إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ↓
لَمَّا نَهَى تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَة عَنْ آثَام هِيَ كَبَائِر , وَعَدَ عَلَى اِجْتِنَابهَا التَّخْفِيف مِنْ الصَّغَائِر , وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ فِي الذُّنُوب كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ . وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة أَهْل التَّأْوِيل وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء , وَأَنَّ اللَّمْسَة وَالنَّظْرَة تُكَفَّر بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِر قَطْعًا بِوَعْدِهِ الصِّدْق وَقَوْله الْحَقّ , لَا أَنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَنَظِير الْكَلَام فِي هَذَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي قَبُول التَّوْبَة فِي قَوْله تَعَالَى : " إِنَّمَا التَّوْبَة عَلَى اللَّه " [ النِّسَاء : 17 ] , فَاَللَّه تَعَالَى يَغْفِر الصَّغَائِر بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِر , لَكِنْ بِضَمِيمَةٍ أُخْرَى إِلَى الِاجْتِنَاب وَهِيَ إِقَامَة الْفَرَائِض . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الصَّلَوَات الْخَمْس وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة وَرَمَضَان إِلَى رَمَضَان مُكَفِّرَات مَا بَيْنهنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِر ) . وَرَوَى أَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ فِي صَحِيح مُسْنَده عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَر ثُمَّ قَالَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ) ثَلَاث مَرَّات , ثُمَّ سَكَتَ فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُل مِنَّا يَبْكِي حَزِينًا لِيَمِينِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : ( مَا مِنْ عَبْد يُؤَدِّي الصَّلَوَات الْخَمْس وَيَصُوم رَمَضَان وَيَجْتَنِب الْكَبَائِر السَّبْع إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَة أَبْوَاب مِنْ الْجَنَّة يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى إِنَّهَا لَتَصْفِق ) ثُمَّ تَلَا " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ " . فَقَدْ تَعَاضَدَ الْكِتَاب وَصَحِيح السُّنَّة بِتَكْفِيرِ الصَّغَائِر قَطْعًا كَالنَّظَرِ وَشَبَهِهِ . وَبَيَّنَتْ السُّنَّة أَنَّ الْمُرَاد بِ " تَجْتَنِبُوا " لَيْسَ كُلّ الِاجْتِنَاب لِجَمِيعِ الْكَبَائِر . وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ فَقَالُوا : لَا يَجِب عَلَى الْقَطْع تَكْفِير الصَّغَائِر بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِر , وَإِنَّمَا مَحْمَل ذَلِكَ عَلَى غَلَبَة الظَّنّ وَقُوَّة الرَّجَاء وَالْمَشِيئَة ثَابِتَة . وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَطَعْنَا لِمُجْتَنِبِ الْكَبَائِر وَمُمْتَثِل الْفَرَائِض تَكْفِير صَغَائِره قَطْعًا لَكَانَتْ لَهُ فِي حُكْم الْمُبَاح الَّذِي يُقْطَع بِأَلَّا تَبَاعَةَ فِيهِ , وَذَلِكَ نَقْضٌ لِعُرَى الشَّرِيعَة . وَلَا صَغِيرَة عِنْدَنَا . قَالَ الْقُشَيْرِيّ عَبْد الرَّحِيم : وَالصَّحِيح أَنَّهَا كَبَائِر وَلَكِنَّ بَعْضَهَا أَعْظَم وَقْعًا مِنْ بَعْض , وَالْحِكْمَة فِي عَدَم التَّمْيِيز أَنْ يَجْتَنِب الْعَبْد جَمِيع الْمَعَاصِي .
قُلْت : وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى نَفْس الْمُخَالَفَة كَمَا قَالَ بَعْضهمْ : - لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَر الذَّنْب وَلَكِنْ اُنْظُرْ مَنْ عَصَيْت - كَانَتْ الذُّنُوب بِهَذِهِ النِّسْبَة كُلّهَا كَبَائِر , وَعَلَى هَذَا النَّحْو يُخَرَّج كَلَام الْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الطَّيِّب وَالْأُسْتَاذ أَبِي إِسْحَاق الْإِسْفِرايِينِيّ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي نَصْر عَبْد الرَّحِيم الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرهمْ ; قَالُوا : وَإِنَّمَا يُقَال لِبَعْضِهَا صَغِيرَة بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَر مِنْهَا , كَمَا يُقَال الزِّنَى صَغِيرَة بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْكُفْر , وَالْقُبْلَة الْمُحَرَّمَة صَغِيرَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَى , وَلَا ذَنْب عِنْدَنَا يُغْفَر بِاجْتِنَابِ ذَنْب آخَر , بَلْ كُلّ ذَلِكَ كَبِيرَة وَمُرْتَكِبه فِي الْمَشِيئَة غَيْر الْكُفْر , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ " [ النِّسَاء : 48 ] وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبِير مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ " عَلَى التَّوْحِيد ; وَكَبِير الْإِثْم الشِّرْك . قَالُوا : وَعَلَى الْجَمْع فَالْمُرَاد أَجْنَاس الْكُفْر . وَالْآيَة الَّتِي قَيَّدَتْ الْحُكْم فَتُرَدّ إِلَيْهَا هَذِهِ الْمُطْلَقَات كُلّهَا قَوْله تَعَالَى : " وَيَغْفِرُ مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِم وَغَيْره عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِقْتَطَعَ حَقّ اِمْرِئٍ مُسْلِم بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه لَهُ النَّار وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّة ) فَقَالَ لَهُ رَجُل : يَا رَسُول اللَّه , وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا ؟ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك ) . فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيد الشَّدِيد عَلَى الْيَسِير كَمَا جَاءَ عَلَى الْكَثِير . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْكَبِيرَة كُلّ ذَنْب خَتَمَهُ اللَّه بِنَارٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَة أَوْ عَذَاب . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : الْكَبَائِر مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَة إِلَى ثَلَاث وَثَلَاثِينَ آيَة ; وَتَصْدِيقه قَوْله تَعَالَى : " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ " . وَقَالَ طَاوُس : قِيلَ لِابْنِ عَبَّاس الْكَبَائِر سَبْع ؟ قَالَ : هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَب . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قَالَ رَجُل لِابْنِ عَبَّاس الْكَبَائِر سَبْع ؟ قَالَ : هِيَ إِلَى السَّبْعمِائَةِ أَقْرَب مِنْهَا إِلَى السَّبْع ; غَيْر أَنَّهُ لَا كَبِيرَة مَعَ اِسْتِغْفَار وَلَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : الْكَبَائِر أَرْبَعَة : الْيَأْس مِنْ رَوْح اللَّه , وَالْقُنُوط مِنْ رَحْمَة اللَّه , وَالْأَمْن مِنْ مَكْر اللَّه , وَالشِّرْك بِاَللَّهِ ; دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآن . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر : هِيَ تِسْع : قَتْل النَّفْس , وَأَكْل الرِّبَا , وَأَكْل مَال الْيَتِيم , وَرَمْي الْمُحْصَنَة , وَشَهَادَة الزُّور , وَعُقُوق الْوَالِدَيْنِ , وَالْفِرَار مِنْ الزَّحْف , وَالسِّحْر , وَالْإِلْحَاد فِي الْبَيْت الْحَرَام . وَمِنْ الْكَبَائِر عِنْد الْعُلَمَاء : الْقِمَار وَالسَّرِقَة وَشُرْب الْخَمْر وَسَبّ السَّلَف الصَّالِح وَعُدُول الْحُكَّام عَنْ الْحَقّ وَاتِّبَاع الْهَوَى وَالْيَمِين الْفَاجِرَة وَالْقُنُوط مِنْ رَحْمَة اللَّه وَسَبّ الْإِنْسَان أَبَوَيْهِ - بِأَنْ يَسُبَّ رَجُلًا فَيَسُبّ ذَلِكَ الرَّجُل أَبَوَيْهِ - وَالسَّعْي فِي الْأَرْض فَسَادًا - ; إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُر تَعْدَادُهُ حَسْب مَا جَاءَ بَيَانُهَا فِي الْقُرْآن , وَفِي أَحَادِيث خَرَّجَهَا الْأَئِمَّة , وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي كِتَاب الْإِيمَان مِنْهَا جُمْلَة وَافِرَة . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي تَعْدَادِهَا وَحَصْرهَا لِاخْتِلَافِ الْآثَار فِيهَا ; وَاَلَّذِي أَقُول : إِنَّهُ قَدْ جَاءَتْ فِيهَا أَحَادِيث كَثِيرَة صِحَاح وَحِسَان لَمْ يُقْصَد بِهَا الْحَصْر , وَلَكِنَّ بَعْضهَا أَكْبَر مِنْ بَعْض بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَكْثُر ضَرَره , فَالشِّرْك أَكْبَر ذَلِكَ كُلّه , وَهُوَ الَّذِي لَا يُغْفَر لِنَصِّ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ , وَبَعْده الْيَأْس مِنْ رَحْمَة اللَّه ; لِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبَ الْقُرْآن ; إِذْ يَقُول وَقَوْله الْحَقّ : " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْء " [ الْأَعْرَاف : 156 ] وَهُوَ يَقُول : لَا يُغْفَرُ لَهُ ; فَقَدْ حَجَّرَ وَاسِعًا . هَذَا إِذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّهُ لَا يَيْأَس مِنْ رَوْح اللَّه إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ " [ يُوسُف : 87 ] . وَبَعْده الْقُنُوط ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَنْ يَقْنَط مِنْ رَحْمَة رَبّه إِلَّا الضَّالُّونَ " [ الْحِجْر : 56 ] . وَبَعْده الْأَمْن مِنْ مَكْر اللَّه فَيَسْتَرْسِل فِي الْمَعَاصِي وَيَتَّكِل عَلَى رَحْمَة اللَّه مِنْ غَيْر عَمَل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَفَأَمِنُوا مَكْر اللَّه فَلَا يَأْمَن مَكْر اللَّه إِلَّا الْقَوْم الْخَاسِرُونَ " [ الْأَعْرَاف : 99 ] . وَقَالَ تَعَالَى : " وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ " [ فُصِّلَتْ : 23 ] . وَبَعْده الْقَتْل ; لِأَنَّ فِيهِ إِذْهَاب النُّفُوس وَإِعْدَام الْوُجُود , وَاللِّوَاط فِيهِ قَطْع النَّسْل , وَالزِّنَى فِيهِ اِخْتِلَاط الْأَنْسَاب بِالْمِيَاهِ , وَالْخَمْر فِيهِ ذَهَاب الْعَقْل الَّذِي هُوَ مَنَاط التَّكْلِيف , وَتَرْك الصَّلَاة وَالْأَذَان فِيهِ تَرْك إِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام , وَشَهَادَة الزُّور فِيهَا اِسْتِبَاحَة الدِّمَاء وَالْفُرُوج وَالْأَمْوَال , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَيِّنُ الضَّرَر ; فَكُلّ ذَنْب عَظَّمَ الشَّرْع التَّوَعُّد عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ وَشَدَّدَهُ , أَوْ عَظُمَ ضَرَره فِي الْوُجُود كَمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ كَبِيرَة وَمَا عَدَاهُ صَغِيرَة . فَهَذَا يَرْبِط لَك هَذَا الْبَاب وَيَضْبِطُهُ , وَاَللَّه أَعْلَم .
