْكِيد , وَهُوَ بِمَعْنَى أَجْمَع فِي الْإِحَاطَة وَالْعُمُوم , وَأَجْمَع لَا يَكُون إِلَّا تَوْكِيدًا . وَقِيلَ : نَعْت لِلْأَمْرِ . وَقَالَ الْأَخْفَش : بَدَل ; أَيْ النَّصْر بِيَدِ اللَّه يَنْصُر مَنْ يَشَاء وَيَخْذُل مَنْ يَشَاء . وَقَالَ جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله " يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ غَيْر الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة " يَعْنِي التَّكْذِيب بِالْقَدَرِ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيهِ , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " قُلْ إِنَّ الْأَمْر كُلّه لِلَّهِ " يَعْنِي الْقَدَر خَيْره وَشَرّه مِنْ اللَّه .
أَيْ مِنْ الشِّرْك وَالْكُفْر وَالتَّكْذِيب .
يُظْهِرُونَ لَك .
أَيْ مَا قُتِلَ عَشَائِرنَا . فَقِيلَ : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لَوْ كَانَ لَنَا عَقْل مَا خَرَجْنَا إِلَى قِتَال أَهْل مَكَّة , وَلَمَا قُتِلَ رُؤَسَاؤُنَا . فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ فَقَالَ
أَيْ لَخَرَجَ .
أَيْ فُرِضَ .
يَعْنِي فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ .
أَيْ مَصَارِعهمْ . وَقِيلَ : " كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْل " أَيْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ الْقِتَال , فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَتْلِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَؤُول إِلَيْهِ . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة " لَبُرِّزَ " بِضَمِّ الْبَاء وَشَدَّ الرَّاء ; بِمَعْنَى يُجْعَل يُخْرَج . وَقِيلَ : لَوْ تَخَلَّفْتُمْ أَيّهَا الْمُنَافِقُونَ لَبَرَزْتُمْ إِلَى مَوْطِن آخَر غَيْره تُصْرَعُونَ فِيهِ حَتَّى يَبْتَلِي اللَّه مَا فِي الصُّدُور وَيُظْهِرهُ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَالْوَاو فِي قَوْله
مُقْحَمَةٌ كَقَوْلِهِ : " وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ " [ الْأَنْعَام : 75 ] أَيْ لِيَكُونَ , وَحُذِفَ الْفِعْل الَّذِي مَعَ لَام كَيْ . وَالتَّقْدِير " وَلِيَبْتَلِيَ اللَّه مَا فِي صُدُوركُمْ وَلِيُمَحِّص مَا فِي قُلُوبكُمْ " فَرَضَ اللَّه عَلَيْكُمْ الْقِتَال وَالْحَرْب وَلَمْ يَنْصُركُمْ يَوْم أُحُد لِيَخْتَبِر صَبْركُمْ وَلِيُمَحِّص عَنْكُمْ سَيِّئَاتكُمْ إِنْ تُبْتُمْ وَأَخْلَصْتُمْ . وَقِيلَ : مَعْنَى " لِيَبْتَلِيَ " لِيُعَامِلكُمْ مُعَامَلَة الْمُخْتَبِر . وَقِيلَ : لِيَقَع مِنْكُمْ مُشَاهَدَة مَا عَلِمَهُ غَيْبًا . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف , وَالتَّقْدِير لِيَبْتَلِيَ أَوْلِيَاء اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّمْحِيص .
أَيْ مَا فِيهَا مِنْ خَيْر وَشَرّ . وَقِيلَ : ذَات الصُّدُور هِيَ الصُّدُور ; لِأَنَّ ذَات الشَّيْء نَفْسه .
قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء . الْيَاء لِلنُّعَاسِ , . وَالتَّاء لِلْأَمَنَةِ
وَالطَّائِفَة تُطْلَق عَلَى الْوَاحِد وَالْجَمَاعَة . يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ : مُعَتِّب بْن قُشَيْر وَأَصْحَابه , وَكَانُوا خَرَجُوا طَمَعًا فِي الْغَنِيمَة وَخَوْف الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَغْشَهُمْ النُّعَاس وَجَعَلُوا يَتَأَسَّفُونَ عَلَى الْحُضُور , وَيَقُولُونَ الْأَقَاوِيل . وَمَعْنَى " قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسهمْ " حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْهَمّ , وَالْهَمّ مَا هَمَمْت بِهِ ; يُقَال : أَهَمَّنِي الشَّيْء أَيْ كَانَ مِنْ هَمِّي . وَأَمْر مُهِمّ : شَدِيد . وَأَهَمَّنِي الْأَمْر : أَقْلَقَنِي : وَهَمَّنِي : أَذَابَنِي . وَالْوَاو فِي قَوْله " وَطَائِفَة " وَاو الْحَال بِمَعْنَى إِذْ , أَيْ إِذْ طَائِفَة يَظُنُّونَ أَنَّ أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِل , وَأَنَّهُ لَا يُنْصَر .
أَيْ ظَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة , فَحُذِفَ .
لَفْظه اِسْتِفْهَام وَمَعْنَاهُ الْجَحْد , أَيْ مَا لَنَا شَيْء مِنْ الْأَمْر , أَيْ مِنْ أَمْر الْخُرُوج , وَإِنَّمَا خَرَجْنَا كُرْهًا ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ : " لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْر شَيْء مَا قُلْنَا هَاهُنَا " . قَالَ الزُّبَيْر : أُرْسِلَ عَلَيْنَا النَّوْم ذَلِكَ الْيَوْم , وَإِنِّي لَأَسْمَع قَوْل مُعَتِّب بْن قُشَيْر وَالنُّعَاس يَغْشَانِي يَقُول : لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْر شَيْء مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَقُول لَيْسَ لَنَا مِنْ الظَّفَر الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ مُحَمَّد شَيْء . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب " كُلّه " بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاء , وَخَبَره " لِلَّهِ " ,
وَالْجُمْلَة خَبَر " إِنَّ " . وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " وَيَوْم الْقِيَامَة تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّه وُجُوههمْ مُسْوَدَّة " [ الزُّمَر : 60 ] . وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ ; كَمَا تَقُول : إِنَّ الْأَمْر أَجْمَعَ لِلَّهِ . فَهُوَ تَوْكِيد , وَهُوَ بِمَعْنَى أَجْمَع فِي الْإِحَاطَة وَالْعُمُوم , وَأَجْمَع لَا يَكُون إِلَّا تَوْكِيدًا . وَقِيلَ : نَعْت لِلْأَمْرِ . وَقَالَ الْأَخْفَش : بَدَل ; أَيْ النَّصْر بِيَدِ اللَّه يَنْصُر مَنْ يَشَاء وَيَخْذُل مَنْ يَشَاء . وَقَالَ جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله " يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ غَيْر الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة " يَعْنِي التَّكْذِيب بِالْقَدَرِ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيهِ , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " قُلْ إِنَّ الْأَمْر كُلّه لِلَّهِ " يَعْنِي الْقَدَر خَيْره وَشَرّه مِنْ اللَّه .
أَيْ مِنْ الشِّرْك وَالْكُفْر وَالتَّكْذِيب .
يُظْهِرُونَ لَك .
أَيْ مَا قُتِلَ عَشَائِرنَا . فَقِيلَ : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لَوْ كَانَ لَنَا عَقْل مَا خَرَجْنَا إِلَى قِتَال أَهْل مَكَّة , وَلَمَا قُتِلَ رُؤَسَاؤُنَا . فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ فَقَالَ
أَيْ لَخَرَجَ .
أَيْ فُرِضَ .
يَعْنِي فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ .
أَيْ مَصَارِعهمْ . وَقِيلَ : " كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْل " أَيْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ الْقِتَال , فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَتْلِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَؤُول إِلَيْهِ . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة " لَبُرِّزَ " بِضَمِّ الْبَاء وَشَدَّ الرَّاء ; بِمَعْنَى يُجْعَل يُخْرَج . وَقِيلَ : لَوْ تَخَلَّفْتُمْ أَيّهَا الْمُنَافِقُونَ لَبَرَزْتُمْ إِلَى مَوْطِن آخَر غَيْره تُصْرَعُونَ فِيهِ حَتَّى يَبْتَلِي اللَّه مَا فِي الصُّدُور وَيُظْهِرهُ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَالْوَاو فِي قَوْله
مُقْحَمَةٌ كَقَوْلِهِ : " وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ " [ الْأَنْعَام : 75 ] أَيْ لِيَكُونَ , وَحُذِفَ الْفِعْل الَّذِي مَعَ لَام كَيْ . وَالتَّقْدِير " وَلِيَبْتَلِيَ اللَّه مَا فِي صُدُوركُمْ وَلِيُمَحِّص مَا فِي قُلُوبكُمْ " فَرَضَ اللَّه عَلَيْكُمْ الْقِتَال وَالْحَرْب وَلَمْ يَنْصُركُمْ يَوْم أُحُد لِيَخْتَبِر صَبْركُمْ وَلِيُمَحِّص عَنْكُمْ سَيِّئَاتكُمْ إِنْ تُبْتُمْ وَأَخْلَصْتُمْ . وَقِيلَ : مَعْنَى " لِيَبْتَلِيَ " لِيُعَامِلكُمْ مُعَامَلَة الْمُخْتَبِر . وَقِيلَ : لِيَقَع مِنْكُمْ مُشَاهَدَة مَا عَلِمَهُ غَيْبًا . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف , وَالتَّقْدِير لِيَبْتَلِيَ أَوْلِيَاء اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّمْحِيص .
أَيْ مَا فِيهَا مِنْ خَيْر وَشَرّ . وَقِيلَ : ذَات الصُّدُور هِيَ الصُّدُور ; لِأَنَّ ذَات الشَّيْء نَفْسه .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ↓
وَالْمُرَاد مَنْ تَوَلَّى عَنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْم أُحُد ; عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَيْره . السُّدِّيّ : يَعْنِي مَنْ هَرَبَ إِلَى الْمَدِينَة فِي وَقْت الْهَزِيمَة دُون مَنْ صَعِدَ الْجَبَل . وَقِيلَ : هِيَ فِي قَوْم بِأَعْيَانِهِمْ تَخَلَّفُوا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْت هَزِيمَتهمْ ثَلَاثَة أَيَّام ثُمَّ اِنْصَرَفُوا .
هَذِهِ الْجُمْلَة هِيَ خَبَر " إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا " وَمَعْنَى " اِسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَان " اِسْتَدْعَى زَلَلهمْ بِأَنْ ذَكَرَهُمْ خَطَايَا سَلَفَتْ مِنْهُمْ , فَكَرِهُوا الثُّبُوت لِئَلَّا يُقْتَلُوا . وَهُوَ مَعْنَى " بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا " وَقِيلَ : " اِسْتَزَلَّهُمْ " حَمَلَهُمْ عَلَى الزَّلَل , وَهُوَ اِسْتَفْعَلَ مِنْ الزَّلَّة وَهِيَ الْخَطِيئَة . وَقِيلَ : زَلَّ وَأَزَلّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ . ثُمَّ قِيلَ : كَرِهُوا الْقِتَال قَبْل إِخْلَاص التَّوْبَة , فَإِنَّمَا تَوَلَّوْا لِهَذَا , وَهَذَا عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل . وَعَلَى الثَّانِي بِمَعْصِيَتِهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكهمْ الْمَرْكَز وَمَيْلهمْ إِلَى الْغَنِيمَة . وَقَالَ الْحَسَن : " مَا كَسَبُوا " قَبُولهمْ مِنْ إِبْلِيس مَا وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَان أَعْمَالهمْ . وَقِيلَ : لَمْ يَكُنْ الِانْهِزَام مَعْصِيَة ; لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّحَصُّن بِالْمَدِينَةِ , فَيَقْطَع الْعَدُوّ طَمَعه فِيهِمْ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ . وَيَجُوز أَنْ يُقَال : لَمْ يَسْمَعُوا دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْهَوْلِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ . وَيَجُوز أَنْ يُقَال : زَادَ عَدَد الْعَدُوّ عَلَى الضِّعْف ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعمِائَةِ وَالْعَدُوّ ثَلَاثَة آلَاف . وَعِنْد هَذَا يَجُوز الِانْهِزَام وَلَكِنَّ الِانْهِزَام عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَأ لَا يَجُوز , وَلَعَلَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْحَازَ إِلَى الْجَبَل أَيْضًا . وَأَحْسَنهَا الْأَوَّل . وَعَلَى الْجُمْلَة فَإِنْ حُمِلَ الْأَمْر عَلَى ذَنْب مُحَقَّق فَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهُ , وَإِنْ حُمِلَ عَلَى اِنْهِزَام مُسَوَّغ فَالْآيَة فِيمَنْ أَبْعَد فِي الْهَزِيمَة وَزَادَ عَلَى الْقَدْر الْمُسَوَّغ . وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ نَصْر بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ : حَدَّثَنَا الْخَلِيل بْن أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا السِّرَاج قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَة قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن غَيْلَان عَنْ جَرِير : أَنَّ عُثْمَان كَانَ بَيْنه وَبَيْنَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف كَلَام , فَقَالَ لَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف : أَتَسُبُّنِي وَقَدْ شَهِدْت بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَد , وَقَدْ بَايَعْت تَحْت شَجَرَة وَلَمْ تُبَايِع , وَقَدْ كُنْت تَوَلَّى مَعَ مَنْ تَوَلَّى يَوْم الْجَمْع , يَعْنِي يَوْم أُحُد . فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَان فَقَالَ : أَمَّا قَوْلك : أَنَا شَهِدْت بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَد , فَإِنِّي لَمْ أَغِبْ عَنْ شَيْء شَهِدَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إِلَّا أَنَّ بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَرِيضَة وَكُنْت مَعَهَا أُمَرِّضهَا , فَضَرَبَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمًا فِي سِهَام الْمُسْلِمِينَ , وَأَمَّا بَيْعَة الشَّجَرَة فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنِي رَبِيئَة عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّة - الرَّبِيئَة هُوَ النَّاظِر - فَضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينه عَلَى شِمَاله فَقَالَ : ( هَذِهِ لِعُثْمَان ) فَيَمِين رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِمَاله خَيْر لِي مِنْ يَمِينِي وَشِمَالِي . وَأَمَّا يَوْم الْجَمْع فَقَالَ
فَكُنْت فِيمَنْ عَفَا اللَّه عَنْهُمْ . فَحَجَّ عُثْمَانُ عَبْدَ الرَّحْمَن . قُلْت : وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيح أَيْضًا عَنْ اِبْن عُمَر , كَمَا فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدَانِ أَخْبَرْنَا أَبُو حَمْزَة عَنْ عُثْمَان بْن مُوهِب قَالَ : جَاءَ رَجُل حَجّ الْبَيْت فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ الْقُعُود ؟ قَالُوا : هَؤُلَاءِ قُرَيْش . قَالَ : مَنْ الشَّيْخ ؟ قَالُوا : اِبْن عُمَر ; فَأَتَاهُ فَقَالَ : إِنِّي سَائِلك عَنْ شَيْء أَتُحَدِّثُنِي ؟ قَالَ : أَنْشُدك بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْت , أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان فَرَّ يَوْم أَحَد ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَتَعْلَمهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْر فَلَمْ يَشْهَدهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَتَعْلَم أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَة الرِّضْوَان فَلَمْ يَشْهَدهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : فَكَبَّرَ . قَالَ اِبْن عُمَر : تَعَالَ لَأُخْبِرَك وَلِأُبَيِّن لَك عَمَّا سَأَلْتنِي عَنْهُ ; أَمَّا فِرَاره يَوْم أُحُد فَأَشْهَد أَنَّ اللَّه عَفَا عَنْهُ . وَأَمَّا تَغَيُّبه عَنْ بَدْر فَإِنَّهُ كَانَ تَحْته بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَة , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ لَك أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ ) . وَأَمَّا تَغَيُّبه عَنْ بَيْعَة الرِّضْوَان فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَد أَعَزّ بِبَطْنِ مَكَّة مِنْ عُثْمَان بْن عَفَّان لَبَعَثَهُ مَكَانه , فَبَعَثَ عُثْمَان وَكَانَتْ بَيْعَة الرِّضْوَان بَعْد مَا ذَهَبَ عُثْمَان إِلَى مَكَّة ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : ( هَذِهِ يَد عُثْمَان ) فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَده فَقَالَ : ( هَذِهِ لِعُثْمَان ) . اِذْهَبْ بِهَذَا الْآن مَعَك . قُلْت : وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة تَوْبَة اللَّه عَلَى آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ) أَيْ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ ; وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ تَوْبِيخ آدَم وَلَوْمه فِي إِخْرَاج نَفْسه وَذُرِّيَّته مِنْ الْجَنَّة بِسَبَبِ أَكْله مِنْ الشَّجَرَة ; فَقَالَ لَهُ آدَم : ( أَفَتَلُومنِي عَلَى أَمْر قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيَّ قَبْل أَنْ أُخْلَق بِأَرْبَعِينَ سَنَة تَابَ عَلَيَّ مِنْهُ وَمَنْ تَابَ عَلَيْهِ فَلَا ذَنْب لَهُ وَمَنْ لَا ذَنْب لَهُ لَا يَتَوَجَّه عَلَيْهِ لَوْم ) . وَكَذَلِكَ مَنْ عَفَا اللَّه عَنْهُ . وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِإِخْبَارِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ , وَخَبَره صِدْق . وَغَيْرهمَا مِنْ الْمُذْنِبِينَ التَّائِبِينَ يَرْجُونَ رَحْمَته وَيَخَافُونَ عَذَابه , فَهُمْ عَلَى وَجَل وَخَوْف أَلَّا تُقْبَل تَوْبَتهمْ , وَإِنْ قُبِلَتْ فَالْخَوْف أَغْلَب عَلَيْهِمْ إِذْ لَا عِلْم لَهُمْ بِذَلِكَ . فَاعْلَمْ .
هَذِهِ الْجُمْلَة هِيَ خَبَر " إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا " وَمَعْنَى " اِسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَان " اِسْتَدْعَى زَلَلهمْ بِأَنْ ذَكَرَهُمْ خَطَايَا سَلَفَتْ مِنْهُمْ , فَكَرِهُوا الثُّبُوت لِئَلَّا يُقْتَلُوا . وَهُوَ مَعْنَى " بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا " وَقِيلَ : " اِسْتَزَلَّهُمْ " حَمَلَهُمْ عَلَى الزَّلَل , وَهُوَ اِسْتَفْعَلَ مِنْ الزَّلَّة وَهِيَ الْخَطِيئَة . وَقِيلَ : زَلَّ وَأَزَلّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ . ثُمَّ قِيلَ : كَرِهُوا الْقِتَال قَبْل إِخْلَاص التَّوْبَة , فَإِنَّمَا تَوَلَّوْا لِهَذَا , وَهَذَا عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل . وَعَلَى الثَّانِي بِمَعْصِيَتِهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكهمْ الْمَرْكَز وَمَيْلهمْ إِلَى الْغَنِيمَة . وَقَالَ الْحَسَن : " مَا كَسَبُوا " قَبُولهمْ مِنْ إِبْلِيس مَا وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَان أَعْمَالهمْ . وَقِيلَ : لَمْ يَكُنْ الِانْهِزَام مَعْصِيَة ; لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّحَصُّن بِالْمَدِينَةِ , فَيَقْطَع الْعَدُوّ طَمَعه فِيهِمْ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ . وَيَجُوز أَنْ يُقَال : لَمْ يَسْمَعُوا دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْهَوْلِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ . وَيَجُوز أَنْ يُقَال : زَادَ عَدَد الْعَدُوّ عَلَى الضِّعْف ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعمِائَةِ وَالْعَدُوّ ثَلَاثَة آلَاف . وَعِنْد هَذَا يَجُوز الِانْهِزَام وَلَكِنَّ الِانْهِزَام عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَأ لَا يَجُوز , وَلَعَلَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْحَازَ إِلَى الْجَبَل أَيْضًا . وَأَحْسَنهَا الْأَوَّل . وَعَلَى الْجُمْلَة فَإِنْ حُمِلَ الْأَمْر عَلَى ذَنْب مُحَقَّق فَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهُ , وَإِنْ حُمِلَ عَلَى اِنْهِزَام مُسَوَّغ فَالْآيَة فِيمَنْ أَبْعَد فِي الْهَزِيمَة وَزَادَ عَلَى الْقَدْر الْمُسَوَّغ . وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ نَصْر بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ : حَدَّثَنَا الْخَلِيل بْن أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا السِّرَاج قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَة قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن غَيْلَان عَنْ جَرِير : أَنَّ عُثْمَان كَانَ بَيْنه وَبَيْنَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف كَلَام , فَقَالَ لَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف : أَتَسُبُّنِي وَقَدْ شَهِدْت بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَد , وَقَدْ بَايَعْت تَحْت شَجَرَة وَلَمْ تُبَايِع , وَقَدْ كُنْت تَوَلَّى مَعَ مَنْ تَوَلَّى يَوْم الْجَمْع , يَعْنِي يَوْم أُحُد . فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَان فَقَالَ : أَمَّا قَوْلك : أَنَا شَهِدْت بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَد , فَإِنِّي لَمْ أَغِبْ عَنْ شَيْء شَهِدَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إِلَّا أَنَّ بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَرِيضَة وَكُنْت مَعَهَا أُمَرِّضهَا , فَضَرَبَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمًا فِي سِهَام الْمُسْلِمِينَ , وَأَمَّا بَيْعَة الشَّجَرَة فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنِي رَبِيئَة عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّة - الرَّبِيئَة هُوَ النَّاظِر - فَضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينه عَلَى شِمَاله فَقَالَ : ( هَذِهِ لِعُثْمَان ) فَيَمِين رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِمَاله خَيْر لِي مِنْ يَمِينِي وَشِمَالِي . وَأَمَّا يَوْم الْجَمْع فَقَالَ
فَكُنْت فِيمَنْ عَفَا اللَّه عَنْهُمْ . فَحَجَّ عُثْمَانُ عَبْدَ الرَّحْمَن . قُلْت : وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيح أَيْضًا عَنْ اِبْن عُمَر , كَمَا فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدَانِ أَخْبَرْنَا أَبُو حَمْزَة عَنْ عُثْمَان بْن مُوهِب قَالَ : جَاءَ رَجُل حَجّ الْبَيْت فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ الْقُعُود ؟ قَالُوا : هَؤُلَاءِ قُرَيْش . قَالَ : مَنْ الشَّيْخ ؟ قَالُوا : اِبْن عُمَر ; فَأَتَاهُ فَقَالَ : إِنِّي سَائِلك عَنْ شَيْء أَتُحَدِّثُنِي ؟ قَالَ : أَنْشُدك بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْت , أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان فَرَّ يَوْم أَحَد ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَتَعْلَمهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْر فَلَمْ يَشْهَدهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَتَعْلَم أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَة الرِّضْوَان فَلَمْ يَشْهَدهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : فَكَبَّرَ . قَالَ اِبْن عُمَر : تَعَالَ لَأُخْبِرَك وَلِأُبَيِّن لَك عَمَّا سَأَلْتنِي عَنْهُ ; أَمَّا فِرَاره يَوْم أُحُد فَأَشْهَد أَنَّ اللَّه عَفَا عَنْهُ . وَأَمَّا تَغَيُّبه عَنْ بَدْر فَإِنَّهُ كَانَ تَحْته بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَة , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ لَك أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ ) . وَأَمَّا تَغَيُّبه عَنْ بَيْعَة الرِّضْوَان فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَد أَعَزّ بِبَطْنِ مَكَّة مِنْ عُثْمَان بْن عَفَّان لَبَعَثَهُ مَكَانه , فَبَعَثَ عُثْمَان وَكَانَتْ بَيْعَة الرِّضْوَان بَعْد مَا ذَهَبَ عُثْمَان إِلَى مَكَّة ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : ( هَذِهِ يَد عُثْمَان ) فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَده فَقَالَ : ( هَذِهِ لِعُثْمَان ) . اِذْهَبْ بِهَذَا الْآن مَعَك . قُلْت : وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة تَوْبَة اللَّه عَلَى آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ) أَيْ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ ; وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ تَوْبِيخ آدَم وَلَوْمه فِي إِخْرَاج نَفْسه وَذُرِّيَّته مِنْ الْجَنَّة بِسَبَبِ أَكْله مِنْ الشَّجَرَة ; فَقَالَ لَهُ آدَم : ( أَفَتَلُومنِي عَلَى أَمْر قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيَّ قَبْل أَنْ أُخْلَق بِأَرْبَعِينَ سَنَة تَابَ عَلَيَّ مِنْهُ وَمَنْ تَابَ عَلَيْهِ فَلَا ذَنْب لَهُ وَمَنْ لَا ذَنْب لَهُ لَا يَتَوَجَّه عَلَيْهِ لَوْم ) . وَكَذَلِكَ مَنْ عَفَا اللَّه عَنْهُ . وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِإِخْبَارِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ , وَخَبَره صِدْق . وَغَيْرهمَا مِنْ الْمُذْنِبِينَ التَّائِبِينَ يَرْجُونَ رَحْمَته وَيَخَافُونَ عَذَابه , فَهُمْ عَلَى وَجَل وَخَوْف أَلَّا تُقْبَل تَوْبَتهمْ , وَإِنْ قُبِلَتْ فَالْخَوْف أَغْلَب عَلَيْهِمْ إِذْ لَا عِلْم لَهُمْ بِذَلِكَ . فَاعْلَمْ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ↓
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ .
يَعْنِي فِي النِّفَاق أَوْ فِي النَّسَب فِي السَّرَايَا الَّتِي بَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بِئْر مَعُونَة . " لَوْ كَانُوا عِنْدنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا " فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَقُولُوا مِثْل قَوْلهمْ .
هُوَ لِمَا مَضَى ; أَيْ إِذْ ضَرَبُوا ; لِأَنَّ فِي الْكَلَام مَعْنَى الشَّرْط مِنْ حَيْثُ كَانَ " الَّذِينَ " مُبْهَمًا غَيْر مُوَقَّت , فَوَقَعَ " إِذَا " مَوْقِع " إِذْ " كَمَا يَقَع الْمَاضِي فِي الْجَزَاء مَوْضِع الْمُسْتَقْبَل . وَمَعْنَى " ضَرَبُوا فِي الْأَرْض " سَافَرُوا فِيهَا وَسَارُوا لِتِجَارَةِ أَوْ غَيْرهَا فَمَاتُوا .
غُزَاة فَقُتِلُوا . وَالْغُزَّى جَمْع مَنْقُوص لَا يَتَغَيَّر لَفْظهَا فِي رَفْع وَخَفْض , وَاحِدهمْ غَازٍ , كَرَاكِعٍ وَرُكَّع , وَصَائِم وَصُوَّم , وَنَائِم وَنُوَّم , وَشَاهِد وَشُهَّد , وَغَائِب وَغُيَّب . وَيَجُوز فِي الْجَمْع غُزَاة مِثْل قُضَاة , وَغُزَّاء بِالْمَدِّ مِثْل ضَرَّاب وَصَوَّام . وَيُقَال : غُزًّى جَمْع الْغُزَاة . قَالَ الشَّاعِر : قُلْ لِلْقَوَافِلِ وَالْغُزَّى إِذَا غَزَوْا وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ قَرَأَهُ " غُزًى " بِالتَّخْفِيفِ . وَالْمُغْزِيَة الْمَرْأَة الَّتِي غَزَا زَوْجهَا . وَأَتَان مُغْزَيَة مُتَأَخِّرَة النِّتَاج ثُمَّ تُنْتَجُ . وَأَغْزَتْ النَّاقَة إِذَا عَسُرَ لِقَاحهَا . وَالْغَزْو قَصْد الشَّيْء . وَالْمَغْزَى الْمَقْصِد . وَيُقَال فِي النَّسَب إِلَى الْغَزْو : غَزَوِيّ .
فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَقُولُوا مِثْل قَوْلهمْ .
يَعْنِي ظَنّهمْ وَقَوْلهمْ . وَاللَّام مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " قَالُوا " أَيْ لِيَجْعَل ظَنّهمْ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْرُجُوا مَا قُتِلُوا . " حَسْرَة " أَيْ نَدَامَة " فِي قُلُوبهمْ " . وَالْحَسْرَة الِاهْتِمَام عَلَى فَائِت لَمْ يُقْدَر بُلُوغه ; قَالَ الشَّاعِر : فَوَاحَسْرَتِي لَمْ أَقْضِ مِنْهَا لُبَانَتِي وَلَمْ أَتَمَتَّعْ بِالْجِوَارِ وَبِالْقُرْبِ وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ . وَالْمَعْنَى : لَا تَكُونُوا مِثْلهمْ " لِيَجْعَل اللَّه ذَلِكَ " الْقَوْل " حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ " لِأَنَّهُمْ ظَهَرَ نِفَاقهمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ ; فَكَانَ ذَلِكَ حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ . وَقِيلَ : " لِيَجْعَل اللَّه ذَلِكَ حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ " يَوْم الْقِيَامَة لِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْخِزْي وَالنَّدَامَة , وَلِمَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ النَّعِيم وَالْكَرَامَة .
أَيْ يَقْدِر عَلَى أَنْ يُحْيِيَ مَنْ يَخْرُج إِلَى الْقِتَال , وَيُمِيت مَنْ أَقَامَ فِي أَهْله .
قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه وَالْمَوْت فِيهِ خَيْر مِنْ جَمِيع الدُّنْيَا .
يَعْنِي فِي النِّفَاق أَوْ فِي النَّسَب فِي السَّرَايَا الَّتِي بَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بِئْر مَعُونَة . " لَوْ كَانُوا عِنْدنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا " فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَقُولُوا مِثْل قَوْلهمْ .
هُوَ لِمَا مَضَى ; أَيْ إِذْ ضَرَبُوا ; لِأَنَّ فِي الْكَلَام مَعْنَى الشَّرْط مِنْ حَيْثُ كَانَ " الَّذِينَ " مُبْهَمًا غَيْر مُوَقَّت , فَوَقَعَ " إِذَا " مَوْقِع " إِذْ " كَمَا يَقَع الْمَاضِي فِي الْجَزَاء مَوْضِع الْمُسْتَقْبَل . وَمَعْنَى " ضَرَبُوا فِي الْأَرْض " سَافَرُوا فِيهَا وَسَارُوا لِتِجَارَةِ أَوْ غَيْرهَا فَمَاتُوا .
غُزَاة فَقُتِلُوا . وَالْغُزَّى جَمْع مَنْقُوص لَا يَتَغَيَّر لَفْظهَا فِي رَفْع وَخَفْض , وَاحِدهمْ غَازٍ , كَرَاكِعٍ وَرُكَّع , وَصَائِم وَصُوَّم , وَنَائِم وَنُوَّم , وَشَاهِد وَشُهَّد , وَغَائِب وَغُيَّب . وَيَجُوز فِي الْجَمْع غُزَاة مِثْل قُضَاة , وَغُزَّاء بِالْمَدِّ مِثْل ضَرَّاب وَصَوَّام . وَيُقَال : غُزًّى جَمْع الْغُزَاة . قَالَ الشَّاعِر : قُلْ لِلْقَوَافِلِ وَالْغُزَّى إِذَا غَزَوْا وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ قَرَأَهُ " غُزًى " بِالتَّخْفِيفِ . وَالْمُغْزِيَة الْمَرْأَة الَّتِي غَزَا زَوْجهَا . وَأَتَان مُغْزَيَة مُتَأَخِّرَة النِّتَاج ثُمَّ تُنْتَجُ . وَأَغْزَتْ النَّاقَة إِذَا عَسُرَ لِقَاحهَا . وَالْغَزْو قَصْد الشَّيْء . وَالْمَغْزَى الْمَقْصِد . وَيُقَال فِي النَّسَب إِلَى الْغَزْو : غَزَوِيّ .
فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَقُولُوا مِثْل قَوْلهمْ .
يَعْنِي ظَنّهمْ وَقَوْلهمْ . وَاللَّام مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " قَالُوا " أَيْ لِيَجْعَل ظَنّهمْ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْرُجُوا مَا قُتِلُوا . " حَسْرَة " أَيْ نَدَامَة " فِي قُلُوبهمْ " . وَالْحَسْرَة الِاهْتِمَام عَلَى فَائِت لَمْ يُقْدَر بُلُوغه ; قَالَ الشَّاعِر : فَوَاحَسْرَتِي لَمْ أَقْضِ مِنْهَا لُبَانَتِي وَلَمْ أَتَمَتَّعْ بِالْجِوَارِ وَبِالْقُرْبِ وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ . وَالْمَعْنَى : لَا تَكُونُوا مِثْلهمْ " لِيَجْعَل اللَّه ذَلِكَ " الْقَوْل " حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ " لِأَنَّهُمْ ظَهَرَ نِفَاقهمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ ; فَكَانَ ذَلِكَ حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ . وَقِيلَ : " لِيَجْعَل اللَّه ذَلِكَ حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ " يَوْم الْقِيَامَة لِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْخِزْي وَالنَّدَامَة , وَلِمَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ النَّعِيم وَالْكَرَامَة .
أَيْ يَقْدِر عَلَى أَنْ يُحْيِيَ مَنْ يَخْرُج إِلَى الْقِتَال , وَيُمِيت مَنْ أَقَامَ فِي أَهْله .
قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه وَالْمَوْت فِيهِ خَيْر مِنْ جَمِيع الدُّنْيَا .
وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ↓
جَوَاب الْجَزَاء مَحْذُوف , اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِجَوَابِ الْقَسَم فِي قَوْله : " لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّه وَرَحْمَة " وَكَانَ الِاسْتِغْنَاء بِجَوَابِ الْقَسَم أَوْلَى ; لِأَنَّ لَهُ صَدْر الْكَلَام , وَمَعْنَاهُ لَيَغْفِرَنَّ لَكُمْ . وَأَهْل الْحِجَاز يَقُولُونَ : مِتُّمْ , بِكَسْرِ الْمِيم مِثْل نِمْتُمْ , مِنْ مَاتَ يُمَات مِثْل خِفْت يُخَاف . وَسُفْلَى مُضَر يَقُولُونَ : مُتُّمْ , بِضَمِّ الْمِيم مِثْل صُمْتُمْ , مِنْ مَاتَ يَمُوت . كَقَوْلِك كَانَ يَكُون , وَقَالَ يَقُول . هَذَا قَوْل الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ حَسَن .
وَعْظ . وَعَظَهُمْ اللَّه بِهَذَا الْقَوْل , أَيْ لَا تَفِرُّوا مِنْ الْقِتَال وَمِمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ , بَلْ فِرُّوا مِنْ عِقَابه وَأَلِيم عَذَابه , فَإِنَّ مَرَدّكُمْ إِلَيْهِ لَا يَمْلِك لَكُمْ أَحَد ضَرًّا وَلَا نَفْعًا غَيْره . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم .
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ↓
" مَا " صِلَة فِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيد , أَيْ فَبِرَحْمَةٍ ; كَقَوْلِهِ : " عَمَّا قَلِيل " [ الْمُؤْمِنُونَ : 40 ] " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقهمْ " [ النِّسَاء : 155 ] " جُنْد مَا هُنَالِكَ مَهْزُوم " [ ص : 11 ] . وَلَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ عَلَى الْإِطْلَاق , وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا سِيبَوَيْهِ مَعْنَى الزِّيَادَة مِنْ حَيْثُ زَالَ عَمَلهَا . . اِبْن كَيْسَان : " مَا " نَكِرَة فِي مَوْضِع جَرّ بِالْبَاءِ " وَرَحْمَة " بَدَل مِنْهَا . وَمَعْنَى الْآيَة : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا رَفَقَ بِمَنْ تَوَلَّى يَوْم أُحُد وَلَمْ يُعَنِّفهُمْ بَيَّنَ الرَّبّ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ . وَقِيلَ : " مَا " اِسْتِفْهَام . وَالْمَعْنَى : فَبِأَيِّ رَحْمَة مِنْ اللَّه لِنْت لَهُمْ ; فَهُوَ تَعْجِيب . وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ " فَبِمَ " بِغَيْرِ أَلِف . " لِنْت " مِنْ لَانَ يَلِين لِينًا وَلَيَانًا بِالْفَتْحِ . وَالْفَظّ الْغَلِيظ الْجَافِي . فَظِظْتَ تَفِظّ فَظَاظَة وَفَظَاظًّا فَأَنْتَ فَظّ . وَالْأُنْثَى فَظَّة وَالْجَمْع أَفْظَاظ . وَفِي صِفَة النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظ وَلَا صَخَّاب فِي الْأَسْوَاق ; وَأَنْشَدَ الْمُفَضَّل فِي الْمُذَكَّر : وَلَيْسَ بِفَظٍّ فِي الْأَدَانِيّ وَالْأُولَى يَؤُمُّونَ جَدْوَاهُ وَلَكِنَّهُ سَهْل وَفَظّ عَلَى أَعْدَائِهِ يَحْذَرُونَهُ فَسَطْوَتُهُ حَتْفٌ وَنَائِلُهُ جَزْلُ وَقَالَ آخَر فِي الْمُؤَنَّث : أَمُوت مِنْ الضُّرّ فِي مَنْزِلِي وَغَيْرِي يَمُوت مِنْ الْكِظَّهْ وَدُنْيَا تَجُود عَلَى الْجَاهِلِيـ نَ وَهْيَ عَلَى ذِي النُّهَى فَظَّهْ وَغِلَظ الْقَلْب عِبَارَة عَنْ تَجَهُّم الْوَجْه , وَقِلَّة الِانْفِعَال فِي الرَّغَائِب , وَقِلَّة الْإِشْفَاق وَالرَّحْمَة , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الشَّاعِر : يُبْكَى عَلَيْنَا وَلَا نَبْكِي عَلَى أَحَد لَنَحْنُ أَغْلَظ أَكْبَادًا مِنْ الْإِبِل وَمَعْنَى " لَانْفَضُّوا " لَتَفَرَّقُوا ; فَضَضْتُهُمْ فَانْفَضُّوا , أَيْ فَرَّقْتهمْ فَتَفَرَّقُوا ; وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل أَبِي النَّجْم يَصِف إِبِلًا : مُسْتَعْجِلَات الْقَيْض غَيْر جُرْد يَنْفَضُّ عَنْهُنَّ الْحَصَى بِالصَّمَدِ وَأَصْل الْفَضّ الْكَسْر ; وَمِنْهُ قَوْلهمْ : لَا يَفْضُضْ اللَّهُ فَاك . وَالْمَعْنَى : يَا مُحَمَّد لَوْلَا رِفْقك لَمَنَعَهُمْ الِاحْتِشَام وَالْهَيْبَة مِنْ الْقُرْب مِنْك بَعْد مَا كَانَ مِنْ تَوَلِّيهمْ .
قَالَ الْعُلَمَاء : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَوَامِر الَّتِي هِيَ بِتَدْرِيجٍ بَلِيغ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْفُو عَنْهُمْ مَا لَهُ فِي خَاصَّته عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَة ; فَلَمَّا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَة أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِر فِيمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَة أَيْضًا , فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَة صَارُوا أَهْلًا لِلِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُور . قَالَ أَهْل اللُّغَة : الِاسْتِشَارَة مَأْخُوذَة مِنْ قَوْل الْعَرَب : شُرْت الدَّابَّة وَشَوَّرْتهَا إِذَا عَلِمْت خَبَرهَا بِجَرِّي أَوْ غَيْره . وَيُقَال لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَرْكُض فِيهِ : مِشْوَار . وَقَدْ يَكُون مِنْ قَوْلهمْ : شُرْت الْعَسَل وَاشْتَرْته فَهُوَ مَشُور وَمُشْتَار إِذَا أَخَذْته مِنْ مَوْضِعه , قَالَ عَدِيّ بْن زَيْد فِي سَمَاع يَأْذَن الشَّيْخ لَهُ وَحَدِيث مِثْل مَاذِيّ مُشَار قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِد الشَّرِيعَة وَعَزَائِم الْأَحْكَام ; مَنْ لَا يَسْتَشِير أَهْل الْعِلْم وَالدِّين فَعَزْله وَاجِب . هَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ . وَقَدْ مَدَحَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ : " وَأَمْرهمْ شُورَى بَيْنهمْ " [ الشُّورَى : 38 ] . قَالَ أَعْرَابِيّ : مَا غُبِنْت قَطُّ حَتَّى يُغْبَن قَوْمِي ; قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ لَا أَفْعَل شَيْئًا حَتَّى أُشَاوِرهُمْ . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاجِب عَلَى الْوُلَاة مُشَاوَرَة الْعُلَمَاء فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ , وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُور الدِّين , وَوُجُوه الْجَيْش فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْحَرْبِ , وَوُجُوه النَّاس فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْمَصَالِحِ , وَوُجُوه الْكُتَّاب وَالْوُزَرَاء وَالْعُمَّال فِيمَا يَتَعَلَّق بِمَصَالِح الْبِلَاد وَعِمَارَتهَا . وَكَانَ يُقَال : مَا نَدِمَ مَنْ اِسْتَشَارَ . وَكَانَ يُقَال : مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ ضَلَّ .
قَوْله تَعَالَى : " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر " يَدُلّ عَلَى جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْأُمُور وَالْأَخْذ بِالظُّنُونِ مَعَ إِمْكَان الْوَحْي ; فَإِنَّ اللَّه أَذِنَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ اللَّه نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يُشَاوِر فِيهِ أَصْحَابه ; فَقَالَتْ طَائِفَة : ذَلِكَ فِي مَكَائِد الْحُرُوب , وَعِنْد لِقَاء الْعَدُوّ , وَتَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ , وَرَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ , وَتَأَلُّفًا عَلَى دِينهمْ , وَإِنْ كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَغْنَاهُ عَنْ رَأْيهمْ بِوَحْيِهِ . رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَة وَالرَّبِيع وَابْن إِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ . قَالَ الشَّافِعِيّ : هُوَ كَقَوْلِهِ ( وَالْبِكْر تُسْتَأْمَر ) تَطْيِبًا لِقَلْبِهَا ; لَا أَنَّهُ وَاجِب . وَقَالَ مُقَاتِل وَقَتَادَة وَالرَّبِيع : كَانَتْ سَادَات الْعَرَب إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الْأَمْر شَقَّ عَلَيْهِمْ : فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى ; نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يُشَاوِرهُمْ فِي الْأَمْر : فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْطَف لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَذْهَب لِأَضْغَانِهِمْ , وَأَطْيَب لِنُفُوسِهِمْ . فَإِذَا شَاوَرَهُمْ عَرَفُوا إِكْرَامه لَهُمْ . وَقَالَ آخَرُونَ : ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَأْتِهِ فِيهِ وَحْي . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالضَّحَّاك قَالَا : مَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه بِالْمُشَاوَرَةِ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى رَأْيهمْ , وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمهُمْ مَا فِي الْمُشَاوَرَة مِنْ الْفَضْل , وَلِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّته مِنْ بَعْده . وَفِي قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس : " وَشَاوِرْهُمْ فِي بَعْض الْأَمْر " وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل : شَاوِرْ صِدِّيقك فِي الْخَفِيّ الْمُشْكِلِ وَاقْبَلْ نَصِيحَة نَاصِح مُتَفَضِّلِ فَاَللَّهُ قَدْ أَوْصَى بِذَاكَ نَبِيَّهُ فِي قَوْله : ( شَاوِرْهُمُ ) و ( تَوَكَّلِ ) جَاءَ فِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُسْتَشَار مُؤْتَمَن ) . قَالَ الْعُلَمَاء : وَصِفَة الْمُسْتَشَار إِنْ كَانَ فِي الْأَحْكَام أَنْ يَكُون عَالِمًا دَيِّنًا , وَقَلَّمَا يَكُون ذَلِكَ إِلَّا فِي عَاقِل . قَالَ الْحَسَن : مَا كَمُلَ دِين اِمْرِئٍ مَا لَمْ يَكْمُل عَقْله . فَإِذَا اُسْتُشِيرَ مَنْ هَذِهِ صِفَته وَاجْتَهَدَ فِي الصَّلَاح وَبَذَلَ جَهْده فَوَقَعَتْ الْإِشَارَة خَطَأ فَلَا غَرَامَة عَلَيْهِ ; قَالَهُ الْخَطَّابِيّ وَغَيْره .
وَصِفَة الْمُسْتَشَار فِي أُمُور الدُّنْيَا أَنْ يَكُون عَاقِلًا مُجَرِّبًا وَادًّا فِي الْمُسْتَشِير . قَالَ : شَاوِرْ صِدِّيقك فِي الْخَفِيّ الْمُشْكِل وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَالَ آخَر : وَإِنْ بَابُ أَمْرٍ عَلَيْك اِلْتَوَى فَشَاوِرْ لَبِيبًا وَلَا تَعْصِهِ فِي أَبْيَات . وَالشُّورَى بَرَكَة . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا نَدِمَ مَنْ اِسْتَشَارَ وَلَا خَابَ مَنْ اِسْتَخَارَ ) . وَرَوَى سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيّ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا شَقِيَ قَطُّ عَبْد بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ بِاسْتِغْنَاءِ رَأْيٍ ) . وَقَالَ بَعْضهمْ : شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُور ; فَإِنَّهُ يُعْطِيك مِنْ رَأْيه مَا وَقَعَ عَلَيْهِ غَالِيًا وَأَنْتَ تَأْخُذهُ مَجَّانًا . وَقَدْ جَعَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْخِلَافَة - وَهِيَ أَعْظَم النَّوَازِل - شُورَى . قَالَ الْبُخَارِيّ : وَكَانَتْ الْأَئِمَّة بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاء مِنْ أَهْل الْعِلْم فِي الْأُمُور الْمُبَاحَة لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : لِيَكُنْ أَهْل مَشُورَتك أَهْل التَّقْوَى وَالْأَمَانَة , وَمَنْ يَخْشَى اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ الْحَسَن : وَاَللَّه مَا تَشَاوَرَ قَوْم بَيْنهمْ إِلَّا هَدَاهُمْ لِأَفْضَل مَا يَحْضُر بِهِمْ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ قَوْم كَانَتْ لَهُمْ مَشُورَة فَحَضَرَ مَعَهُمْ مَنْ اِسْمه أَحْمَد أَوْ مُحَمَّد فَأَدْخَلُوهُ فِي مَشُورَتهمْ إِلَّا خِيرَ لَهُمْ ) .
وَالشُّورَى مَبْنِيَّة عَلَى اِخْتِلَاف الْآرَاء , وَالْمُسْتَشِير يَنْظُر فِي ذَلِكَ الْخِلَاف , وَيَنْظُر أَقْرَبهَا قَوْلًا إِلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة إِنْ أَمْكَنَهُ , فَإِذَا أَرْشَدَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى مَا شَاءَ مِنْهُ عَزَمَ عَلَيْهِ وَأَنْفَذه مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ , إِذْ هَذِهِ غَايَة الِاجْتِهَاد الْمَطْلُوب ; وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه فِي هَذِهِ الْآيَة .
قَالَ قَتَادَة : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا عَزَمَ عَلَى أَمْر أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ وَيَتَوَكَّل عَلَى اللَّه , لَا عَلَى مُشَاوَرَتهمْ . وَالْعَزْم هُوَ الْأَمْر الْمُرَوَّى الْمُنَقَّح , وَلَيْسَ رُكُوب الرَّأْي دُون رَوِيَّة عَزْمًا , إِلَّا عَلَى مَقْطَع الْمُشِيحِينَ مِنْ فُتَّاك الْعَرَب ; كَمَا قَالَ : إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْن عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْر الْعَوَاقِب جَانِبَا وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي رَأْيه غَيْرَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْف صَاحِبَا وَقَالَ النَّقَّاش : الْعَزْم وَالْحَزْم وَاحِد , وَالْحَاء مُبْدَلَة مِنْ الْعَيْن . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خَطَأ ; فَالْحَزْم جَوْدَة النَّظَر فِي الْأَمْر وَتَنْقِيحه وَالْحَذَر مِنْ الْخَطَأ فِيهِ . وَالْعَزْم قَصْد الْإِمْضَاء ; وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر فَإِذَا عَزَمْت " . فَالْمُشَاوَرَة وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا هُوَ الْحَزْم . وَالْعَرَب تَقُول : قَدْ أَحْزُمُ لَوْ أَعْزِمُ . وَقَرَأَ جَعْفَر الصَّادِق وَجَابِر بْن زَيْد : " فَإِذَا عَزَمْتُ " بِضَمِّ التَّاء . نَسَبَ الْعَزْم إِلَى نَفْسه سُبْحَانه إِذْ هُوَ بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقه ; كَمَا قَالَ : " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّه رَمَى " [ الْأَنْفَال : 17 ] . وَمَعْنَى الْكَلَام أَيْ عَزَمْت لَك وَوَفَّقْتُك وَأَرْشَدْتُك " فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه " . وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ التَّاء . قَالَ الْمُهَلَّبُ : وَامْتَثَلَ هَذَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْر رَبّه فَقَالَ : ( لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَس لَأْمَته أَنْ يَضَعهَا حَتَّى يَحْكُم اللَّه ) . أَيْ لَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا عَزَمَ أَنْ يَنْصَرِف ; لِأَنَّهُ نَقْض لِلتَّوَكُّلِ الَّذِي شَرَطَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الْعَزِيمَة . فَلُبْسه لَأْمَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ يَوْم أُحُد مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّه بِالشَّهَادَةِ فِيهِ , وَهُمْ صُلَحَاء الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ كَانَ فَاتَتْهُ بَدْر : يَا رَسُول اللَّه اُخْرُجْ بِنَا إِلَى عَدُوّنَا ; دَالّ عَلَى الْعَزِيمَة . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ بِالْقُعُودِ , وَكَذَلِكَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ أَشَارَ بِذَلِكَ وَقَالَ : أَقِمْ يَا رَسُول اللَّه وَلَا تَخْرُج إِلَيْهِمْ بِالنَّاسِ , فَإِنْ هُمْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَجْلِس , وَإِنْ جَاءُونَا إِلَى الْمَدِينَة قَاتَلْنَاهُمْ فِي الْأَفْنِيَة وَأَفْوَاه السِّكَك , وَرَمَاهُمْ النِّسَاء وَالصِّبْيَان بِالْحِجَارَةِ مِنْ الْآطَام , فَوَاَللَّهِ مَا حَارَبَنَا قَطُّ عَدُوّ فِي هَذِهِ الْمَدِينَة إِلَّا غَلَبْنَاهُ , وَلَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوّ إِلَّا غَلَبْنَا . وَأَبَى هَذَا الرَّأْي مَنْ ذَكَرْنَا , وَشَجَّعُوا النَّاس وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْب . فَصَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمْعَة , وَدَخَلَ إِثْر صَلَاته بَيْته وَلَبِسَ سِلَاحه , فَنَدِمَ أُولَئِكَ الْقَوْم وَقَالُوا : أَكْرَهْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي سِلَاحه قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , أَقِمْ إِنْ شِئْت فَإِنَّا لَا نُرِيد أَنْ نُكْرِهك , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ سِلَاحه أَنْ يَضَعهَا حَتَّى يُقَاتِل ) .
التَّوَكُّل : الِاعْتِمَاد عَلَى اللَّه مَعَ إِظْهَار الْعَجْز , وَالِاسْم التُّكْلَان . يُقَال مِنْهُ : اِتَّكَلْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِي , وَأَصْله : " اِوْتَكَلْتُ " قُلِبَتْ الْوَاو يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا , ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنْهَا التَّاء وَأُدْغِمَتْ فِي تَاء الِافْتِعَال . وَيُقَال : وَكَلْته بِأَمْرِي تَوْكِيلًا , وَالِاسْم الْوِكَالَة بِكَسْرِ الْوَاو وَفَتْحهَا . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي التَّوَكُّل ; فَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْمُتَصَوِّفَة : لَا يَسْتَحِقّهُ إِلَّا مَنْ لَمْ يُخَالِط قَلْبه خَوْف غَيْر اللَّه مِنْ سَبُع أَوْ غَيْره , وَحَتَّى يَتْرُك السَّعْي فِي طَلَب الرِّزْق لِضَمَانِ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء : مَا تَقَدَّمَ ذِكْره عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ " [ آل عِمْرَان : 160 ] . وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا بَيَّنَّاهُ . وَقَدْ خَافَ مُوسَى وَهَارُون بِإِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قَوْله " لَا تَخَافَا " . وَقَالَ : " فَأَوْجَسَ فِي نَفْسه خِيفَة مُوسَى 0 قُلْنَا لَا تَخَفْ " [ طَه : 67 - 68 ] . وَأَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيم بِقَوْلِهِ : " فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيهمْ لَا تَصِل إِلَيْهِ نَكِرهمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة قَالُوا لَا تَخَفْ " [ هُود : 70 ] . فَإِذَا كَانَ الْخَلِيل وَمُوسَى الْكَلِيم قَدْ خَافَا - وَحَسْبك بِهِمَا - فَغَيْرهمَا أَوْلَى . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا الْمَعْنَى .
قَالَ الْعُلَمَاء : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَوَامِر الَّتِي هِيَ بِتَدْرِيجٍ بَلِيغ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْفُو عَنْهُمْ مَا لَهُ فِي خَاصَّته عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَة ; فَلَمَّا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَة أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِر فِيمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَة أَيْضًا , فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَة صَارُوا أَهْلًا لِلِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُور . قَالَ أَهْل اللُّغَة : الِاسْتِشَارَة مَأْخُوذَة مِنْ قَوْل الْعَرَب : شُرْت الدَّابَّة وَشَوَّرْتهَا إِذَا عَلِمْت خَبَرهَا بِجَرِّي أَوْ غَيْره . وَيُقَال لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَرْكُض فِيهِ : مِشْوَار . وَقَدْ يَكُون مِنْ قَوْلهمْ : شُرْت الْعَسَل وَاشْتَرْته فَهُوَ مَشُور وَمُشْتَار إِذَا أَخَذْته مِنْ مَوْضِعه , قَالَ عَدِيّ بْن زَيْد فِي سَمَاع يَأْذَن الشَّيْخ لَهُ وَحَدِيث مِثْل مَاذِيّ مُشَار قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِد الشَّرِيعَة وَعَزَائِم الْأَحْكَام ; مَنْ لَا يَسْتَشِير أَهْل الْعِلْم وَالدِّين فَعَزْله وَاجِب . هَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ . وَقَدْ مَدَحَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ : " وَأَمْرهمْ شُورَى بَيْنهمْ " [ الشُّورَى : 38 ] . قَالَ أَعْرَابِيّ : مَا غُبِنْت قَطُّ حَتَّى يُغْبَن قَوْمِي ; قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ لَا أَفْعَل شَيْئًا حَتَّى أُشَاوِرهُمْ . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاجِب عَلَى الْوُلَاة مُشَاوَرَة الْعُلَمَاء فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ , وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُور الدِّين , وَوُجُوه الْجَيْش فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْحَرْبِ , وَوُجُوه النَّاس فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْمَصَالِحِ , وَوُجُوه الْكُتَّاب وَالْوُزَرَاء وَالْعُمَّال فِيمَا يَتَعَلَّق بِمَصَالِح الْبِلَاد وَعِمَارَتهَا . وَكَانَ يُقَال : مَا نَدِمَ مَنْ اِسْتَشَارَ . وَكَانَ يُقَال : مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ ضَلَّ .
قَوْله تَعَالَى : " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر " يَدُلّ عَلَى جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْأُمُور وَالْأَخْذ بِالظُّنُونِ مَعَ إِمْكَان الْوَحْي ; فَإِنَّ اللَّه أَذِنَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ اللَّه نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يُشَاوِر فِيهِ أَصْحَابه ; فَقَالَتْ طَائِفَة : ذَلِكَ فِي مَكَائِد الْحُرُوب , وَعِنْد لِقَاء الْعَدُوّ , وَتَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ , وَرَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ , وَتَأَلُّفًا عَلَى دِينهمْ , وَإِنْ كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَغْنَاهُ عَنْ رَأْيهمْ بِوَحْيِهِ . رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَة وَالرَّبِيع وَابْن إِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ . قَالَ الشَّافِعِيّ : هُوَ كَقَوْلِهِ ( وَالْبِكْر تُسْتَأْمَر ) تَطْيِبًا لِقَلْبِهَا ; لَا أَنَّهُ وَاجِب . وَقَالَ مُقَاتِل وَقَتَادَة وَالرَّبِيع : كَانَتْ سَادَات الْعَرَب إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الْأَمْر شَقَّ عَلَيْهِمْ : فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى ; نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يُشَاوِرهُمْ فِي الْأَمْر : فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْطَف لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَذْهَب لِأَضْغَانِهِمْ , وَأَطْيَب لِنُفُوسِهِمْ . فَإِذَا شَاوَرَهُمْ عَرَفُوا إِكْرَامه لَهُمْ . وَقَالَ آخَرُونَ : ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَأْتِهِ فِيهِ وَحْي . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالضَّحَّاك قَالَا : مَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه بِالْمُشَاوَرَةِ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى رَأْيهمْ , وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمهُمْ مَا فِي الْمُشَاوَرَة مِنْ الْفَضْل , وَلِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّته مِنْ بَعْده . وَفِي قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس : " وَشَاوِرْهُمْ فِي بَعْض الْأَمْر " وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل : شَاوِرْ صِدِّيقك فِي الْخَفِيّ الْمُشْكِلِ وَاقْبَلْ نَصِيحَة نَاصِح مُتَفَضِّلِ فَاَللَّهُ قَدْ أَوْصَى بِذَاكَ نَبِيَّهُ فِي قَوْله : ( شَاوِرْهُمُ ) و ( تَوَكَّلِ ) جَاءَ فِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُسْتَشَار مُؤْتَمَن ) . قَالَ الْعُلَمَاء : وَصِفَة الْمُسْتَشَار إِنْ كَانَ فِي الْأَحْكَام أَنْ يَكُون عَالِمًا دَيِّنًا , وَقَلَّمَا يَكُون ذَلِكَ إِلَّا فِي عَاقِل . قَالَ الْحَسَن : مَا كَمُلَ دِين اِمْرِئٍ مَا لَمْ يَكْمُل عَقْله . فَإِذَا اُسْتُشِيرَ مَنْ هَذِهِ صِفَته وَاجْتَهَدَ فِي الصَّلَاح وَبَذَلَ جَهْده فَوَقَعَتْ الْإِشَارَة خَطَأ فَلَا غَرَامَة عَلَيْهِ ; قَالَهُ الْخَطَّابِيّ وَغَيْره .
وَصِفَة الْمُسْتَشَار فِي أُمُور الدُّنْيَا أَنْ يَكُون عَاقِلًا مُجَرِّبًا وَادًّا فِي الْمُسْتَشِير . قَالَ : شَاوِرْ صِدِّيقك فِي الْخَفِيّ الْمُشْكِل وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَالَ آخَر : وَإِنْ بَابُ أَمْرٍ عَلَيْك اِلْتَوَى فَشَاوِرْ لَبِيبًا وَلَا تَعْصِهِ فِي أَبْيَات . وَالشُّورَى بَرَكَة . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا نَدِمَ مَنْ اِسْتَشَارَ وَلَا خَابَ مَنْ اِسْتَخَارَ ) . وَرَوَى سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيّ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا شَقِيَ قَطُّ عَبْد بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ بِاسْتِغْنَاءِ رَأْيٍ ) . وَقَالَ بَعْضهمْ : شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُور ; فَإِنَّهُ يُعْطِيك مِنْ رَأْيه مَا وَقَعَ عَلَيْهِ غَالِيًا وَأَنْتَ تَأْخُذهُ مَجَّانًا . وَقَدْ جَعَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْخِلَافَة - وَهِيَ أَعْظَم النَّوَازِل - شُورَى . قَالَ الْبُخَارِيّ : وَكَانَتْ الْأَئِمَّة بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاء مِنْ أَهْل الْعِلْم فِي الْأُمُور الْمُبَاحَة لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : لِيَكُنْ أَهْل مَشُورَتك أَهْل التَّقْوَى وَالْأَمَانَة , وَمَنْ يَخْشَى اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ الْحَسَن : وَاَللَّه مَا تَشَاوَرَ قَوْم بَيْنهمْ إِلَّا هَدَاهُمْ لِأَفْضَل مَا يَحْضُر بِهِمْ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ قَوْم كَانَتْ لَهُمْ مَشُورَة فَحَضَرَ مَعَهُمْ مَنْ اِسْمه أَحْمَد أَوْ مُحَمَّد فَأَدْخَلُوهُ فِي مَشُورَتهمْ إِلَّا خِيرَ لَهُمْ ) .
وَالشُّورَى مَبْنِيَّة عَلَى اِخْتِلَاف الْآرَاء , وَالْمُسْتَشِير يَنْظُر فِي ذَلِكَ الْخِلَاف , وَيَنْظُر أَقْرَبهَا قَوْلًا إِلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة إِنْ أَمْكَنَهُ , فَإِذَا أَرْشَدَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى مَا شَاءَ مِنْهُ عَزَمَ عَلَيْهِ وَأَنْفَذه مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ , إِذْ هَذِهِ غَايَة الِاجْتِهَاد الْمَطْلُوب ; وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه فِي هَذِهِ الْآيَة .
قَالَ قَتَادَة : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا عَزَمَ عَلَى أَمْر أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ وَيَتَوَكَّل عَلَى اللَّه , لَا عَلَى مُشَاوَرَتهمْ . وَالْعَزْم هُوَ الْأَمْر الْمُرَوَّى الْمُنَقَّح , وَلَيْسَ رُكُوب الرَّأْي دُون رَوِيَّة عَزْمًا , إِلَّا عَلَى مَقْطَع الْمُشِيحِينَ مِنْ فُتَّاك الْعَرَب ; كَمَا قَالَ : إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْن عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْر الْعَوَاقِب جَانِبَا وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي رَأْيه غَيْرَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْف صَاحِبَا وَقَالَ النَّقَّاش : الْعَزْم وَالْحَزْم وَاحِد , وَالْحَاء مُبْدَلَة مِنْ الْعَيْن . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خَطَأ ; فَالْحَزْم جَوْدَة النَّظَر فِي الْأَمْر وَتَنْقِيحه وَالْحَذَر مِنْ الْخَطَأ فِيهِ . وَالْعَزْم قَصْد الْإِمْضَاء ; وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر فَإِذَا عَزَمْت " . فَالْمُشَاوَرَة وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا هُوَ الْحَزْم . وَالْعَرَب تَقُول : قَدْ أَحْزُمُ لَوْ أَعْزِمُ . وَقَرَأَ جَعْفَر الصَّادِق وَجَابِر بْن زَيْد : " فَإِذَا عَزَمْتُ " بِضَمِّ التَّاء . نَسَبَ الْعَزْم إِلَى نَفْسه سُبْحَانه إِذْ هُوَ بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقه ; كَمَا قَالَ : " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّه رَمَى " [ الْأَنْفَال : 17 ] . وَمَعْنَى الْكَلَام أَيْ عَزَمْت لَك وَوَفَّقْتُك وَأَرْشَدْتُك " فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه " . وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ التَّاء . قَالَ الْمُهَلَّبُ : وَامْتَثَلَ هَذَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْر رَبّه فَقَالَ : ( لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَس لَأْمَته أَنْ يَضَعهَا حَتَّى يَحْكُم اللَّه ) . أَيْ لَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا عَزَمَ أَنْ يَنْصَرِف ; لِأَنَّهُ نَقْض لِلتَّوَكُّلِ الَّذِي شَرَطَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الْعَزِيمَة . فَلُبْسه لَأْمَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ يَوْم أُحُد مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّه بِالشَّهَادَةِ فِيهِ , وَهُمْ صُلَحَاء الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ كَانَ فَاتَتْهُ بَدْر : يَا رَسُول اللَّه اُخْرُجْ بِنَا إِلَى عَدُوّنَا ; دَالّ عَلَى الْعَزِيمَة . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ بِالْقُعُودِ , وَكَذَلِكَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ أَشَارَ بِذَلِكَ وَقَالَ : أَقِمْ يَا رَسُول اللَّه وَلَا تَخْرُج إِلَيْهِمْ بِالنَّاسِ , فَإِنْ هُمْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَجْلِس , وَإِنْ جَاءُونَا إِلَى الْمَدِينَة قَاتَلْنَاهُمْ فِي الْأَفْنِيَة وَأَفْوَاه السِّكَك , وَرَمَاهُمْ النِّسَاء وَالصِّبْيَان بِالْحِجَارَةِ مِنْ الْآطَام , فَوَاَللَّهِ مَا حَارَبَنَا قَطُّ عَدُوّ فِي هَذِهِ الْمَدِينَة إِلَّا غَلَبْنَاهُ , وَلَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوّ إِلَّا غَلَبْنَا . وَأَبَى هَذَا الرَّأْي مَنْ ذَكَرْنَا , وَشَجَّعُوا النَّاس وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْب . فَصَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمْعَة , وَدَخَلَ إِثْر صَلَاته بَيْته وَلَبِسَ سِلَاحه , فَنَدِمَ أُولَئِكَ الْقَوْم وَقَالُوا : أَكْرَهْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي سِلَاحه قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , أَقِمْ إِنْ شِئْت فَإِنَّا لَا نُرِيد أَنْ نُكْرِهك , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ سِلَاحه أَنْ يَضَعهَا حَتَّى يُقَاتِل ) .
التَّوَكُّل : الِاعْتِمَاد عَلَى اللَّه مَعَ إِظْهَار الْعَجْز , وَالِاسْم التُّكْلَان . يُقَال مِنْهُ : اِتَّكَلْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِي , وَأَصْله : " اِوْتَكَلْتُ " قُلِبَتْ الْوَاو يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا , ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنْهَا التَّاء وَأُدْغِمَتْ فِي تَاء الِافْتِعَال . وَيُقَال : وَكَلْته بِأَمْرِي تَوْكِيلًا , وَالِاسْم الْوِكَالَة بِكَسْرِ الْوَاو وَفَتْحهَا . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي التَّوَكُّل ; فَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْمُتَصَوِّفَة : لَا يَسْتَحِقّهُ إِلَّا مَنْ لَمْ يُخَالِط قَلْبه خَوْف غَيْر اللَّه مِنْ سَبُع أَوْ غَيْره , وَحَتَّى يَتْرُك السَّعْي فِي طَلَب الرِّزْق لِضَمَانِ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء : مَا تَقَدَّمَ ذِكْره عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ " [ آل عِمْرَان : 160 ] . وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا بَيَّنَّاهُ . وَقَدْ خَافَ مُوسَى وَهَارُون بِإِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قَوْله " لَا تَخَافَا " . وَقَالَ : " فَأَوْجَسَ فِي نَفْسه خِيفَة مُوسَى 0 قُلْنَا لَا تَخَفْ " [ طَه : 67 - 68 ] . وَأَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيم بِقَوْلِهِ : " فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيهمْ لَا تَصِل إِلَيْهِ نَكِرهمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة قَالُوا لَا تَخَفْ " [ هُود : 70 ] . فَإِذَا كَانَ الْخَلِيل وَمُوسَى الْكَلِيم قَدْ خَافَا - وَحَسْبك بِهِمَا - فَغَيْرهمَا أَوْلَى . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا الْمَعْنَى .
إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ↓
أَيْ عَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فَإِنَّهُ إِنْ يُعِنْكُمْ وَيَمْنَعكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ لَنْ تُغْلَبُوا .
يَتْرُككُمْ مِنْ مَعُونَته .
أَيْ لَا يَنْصُركُمْ أَحَد مِنْ بَعْده , أَيْ مِنْ بَعْد خِذْلَانه إِيَّاكُمْ ; لِأَنَّهُ قَالَ : " وَإِنْ يَخْذُلكُمْ " وَالْخِذْلَان تَرْك الْعَوْن . وَالْمَخْذُول : الْمَتْرُوك لَا يُعْبَأ بِهِ . وَخَذَلَتْ الْوَحْشِيَّة أَقَامَتْ عَلَى وَلَدهَا فِي الْمَرْعَى وَتَرَكَتْ صَوَاحِبَاتهَا ; فَهِيَ خَذُول . قَالَ طَرَفَة : خَذُول تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الْبَرِيرِ وَتَرْتَدِي وَقَالَ أَيْضًا : نَظَرَتْ إِلَيْك بِعَيْنِ جَارِيَة خَذَلَتْ صَوَاحِبهَا عَلَى طِفْل وَقِيلَ : هَذَا مِنْ الْمَقْلُوب ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمَخْذُولَة إِذَا تُرِكَتْ . وَتَخَاذَلَتْ رِجْلَاهُ إِذَا ضَعُفَتَا . قَالَ : وَخَذُول الرِّجْل مِنْ غَيْر كَسْح وَرِجْل خُذَلَة لِلَّذِي لَا يَزَال يُخْذَل . وَاَللَّه أَعْلَم .
يَتْرُككُمْ مِنْ مَعُونَته .
أَيْ لَا يَنْصُركُمْ أَحَد مِنْ بَعْده , أَيْ مِنْ بَعْد خِذْلَانه إِيَّاكُمْ ; لِأَنَّهُ قَالَ : " وَإِنْ يَخْذُلكُمْ " وَالْخِذْلَان تَرْك الْعَوْن . وَالْمَخْذُول : الْمَتْرُوك لَا يُعْبَأ بِهِ . وَخَذَلَتْ الْوَحْشِيَّة أَقَامَتْ عَلَى وَلَدهَا فِي الْمَرْعَى وَتَرَكَتْ صَوَاحِبَاتهَا ; فَهِيَ خَذُول . قَالَ طَرَفَة : خَذُول تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الْبَرِيرِ وَتَرْتَدِي وَقَالَ أَيْضًا : نَظَرَتْ إِلَيْك بِعَيْنِ جَارِيَة خَذَلَتْ صَوَاحِبهَا عَلَى طِفْل وَقِيلَ : هَذَا مِنْ الْمَقْلُوب ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمَخْذُولَة إِذَا تُرِكَتْ . وَتَخَاذَلَتْ رِجْلَاهُ إِذَا ضَعُفَتَا . قَالَ : وَخَذُول الرِّجْل مِنْ غَيْر كَسْح وَرِجْل خُذَلَة لِلَّذِي لَا يَزَال يُخْذَل . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ↓
لَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاة يَوْم أُحُد بِمَرَاكِزِهِمْ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ - خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِي الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنِيمَة فَلَا يُصْرَف إِلَيْهِمْ شَيْء , بَيَّنَ اللَّه سُبْحَانه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُور فِي الْقِسْمَة ; فَمَا كَانَ مِنْ حَقّكُمْ أَنْ تَتَّهِمُوهُ . وَقَالَ الضَّحَّاك : بَلْ السَّبَب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ طَلَائِع فِي بَعْض غَزَوَاته ثُمَّ غَنِمَ قَبْل مَجِيئُهُمْ ; فَقَسَمَ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَقْسِم لِلطَّلَائِعِ ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ عِتَابًا : " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ " أَيْ يَقْسِم لِبَعْضٍ وَيَتْرُك بَعْضًا . وَرُوِيَ نَحْو هَذَا الْقَوْل عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَعِكْرِمَة وَابْن جُبَيْر وَغَيْرهمْ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَطِيفَة حَمْرَاء فُقِدَتْ فِي الْمَغَانِم يَوْم بَدْر ; فَقَالَ بَعْض مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَلَّ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا , فَنَزَلَتْ الْآيَة أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : قِيلَ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَة مِنْ مُؤْمِنِينَ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا . وَقِيلَ : كَانَتْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمَفْقُود كَانَ سَيْفًا . وَهَذِهِ الْأَقْوَال تُخَرَّجُ عَلَى قِرَاءَة " يَغُلّ " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الْغَيْن . وَرَوَى أَبُو صَخْر عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ " قَالَ : تَقُول وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكْتُم شَيْئًا مِنْ كِتَاب اللَّه . وَقِيلَ : اللَّام فِيهِ مَنْقُولَة , أَيْ وَمَا كَانَ نَبِيٌّ لِيَغُلّ ; كَقَوْلِهِ : " مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذ مِنْ وَلَد سُبْحَانه " [ مَرْيَم : 35 ] . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيَتَّخِذ وَلَدًا . وَقُرِئَ " يُغَلّ " بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الْغَيْن . وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : لَمْ نَسْمَع فِي الْمَغْنَم إِلَّا غَلَّ غُلُولًا , وَقُرِئَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ وَيُغَلّ . قَالَ : فَمَعْنَى " يَغُلّ " يَخُون , وَمَعْنَى " يُغَلَّ " يَخُون , وَيَحْتَمِل مَعْنَيَيْنِ : أَحَدهمَا يُخَان أَيْ يُؤْخَذ مِنْ غَنِيمَته , وَالْآخَر يَخُون أَنْ يُنْسَب إِلَى الْغُلُول : ثُمَّ قِيلَ : إِنَّ كُلّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي خَفَاء فَقَدْ غَلَّ يَغُلّ غُلُولًا : قَالَ اِبْن عَرَفَة : سُمِّيَتْ غُلُولًا لِأَنَّ الْأَيْدِي مَغْلُولَة مِنْهَا , أَيْ مَمْنُوعَة . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : الْغُلُول مِنْ الْمَغْنَم خَاصَّة , وَلَا نَرَاهُ مِنْ الْخِيَانَة وَلَا مِنْ الْحِقْد . وَمِمَّا يُبَيِّن ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَال مِنْ الْخِيَانَة : أَغَلَّ يُغِلّ , وَمِنْ الْحِقْد : غَلَّ يَغِلّ بِالْكَسْرِ , وَمِنْ الْغُلُول : غَلَّ يَغُلّ بِالضَّمِّ . وَغَلَّ الْبَعِير أَيْضًا يَغَلّ غَلَّة إِذَا لَمْ يَقْضِ رِيّه وَأَغَلَّ الرَّجُل خَانَ , قَالَ النَّمِر : جَزَى اللَّه عَنَّا حَمْزَة اِبْنَة نَوْفَل جَزَاء مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِب وَفِي الْحَدِيث : ( لَا إِغْلَال وَلَا إِسْلَال ) أَيْ لَا خِيَانَة وَلَا سَرِقَة , وَيُقَال : لَا رِشْوَة . وَقَالَ شُرَيْح : لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِير غَيْر الْمُغِلّ ضَمَان . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاث لَا يُغَلّ عَلَيْهِنَّ قَلْب مُؤْمِن ) مِنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ فَهُوَ مِنْ الضَّغَن . وَغَلَّ دَخَلَ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى ; يُقَال : غَلَّ فُلَان الْمَفَاوِز , أَيْ دَخَلَهَا وَتَوَسَّطَهَا . وَغَلَّ مِنْ الْمَغْنَم غُلُولًا , أَيْ خَانَ . وَغَلَّ الْمَاء بَيْنَ الْأَشْجَار إِذَا جَرَى فِيهَا ; يَغُلّ بِالضَّمِّ فِي جَمِيع ذَلِكَ . وَقِيلَ : الْغُلُول فِي اللُّغَة أَنْ يَأْخُذ مِنْ الْمَغْنَم شَيْئًا يَسْتُرهُ عَنْ أَصْحَابه ; وَمِنْهُ تَغَلْغَلَ الْمَاء فِي الشَّجَر إِذَا تَخَلَّلَهَا . وَالْغَلَل : الْمَاء الْجَارِي فِي أُصُول الشَّجَر , لِأَنَّهُ مُسْتَتِر بِالْأَشْجَارِ , كَمَا قَالَ : لَعِبَ السُّيُول بِهِ فَأَصْبَحَ مَاؤُهُ غَلَلًا يُقَطَّعُ فِي أُصُول الْخِرْوَع وَمِنْهُ الْغِلَالَة لِلثَّوْبِ الَّذِي يُلْبَس تَحْت الثِّيَاب . وَالْغَالّ : أَرْض مُطْمَئِنَّة ذَات شَجَر . وَمَنَابِت السَّلْم وَالطَّلْح يُقَال لَهَا : غَالّ . وَالْغَالّ أَيْضًا نَبْت , وَالْجَمْع غُلَّانِ بِالضَّمِّ . وَقَالَ بَعْض النَّاس : إِنَّ مَعْنَى " يَغُلّ " يُوجَد غَالًّا ; كَمَا تَقُول : أَحَمِدَتْ الرَّجُل وَجَدْته مَحْمُودًا . فَهَذِهِ الْقِرَاءَة عَلَى هَذَا التَّأْوِيل تَرْجِع إِلَى مَعْنَى " يَغُلّ " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمَّ الْغَيْن . وَمَعْنَى " يَغُلّ " عِنْد جُمْهُور أَهْل الْعِلْم أَيْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَغُلّهُ , أَيْ يَخُونهُ فِي الْغَنِيمَة . فَالْآيَة فِي مَعْنَى نَهْي النَّاس عَنْ الْغُلُول فِي الْغَنَائِم , وَالتَّوَعُّد عَلَيْهِ . وَكَمَا لَا يَجُوز أَنْ يُخَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوز أَنْ يُخَان غَيْره , وَلَكِنْ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْخِيَانَة مَعَهُ أَشَدّ وَقْعًا وَأَعْظَم وِزْرًا ; لِأَنَّ الْمَعَاصِي تَعْظُم بِحَضْرَتِهِ لِتَعَيُّنِ تَوْقِيره . وَالْوُلَاة إِنَّمَا هُمْ عَلَى أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُمْ حَظّهمْ مِنْ التَّوْقِير . وَقِيلَ : مَعْنَى " يَغُلّ " أَيْ مَا غَلَّ نَبِيّ قَطُّ , وَلَيْسَ الْغَرَض النَّهْي .
أَيْ يَأْتِي بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْره وَرَقَبَته , مُعَذَّبًا بِحَمْلِهِ وَثِقَله , وَمَرْعُوبًا بِصَوْتِهِ , وَمُوَبَّخًا بِإِظْهَارِ خِيَانَته عَلَى رُءُوس الْأَشْهَاد ; عَلَى مَا يَأْتِي . وَهَذِهِ الْفَضِيحَة الَّتِي يُوقِعهَا اللَّه تَعَالَى بِالْغَالِّ نَظِير الْفَضِيحَة الَّتِي تُوقَع بِالْغَادِرِ , فِي أَنْ يُنْصَب لَهُ لِوَاء عِنْد اِسْته بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ . وَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْمُعَاقَبَات حَسْبَمَا يَعْهَدهُ الْبَشَر وَيَفْهَمُونَهُ ; أَلَا تَرَى إِلَى قَوْل الشَّاعِر : أَسُمَيُّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْت بِغَدْرَةٍ رُفِعَ اللِّوَاء لَنَا بِهَا فِي الْمَجْمَع وَكَانَتْ الْعَرَب تَرْفَع لِلْغَادِرِ لِوَاء , وَكَذَلِكَ يُطَاف بِالْجَانِي مَعَ جِنَايَته . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات يَوْم فَذَكَرَ الْغُلُول فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْره ثُمَّ قَالَ : ( لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته بَعِير لَهُ رُغَاء يَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته فَرَس لَهُ حَمْحَمَة فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته شَاة لَهَا ثُغَاء يَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته نَفْس لَهَا صِيَاح فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته رِقَاع تَخْفِق فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته صَامِت فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَة أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاس فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسهُ وَيَقْسِمهُ , فَجَاءَ رَجُل يَوْمًا بَعْد النِّدَاء بِزِمَامِ مِنْ الشَّعْر فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه هَذَا كَانَ فِيمَا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَة . فَقَالَ : ( أَسْمَعْت بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا ) ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : ( فَمَا مَنَعَك أَنْ تَجِيء بِهِ ) ؟ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ . فَقَالَ : ( كَلَّا أَنْتَ تَجِيء بِهِ يَوْم الْقِيَامَة فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْك ) . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : أَرَادَ يُوَافِي بِوِزْرِ ذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة , كَمَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى : " وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ " [ الْأَنْعَام : 31 ] . وَقِيلَ : الْخَبَر مَحْمُول عَلَى شُهْرَة الْأَمْر ; أَيْ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة قَدْ شَهَرَ اللَّه أَمْره كَمَا يُشْهَر لَوْ حَمَلَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاء أَوْ فَرَسًا لَهُ حَمْحَمَة .
قُلْت : وَهَذَا عُدُول عَنْ الْحَقِيقَة إِلَى الْمَجَاز وَالتَّشْبِيه , وَإِذَا دَارَ الْكَلَام بَيْنَ الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز فَالْحَقِيقَة الْأَصْل كَمَا فِي كُتُب الْأُصُول . وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِيقَةِ , وَلَا عِطْر بَعْد عَرُوس . وَيُقَال : إِنَّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي الدُّنْيَا يُمَثَّل لَهُ يَوْم الْقِيَامَة فِي النَّار , ثُمَّ يُقَال لَهُ : اِنْزِلْ إِلَيْهِ فَخُذْهُ , فَيَهْبِط إِلَيْهِ , فَإِذَا اِنْتَهَى إِلَيْهِ حَمَلَهُ , حَتَّى إِذَا اِنْتَهَى إِلَى الْبَاب سَقَطَ عَنْهُ إِلَى أَسْفَل جَهَنَّم , فَيَرْجِع إِلَيْهِ فَيَأْخُذهُ ; لَا يَزَال هَكَذَا إِلَى مَا شَاءَ اللَّه . وَيُقَال " يَأْتِ بِمَا غَلَّ " يَعْنِي تَشْهَد عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة تِلْكَ الْخِيَانَة وَالْغُلُول .
قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْغُلُول كَبِيرَة مِنْ الْكَبَائِر ; بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَة وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : أَنَّهُ يَحْمِلهُ عَلَى عُنُقه . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُدْعِم : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَة الَّتِي أَخَذَ يَوْم خَيْبَر مِنْ الْمَغَانِم لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِم لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا ) قَالَ : فَلَمَّا سَمِعَ النَّاس ذَلِكَ جَاءَ رَجُل بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( شِرَاك أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَار ) . أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأ . فَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ) وَامْتِنَاعه مِنْ الصَّلَاة عَلَى مَنْ غَلَّ دَلِيل عَلَى تَعْظِيم الْغُلُول وَتَعْظِيم الذَّنْب فِيهِ وَأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِر , وَهُوَ مِنْ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ وَلَا بُدّ فِيهِ مِنْ الْقِصَاص بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات , ثُمَّ صَاحِبه فِي الْمَشِيئَة . وَقَوْله : ( شِرَاك أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَار ) مِثْل قَوْله : ( أَدُّوا الْخِيَاط وَالْمِخْيَط ) . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيل وَالْكَثِير لَا يَحِلّ أَخْذه فِي الْغَزْو قَبْل الْمَقَاسِم , إِلَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَكْل الْمَطَاعِم فِي أَرْض الْغَزْو وَمِنْ الِاحْتِطَاب وَالِاصْطِيَاد . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُؤْخَذ الطَّعَام فِي أَرْض الْعَدُوّ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام . وَهَذَا لَا أَصْل لَهُ ; لِأَنَّ الْآثَار تُخَالِفهُ , عَلَى مَا يَأْتِي . قَالَ الْحَسَن : كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِفْتَتَحُوا الْمَدِينَة أَوْ الْحِصْن أَكَلُوا مِنْ السَّوِيق وَالدَّقِيق وَالسَّمْن وَالْعَسَل . وَقَالَ إِبْرَاهِيم : كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ أَرْض الْعَدُوّ الطَّعَام فِي أَرْض الْحَرْب وَيَعْلِفُونَ قَبْل أَنْ يُخَمِّسُوا . وَقَالَ عَطَاء : فِي الْغُزَاة يَكُونُونَ فِي السَّرِيَّة فَيُصِيبُونَ أَنْحَاء السَّمْن وَالْعَسَل وَالطَّعَام فَيَأْكُلُونَ , وَمَا بَقِيَ رَدُّوهُ إِلَى إِمَامهمْ ; وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْغَالّ لَا يُحَرَّق مَتَاعه ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّق مَتَاع الرَّجُل الَّذِي أَخَذَ الشَّمْلَة , وَلَا أَحْرَقَ مَتَاع صَاحِب الْخَرَزَات الَّذِي تَرَكَ الصَّلَاة عَلَيْهِ , وَلَوْ كَانَ حَرْق مَتَاعه وَاجِبًا لَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيث . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُل قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعه وَاضْرِبُوهُ ) . فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث صَالِح بْن مُحَمَّد بْن زَائِدَة , وَهُوَ ضَعِيف لَا يُحْتَجّ بِهِ . قَالَ التِّرْمِذِيّ : سَأَلْت مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : إِنَّمَا رَوَى هَذَا صَالِح بْن مُحَمَّد وَهُوَ أَبُو وَاقِد اللَّيْثِيّ وَهُوَ مُنْكَر الْحَدِيث . وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ الْوَلِيد بْن هِشَام وَمَعَنَا سَالِم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , فَغَلَّ رَجُل مَتَاعًا فَأَمَرَ الْوَلِيد بِمَتَاعِهِ فَأُحْرِقَ , وَطِيفَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ سَهْمه . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهَذَا أَصَحّ الْحَدِيثَيْنِ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْر وَعُمَر حَرَّقُوا مَتَاع الْغَالّ وَضَرَبُوهُ . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَزَادَ فِيهِ عَلِيّ بْن بَحْر عَنْ الْوَلِيد - وَلَمْ أَسْمَعهُ مِنْهُ - : وَمَنَعُوهُ سَهْمه . قَالَ أَبُو عُمَر : قَالَ بَعْض رُوَاة هَذَا الْحَدِيث : وَاضْرِبُوا عُنُقه وَأَحْرِقُوا مَتَاعه . وَهَذَا الْحَدِيث يَدُور عَلَى صَالِح بْن مُحَمَّد وَلَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجّ بِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئِ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث ) وَهُوَ يَنْفِي الْقَتْل فِي الْغُلُول . وَرَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ عَلَى الْخَائِن وَلَا عَلَى الْمُنْتَهِب وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِس قَطْع ) . وَهَذَا يُعَارِض حَدِيث صَالِح بْن مُحَمَّد وَهُوَ أَقْوَى مِنْ جِهَة الْإِسْنَاد . وَالْغَالّ خَائِن فِي اللُّغَة وَالشَّرِيعَة وَإِذَا اِنْتَفَى عَنْهُ الْقَطْع فَأَحْرَى الْقَتْل . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : لَوْ صَحَّ حَدِيث صَالِح الْمَذْكُور اِحْتَمَلَ أَنْ يَكُون حِين كَانَتْ الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال ; كَمَا قَالَ فِي مَانِع الزَّكَاة : ( إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْر مَاله , عَزْمَة مِنْ عَزَمَات اللَّه تَعَالَى ) . وَكَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فِي ضَالَّة الْإِبِل الْمَكْتُومَة : فِيهَا غَرَامَتهَا وَمِثْله مَعَهَا . وَكَمَا رَوَى عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص فِي الثَّمَر الْمُعَلَّق غَرَامَة مِثْلَيْهِ وَجَلْدَات نَكَال وَهَذَا كُلّه مَنْسُوخ , وَاَللَّه أَعْلَم .
فَإِذَا غَلَّ الرَّجُل فِي الْمَغْنَم وَوُجِدَ أُخِذَ مِنْهُ , وَأُدِّبَ وَعُوقِبَ بِالتَّعْزِيرِ . وَعِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَاللَّيْث : لَا يُحَرَّق مَتَاعه . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَاللَّيْث ودَاوُد : إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ عُوقِبَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يُحَرَّق مَتَاع الْغَالّ كُلّه إِلَّا سِلَاحه وَثِيَابه الَّتِي عَلَيْهِ وَسَرْجه , وَلَا تُنْزَع مِنْهُ دَابَّته , وَلَا يُحْرَق الشَّيْء الَّذِي غَلَّ . وَهَذَا قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق , وَقَالَهُ الْحَسَن , إِلَّا أَنْ يَكُون حَيَوَانًا أَوْ مُصْحَفًا . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ضَرَبَا الْغَالّ وَأَحْرَقَا مَتَاعه . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَمِمَّنْ قَالَ يُحَرَّق رَحْل الْغَالّ وَمَتَاعه مَكْحُول وَسَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز . وَحُجَّة مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا حَدِيث صَالِح الْمَذْكُور . وَهُوَ عِنْدنَا حَدِيث لَا يَجِب بِهِ اِنْتَهَاك حُرْمَة , وَلَا إِنْفَاذ حُكْم ; لِمَا يُعَارِضُهُ مِنْ الْآثَار الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ . وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة أَصَحّ مِنْ جِهَة النَّظَر وَصَحِيح الْأَثَر . وَاَللَّه أَعْلَم .
لَمْ يَخْتَلِف مَذْهَب مَالِك فِي الْعُقُوبَة عَلَى الْبَدَن , فَأَمَّا فِي الْمَال فَقَالَ فِي الذِّمِّيّ يَبِيع الْخَمْر مِنْ الْمُسْلِم : تُرَاق الْخَمْر عَلَى الْمُسْلِم , وَيُنْزَع الثَّمَن مِنْ الذِّمِّيّ عُقُوبَة لَهُ ; لِئَلَّا يَبِيع الْخَمْر مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَعَلَى هَذَا يَجُوز أَنْ يُقَال : تَجُوز الْعُقُوبَة فِي الْمَال . وَقَدْ أَرَاقَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَبَنًا شِيبَ بِمَاءٍ .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ لِلْغَالِّ أَنْ يَرُدّ جَمِيع مَا غَلَّ إِلَى صَاحِب الْمَقَاسِم قَبْل أَنْ يَفْتَرِق النَّاس إِنْ وَجَدَ السَّبِيل إِلَى ذَلِكَ , وَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهِيَ تَوْبَة لَهُ , وَخُرُوج عَنْ ذَنْبه . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَفْعَل بِهِ إِذَا اِفْتَرَقَ أَهْل الْعَسْكَر وَلَمْ يَصِل إِلَيْهِ ; فَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم : يَدْفَع إِلَى الْإِمَام خُمُسه وَيَتَصَدَّق بِالْبَاقِي . هَذَا مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالثَّوْرِيّ ; وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِت وَمُعَاوِيَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ . وَهُوَ يُشْبِه مَذْهَب اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس ; لِأَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنْ يُتَصَدَّق بِالْمَالِ الَّذِي لَا يُعْرَف صَاحِبه ; وَهُوَ مَذْهَب أَحْمَد بْن حَنْبَل . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَيْسَ لَهُ الصَّدَقَة بِمَالِ غَيْره . قَالَ أَبُو عُمَر : فَهَذَا عِنْدِي فِيمَا يُمْكِن وُجُود صَاحِبه وَالْوُصُول إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَرَثَته , وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيّ لَا يَكْرَه الصَّدَقَة حِينَئِذٍ إِنْ شَاءَ اللَّه . وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي اللُّقَطَة عَلَى جَوَاز الصَّدَقَة بِهَا بَعْد التَّعْرِيف لَهَا وَانْقِطَاع صَاحِبهَا , وَجَعَلُوهُ إِذَا جَاءَ - مُخَيَّرًا بَيْن الْأَجْر وَالضَّمَان , وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوب . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق . وَفِي تَغْرِيم الْغُلُول دَلِيل عَلَى اِشْتَرَاك الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَة , فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَأْثِر بِشَيْءٍ مِنْهَا دُون الْآخَر ; فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْهَا أُدِّبَ اِتِّفَاقًا , عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَة أَوْ سَرَقَ نِصَابًا فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي إِقَامَة الْحَدّ عَلَيْهِ ; فَرَأَى جَمَاعَة أَنَّهُ لَا قَطْع عَلَيْهِ .
وَمِنْ الْغُلُول هَدَايَا الْعُمَّال , وَحُكْمه فِي الْفَضِيحَة فِي الْآخِرَة حُكْم الْغَالّ . رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه وَمُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْد يُقَال لَهُ اِبْن اللُّتْبِيَّة قَالَ اِبْن السَّرْح اِبْن الْأُتْبِيَّة عَلَى الصَّدَقَة , فَجَاءَ فَقَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي . فَقَامَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَر فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : ( مَا بَال الْعَامِل نَبْعَثهُ فَيَجِيء فَيَقُول هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَلَا جَلَسَ فِي بَيْت أُمّه أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُر أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا , لَا يَأْتِي أَحَد مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة إِنْ كَانَ بَعِيرًا فَلَهُ رُغَاء وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَة فَلَهَا خُوَار أَوْ شَاة تَيْعَر ) - ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ : - ( اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ بُرَيْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَل فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْد ذَلِكَ فَهُوَ غُلُول ) . وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ قَالَ : بَعَثَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعِيًا ثُمَّ قَالَ : ( اِنْطَلِقْ أَبَا مَسْعُود وَلَا أُلْفِيَنَّك يَوْم الْقِيَامَة تَأْتِي عَلَى ظَهْرك بَعِير مِنْ إِبِل الصَّدَقَة لَهُ رُغَاء قَدْ غَلَلْته ) . قَالَ : إِذًا لَا أَنْطَلِق . قَالَ : ( إِذًا لَا أُكْرِهك ) . وَقَدْ قَيَّدَ هَذِهِ الْأَحَادِيث مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ الْمُسْتَوْرِد بْن شَدَّاد قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَة فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِم فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَن فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا ) . قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْر : أُخْبِرْت أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِتَّخَذَ غَيْر ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ سَارِق ) . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَمِنْ الْغُلُول حَبْس الْكُتُب عَنْ أَصْحَابهَا , وَيَدْخُل غَيْرهَا فِي مَعْنَاهَا . قَالَ الزُّهْرِيّ : إِيَّاكَ وَغُلُول الْكُتُب . فَقِيلَ لَهُ : وَمَا غُلُول الْكُتُب ؟ قَالَ : حَبْسهَا عَنْ أَصْحَابهَا . وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ " أَنْ يَكْتُم شَيْئًا مِنْ الْوَحْي رَغْبَة أَوْ رَهْبَة أَوْ مُدَاهَنَة . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا فِي الْقُرْآن مِنْ عَيْب دِينهمْ وَسَبّ آلِهَتهمْ , فَسَأَلُوهُ أَنْ يَطْوِي ذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن بَشَّار . وَمَا بَدَأْنَا بِهِ قَوْل الْجُمْهُور .
وَفِي هَذِهِ الْآيَة نَصّ عَلَى أَنَّ الثَّوَاب وَالْعِقَاب مُتَعَلِّق بِكَسْبِ الْأَعْمَال , وَهُوَ رَدّ عَلَى الْجَبْرِيَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ يَأْتِي بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْره وَرَقَبَته , مُعَذَّبًا بِحَمْلِهِ وَثِقَله , وَمَرْعُوبًا بِصَوْتِهِ , وَمُوَبَّخًا بِإِظْهَارِ خِيَانَته عَلَى رُءُوس الْأَشْهَاد ; عَلَى مَا يَأْتِي . وَهَذِهِ الْفَضِيحَة الَّتِي يُوقِعهَا اللَّه تَعَالَى بِالْغَالِّ نَظِير الْفَضِيحَة الَّتِي تُوقَع بِالْغَادِرِ , فِي أَنْ يُنْصَب لَهُ لِوَاء عِنْد اِسْته بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ . وَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْمُعَاقَبَات حَسْبَمَا يَعْهَدهُ الْبَشَر وَيَفْهَمُونَهُ ; أَلَا تَرَى إِلَى قَوْل الشَّاعِر : أَسُمَيُّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْت بِغَدْرَةٍ رُفِعَ اللِّوَاء لَنَا بِهَا فِي الْمَجْمَع وَكَانَتْ الْعَرَب تَرْفَع لِلْغَادِرِ لِوَاء , وَكَذَلِكَ يُطَاف بِالْجَانِي مَعَ جِنَايَته . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات يَوْم فَذَكَرَ الْغُلُول فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْره ثُمَّ قَالَ : ( لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته بَعِير لَهُ رُغَاء يَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته فَرَس لَهُ حَمْحَمَة فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته شَاة لَهَا ثُغَاء يَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته نَفْس لَهَا صِيَاح فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته رِقَاع تَخْفِق فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته صَامِت فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَة أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاس فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسهُ وَيَقْسِمهُ , فَجَاءَ رَجُل يَوْمًا بَعْد النِّدَاء بِزِمَامِ مِنْ الشَّعْر فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه هَذَا كَانَ فِيمَا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَة . فَقَالَ : ( أَسْمَعْت بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا ) ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : ( فَمَا مَنَعَك أَنْ تَجِيء بِهِ ) ؟ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ . فَقَالَ : ( كَلَّا أَنْتَ تَجِيء بِهِ يَوْم الْقِيَامَة فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْك ) . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : أَرَادَ يُوَافِي بِوِزْرِ ذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة , كَمَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى : " وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ " [ الْأَنْعَام : 31 ] . وَقِيلَ : الْخَبَر مَحْمُول عَلَى شُهْرَة الْأَمْر ; أَيْ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة قَدْ شَهَرَ اللَّه أَمْره كَمَا يُشْهَر لَوْ حَمَلَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاء أَوْ فَرَسًا لَهُ حَمْحَمَة .
قُلْت : وَهَذَا عُدُول عَنْ الْحَقِيقَة إِلَى الْمَجَاز وَالتَّشْبِيه , وَإِذَا دَارَ الْكَلَام بَيْنَ الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز فَالْحَقِيقَة الْأَصْل كَمَا فِي كُتُب الْأُصُول . وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِيقَةِ , وَلَا عِطْر بَعْد عَرُوس . وَيُقَال : إِنَّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي الدُّنْيَا يُمَثَّل لَهُ يَوْم الْقِيَامَة فِي النَّار , ثُمَّ يُقَال لَهُ : اِنْزِلْ إِلَيْهِ فَخُذْهُ , فَيَهْبِط إِلَيْهِ , فَإِذَا اِنْتَهَى إِلَيْهِ حَمَلَهُ , حَتَّى إِذَا اِنْتَهَى إِلَى الْبَاب سَقَطَ عَنْهُ إِلَى أَسْفَل جَهَنَّم , فَيَرْجِع إِلَيْهِ فَيَأْخُذهُ ; لَا يَزَال هَكَذَا إِلَى مَا شَاءَ اللَّه . وَيُقَال " يَأْتِ بِمَا غَلَّ " يَعْنِي تَشْهَد عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة تِلْكَ الْخِيَانَة وَالْغُلُول .
قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْغُلُول كَبِيرَة مِنْ الْكَبَائِر ; بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَة وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : أَنَّهُ يَحْمِلهُ عَلَى عُنُقه . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُدْعِم : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَة الَّتِي أَخَذَ يَوْم خَيْبَر مِنْ الْمَغَانِم لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِم لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا ) قَالَ : فَلَمَّا سَمِعَ النَّاس ذَلِكَ جَاءَ رَجُل بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( شِرَاك أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَار ) . أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأ . فَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ) وَامْتِنَاعه مِنْ الصَّلَاة عَلَى مَنْ غَلَّ دَلِيل عَلَى تَعْظِيم الْغُلُول وَتَعْظِيم الذَّنْب فِيهِ وَأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِر , وَهُوَ مِنْ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ وَلَا بُدّ فِيهِ مِنْ الْقِصَاص بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات , ثُمَّ صَاحِبه فِي الْمَشِيئَة . وَقَوْله : ( شِرَاك أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَار ) مِثْل قَوْله : ( أَدُّوا الْخِيَاط وَالْمِخْيَط ) . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيل وَالْكَثِير لَا يَحِلّ أَخْذه فِي الْغَزْو قَبْل الْمَقَاسِم , إِلَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَكْل الْمَطَاعِم فِي أَرْض الْغَزْو وَمِنْ الِاحْتِطَاب وَالِاصْطِيَاد . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُؤْخَذ الطَّعَام فِي أَرْض الْعَدُوّ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام . وَهَذَا لَا أَصْل لَهُ ; لِأَنَّ الْآثَار تُخَالِفهُ , عَلَى مَا يَأْتِي . قَالَ الْحَسَن : كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِفْتَتَحُوا الْمَدِينَة أَوْ الْحِصْن أَكَلُوا مِنْ السَّوِيق وَالدَّقِيق وَالسَّمْن وَالْعَسَل . وَقَالَ إِبْرَاهِيم : كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ أَرْض الْعَدُوّ الطَّعَام فِي أَرْض الْحَرْب وَيَعْلِفُونَ قَبْل أَنْ يُخَمِّسُوا . وَقَالَ عَطَاء : فِي الْغُزَاة يَكُونُونَ فِي السَّرِيَّة فَيُصِيبُونَ أَنْحَاء السَّمْن وَالْعَسَل وَالطَّعَام فَيَأْكُلُونَ , وَمَا بَقِيَ رَدُّوهُ إِلَى إِمَامهمْ ; وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْغَالّ لَا يُحَرَّق مَتَاعه ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّق مَتَاع الرَّجُل الَّذِي أَخَذَ الشَّمْلَة , وَلَا أَحْرَقَ مَتَاع صَاحِب الْخَرَزَات الَّذِي تَرَكَ الصَّلَاة عَلَيْهِ , وَلَوْ كَانَ حَرْق مَتَاعه وَاجِبًا لَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيث . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُل قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعه وَاضْرِبُوهُ ) . فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث صَالِح بْن مُحَمَّد بْن زَائِدَة , وَهُوَ ضَعِيف لَا يُحْتَجّ بِهِ . قَالَ التِّرْمِذِيّ : سَأَلْت مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : إِنَّمَا رَوَى هَذَا صَالِح بْن مُحَمَّد وَهُوَ أَبُو وَاقِد اللَّيْثِيّ وَهُوَ مُنْكَر الْحَدِيث . وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ الْوَلِيد بْن هِشَام وَمَعَنَا سَالِم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , فَغَلَّ رَجُل مَتَاعًا فَأَمَرَ الْوَلِيد بِمَتَاعِهِ فَأُحْرِقَ , وَطِيفَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ سَهْمه . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهَذَا أَصَحّ الْحَدِيثَيْنِ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْر وَعُمَر حَرَّقُوا مَتَاع الْغَالّ وَضَرَبُوهُ . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَزَادَ فِيهِ عَلِيّ بْن بَحْر عَنْ الْوَلِيد - وَلَمْ أَسْمَعهُ مِنْهُ - : وَمَنَعُوهُ سَهْمه . قَالَ أَبُو عُمَر : قَالَ بَعْض رُوَاة هَذَا الْحَدِيث : وَاضْرِبُوا عُنُقه وَأَحْرِقُوا مَتَاعه . وَهَذَا الْحَدِيث يَدُور عَلَى صَالِح بْن مُحَمَّد وَلَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجّ بِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئِ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث ) وَهُوَ يَنْفِي الْقَتْل فِي الْغُلُول . وَرَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ عَلَى الْخَائِن وَلَا عَلَى الْمُنْتَهِب وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِس قَطْع ) . وَهَذَا يُعَارِض حَدِيث صَالِح بْن مُحَمَّد وَهُوَ أَقْوَى مِنْ جِهَة الْإِسْنَاد . وَالْغَالّ خَائِن فِي اللُّغَة وَالشَّرِيعَة وَإِذَا اِنْتَفَى عَنْهُ الْقَطْع فَأَحْرَى الْقَتْل . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : لَوْ صَحَّ حَدِيث صَالِح الْمَذْكُور اِحْتَمَلَ أَنْ يَكُون حِين كَانَتْ الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال ; كَمَا قَالَ فِي مَانِع الزَّكَاة : ( إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْر مَاله , عَزْمَة مِنْ عَزَمَات اللَّه تَعَالَى ) . وَكَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فِي ضَالَّة الْإِبِل الْمَكْتُومَة : فِيهَا غَرَامَتهَا وَمِثْله مَعَهَا . وَكَمَا رَوَى عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص فِي الثَّمَر الْمُعَلَّق غَرَامَة مِثْلَيْهِ وَجَلْدَات نَكَال وَهَذَا كُلّه مَنْسُوخ , وَاَللَّه أَعْلَم .
فَإِذَا غَلَّ الرَّجُل فِي الْمَغْنَم وَوُجِدَ أُخِذَ مِنْهُ , وَأُدِّبَ وَعُوقِبَ بِالتَّعْزِيرِ . وَعِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَاللَّيْث : لَا يُحَرَّق مَتَاعه . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَاللَّيْث ودَاوُد : إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ عُوقِبَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يُحَرَّق مَتَاع الْغَالّ كُلّه إِلَّا سِلَاحه وَثِيَابه الَّتِي عَلَيْهِ وَسَرْجه , وَلَا تُنْزَع مِنْهُ دَابَّته , وَلَا يُحْرَق الشَّيْء الَّذِي غَلَّ . وَهَذَا قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق , وَقَالَهُ الْحَسَن , إِلَّا أَنْ يَكُون حَيَوَانًا أَوْ مُصْحَفًا . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ضَرَبَا الْغَالّ وَأَحْرَقَا مَتَاعه . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَمِمَّنْ قَالَ يُحَرَّق رَحْل الْغَالّ وَمَتَاعه مَكْحُول وَسَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز . وَحُجَّة مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا حَدِيث صَالِح الْمَذْكُور . وَهُوَ عِنْدنَا حَدِيث لَا يَجِب بِهِ اِنْتَهَاك حُرْمَة , وَلَا إِنْفَاذ حُكْم ; لِمَا يُعَارِضُهُ مِنْ الْآثَار الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ . وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة أَصَحّ مِنْ جِهَة النَّظَر وَصَحِيح الْأَثَر . وَاَللَّه أَعْلَم .
لَمْ يَخْتَلِف مَذْهَب مَالِك فِي الْعُقُوبَة عَلَى الْبَدَن , فَأَمَّا فِي الْمَال فَقَالَ فِي الذِّمِّيّ يَبِيع الْخَمْر مِنْ الْمُسْلِم : تُرَاق الْخَمْر عَلَى الْمُسْلِم , وَيُنْزَع الثَّمَن مِنْ الذِّمِّيّ عُقُوبَة لَهُ ; لِئَلَّا يَبِيع الْخَمْر مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَعَلَى هَذَا يَجُوز أَنْ يُقَال : تَجُوز الْعُقُوبَة فِي الْمَال . وَقَدْ أَرَاقَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَبَنًا شِيبَ بِمَاءٍ .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ لِلْغَالِّ أَنْ يَرُدّ جَمِيع مَا غَلَّ إِلَى صَاحِب الْمَقَاسِم قَبْل أَنْ يَفْتَرِق النَّاس إِنْ وَجَدَ السَّبِيل إِلَى ذَلِكَ , وَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهِيَ تَوْبَة لَهُ , وَخُرُوج عَنْ ذَنْبه . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَفْعَل بِهِ إِذَا اِفْتَرَقَ أَهْل الْعَسْكَر وَلَمْ يَصِل إِلَيْهِ ; فَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم : يَدْفَع إِلَى الْإِمَام خُمُسه وَيَتَصَدَّق بِالْبَاقِي . هَذَا مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالثَّوْرِيّ ; وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِت وَمُعَاوِيَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ . وَهُوَ يُشْبِه مَذْهَب اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس ; لِأَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنْ يُتَصَدَّق بِالْمَالِ الَّذِي لَا يُعْرَف صَاحِبه ; وَهُوَ مَذْهَب أَحْمَد بْن حَنْبَل . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَيْسَ لَهُ الصَّدَقَة بِمَالِ غَيْره . قَالَ أَبُو عُمَر : فَهَذَا عِنْدِي فِيمَا يُمْكِن وُجُود صَاحِبه وَالْوُصُول إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَرَثَته , وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيّ لَا يَكْرَه الصَّدَقَة حِينَئِذٍ إِنْ شَاءَ اللَّه . وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي اللُّقَطَة عَلَى جَوَاز الصَّدَقَة بِهَا بَعْد التَّعْرِيف لَهَا وَانْقِطَاع صَاحِبهَا , وَجَعَلُوهُ إِذَا جَاءَ - مُخَيَّرًا بَيْن الْأَجْر وَالضَّمَان , وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوب . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق . وَفِي تَغْرِيم الْغُلُول دَلِيل عَلَى اِشْتَرَاك الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَة , فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَأْثِر بِشَيْءٍ مِنْهَا دُون الْآخَر ; فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْهَا أُدِّبَ اِتِّفَاقًا , عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَة أَوْ سَرَقَ نِصَابًا فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي إِقَامَة الْحَدّ عَلَيْهِ ; فَرَأَى جَمَاعَة أَنَّهُ لَا قَطْع عَلَيْهِ .
وَمِنْ الْغُلُول هَدَايَا الْعُمَّال , وَحُكْمه فِي الْفَضِيحَة فِي الْآخِرَة حُكْم الْغَالّ . رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه وَمُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْد يُقَال لَهُ اِبْن اللُّتْبِيَّة قَالَ اِبْن السَّرْح اِبْن الْأُتْبِيَّة عَلَى الصَّدَقَة , فَجَاءَ فَقَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي . فَقَامَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَر فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : ( مَا بَال الْعَامِل نَبْعَثهُ فَيَجِيء فَيَقُول هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَلَا جَلَسَ فِي بَيْت أُمّه أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُر أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا , لَا يَأْتِي أَحَد مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة إِنْ كَانَ بَعِيرًا فَلَهُ رُغَاء وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَة فَلَهَا خُوَار أَوْ شَاة تَيْعَر ) - ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ : - ( اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ بُرَيْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَل فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْد ذَلِكَ فَهُوَ غُلُول ) . وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ قَالَ : بَعَثَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعِيًا ثُمَّ قَالَ : ( اِنْطَلِقْ أَبَا مَسْعُود وَلَا أُلْفِيَنَّك يَوْم الْقِيَامَة تَأْتِي عَلَى ظَهْرك بَعِير مِنْ إِبِل الصَّدَقَة لَهُ رُغَاء قَدْ غَلَلْته ) . قَالَ : إِذًا لَا أَنْطَلِق . قَالَ : ( إِذًا لَا أُكْرِهك ) . وَقَدْ قَيَّدَ هَذِهِ الْأَحَادِيث مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ الْمُسْتَوْرِد بْن شَدَّاد قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَة فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِم فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَن فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا ) . قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْر : أُخْبِرْت أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِتَّخَذَ غَيْر ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ سَارِق ) . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَمِنْ الْغُلُول حَبْس الْكُتُب عَنْ أَصْحَابهَا , وَيَدْخُل غَيْرهَا فِي مَعْنَاهَا . قَالَ الزُّهْرِيّ : إِيَّاكَ وَغُلُول الْكُتُب . فَقِيلَ لَهُ : وَمَا غُلُول الْكُتُب ؟ قَالَ : حَبْسهَا عَنْ أَصْحَابهَا . وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ " أَنْ يَكْتُم شَيْئًا مِنْ الْوَحْي رَغْبَة أَوْ رَهْبَة أَوْ مُدَاهَنَة . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا فِي الْقُرْآن مِنْ عَيْب دِينهمْ وَسَبّ آلِهَتهمْ , فَسَأَلُوهُ أَنْ يَطْوِي ذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن بَشَّار . وَمَا بَدَأْنَا بِهِ قَوْل الْجُمْهُور .
وَفِي هَذِهِ الْآيَة نَصّ عَلَى أَنَّ الثَّوَاب وَالْعِقَاب مُتَعَلِّق بِكَسْبِ الْأَعْمَال , وَهُوَ رَدّ عَلَى الْجَبْرِيَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاء بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ↓
يُرِيد بِتَرْكِ الْغُلُول وَالصَّبْر عَلَى الْجِهَاد .
يُرِيد بِكُفْرٍ أَوْ غُلُول أَوْ تَوَلٍّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَرْب .
أَيْ مَثْوَاهُ النَّار , أَيْ إِنْ لَمْ يَتُبْ أَوْ يَعْفُو اللَّه عَنْهُ .
أَيْ الْمَرْجِع . وَقُرِئَ رِضْوَان بِكَسْرِ الرَّاء وَضَمّهَا كَالْعُدْوَانِ وَالْعِدْوَان .
يُرِيد بِكُفْرٍ أَوْ غُلُول أَوْ تَوَلٍّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَرْب .
أَيْ مَثْوَاهُ النَّار , أَيْ إِنْ لَمْ يَتُبْ أَوْ يَعْفُو اللَّه عَنْهُ .
أَيْ الْمَرْجِع . وَقُرِئَ رِضْوَان بِكَسْرِ الرَّاء وَضَمّهَا كَالْعُدْوَانِ وَالْعِدْوَان .
أَيْ لَيْسَ مَنْ اِتَّبَعَ رِضْوَان اللَّه كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْهُ . قِيلَ : " هُمْ دَرَجَات " مُتَفَاوِتَة , أَيْ هُمْ مُخْتَلِفُو الْمَنَازِل عِنْد اللَّه ; فَلِمَنْ اِتَّبَعَ رِضْوَانه الْكَرَامَة وَالثَّوَاب الْعَظِيم , وَلِمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْهُ الْمَهَانَة وَالْعَذَاب الْأَلِيم . وَمَعْنَى " هُمْ دَرَجَات " - أَيْ ذَوُو دَرَجَات . أَوْ عَلَى دَرَجَات , أَوْ فِي دَرَجَات , أَوْ لَهُمْ دَرَجَات . وَأَهْل النَّار أَيْضًا ذَوُو دَرَجَات ; كَمَا قَالَ : ( وَجَدْته فِي غَمَرَات مِنْ النَّار فَأَخْرَجْته إِلَى ضَحْضَاح ) . فَالْمُؤْمِن وَالْكَافِر لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّرَجَة ; ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ يَخْتَلِفُونَ أَيْضًا , فَبَعْضهمْ أَرْفَع دَرَجَة مِنْ بَعْض , وَكَذَلِكَ الْكُفَّار . وَالدَّرَجَة الرُّتْبَة , وَمِنْ الدَّرَج ; لِأَنَّهُ يُطْوَى رُتْبَة بَعْد رُتْبَة . وَالْأَشْهَر فِي مَنَازِل جَهَنَّم دَرَكَات ; كَمَا قَالَ : " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ النَّار " [ النِّسَاء : 145 ] فَلِمَنْ لَمْ يَغُلّ دَرَجَات فِي الْجَنَّة , وَلِمَنْ غَلَّ دَرَكَات فِي النَّار . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : جَهَنَّم أَدْرَاك , أَيْ مَنَازِل ; يُقَال لِكُلِّ مَنْزِل مِنْهَا : دَرَك وَدَرْك . وَالدَّرْك إِلَى أَسْفَل , وَالدَّرَج إِلَى أَعْلَى .
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ↓
بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى عَظِيم مِنَّته عَلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَعْنَى فِي الْمِنَّة فِيهِ أَقْوَال : مِنْهَا أَنْ يَكُون مَعْنَى " مِنْ أَنْفُسكُمْ " أَيْ بَشَر مِثْلهمْ . فَلَمَّا أَظْهَر الْبَرَاهِين وَهُوَ بَشَر مِثْلهمْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْد اللَّه . وَقِيلَ : " مِنْ أَنْفُسهمْ " مِنْهُمْ . فَشَرُفُوا بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَانَتْ تِلْكَ الْمِنَّة . وَقِيلَ : " مِنْ أَنْفُسهمْ " لِيَعْرِفُوا حَاله وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ طَرِيقَته . وَإِذَا كَانَ مَحَلّه فِيهِمْ هَذَا كَانُوا أَحَقّ بِأَنْ يُقَاتِلُوا عَنْهُ وَلَا يَنْهَزِمُوا دُونه . وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذّ " مِنْ أَنْفَسِهِمْ " ( بِفَتْحِ الْفَاء ) يَعْنِي مِنْ أَشْرَفهمْ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِم , وَبَنُو هَاشِم أَفْضَل مِنْ قُرَيْش , وَقُرَيْش أَفْضَل مِنْ الْعَرَب , وَالْعَرَب أَفْضَل مِنْ غَيْرهمْ . ثُمَّ قِيلَ : لَفْظ الْمُؤْمِنِينَ عَامّ وَمَعْنَاهُ خَاصّ فِي الْعَرَب ; لِأَنَّهُ لَيْسَ حَيّ مِنْ أَحْيَاء الْعَرَب إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَهُمْ فِيهِ نَسَب ; إِلَّا بَنِي تَغْلِب فَإِنَّهُمْ كَانُوا نَصَارَى فَطَهَّرَهُ اللَّه مِنْ دَنَس النَّصْرَانِيَّة . وَبَيَان هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ " [ الْجُمْعَة : 2 ] . وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْبَصْرِيّ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن سَعِيد الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْمَرْوَزِيّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن مَعِين حَدَّثَنَا هِشَام بْن يُوسُف عَنْ عَبْد اللَّه بْن سُلَيْمَان النَّوْفَلِيّ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : " لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ " قَالَتْ : هَذِهِ لِلْعَرَبِ خَاصَّة . وَقَالَ آخَرُونَ : أَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ كُلّهمْ . وَمَعْنَى " مِنْ أَنْفُسهمْ " أَنَّهُ وَاحِد مِنْهُمْ وَبَشَر وَمِثْلهمْ , وَإِنَّمَا اِمْتَازَ عَنْهُمْ بِالْوَحْيِ ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْله " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسكُمْ " [ التَّوْبَة : 128 ] وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ , فَالْمِنَّة عَلَيْهِمْ أَعْظَم .
" يَتْلُو " فِي مَوْضِع نَصْب نَعْت لِرَسُولٍ , وَمَعْنَاهُ يَقْرَأ . وَالتِّلَاوَة الْقِرَاءَة .
" الْكِتَاب " الْقُرْآن و " الْحِكْمَة " الْمَعْرِفَة بِالدِّينِ , وَالْفِقْه فِي التَّأْوِيل , وَالْفَهْم الَّذِي هُوَ سَجِيَّة وَنُور مِنْ اللَّه تَعَالَى ; قَالَ مَالِك , وَرَوَاهُ عَنْهُ اِبْن وَهْب , وَقَالَ اِبْن زَيْد . وَقَالَ قَتَادَة : " الْحِكْمَة " السُّنَّة وَبَيَان الشَّرَائِع . وَقِيلَ : الْحُكْم وَالْقَضَاء خَاصَّة ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَنَسَبَ التَّعْلِيم إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ يُعْطِي الْأُمُور الَّتِي يَنْظُر فِيهَا , وَيَعْلَم طَرِيق النَّظَر بِمَا يُلْقِيه اللَّه إِلَيْهِ مِنْ وَحْيه .
أَيْ وَلَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْل , أَيْ مِنْ قَبْل مُحَمَّد , وَقِيلَ : " إِنْ " بِمَعْنَى مَا , وَاللَّام فِي الْخَبَر بِمَعْنَى إِلَّا . أَيْ وَمَا كَانُوا مِنْ قَبْل إِلَّا فِي ضَلَال مُبِين . وَمِثْله " وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْله لِمَنْ الضَّالِّينَ " [ الْبَقَرَة : 198 ] أَيْ وَمَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْله إِلَّا مِنْ الضَّالِّينَ . وَهَذَا مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة .
" يَتْلُو " فِي مَوْضِع نَصْب نَعْت لِرَسُولٍ , وَمَعْنَاهُ يَقْرَأ . وَالتِّلَاوَة الْقِرَاءَة .
" الْكِتَاب " الْقُرْآن و " الْحِكْمَة " الْمَعْرِفَة بِالدِّينِ , وَالْفِقْه فِي التَّأْوِيل , وَالْفَهْم الَّذِي هُوَ سَجِيَّة وَنُور مِنْ اللَّه تَعَالَى ; قَالَ مَالِك , وَرَوَاهُ عَنْهُ اِبْن وَهْب , وَقَالَ اِبْن زَيْد . وَقَالَ قَتَادَة : " الْحِكْمَة " السُّنَّة وَبَيَان الشَّرَائِع . وَقِيلَ : الْحُكْم وَالْقَضَاء خَاصَّة ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَنَسَبَ التَّعْلِيم إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ يُعْطِي الْأُمُور الَّتِي يَنْظُر فِيهَا , وَيَعْلَم طَرِيق النَّظَر بِمَا يُلْقِيه اللَّه إِلَيْهِ مِنْ وَحْيه .
أَيْ وَلَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْل , أَيْ مِنْ قَبْل مُحَمَّد , وَقِيلَ : " إِنْ " بِمَعْنَى مَا , وَاللَّام فِي الْخَبَر بِمَعْنَى إِلَّا . أَيْ وَمَا كَانُوا مِنْ قَبْل إِلَّا فِي ضَلَال مُبِين . وَمِثْله " وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْله لِمَنْ الضَّالِّينَ " [ الْبَقَرَة : 198 ] أَيْ وَمَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْله إِلَّا مِنْ الضَّالِّينَ . وَهَذَا مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة .
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ↓
" الْأَلِف لِلِاسْتِفْهَامِ , وَالْوَاو لِلْعَطْفِ . " مُصِيبَة " أَيْ غَلَبَة .
يَوْم بَدْر بِأَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرْتُمْ سَبْعِينَ . وَالْأَسِير فِي حُكْم الْمَقْتُول ; لِأَنَّ الْآسِر يَقْتُل أَسِيرهُ إِنْ أَرَادَ . أَيْ فَهَزَمْتُمُوهُمْ يَوْم بَدْر وَيَوْم أُحُد أَيْضًا فِي الِابْتِدَاء , وَقَتَلْتُمْ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ , قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ فِي يَوْمَيْنِ , وَنَالُوا مِنْكُمْ فِي يَوْم أُحُد . " قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا " أَيْ مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا الِانْهِزَام وَالْقَتْل , وَنَحْنُ نُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه , وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ , وَفِينَا النَّبِيّ وَالْوَحْي , وَهُمْ مُشْرِكُونَ .
يَعْنِي مُخَالَفَة الرُّمَاة . وَمَا مِنْ قَوْم أَطَاعُوا نَبِيّهمْ فِي حَرْب إِلَّا نُصِرُوا ; لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَاعُوا فَهُمْ حِزْب اللَّه , وَحِزْب اللَّه هُمْ الْغَالِبُونَ . وَقَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس : يَعْنِي سُؤَالهمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُج بَعْد مَا أَرَادَ الْإِقَامَة بِالْمَدِينَةِ . وَتَأَوَّلَهَا فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا دِرْعًا حَصِينَة . عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُوَ اِخْتِيَارهمْ الْفِدَاء يَوْم بَدْر عَلَى الْقَتْل . وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ : إِنْ فَادَيْتُمْ الْأُسَارَى قُتِلَ مِنْكُمْ عَلَى عِدَّتهمْ . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُسَارَى يَوْم بَدْر : ( إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِالْفِدَاءِ وَاسْتُشْهِدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ ) . فَكَانَ آخِر السَّبْعِينَ ثَابِت بْن قَيْس قُتِلَ يَوْم الْيَمَامَة . فَمَعْنَى " مِنْ عِنْد أَنْفُسكُمْ " عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِذُنُوبِكُمْ . وَعَلَى الْقَوْل الْأَخِير بِاخْتِيَارِكُمْ .
يَوْم بَدْر بِأَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرْتُمْ سَبْعِينَ . وَالْأَسِير فِي حُكْم الْمَقْتُول ; لِأَنَّ الْآسِر يَقْتُل أَسِيرهُ إِنْ أَرَادَ . أَيْ فَهَزَمْتُمُوهُمْ يَوْم بَدْر وَيَوْم أُحُد أَيْضًا فِي الِابْتِدَاء , وَقَتَلْتُمْ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ , قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ فِي يَوْمَيْنِ , وَنَالُوا مِنْكُمْ فِي يَوْم أُحُد . " قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا " أَيْ مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا الِانْهِزَام وَالْقَتْل , وَنَحْنُ نُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه , وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ , وَفِينَا النَّبِيّ وَالْوَحْي , وَهُمْ مُشْرِكُونَ .
يَعْنِي مُخَالَفَة الرُّمَاة . وَمَا مِنْ قَوْم أَطَاعُوا نَبِيّهمْ فِي حَرْب إِلَّا نُصِرُوا ; لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَاعُوا فَهُمْ حِزْب اللَّه , وَحِزْب اللَّه هُمْ الْغَالِبُونَ . وَقَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس : يَعْنِي سُؤَالهمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُج بَعْد مَا أَرَادَ الْإِقَامَة بِالْمَدِينَةِ . وَتَأَوَّلَهَا فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا دِرْعًا حَصِينَة . عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُوَ اِخْتِيَارهمْ الْفِدَاء يَوْم بَدْر عَلَى الْقَتْل . وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ : إِنْ فَادَيْتُمْ الْأُسَارَى قُتِلَ مِنْكُمْ عَلَى عِدَّتهمْ . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُسَارَى يَوْم بَدْر : ( إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِالْفِدَاءِ وَاسْتُشْهِدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ ) . فَكَانَ آخِر السَّبْعِينَ ثَابِت بْن قَيْس قُتِلَ يَوْم الْيَمَامَة . فَمَعْنَى " مِنْ عِنْد أَنْفُسكُمْ " عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِذُنُوبِكُمْ . وَعَلَى الْقَوْل الْأَخِير بِاخْتِيَارِكُمْ .
أَيْ بِعِلْمِهِ . وَقِيلَ : بِقَضَائِهِ وَقَدَره . قَالَ الْقَفَّال : أَيْ فَبِتَخْلِيَتِهِ بَيْنكُمْ وَبَيْنهمْ , لَا أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ . وَهَذَا تَأْوِيل الْمُعْتَزِلَة . وَدَخَلَتْ الْفَاء فِي " فَبِإِذْنِ اللَّه " لِأَنَّ " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي . أَيْ وَاَلَّذِي أَصَابَكُمْ يَوْم اِلْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّه ; فَأَشْبَهَ الْكَلَام مَعْنَى الشَّرْط , كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ : الَّذِي قَامَ فَلَهُ دِرْهَم .
أَيْ لِيَمِيزَ . وَقِيلَ لِيَرَى . وَقِيلَ : لِيَظْهَر إِيمَان الْمُؤْمِنِينَ بِثُبُوتِهِمْ فِي الْقِتَال
يَعْنِي يَوْم أُحُد مِنْ الْقَتْل وَالْجَرْح وَالْهَزِيمَة .
أَيْ لِيَمِيزَ . وَقِيلَ لِيَرَى . وَقِيلَ : لِيَظْهَر إِيمَان الْمُؤْمِنِينَ بِثُبُوتِهِمْ فِي الْقِتَال
يَعْنِي يَوْم أُحُد مِنْ الْقَتْل وَالْجَرْح وَالْهَزِيمَة .
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ↓
أَيْ لِيُمَيِّز . وَقِيلَ لِيَرَى . وَلِيَظْهَر كُفْر الْمُنَافِقِينَ بِإِظْهَارِهِمْ الشَّمَاتَة فَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ .
هِيَ إِلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَأَصْحَابه الَّذِينَ اِنْصَرَفُوا مَعَهُ عَنْ نُصْرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانُوا ثَلَاثمِائَةِ . فَمَشَى فِي أَثَرهمْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن حَرَام الْأَنْصَارِيّ , أَبُو جَابِر بْن عَبْد اللَّه , فَقَالَ لَهُمْ : اِتَّقُوا اللَّه وَلَا تَتْرُكُوا نَبِيّكُمْ , وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَوْ اِدْفَعُوا , وَنَحْو هَذَا مِنْ الْقَوْل . فَقَالَ لَهُ اِبْن أُبَيّ : مَا أَرَى أَنْ يَكُون قِتَال , وَلَوْ عَلِمْنَا أَنْ يَكُون قِتَال لَكُنَّا مَعَكُمْ . فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ عَبْد اللَّه قَالَ : اِذْهَبُوا أَعْدَاء اللَّه فَسَيُغْنِي اللَّهُ رَسُولَهُ عَنْكُمْ . وَمَضَى مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُشْهِدَ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى .
اِخْتَلَفَ النَّاس فَقَالَ السُّدِّيّ وَابْن جُرَيْج وَغَيْرهمَا : كَثِّرُوا سَوَادنَا وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مَعَنَا ; فَيَكُون ذَلِكَ دَفْعًا وَقَمْعًا لِلْعَدُوِّ ; فَإِنَّ السَّوَاد إِذَا كَثُرَ حَصَلَ دَفْع الْعَدُوّ . وَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : رَأَيْت يَوْم الْقَادِسِيَّة عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم الْأَعْمَى وَعَلَيْهِ دِرْع يَجُرّ أَطْرَافهَا , وَبِيَدِهِ رَايَة سَوْدَاء ; فَقِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّه عُذْرك ؟ قَالَ : بَلَى ! وَلَكِنِّي أُكَثِّر سَوَاد الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِي . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : فَكَيْفَ بِسَوَادِي فِي سَبِيل اللَّه ! وَقَالَ أَبُو عَوْن الْأَنْصَارِيّ : مَعْنَى " أَوْ اِدْفَعُوا " رَابِطُوا . وَهَذَا قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَلَا مَحَالَة أَنَّ الْمُرَابِط مُدَافِع ; لِأَنَّهُ لَوْلَا مَكَان الْمُرَابِطِينَ فِي الثُّغُور لَجَاءَهَا الْعَدُوّ . وَذَهَبَ قَوْم مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْل عَبْد اللَّه بْن عَمْرو " أَوْ اِدْفَعُوا " إِنَّمَا هُوَ اِسْتِدْعَاء إِلَى الْقِتَال حَمِيَّة ; لِأَنَّهُ اِسْتَدْعَاهُمْ إِلَى الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّه , وَهِيَ أَنْ تَكُون كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا , فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْوَجْه الَّذِي يَحْشِمهُمْ وَيَبْعَث الْأَنَفَة . أَيْ أَوْ قَاتِلُوا دِفَاعًا عَنْ الْحَوْزَة . أَلَا تَرَى أَنَّ قُزْمَان قَالَ : وَاَللَّه مَا قَاتَلْت إِلَّا عَنْ أَحْسَاب قَوْمِي . وَأَلَا تَرَى أَنَّ بَعْض الْأَنْصَار قَالَ يَوْم أُحُد لَمَّا رَأَى قُرَيْشًا قَدْ أَرْسَلَتْ الظَّهْر فِي زُرُوع قَنَاة , أَتَرْعَى زُرُوع بَنِي قَيْلَة وَلَمَّا نُضَارِب ؟ وَالْمَعْنَى إِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه فَقَاتِلُوا دَفْعًا عَنْ أَنْفُسكُمْ وَحَرِيمكُمْ .
أَيْ بَيَّنُوا حَالهمْ , وَهَتَكُوا أَسْتَارهمْ , وَكَشَفُوا عَنْ نِفَاقهمْ لِمَنْ كَانَ يَظُنّ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ; فَصَارُوا أَقْرَب إِلَى الْكُفْر فِي ظَاهِر الْحَال , وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ عَلَى التَّحْقِيق .
أَيْ أَظْهَرُوا الْإِيمَان , وَأَضْمَرُوا الْكُفْر . وَذَكَرَ الْأَفْوَاه تَأْكِيد ; مِثْل قَوْله : " يَطِير بِجَنَاحَيْهِ " [ الْأَنْعَام : 38 ] .
هِيَ إِلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَأَصْحَابه الَّذِينَ اِنْصَرَفُوا مَعَهُ عَنْ نُصْرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانُوا ثَلَاثمِائَةِ . فَمَشَى فِي أَثَرهمْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن حَرَام الْأَنْصَارِيّ , أَبُو جَابِر بْن عَبْد اللَّه , فَقَالَ لَهُمْ : اِتَّقُوا اللَّه وَلَا تَتْرُكُوا نَبِيّكُمْ , وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَوْ اِدْفَعُوا , وَنَحْو هَذَا مِنْ الْقَوْل . فَقَالَ لَهُ اِبْن أُبَيّ : مَا أَرَى أَنْ يَكُون قِتَال , وَلَوْ عَلِمْنَا أَنْ يَكُون قِتَال لَكُنَّا مَعَكُمْ . فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ عَبْد اللَّه قَالَ : اِذْهَبُوا أَعْدَاء اللَّه فَسَيُغْنِي اللَّهُ رَسُولَهُ عَنْكُمْ . وَمَضَى مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُشْهِدَ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى .
اِخْتَلَفَ النَّاس فَقَالَ السُّدِّيّ وَابْن جُرَيْج وَغَيْرهمَا : كَثِّرُوا سَوَادنَا وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مَعَنَا ; فَيَكُون ذَلِكَ دَفْعًا وَقَمْعًا لِلْعَدُوِّ ; فَإِنَّ السَّوَاد إِذَا كَثُرَ حَصَلَ دَفْع الْعَدُوّ . وَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : رَأَيْت يَوْم الْقَادِسِيَّة عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم الْأَعْمَى وَعَلَيْهِ دِرْع يَجُرّ أَطْرَافهَا , وَبِيَدِهِ رَايَة سَوْدَاء ; فَقِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّه عُذْرك ؟ قَالَ : بَلَى ! وَلَكِنِّي أُكَثِّر سَوَاد الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِي . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : فَكَيْفَ بِسَوَادِي فِي سَبِيل اللَّه ! وَقَالَ أَبُو عَوْن الْأَنْصَارِيّ : مَعْنَى " أَوْ اِدْفَعُوا " رَابِطُوا . وَهَذَا قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَلَا مَحَالَة أَنَّ الْمُرَابِط مُدَافِع ; لِأَنَّهُ لَوْلَا مَكَان الْمُرَابِطِينَ فِي الثُّغُور لَجَاءَهَا الْعَدُوّ . وَذَهَبَ قَوْم مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْل عَبْد اللَّه بْن عَمْرو " أَوْ اِدْفَعُوا " إِنَّمَا هُوَ اِسْتِدْعَاء إِلَى الْقِتَال حَمِيَّة ; لِأَنَّهُ اِسْتَدْعَاهُمْ إِلَى الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّه , وَهِيَ أَنْ تَكُون كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا , فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْوَجْه الَّذِي يَحْشِمهُمْ وَيَبْعَث الْأَنَفَة . أَيْ أَوْ قَاتِلُوا دِفَاعًا عَنْ الْحَوْزَة . أَلَا تَرَى أَنَّ قُزْمَان قَالَ : وَاَللَّه مَا قَاتَلْت إِلَّا عَنْ أَحْسَاب قَوْمِي . وَأَلَا تَرَى أَنَّ بَعْض الْأَنْصَار قَالَ يَوْم أُحُد لَمَّا رَأَى قُرَيْشًا قَدْ أَرْسَلَتْ الظَّهْر فِي زُرُوع قَنَاة , أَتَرْعَى زُرُوع بَنِي قَيْلَة وَلَمَّا نُضَارِب ؟ وَالْمَعْنَى إِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه فَقَاتِلُوا دَفْعًا عَنْ أَنْفُسكُمْ وَحَرِيمكُمْ .
أَيْ بَيَّنُوا حَالهمْ , وَهَتَكُوا أَسْتَارهمْ , وَكَشَفُوا عَنْ نِفَاقهمْ لِمَنْ كَانَ يَظُنّ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ; فَصَارُوا أَقْرَب إِلَى الْكُفْر فِي ظَاهِر الْحَال , وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ عَلَى التَّحْقِيق .
أَيْ أَظْهَرُوا الْإِيمَان , وَأَضْمَرُوا الْكُفْر . وَذَكَرَ الْأَفْوَاه تَأْكِيد ; مِثْل قَوْله : " يَطِير بِجَنَاحَيْهِ " [ الْأَنْعَام : 38 ] .
الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ↓
مَعْنَاهُ لِأَجْلِ إِخْوَانهمْ , وَهُمْ الشُّهَدَاء الْمَقْتُولُونَ مِنْ الْخَزْرَج ; وَهُمْ إِخْوَة نَسَب وَمُجَاوَرَة , لَا إِخْوَة الدِّين . أَيْ قَالُوا لِهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاء : لَوْ قَعَدُوا , أَيْ بِالْمَدِينَةِ مَا قُتِلُوا . وَقِيلَ : قَالَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَأَصْحَابه لِإِخْوَانِهِمْ , أَيْ لِأَشْكَالِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ : لَوْ أَطَاعُونَا , هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا , لَمَا قُتِلُوا .
يُرِيد فِي أَلَّا يَخْرُجُوا إِلَى قُرَيْش . وَقَوْله : أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْل وَقَعَدُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ الْجِهَاد ; فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : " قُلْ فَادْرَءُوا " أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد : إِنْ صَدَقْتُمْ فَادْفَعُوا الْمَوْت عَنْ أَنْفُسكُمْ . وَالدَّرْء الدَّفْع . بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْحَذَر لَا يَنْفَع مِنْ الْقَدَر , وَأَنَّ الْمَقْتُول يُقْتَل بِأَجَلِهِ , وَمَا عَلِمَ اللَّه وَأَخْبَرَ بِهِ كَائِن لَا مَحَالَة . وَقِيلَ : مَاتَ يَوْم قِيلَ هَذَا , سَبْعُونَ مُنَافِقًا . وَقَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ : سَمِعْت بَعْض الْمُفَسِّرِينَ بِسَمَرْقَنْد يَقُول : لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَة
مَاتَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ نَفْسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ .
يُرِيد فِي أَلَّا يَخْرُجُوا إِلَى قُرَيْش . وَقَوْله : أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْل وَقَعَدُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ الْجِهَاد ; فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : " قُلْ فَادْرَءُوا " أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد : إِنْ صَدَقْتُمْ فَادْفَعُوا الْمَوْت عَنْ أَنْفُسكُمْ . وَالدَّرْء الدَّفْع . بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْحَذَر لَا يَنْفَع مِنْ الْقَدَر , وَأَنَّ الْمَقْتُول يُقْتَل بِأَجَلِهِ , وَمَا عَلِمَ اللَّه وَأَخْبَرَ بِهِ كَائِن لَا مَحَالَة . وَقِيلَ : مَاتَ يَوْم قِيلَ هَذَا , سَبْعُونَ مُنَافِقًا . وَقَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ : سَمِعْت بَعْض الْمُفَسِّرِينَ بِسَمَرْقَنْد يَقُول : لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَة
مَاتَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ نَفْسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ .
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ↓
لَمَّا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ مَا جَرَى يَوْم أُحُد كَانَ اِمْتِحَانًا يُمَيِّز الْمُنَافِق مِنْ الصَّادِق , بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَزِم فَقُتِلَ لَهُ الْكَرَامَة وَالْحَيَاة عِنْده . وَالْآيَة فِي شُهَدَاء أُحُد . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي شُهَدَاء بِئْر مَعُونَة . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ عَامَّة فِي جَمِيع الشُّهَدَاء . وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّه أَرْوَاحهمْ فِي جَوْف طَيْر خُضْر تَرِد أَنْهَار الْجَنَّة تَأْكُل مِنْ ثِمَارهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيل مِنْ ذَهَب مُعَلَّقَة فِي ظِلّ الْعَرْش فَلَمَّا وَجَدُوا طِيب مَأْكَلهمْ وَمَشْرَبهمْ وَمَقِيلهمْ قَالُوا مَنْ يُبَلِّغ إِخْوَاننَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاء فِي الْجَنَّة نُرْزَق لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد وَلَا يَنْكُلُوا عِنْد الْحَرْب فَقَالَ اللَّه سُبْحَانه أَنَا أُبَلِّغهُمْ عَنْكُمْ ) - قَالَ - فَأَنْزَلَ اللَّه ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَمْوَاتًا . .. ) إِلَى آخِر الْآيَات . وَرَوَى بَقِيّ بْن مَخْلَد عَنْ جَابِر قَالَ : لَقِيَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( يَا جَابِر مَا لِي أَرَاك مُنَكِّسًا مُهْتَمًّا ) ؟ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , اُسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَعَلَيْهِ دَيْن ; فَقَالَ : ( أَلَا أُبَشِّرك بِمَا لَقِيَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أَبَاك ) ؟ قُلْت : بَلَى يَا رَسُول اللَّه . قَالَ : ( إِنَّ اللَّه أَحْيَا أَبَاك وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا وَمَا كُلِّمَ أَحَد قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاء حِجَاب فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدِي تَمَنَّ أُعْطِك قَالَ يَا رَبّ فَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَل فِيك ثَانِيَة فَقَالَ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ قَالَ يَا رَبّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي ) فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه " الْآيَة . أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه , وَالتِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَرَوَى وَكِيع عَنْ سَالِم بْن الْأَفْطَس عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء " قَالَ : لَمَّا أُصِيبَ حَمْزَة بْن عَبْد الْمَطْلَب وَمُصْعَب بْن عُمَيْر وَرَأَوْا مَا رُزِقُوا مِنْ الْخَيْر قَالُوا : لَيْتَ إِخْوَاننَا يَعْلَمُونَ مَا أَصَابَنَا مِنْ الْخَيْر كَيْ يَزْدَادُوا فِي الْجِهَاد رَغْبَة ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى أَنَا أُبَلِّغهُمْ عَنْكُمْ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَمْوَاتًا - إِلَى قَوْله : لَا يُضِيع أَجْر الْمُؤْمِنِينَ " . وَقَالَ أَبُو الضُّحَى : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَهْل أُحُد خَاصَّة . وَالْحَدِيث الْأَوَّل يَقْتَضِي صِحَّة هَذَا الْقَوْل . وَقَالَ بَعْضهمْ : نَزَلَتْ فِي شُهَدَاء بَدْر وَكَانُوا أَرْبَعَة عَشَر رَجُلًا ; ثَمَانِيَة مِنْ الْأَنْصَار , وَسِتَّة مِنْ الْمُهَاجِرِينَ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي شُهَدَاء بِئْر مَعُونَة , وَقِصَّتهمْ مَشْهُورَة ذَكَرَهَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَغَيْره . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّ أَوْلِيَاء الشُّهَدَاء كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَة وَسُرُور تَحَسَّرُوا وَقَالُوا : نَحْنُ فِي النِّعْمَة وَالسُّرُور , وَآبَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَاننَا فِي الْقُبُور . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة تَنْفِيسًا عَنْهُمْ وَإِخْبَارًا عَنْ حَال قَتْلَاهُمْ . قُلْت : وَبِالْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون النُّزُول بِسَبَبِ الْمَجْمُوع فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى فِيهَا عَنْ الشُّهَدَاء أَنَّهُمْ أَحْيَاء فِي الْجَنَّة يُرْزَقُونَ , وَلَا مَحَالَة أَنَّهُمْ مَاتُوا وَأَنَّ أَجْسَادهمْ فِي التُّرَاب , وَأَرْوَاحهمْ حَيَّة كَأَرْوَاحِ سَائِر الْمُؤْمِنِينَ , وَفُضِّلُوا بِالرِّزْقِ فِي الْجَنَّة مِنْ وَقْت الْقَتْل حَتَّى كَأَنَّ حَيَاة الدُّنْيَا دَائِمَة لَهُمْ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْمَعْنَى . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْظَم هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ , وَأَنَّ حَيَاة الشُّهَدَاء مُحَقَّقَة . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُول : تُرَدّ إِلَيْهِمْ الْأَرْوَاح فِي قُبُورهمْ فَيُنَعَّمُونَ , كَمَا يَحْيَا الْكُفَّار فِي قُبُورهمْ فَيُعَذَّبُونَ . وَقَالَ مُجَاهِد : يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَر الْجَنَّة , أَيْ يَجِدُونَ رِيحهَا وَلَيْسُوا فِيهَا . وَصَارَ قَوْم إِلَى أَنَّ هَذَا مَجَاز , وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي حُكْم اللَّه مُسْتَحِقُّونَ لِلتَّنَعُّمِ فِي الْجَنَّة . وَهُوَ كَمَا يُقَال : مَا مَاتَ فُلَان , أَيْ ذِكْره حَيّ ; كَمَا قِيلَ : مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لَا فِنَاءَ لَهَا قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاس أَحْيَاء فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ الثَّنَاء الْجَمِيل . وَقَالَ آخَرُونَ : أَرْوَاحهمْ فِي أَجْوَاف طَيْر خُضْر وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ فِي الْجَنَّة وَيَأْكُلُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ الْأَقْوَال ; لِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ النَّقْل فَهُوَ الْوَاقِع . وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس نَصّ يَرْفَع الْخِلَاف . وَكَذَلِكَ حَدِيث اِبْن مَسْعُود خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُور الْآخِرَة " . وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ كَمْ الشُّهَدَاء , وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُو الْحَال . وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَ فِي الشُّهَدَاء أَنَّهُمْ أَحْيَاء بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ فَبَعِيد يَرُدّهُ الْقُرْآن وَالسُّنَّة ; فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : " بَلْ أَحْيَاء " دَلِيل عَلَى حَيَاتهمْ , وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ وَلَا يُرْزَق إِلَّا حَيّ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يُكْتَب لَهُمْ فِي كُلّ سَنَة ثَوَاب غَزْوَة ; وَيُشْرَكُونَ فِي ثَوَاب كُلّ جِهَاد كَانَ بَعْدهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; لِأَنَّهُمْ سَنُّوا أَمْر الْجِهَاد . نَظِيرَة قَوْله تَعَالَى : " مِنْ أَجْل ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا " [ الْمَائِدَة : 32 ] . عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : لِأَنَّ أَرْوَاحهمْ تَرْكَع وَتَسْجُد تَحْت الْعَرْش إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , كَأَرْوَاحِ الْأَحْيَاء الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَاتُوا عَلَى وُضُوء . وَقِيلَ : لِأَنَّ الشَّهِيد لَا يَبْلَى فِي الْقَبْر وَلَا تَأْكُلهُ الْأَرْض . وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي " التَّذْكِرَة " وَأَنَّ الْأَرْض لَا تَأْكُل الْأَنْبِيَاء وَالشُّهَدَاء وَالْعُلَمَاء وَالْمُؤَذِّنِينَ الْمُحْتَسِبِينَ وَحَمَلَة الْقُرْآن .
إِذَا كَانَ الشَّهِيد حَيًّا حُكْمًا فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , كَالْحَيِّ حِسًّا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي غُسْل الشُّهَدَاء وَالصَّلَاة عَلَيْهِمْ ; فَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ إِلَى غُسْل جَمِيع الشُّهَدَاء وَالصَّلَاة عَلَيْهِمْ ; إِلَّا قَتِيل الْمُعْتَرَك فِي قِتَال الْعَدُوّ خَاصَّة ; لِحَدِيثِ جَابِر قَالَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِدْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ ) يَعْنِي يَوْم أُحُد وَلَمْ يُغَسِّلهُمْ , رَوَاهُ الْبُخَارِيّ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُد أَنْ يُنْزَع عَنْهُمْ الْحَدِيد وَالْجُلُود وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابهمْ . وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيّ ودَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار وَأَهْل الْحَدِيث وَابْن عُلَيَّة . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن : يُغَسَّلُونَ . قَالَ أَحَدهمَا : إِنَّمَا لَمْ تُغَسَّل شُهَدَاء أُحُد لِكَثْرَتِهِمْ وَالشُّغْل عَنْ ذَلِكَ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ سَعِيد وَالْحَسَن هَذَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار إِلَّا عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن الْعَنْبَرِيّ , وَلَيْسَ مَا ذَكَرُوا مِنْ الشُّغْل عَنْ غُسْل شُهَدَاء أُحُد عِلَّة ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ كَانَ لَهُ وَلِيّ يَشْتَغِل بِهِ وَيَقُوم بِأَمْرِهِ . وَالْعِلَّة فِي ذَلِكَ - وَاَللَّه أَعْلَم - مَا جَاءَ فِي الْحَدِيث فِي دِمَائِهِمْ ( أَنَّهَا تَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة كَرِيحِ الْمِسْك ) فَبَانَ أَنَّ الْعِلَّة لَيْسَتْ الشُّغْل كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ , وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة مَدْخَل فِي الْقِيَاس وَالنَّظَر , وَإِنَّمَا هِيَ مَسْأَلَة اِتِّبَاع لِلْأَثَرِ الَّذِي نَقَلَهُ الْكَافَّة فِي قَتْلَى أُحُد لَمْ يُغَسَّلُوا . وَقَدْ اِحْتَجَّ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ ذَهَبَ مَذْهَب الْحَسَن بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي شُهَدَاء أَحَد . ( أَنَا شَهِيد عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْم الْقِيَامَة ) . قَالَ : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى خُصُوصهمْ وَأَنَّهُ لَا يَشْرَكهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرهمْ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا يُشْبِه الشُّذُوذ , وَالْقَوْل بِتَرْكِ غُسْلهمْ أَوْلَى ; لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُد وَغَيْرهمْ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِر قَالَ : رُمِيَ رَجُل بِسَهْمٍ فِي صَدْره أَوْ فِي حَلْقه فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابه كَمَا هُوَ . قَالَ : وَنَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا الصَّلَاة عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ أَيْضًا ; فَذَهَبَ مَالِك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ; لِحَدِيثِ جَابِر قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَع بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُد فِي ثَوْب وَاحِد ثُمَّ يَقُول : ( أَيّهمَا أَكْثَر أَخْذًا لِلْقُرْآنِ ) ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدهمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْد وَقَالَ : ( أَنَا شَهِيد عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْم الْقِيَامَة ) وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ فُقَهَاء الْكُوفَة وَالْبَصْرَة وَالشَّام : يُصَلَّى عَلَيْهِمْ . وَرَوَوْا آثَارًا كَبِيرَة أَكْثَرهَا مَرَاسِيل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى حَمْزَة وَعَلَى سَائِر شُهَدَاء أُحُد .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الشَّهِيد إِذَا حُمِلَ حَيًّا وَلَمْ يَمُتْ فِي الْمُعْتَرَك وَعَاشَ وَأَكَلَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ ; كَمَا قَدْ صُنِعَ بِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا كَقَتِيلِ الْخَوَارِج وَقُطَّاع الطَّرِيق وَشَبَه ذَلِكَ ; فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ : كُلّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا لَمْ يُغَسَّل , وَلَكِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى كُلّ شَهِيد ; وَهُوَ قَوْل سَائِر أَهْل الْعِرَاق . وَرَوَوْا مِنْ طُرُق كَثِيرَة صِحَاح عَنْ زَيْد بْن صُوحَان , وَكَانَ قُتِلَ يَوْم الْجَمَل : لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا . وَثَبَتَ عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر أَنَّهُ قَالَ مِثْل قَوْل زَيْد بْن صُوحَان . وَقُتِلَ عَمَّار بْن يَاسِر بِصِفِّينَ وَلَمْ يُغَسِّلهُ عَلِيّ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا - يُغَسَّل كَجَمِيعِ الْمَوْتَى إِلَّا مَنْ قَتَلَهُ أَهْل الْحَرْب ; وَهَذَا قَوْل مَالِك . قَالَ مَالِك : لَا يُغَسَّل مَنْ قَتَلَهُ الْكُفَّار وَمَاتَ فِي الْمُعْتَرَك . وَكَانَ مَقْتُول غَيْر قَتِيل الْمُعْتَرَك - قَتِيل الْكُفَّار - فَإِنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . وَهَذَا قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَالْقَوْل الْآخَر لِلشَّافِعِيِّ - لَا يُغَسَّل قَتِيل الْبُغَاة . وَقَوْل مَالِك أَصَحّ ; فَإِنْ غُسْل الْمَوْتَى قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَنَقْل الْكَافَّة . فَوَاجِب غُسْل كُلّ مَيِّت إِلَّا مَنْ أَخْرَجَهُ إِجْمَاع أَوْ سُنَّة ثَابِتَة . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
الْعَدُوّ إِذَا صَبَّحَ قَوْمًا فِي مَنْزِلهمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ فَهَلْ يَكُون حُكْمه حُكْم قَتِيل الْمُعْتَرَك , أَوْ حُكْم سَائِر الْمَوْتَى ; وَهَذِهِ الْمَسْأَلَة نَزَلَتْ عِنْدنَا بِقُرْطُبَة أَعَادَهَا اللَّه : أَغَارَ الْعَدُوّ - قَصَمَهُ اللَّه - صَبِيحَة الثَّالِث مِنْ رَمَضَان الْمُعَظَّم سَنَة سَبْع وَعِشْرِينَ وَسِتّمِائَةِ وَالنَّاس فِي أَجْرَانهمْ عَلَى غَفْلَة , فَقَتَلَ وَأَسَرَ , وَكَانَ مِنْ جُمْلَة مَنْ قُتِلَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّه ; فَسَأَلْت شَيْخنَا الْمُقْرِئ الْأُسْتَاذ أَبَا جَعْفَر أَحْمَد الْمَعْرُوف بِأَبِي حِجَّة فَقَالَ ; غَسِّلْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ , فَإِنَّ أَبَاك لَمْ يُقْتَل فِي الْمُعْتَرَك بَيْنَ الصَّفَّيْنِ . ثُمَّ سَأَلْت شَيْخنَا رَبِيع بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن رَبِيع بْن أُبَيّ فَقَالَ : إِنَّ حُكْمه حُكْم الْقَتْلَى فِي الْمُعْتَرَك . ثُمَّ سَأَلْت قَاضِيَ الْجَمَاعَة أَبَا الْحَسَن عَلِيّ بْن قطرال وَحَوْلَهُ جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء فَقَالُوا : غَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ ; فَفَعَلْت . ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ وَقَفْت عَلَى الْمَسْأَلَة فِي " التَّبْصِرَة " لِأَبِي الْحَسَن اللَّخْمِيّ وَغَيْرهَا . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل ذَلِكَ مَا غَسَّلْته , وَكُنْت دَفَنْته بِدَمِهِ فِي ثِيَابه .
هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى عَظِيم ثَوَاب الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه وَالشَّهَادَة فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ يُكَفِّر الذُّنُوب ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه يُكَفِّر كُلّ شَيْء إِلَّا الدَّيْن كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام آنِفًا ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا ذِكْر الدَّيْن تَنْبِيه عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْحُقُوق الْمُتَعَلِّقَة بِالذِّمَمِ , كَالْغَصْبِ وَأَخْذ الْمَال بِالْبَاطِلِ وَقَتْل الْعَمْد وَجِرَاحه وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّبِعَات , فَإِنَّ كُلّ هَذَا أَوْلَى أَلَّا يُغْفَر بِالْجِهَادِ مِنْ الدَّيْن فَإِنَّهُ أَشَدّ , وَالْقِصَاص فِي هَذَا كُلّه بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات حَسْبَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّة الثَّابِتَة . رَوَى عَبْد اللَّه بْن أُنَيْس قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( يَحْشُرُ اللَّه الْعِبَاد - أَوْ قَالَ النَّاس , شَكَّ هَمَّام , وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّام - عُرَاة غُرْلًا بُهْمًا . قُلْنَا : مَا بُهْمٌ ؟ قَالَ : لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْء فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعهُ مَنْ قَرُبَ وَمَنْ بَعُدَ أَنَا الْمَلِك أَنَا الدَّيَّان لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْل الْجَنَّة أَنْ يَدْخُل الْجَنَّة وَأَحَد مِنْ أَهْل النَّار يَطْلُبهُ بِمَظْلِمَةٍ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْل النَّار أَنْ يَدْخُل النَّار وَأَحَد مِنْ أَهْل الْجَنَّة يَطْلُبهُ بِمَظْلِمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَة . قَالَ قُلْنَا : كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّه حُفَاة عُرَاة غُرْلًا . قَالَ : بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات ) . أَخْرَجَهُ الْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِس ) ؟ . قَالُوا : الْمُفْلِس فِينَا مَنْ لَا دِرْهَم لَهُ وَلَا مَتَاع . فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِس مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاةٍ وَصِيَام وَزَكَاة وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَال هَذَا وَسَفَكَ دَم هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاته وَهَذَا مِنْ حَسَنَاته فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاته قَبْل أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيل اللَّه ثُمَّ أُحْيِي ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِي ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْن مَا دَخَلَ الْجَنَّة حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ ) . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَفْس الْمُؤْمِن مُعَلَّقَة مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْن ) . وَقَالَ أَحْمَد بْن زُهَيْر : سُئِلَ يَحْيَى بْن مَعِين عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : هُوَ صَحِيح . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَعْض الشُّهَدَاء لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة مِنْ حِين الْقَتْل , وَلَا تَكُون أَرْوَاحهمْ فِي جَوْف طَيْر كَمَا ذَكَرْتُمْ , وَلَا يَكُونُونَ فِي قُبُورهمْ , فَأَيْنَ يَكُونُونَ ؟ قُلْنَا : قَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَرْوَاح الشُّهَدَاء عَلَى نَهَر بِبَابِ الْجَنَّة يُقَال لَهُ بَارِق يَخْرُج عَلَيْهِمْ رِزْقهمْ مِنْ الْجَنَّة بُكْرَة وَعَشِيًّا ) فَلَعَلَّهُمْ هَؤُلَاءِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة : وَهَؤُلَاءِ طَبَقَات وَأَحْوَال مُخْتَلِفَة يَجْمَعهَا أَنَّهُمْ " يُرْزَقُونَ " . وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن يَزِيد بْن مَاجَهْ الْقَزْوِينِيّ فِي سُنَنه عَنْ سُلَيْمِ بْن عَامِر قَالَ : سَمِعْت أَبَا أُمَامَة يَقُول سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( شَهِيد الْبَحْر مِثْل شَهِيدِي الْبَرّ وَالْمَائِد فِي الْبَحْر كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمه فِي الْبَرّ وَمَا بَيْن الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَة اللَّه وَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ مَلَك الْمَوْت بِقَبْضِ الْأَرْوَاح إِلَّا شُهَدَاء الْبَحْر فَإِنَّهُ سُبْحَانه يَتَوَلَّى قَبْض أَرْوَاحهمْ وَيَغْفِر لِشَهِيدِ الْبَرّ الذُّنُوب كُلّهَا إِلَّا الدَّيْنَ وَيَغْفِر لِشَهِيدِ الْبَحْر الذُّنُوب كُلّهَا وَالدَّيْن ) .
الدَّيْن الَّذِي يُحْبَس بِهِ صَاحِبه عَنْ الْجَنَّة - وَاَللَّه أَعْلَم - هُوَ الَّذِي قَدْ تَرَكَ لَهُ وَفَاء وَلَمْ يُوصِ بِهِ . أَوْ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاء فَلَمْ يُؤَدِّهِ , أَوْ اِدَّانَهُ فِي سَرَف أَوْ فِي سَفَه وَمَاتَ وَلَمْ يُوَفِّهِ . وَأَمَّا مَنْ اِدَّانَ فِي حَقّ وَاجِب لِفَاقَةٍ وَعُسْر وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُك وَفَاء فَإِنَّ اللَّه لَا يَحْبِسهُ عَنْ الْجَنَّة إِنْ شَاءَ اللَّه ; لِأَنَّ عَلَى السُّلْطَان فَرْضًا أَنْ يُؤَدِّي عَنْهُ دَيْنه , إِمَّا مِنْ جُمْلَة الصَّدَقَات , أَوْ مِنْ سَهْم الْغَارِمِينَ , أَوْ مِنْ الْفَيْء الرَّاجِع عَلَى الْمُسْلِمِينَ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَعَلَى اللَّه وَرَسُوله وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ ) . وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَاب بَيَانًا فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَالْحَمْد لِلَّهِ .
فِيهِ حَذْف مُضَاف تَقْدِيره عِنْد كَرَامَة رَبّهمْ . و " عِنْد " هُنَا تَقْتَضِي غَايَة الْقُرْب , فَهِيَ كَ ( لَدَى ) وَلِذَلِكَ لَمْ تُصَغَّر فَيُقَال ! عَنِيد ; قَالَ سِيبَوَيْهِ . فَهَذِهِ عِنْدِيَّة الْكَرَامَة لَا عِنْدِيَّة الْمَسَافَة وَالْقُرْب .
هُوَ الرِّزْق الْمَعْرُوف فِي الْعَادَات . وَمَنْ قَالَ : هِيَ حَيَاة الذِّكْر قَالَ : يُرْزَقُونَ الثَّنَاء الْجَمِيل . وَالْأَوَّل الْحَقِيقَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْأَرْوَاح تُدْرِك فِي تِلْكَ الْحَال الَّتِي يَسْرَحُونَ فِيهَا مِنْ رَوَائِح الْجَنَّة وَطِيبهَا وَنَعِيمهَا وَسُرُورهَا مَا يَلِيق بِالْأَرْوَاحِ ; مِمَّا تُرْتَزَق وَتَنْتَعِش بِهِ . وَأَمَّا اللَّذَّات الْجُسْمَانِيَّة فَإِذَا أُعِيدَتْ تِلْكَ الْأَرْوَاح إِلَى أَجْسَادهَا اِسْتَوْفَتْ مِنْ النَّعِيم جَمِيع مَا أَعَدَّ اللَّه لَهَا . وَهَذَا قَوْل حَسَن , وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْع مِنْ الْمَجَاز , فَهُوَ الْمُوَافِق لِمَا اِخْتَرْنَاهُ . وَالْمُوَفِّقُ الْإِلَهُ .
إِذَا كَانَ الشَّهِيد حَيًّا حُكْمًا فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , كَالْحَيِّ حِسًّا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي غُسْل الشُّهَدَاء وَالصَّلَاة عَلَيْهِمْ ; فَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ إِلَى غُسْل جَمِيع الشُّهَدَاء وَالصَّلَاة عَلَيْهِمْ ; إِلَّا قَتِيل الْمُعْتَرَك فِي قِتَال الْعَدُوّ خَاصَّة ; لِحَدِيثِ جَابِر قَالَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِدْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ ) يَعْنِي يَوْم أُحُد وَلَمْ يُغَسِّلهُمْ , رَوَاهُ الْبُخَارِيّ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُد أَنْ يُنْزَع عَنْهُمْ الْحَدِيد وَالْجُلُود وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابهمْ . وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيّ ودَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار وَأَهْل الْحَدِيث وَابْن عُلَيَّة . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن : يُغَسَّلُونَ . قَالَ أَحَدهمَا : إِنَّمَا لَمْ تُغَسَّل شُهَدَاء أُحُد لِكَثْرَتِهِمْ وَالشُّغْل عَنْ ذَلِكَ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ سَعِيد وَالْحَسَن هَذَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار إِلَّا عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن الْعَنْبَرِيّ , وَلَيْسَ مَا ذَكَرُوا مِنْ الشُّغْل عَنْ غُسْل شُهَدَاء أُحُد عِلَّة ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ كَانَ لَهُ وَلِيّ يَشْتَغِل بِهِ وَيَقُوم بِأَمْرِهِ . وَالْعِلَّة فِي ذَلِكَ - وَاَللَّه أَعْلَم - مَا جَاءَ فِي الْحَدِيث فِي دِمَائِهِمْ ( أَنَّهَا تَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة كَرِيحِ الْمِسْك ) فَبَانَ أَنَّ الْعِلَّة لَيْسَتْ الشُّغْل كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ , وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة مَدْخَل فِي الْقِيَاس وَالنَّظَر , وَإِنَّمَا هِيَ مَسْأَلَة اِتِّبَاع لِلْأَثَرِ الَّذِي نَقَلَهُ الْكَافَّة فِي قَتْلَى أُحُد لَمْ يُغَسَّلُوا . وَقَدْ اِحْتَجَّ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ ذَهَبَ مَذْهَب الْحَسَن بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي شُهَدَاء أَحَد . ( أَنَا شَهِيد عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْم الْقِيَامَة ) . قَالَ : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى خُصُوصهمْ وَأَنَّهُ لَا يَشْرَكهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرهمْ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا يُشْبِه الشُّذُوذ , وَالْقَوْل بِتَرْكِ غُسْلهمْ أَوْلَى ; لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُد وَغَيْرهمْ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِر قَالَ : رُمِيَ رَجُل بِسَهْمٍ فِي صَدْره أَوْ فِي حَلْقه فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابه كَمَا هُوَ . قَالَ : وَنَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا الصَّلَاة عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ أَيْضًا ; فَذَهَبَ مَالِك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ; لِحَدِيثِ جَابِر قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَع بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُد فِي ثَوْب وَاحِد ثُمَّ يَقُول : ( أَيّهمَا أَكْثَر أَخْذًا لِلْقُرْآنِ ) ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدهمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْد وَقَالَ : ( أَنَا شَهِيد عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْم الْقِيَامَة ) وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ فُقَهَاء الْكُوفَة وَالْبَصْرَة وَالشَّام : يُصَلَّى عَلَيْهِمْ . وَرَوَوْا آثَارًا كَبِيرَة أَكْثَرهَا مَرَاسِيل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى حَمْزَة وَعَلَى سَائِر شُهَدَاء أُحُد .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الشَّهِيد إِذَا حُمِلَ حَيًّا وَلَمْ يَمُتْ فِي الْمُعْتَرَك وَعَاشَ وَأَكَلَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ ; كَمَا قَدْ صُنِعَ بِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا كَقَتِيلِ الْخَوَارِج وَقُطَّاع الطَّرِيق وَشَبَه ذَلِكَ ; فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ : كُلّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا لَمْ يُغَسَّل , وَلَكِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى كُلّ شَهِيد ; وَهُوَ قَوْل سَائِر أَهْل الْعِرَاق . وَرَوَوْا مِنْ طُرُق كَثِيرَة صِحَاح عَنْ زَيْد بْن صُوحَان , وَكَانَ قُتِلَ يَوْم الْجَمَل : لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا . وَثَبَتَ عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر أَنَّهُ قَالَ مِثْل قَوْل زَيْد بْن صُوحَان . وَقُتِلَ عَمَّار بْن يَاسِر بِصِفِّينَ وَلَمْ يُغَسِّلهُ عَلِيّ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا - يُغَسَّل كَجَمِيعِ الْمَوْتَى إِلَّا مَنْ قَتَلَهُ أَهْل الْحَرْب ; وَهَذَا قَوْل مَالِك . قَالَ مَالِك : لَا يُغَسَّل مَنْ قَتَلَهُ الْكُفَّار وَمَاتَ فِي الْمُعْتَرَك . وَكَانَ مَقْتُول غَيْر قَتِيل الْمُعْتَرَك - قَتِيل الْكُفَّار - فَإِنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . وَهَذَا قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَالْقَوْل الْآخَر لِلشَّافِعِيِّ - لَا يُغَسَّل قَتِيل الْبُغَاة . وَقَوْل مَالِك أَصَحّ ; فَإِنْ غُسْل الْمَوْتَى قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَنَقْل الْكَافَّة . فَوَاجِب غُسْل كُلّ مَيِّت إِلَّا مَنْ أَخْرَجَهُ إِجْمَاع أَوْ سُنَّة ثَابِتَة . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
الْعَدُوّ إِذَا صَبَّحَ قَوْمًا فِي مَنْزِلهمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ فَهَلْ يَكُون حُكْمه حُكْم قَتِيل الْمُعْتَرَك , أَوْ حُكْم سَائِر الْمَوْتَى ; وَهَذِهِ الْمَسْأَلَة نَزَلَتْ عِنْدنَا بِقُرْطُبَة أَعَادَهَا اللَّه : أَغَارَ الْعَدُوّ - قَصَمَهُ اللَّه - صَبِيحَة الثَّالِث مِنْ رَمَضَان الْمُعَظَّم سَنَة سَبْع وَعِشْرِينَ وَسِتّمِائَةِ وَالنَّاس فِي أَجْرَانهمْ عَلَى غَفْلَة , فَقَتَلَ وَأَسَرَ , وَكَانَ مِنْ جُمْلَة مَنْ قُتِلَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّه ; فَسَأَلْت شَيْخنَا الْمُقْرِئ الْأُسْتَاذ أَبَا جَعْفَر أَحْمَد الْمَعْرُوف بِأَبِي حِجَّة فَقَالَ ; غَسِّلْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ , فَإِنَّ أَبَاك لَمْ يُقْتَل فِي الْمُعْتَرَك بَيْنَ الصَّفَّيْنِ . ثُمَّ سَأَلْت شَيْخنَا رَبِيع بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن رَبِيع بْن أُبَيّ فَقَالَ : إِنَّ حُكْمه حُكْم الْقَتْلَى فِي الْمُعْتَرَك . ثُمَّ سَأَلْت قَاضِيَ الْجَمَاعَة أَبَا الْحَسَن عَلِيّ بْن قطرال وَحَوْلَهُ جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء فَقَالُوا : غَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ ; فَفَعَلْت . ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ وَقَفْت عَلَى الْمَسْأَلَة فِي " التَّبْصِرَة " لِأَبِي الْحَسَن اللَّخْمِيّ وَغَيْرهَا . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل ذَلِكَ مَا غَسَّلْته , وَكُنْت دَفَنْته بِدَمِهِ فِي ثِيَابه .
هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى عَظِيم ثَوَاب الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه وَالشَّهَادَة فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ يُكَفِّر الذُّنُوب ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه يُكَفِّر كُلّ شَيْء إِلَّا الدَّيْن كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام آنِفًا ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا ذِكْر الدَّيْن تَنْبِيه عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْحُقُوق الْمُتَعَلِّقَة بِالذِّمَمِ , كَالْغَصْبِ وَأَخْذ الْمَال بِالْبَاطِلِ وَقَتْل الْعَمْد وَجِرَاحه وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّبِعَات , فَإِنَّ كُلّ هَذَا أَوْلَى أَلَّا يُغْفَر بِالْجِهَادِ مِنْ الدَّيْن فَإِنَّهُ أَشَدّ , وَالْقِصَاص فِي هَذَا كُلّه بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات حَسْبَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّة الثَّابِتَة . رَوَى عَبْد اللَّه بْن أُنَيْس قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( يَحْشُرُ اللَّه الْعِبَاد - أَوْ قَالَ النَّاس , شَكَّ هَمَّام , وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّام - عُرَاة غُرْلًا بُهْمًا . قُلْنَا : مَا بُهْمٌ ؟ قَالَ : لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْء فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعهُ مَنْ قَرُبَ وَمَنْ بَعُدَ أَنَا الْمَلِك أَنَا الدَّيَّان لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْل الْجَنَّة أَنْ يَدْخُل الْجَنَّة وَأَحَد مِنْ أَهْل النَّار يَطْلُبهُ بِمَظْلِمَةٍ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْل النَّار أَنْ يَدْخُل النَّار وَأَحَد مِنْ أَهْل الْجَنَّة يَطْلُبهُ بِمَظْلِمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَة . قَالَ قُلْنَا : كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّه حُفَاة عُرَاة غُرْلًا . قَالَ : بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات ) . أَخْرَجَهُ الْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِس ) ؟ . قَالُوا : الْمُفْلِس فِينَا مَنْ لَا دِرْهَم لَهُ وَلَا مَتَاع . فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِس مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاةٍ وَصِيَام وَزَكَاة وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَال هَذَا وَسَفَكَ دَم هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاته وَهَذَا مِنْ حَسَنَاته فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاته قَبْل أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيل اللَّه ثُمَّ أُحْيِي ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِي ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْن مَا دَخَلَ الْجَنَّة حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ ) . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَفْس الْمُؤْمِن مُعَلَّقَة مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْن ) . وَقَالَ أَحْمَد بْن زُهَيْر : سُئِلَ يَحْيَى بْن مَعِين عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : هُوَ صَحِيح . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَعْض الشُّهَدَاء لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة مِنْ حِين الْقَتْل , وَلَا تَكُون أَرْوَاحهمْ فِي جَوْف طَيْر كَمَا ذَكَرْتُمْ , وَلَا يَكُونُونَ فِي قُبُورهمْ , فَأَيْنَ يَكُونُونَ ؟ قُلْنَا : قَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَرْوَاح الشُّهَدَاء عَلَى نَهَر بِبَابِ الْجَنَّة يُقَال لَهُ بَارِق يَخْرُج عَلَيْهِمْ رِزْقهمْ مِنْ الْجَنَّة بُكْرَة وَعَشِيًّا ) فَلَعَلَّهُمْ هَؤُلَاءِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة : وَهَؤُلَاءِ طَبَقَات وَأَحْوَال مُخْتَلِفَة يَجْمَعهَا أَنَّهُمْ " يُرْزَقُونَ " . وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن يَزِيد بْن مَاجَهْ الْقَزْوِينِيّ فِي سُنَنه عَنْ سُلَيْمِ بْن عَامِر قَالَ : سَمِعْت أَبَا أُمَامَة يَقُول سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( شَهِيد الْبَحْر مِثْل شَهِيدِي الْبَرّ وَالْمَائِد فِي الْبَحْر كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمه فِي الْبَرّ وَمَا بَيْن الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَة اللَّه وَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ مَلَك الْمَوْت بِقَبْضِ الْأَرْوَاح إِلَّا شُهَدَاء الْبَحْر فَإِنَّهُ سُبْحَانه يَتَوَلَّى قَبْض أَرْوَاحهمْ وَيَغْفِر لِشَهِيدِ الْبَرّ الذُّنُوب كُلّهَا إِلَّا الدَّيْنَ وَيَغْفِر لِشَهِيدِ الْبَحْر الذُّنُوب كُلّهَا وَالدَّيْن ) .
الدَّيْن الَّذِي يُحْبَس بِهِ صَاحِبه عَنْ الْجَنَّة - وَاَللَّه أَعْلَم - هُوَ الَّذِي قَدْ تَرَكَ لَهُ وَفَاء وَلَمْ يُوصِ بِهِ . أَوْ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاء فَلَمْ يُؤَدِّهِ , أَوْ اِدَّانَهُ فِي سَرَف أَوْ فِي سَفَه وَمَاتَ وَلَمْ يُوَفِّهِ . وَأَمَّا مَنْ اِدَّانَ فِي حَقّ وَاجِب لِفَاقَةٍ وَعُسْر وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُك وَفَاء فَإِنَّ اللَّه لَا يَحْبِسهُ عَنْ الْجَنَّة إِنْ شَاءَ اللَّه ; لِأَنَّ عَلَى السُّلْطَان فَرْضًا أَنْ يُؤَدِّي عَنْهُ دَيْنه , إِمَّا مِنْ جُمْلَة الصَّدَقَات , أَوْ مِنْ سَهْم الْغَارِمِينَ , أَوْ مِنْ الْفَيْء الرَّاجِع عَلَى الْمُسْلِمِينَ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَعَلَى اللَّه وَرَسُوله وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ ) . وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَاب بَيَانًا فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَالْحَمْد لِلَّهِ .
فِيهِ حَذْف مُضَاف تَقْدِيره عِنْد كَرَامَة رَبّهمْ . و " عِنْد " هُنَا تَقْتَضِي غَايَة الْقُرْب , فَهِيَ كَ ( لَدَى ) وَلِذَلِكَ لَمْ تُصَغَّر فَيُقَال ! عَنِيد ; قَالَ سِيبَوَيْهِ . فَهَذِهِ عِنْدِيَّة الْكَرَامَة لَا عِنْدِيَّة الْمَسَافَة وَالْقُرْب .
هُوَ الرِّزْق الْمَعْرُوف فِي الْعَادَات . وَمَنْ قَالَ : هِيَ حَيَاة الذِّكْر قَالَ : يُرْزَقُونَ الثَّنَاء الْجَمِيل . وَالْأَوَّل الْحَقِيقَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْأَرْوَاح تُدْرِك فِي تِلْكَ الْحَال الَّتِي يَسْرَحُونَ فِيهَا مِنْ رَوَائِح الْجَنَّة وَطِيبهَا وَنَعِيمهَا وَسُرُورهَا مَا يَلِيق بِالْأَرْوَاحِ ; مِمَّا تُرْتَزَق وَتَنْتَعِش بِهِ . وَأَمَّا اللَّذَّات الْجُسْمَانِيَّة فَإِذَا أُعِيدَتْ تِلْكَ الْأَرْوَاح إِلَى أَجْسَادهَا اِسْتَوْفَتْ مِنْ النَّعِيم جَمِيع مَا أَعَدَّ اللَّه لَهَا . وَهَذَا قَوْل حَسَن , وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْع مِنْ الْمَجَاز , فَهُوَ الْمُوَافِق لِمَا اِخْتَرْنَاهُ . وَالْمُوَفِّقُ الْإِلَهُ .
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ↓
نُصِبَ فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ الْمُضْمَر فِي " يُرْزَقُونَ "
وَيَجُوز فِي الْكَلَام " فَرِحُونَ " عَلَى النَّعْت لِأَحْيَاء . وَهُوَ مِنْ الْفَرَح بِمَعْنَى السُّرُور . وَالْفَضْل فِي هَذِهِ الْآيَة هُوَ النَّعِيم الْمَذْكُور . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع " فَارِحِينَ " بِالْأَلِفِ وَهُمَا لُغَتَانِ , كَالْفَرِهِ وَالْفَارِه , وَالْحَذِر وَالْحَاذِر , وَالطَّمِع وَالطَّامِع , وَالْبَخِل وَالْبَاخِل . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن رَفْعه , يَكُون نَعْتًا لِأَحْيَاء .
الْمَعْنَى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْفَضْل , وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَضْل . وَأَصْله مِنْ الْبَشَرَة ; لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا فَرِحَ ظَهَرَ أَثَر السُّرُور فِي وَجْهه . وَقَالَ السُّدِّيّ . : يُؤْتَى الشَّهِيد بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْر مَنْ يَقْدُم عَلَيْهِ مِنْ إِخْوَانه , فَيَسْتَبْشِر كَمَا يَسْتَبْشِر أَهْل الْغَائِب بِقُدُومِهِ فِي الدُّنْيَا . وَقَالَ قَتَادَة وَابْن جُرَيْج وَالرَّبِيع وَغَيْرهمْ : اِسْتِبْشَارهمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِخْوَاننَا الَّذِينَ تَرَكْنَا خَلْفنَا فِي الدُّنْيَا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه مَعَ نَبِيّهمْ , فَيُسْتَشْهَدُونَ فَيَنَالُونَ مِنْ الْكَرَامَة مِثْل مَا نَحْنُ فِيهِ ; فَيُسَرُّونَ وَيَفْرَحُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ . وَقِيلَ : إِنَّ الْإِشَارَة بِالِاسْتِبْشَارِ لِلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ إِلَى جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلُوا , وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا ثَوَاب اللَّه وَقَعَ الْيَقِين بِأَنَّ دِين الْإِسْلَام هُوَ الْحَقّ الَّذِي يُثِيب اللَّه عَلَيْهِمْ ; فَهُمْ فَرِحُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله , مُسْتَبْشِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الزَّجَّاج وَابْن فُورك .
وَيَجُوز فِي الْكَلَام " فَرِحُونَ " عَلَى النَّعْت لِأَحْيَاء . وَهُوَ مِنْ الْفَرَح بِمَعْنَى السُّرُور . وَالْفَضْل فِي هَذِهِ الْآيَة هُوَ النَّعِيم الْمَذْكُور . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع " فَارِحِينَ " بِالْأَلِفِ وَهُمَا لُغَتَانِ , كَالْفَرِهِ وَالْفَارِه , وَالْحَذِر وَالْحَاذِر , وَالطَّمِع وَالطَّامِع , وَالْبَخِل وَالْبَاخِل . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن رَفْعه , يَكُون نَعْتًا لِأَحْيَاء .
الْمَعْنَى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْفَضْل , وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَضْل . وَأَصْله مِنْ الْبَشَرَة ; لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا فَرِحَ ظَهَرَ أَثَر السُّرُور فِي وَجْهه . وَقَالَ السُّدِّيّ . : يُؤْتَى الشَّهِيد بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْر مَنْ يَقْدُم عَلَيْهِ مِنْ إِخْوَانه , فَيَسْتَبْشِر كَمَا يَسْتَبْشِر أَهْل الْغَائِب بِقُدُومِهِ فِي الدُّنْيَا . وَقَالَ قَتَادَة وَابْن جُرَيْج وَالرَّبِيع وَغَيْرهمْ : اِسْتِبْشَارهمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِخْوَاننَا الَّذِينَ تَرَكْنَا خَلْفنَا فِي الدُّنْيَا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه مَعَ نَبِيّهمْ , فَيُسْتَشْهَدُونَ فَيَنَالُونَ مِنْ الْكَرَامَة مِثْل مَا نَحْنُ فِيهِ ; فَيُسَرُّونَ وَيَفْرَحُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ . وَقِيلَ : إِنَّ الْإِشَارَة بِالِاسْتِبْشَارِ لِلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ إِلَى جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلُوا , وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا ثَوَاب اللَّه وَقَعَ الْيَقِين بِأَنَّ دِين الْإِسْلَام هُوَ الْحَقّ الَّذِي يُثِيب اللَّه عَلَيْهِمْ ; فَهُمْ فَرِحُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله , مُسْتَبْشِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الزَّجَّاج وَابْن فُورك .
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ↓
أَيْ بِجَنَّةٍ مِنْ اللَّه . وَيُقَال : بِمَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّه .
هَذَا لِزِيَادَةِ الْبَيَان . وَالْفَضْل دَاخِل فِي النِّعْمَة , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى اِتِّسَاعهَا , وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَنِعَمِ الدُّنْيَا . وَقِيلَ : جَاءَ الْفَضْل بَعْد النِّعْمَة عَلَى وَجْه التَّأْكِيد ; رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّه سِتّ خِصَال - كَذَا فِي التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ " سِتّ " , وَهِيَ فِي الْعَدَد سَبْع - يُغْفَر لَهُ فِي أَوَّل دَفْعَة وَيَرَى مَقْعَده مِنْ الْجَنَّة وَيُجَار مِنْ عَذَاب الْقَبْر وَيَأْمَن مِنْ الْفَزَع الْأَكْبَر وَيُوضَع عَلَى رَأْسه تَاج الْوَقَار الْيَاقُوتَة مِنْهَا خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّج اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَة مِنْ الْحُور الْعِين وَيُشَفَّع فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبه ) قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب . وَهَذَا تَفْسِير لِلنِّعْمَةِ وَالْفَضْل . وَالْآثَار فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَالَ : السُّيُوف مَفَاتِيح الْجَنَّة . وَرُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَكْرَم اللَّه تَعَالَى الشُّهَدَاء بِخَمْسِ كَرَامَات لَمْ يُكْرِمْ بِهَا أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاء وَلَا أَنَا أَحَدهَا أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء قَبَضَ أَرْوَاحهمْ مَلَك الْمَوْت وَهُوَ الَّذِي سَيَقْبِضُ رُوحِي وَأَمَّا الشُّهَدَاء فَاَللَّه هُوَ الَّذِي يَقْبِض أَرْوَاحهمْ بِقُدْرَتِهِ كَيْفَ يَشَاء وَلَا يُسَلِّط عَلَى أَرْوَاحهمْ مَلَك الْمَوْت , وَالثَّانِي أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء قَدْ غُسِّلُوا بَعْد الْمَوْت وَأَنَا أُغَسَّل بَعْد الْمَوْت وَالشُّهَدَاء لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا حَاجَة لَهُمْ إِلَى مَاء الدُّنْيَا , وَالثَّالِث أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء قَدْ كُفِّنُوا وَأَنَا أُكَفَّن وَالشُّهَدَاء لَا يُكَفَّنُونَ بَلْ يُدْفَنُونَ فِي ثِيَابهمْ , وَالرَّابِع أَنَّ الْأَنْبِيَاء لَمَّا مَاتُوا سُمُّوا أَمْوَاتًا وَإِذَا مُتّ يُقَال قَدْ مَاتَ وَالشُّهَدَاء لَا يُسَمَّوْنَ مَوْتَى , وَالْخَامِس أَنَّ الْأَنْبِيَاء تُعْطَى لَهُمْ الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة وَشَفَاعَتِي أَيْضًا يَوْم الْقِيَامَة وَأَمَّا الشُّهَدَاء فَإِنَّهُمْ يَشْفَعُونَ فِي كُلّ يَوْم فِيمَنْ يَشْفَعُونَ ) .
قَرَأَهُ الْكِسَائِيّ بِكَسْرِ الْأَلِف , وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ ; فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَمَعْنَاهُ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةِ مِنْ اللَّه وَيَسْتَبْشِرُونَ بِأَنَّ اللَّه لَا يُضِيع أَجْر الْمُؤْمِنِينَ . وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَعَلَى الِابْتِدَاء . وَدَلِيله قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " وَاَللَّه لَا يُضِيع أَجْر الْمُؤْمِنِينَ " .
هَذَا لِزِيَادَةِ الْبَيَان . وَالْفَضْل دَاخِل فِي النِّعْمَة , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى اِتِّسَاعهَا , وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَنِعَمِ الدُّنْيَا . وَقِيلَ : جَاءَ الْفَضْل بَعْد النِّعْمَة عَلَى وَجْه التَّأْكِيد ; رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّه سِتّ خِصَال - كَذَا فِي التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ " سِتّ " , وَهِيَ فِي الْعَدَد سَبْع - يُغْفَر لَهُ فِي أَوَّل دَفْعَة وَيَرَى مَقْعَده مِنْ الْجَنَّة وَيُجَار مِنْ عَذَاب الْقَبْر وَيَأْمَن مِنْ الْفَزَع الْأَكْبَر وَيُوضَع عَلَى رَأْسه تَاج الْوَقَار الْيَاقُوتَة مِنْهَا خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّج اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَة مِنْ الْحُور الْعِين وَيُشَفَّع فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبه ) قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب . وَهَذَا تَفْسِير لِلنِّعْمَةِ وَالْفَضْل . وَالْآثَار فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَالَ : السُّيُوف مَفَاتِيح الْجَنَّة . وَرُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَكْرَم اللَّه تَعَالَى الشُّهَدَاء بِخَمْسِ كَرَامَات لَمْ يُكْرِمْ بِهَا أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاء وَلَا أَنَا أَحَدهَا أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء قَبَضَ أَرْوَاحهمْ مَلَك الْمَوْت وَهُوَ الَّذِي سَيَقْبِضُ رُوحِي وَأَمَّا الشُّهَدَاء فَاَللَّه هُوَ الَّذِي يَقْبِض أَرْوَاحهمْ بِقُدْرَتِهِ كَيْفَ يَشَاء وَلَا يُسَلِّط عَلَى أَرْوَاحهمْ مَلَك الْمَوْت , وَالثَّانِي أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء قَدْ غُسِّلُوا بَعْد الْمَوْت وَأَنَا أُغَسَّل بَعْد الْمَوْت وَالشُّهَدَاء لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا حَاجَة لَهُمْ إِلَى مَاء الدُّنْيَا , وَالثَّالِث أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء قَدْ كُفِّنُوا وَأَنَا أُكَفَّن وَالشُّهَدَاء لَا يُكَفَّنُونَ بَلْ يُدْفَنُونَ فِي ثِيَابهمْ , وَالرَّابِع أَنَّ الْأَنْبِيَاء لَمَّا مَاتُوا سُمُّوا أَمْوَاتًا وَإِذَا مُتّ يُقَال قَدْ مَاتَ وَالشُّهَدَاء لَا يُسَمَّوْنَ مَوْتَى , وَالْخَامِس أَنَّ الْأَنْبِيَاء تُعْطَى لَهُمْ الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة وَشَفَاعَتِي أَيْضًا يَوْم الْقِيَامَة وَأَمَّا الشُّهَدَاء فَإِنَّهُمْ يَشْفَعُونَ فِي كُلّ يَوْم فِيمَنْ يَشْفَعُونَ ) .
قَرَأَهُ الْكِسَائِيّ بِكَسْرِ الْأَلِف , وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ ; فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَمَعْنَاهُ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةِ مِنْ اللَّه وَيَسْتَبْشِرُونَ بِأَنَّ اللَّه لَا يُضِيع أَجْر الْمُؤْمِنِينَ . وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَعَلَى الِابْتِدَاء . وَدَلِيله قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " وَاَللَّه لَا يُضِيع أَجْر الْمُؤْمِنِينَ " .
الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ↑
" الَّذِينَ " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى الِابْتِدَاء , وَخَبَره " مِنْ بَعْد مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْح " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع خَفْض , بَدَلًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , أَوْ مِنْ " الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا " . " اِسْتَجَابُوا " بِمَعْنَى أَجَابُوا وَالسِّين وَالتَّاء زَائِدَتَانِ . وَمِنْهُ قَوْله : فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْد ذَاكَ مُجِيب وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر قَالَ : قَالَتْ لِي عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : كَانَ أَبُوك مِنْ الَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُول مِنْ بَعْد مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْح . لَفْظ مُسْلِم . وَعَنْهُ عَائِشَة : يَا اِبْن أُخْتِي كَانَ أَبَوَاك - تَعْنِي الزُّبَيْر وَأَبَا بَكْر - مِنْ الَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُول مِنْ بَعْد مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْح . وَقَالَتْ : لَمَّا اِنْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أُحُد وَأَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا فَقَالَ : ( مَنْ يَنْتَدِب لِهَؤُلَاءِ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ بِنَا قُوَّةً ) قَالَ فَانْتَدَبَ أَبُو بَكْر وَالزُّبَيْر فِي سَبْعِينَ ; فَخَرَجُوا فِي آثَار الْقَوْم , فَسَمِعُوا بِهِمْ وَانْصَرَفُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّه وَفَضْل . وَأَشَارَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِلَى مَا جَرَى فِي غَزْوَة حَمْرَاء الْأَسَد , وَهِيَ عَلَى نَحْو ثَمَانِيَة أَمْيَال مِنْ الْمَدِينَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي يَوْم الْأَحَد , وَهُوَ الثَّانِي مِنْ يَوْم أُحُد , نَادَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاس بِاتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ , وَقَالَ : ( لَا يَخْرُج مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَهِدَهَا بِالْأَمْسِ ) فَنَهَضَ مَعَهُ مِائَتَا رَجُل مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فِي الْبُخَارِيّ فَقَالَ : ( مَنْ يَذْهَب فِي إِثْرهمْ ) فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا . قَالَ : كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْر وَالزُّبَيْر عَلَى مَا تَقَدَّمَ , حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاء الْأَسَد , مُرْهِبًا لِلْعَدُوِّ ; فَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ الْمُثْقَل بِالْجِرَاحِ لَا يَسْتَطِيع الْمَشْي وَلَا يَجِد مَرْكُوبًا , فَرُبَّمَا يُحْمَل عَلَى الْأَعْنَاق ; وَكُلّ ذَلِكَ اِمْتِثَال لِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَة فِي الْجِهَاد . وَقِيلَ : إِنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْد الْأَشْهَل كَانَا مُثْخَنَيْنِ بِالْجِرَاحِ ; يَتَوَكَّأ أَحَدهمَا عَلَى صَاحِبه , وَخَرَجَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَلَمَّا وَصَلُوا حَمْرَاء الْأَسَد , لَقِيَهُمْ نُعَيْم بْن مَسْعُود فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْش قَدْ جَمَعُوا جُمُوعهمْ , وَأَجْمَعُوا رَأْيهمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا إِلَى الْمَدِينَة فَيَسْتَأْصِلُوا أَهْلهَا ; فَقَالُوا مَا أَخْبَرَنَا اللَّه عَنْهُمْ : " حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل " . وَبَيْنَا قُرَيْش قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ مَعْبَد الْخُزَاعِيّ , وَكَانَتْ خُزَاعَة حُلَفَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْبَة نُصْحه , وَكَانَ قَدْ رَأَى حَال أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ ; وَلَمَّا رَأَى عَزْمَ قُرَيْش عَلَى الرُّجُوع لِيَسْتَأْصِلُوا أَهْل الْمَدِينَة اِحْتَمَلَهُ خَوْف ذَلِكَ , وَخَالَصَ نُصْحه لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه عَلَى أَنْ خَوَّفَ قُرَيْشًا بِأَنْ قَالَ لَهُمْ : قَدْ تَرَكْت مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه بِحَمْرَاء الْأَسَد فِي جَيْش عَظِيم , قَدْ اِجْتَمَعَ لَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ , وَهُمْ قَدْ تَحَرَّقُوا عَلَيْكُمْ ; فَالنَّجَاء النَّجَاء ! فَإِنِّي أَنْهَاك عَنْ ذَلِكَ , فَوَاَللَّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت أَنْ قُلْت فِيهِ أَبْيَاتًا مِنْ الشِّعْر . قَالَ : وَمَا قُلْت ؟ قَالَ : قُلْت : كَادَتْ تُهَدّ مِنْ الْأَصْوَات رَاحِلَتِي إِذْ سَالَتْ الْأَرْض بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيل تُرْدِي بِأُسْدٍ كِرَام لَا تَنَابِلَةٌ عِنْد اللِّقَاء وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ فَظَلْت عَدْوًا أَظُنّ الْأَرْضَ مَائِلَةً لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُول فَقُلْت وَيْل اِبْن حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ إِذَا تَغَطْمَطَت الْبَطْحَاءُ بِالْخَيْلِ إِنِّي نَذِير لِأَهْلِ الْبَسْلِ ضَاحِيَة لِكُلِّ ذِي إِرْبَة مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ مِنْ جَيْش أَحْمَد لَا وَخْش قَنَابِله وَلَيْسَ يُوصَف مَا أَنْذَرْتُ بِالْقِيلِ قَالَ : فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَان وَمَنْ مَعَهُ , وَقَذَفَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب , وَرَجَعُوا إِلَى مَكَّة خَائِفِينَ مُسْرِعِينَ , وَرَجَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة مَنْصُورًا ; كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّه وَفَضْل لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء " [ آل عِمْرَان : 174 ] أَيْ قِتَال وَرُعْب . وَاسْتَأْذَنَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوج مَعَهُ فَأَذِنَ لَهُ . وَأَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ الْأَجْر الْعَظِيم قَدْ تَحَصَّلَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْقَفْلَة . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّهَا غَزْوَة ) . هَذَا تَفْسِير الْجُمْهُور لِهَذِهِ الْآيَة . وَشَذَّ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى فَقَالَا : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة مِنْ قَوْله : " الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس " إِلَى قَوْله : " عَظِيم " [ آل عِمْرَان : 173 - 174 ] إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي خُرُوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْر الصُّغْرَى . وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَان فِي أُحُد , إِذْ قَالَ : مَوْعِدنَا بَدْر مِنْ الْعَام الْمُقْبِل . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قُولُوا نَعَمْ ) فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْر , وَكَانَ بِهَا سُوق عَظِيم , فَأَعْطَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابه دَرَاهِم ; وَقَرُبَ مِنْ بَدْر فَجَاءَهُ نُعَيْم بْن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ , فَأَخْبَرَهُ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ اِجْتَمَعَتْ وَأَقْبَلَتْ لِحَرْبِهِ هِيَ وَمَنْ اِنْضَافَ إِلَيْهَا , فَأَشْفَقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ , لَكِنَّهُمْ قَالُوا : " حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل " فَصَمَّمُوا حَتَّى أَتَوْا بَدْرًا فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا , وَوَجَدُوا السُّوق فَاشْتَرَوْا بِدَرَاهِمِهِمْ أُدْمًا وَتِجَارَة , وَانْقَلَبُوا وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا , وَرَبِحُوا فِي تِجَارَتهمْ ; فَلِذَلِكَ قَوْل تَعَالَى : " فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّه وَفَضْل " أَيْ وَفَضْل فِي تِلْكَ التِّجَارَات . وَاَللَّه أَعْلَم .
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ↓
اِخْتُلِفَ فَقَالَ مُجَاهِد وَمُقَاتِل وَعِكْرِمَة وَالْكَلْبِيّ : هُوَ نُعَيْم بْن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ . وَاللَّفْظ عَامّ وَمَعْنَاهُ خَاصّ ; كَقَوْلِهِ : " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس " [ النِّسَاء : 54 ] يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . السُّدِّيّ : هُوَ أَعْرَابِيّ جُعِلَ لَهُ جُعْل عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق وَجَمَاعَة : يُرِيد النَّاس رَكْب عَبْد الْقَيْس , مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَان فَدَسَّهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُثَبِّطُوهُمْ . وَقِيلَ : النَّاس هُنَا الْمُنَافِقُونَ . قَالَ السُّدِّيّ : لَمَّا تَجَهَّزَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه لِلْمَسِيرِ إِلَى بَدْر الصُّغْرَى لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَان أَتَاهُمْ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا : نَحْنُ أَصْحَابكُمْ الَّذِينَ نَهَيْنَاكُمْ عَنْ الْخُرُوج إِلَيْهِمْ وَعَصَيْتُمُونَا , وَقَدْ قَاتَلُوكُمْ فِي دِيَاركُمْ وَظَفِرُوا ; فَإِنْ أَتَيْتُمُوهُمْ فِي دِيَارهمْ فَلَا يَرْجِع مِنْكُمْ أَحَد . فَقَالُوا : " حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل " . وَقَالَ أَبُو مَعْشَر : دَخَلَ نَاس مِنْ هُذَيْل مِنْ أَهْل تِهَامَة الْمَدِينَة , فَسَأَلَهُمْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِي سُفْيَان فَقَالُوا :
جُمُوعًا كَثِيرَة
أَيْ فَخَافُوهُمْ وَاحْذَرُوهُمْ ; فَإِنَّهُ لَا طَاقَة لَكُمْ بِهِمْ . فَالنَّاس عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَال عَلَى بَابه مِنْ الْجَمْع . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ فَزَادَهُمْ قَوْل النَّاس إِيمَانًا , أَيْ تَصْدِيقًا وَيَقِينًا فِي دِينهمْ , وَإِقَامَة عَلَى نُصْرَتهمْ , وَقُوَّة وَجَرَاءَة وَاسْتِعْدَادًا . فَزِيَادَة الْإِيمَان عَلَى هَذَا هِيَ فِي الْأَعْمَال . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي زِيَادَة الْإِيمَان وَنُقْصَانه عَلَى أَقْوَال . وَالْعَقِيدَة فِي هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْس الْإِيمَان الَّذِي هُوَ تَاج وَاحِد , وَتَصْدِيق وَاحِد بِشَيْءٍ مَا , إِنَّمَا هُوَ مَعْنًى فَرْد , لَا يَدْخُل مَعَهُ زِيَادَة إِذَا حَصَلَ , وَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْء إِذَا زَالَ ; فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُون الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي مُتَعَلَّقَاته دُون ذَاته . فَذَهَبَ جَمْع مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّهُ يَزِيد وَيَنْقُص مِنْ حَيْثُ الْأَعْمَال الصَّادِرَة عَنْهُ , لَا سِيَّمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاء يُوقِعُونَ اِسْم الْإِيمَان عَلَى الطَّاعَات ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْإِيمَان بِضْع وَسَبْعُونَ بَابًا فَأَعْلَاهَا قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ الطَّرِيق ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ , وَزَادَ مُسْلِم ( وَالْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الْإِيمَان ) وَفِي حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ الْإِيمَان لَيَبْدُو لُمَظَة بَيْضَاء فِي الْقَلْب , كُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَان اِزْدَادَتْ اللُّمَظَة . وَقَوْله " لُمَظَة " قَالَ الْأَصْمَعِيّ : اللُّمَظَة مِثْل النُّكْتَة وَنَحْوهَا مِنْ الْبَيَاض ; وَمِنْهُ قِيلَ : فَرَس أَلْمَظ , إِذَا كَانَ بِجَحْفَلَتِهِ شَيْء مِنْ بَيَاض . وَالْمُحَدِّثُونَ يَقُولُونَ " لَمَظَة " بِالْفَتْحِ . وَأَمَّا كَلَام الْعَرَب فَبِالضَّمِّ ; مِثْل شُبْهَة وَدُهْمَة وَخُمْرَة . وَفِيهِ حُجَّة عَلَى مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُون الْإِيمَان يَزِيد وَيَنْقُص . أَلَا تَرَاهُ يَقُول : كُلَّمَا اِزْدَادَ الْإِيمَان اِزْدَادَتْ اللُّمَظَة حَتَّى يَبْيَضّ الْقَلْب كُلّه . وَكَذَلِكَ النِّفَاق يَبْدُو لُمَظَة سَوْدَاء فِي الْقَلْب كُلَّمَا اِزْدَادَ النِّفَاق اِسْوَدَّ الْقَلْب حَتَّى يَسْوَدّ الْقَلْب كُلّه . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْإِيمَان عَرَض , وَهُوَ لَا يَثْبُت زَمَانَيْنِ ; فَهُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلصُّلَحَاءِ مُتَعَاقِب , فَيَزِيد بِاعْتِبَارِ تَوَالِي أَمْثَاله عَلَى قَلْب الْمُؤْمِن , وَبِاعْتِبَارِ دَوَام حُضُوره . وَيَنْقُص بِتَوَالِي الْغَفَلَات عَلَى قَلْب الْمُؤْمِن . أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو الْمَعَالِي . وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُود فِي حَدِيث الشَّفَاعَة , حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِيهِ : ( فَيَقُول الْمُؤْمِنُونَ يَا رَبّنَا إِخْوَاننَا كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّم صُوَرهمْ عَلَى النَّار فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّار إِلَى نِصْف سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَد مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ فَيَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَر فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتنَا ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال نِصْف دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَر فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتنَا أَحَدَأ ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالْإِيمَانِ فِي هَذَا الْحَدِيث أَعْمَال الْقُلُوب ; كَالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاص وَالْخَوْف وَالنَّصِيحَة وَشَبَه ذَلِكَ . وَسَمَّاهَا إِيمَانًا لِكَوْنِهَا فِي مَحَلّ الْإِيمَان أَوْ عُنِيَ بِالْإِيمَانِ , عَلَى عَادَة الْعَرَب فِي تَسْمِيَة الشَّيْء بِاسْمِ الشَّيْء إِذَا جَاوَرَهُ , أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ . دَلِيل هَذَا التَّأْوِيل قَوْل الشَّافِعِيّ بَعْد إِخْرَاج مَنْ كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ خَيْر : ( لَمْ نَذَر فِيهَا خَيْرًا ) مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِج بَعْد ذَلِكَ جُمُوعًا كَثِيرَة مِمَّنْ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَهُمْ مُؤْمِنُونَ قَطْعًا ; وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لَمَا أَخْرَجَهُمْ . ثُمَّ إِنَّ عَدَم الْوُجُود الْأَوَّل الَّذِي يُرَكَّب عَلَيْهِ الْمِثْل لَمْ تَكُنْ زِيَادَة وَلَا نُقْصَان . وَقَدْر ذَلِكَ فِي الْحَرَكَة . فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه إِذَا خَلَقَ عِلْمًا فَرْدًا وَخَلَقَ مَعَهُ مِثْله أَوْ أَمْثَاله بِمَعْلُومَاتٍ فَقَدْ زَادَ عِلْمه ; فَإِنْ أَعْدَمَ اللَّه الْأَمْثَال فَقَدْ نَقَصَ , أَيْ زَالَتْ الزِّيَادَة . وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَقَ حَرَكَة وَخَلَقَ مَعَهَا مِثْلهَا أَوْ أَمْثَالهَا . وَذَهَبَ قَوْم مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ زِيَادَة الْإِيمَان وَنَقْصه إِنَّمَا هُوَ طَرِيق الْأَدِلَّة , فَتَزِيد الْأَدِلَّة عِنْد وَاحِد فَيُقَال فِي ذَلِكَ : إِنَّهَا زِيَادَة فِي الْإِيمَان ; وَبِهَذَا الْمَعْنَى - عَلَى أَحَد الْأَقْوَال - فُضِّلَ الْأَنْبِيَاء عَلَى الْخَلْق , فَإِنَّهُمْ عَلِمُوهُ مِنْ وُجُوه كَثِيرَة , أَكْثَر مِنْ الْوُجُوه الَّتِي عَلِمَهُ الْخَلْق بِهَا . وَهَذَا الْقَوْل خَارِج عَنْ مُقْتَضَى الْآيَة ; إِذْ لَا يُتَصَوَّر أَنْ تَكُون الزِّيَادَة فِيهَا مِنْ جِهَة الْأَدِلَّة . وَذَهَبَ قَوْم : إِلَى أَنَّ الزِّيَادَة فِي الْإِيمَان إِنَّمَا هِيَ بِنُزُولِ الْفَرَائِض وَالْأَخْبَار فِي مُدَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي الْمَعْرِفَة بِهَا بَعْد الْجَهْل غَابِر الدَّهْر . وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ زِيَادَة إِيمَان ; فَالْقَوْل فِيهِ إِنَّ الْإِيمَان يَزِيد قَوْل مَجَازِيّ , وَلَا يُتَصَوَّر فِيهِ النَّقْص عَلَى هَذَا الْحَدّ , وَإِنَّمَا يُتَصَوَّر بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ عَلِمَ . فَاعْلَمْ .