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَأَكْثَر الْكُوفِيِّينَ " مُدْخَلًا " بِضَمِّ الْمِيم , فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَصْدَرًا , أَيْ إِدْخَالًا , وَالْمَفْعُول مَحْذُوف أَيْ وَنُدْخِلكُمْ الْجَنَّة إِدْخَالًا . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْمَكَان فَيَكُون مَفْعُولًا . وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة بِفَتْحِ الْمِيم , فَيَجُوز أَنْ يَكُون مَصْدَر دَخَلَ وَهُوَ مَنْصُوب بِإِضْمَارِ فِعْل ; التَّقْدِير وَنُدْخِلكُمْ فَتَدْخُلُونَ مُدْخَلًا , وَدَلَّ الْكَلَام عَلَيْهِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِسْم مَكَان فَيَنْتَصِب عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول بِهِ , أَيْ وَنُدْخِلكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا وَهُوَ الْجَنَّة . وَقَالَ أَبُو سَعِيد بْن الْأَعْرَابِيّ : سَمِعْت أَبَا دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيّ يَقُول : سَمِعْت أَبَا عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول : الْمُسْلِمُونَ كُلّهمْ فِي الْجَنَّة ; فَقُلْت لَهُ : وَكَيْفَ ؟ قَالَ : يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " إِنْ تَجْتَبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ , عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا " يَعْنِي الْجَنَّة . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِدَّخَرْت شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِر مِنْ أُمَّتِي ) . فَإِذَا كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِر مَا دُون الْكَبَائِر وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَع فِي الْكَبَائِر فَأَيّ ذَنْب يَبْقَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْكَبَائِر عِنْد أَهْل السُّنَّة تُغْفَرُ لِمَنْ أَقْلَعَ عَنْهَا قَبْل الْمَوْت حَسْب مَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يُغْفَر لِمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " [ النِّسَاء : 48 ] وَالْمُرَاد بِذَلِكَ مَنْ مَاتَ عَلَى الذُّنُوب ; فَلَوْ كَانَ الْمُرَاد مَنْ تَابَ قَبْل الْمَوْت لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِشْرَاك وَغَيْره مَعْنًى ; إِذْ التَّائِب مِنْ الشِّرْك أَيْضًا مَغْفُور لَهُ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : خَمْس آيَات مِنْ سُورَة النِّسَاء هِيَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا جَمِيعًا , قَوْله تَعَالَى : " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ " وَقَوْله " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر " [ النِّسَاء : 48 ] الْآيَة , وَقَوْله تَعَالَى : " وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ " [ النِّسَاء . 110 ] الْآيَة , وَقَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا " [ النِّسَاء : 40 ] , وَقَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُله " [ النِّسَاء : 152 ] . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ثَمَان آيَات فِي سُورَة النِّسَاء , هُنَّ خَيْر لِهَذِهِ الْأُمَّة مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس وَغَرَبَتْ : " يُرِيد اللَّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ " [ النِّسَاء : 26 ] , " وَاَللَّه يُرِيد أَنْ يَتُوب عَلَيْكُمْ " [ النِّسَاء : 27 ] , " يُرِيد اللَّه أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ " [ النِّسَاء : 28 ] , " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ " [ النِّسَاء : 31 ] , الْآيَة , " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ " , " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة " [ النِّسَاء : 40 ] , " وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسه " , " مَا يَفْعَلُ اللَّه بِعَذَابِكُمْ " [ النِّسَاء : 147 ] الْآيَة .
قُلْت : وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى نَفْس الْمُخَالَفَة كَمَا قَالَ بَعْضهمْ : - لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَر الذَّنْب وَلَكِنْ اُنْظُرْ مَنْ عَصَيْت - كَانَتْ الذُّنُوب بِهَذِهِ النِّسْبَة كُلّهَا كَبَائِر , وَعَلَى هَذَا النَّحْو يُخَرَّج كَلَام الْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الطَّيِّب وَالْأُسْتَاذ أَبِي إِسْحَاق الْإِسْفِرايِينِيّ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي نَصْر عَبْد الرَّحِيم الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرهمْ ; قَالُوا : وَإِنَّمَا يُقَال لِبَعْضِهَا صَغِيرَة بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَر مِنْهَا , كَمَا يُقَال الزِّنَى صَغِيرَة بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْكُفْر , وَالْقُبْلَة الْمُحَرَّمَة صَغِيرَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَى , وَلَا ذَنْب عِنْدَنَا يُغْفَر بِاجْتِنَابِ ذَنْب آخَر , بَلْ كُلّ ذَلِكَ كَبِيرَة وَمُرْتَكِبه فِي الْمَشِيئَة غَيْر الْكُفْر , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ " [ النِّسَاء : 48 ] وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبِير مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ " عَلَى التَّوْحِيد ; وَكَبِير الْإِثْم الشِّرْك . قَالُوا : وَعَلَى الْجَمْع فَالْمُرَاد أَجْنَاس الْكُفْر . وَالْآيَة الَّتِي قَيَّدَتْ الْحُكْم فَتُرَدّ إِلَيْهَا هَذِهِ الْمُطْلَقَات كُلّهَا قَوْله تَعَالَى : " وَيَغْفِرُ مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِم وَغَيْره عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِقْتَطَعَ حَقّ اِمْرِئٍ مُسْلِم بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه لَهُ النَّار وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّة ) فَقَالَ لَهُ رَجُل : يَا رَسُول اللَّه , وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا ؟ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك ) . فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيد الشَّدِيد عَلَى الْيَسِير كَمَا جَاءَ عَلَى الْكَثِير . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْكَبِيرَة كُلّ ذَنْب خَتَمَهُ اللَّه بِنَارٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَة أَوْ عَذَاب . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : الْكَبَائِر مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَة إِلَى ثَلَاث وَثَلَاثِينَ آيَة ; وَتَصْدِيقه قَوْله تَعَالَى : " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ " . وَقَالَ طَاوُس : قِيلَ لِابْنِ عَبَّاس الْكَبَائِر سَبْع ؟ قَالَ : هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَب . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قَالَ رَجُل لِابْنِ عَبَّاس الْكَبَائِر سَبْع ؟ قَالَ : هِيَ إِلَى السَّبْعمِائَةِ أَقْرَب مِنْهَا إِلَى السَّبْع ; غَيْر أَنَّهُ لَا كَبِيرَة مَعَ اِسْتِغْفَار وَلَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : الْكَبَائِر أَرْبَعَة : الْيَأْس مِنْ رَوْح اللَّه , وَالْقُنُوط مِنْ رَحْمَة اللَّه , وَالْأَمْن مِنْ مَكْر اللَّه , وَالشِّرْك بِاَللَّهِ ; دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآن . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر : هِيَ تِسْع : قَتْل النَّفْس , وَأَكْل الرِّبَا , وَأَكْل مَال الْيَتِيم , وَرَمْي الْمُحْصَنَة , وَشَهَادَة الزُّور , وَعُقُوق الْوَالِدَيْنِ , وَالْفِرَار مِنْ الزَّحْف , وَالسِّحْر , وَالْإِلْحَاد فِي الْبَيْت الْحَرَام . وَمِنْ الْكَبَائِر عِنْد الْعُلَمَاء : الْقِمَار وَالسَّرِقَة وَشُرْب الْخَمْر وَسَبّ السَّلَف الصَّالِح وَعُدُول الْحُكَّام عَنْ الْحَقّ وَاتِّبَاع الْهَوَى وَالْيَمِين الْفَاجِرَة وَالْقُنُوط مِنْ رَحْمَة اللَّه وَسَبّ الْإِنْسَان أَبَوَيْهِ - بِأَنْ يَسُبَّ رَجُلًا فَيَسُبّ ذَلِكَ الرَّجُل أَبَوَيْهِ - وَالسَّعْي فِي الْأَرْض فَسَادًا - ; إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُر تَعْدَادُهُ حَسْب مَا جَاءَ بَيَانُهَا فِي الْقُرْآن , وَفِي أَحَادِيث خَرَّجَهَا الْأَئِمَّة , وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي كِتَاب الْإِيمَان مِنْهَا جُمْلَة وَافِرَة . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي تَعْدَادِهَا وَحَصْرهَا لِاخْتِلَافِ الْآثَار فِيهَا ; وَاَلَّذِي أَقُول : إِنَّهُ قَدْ جَاءَتْ فِيهَا أَحَادِيث كَثِيرَة صِحَاح وَحِسَان لَمْ يُقْصَد بِهَا الْحَصْر , وَلَكِنَّ بَعْضهَا أَكْبَر مِنْ بَعْض بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَكْثُر ضَرَره , فَالشِّرْك أَكْبَر ذَلِكَ كُلّه , وَهُوَ الَّذِي لَا يُغْفَر لِنَصِّ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ , وَبَعْده الْيَأْس مِنْ رَحْمَة اللَّه ; لِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبَ الْقُرْآن ; إِذْ يَقُول وَقَوْله الْحَقّ : " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْء " [ الْأَعْرَاف : 156 ] وَهُوَ يَقُول : لَا يُغْفَرُ لَهُ ; فَقَدْ حَجَّرَ وَاسِعًا . هَذَا إِذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّهُ لَا يَيْأَس مِنْ رَوْح اللَّه إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ " [ يُوسُف : 87 ] . وَبَعْده الْقُنُوط ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَنْ يَقْنَط مِنْ رَحْمَة رَبّه إِلَّا الضَّالُّونَ " [ الْحِجْر : 56 ] . وَبَعْده الْأَمْن مِنْ مَكْر اللَّه فَيَسْتَرْسِل فِي الْمَعَاصِي وَيَتَّكِل عَلَى رَحْمَة اللَّه مِنْ غَيْر عَمَل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَفَأَمِنُوا مَكْر اللَّه فَلَا يَأْمَن مَكْر اللَّه إِلَّا الْقَوْم الْخَاسِرُونَ " [ الْأَعْرَاف : 99 ] . وَقَالَ تَعَالَى : " وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ " [ فُصِّلَتْ : 23 ] . وَبَعْده الْقَتْل ; لِأَنَّ فِيهِ إِذْهَاب النُّفُوس وَإِعْدَام الْوُجُود , وَاللِّوَاط فِيهِ قَطْع النَّسْل , وَالزِّنَى فِيهِ اِخْتِلَاط الْأَنْسَاب بِالْمِيَاهِ , وَالْخَمْر فِيهِ ذَهَاب الْعَقْل الَّذِي هُوَ مَنَاط التَّكْلِيف , وَتَرْك الصَّلَاة وَالْأَذَان فِيهِ تَرْك إِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام , وَشَهَادَة الزُّور فِيهَا اِسْتِبَاحَة الدِّمَاء وَالْفُرُوج وَالْأَمْوَال , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَيِّنُ الضَّرَر ; فَكُلّ ذَنْب عَظَّمَ الشَّرْع التَّوَعُّد عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ وَشَدَّدَهُ , أَوْ عَظُمَ ضَرَره فِي الْوُجُود كَمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ كَبِيرَة وَمَا عَدَاهُ صَغِيرَة . فَهَذَا يَرْبِط لَك هَذَا الْبَاب وَيَضْبِطُهُ , وَاَللَّه أَعْلَم .
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَأَكْثَر الْكُوفِيِّينَ " مُدْخَلًا " بِضَمِّ الْمِيم , فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَصْدَرًا , أَيْ إِدْخَالًا , وَالْمَفْعُول مَحْذُوف أَيْ وَنُدْخِلكُمْ الْجَنَّة إِدْخَالًا . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْمَكَان فَيَكُون مَفْعُولًا . وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة بِفَتْحِ الْمِيم , فَيَجُوز أَنْ يَكُون مَصْدَر دَخَلَ وَهُوَ مَنْصُوب بِإِضْمَارِ فِعْل ; التَّقْدِير وَنُدْخِلكُمْ فَتَدْخُلُونَ مُدْخَلًا , وَدَلَّ الْكَلَام عَلَيْهِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِسْم مَكَان فَيَنْتَصِب عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول بِهِ , أَيْ وَنُدْخِلكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا وَهُوَ الْجَنَّة . وَقَالَ أَبُو سَعِيد بْن الْأَعْرَابِيّ : سَمِعْت أَبَا دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيّ يَقُول : سَمِعْت أَبَا عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول : الْمُسْلِمُونَ كُلّهمْ فِي الْجَنَّة ; فَقُلْت لَهُ : وَكَيْفَ ؟ قَالَ : يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " إِنْ تَجْتَبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ , عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا " يَعْنِي الْجَنَّة . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِدَّخَرْت شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِر مِنْ أُمَّتِي ) . فَإِذَا كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِر مَا دُون الْكَبَائِر وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَع فِي الْكَبَائِر فَأَيّ ذَنْب يَبْقَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْكَبَائِر عِنْد أَهْل السُّنَّة تُغْفَرُ لِمَنْ أَقْلَعَ عَنْهَا قَبْل الْمَوْت حَسْب مَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يُغْفَر لِمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " [ النِّسَاء : 48 ] وَالْمُرَاد بِذَلِكَ مَنْ مَاتَ عَلَى الذُّنُوب ; فَلَوْ كَانَ الْمُرَاد مَنْ تَابَ قَبْل الْمَوْت لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِشْرَاك وَغَيْره مَعْنًى ; إِذْ التَّائِب مِنْ الشِّرْك أَيْضًا مَغْفُور لَهُ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : خَمْس آيَات مِنْ سُورَة النِّسَاء هِيَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا جَمِيعًا , قَوْله تَعَالَى : " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ " وَقَوْله " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر " [ النِّسَاء : 48 ] الْآيَة , وَقَوْله تَعَالَى : " وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ " [ النِّسَاء . 110 ] الْآيَة , وَقَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا " [ النِّسَاء : 40 ] , وَقَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُله " [ النِّسَاء : 152 ] . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ثَمَان آيَات فِي سُورَة النِّسَاء , هُنَّ خَيْر لِهَذِهِ الْأُمَّة مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس وَغَرَبَتْ : " يُرِيد اللَّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ " [ النِّسَاء : 26 ] , " وَاَللَّه يُرِيد أَنْ يَتُوب عَلَيْكُمْ " [ النِّسَاء : 27 ] , " يُرِيد اللَّه أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ " [ النِّسَاء : 28 ] , " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ " [ النِّسَاء : 31 ] , الْآيَة , " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ " , " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة " [ النِّسَاء : 40 ] , " وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسه " , " مَا يَفْعَلُ اللَّه بِعَذَابِكُمْ " [ النِّسَاء : 147 ] الْآيَة .
وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ↓
رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أُمّ سَلَمَة أَنَّهَا قَالَتْ : يَغْزُو الرِّجَال وَلَا يَغْزُو النِّسَاء وَإِنَّمَا لَنَا نِصْف الْمِيرَاث ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّه بِهِ بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض " . قَالَ مُجَاهِد : وَأَنْزَلَ فِيهَا " إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات " [ الْأَحْزَاب : 35 ] , وَكَانَتْ أُمّ سَلَمَة أَوَّل ظَعِينَة قَدِمَتْ الْمَدِينَة مُهَاجِرَة . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث مُرْسَل , وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد , مُرْسَل أَنَّ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ كَذَا . وَقَالَ قَتَادَة : كَانَ الْجَاهِلِيَّة لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاء وَلَا الصِّبْيَان ; فَلَمَّا وَرِثُوا وَجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ تَمَنَّى النِّسَاء أَنْ لَوْ جُعِلَ أَنْصِبَاؤُهُنَّ كَأَنْصِبَاءِ الرِّجَال . وَقَالَ الرِّجَال : إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاء بِحَسَنَاتِنَا فِي الْآخِرَة كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْهِنَّ فِي الْمِيرَاث ; فَنَزَلَتْ , " وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّه بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض " .
قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَتَمَنَّوْا " التَّمَنِّي نَوْع مِنْ الْإِرَادَة يَتَعَلَّق بِالْمُسْتَقْبَلِ , كَالتَّلَهُّفِ نَوْع مِنْهَا يَتَعَلَّق بِالْمَاضِي ; فَنَهَى اللَّه سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ التَّمَنِّي ; لِأَنَّ فِيهِ تَعَلُّق الْبَال وَنِسْيَان الْأَجَل . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يَدْخُل فِي هَذَا النَّهْي الْغِبْطَة , وَهِيَ أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُل أَنْ يَكُون لَهُ حَال صَاحِبه وَإِنْ لَمْ يَتَمَنَّ زَوَالَ حَالِهِ . وَالْجُمْهُور عَلَى إِجَازَة ذَلِكَ : مَالِك وَغَيْره ; وَهِيَ الْمُرَاد عِنْد بَعْضهمْ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اِثْنَتَيْنِ رَجُل آتَاهُ اللَّه الْقُرْآن فَهُوَ يَقُوم بِهِ آنَاء اللَّيْل وَآنَاء النَّهَار وَرَجُل آتَاهُ اللَّه مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاء اللَّيْل وَآنَاء النَّهَار ) . فَمَعْنَى قَوْله : " لَا حَسَدَ " أَيْ لَا غِبْطَة أَعْظَم وَأَفْضَل مِنْ الْغِبْطَة فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ . وَقَدْ نَبَّهَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ بَوَّبَ عَلَى هَذَا الْحَدِيث ( بَاب الِاغْتِبَاط فِي الْعِلْم وَالْحِكْمَة ) قَالَ الْمُهَلَّب : بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة مَا لَا يَجُوز تَمَنِّيه , وَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ عَرَض الدُّنْيَا وَأَشْبَاههَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَأَمَّا التَّمَنِّي فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة فَذَلِكَ هُوَ الْحَسَن , وَأَمَّا إِذَا تَمَنَّى الْمَرْء عَلَى اللَّه مِنْ غَيْر أَنْ يَقْرِن أَمْنِيَّتَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فَذَلِكَ جَائِز ; وَذَلِكَ مَوْجُود فِي حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْل : ( وَدِدْت أَنْ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلَ ) .
قُلْت : هَذَا الْحَدِيث هُوَ الَّذِي صَدَّرَ بِهِ الْبُخَارِيّ كِتَاب التَّمَنِّي فِي صَحِيحه , وَهُوَ يَدُلّ عَلَى تَمَنِّي الْخَيْر وَأَفْعَال الْبِرّ وَالرَّغْبَة فِيهَا , وَفِيهِ فَضْل الشَّهَادَة عَلَى سَائِر أَعْمَال الْبِرّ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام تَمَنَّاهَا دُون غَيْرهَا , وَذَلِكَ لِرَفِيعِ مَنْزِلَتهَا وَكَرَامَة أَهْلهَا , فَرَزَقَهُ اللَّه إِيَّاهَا ; لِقَوْلِهِ : ( مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَر تَعَاوِدُنِي الْآن أَوَان قَطَعَتْ أَبْهَرِي ) . وَفِي الصَّحِيح : ( إِنَّ الشَّهِيد يُقَال لَهُ تَمَنَّ فَيَقُول أَتَمَنَّى أَنْ أَرْجِع إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى أُقْتَل فِي سَبِيلِك مَرَّة أُخْرَى ) . وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَنَّى إِيمَان أَبِي طَالِب وَإِيمَان أَبِي لَهَبٍ وَصَنَادِيد قُرَيْش مَعَ عِلْمه بِأَنَّهُ لَا يَكُون ; وَكَانَ يَقُول : ( وَاشَوْقَاه إِلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي ) . وَهَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّي لَا يُنْهَى عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَة إِلَى الْحَسَد وَالتَّبَاغُض , وَالتَّمَنِّي الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْآيَة مِنْ هَذَا الْقَبِيل ; فَيَدْخُل فِيهِ أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُل حَال الْآخَر مِنْ دِين أَوْ دُنْيَا عَلَى أَنْ يَذْهَب مَا عِنْد الْآخَر , وَسَوَاء تَمَنَّيْت مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَعُود إِلَيْك أَوْ لَا . وَهَذَا هُوَ الْحَسَد بِعَيْنِهِ , وَهُوَ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ : " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله " [ النِّسَاء : 54 ] وَيَدْخُل فِيهِ أَيْضًا خِطْبَة الرَّجُل عَلَى خِطْبَة أَخِيهِ وَبَيْعه عَلَى بَيْعه ; لِأَنَّهُ دَاعِيَة الْحَسَد وَالْمَقْت . وَقَدْ كَرِهَ بَعْض الْعُلَمَاء الْغِبْطَة وَأَنَّهَا دَاخِلَة فِي النَّهْي , وَالصَّحِيح جَوَازهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا , وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقُنَا . وَقَالَ الضَّحَّاك : لَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَنَّى مَال أَحَد , أَلَمْ تَسْمَع الَّذِينَ قَالُوا : " يَا لَيْتَ لَنَا مِثْل مَا أُوتِيَ قَارُون " [ الْقَصَص : 79 ] إِلَى أَنْ قَالَ : " وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانه بِالْأَمْسِ " [ الْقَصَص : 82 ] حِينَ خُسِفَ بِهِ وَبِدَارِهِ وَبِأَمْوَالِهِ " لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّه عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا " [ الْقَصَص : 82 ] وَقَالَ الْكَلْبِيّ : لَا يَتَمَنَّ الرَّجُل مَال أَخِيهِ وَلَا امْرَأَته وَلَا خَادِمه وَلَا دَابَّته ; وَلَكِنْ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي مِثْله . وَهُوَ كَذَلِكَ فِي التَّوْرَاة , وَكَذَلِكَ قَوْله فِي الْقُرْآن " وَاسْأَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله " . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَهَى اللَّه سُبْحَانه أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُل مَال فُلَان وَأَهْله , وَأَمَرَ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْأَلُوهُ مِنْ فَضْله . وَمِنْ الْحُجَّة لِلْجُمْهُورِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَر : رَجُل آتَاهُ اللَّه مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبّه وَيَصِل بِهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَم لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَل الْمَنَازِل , وَرَجُل آتَاهُ اللَّه عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ صَادِق النِّيَّة يَقُول لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَان فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاء ) الْحَدِيث ... وَقَدْ تَقَدَّمَ . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ . وَقَالَ الْحَسَن : لَا يَتَمَنَّ أَحَدكُمْ الْمَال وَمَا يُدْرِيهِ لَعَلَّ هَلَاكه فِيهِ ; وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحّ إِذَا تَمَنَّاهُ لِلدُّنْيَا , وَأَمَّا إِذَا تَمَنَّاهُ لِلْخَيْرِ فَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّرْع , فَيَتَمَنَّاهُ الْعَبْد لِيَصِل بِهِ إِلَى الرَّبّ , وَيَفْعَل اللَّه مَا يَشَاء .
" لِلرِّجَالِ نَصِيب مِمَّا اِكْتَسَبُوا " يُرِيد مِنْ الثَّوَاب وَالْعِقَاب " وَلِلنِّسَاءِ " كَذَلِكَ ; قَالَ قَتَادَة . فَلِلْمَرْأَةِ الْجَزَاء عَلَى الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا كَمَا لِلرِّجَالِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمُرَاد بِذَلِكَ الْمِيرَاث . وَالِاكْتِسَاب عَلَى هَذَا الْقَوْل بِمَعْنَى الْإِصَابَة , لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ ; فَنَهَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ التَّمَنِّي عَلَى هَذَا الْوَجْه لِمَا فِيهِ مِنْ دَوَاعِي الْحَسَد ; وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِمَصَالِحِهِمْ مِنْهُمْ ; فَوَضَعَ الْقِسْمَة بَيْنهمْ عَلَى التَّفَاوُت عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ مَصَالِحهمْ .
" وَاسْأَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله " رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَل وَأَفْضَل الْعِبَادَة اِنْتِظَار الْفَرَج ) وَخَرَّجَ أَيْضًا اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّه يَغْضَبْ عَلَيْهِ ) . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالسُّؤَالِ لِلَّهِ تَعَالَى وَاجِب ; وَقَدْ أَخَذَ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْمَعْنَى فَنَظَمَهُ فَقَالَ : اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْت سُؤَالَهُ وَبُنَيّ آدَم حِينَ يُسْأَل يَغْضَبُ وَقَالَ أَحْمَد بْن الْمُعَذَّل أَبُو الْفَضْل الْفَقِيهُ الْمَالِكِيّ فَأَحْسَنَ : اِلْتَمِسْ الْأَرْزَاقَ عِنْد الَّذِي مَا دُونَهُ إِنْ سِيلَ مِنْ حَاجِبِ مَنْ يُبْغِضُ التَّارِكَ تَسْآلَهُ جُودًا وَمَنْ يَرْضَى عَنْ الطَّالِبِ وَمَنْ إِذَا قَالَ جَرَى قَوْلُهُ بِغَيْرِ تَوْقِيعٍ إِلَى كَاتِبِ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْل فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَاب " قَمْع الْحِرْص بِالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَة " . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : " وَاسْأَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله " الْعِبَادَة , لَيْسَ مِنْ أَمْر الدُّنْيَا . وَقِيلَ : سَلُوهُ التَّوْفِيق لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ . وَعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : سَلُوا رَبّكُمْ حَتَّى الشِّبَع ; فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَتَيَسَّرْ . وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : لَمْ يَأْمُرْ بِالسُّؤَالِ إِلَّا لِيُعْطِيَ . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَابْن كَثِير : " وَسَلُوا اللَّه مِنْ فَضْلِهِ " بِغَيْرِ هَمْز فِي جَمِيع الْقُرْآن . الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ . " وَاسْأَلُوا اللَّه " . وَأَصْله بِالْهَمْزِ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَتْ الْهَمْزَة لِلتَّخْفِيفِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَتَمَنَّوْا " التَّمَنِّي نَوْع مِنْ الْإِرَادَة يَتَعَلَّق بِالْمُسْتَقْبَلِ , كَالتَّلَهُّفِ نَوْع مِنْهَا يَتَعَلَّق بِالْمَاضِي ; فَنَهَى اللَّه سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ التَّمَنِّي ; لِأَنَّ فِيهِ تَعَلُّق الْبَال وَنِسْيَان الْأَجَل . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يَدْخُل فِي هَذَا النَّهْي الْغِبْطَة , وَهِيَ أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُل أَنْ يَكُون لَهُ حَال صَاحِبه وَإِنْ لَمْ يَتَمَنَّ زَوَالَ حَالِهِ . وَالْجُمْهُور عَلَى إِجَازَة ذَلِكَ : مَالِك وَغَيْره ; وَهِيَ الْمُرَاد عِنْد بَعْضهمْ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اِثْنَتَيْنِ رَجُل آتَاهُ اللَّه الْقُرْآن فَهُوَ يَقُوم بِهِ آنَاء اللَّيْل وَآنَاء النَّهَار وَرَجُل آتَاهُ اللَّه مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاء اللَّيْل وَآنَاء النَّهَار ) . فَمَعْنَى قَوْله : " لَا حَسَدَ " أَيْ لَا غِبْطَة أَعْظَم وَأَفْضَل مِنْ الْغِبْطَة فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ . وَقَدْ نَبَّهَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ بَوَّبَ عَلَى هَذَا الْحَدِيث ( بَاب الِاغْتِبَاط فِي الْعِلْم وَالْحِكْمَة ) قَالَ الْمُهَلَّب : بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة مَا لَا يَجُوز تَمَنِّيه , وَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ عَرَض الدُّنْيَا وَأَشْبَاههَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَأَمَّا التَّمَنِّي فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة فَذَلِكَ هُوَ الْحَسَن , وَأَمَّا إِذَا تَمَنَّى الْمَرْء عَلَى اللَّه مِنْ غَيْر أَنْ يَقْرِن أَمْنِيَّتَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فَذَلِكَ جَائِز ; وَذَلِكَ مَوْجُود فِي حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْل : ( وَدِدْت أَنْ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلَ ) .
قُلْت : هَذَا الْحَدِيث هُوَ الَّذِي صَدَّرَ بِهِ الْبُخَارِيّ كِتَاب التَّمَنِّي فِي صَحِيحه , وَهُوَ يَدُلّ عَلَى تَمَنِّي الْخَيْر وَأَفْعَال الْبِرّ وَالرَّغْبَة فِيهَا , وَفِيهِ فَضْل الشَّهَادَة عَلَى سَائِر أَعْمَال الْبِرّ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام تَمَنَّاهَا دُون غَيْرهَا , وَذَلِكَ لِرَفِيعِ مَنْزِلَتهَا وَكَرَامَة أَهْلهَا , فَرَزَقَهُ اللَّه إِيَّاهَا ; لِقَوْلِهِ : ( مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَر تَعَاوِدُنِي الْآن أَوَان قَطَعَتْ أَبْهَرِي ) . وَفِي الصَّحِيح : ( إِنَّ الشَّهِيد يُقَال لَهُ تَمَنَّ فَيَقُول أَتَمَنَّى أَنْ أَرْجِع إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى أُقْتَل فِي سَبِيلِك مَرَّة أُخْرَى ) . وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَنَّى إِيمَان أَبِي طَالِب وَإِيمَان أَبِي لَهَبٍ وَصَنَادِيد قُرَيْش مَعَ عِلْمه بِأَنَّهُ لَا يَكُون ; وَكَانَ يَقُول : ( وَاشَوْقَاه إِلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي ) . وَهَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّي لَا يُنْهَى عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَة إِلَى الْحَسَد وَالتَّبَاغُض , وَالتَّمَنِّي الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْآيَة مِنْ هَذَا الْقَبِيل ; فَيَدْخُل فِيهِ أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُل حَال الْآخَر مِنْ دِين أَوْ دُنْيَا عَلَى أَنْ يَذْهَب مَا عِنْد الْآخَر , وَسَوَاء تَمَنَّيْت مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَعُود إِلَيْك أَوْ لَا . وَهَذَا هُوَ الْحَسَد بِعَيْنِهِ , وَهُوَ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ : " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله " [ النِّسَاء : 54 ] وَيَدْخُل فِيهِ أَيْضًا خِطْبَة الرَّجُل عَلَى خِطْبَة أَخِيهِ وَبَيْعه عَلَى بَيْعه ; لِأَنَّهُ دَاعِيَة الْحَسَد وَالْمَقْت . وَقَدْ كَرِهَ بَعْض الْعُلَمَاء الْغِبْطَة وَأَنَّهَا دَاخِلَة فِي النَّهْي , وَالصَّحِيح جَوَازهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا , وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقُنَا . وَقَالَ الضَّحَّاك : لَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَنَّى مَال أَحَد , أَلَمْ تَسْمَع الَّذِينَ قَالُوا : " يَا لَيْتَ لَنَا مِثْل مَا أُوتِيَ قَارُون " [ الْقَصَص : 79 ] إِلَى أَنْ قَالَ : " وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانه بِالْأَمْسِ " [ الْقَصَص : 82 ] حِينَ خُسِفَ بِهِ وَبِدَارِهِ وَبِأَمْوَالِهِ " لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّه عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا " [ الْقَصَص : 82 ] وَقَالَ الْكَلْبِيّ : لَا يَتَمَنَّ الرَّجُل مَال أَخِيهِ وَلَا امْرَأَته وَلَا خَادِمه وَلَا دَابَّته ; وَلَكِنْ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي مِثْله . وَهُوَ كَذَلِكَ فِي التَّوْرَاة , وَكَذَلِكَ قَوْله فِي الْقُرْآن " وَاسْأَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله " . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَهَى اللَّه سُبْحَانه أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُل مَال فُلَان وَأَهْله , وَأَمَرَ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْأَلُوهُ مِنْ فَضْله . وَمِنْ الْحُجَّة لِلْجُمْهُورِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَر : رَجُل آتَاهُ اللَّه مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبّه وَيَصِل بِهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَم لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَل الْمَنَازِل , وَرَجُل آتَاهُ اللَّه عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ صَادِق النِّيَّة يَقُول لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَان فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاء ) الْحَدِيث ... وَقَدْ تَقَدَّمَ . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ . وَقَالَ الْحَسَن : لَا يَتَمَنَّ أَحَدكُمْ الْمَال وَمَا يُدْرِيهِ لَعَلَّ هَلَاكه فِيهِ ; وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحّ إِذَا تَمَنَّاهُ لِلدُّنْيَا , وَأَمَّا إِذَا تَمَنَّاهُ لِلْخَيْرِ فَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّرْع , فَيَتَمَنَّاهُ الْعَبْد لِيَصِل بِهِ إِلَى الرَّبّ , وَيَفْعَل اللَّه مَا يَشَاء .
" لِلرِّجَالِ نَصِيب مِمَّا اِكْتَسَبُوا " يُرِيد مِنْ الثَّوَاب وَالْعِقَاب " وَلِلنِّسَاءِ " كَذَلِكَ ; قَالَ قَتَادَة . فَلِلْمَرْأَةِ الْجَزَاء عَلَى الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا كَمَا لِلرِّجَالِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمُرَاد بِذَلِكَ الْمِيرَاث . وَالِاكْتِسَاب عَلَى هَذَا الْقَوْل بِمَعْنَى الْإِصَابَة , لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ ; فَنَهَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ التَّمَنِّي عَلَى هَذَا الْوَجْه لِمَا فِيهِ مِنْ دَوَاعِي الْحَسَد ; وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِمَصَالِحِهِمْ مِنْهُمْ ; فَوَضَعَ الْقِسْمَة بَيْنهمْ عَلَى التَّفَاوُت عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ مَصَالِحهمْ .
" وَاسْأَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله " رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَل وَأَفْضَل الْعِبَادَة اِنْتِظَار الْفَرَج ) وَخَرَّجَ أَيْضًا اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّه يَغْضَبْ عَلَيْهِ ) . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالسُّؤَالِ لِلَّهِ تَعَالَى وَاجِب ; وَقَدْ أَخَذَ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْمَعْنَى فَنَظَمَهُ فَقَالَ : اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْت سُؤَالَهُ وَبُنَيّ آدَم حِينَ يُسْأَل يَغْضَبُ وَقَالَ أَحْمَد بْن الْمُعَذَّل أَبُو الْفَضْل الْفَقِيهُ الْمَالِكِيّ فَأَحْسَنَ : اِلْتَمِسْ الْأَرْزَاقَ عِنْد الَّذِي مَا دُونَهُ إِنْ سِيلَ مِنْ حَاجِبِ مَنْ يُبْغِضُ التَّارِكَ تَسْآلَهُ جُودًا وَمَنْ يَرْضَى عَنْ الطَّالِبِ وَمَنْ إِذَا قَالَ جَرَى قَوْلُهُ بِغَيْرِ تَوْقِيعٍ إِلَى كَاتِبِ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْل فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَاب " قَمْع الْحِرْص بِالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَة " . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : " وَاسْأَلُوا اللَّه مِنْ فَضْله " الْعِبَادَة , لَيْسَ مِنْ أَمْر الدُّنْيَا . وَقِيلَ : سَلُوهُ التَّوْفِيق لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ . وَعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : سَلُوا رَبّكُمْ حَتَّى الشِّبَع ; فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَتَيَسَّرْ . وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : لَمْ يَأْمُرْ بِالسُّؤَالِ إِلَّا لِيُعْطِيَ . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَابْن كَثِير : " وَسَلُوا اللَّه مِنْ فَضْلِهِ " بِغَيْرِ هَمْز فِي جَمِيع الْقُرْآن . الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ . " وَاسْأَلُوا اللَّه " . وَأَصْله بِالْهَمْزِ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَتْ الْهَمْزَة لِلتَّخْفِيفِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ↓
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَان وَرَثَةً وَمَوَالِيَ ; فَلْيَنْتَفِعْ كُلّ وَاحِد بِمَا قَسَمَ اللَّه لَهُ مِنْ الْمِيرَاث , وَلَا يَتَمَنَّ مَال غَيْر . وَرَوَى الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب الْفَرَائِض مِنْ رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس : " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " قَالَ : كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَة يَرِث الْأَنْصَارِيّ الْمُهَاجِرِيَّ دُون ذَوِي رَحِمِهِ ; لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ , فَلَمَّا نَزَلَتْ " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ " قَالَ : نَسَخَتْهَا " وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " . قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن بَطَّال : وَقَعَ فِي جَمِيع النُّسَخ " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ " قَالَ : نَسَخَتْهَا " وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " . وَالصَّوَاب أَنَّ الْآيَة النَّاسِخَة " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ " وَالْمَنْسُوخَة " وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " , وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ فِي رِوَايَته . وَرُوِيَ , عَنْ جُمْهُور السَّلَف أَنَّ الْآيَة النَّاسِخَة لِقَوْلِهِ : " وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " قَوْله تَعَالَى فِي " الْأَنْفَال " : " وَأُولُوا الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ " [ الْأَنْفَال : 75 ] . رُوِيَ هَذَا عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ ; وَهُوَ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَبُو عُبَيْد فِي كِتَاب " النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ " لَهُ . وَفِيهَا قَوْل آخَر رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : أَمَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ تَبَنَّوْا غَيْر أَبْنَائِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّة وَوَرِثُوا فِي الْإِسْلَام أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْوَصِيَّة وَرَدّ الْمِيرَاث إِلَى ذَوِي الرَّحِم وَالْعَصَبَة . وَقَالَتْ طَائِفَة : قَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " مُحْكَم وَلَيْسَ بِمَنْسُوخٍ ; وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعْطُوا الْحُلَفَاء أَنْصِبَاءَهُمْ مِنْ النُّصْرَة وَالنَّصِيحَة وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . " وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ " مِنْ النُّصْرَة وَالنَّصِيحَة وَالرِّفَادَة وَيُوصِي لَهُمْ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاث ; وَهُوَ قَوْل مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ .
قُلْت : وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس ; وَرَوَاهُ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , وَلَا يَصِحّ النَّسْخ ; فَإِنَّ الْجَمْع مُمْكِنٌ كَمَا بَيَّنَهُ اِبْن عَبَّاس فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ , وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْهُ فِي كِتَاب التَّفْسِير . وَسَيَأْتِي مِيرَاث " ذَوِي الْأَرْحَام " فِي " الْأَنْفَالِ " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
" كُلّ " فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَاهَا الْإِحَاطَة وَالْعُمُوم . فَإِذَا جَاءَتْ مُفْرَدَة فَلَا بُدّ أَنْ يَكُون فِي الْكَلَام حَذْف عِنْد جَمِيع النَّحْوِيِّينَ ; حَتَّى إِنَّ بَعْضهمْ أَجَازَ مَرَرْت بِكُلٍّ , مِثْل قَبْل وَبَعْد . وَتَقْدِير الْحَذْف : وَلِكُلِّ أَحَد جَعَلْنَا مَوَالِيَ , يَعْنِي وَرَثَة . " وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " يَعْنِي بِالْحَلِفِ ; عَنْ قَتَادَة . وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل كَانَ يُعَاقِد الرَّجُل فَيَقُول : دَمِي دَمُك , وَهَدْمِي هَدْمُك , وَثَأْرِي ثَأْرك , وَحَرْبِي حَرْبك , وَسِلْمِي سِلْمُك , وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك , وَتَطْلُب بِي وَأَطْلُب بِك , وَتَعْقِل عَنِّي وَأَعْقِل عَنْك ; فَيَكُون لِلْحَلِيفِ السُّدُس مِنْ مِيرَاث الْحَلِيف ثُمَّ نُسِخَ .
قَوْله تَعَالَى : " مَوَالِيَ " أَعْلَم أَنَّ الْمَوْلَى لَفْظ مُشْتَرَك يُطْلَق عَلَى وُجُوه ; فَيُسَمَّى الْمُعْتَق مَوْلًى وَالْمُعْتِق مَوْلًى . وَيُقَال : الْمَوْلَى الْأَسْفَل وَالْأَعْلَى أَيْضًا . وَيُسَمَّى النَّاصِر الْمَوْلَى ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ " [ مُحَمَّد : 11 ] . وَيُسَمَّى اِبْن الْعَمّ مَوْلَى وَالْجَار مَوْلَى . فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ " يُرِيد عَصَبَة ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا أَبْقَتْ السِّهَام فَلِأَوْلَى عَصَبَة ذَكَرٍ ) . وَمِنْ الْعَصَبَات الْمَوْلَى الْأَعْلَى لَا الْأَسْفَل , عَلَى قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء ; لِأَنَّ الْمَفْهُوم فِي حَقّ الْمُعْتِق أَنَّهُ الْمُنْعِم عَلَى الْمُعْتَق , كَالْمُوجِدِ لَهُ ; فَاسْتَحَقَّ مِيرَاثه لِهَذَا الْمَعْنَى . وَحَكَى الطَّحَاوِيّ عَنْ الْحَسَن بْن زِيَاد أَنَّ الْمَوْلَى الْأَسْفَل يَرِث مِنْ الْأَعْلَى ; وَاحْتَجَّ فِيهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ فَمَاتَ الْمُعْتِق وَلَمْ يَتْرُك إِلَّا الْمُعْتَق فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثه لِلْغُلَامِ الْمُعْتَق . قَالَ الطَّحَاوِيّ : وَلَا مُعَارِض لِهَذَا الْحَدِيث , فَوَجَبَ الْقَوْل بِهِ ; وَلِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ إِثْبَات الْمِيرَاث لِلْمُعْتِقِ عَلَى تَقْدِير أَنَّهُ كَانَ كَالْمُوجِدِ لَهُ , فَهُوَ شَبِيه بِالْأَبِ ; وَالْمَوْلَى الْأَسْفَل شَبِيه بِالِابْنِ ; وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَيْنهمَا فِي الْمِيرَاث , وَالْأَصْل أَنَّ الِاتِّصَال يَعُمُّ . وَفِي الْخَبَر ( مَوْلَى الْقَوْم مِنْهُمْ ) . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوا هَذَا وَهُمْ الْجُمْهُور قَالُوا : الْمِيرَاث . يَسْتَدْعِي الْقَرَابَة وَلَا قَرَابَة , غَيْر أَنَّا أَثْبَتْنَا لِلْمُعْتِقِ الْمِيرَاث بِحُكْمِ الْإِنْعَام عَلَى الْمُعْتَق ; فَيَقْتَضِي مُقَابَلَة الْإِنْعَام بِالْمُجَازَاةِ , وَذَلِكَ لَا يَنْعَكِس فِي الْمَوْلَى الْأَسْفَل . وَأَمَّا الِابْن فَهُوَ أَوْلَى النَّاس بِأَنْ يَكُون خَلِيفَة أَبِيهِ وَقَائِمًا مَقَامَهُ , وَلَيْسَ الْمُعْتَق صَالِحًا لِأَنْ يَقُوم مَقَام مُعْتِقِهِ , وَإِنَّمَا الْمُعْتِق قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ فَقَابَلَهُ الشَّرْع بِأَنْ جَعَلَهُ أَحَقَّ بِمَوْلَاهُ الْمُعْتَق , وَلَا يُوجَد هَذَا فِي الْمَوْلَى الْأَسْفَل ; فَظَهَرَ الْفَرْق بَيْنهمَا وَاَللَّه أَعْلَم .
رَوَى عَلِيّ بْن كَبْشَة عَنْ حَمْزَة " عَقَّدَتْ " بِتَشْدِيدِ الْقَاف عَلَى التَّكْثِير . وَالْمَشْهُور عَنْ حَمْزَة " عَقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " مُخَفَّفَة الْقَاف , وَهِيَ قِرَاءَة عَاصِم وَالْكِسَائِيّ , وَهِيَ قِرَاءَة بَعِيدَة ; لِأَنَّ الْمُعَاقَدَة لَا تَكُون إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ فَصَاعِدًا , فَبَابُهَا فَاعَلَ . قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَقِرَاءَة حَمْزَة تَجُوز عَلَى غُمُوض فِي الْعَرَبِيَّة , يَكُون التَّقْدِير فِيهَا وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْهُمْ أَيْمَانُكُمْ الْحِلْف , وَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ ; وَتَقْدِيره : عَقَدَتْ لَهُمْ أَيْمَانكُمْ الْحِلْف , ثُمَّ حُذِفَتْ اللَّام مِثْل قَوْله تَعَالَى : " وَإِذَا كَالُوهُمْ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 3 ] أَيْ كَالُوا لَهُمْ . وَحُذِفَ الْمَفْعُول الثَّانِي , كَمَا يُقَال : كِلْتُك أَيْ كِلْت لَك بُرًّا . وَحُذِفَ الْمَفْعُول الْأَوَّل لِأَنَّهُ مُتَّصِل فِي الصِّلَة .
أَيْ قَدْ شَهِدَ مُعَاقَدَتَكُمْ إِيَّاهُمْ , وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْوَفَاء .
قُلْت : وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس ; وَرَوَاهُ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , وَلَا يَصِحّ النَّسْخ ; فَإِنَّ الْجَمْع مُمْكِنٌ كَمَا بَيَّنَهُ اِبْن عَبَّاس فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ , وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْهُ فِي كِتَاب التَّفْسِير . وَسَيَأْتِي مِيرَاث " ذَوِي الْأَرْحَام " فِي " الْأَنْفَالِ " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
" كُلّ " فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَاهَا الْإِحَاطَة وَالْعُمُوم . فَإِذَا جَاءَتْ مُفْرَدَة فَلَا بُدّ أَنْ يَكُون فِي الْكَلَام حَذْف عِنْد جَمِيع النَّحْوِيِّينَ ; حَتَّى إِنَّ بَعْضهمْ أَجَازَ مَرَرْت بِكُلٍّ , مِثْل قَبْل وَبَعْد . وَتَقْدِير الْحَذْف : وَلِكُلِّ أَحَد جَعَلْنَا مَوَالِيَ , يَعْنِي وَرَثَة . " وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " يَعْنِي بِالْحَلِفِ ; عَنْ قَتَادَة . وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل كَانَ يُعَاقِد الرَّجُل فَيَقُول : دَمِي دَمُك , وَهَدْمِي هَدْمُك , وَثَأْرِي ثَأْرك , وَحَرْبِي حَرْبك , وَسِلْمِي سِلْمُك , وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك , وَتَطْلُب بِي وَأَطْلُب بِك , وَتَعْقِل عَنِّي وَأَعْقِل عَنْك ; فَيَكُون لِلْحَلِيفِ السُّدُس مِنْ مِيرَاث الْحَلِيف ثُمَّ نُسِخَ .
قَوْله تَعَالَى : " مَوَالِيَ " أَعْلَم أَنَّ الْمَوْلَى لَفْظ مُشْتَرَك يُطْلَق عَلَى وُجُوه ; فَيُسَمَّى الْمُعْتَق مَوْلًى وَالْمُعْتِق مَوْلًى . وَيُقَال : الْمَوْلَى الْأَسْفَل وَالْأَعْلَى أَيْضًا . وَيُسَمَّى النَّاصِر الْمَوْلَى ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ " [ مُحَمَّد : 11 ] . وَيُسَمَّى اِبْن الْعَمّ مَوْلَى وَالْجَار مَوْلَى . فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ " يُرِيد عَصَبَة ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا أَبْقَتْ السِّهَام فَلِأَوْلَى عَصَبَة ذَكَرٍ ) . وَمِنْ الْعَصَبَات الْمَوْلَى الْأَعْلَى لَا الْأَسْفَل , عَلَى قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء ; لِأَنَّ الْمَفْهُوم فِي حَقّ الْمُعْتِق أَنَّهُ الْمُنْعِم عَلَى الْمُعْتَق , كَالْمُوجِدِ لَهُ ; فَاسْتَحَقَّ مِيرَاثه لِهَذَا الْمَعْنَى . وَحَكَى الطَّحَاوِيّ عَنْ الْحَسَن بْن زِيَاد أَنَّ الْمَوْلَى الْأَسْفَل يَرِث مِنْ الْأَعْلَى ; وَاحْتَجَّ فِيهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ فَمَاتَ الْمُعْتِق وَلَمْ يَتْرُك إِلَّا الْمُعْتَق فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثه لِلْغُلَامِ الْمُعْتَق . قَالَ الطَّحَاوِيّ : وَلَا مُعَارِض لِهَذَا الْحَدِيث , فَوَجَبَ الْقَوْل بِهِ ; وَلِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ إِثْبَات الْمِيرَاث لِلْمُعْتِقِ عَلَى تَقْدِير أَنَّهُ كَانَ كَالْمُوجِدِ لَهُ , فَهُوَ شَبِيه بِالْأَبِ ; وَالْمَوْلَى الْأَسْفَل شَبِيه بِالِابْنِ ; وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَيْنهمَا فِي الْمِيرَاث , وَالْأَصْل أَنَّ الِاتِّصَال يَعُمُّ . وَفِي الْخَبَر ( مَوْلَى الْقَوْم مِنْهُمْ ) . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوا هَذَا وَهُمْ الْجُمْهُور قَالُوا : الْمِيرَاث . يَسْتَدْعِي الْقَرَابَة وَلَا قَرَابَة , غَيْر أَنَّا أَثْبَتْنَا لِلْمُعْتِقِ الْمِيرَاث بِحُكْمِ الْإِنْعَام عَلَى الْمُعْتَق ; فَيَقْتَضِي مُقَابَلَة الْإِنْعَام بِالْمُجَازَاةِ , وَذَلِكَ لَا يَنْعَكِس فِي الْمَوْلَى الْأَسْفَل . وَأَمَّا الِابْن فَهُوَ أَوْلَى النَّاس بِأَنْ يَكُون خَلِيفَة أَبِيهِ وَقَائِمًا مَقَامَهُ , وَلَيْسَ الْمُعْتَق صَالِحًا لِأَنْ يَقُوم مَقَام مُعْتِقِهِ , وَإِنَّمَا الْمُعْتِق قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ فَقَابَلَهُ الشَّرْع بِأَنْ جَعَلَهُ أَحَقَّ بِمَوْلَاهُ الْمُعْتَق , وَلَا يُوجَد هَذَا فِي الْمَوْلَى الْأَسْفَل ; فَظَهَرَ الْفَرْق بَيْنهمَا وَاَللَّه أَعْلَم .