أَيْ كَافِينَا اللَّه . وَحَسْب مَأْخُوذ مِنْ الْإِحْسَاب , وَهُوَ الْكِفَايَة . قَالَ الشَّاعِر : فَتَمْلَأ بَيْتنَا إِقْطًا وَسَمْنًا وَحَسْبك مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيُّ رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : " الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ - إِلَى قَوْله : - وَقَالُوا حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل " قَالَهَا إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين أُلْقِيَ فِي النَّار . وَقَالَهَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَالَ لَهُمْ النَّاس : إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ . وَاَللَّه أَعْلَم .
جُمُوعًا كَثِيرَة
أَيْ فَخَافُوهُمْ وَاحْذَرُوهُمْ ; فَإِنَّهُ لَا طَاقَة لَكُمْ بِهِمْ . فَالنَّاس عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَال عَلَى بَابه مِنْ الْجَمْع . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ فَزَادَهُمْ قَوْل النَّاس إِيمَانًا , أَيْ تَصْدِيقًا وَيَقِينًا فِي دِينهمْ , وَإِقَامَة عَلَى نُصْرَتهمْ , وَقُوَّة وَجَرَاءَة وَاسْتِعْدَادًا . فَزِيَادَة الْإِيمَان عَلَى هَذَا هِيَ فِي الْأَعْمَال . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي زِيَادَة الْإِيمَان وَنُقْصَانه عَلَى أَقْوَال . وَالْعَقِيدَة فِي هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْس الْإِيمَان الَّذِي هُوَ تَاج وَاحِد , وَتَصْدِيق وَاحِد بِشَيْءٍ مَا , إِنَّمَا هُوَ مَعْنًى فَرْد , لَا يَدْخُل مَعَهُ زِيَادَة إِذَا حَصَلَ , وَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْء إِذَا زَالَ ; فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُون الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي مُتَعَلَّقَاته دُون ذَاته . فَذَهَبَ جَمْع مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّهُ يَزِيد وَيَنْقُص مِنْ حَيْثُ الْأَعْمَال الصَّادِرَة عَنْهُ , لَا سِيَّمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاء يُوقِعُونَ اِسْم الْإِيمَان عَلَى الطَّاعَات ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْإِيمَان بِضْع وَسَبْعُونَ بَابًا فَأَعْلَاهَا قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ الطَّرِيق ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ , وَزَادَ مُسْلِم ( وَالْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الْإِيمَان ) وَفِي حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ الْإِيمَان لَيَبْدُو لُمَظَة بَيْضَاء فِي الْقَلْب , كُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَان اِزْدَادَتْ اللُّمَظَة . وَقَوْله " لُمَظَة " قَالَ الْأَصْمَعِيّ : اللُّمَظَة مِثْل النُّكْتَة وَنَحْوهَا مِنْ الْبَيَاض ; وَمِنْهُ قِيلَ : فَرَس أَلْمَظ , إِذَا كَانَ بِجَحْفَلَتِهِ شَيْء مِنْ بَيَاض . وَالْمُحَدِّثُونَ يَقُولُونَ " لَمَظَة " بِالْفَتْحِ . وَأَمَّا كَلَام الْعَرَب فَبِالضَّمِّ ; مِثْل شُبْهَة وَدُهْمَة وَخُمْرَة . وَفِيهِ حُجَّة عَلَى مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُون الْإِيمَان يَزِيد وَيَنْقُص . أَلَا تَرَاهُ يَقُول : كُلَّمَا اِزْدَادَ الْإِيمَان اِزْدَادَتْ اللُّمَظَة حَتَّى يَبْيَضّ الْقَلْب كُلّه . وَكَذَلِكَ النِّفَاق يَبْدُو لُمَظَة سَوْدَاء فِي الْقَلْب كُلَّمَا اِزْدَادَ النِّفَاق اِسْوَدَّ الْقَلْب حَتَّى يَسْوَدّ الْقَلْب كُلّه . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْإِيمَان عَرَض , وَهُوَ لَا يَثْبُت زَمَانَيْنِ ; فَهُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلصُّلَحَاءِ مُتَعَاقِب , فَيَزِيد بِاعْتِبَارِ تَوَالِي أَمْثَاله عَلَى قَلْب الْمُؤْمِن , وَبِاعْتِبَارِ دَوَام حُضُوره . وَيَنْقُص بِتَوَالِي الْغَفَلَات عَلَى قَلْب الْمُؤْمِن . أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو الْمَعَالِي . وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُود فِي حَدِيث الشَّفَاعَة , حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِيهِ : ( فَيَقُول الْمُؤْمِنُونَ يَا رَبّنَا إِخْوَاننَا كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّم صُوَرهمْ عَلَى النَّار فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّار إِلَى نِصْف سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَد مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ فَيَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَر فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتنَا ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال نِصْف دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَر فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتنَا أَحَدَأ ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالْإِيمَانِ فِي هَذَا الْحَدِيث أَعْمَال الْقُلُوب ; كَالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاص وَالْخَوْف وَالنَّصِيحَة وَشَبَه ذَلِكَ . وَسَمَّاهَا إِيمَانًا لِكَوْنِهَا فِي مَحَلّ الْإِيمَان أَوْ عُنِيَ بِالْإِيمَانِ , عَلَى عَادَة الْعَرَب فِي تَسْمِيَة الشَّيْء بِاسْمِ الشَّيْء إِذَا جَاوَرَهُ , أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ . دَلِيل هَذَا التَّأْوِيل قَوْل الشَّافِعِيّ بَعْد إِخْرَاج مَنْ كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ خَيْر : ( لَمْ نَذَر فِيهَا خَيْرًا ) مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِج بَعْد ذَلِكَ جُمُوعًا كَثِيرَة مِمَّنْ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَهُمْ مُؤْمِنُونَ قَطْعًا ; وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لَمَا أَخْرَجَهُمْ . ثُمَّ إِنَّ عَدَم الْوُجُود الْأَوَّل الَّذِي يُرَكَّب عَلَيْهِ الْمِثْل لَمْ تَكُنْ زِيَادَة وَلَا نُقْصَان . وَقَدْر ذَلِكَ فِي الْحَرَكَة . فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه إِذَا خَلَقَ عِلْمًا فَرْدًا وَخَلَقَ مَعَهُ مِثْله أَوْ أَمْثَاله بِمَعْلُومَاتٍ فَقَدْ زَادَ عِلْمه ; فَإِنْ أَعْدَمَ اللَّه الْأَمْثَال فَقَدْ نَقَصَ , أَيْ زَالَتْ الزِّيَادَة . وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَقَ حَرَكَة وَخَلَقَ مَعَهَا مِثْلهَا أَوْ أَمْثَالهَا . وَذَهَبَ قَوْم مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ زِيَادَة الْإِيمَان وَنَقْصه إِنَّمَا هُوَ طَرِيق الْأَدِلَّة , فَتَزِيد الْأَدِلَّة عِنْد وَاحِد فَيُقَال فِي ذَلِكَ : إِنَّهَا زِيَادَة فِي الْإِيمَان ; وَبِهَذَا الْمَعْنَى - عَلَى أَحَد الْأَقْوَال - فُضِّلَ الْأَنْبِيَاء عَلَى الْخَلْق , فَإِنَّهُمْ عَلِمُوهُ مِنْ وُجُوه كَثِيرَة , أَكْثَر مِنْ الْوُجُوه الَّتِي عَلِمَهُ الْخَلْق بِهَا . وَهَذَا الْقَوْل خَارِج عَنْ مُقْتَضَى الْآيَة ; إِذْ لَا يُتَصَوَّر أَنْ تَكُون الزِّيَادَة فِيهَا مِنْ جِهَة الْأَدِلَّة . وَذَهَبَ قَوْم : إِلَى أَنَّ الزِّيَادَة فِي الْإِيمَان إِنَّمَا هِيَ بِنُزُولِ الْفَرَائِض وَالْأَخْبَار فِي مُدَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي الْمَعْرِفَة بِهَا بَعْد الْجَهْل غَابِر الدَّهْر . وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ زِيَادَة إِيمَان ; فَالْقَوْل فِيهِ إِنَّ الْإِيمَان يَزِيد قَوْل مَجَازِيّ , وَلَا يُتَصَوَّر فِيهِ النَّقْص عَلَى هَذَا الْحَدّ , وَإِنَّمَا يُتَصَوَّر بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ عَلِمَ . فَاعْلَمْ .
أَيْ كَافِينَا اللَّه . وَحَسْب مَأْخُوذ مِنْ الْإِحْسَاب , وَهُوَ الْكِفَايَة . قَالَ الشَّاعِر : فَتَمْلَأ بَيْتنَا إِقْطًا وَسَمْنًا وَحَسْبك مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيُّ رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : " الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ - إِلَى قَوْله : - وَقَالُوا حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل " قَالَهَا إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين أُلْقِيَ فِي النَّار . وَقَالَهَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَالَ لَهُمْ النَّاس : إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ . وَاَللَّه أَعْلَم .
فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ↓
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا فَوَّضُوا أُمُورهمْ إِلَيْهِ , وَاعْتَمَدُوا بِقُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ , أَعْطَاهُمْ مِنْ الْجَزَاء أَرْبَعَة مَعَانٍ : النِّعْمَة , وَالْفَضْل , وَصَرْف السُّوء , وَاتِّبَاع الرِّضَا . فَرَضَّاهُمْ عَنْهُ , وَرَضِيَ عَنْهُمْ .
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ↓
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْمَعْنَى يُخَوِّفكُمْ أَوْلِيَاءَهُ ; أَيْ بِأَوْلِيَائِهِ , أَوْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ ; فَحَذَفَ حَرْف الْجَرّ وَوَصَلَ الْفِعْل إِلَى الِاسْم فَنَصَبَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : " لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا " [ الْكَهْف : 2 ] أَيْ لِيُنْذَركُمْ بِبَأْسٍ شَدِيد ; أَيْ يُخَوِّف الْمُؤْمِن بِالْكَافِرِ . وَقَالَ الْحَسَن وَالسُّدِّيّ : الْمَعْنَى يُخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ ; لِيَقْعُدُوا عَنْ قِتَال الْمُشْرِكِينَ . فَأَمَّا أَوْلِيَاء اللَّه فَإِنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ إِذَا خَوَّفَهُمْ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد هَذَا الَّذِي يُخَوِّفكُمْ بِجَمْعِ الْكُفَّار شَيْطَان مِنْ شَيَاطِين الْإِنْس ; إِمَّا نُعَيْم بْن مَسْعُود أَوْ غَيْره , عَلَى الْخِلَاف فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .
أَيْ لَا تَخَافُوا الْكَافِرِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْله : " إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ " . أَوْ يَرْجِع إِلَى الْأَوْلِيَاء إِنْ قُلْت : إِنَّ الْمَعْنَى يُخَوِّف بِأَوْلِيَائِهِ أَيْ يُخَوِّفكُمْ أَوْلِيَاءَهُ .
أَيْ خَافُونِي فِي تَرْك أَمْرِي إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِوَعْدِي . وَالْخَوْف فِي كَلَام الْعَرَب الذُّعْر . وَخَاوَفَنِي فُلَان فَخِفْته , أَيْ كُنْت أَشَدّ خَوْفًا مِنْهُ . وَالْخَوْفَاء الْمَفَازَة لَا مَاء بِهَا . وَيُقَال : نَاقَة خَوْفَاء وَهِيَ الْجَرْبَاء . وَالْخَافَة كَالْخَرِيطَةِ مِنْ الْأَدَم يُشْتَار فِيهَا الْعَسَل . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : اِجْتَمَعَ بَعْض الصِّدِّيقِينَ إِلَى إِبْرَاهِيم الْخَلِيل فَقَالُوا : مَا الْخَوْف ؟ فَقَالَ : لَا تَأْمَن حَتَّى تَبْلُغ الْمَأْمَن . قَالَ سَهْل : وَكَانَ الرَّبِيع بْن خَيْثَم إِذَا مَرَّ بِكِيرٍ يُغْشَى عَلَيْهِ ; فَقِيلَ لِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب ذَلِكَ ; فَقَالَ : إِذَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فَأَعْلِمُونِي . فَأَصَابَهُ فَأَعْلَمُوهُ , فَجَاءَهُ فَأَدْخَلَ يَده فِي قَمِيصه فَوَجَدَ حَرَكَته عَالِيَة فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّ هَذَا أَخْوَف أَهْل زَمَانكُمْ . فَالْخَائِف مِنْ اللَّه تَعَالَى هُوَ أَنْ يَخَاف أَنْ يُعَاقِبهُ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَة ; وَلِهَذَا قِيلَ : لَيْسَ الْخَائِف الَّذِي يَبْكِي وَيَمْسَح عَيْنَيْهِ , بَلْ الْخَائِف الَّذِي يَتْرُك مَا يَخَاف أَنْ يُعَذَّب عَلَيْهِ . فَفَرَضَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْعِبَاد أَنْ يَخَافُوهُ فَقَالَ : وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ : " وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ " . وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَوْفِ فَقَالَ : " يَخَافُونَ رَبّهمْ مِنْ فَوْقهمْ " [ النَّحْل : 50 ] . وَلِأَرْبَابِ الْإِشَارَات فِي الْخَوْف عِبَارَات مَرْجِعهَا إِلَى مَا ذَكَرْنَا . قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو عَلِيّ الدَّقَّاق : دَخَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْر بْن فُورك رَحِمَهُ اللَّه عَائِدًا , فَلَمَّا رَآنِي دَمَعَتْ عَيْنَاهُ , فَقُلْت لَهُ : إِنَّ اللَّه يُعَافِيك وَيَشْفِيك . فَقَالَ لِي : أَتَرَى أَنِّي أَخَاف مِنْ الْمَوْت ؟ إِنَّمَا أَخَاف مِمَّا وَرَاء الْمَوْت . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَع مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاء وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطّ مَا فِيهَا مَوْضِع أَرْبَع أَصَابِع إِلَّا وَمَلَك وَاضِع جَبْهَته سَاجِدًا لِلَّهِ وَاَللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَات وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَات تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّه وَاَللَّهِ لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد " . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَيُرْوَى مِنْ غَيْر هَذَا الْوَجْه أَنَّ أَبَا ذَرّ قَالَ : ( لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد ) . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ لَا تَخَافُوا الْكَافِرِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْله : " إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ " . أَوْ يَرْجِع إِلَى الْأَوْلِيَاء إِنْ قُلْت : إِنَّ الْمَعْنَى يُخَوِّف بِأَوْلِيَائِهِ أَيْ يُخَوِّفكُمْ أَوْلِيَاءَهُ .
أَيْ خَافُونِي فِي تَرْك أَمْرِي إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِوَعْدِي . وَالْخَوْف فِي كَلَام الْعَرَب الذُّعْر . وَخَاوَفَنِي فُلَان فَخِفْته , أَيْ كُنْت أَشَدّ خَوْفًا مِنْهُ . وَالْخَوْفَاء الْمَفَازَة لَا مَاء بِهَا . وَيُقَال : نَاقَة خَوْفَاء وَهِيَ الْجَرْبَاء . وَالْخَافَة كَالْخَرِيطَةِ مِنْ الْأَدَم يُشْتَار فِيهَا الْعَسَل . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : اِجْتَمَعَ بَعْض الصِّدِّيقِينَ إِلَى إِبْرَاهِيم الْخَلِيل فَقَالُوا : مَا الْخَوْف ؟ فَقَالَ : لَا تَأْمَن حَتَّى تَبْلُغ الْمَأْمَن . قَالَ سَهْل : وَكَانَ الرَّبِيع بْن خَيْثَم إِذَا مَرَّ بِكِيرٍ يُغْشَى عَلَيْهِ ; فَقِيلَ لِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب ذَلِكَ ; فَقَالَ : إِذَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فَأَعْلِمُونِي . فَأَصَابَهُ فَأَعْلَمُوهُ , فَجَاءَهُ فَأَدْخَلَ يَده فِي قَمِيصه فَوَجَدَ حَرَكَته عَالِيَة فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّ هَذَا أَخْوَف أَهْل زَمَانكُمْ . فَالْخَائِف مِنْ اللَّه تَعَالَى هُوَ أَنْ يَخَاف أَنْ يُعَاقِبهُ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَة ; وَلِهَذَا قِيلَ : لَيْسَ الْخَائِف الَّذِي يَبْكِي وَيَمْسَح عَيْنَيْهِ , بَلْ الْخَائِف الَّذِي يَتْرُك مَا يَخَاف أَنْ يُعَذَّب عَلَيْهِ . فَفَرَضَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْعِبَاد أَنْ يَخَافُوهُ فَقَالَ : وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ : " وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ " . وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَوْفِ فَقَالَ : " يَخَافُونَ رَبّهمْ مِنْ فَوْقهمْ " [ النَّحْل : 50 ] . وَلِأَرْبَابِ الْإِشَارَات فِي الْخَوْف عِبَارَات مَرْجِعهَا إِلَى مَا ذَكَرْنَا . قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو عَلِيّ الدَّقَّاق : دَخَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْر بْن فُورك رَحِمَهُ اللَّه عَائِدًا , فَلَمَّا رَآنِي دَمَعَتْ عَيْنَاهُ , فَقُلْت لَهُ : إِنَّ اللَّه يُعَافِيك وَيَشْفِيك . فَقَالَ لِي : أَتَرَى أَنِّي أَخَاف مِنْ الْمَوْت ؟ إِنَّمَا أَخَاف مِمَّا وَرَاء الْمَوْت . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَع مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاء وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطّ مَا فِيهَا مَوْضِع أَرْبَع أَصَابِع إِلَّا وَمَلَك وَاضِع جَبْهَته سَاجِدًا لِلَّهِ وَاَللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَات وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَات تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّه وَاَللَّهِ لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد " . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَيُرْوَى مِنْ غَيْر هَذَا الْوَجْه أَنَّ أَبَا ذَرّ قَالَ : ( لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد ) . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ↓
هَؤُلَاءِ قَوْم أَسْلَمُوا ثُمَّ اِرْتَدُّوا خَوْفًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ; فَاغْتَمَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا يَحْزُنك الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر " . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : يَعْنِي بِهِ الْمُنَافِقِينَ وَرُؤَسَاء الْيَهُود ; كَتَمُوا صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَاب فَنَزَلَتْ . وَيُقَال : إِنَّ أَهْل الْكِتَاب لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ النَّاس يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ أَهْل كِتَاب ; فَلَوْ كَانَ قَوْله حَقًّا لَاتَّبَعُوهُ , فَنَزَلَتْ " وَلَا يَحْزُنك " . قِرَاءَة نَافِع بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الزَّاي حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي - الْأَنْبِيَاء - " لَا يَحْزُنهُمْ الْفَزَع الْأَكْبَر " فَإِنَّهُ بِفَتْحِ الْيَاء وَبِضَمِّ الزَّاي . وَضِدّه أَبُو جَعْفَر . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن كُلّهَا بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الزَّاي . وَالْبَاقُونَ كُلّهَا بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الزَّاي . وَهُمَا لُغَتَانِ : حَزَنَنِي الْأَمْر يَحْزُننِي , وَأَحْزَنَنِي أَيْضًا وَهِيَ لُغَة قَلِيلَة ; وَالْأُولَى أَفْصَح اللُّغَتَيْنِ ; قَالَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ الشَّاعِر فِي أَحْزَن : مَضَى صَحْبِي وَأَحْزَنَنِي الدِّيَار وَقِرَاءَة الْعَامَّة " يُسَارِعُونَ " . وَقَرَأَ طَلْحَة " يُسْرِعُونَ فِي الْكُفْر " . قَالَ الضَّحَّاك : هُمْ كُفَّار قُرَيْش . وَقَالَ غَيْره : هُمْ الْمُنَافِقُونَ . وَقِيلَ : هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْل . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي جَمِيع الْكُفَّار . وَمُسَارَعَتهمْ فِي الْكُفْر الْمُظَاهَرَة عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْحُزْن عَلَى كُفْر الْكَافِر طَاعَة ; وَلَكِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفْرِط فِي الْحُزْن عَلَى كُفْر قَوْمه , فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ ; كَمَا قَالَ : " فَلَا تُذْهِب نَفْسك عَلَيْهِمْ حَسَرَات " [ فَاطِر : 8 ] وَقَالَ : " فَلَعَلَّك بَاخِع نَفْسك عَلَى آثَارهمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيث أَسَفًا " [ الْكَهْف : 6 ] .
أَيْ لَا يَنْقُصُونَ مِنْ مُلْك اللَّه وَسُلْطَانه شَيْئًا ; يَعْنِي لَا يَنْقُص بِكُفْرِهِمْ . وَكَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْت الظُّلْم عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا . يَا عِبَادِي كُلّكُمْ ضَالّ إِلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ . يَا عِبَادِي كُلّكُمْ جَائِع إِلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمكُمْ . يَا عِبَادِي كُلّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ . يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَأَنَا أَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِر لَكُمْ . يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْب رَجُل وَاحِد مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَر قَلْب رَجُل وَاحِد مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيد وَاحِد فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلّ إِنْسَان مَسْأَلَته مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر . يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّه وَمَنْ وَجَدَ غَيْر ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إِلَّا نَفْسه ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا , وَهُوَ حَدِيث عَظِيم فِيهِ طُول يُكْتَب كُلّه . وَقِيلَ : مَعْنَى " لَنْ يَضُرُّوا اللَّه شَيْئًا " أَيْ لَنْ يَضُرُّوا أَوْلِيَاء اللَّه حِين تَرَكُوا نَصْرهمْ إِذْ كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَاصِرهمْ .
وَالْحَظّ النَّصِيب وَالْجِدّ . يُقَال : فُلَان أَحَظُّ مِنْ فُلَان , وَهُوَ مَحْظُوظ . وَجَمْع الْحَظّ أَحَاظٍ عَلَى غَيْر قِيَاس . قَالَ أَبُو زَيْد : يُقَال رَجُل حَظِيظ , أَيْ جَدِيد إِذَا كَانَ ذَا حَظّ مِنْ الرِّزْق . وَحَظِظْت فِي الْأَمْر أَحَظّ . وَرُبَّمَا جُمِعَ الْحَظّ أَحُظًّا . أَيْ لَا يَجْعَل لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْجَنَّة . وَهُوَ نَصّ فِي أَنَّ الْخَيْر وَالشَّرّ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى .
أَيْ لَا يَنْقُصُونَ مِنْ مُلْك اللَّه وَسُلْطَانه شَيْئًا ; يَعْنِي لَا يَنْقُص بِكُفْرِهِمْ . وَكَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْت الظُّلْم عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا . يَا عِبَادِي كُلّكُمْ ضَالّ إِلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ . يَا عِبَادِي كُلّكُمْ جَائِع إِلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمكُمْ . يَا عِبَادِي كُلّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ . يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَأَنَا أَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِر لَكُمْ . يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْب رَجُل وَاحِد مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَر قَلْب رَجُل وَاحِد مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيد وَاحِد فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلّ إِنْسَان مَسْأَلَته مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر . يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّه وَمَنْ وَجَدَ غَيْر ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إِلَّا نَفْسه ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا , وَهُوَ حَدِيث عَظِيم فِيهِ طُول يُكْتَب كُلّه . وَقِيلَ : مَعْنَى " لَنْ يَضُرُّوا اللَّه شَيْئًا " أَيْ لَنْ يَضُرُّوا أَوْلِيَاء اللَّه حِين تَرَكُوا نَصْرهمْ إِذْ كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَاصِرهمْ .
وَالْحَظّ النَّصِيب وَالْجِدّ . يُقَال : فُلَان أَحَظُّ مِنْ فُلَان , وَهُوَ مَحْظُوظ . وَجَمْع الْحَظّ أَحَاظٍ عَلَى غَيْر قِيَاس . قَالَ أَبُو زَيْد : يُقَال رَجُل حَظِيظ , أَيْ جَدِيد إِذَا كَانَ ذَا حَظّ مِنْ الرِّزْق . وَحَظِظْت فِي الْأَمْر أَحَظّ . وَرُبَّمَا جُمِعَ الْحَظّ أَحُظًّا . أَيْ لَا يَجْعَل لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْجَنَّة . وَهُوَ نَصّ فِي أَنَّ الْخَيْر وَالشَّرّ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى .
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ↓
قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ اِشْتَرَوْا أَنْفُسهمْ بِأَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّه . فَاشْتَرَى بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى اِبْتَاعَ ; وَالْمَعْنَى : بِئْسَ الشَّيْء الَّذِي اِخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اِسْتَبْدَلُوا الْبَاطِل بِالْحَقِّ , وَالْكُفْر بِالْإِيمَانِ .
كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ . وَقِيلَ : أَيْ مِنْ سُوء تَدْبِيره اِسْتِبْدَال الْإِيمَان بِالْكُفْرِ وَبَيْعه بِهِ ; فَلَا يَخَاف جَانِبه وَلَا تَدْبِير . وَانْتَصَبَ " شَيْئًا " فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِوُقُوعِهِ مَوْقِع الْمَصْدَر ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَنْ يَضُرُّوا اللَّه ضَرَرًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا . وَيَجُوز اِنْتِصَابه عَلَى تَقْدِير حَذْف الْبَاء ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَنْ يَضُرُّوا اللَّه بِشَيْءٍ .
كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ . وَقِيلَ : أَيْ مِنْ سُوء تَدْبِيره اِسْتِبْدَال الْإِيمَان بِالْكُفْرِ وَبَيْعه بِهِ ; فَلَا يَخَاف جَانِبه وَلَا تَدْبِير . وَانْتَصَبَ " شَيْئًا " فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِوُقُوعِهِ مَوْقِع الْمَصْدَر ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَنْ يَضُرُّوا اللَّه ضَرَرًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا . وَيَجُوز اِنْتِصَابه عَلَى تَقْدِير حَذْف الْبَاء ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَنْ يَضُرُّوا اللَّه بِشَيْءٍ .
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ↓
الْإِمْلَاء طُول الْعُمْر وَرَغَد الْعَيْش . وَالْمَعْنَى : لَا يَحَسَبَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخَوِّفُونَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ اللَّه قَادِر عَلَى إِهْلَاكهمْ , وَإِنَّمَا يَطُول أَعْمَارهمْ لِيَعْمَلُوا بِالْمَعَاصِي , لَا لِأَنَّهُ خَيْر لَهُمْ . وَيُقَال : " أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ " بِمَا أَصَابُوا مِنْ الظَّفَر يَوْم أُحُد لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ ; وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِيَزْدَادُوا عُقُوبَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : مَا مِنْ أَحَد بَرّ وَلَا فَاجِر إِلَّا وَالْمَوْت خَيْر لَهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَرًّا فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا عِنْد اللَّه خَيْر لِلْأَبْرَارِ " [ آل عِمْرَان : 198 ] وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَقَدْ قَالَ اللَّه : إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم " لَا يَحَسَبَنَّ " بِالْيَاءِ وَنَصْب السِّين . وَقَرَأَ حَمْزَة : بِالتَّاءِ وَنَصْب السِّين . وَالْبَاقُونَ : بِالْيَاءِ وَكَسْر السِّين . فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَاَلَّذِينَ فَاعِلُونَ . أَيْ فَلَا يَحَسَبَنَّ الْكُفَّار . و " أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْر لِأَنْفُسِهِمْ " تَسُدّ مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ . و " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي , وَالْعَائِد مَحْذُوف , و " خَيْر " خَبَر " أَنَّ " . وَيَجُوز أَنْ تُقَدَّر " مَا " وَالْفِعْل مَصْدَرًا ; وَالتَّقْدِير وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْر لِأَنْفُسِهِمْ . وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالْفِعْل هُوَ الْمُخَاطَب , وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . و " الَّذِينَ " نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول الْأَوَّل لِتَحْسَب . وَأَنَّ وَمَا بَعْدهَا بَدَل مِنْ الَّذِينَ , وَهِيَ تَسُدّ مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ , كَمَا تَسُدّ لَوْ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا . وَلَا يَصْلُح أَنْ تَكُون " أَنَّ " وَمَا بَعْدهَا مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَحْسَب ; لِأَنَّ الْمَفْعُول الثَّانِي فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الْأَوَّل فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ حَسِبَ وَأَخَوَاتهَا دَاخِلَة عَلَى الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر ; فَيَكُون التَّقْدِير ; وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْر . هَذَا قَوْل الزَّجَّاج . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : لَوْ صَحَّ هَذَا لَقَالَ " خَيْرًا " بِالنَّصْبِ ; لِأَنَّ " أَنَّ " تَصِير بَدَلًا مِنْ " الَّذِينَ كَفَرُوا " ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا تَحْسَبَنَّ إِمْلَاء الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرًا ; فَقَوْله " خَيْرًا " هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي لِحَسِبَ . فَإِذًا لَا يَجُوز أَنْ يُقْرَأ " لَا تَحْسَبَنَّ " بِالتَّاءِ إِلَّا أَنْ تُكْسَر " إِنَّ فِي " أَنَّمَا " وَتُنْصَب خَيْرًا , وَلَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنْ حَمْزَة , وَالْقِرَاءَة عَنْ حَمْزَة بِالتَّاءِ ; فَلَا تَصِحّ هَذِهِ الْقِرَاءَة إِذًا . وَقَالَ الْفَرَّاء وَالْكِسَائِيّ : قِرَاءَة حَمْزَة جَائِزَة عَلَى التَّكْرِير ; تَقْدِيره وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِي كَفَرُوا , وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرًا , فَسَدَّتْ " أَنَّ " مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ لِتَحْسَب الثَّانِي , وَهِيَ وَمَا عَمِلَتْ مَفْعُول ثَانٍ لِتَحْسَب الْأَوَّل . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا قَرِيب مِمَّا ذَكَرَهُ الزَّجَّاج فِي دَعْوَى الْبَدَل , وَالْقِرَاءَة صَحِيحَة . فَإِذًا غَرَض أَبِي عَلِيّ تَغْلِيط الزَّجَّاج . قَالَ النَّحَّاس : وَزَعَمَ أَبُو حَاتِم أَنَّ قِرَاءَة حَمْزَة بِالتَّاءِ هُنَا , وَقَوْله : " وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ " [ آل عِمْرَان : 180 ] لَحْن لَا يَجُوز . وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَة . قُلْت : وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانه مِنْ الْإِعْرَاب , وَلِصِحَّةِ الْقِرَاءَة وَثُبُوتهَا نَقْلًا . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب " إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ " بِكَسْرِ إِنَّ فِيهِمَا جَمِيعًا . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَقِرَاءَة يُحْيِي حَسَنَة . كَمَا تَقُول : حَسِبْتُ عَمْرًا أَبُوهُ خَالِد . قَالَ أَبُو حَاتِم وَسَمِعْت الْأَخْفَش يَذْكُر كَسْر " إِنَّ " يَحْتَجّ بِهِ لِأَهْلِ الْقَدَر ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ . وَيَجْعَل عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير " وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْر لِأَنْفُسِهِمْ " . قَالَ : وَرَأَيْت فِي مُصْحَف فِي الْمَسْجِد الْجَامِع قَدْ زَادُوا فِيهِ حَرْفًا فَصَارَ " إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ إِيمَانًا " فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَعْقُوب الْقَارِئ فَتَبَيَّنَ اللَّحْن فَحَكَّهُ . وَالْآيَة نَصّ فِي بُطْلَان مَذْهَب الْقَدَرِيَّة ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُطِيل أَعْمَارهمْ لِيَزْدَادُوا الْكُفْر بِعَمَلِ الْمَعَاصِي , وَتَوَالِي أَمْثَاله عَلَى الْقَلْب . كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي ضِدّه وَهُوَ الْإِيمَان . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا مِنْ بَرّ وَلَا فَاجِر إِلَّا وَالْمَوْت خَيْر لَهُ ثُمَّ تَلَا " إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا لَهُمْ إِثْمًا " وَتَلَا " وَمَا عِنْد اللَّه خَيْر لِلْأَبْرَارِ " أَخْرَجَهُ رَزِين .
مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ↓
قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُعْطَوْا عَلَامَة يُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْن الْمُؤْمِن وَالْمُنَافِق ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَة . وَاخْتَلَفُوا مَنْ الْمُخَاطَب بِالْآيَةِ عَلَى أَقْوَال . فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : الْخِطَاب لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر وَالنِّفَاق وَعَدَاوَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّ قُرَيْشًا مِنْ أَهْل مَكَّة قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الرَّجُل مِنَّا تَزْعُم أَنَّهُ فِي النَّار , وَأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ دِيننَا وَاتَّبَعَ دِينك قُلْت هُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة ! فَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذَا مِنْ أَيْنَ هُوَ ؟ وَأَخْبِرْنَا مَنْ يَأْتِيك مِنَّا ؟ وَمَنْ لَمْ يَأْتِك ؟ . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ " مِنْ الْكُفْر وَالنِّفَاق .
وَقِيلَ : هُوَ خِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ . وَالْمُرَاد بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله : " لِيَذَر الْمُؤْمِنِينَ " مَنْ فِي الْأَصْلَاب وَالْأَرْحَام مِمَّنْ يُؤْمِن . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر أَوْلَادكُمْ الَّذِينَ حَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك , حَتَّى يُفَرِّق بَيْنكُمْ وَبَيْنهمْ ; وَعَلَى هَذَا " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ " كَلَام مُسْتَأْنَف . وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ . أَيْ وَمَا كَانَ اللَّه لِيَذَركُمْ يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ اِخْتِلَاط الْمُؤْمِن بِالْمُنَافِقِ , حَتَّى يُمَيِّز بَيْنكُمْ بِالْمِحْنَةِ وَالتَّكْلِيف ; فَتَعْرِفُوا الْمُنَافِق الْخَبِيث , وَالْمُؤْمِن الطَّيِّب . وَقَدْ مَيَّزَ يَوْم أُحُد بَيْن الْفَرِيقَيْنِ . وَهَذَا قَوْل أَكْثَر أَهْل الْمَعَانِي .
يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنِينَ . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيُعَيِّن لَكُمْ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى تَعْرِفُوهُمْ , وَلَكِنْ يَظْهَر ذَلِكَ لَكُمْ بِالتَّكْلِيفِ وَالْمِحْنَة , وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي يَوْم أُحُد ; فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا وَأَظْهَرُوا الشَّمَاتَة , فَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ هَذَا الْغَيْب قَبْل هَذَا , فَالْآن قَدْ أَطْلَعَ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام وَصَحْبه عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ : مَعْنَى " لِيُطْلِعكُمْ " أَيْ وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْلِمكُمْ مَا يَكُون مِنْهُمْ . فَقَوْله : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعكُمْ عَلَى الْغَيْب " عَلَى هَذَا مُتَّصِل , وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ مُنْقَطِع . وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّار لَمَّا قَالُوا : لِمَ لَمْ يُوحَ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْب " أَيْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقّ النُّبُوَّة , حَتَّى يَكُون الْوَحْي بِاخْتِيَارِكُمْ .
أَيْ يَخْتَار .
لِإِطْلَاعِ غَيْبه يُقَال : طَلَعْت عَلَى كَذَا وَاطَّلَعْت عَلَيْهِ , وَأَطْلَعْت عَلَيْهِ غَيْرِي ; فَهُوَ لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَقُرِئَ " حَتَّى يُمَيِّز " بِالتَّشْدِيدِ مِنْ مَيَّزَ , وَكَذَا فِي " الْأَنْفَال " وَهِيَ قِرَاءَة حَمْزَة . وَالْبَاقُونَ " يَمِيز " بِالتَّخْفِيفِ مِنْ مَازَ يَمِيز . يُقَال : مِزْت الشَّيْء بَعْضه مِنْ بَعْض أَمِيزُهُ مَيْزًا , وَمَيَّزْتُهُ تَمْيِيزًا . قَالَ أَبُو مُعَاذ : مِزْت الشَّيْء أَمِيزُهُ مَيْزًا إِذَا فَرَّقَتْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ . فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاء قُلْت : مَيَّزْتُهَا تَمْيِيزًا . وَمِثْله إِذَا جَعَلَتْ الْوَاحِد شَيْئَيْنِ قُلْت : فَرَّقَتْ بَيْنهمَا , مُخَفَّفًا ; وَمِنْهُ فَرَّقَ الشَّعْر . فَإِنْ جَعَلْتَهُ أَشْيَاء قُلْت : فَرَّقْتُهُ تَفْرِيقًا . قُلْت : وَمِنْهُ اِمْتَازَ الْقَوْم , تَمَيَّزَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض . وَيَكَاد يَتَمَيَّز : يَتَقَطَّع ; وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى : " تَكَاد تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظ " [ الْمُلْك : 8 ] وَفِي الْخَبَر ( مَنْ مَازَ أَذًى عَنْ الطَّرِيق فَهُوَ لَهُ صَدَقَة ) .
يُقَال : إِنَّ الْكُفَّار لَمَّا سَأَلُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّن لَهُمْ مَنْ يُؤْمِن مِنْهُمْ , فَأَنْزَلَ اللَّه " فَآمِنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُله " يَعْنِي لَا تَشْتَغِلُوا بِمَا لَا يَعْنِيكُمْ , وَاشْتَغِلُوا بِمَا يَعْنِيكُمْ وَهُوَ الْإِيمَان . " فَآمِنُوا " أَيْ صَدِّقُوا , أَيْ عَلَيْكُمْ التَّصْدِيق لَا التَّشَوُّف إِلَى اِطِّلَاع الْغَيْب .
أَيْ الْجَنَّة . وَيُذْكَر أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْد الْحَجَّاج بْن يُوسُف الثَّقَفِيّ مُنَجِّمًا ; فَأَخَذَ الْحَجَّاج حَصَيَات بِيَدِهِ قَدْ عَرَفَ عَدَدهَا فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ : كَمْ فِي يَدِي ؟ فَحَسَبَ فَأَصَابَ الْمُنَجِّم . فَأَغْفَلَهُ الْحَجَّاج وَأَخَذَ حَصَيَات لَمْ يَعُدَّهُنَّ فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ : كَمْ فِي يَدِي ؟ فَحَسَبَ فَأَخْطَأَ , ثُمَّ حَسَبَ أَيْضًا فَأَخْطَأَ ; فَقَالَ : أَيّهَا الْأَمِير , أَظُنُّكَ لَا تَعْرِف عَدَد مَا فِي يَدك ؟ قَالَ لَا : قَالَ : فَمَا الْفَرْق بَيْنهمَا ؟ فَقَالَ : إِنَّ ذَاكَ أَحْصَيْته فَخَرَجَ عَنْ حَدّ الْغَيْب , فَحَسَبْت فَأَصَبْت , وَإِنَّ هَذَا لَمْ تَعْرِفْ عَدَدَهَا فَصَارَ غَيْبًا , وَلَا يَعْلَم الْغَيْب إِلَّا اللَّه تَعَالَى . وَسَيَأْتِي هَذَا الْبَاب فِي " الْأَنْعَام " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَقِيلَ : هُوَ خِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ . وَالْمُرَاد بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله : " لِيَذَر الْمُؤْمِنِينَ " مَنْ فِي الْأَصْلَاب وَالْأَرْحَام مِمَّنْ يُؤْمِن . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر أَوْلَادكُمْ الَّذِينَ حَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك , حَتَّى يُفَرِّق بَيْنكُمْ وَبَيْنهمْ ; وَعَلَى هَذَا " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ " كَلَام مُسْتَأْنَف . وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ . أَيْ وَمَا كَانَ اللَّه لِيَذَركُمْ يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ اِخْتِلَاط الْمُؤْمِن بِالْمُنَافِقِ , حَتَّى يُمَيِّز بَيْنكُمْ بِالْمِحْنَةِ وَالتَّكْلِيف ; فَتَعْرِفُوا الْمُنَافِق الْخَبِيث , وَالْمُؤْمِن الطَّيِّب . وَقَدْ مَيَّزَ يَوْم أُحُد بَيْن الْفَرِيقَيْنِ . وَهَذَا قَوْل أَكْثَر أَهْل الْمَعَانِي .
يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنِينَ . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيُعَيِّن لَكُمْ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى تَعْرِفُوهُمْ , وَلَكِنْ يَظْهَر ذَلِكَ لَكُمْ بِالتَّكْلِيفِ وَالْمِحْنَة , وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي يَوْم أُحُد ; فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا وَأَظْهَرُوا الشَّمَاتَة , فَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ هَذَا الْغَيْب قَبْل هَذَا , فَالْآن قَدْ أَطْلَعَ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام وَصَحْبه عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ : مَعْنَى " لِيُطْلِعكُمْ " أَيْ وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْلِمكُمْ مَا يَكُون مِنْهُمْ . فَقَوْله : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعكُمْ عَلَى الْغَيْب " عَلَى هَذَا مُتَّصِل , وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ مُنْقَطِع . وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّار لَمَّا قَالُوا : لِمَ لَمْ يُوحَ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْب " أَيْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقّ النُّبُوَّة , حَتَّى يَكُون الْوَحْي بِاخْتِيَارِكُمْ .
أَيْ يَخْتَار .
لِإِطْلَاعِ غَيْبه يُقَال : طَلَعْت عَلَى كَذَا وَاطَّلَعْت عَلَيْهِ , وَأَطْلَعْت عَلَيْهِ غَيْرِي ; فَهُوَ لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَقُرِئَ " حَتَّى يُمَيِّز " بِالتَّشْدِيدِ مِنْ مَيَّزَ , وَكَذَا فِي " الْأَنْفَال " وَهِيَ قِرَاءَة حَمْزَة . وَالْبَاقُونَ " يَمِيز " بِالتَّخْفِيفِ مِنْ مَازَ يَمِيز . يُقَال : مِزْت الشَّيْء بَعْضه مِنْ بَعْض أَمِيزُهُ مَيْزًا , وَمَيَّزْتُهُ تَمْيِيزًا . قَالَ أَبُو مُعَاذ : مِزْت الشَّيْء أَمِيزُهُ مَيْزًا إِذَا فَرَّقَتْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ . فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاء قُلْت : مَيَّزْتُهَا تَمْيِيزًا . وَمِثْله إِذَا جَعَلَتْ الْوَاحِد شَيْئَيْنِ قُلْت : فَرَّقَتْ بَيْنهمَا , مُخَفَّفًا ; وَمِنْهُ فَرَّقَ الشَّعْر . فَإِنْ جَعَلْتَهُ أَشْيَاء قُلْت : فَرَّقْتُهُ تَفْرِيقًا . قُلْت : وَمِنْهُ اِمْتَازَ الْقَوْم , تَمَيَّزَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض . وَيَكَاد يَتَمَيَّز : يَتَقَطَّع ; وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى : " تَكَاد تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظ " [ الْمُلْك : 8 ] وَفِي الْخَبَر ( مَنْ مَازَ أَذًى عَنْ الطَّرِيق فَهُوَ لَهُ صَدَقَة ) .
يُقَال : إِنَّ الْكُفَّار لَمَّا سَأَلُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّن لَهُمْ مَنْ يُؤْمِن مِنْهُمْ , فَأَنْزَلَ اللَّه " فَآمِنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُله " يَعْنِي لَا تَشْتَغِلُوا بِمَا لَا يَعْنِيكُمْ , وَاشْتَغِلُوا بِمَا يَعْنِيكُمْ وَهُوَ الْإِيمَان . " فَآمِنُوا " أَيْ صَدِّقُوا , أَيْ عَلَيْكُمْ التَّصْدِيق لَا التَّشَوُّف إِلَى اِطِّلَاع الْغَيْب .
أَيْ الْجَنَّة . وَيُذْكَر أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْد الْحَجَّاج بْن يُوسُف الثَّقَفِيّ مُنَجِّمًا ; فَأَخَذَ الْحَجَّاج حَصَيَات بِيَدِهِ قَدْ عَرَفَ عَدَدهَا فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ : كَمْ فِي يَدِي ؟ فَحَسَبَ فَأَصَابَ الْمُنَجِّم . فَأَغْفَلَهُ الْحَجَّاج وَأَخَذَ حَصَيَات لَمْ يَعُدَّهُنَّ فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ : كَمْ فِي يَدِي ؟ فَحَسَبَ فَأَخْطَأَ , ثُمَّ حَسَبَ أَيْضًا فَأَخْطَأَ ; فَقَالَ : أَيّهَا الْأَمِير , أَظُنُّكَ لَا تَعْرِف عَدَد مَا فِي يَدك ؟ قَالَ لَا : قَالَ : فَمَا الْفَرْق بَيْنهمَا ؟ فَقَالَ : إِنَّ ذَاكَ أَحْصَيْته فَخَرَجَ عَنْ حَدّ الْغَيْب , فَحَسَبْت فَأَصَبْت , وَإِنَّ هَذَا لَمْ تَعْرِفْ عَدَدَهَا فَصَارَ غَيْبًا , وَلَا يَعْلَم الْغَيْب إِلَّا اللَّه تَعَالَى . وَسَيَأْتِي هَذَا الْبَاب فِي " الْأَنْعَام " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ↓
آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ " قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ " الَّذِينَ " فِي مَوْضِع رَفْع , وَالْمَفْعُول الْأَوَّل مَحْذُوف . قَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاء الْمَعْنَى الْبُخْل خَيْرًا لَهُمْ , أَيْ لَا يَحَسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ . وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَى الْبُخْل ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ : مَنْ صَدَقَ كَانَ خَيْرًا لَهُ . أَيْ كَانَ لَهُ الصِّدْق خَيْرًا لَهُ . وَمِنْ هَذَا قَوْل الشَّاعِر : إِذَا نُهِيَ السَّفِيه جَرَى إِلَيْهِ وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ فَالْمَعْنَى : جَرَى : إِلَى السَّفَه ; فَالسَّفِيه دَلَّ عَلَى السَّفَه . وَأَمَّا قِرَاءَة حَمْزَة بِالتَّاءِ فَبَعِيدَة جِدًّا ; قَالَهُ النَّحَّاس . وَجَوَازهَا أَنْ يَكُون التَّقْدِير : لَا تَحْسَبَنَّ بُخْل الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ . قَالَ الزَّجَّاج : وَهِيَ مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " . و " هُوَ " فِي قَوْله " هُوَ خَيْرًا لَهُمْ " فَاصِلَةٌ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ . وَهِيَ الْعِمَاد عِنْد الْكُوفِيِّينَ . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة " هُوَ خَيْر لَهُمْ " اِبْتِدَاء وَخَبَر .
قَوْله تَعَالَى : " بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ " اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ الْبُخْل شَرّ لَهُمْ . وَالسِّين فِي " سَيُطَوَّقُونَ " سِين الْوَعِيد , أَيْ سَوْفَ يُطَوَّقُونَ ; قَالَهُ الْمُبَرِّد . وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْبُخْل بِالْمَالِ وَالْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه , وَأَدَاء الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة . وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ : " وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّه " [ التَّوْبَة : 34 ] الْآيَة . ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَة مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ , مِنْهُمْ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأَبُو وَائِل وَأَبُو مَالِك وَالسُّدِّيّ وَالشَّعْبِيّ قَالُوا : وَمَعْنَى " سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ " هُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ آتَاهُ اللَّه مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاته مُثِّلَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاعًا أَقْرَع لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقهُ يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ يَأْخُذ بِلِهْزِمَتَيْهِ ثُمَّ يَقُول أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة - " وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ " الْآيَة ) . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ . وَخَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ اِبْن مَسْعُود عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ أَحَد لَا يُؤَدِّي زَكَاة مَاله إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاع أَقْرَع حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ فِي عُنُقه ) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقه مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى : " وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله " الْآيَة . وَجَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا مِنْ ذِي رَحِم يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ فَيَسْأَلهُ مِنْ فَضْل مَا عِنْده فَيَبْخَل بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاع مِنْ النَّار يَتَلَمَّظ حَتَّى يُطَوِّقَهُ ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب وَبُخْلهمْ بِبَيَانِ مَا عَلِمُوهُ مِنْ أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ ذَلِكَ مُجَاهِد وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم . وَمَعْنَى " سَيُطَوَّقُونَ " عَلَى هَذَا التَّأْوِيل سَيَحْمِلُونَ عِقَاب مَا بَخِلُوا بِهِ ; فَهُوَ مِنْ الطَّاقَة كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ " [ الْبَقَرَة : 184 ] وَلَيْسَ مِنْ التَّطْوِيق .
قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : مَعْنَى " سَيُطَوَّقُونَ " سَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة طَوْق مِنْ النَّار . وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيل الْأَوَّل أَيْ قَوْل السُّدِّيّ . وَقِيلَ : يُلْزَمُونَ أَعْمَالهمْ كَمَا يَلْزَم الطَّوْق الْعُنُق ; يُقَال : طُوِّقَ فُلَانٌ عَمَلَهُ طَوْق الْحَمَامَة , أَيْ أُلْزِمَ عَمَله . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : " وَكُلّ إِنْسَان أَلْزَمْنَاهُ طَائِره فِي عُنُقه " [ الْإِسْرَاء : 13 ] . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل عَبْد اللَّه بْن جَحْش لِأَبِي سُفْيَان : أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَان عَنْ أَمْر عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ دَارَ اِبْن عمِّكَ بِعْتَهَا تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ وَحَلِيفُكُمْ بِاَللَّهِ رَبّ النَّاسِ مُجْتَهِد الْقَسَامَهْ اِذْهَبْ بِهَا اِذْهَبْ بِهَا طُوِّقْتَهَا طَوْق الْحَمَامَهْ وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيل الثَّانِي . وَالْبُخْل وَالْبَخَل فِي اللُّغَة أَنْ يَمْنَع الْإِنْسَال الْحَقّ الْوَاجِب عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مَا لَا يَجِب عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُذَمّ بِذَلِكَ . وَأَهْل الْحِجَاز يَقُولُونَ : يَبْخُلُونَ وَقَدْ بَخُلُوا . وَسَائِر الْعَرَب يَقُولُونَ : بَخِلُوا يَبْخَلُونَ ; حَكَاهُ النَّحَّاس . وَبَخِلَ يَبْخَل بُخْلًا وَبَخَلًا ; عَنْ اِبْن فَارِس .
فِي ثَمَرَة الْبُخْل وَفَائِدَته . وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ : ( مَنْ سَيِّدكُمْ ؟ ) قَالُوا الْجَدّ بْن قَيْس عَلَى بُخْل فِيهِ . فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَأَيّ دَاء أَدْوَى مِنْ الْبُخْل ) قَالُوا : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( إِنَّ قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ الْبَحْر فَكَرِهُوا لِبُخْلِهِمْ نُزُول الْأَضْيَاف بِهِمْ فَقَالُوا : لِيَبْعُد الرِّجَال مِنَّا عَنْ النِّسَاء حَتَّى يَعْتَذِر الرِّجَال إِلَى الْأَضْيَاف بِبُعْدِ النِّسَاء ; وَتَعْتَذِر النِّسَاء بِبُعْدِ الرِّجَال ; فَفَعَلُوا وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ فَاشْتَغَلَ الرِّجَال بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَاب " أَدَب الدُّنْيَا وَالدِّين " . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَاخْتُلِفَ فِي الْبُخْل وَالشُّحّ ; هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ . فَقِيلَ : الْبُخْل الِامْتِنَاع مِنْ إِخْرَاج مَا حَصَلَ عِنْدك . وَالشُّحّ : الْحِرْص عَلَى تَحْصِيل مَا لَيْسَ عِنْدك . وَقِيلَ : إِنَّ الشُّحّ هُوَ الْبُخْل مَعَ حِرْص . وَهُوَ الصَّحِيح لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اِتَّقُوا الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْم ظُلُمَات يَوْم الْقِيَامَة وَاتَّقُوا الشُّحّ فَإِنَّ الشُّحّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمهمْ ) . وَهَذَا يَرُدّ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْبُخْل مَنْع الْوَاجِب , وَالشُّحّ مَنْع الْمُسْتَحَبّ . إِذْ لَوْ كَانَ الشُّحّ مَنْع الْمُسْتَحَبّ لَمَا دَخَلَ تَحْت هَذَا الْوَعِيد الْعَظِيم , وَالذَّمّ الشَّدِيد الَّذِي فِيهِ هَلَاك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . وَيُؤَيِّد هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا يَجْتَمِع غُبَار فِي سَبِيل اللَّه وَدُخَان جَهَنَّم فِي مَنْخِرَيْ رَجُل مُسْلِم أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِع شُحّ وَإِيمَان فِي قَلْب رَجُل مُسْلِم أَبَدًا ) . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الشُّحّ أَشَدّ فِي الذَّمّ مِنْ الْبُخْل ; إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مَا يَدُلّ عَلَى مُسَاوَاتهمَا وَهُوَ قَوْله - وَقَدْ سُئِلَ ; أَيَكُونُ الْمُؤْمِن بَخِيلًا ؟ قَالَ : ( لَا ) وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَاب " أَدَب الدُّنْيَا وَالدِّين " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ : ( مَنْ سَيِّدكُمْ ) قَالُوا : الْجَدّ بْن قَيْس عَلَى بُخْل فِيهِ ; الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَخْبَرَ تَعَالَى بِبَقَائِهِ وَدَوَام مُلْكه .
وَأَنَّهُ فِي الْأَبَد كَهُوَ فِي الْأَزَل غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ , فَيَرِث الْأَرْض بَعْد فِنَاء خَلْقه وَزَوَال أَمْلَاكهمْ ; فَتَبْقَى الْأَمْلَاك وَالْأَمْوَال لَا مُدَّعَى فِيهَا . فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الْوِرَاثَة فِي عَادَة الْخَلْق , وَلَيْسَ هَذَا بِمِيرَاثٍ فِي الْحَقِيقَة ; لِأَنَّ الْوَارِث فِي الْحَقِيقَة هُوَ الَّذِي يَرِث شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مَلَكَهُ مِنْ قَبْل , وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مَالِك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنهمَا , وَكَانَتْ السَّمَوَات وَمَا فِيهَا , وَالْأَرْض وَمَا فِيهَا لَهُ , وَإِنَّ الْأَمْوَال كَانَتْ عَارِيَة عِنْد أَرْبَابهَا ; فَإِذَا مَاتُوا رُدَّتْ الْعَارِيَة إِلَى صَاحِبهَا الَّذِي كَانَتْ لَهُ فِي الْأَصْل . وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى : " إِنَّا نَحْنُ نَرِث الْأَرْض وَمَنْ عَلَيْهَا " [ مَرْيَم : 40 ] الْآيَة . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ عِبَاده بِأَنْ يُنْفِقُوا وَلَا يَبْخَلُوا قَبْل أَنْ يَمُوتُوا وَيَتْرُكُوا ذَلِكَ مِيرَاثًا لِلَّهِ تَعَالَى , وَلَا يَنْفَعهُمْ إِلَّا مَا أَنْفَقُوا .
قَوْله تَعَالَى : " بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ " اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ الْبُخْل شَرّ لَهُمْ . وَالسِّين فِي " سَيُطَوَّقُونَ " سِين الْوَعِيد , أَيْ سَوْفَ يُطَوَّقُونَ ; قَالَهُ الْمُبَرِّد . وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْبُخْل بِالْمَالِ وَالْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه , وَأَدَاء الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة . وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ : " وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّه " [ التَّوْبَة : 34 ] الْآيَة . ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَة مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ , مِنْهُمْ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأَبُو وَائِل وَأَبُو مَالِك وَالسُّدِّيّ وَالشَّعْبِيّ قَالُوا : وَمَعْنَى " سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ " هُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ آتَاهُ اللَّه مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاته مُثِّلَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاعًا أَقْرَع لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقهُ يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ يَأْخُذ بِلِهْزِمَتَيْهِ ثُمَّ يَقُول أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة - " وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ " الْآيَة ) . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ . وَخَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ اِبْن مَسْعُود عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ أَحَد لَا يُؤَدِّي زَكَاة مَاله إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاع أَقْرَع حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ فِي عُنُقه ) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقه مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى : " وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله " الْآيَة . وَجَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا مِنْ ذِي رَحِم يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ فَيَسْأَلهُ مِنْ فَضْل مَا عِنْده فَيَبْخَل بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاع مِنْ النَّار يَتَلَمَّظ حَتَّى يُطَوِّقَهُ ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب وَبُخْلهمْ بِبَيَانِ مَا عَلِمُوهُ مِنْ أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ ذَلِكَ مُجَاهِد وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم . وَمَعْنَى " سَيُطَوَّقُونَ " عَلَى هَذَا التَّأْوِيل سَيَحْمِلُونَ عِقَاب مَا بَخِلُوا بِهِ ; فَهُوَ مِنْ الطَّاقَة كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ " [ الْبَقَرَة : 184 ] وَلَيْسَ مِنْ التَّطْوِيق .
قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : مَعْنَى " سَيُطَوَّقُونَ " سَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة طَوْق مِنْ النَّار . وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيل الْأَوَّل أَيْ قَوْل السُّدِّيّ . وَقِيلَ : يُلْزَمُونَ أَعْمَالهمْ كَمَا يَلْزَم الطَّوْق الْعُنُق ; يُقَال : طُوِّقَ فُلَانٌ عَمَلَهُ طَوْق الْحَمَامَة , أَيْ أُلْزِمَ عَمَله . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : " وَكُلّ إِنْسَان أَلْزَمْنَاهُ طَائِره فِي عُنُقه " [ الْإِسْرَاء : 13 ] . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل عَبْد اللَّه بْن جَحْش لِأَبِي سُفْيَان : أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَان عَنْ أَمْر عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ دَارَ اِبْن عمِّكَ بِعْتَهَا تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ وَحَلِيفُكُمْ بِاَللَّهِ رَبّ النَّاسِ مُجْتَهِد الْقَسَامَهْ اِذْهَبْ بِهَا اِذْهَبْ بِهَا طُوِّقْتَهَا طَوْق الْحَمَامَهْ وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيل الثَّانِي . وَالْبُخْل وَالْبَخَل فِي اللُّغَة أَنْ يَمْنَع الْإِنْسَال الْحَقّ الْوَاجِب عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مَا لَا يَجِب عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُذَمّ بِذَلِكَ . وَأَهْل الْحِجَاز يَقُولُونَ : يَبْخُلُونَ وَقَدْ بَخُلُوا . وَسَائِر الْعَرَب يَقُولُونَ : بَخِلُوا يَبْخَلُونَ ; حَكَاهُ النَّحَّاس . وَبَخِلَ يَبْخَل بُخْلًا وَبَخَلًا ; عَنْ اِبْن فَارِس .
فِي ثَمَرَة الْبُخْل وَفَائِدَته . وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ : ( مَنْ سَيِّدكُمْ ؟ ) قَالُوا الْجَدّ بْن قَيْس عَلَى بُخْل فِيهِ . فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَأَيّ دَاء أَدْوَى مِنْ الْبُخْل ) قَالُوا : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( إِنَّ قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ الْبَحْر فَكَرِهُوا لِبُخْلِهِمْ نُزُول الْأَضْيَاف بِهِمْ فَقَالُوا : لِيَبْعُد الرِّجَال مِنَّا عَنْ النِّسَاء حَتَّى يَعْتَذِر الرِّجَال إِلَى الْأَضْيَاف بِبُعْدِ النِّسَاء ; وَتَعْتَذِر النِّسَاء بِبُعْدِ الرِّجَال ; فَفَعَلُوا وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ فَاشْتَغَلَ الرِّجَال بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَاب " أَدَب الدُّنْيَا وَالدِّين " . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَاخْتُلِفَ فِي الْبُخْل وَالشُّحّ ; هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ . فَقِيلَ : الْبُخْل الِامْتِنَاع مِنْ إِخْرَاج مَا حَصَلَ عِنْدك . وَالشُّحّ : الْحِرْص عَلَى تَحْصِيل مَا لَيْسَ عِنْدك . وَقِيلَ : إِنَّ الشُّحّ هُوَ الْبُخْل مَعَ حِرْص . وَهُوَ الصَّحِيح لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اِتَّقُوا الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْم ظُلُمَات يَوْم الْقِيَامَة وَاتَّقُوا الشُّحّ فَإِنَّ الشُّحّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمهمْ ) . وَهَذَا يَرُدّ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْبُخْل مَنْع الْوَاجِب , وَالشُّحّ مَنْع الْمُسْتَحَبّ . إِذْ لَوْ كَانَ الشُّحّ مَنْع الْمُسْتَحَبّ لَمَا دَخَلَ تَحْت هَذَا الْوَعِيد الْعَظِيم , وَالذَّمّ الشَّدِيد الَّذِي فِيهِ هَلَاك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . وَيُؤَيِّد هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا يَجْتَمِع غُبَار فِي سَبِيل اللَّه وَدُخَان جَهَنَّم فِي مَنْخِرَيْ رَجُل مُسْلِم أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِع شُحّ وَإِيمَان فِي قَلْب رَجُل مُسْلِم أَبَدًا ) . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الشُّحّ أَشَدّ فِي الذَّمّ مِنْ الْبُخْل ; إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مَا يَدُلّ عَلَى مُسَاوَاتهمَا وَهُوَ قَوْله - وَقَدْ سُئِلَ ; أَيَكُونُ الْمُؤْمِن بَخِيلًا ؟ قَالَ : ( لَا ) وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَاب " أَدَب الدُّنْيَا وَالدِّين " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ : ( مَنْ سَيِّدكُمْ ) قَالُوا : الْجَدّ بْن قَيْس عَلَى بُخْل فِيهِ ; الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَخْبَرَ تَعَالَى بِبَقَائِهِ وَدَوَام مُلْكه .
وَأَنَّهُ فِي الْأَبَد كَهُوَ فِي الْأَزَل غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ , فَيَرِث الْأَرْض بَعْد فِنَاء خَلْقه وَزَوَال أَمْلَاكهمْ ; فَتَبْقَى الْأَمْلَاك وَالْأَمْوَال لَا مُدَّعَى فِيهَا . فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الْوِرَاثَة فِي عَادَة الْخَلْق , وَلَيْسَ هَذَا بِمِيرَاثٍ فِي الْحَقِيقَة ; لِأَنَّ الْوَارِث فِي الْحَقِيقَة هُوَ الَّذِي يَرِث شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مَلَكَهُ مِنْ قَبْل , وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مَالِك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنهمَا , وَكَانَتْ السَّمَوَات وَمَا فِيهَا , وَالْأَرْض وَمَا فِيهَا لَهُ , وَإِنَّ الْأَمْوَال كَانَتْ عَارِيَة عِنْد أَرْبَابهَا ; فَإِذَا مَاتُوا رُدَّتْ الْعَارِيَة إِلَى صَاحِبهَا الَّذِي كَانَتْ لَهُ فِي الْأَصْل . وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى : " إِنَّا نَحْنُ نَرِث الْأَرْض وَمَنْ عَلَيْهَا " [ مَرْيَم : 40 ] الْآيَة . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ عِبَاده بِأَنْ يُنْفِقُوا وَلَا يَبْخَلُوا قَبْل أَنْ يَمُوتُوا وَيَتْرُكُوا ذَلِكَ مِيرَاثًا لِلَّهِ تَعَالَى , وَلَا يَنْفَعهُمْ إِلَّا مَا أَنْفَقُوا .