رَوَى عَلِيّ بْن كَبْشَة عَنْ حَمْزَة " عَقَّدَتْ " بِتَشْدِيدِ الْقَاف عَلَى التَّكْثِير . وَالْمَشْهُور عَنْ حَمْزَة " عَقَدَتْ أَيْمَانكُمْ " مُخَفَّفَة الْقَاف , وَهِيَ قِرَاءَة عَاصِم وَالْكِسَائِيّ , وَهِيَ قِرَاءَة بَعِيدَة ; لِأَنَّ الْمُعَاقَدَة لَا تَكُون إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ فَصَاعِدًا , فَبَابُهَا فَاعَلَ . قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَقِرَاءَة حَمْزَة تَجُوز عَلَى غُمُوض فِي الْعَرَبِيَّة , يَكُون التَّقْدِير فِيهَا وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْهُمْ أَيْمَانُكُمْ الْحِلْف , وَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ ; وَتَقْدِيره : عَقَدَتْ لَهُمْ أَيْمَانكُمْ الْحِلْف , ثُمَّ حُذِفَتْ اللَّام مِثْل قَوْله تَعَالَى : " وَإِذَا كَالُوهُمْ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 3 ] أَيْ كَالُوا لَهُمْ . وَحُذِفَ الْمَفْعُول الثَّانِي , كَمَا يُقَال : كِلْتُك أَيْ كِلْت لَك بُرًّا . وَحُذِفَ الْمَفْعُول الْأَوَّل لِأَنَّهُ مُتَّصِل فِي الصِّلَة .
أَيْ قَدْ شَهِدَ مُعَاقَدَتَكُمْ إِيَّاهُمْ , وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْوَفَاء .
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ↓
بْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ يَقُومُونَ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَالذَّبّ عَنْهُنَّ ; وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِمْ الْحُكَّامَ وَالْأُمَرَاءَ وَمَنْ يَغْزُو , وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي النِّسَاء . يُقَال : قِوَام وَقِيَم . وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي سَعْد بْن الرَّبِيع نَشَزَتْ عَلَيْهِ اِمْرَأَته حَبِيبَة بِنْت زَيْد بْن خَارِجَة بْن أَبِي زُهَيْر فَلَطَمَهَا ; فَقَالَ أَبُوهَا : يَا رَسُول اللَّه , أَفَرَشْته كَرِيمَتِي فَلَطَمَهَا ! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لِتُقْتَصَّ مِنْ زَوْجهَا ) . فَانْصَرَفَتْ مَعَ أَبِيهَا لِتَقْتَصَّ مِنْهُ , فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِرْجِعُوا هَذَا جِبْرِيل أَتَانِي ) فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة ; فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّه غَيْره ) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى : ( أَرَدْت شَيْئًا وَمَا أَرَادَ اللَّه خَيْرٌ ) . وَنَقَضَ الْحُكْم الْأَوَّل . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ فِي هَذَا الْحُكْم الْمَرْدُود نَزَلَ " وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْل أَنْ يُقْضَى إِلَيْك وَحْيُهُ " [ طَه : 114 ] . ذَكَرَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن الْمِنْهَال وَعَارِم بْن الْفَضْل - وَاللَّفْظ لِحَجَّاجٍ - قَالَ حَدَّثَنَا جَرِير بْن حَازِم قَالَ : سَمِعْت الْحَسَن يَقُول : إِنَّ اِمْرَأَة أَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنَّ زَوْجِي لَطَمَ وَجْهِي . فَقَالَ : ( بَيْنَكُمَا الْقِصَاص ) , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَعْجَل بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْل أَنْ يُقْضَى إِلَيْك وَحْيُهُ " . وَأَمْسَكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ : " الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء " . وَقَالَ أَبُو رَوْق : نَزَلَتْ فِي جَمِيلَة بِنْت أُبَيّ وَفِي زَوْجهَا ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : نَزَلَتْ فِي عَمِيرَة بِنْت مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ وَفِي زَوْجهَا سَعْد بْن الرَّبِيع . وَقِيلَ : سَبَبهَا قَوْل أُمّ سَلَمَة الْمُتَقَدِّم . وَوَجْه النَّظْم أَنَّهُنَّ تَكَلَّمْنَ فِي تَفْضِيل الرِّجَال عَلَى النِّسَاء فِي الْإِرْث , فَنَزَلَتْ " وَلَا تَتَمَنَّوْا " الْآيَة . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَفْضِيلهمْ عَلَيْهِنَّ فِي الْإِرْث لِمَا عَلَى الرِّجَال مِنْ الْمَهْر وَالْإِنْفَاق ; ثُمَّ فَائِدَة تَفْضِيلهمْ عَائِدَة إِلَيْهِنَّ . وَيُقَال : إِنَّ الرِّجَال لَهُمْ فَضِيلَة فِي زِيَادَة الْعَقْل وَالتَّدْبِير ; فَجُعِلَ لَهُمْ حَقّ الْقِيَام عَلَيْهِنَّ لِذَلِكَ . وَقِيلَ : لِلرِّجَالِ زِيَادَة قُوَّة فِي النَّفْس وَالطَّبْع مَا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ ; لِأَنَّ طَبْع الرِّجَال غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَرَارَة وَالْيُبُوسَة , فَيَكُون فِيهِ قُوَّة وَشِدَّة , وَطَبْع النِّسَاء غَلَبَ عَلَيْهِ الرُّطُوبَة وَالْبُرُودَة , فَيَكُون فِيهِ مَعْنَى اللِّين وَالضَّعْف ; فَجَعَلَ لَهُمْ حَقّ الْقِيَام عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ , وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالهمْ " .
وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى تَأْدِيب الرِّجَال نِسَاءَهُمْ , فَإِذَا حَفِظْنَ حُقُوق الرِّجَال فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسِيءَ الرَّجُل عِشْرَتَهَا . و " قَوَّام " فَعَّال لِلْمُبَالَغَةِ ; مِنْ الْقِيَام عَلَى الشَّيْء وَالِاسْتِبْدَاد بِالنَّظَرِ فِيهِ وَحِفْظه بِالِاجْتِهَادِ . فَقِيَام الرِّجَال عَلَى النِّسَاء هُوَ عَلَى هَذَا الْحَدّ ; وَهُوَ أَنْ يَقُوم بِتَدْبِيرِهَا وَتَأْدِيبهَا وَإِمْسَاكهَا فِي بَيْتهَا وَمَنْعهَا مِنْ الْبُرُوز , وَأَنَّ عَلَيْهَا طَاعَتَهُ وَقَبُولَ أَمْره مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَة ; وَتَعْلِيل ذَلِكَ بِالْفَضِيلَةِ وَالنَّفَقَة وَالْعَقْل وَالْقُوَّة فِي أَمْر الْجِهَاد وَالْمِيرَاث وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر . وَقَدْ رَاعَى بَعْضهمْ فِي التَّفْضِيل اللِّحْيَة - وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; فَإِنَّ اللِّحْيَة قَدْ تَكُون وَلَيْسَ مَعَهَا شَيْء مِمَّا ذَكَرْنَا . وَقَدْ مَضَى الرَّدّ عَلَى هَذَا فِي " الْبَقَرَة " .
أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ نَفَقَتهَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا كَانَ لَهَا فَسْخ الْعَقْد ; لِزَوَالِ الْمَقْصُود الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ النِّكَاح . وَفِيهِ دَلَالَة وَاضِحَة مِنْ هَذَا الْوَجْه عَلَى ثُبُوت فَسْخ النِّكَاح عِنْد الْإِعْسَار بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَة ; وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يُفْسَخ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة " [ الْبَقَرَة : 280 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَة .
هَذَا كُلّه خَبَر , وَمَقْصُوده الْأَمْر بِطَاعَةِ الزَّوْج وَالْقِيَام بِحَقِّهِ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسهَا فِي حَال غَيْبَة الزَّوْج . وَفِي مُسْنَد أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر النِّسَاء الَّتِي إِذَا نَظَرْت إِلَيْهَا سَرَّتْك وَإِذَا أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك وَإِذَا غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي نَفْسِهَا وَمَالِك ) قَالَ : وَتَلَا هَذِهِ الْآيَة " الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء " إِلَى آخِر الْآيَة . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَر : ( أَلَا أُخْبِرُك بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُهُ الْمَرْءُ الْمَرْأَة الصَّالِحَة إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ . وَفِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود " فَالصَّوَالِحُ قَوَانِتُ حَوَافِظُ " . وَهَذَا بِنَاء يَخْتَصّ بِالْمُؤَنَّثِ . قَالَ اِبْن جِنِّي : وَالتَّكْسِير أَشْبَهُ لَفْظًا بِالْمَعْنَى ; إِذْ هُوَ يُعْطِي الْكَثْرَة وَهِيَ الْمَقْصُود هَاهُنَا . و " مَا " فِي قَوْله : " بِمَا حَفِظَ اللَّه " مَصْدَرِيَّة , أَيْ بِحِفْظِ اللَّه لَهُنَّ . وَيَصِحّ أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الَّذِي , وَيَكُون الْعَائِد فِي " حَفِظَ " ضَمِير نَصْب . وَفِي قِرَاءَة أَبِي جَعْفَر " بِمَا حَفِظَ اللَّه " بِالنَّصْبِ . قَالَ النَّحَّاس : الرَّفْع أَبْيَن ; أَيْ حَافِظَات لِمَغِيبِ أَزْوَاجهنَّ بِحِفْظِ اللَّه وَمَعُونَته وَتَسْدِيدِهِ . وَقِيلَ : بِمَا حَفِظَهُنَّ اللَّه فِي مُهُورِهِنَّ وَعِشْرَتِهِنَّ . وَقِيلَ : بِمَا اِسْتَحْفَظَهُنَّ اللَّه إِيَّاهُ مِنْ أَدَاء الْأَمَانَات إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ . وَمَعْنَى قِرَاءَة النَّصْب : بِحِفْظِهِنَّ اللَّه ; أَيْ بِحِفْظِهِنَّ أَمْره أَوْ دِينه . وَقِيلَ فِي التَّقْدِير : بِمَا حَفِظْنَ اللَّه , ثُمَّ وَحَّدَ الْفِعْل ; كَمَا قِيلَ : فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا وَقِيلَ : الْمَعْنَى بِحِفْظِ اللَّه ; مِثْل حَفِظْت اللَّه .
اللَّاتِي جَمْع الَّتِي وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَخَافُونَ بِمَعْنَى تَعْلَمُونَ وَتَتَيَقَّنُونَ . وَقِيلَ هُوَ عَلَى بَابه . وَالنُّشُوز الْعِصْيَان ; مَأْخُوذ مِنْ النَّشَز , وَهُوَ مَا اِرْتَفَعَ مِنْ الْأَرْض . يُقَال : نَشَزَ الرَّجُل يَنْشُز وَيَنْشِز إِذَا كَانَ قَاعِدًا فَنَهَضَ قَائِمًا ; وَمِنْهُ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا " [ الْمُجَادَلَة : 11 ] أَيْ اِرْتَفِعُوا وَانْهَضُوا إِلَى حَرْب أَوْ أَمْر مِنْ أُمُور اللَّه تَعَالَى . فَالْمَعْنَى : أَيْ تَخَافُونَ عِصْيَانَهُنَّ وَتَعَالِيَهُنَّ عَمَّا أَوْجَبَ اللَّه عَلَيْهِنَّ مِنْ طَاعَة الْأَزْوَاج . وَقَالَ أَبُو مَنْصُور اللُّغَوِيّ : النُّشُوز كَرَاهِيَة كُلّ وَاحِد مِنْ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ ; يُقَال : نَشَزَتْ تَنْشُز فَهِيَ نَاشِز بِغَيْرِ هَاء . وَنَشَصَتْ تَنْشُص , وَهِيَ السَّيِّئَة لِلْعِشْرَةِ . وَقَالَ اِبْن فَارِس : وَنَشَزَتْ الْمَرْأَة اِسْتَصْعَبَتْ عَلَى بَعْلهَا , وَنَشَزَ بَعْلُهَا عَلَيْهَا إِذَا ضَرَبَهَا وَجَفَاهَا . قَالَ اِبْن دُرَيْد : نَشَزَتْ الْمَرْأَة وَنَشَسَتْ وَنَشَصَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
أَيْ بِكِتَابِ اللَّه ; أَيْ ذَكِّرُوهُنَّ مَا أَوْجَبَ اللَّه عَلَيْهِنَّ مِنْ حُسْن الصُّحْبَة وَجَمِيل الْعِشْرَة لِلزَّوْجِ , وَالِاعْتِرَاف بِالدَّرَجَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا , وَيَقُول : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَة أَنْ تَسْجُد لِزَوْجِهَا ) . وَقَالَ : ( لَا تَمْنَعْهُ نَفْسَهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَهْر قَتَب ) . وَقَالَ : ( أَيّمَا اِمْرَأَةٍ بَاتَتْ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَة حَتَّى تُصْبِح ) فِي رِوَايَة ( حَتَّى تُرَاجِع وَتَضَع يَدهَا فِي يَده ) . وَمَا كَانَ مِثْل هَذَا .
وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَالنَّخَعِيّ وَغَيْرهمَا " فِي الْمَضْجَع " عَلَى الْإِفْرَاد ; كَأَنَّهُ اِسْم جِنْس يُؤَدِّي عَنْ الْجَمْع . وَالْهَجْر فِي الْمَضَاجِع هُوَ أَنْ يُضَاجِعَهَا وَيُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ وَلَا يُجَامِعُهَا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقَالَ مُجَاهِد : جَنِّبُوا مَضَاجِعهنَّ ; فَيَتَقَدَّر عَلَى هَذَا الْكَلَام حَذْف , وَيُعَضِّدُهُ " اُهْجُرُوهُنَّ " مِنْ الْهِجْرَان , وَهُوَ الْبُعْد ; يُقَال : هَجَرَهُ أَيْ تَبَاعَدَ وَنَأَى عَنْهُ . وَلَا يُمْكِن بَعْدهَا إِلَّا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا . وَقَالَ مَعْنَاهُ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَالشَّعْبِيّ وَقَتَادَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ , وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَالَ : حَمَلُوا الْأَمْر عَلَى الْأَكْثَر الْمُوفِي . وَيَكُون هَذَا الْقَوْل كَمَا تَقُول : اُهْجُرْهُ فِي اللَّه . وَهَذَا أَصْل مَالِك .
قُلْت : هَذَا قَوْل حَسَن ; فَإِنَّ الزَّوْج إِذَا أَعْرَضَ عَنْ فِرَاشهَا فَإِنْ كَانَتْ مُحِبَّةً لِلزَّوْجِ فَذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهَا فَتَرْجِعُ لِلصَّلَاحِ , وَإِنْ كَانَتْ مُبْغِضَةً فَيَظْهَر النُّشُوز مِنْهَا ; فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ النُّشُوز مِنْ قِبَلِهَا . وَقِيلَ : " اُهْجُرُوهُنَّ " مِنْ الْهَجْر وَهُوَ الْقَبِيح مِنْ الْكَلَام , أَيْ غُلِّظُوا عَلَيْهِنَّ فِي الْقَوْل وَضَاجِعُوهُنَّ لِلْجِمَاعِ وَغَيْره ; قَالَ مَعْنَاهُ سُفْيَان , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : أَيْ شُدُّوهُنَّ وَثَاقًا فِي بُيُوتِهِنَّ ; مِنْ قَوْلهمْ : هَجَرَ الْبَعِير أَيْ رَبَطَهُ بِالْهِجَارِ , وَهُوَ حَبْل يُشَدُّ بِهِ الْبَعِير , وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ وَقَدَحَ فِي سَائِر الْأَقْوَال . وَفِي كَلَامه فِي هَذَا الْمَوْضِع نَظَر . وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ فِي أَحْكَامه فَقَالَ : يَا لَهَا مِنْ هَفْوَة مِنْ عَالِم بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّة ! وَاَلَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر الصِّدِّيق اِمْرَأَة الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام كَانَتْ تَخْرُج حَتَّى عُوتِبَ فِي ذَلِكَ . قَالَ : وَعَتَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى ضَرَّتهَا , فَعَقَدَ شَعْر وَاحِدَة بِالْأُخْرَى ثُمَّ ضَرَبَهُمَا ضَرْبًا شَدِيدًا , وَكَانَتْ الضَّرَّة أَحْسَنَ اِتِّقَاءً , وَكَانَتْ أَسْمَاء لَا تَتَّقِي فَكَانَ الضَّرْب بِهَا أَكْثَر ; فَشَكَتْ إِلَى أَبِيهَا أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ لَهَا : أَيْ بُنَيَّة اِصْبِرِي فَإِنَّ الزُّبَيْر رَجُل صَالِح , وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُون زَوْجَك فِي الْجَنَّة ; وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُل إِذَا اِبْتَكَرَ بِامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا فِي الْجَنَّة . فَرَأَى الرَّبْط وَالْعَقْد مَعَ اِحْتِمَال اللَّفْظ مَعَ فِعْل الزُّبَيْر فَأَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّفْسِير . وَهَذَا الْهَجْر غَايَته عِنْد الْعُلَمَاء شَهْر ; كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَسَرَّ إِلَى حَفْصَة فَأَفْشَتْهُ إِلَى عَائِشَة , وَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ . وَلَا يَبْلُغ بِهِ الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر الَّتِي ضَرَبَ اللَّه أَجَلًا عُذْرًا لِلْمَوْلَى .
أَمَرَ اللَّه أَنْ يَبْدَأ النِّسَاء بِالْمَوْعِظَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْهِجْرَانِ , فَإِنْ لَمْ يَنْجَعَا فَالضَّرْب ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصْلِحُهَا لَهُ وَيَحْمِلهَا عَلَى تَوْفِيَة حَقّه . وَالضَّرْب فِي هَذِهِ الْآيَة هُوَ ضَرْب الْأَدَب غَيْر الْمُبَرِّح , وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِر عَظْمًا وَلَا يَشِين جَارِحَة كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوهَا ; فَإِنَّ الْمَقْصُود مِنْهُ الصَّلَاح لَا غَيْر . فَلَا جَرَمَ إِذَا أَدَّى إِلَى الْهَلَاك وَجَبَ الضَّمَان , وَكَذَلِكَ الْقَوْل فِي ضَرْب الْمُؤَدِّبِ غُلَامَهُ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآن وَالْأَدَب . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : ( اِتَّقُوا اللَّه فِي النِّسَاء فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّه وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّه وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح ) الْحَدِيث . أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث جَابِر الطَّوِيل فِي الْحَجّ , أَيْ لَا يُدْخِلْنَ مَنَازِلَكُمْ أَحَدًا مِمَّنْ تَكْرَهُونَهُ مِنْ الْأَقَارِب وَالنِّسَاء الْأَجَانِب . وَعَلَى هَذَا يُحْمَل مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَمْرو بْن الْأَحْوَص أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّة الْوَدَاع مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَّرَ وَوَعَظَ فَقَالَ : ( أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْر ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتهنَّ وَطَعَامِهِنَّ ) . وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَقَوْله : " بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة " [ النِّسَاء : 19 ] يُرِيد لَا يُدْخِلْنَ مَنْ يَكْرَهُهُ أَزْوَاجُهُنَّ وَلَا يُغْضِبَنَّهُمْ . وَلَيْسَ الْمُرَاد بِذَلِكَ الزِّنَى ; فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّم وَيَلْزَم عَلَيْهِ الْحَدّ . وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( اضْرِبُوا النِّسَاء إِذَا عَصَيْنَكُمْ فِي مَعْرُوف ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح ) . قَالَ عَطَاء : قُلْت لِابْنِ عَبَّاس مَا الضَّرْب غَيْر الْمُبَرِّح ؟ قَالَ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوه . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ضَرَبَ اِمْرَأَته فَعُذِلَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يُسْأَل الرَّجُل فِيمَ ضَرَبَ أَهْلَهُ ) .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ . أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَأْمُر فِي شَيْء مِنْ كِتَابه بِالضَّرْبِ صُرَاحًا7 إِلَّا هُنَا وَفِي الْحُدُود الْعِظَام ; فَسَاوَى مَعْصِيَتَهُنَّ بِأَزْوَاجِهِنَّ بِمَعْصِيَةِ الْكَبَائِر , وَوَلَّى الْأَزْوَاج ذَلِكَ دُون الْأَئِمَّة , وَجَعَلَهُ لَهُمْ دُون الْقُضَاة بِغَيْرِ شُهُود وَلَا بَيِّنَات اِئْتِمَانًا مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْأَزْوَاجِ عَلَى النِّسَاء . قَالَ الْمُهَلَّب : إِنَّمَا جُوِّزَ ضَرْب النِّسَاء مِنْ أَجْل اِمْتِنَاعِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجهنَّ فِي الْمُبَاضَعَة . وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوب ضَرْبهَا فِي الْخِدْمَة , وَالْقِيَاس يُوجِب أَنَّهُ إِذَا جَازَ ضَرْبهَا فِي الْمُبَاضَعَة جَازَ ضَرْبهَا فِي الْخِدْمَة الْوَاجِبَة لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ . وَقَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ . وَالنُّشُوز يُسْقِط النَّفَقَة وَجَمِيع الْحُقُوق الزَّوْجِيَّة , وَيَجُوز مَعَهُ أَنْ يَضْرِبهَا الزَّوْج ضَرْب الْأَدَب غَيْر الْمُبَرِّح , وَالْوَعْظ وَالْهَجْر حَتَّى تَرْجِع عَنْ نُشُوزهَا , فَإِذَا رَجَعَتْ عَادَتْ حُقُوقهَا ; وَكَذَلِكَ كُلّ مَا اِقْتَضَى الْأَدَب فَجَائِز لِلزَّوْجِ تَأْدِيبهَا . وَيَخْتَلِف الْحَال فِي أَدَب الرَّفِيعَة وَالدَّنِيئَة ; فَأَدَبُ الرَّفِيعَة الْعَذْلُ , وَأَدَبُ الدَّنِيئَة السَّوْطُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَحِمَ اللَّه اِمْرَأً عَلَّقَ سَوْطَهُ وَأَدَّبَ أَهْله ) . وَقَالَ : ( إِنَّ أَبَا جَهْم لَا يَضَع عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ ) . وَقَالَ بَشَّار : الْحُرُّ يُلْحَى وَالْعَصَا لِلْعَبْدِ يُلْحَى أَيْ يُلَام ; وَقَالَ اِبْن دُرَيْد : وَاللَّوْم لِلْحُرِّ مُقِيمٌ رَادِعُ وَالْعَبْدُ لَا يَرْدَعُهُ إِلَّا الْعَصَا قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : اِتَّفَقَ أَهْل الْعِلْم عَلَى وُجُوب نَفَقَات الزَّوْجَات عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا بَالِغِينَ إِلَّا النَّاشِز مِنْهُنَّ الْمُمْتَنِعَة . وَقَالَ أَبُو عُمَر : مَنْ نَشَزَتْ عَنْهُ اِمْرَأَته بَعْد دُخُوله سَقَطَتْ عَنْهُ نَفَقَتُهَا إِلَّا أَنْ تَكُون حَامِلًا . وَخَالَفَ اِبْن الْقَاسِم جَمَاعَة الْفُقَهَاء فِي نَفَقَة النَّاشِز فَأَوْجَبَهَا . وَإِذَا عَادَتْ النَّاشِز إِلَى زَوْجهَا وَجَبَ فِي الْمُسْتَقْبَل نَفَقَتهَا . وَلَا تَسْقُط نَفَقَة الْمَرْأَة عَنْ زَوْجهَا لِشَيْءٍ غَيْر النُّشُوز ; لَا مِنْ مَرَض وَلَا حَيْض وَلَا نِفَاس وَلَا صَوْم وَلَا حَجّ وَلَا مَغِيب زَوْجهَا وَلَا حَبْسه عَنْهَا فِي حَقّ أَوْ جَوْر غَيْر مَا ذَكَرْنَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ تَرَكُوا النُّشُوز .
أَيْ لَا تَجْنُوا عَلَيْهِنَّ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْل . وَهَذَا نَهْي عَنْ ظُلْمِهِنَّ بَعْد تَقْرِير الْفَضْل عَلَيْهِنَّ وَالتَّمْكِين مِنْ أَدَبِهِنَّ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُكَلِّفُوهُنَّ الْحُبَّ لَكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهِنَّ .
إِشَارَة إِلَى الْأَزْوَاج بِخَفْضِ الْجَنَاح وَلِين الْجَانِب ; أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِنَّ فَتَذْكُرُوا قُدْرَة اللَّه ; فَيَدُهُ بِالْقُدْرَةِ فَوْق كُلّ يَد . فَلَا يَسْتَعْلِي أَحَد عَلَى اِمْرَأَتِهِ فَاَللَّه بِالْمِرْصَادِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ الِاتِّصَاف , هُنَا بِالْعُلُوِّ وَالْكِبَر .
وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى تَأْدِيب الرِّجَال نِسَاءَهُمْ , فَإِذَا حَفِظْنَ حُقُوق الرِّجَال فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسِيءَ الرَّجُل عِشْرَتَهَا . و " قَوَّام " فَعَّال لِلْمُبَالَغَةِ ; مِنْ الْقِيَام عَلَى الشَّيْء وَالِاسْتِبْدَاد بِالنَّظَرِ فِيهِ وَحِفْظه بِالِاجْتِهَادِ . فَقِيَام الرِّجَال عَلَى النِّسَاء هُوَ عَلَى هَذَا الْحَدّ ; وَهُوَ أَنْ يَقُوم بِتَدْبِيرِهَا وَتَأْدِيبهَا وَإِمْسَاكهَا فِي بَيْتهَا وَمَنْعهَا مِنْ الْبُرُوز , وَأَنَّ عَلَيْهَا طَاعَتَهُ وَقَبُولَ أَمْره مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَة ; وَتَعْلِيل ذَلِكَ بِالْفَضِيلَةِ وَالنَّفَقَة وَالْعَقْل وَالْقُوَّة فِي أَمْر الْجِهَاد وَالْمِيرَاث وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر . وَقَدْ رَاعَى بَعْضهمْ فِي التَّفْضِيل اللِّحْيَة - وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; فَإِنَّ اللِّحْيَة قَدْ تَكُون وَلَيْسَ مَعَهَا شَيْء مِمَّا ذَكَرْنَا . وَقَدْ مَضَى الرَّدّ عَلَى هَذَا فِي " الْبَقَرَة " .
أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ نَفَقَتهَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا كَانَ لَهَا فَسْخ الْعَقْد ; لِزَوَالِ الْمَقْصُود الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ النِّكَاح . وَفِيهِ دَلَالَة وَاضِحَة مِنْ هَذَا الْوَجْه عَلَى ثُبُوت فَسْخ النِّكَاح عِنْد الْإِعْسَار بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَة ; وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يُفْسَخ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة " [ الْبَقَرَة : 280 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَة .
هَذَا كُلّه خَبَر , وَمَقْصُوده الْأَمْر بِطَاعَةِ الزَّوْج وَالْقِيَام بِحَقِّهِ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسهَا فِي حَال غَيْبَة الزَّوْج . وَفِي مُسْنَد أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر النِّسَاء الَّتِي إِذَا نَظَرْت إِلَيْهَا سَرَّتْك وَإِذَا أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك وَإِذَا غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي نَفْسِهَا وَمَالِك ) قَالَ : وَتَلَا هَذِهِ الْآيَة " الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء " إِلَى آخِر الْآيَة . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَر : ( أَلَا أُخْبِرُك بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُهُ الْمَرْءُ الْمَرْأَة الصَّالِحَة إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ . وَفِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود " فَالصَّوَالِحُ قَوَانِتُ حَوَافِظُ " . وَهَذَا بِنَاء يَخْتَصّ بِالْمُؤَنَّثِ . قَالَ اِبْن جِنِّي : وَالتَّكْسِير أَشْبَهُ لَفْظًا بِالْمَعْنَى ; إِذْ هُوَ يُعْطِي الْكَثْرَة وَهِيَ الْمَقْصُود هَاهُنَا . و " مَا " فِي قَوْله : " بِمَا حَفِظَ اللَّه " مَصْدَرِيَّة , أَيْ بِحِفْظِ اللَّه لَهُنَّ . وَيَصِحّ أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الَّذِي , وَيَكُون الْعَائِد فِي " حَفِظَ " ضَمِير نَصْب . وَفِي قِرَاءَة أَبِي جَعْفَر " بِمَا حَفِظَ اللَّه " بِالنَّصْبِ . قَالَ النَّحَّاس : الرَّفْع أَبْيَن ; أَيْ حَافِظَات لِمَغِيبِ أَزْوَاجهنَّ بِحِفْظِ اللَّه وَمَعُونَته وَتَسْدِيدِهِ . وَقِيلَ : بِمَا حَفِظَهُنَّ اللَّه فِي مُهُورِهِنَّ وَعِشْرَتِهِنَّ . وَقِيلَ : بِمَا اِسْتَحْفَظَهُنَّ اللَّه إِيَّاهُ مِنْ أَدَاء الْأَمَانَات إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ . وَمَعْنَى قِرَاءَة النَّصْب : بِحِفْظِهِنَّ اللَّه ; أَيْ بِحِفْظِهِنَّ أَمْره أَوْ دِينه . وَقِيلَ فِي التَّقْدِير : بِمَا حَفِظْنَ اللَّه , ثُمَّ وَحَّدَ الْفِعْل ; كَمَا قِيلَ : فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا وَقِيلَ : الْمَعْنَى بِحِفْظِ اللَّه ; مِثْل حَفِظْت اللَّه .
اللَّاتِي جَمْع الَّتِي وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَخَافُونَ بِمَعْنَى تَعْلَمُونَ وَتَتَيَقَّنُونَ . وَقِيلَ هُوَ عَلَى بَابه . وَالنُّشُوز الْعِصْيَان ; مَأْخُوذ مِنْ النَّشَز , وَهُوَ مَا اِرْتَفَعَ مِنْ الْأَرْض . يُقَال : نَشَزَ الرَّجُل يَنْشُز وَيَنْشِز إِذَا كَانَ قَاعِدًا فَنَهَضَ قَائِمًا ; وَمِنْهُ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا " [ الْمُجَادَلَة : 11 ] أَيْ اِرْتَفِعُوا وَانْهَضُوا إِلَى حَرْب أَوْ أَمْر مِنْ أُمُور اللَّه تَعَالَى . فَالْمَعْنَى : أَيْ تَخَافُونَ عِصْيَانَهُنَّ وَتَعَالِيَهُنَّ عَمَّا أَوْجَبَ اللَّه عَلَيْهِنَّ مِنْ طَاعَة الْأَزْوَاج . وَقَالَ أَبُو مَنْصُور اللُّغَوِيّ : النُّشُوز كَرَاهِيَة كُلّ وَاحِد مِنْ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ ; يُقَال : نَشَزَتْ تَنْشُز فَهِيَ نَاشِز بِغَيْرِ هَاء . وَنَشَصَتْ تَنْشُص , وَهِيَ السَّيِّئَة لِلْعِشْرَةِ . وَقَالَ اِبْن فَارِس : وَنَشَزَتْ الْمَرْأَة اِسْتَصْعَبَتْ عَلَى بَعْلهَا , وَنَشَزَ بَعْلُهَا عَلَيْهَا إِذَا ضَرَبَهَا وَجَفَاهَا . قَالَ اِبْن دُرَيْد : نَشَزَتْ الْمَرْأَة وَنَشَسَتْ وَنَشَصَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
أَيْ بِكِتَابِ اللَّه ; أَيْ ذَكِّرُوهُنَّ مَا أَوْجَبَ اللَّه عَلَيْهِنَّ مِنْ حُسْن الصُّحْبَة وَجَمِيل الْعِشْرَة لِلزَّوْجِ , وَالِاعْتِرَاف بِالدَّرَجَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا , وَيَقُول : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَة أَنْ تَسْجُد لِزَوْجِهَا ) . وَقَالَ : ( لَا تَمْنَعْهُ نَفْسَهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَهْر قَتَب ) . وَقَالَ : ( أَيّمَا اِمْرَأَةٍ بَاتَتْ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَة حَتَّى تُصْبِح ) فِي رِوَايَة ( حَتَّى تُرَاجِع وَتَضَع يَدهَا فِي يَده ) . وَمَا كَانَ مِثْل هَذَا .
وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَالنَّخَعِيّ وَغَيْرهمَا " فِي الْمَضْجَع " عَلَى الْإِفْرَاد ; كَأَنَّهُ اِسْم جِنْس يُؤَدِّي عَنْ الْجَمْع . وَالْهَجْر فِي الْمَضَاجِع هُوَ أَنْ يُضَاجِعَهَا وَيُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ وَلَا يُجَامِعُهَا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقَالَ مُجَاهِد : جَنِّبُوا مَضَاجِعهنَّ ; فَيَتَقَدَّر عَلَى هَذَا الْكَلَام حَذْف , وَيُعَضِّدُهُ " اُهْجُرُوهُنَّ " مِنْ الْهِجْرَان , وَهُوَ الْبُعْد ; يُقَال : هَجَرَهُ أَيْ تَبَاعَدَ وَنَأَى عَنْهُ . وَلَا يُمْكِن بَعْدهَا إِلَّا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا . وَقَالَ مَعْنَاهُ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَالشَّعْبِيّ وَقَتَادَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ , وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَالَ : حَمَلُوا الْأَمْر عَلَى الْأَكْثَر الْمُوفِي . وَيَكُون هَذَا الْقَوْل كَمَا تَقُول : اُهْجُرْهُ فِي اللَّه . وَهَذَا أَصْل مَالِك .
قُلْت : هَذَا قَوْل حَسَن ; فَإِنَّ الزَّوْج إِذَا أَعْرَضَ عَنْ فِرَاشهَا فَإِنْ كَانَتْ مُحِبَّةً لِلزَّوْجِ فَذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهَا فَتَرْجِعُ لِلصَّلَاحِ , وَإِنْ كَانَتْ مُبْغِضَةً فَيَظْهَر النُّشُوز مِنْهَا ; فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ النُّشُوز مِنْ قِبَلِهَا . وَقِيلَ : " اُهْجُرُوهُنَّ " مِنْ الْهَجْر وَهُوَ الْقَبِيح مِنْ الْكَلَام , أَيْ غُلِّظُوا عَلَيْهِنَّ فِي الْقَوْل وَضَاجِعُوهُنَّ لِلْجِمَاعِ وَغَيْره ; قَالَ مَعْنَاهُ سُفْيَان , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : أَيْ شُدُّوهُنَّ وَثَاقًا فِي بُيُوتِهِنَّ ; مِنْ قَوْلهمْ : هَجَرَ الْبَعِير أَيْ رَبَطَهُ بِالْهِجَارِ , وَهُوَ حَبْل يُشَدُّ بِهِ الْبَعِير , وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ وَقَدَحَ فِي سَائِر الْأَقْوَال . وَفِي كَلَامه فِي هَذَا الْمَوْضِع نَظَر . وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ فِي أَحْكَامه فَقَالَ : يَا لَهَا مِنْ هَفْوَة مِنْ عَالِم بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّة ! وَاَلَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر الصِّدِّيق اِمْرَأَة الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام كَانَتْ تَخْرُج حَتَّى عُوتِبَ فِي ذَلِكَ . قَالَ : وَعَتَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى ضَرَّتهَا , فَعَقَدَ شَعْر وَاحِدَة بِالْأُخْرَى ثُمَّ ضَرَبَهُمَا ضَرْبًا شَدِيدًا , وَكَانَتْ الضَّرَّة أَحْسَنَ اِتِّقَاءً , وَكَانَتْ أَسْمَاء لَا تَتَّقِي فَكَانَ الضَّرْب بِهَا أَكْثَر ; فَشَكَتْ إِلَى أَبِيهَا أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ لَهَا : أَيْ بُنَيَّة اِصْبِرِي فَإِنَّ الزُّبَيْر رَجُل صَالِح , وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُون زَوْجَك فِي الْجَنَّة ; وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُل إِذَا اِبْتَكَرَ بِامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا فِي الْجَنَّة . فَرَأَى الرَّبْط وَالْعَقْد مَعَ اِحْتِمَال اللَّفْظ مَعَ فِعْل الزُّبَيْر فَأَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّفْسِير . وَهَذَا الْهَجْر غَايَته عِنْد الْعُلَمَاء شَهْر ; كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَسَرَّ إِلَى حَفْصَة فَأَفْشَتْهُ إِلَى عَائِشَة , وَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ . وَلَا يَبْلُغ بِهِ الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر الَّتِي ضَرَبَ اللَّه أَجَلًا عُذْرًا لِلْمَوْلَى .
أَمَرَ اللَّه أَنْ يَبْدَأ النِّسَاء بِالْمَوْعِظَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْهِجْرَانِ , فَإِنْ لَمْ يَنْجَعَا فَالضَّرْب ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصْلِحُهَا لَهُ وَيَحْمِلهَا عَلَى تَوْفِيَة حَقّه . وَالضَّرْب فِي هَذِهِ الْآيَة هُوَ ضَرْب الْأَدَب غَيْر الْمُبَرِّح , وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِر عَظْمًا وَلَا يَشِين جَارِحَة كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوهَا ; فَإِنَّ الْمَقْصُود مِنْهُ الصَّلَاح لَا غَيْر . فَلَا جَرَمَ إِذَا أَدَّى إِلَى الْهَلَاك وَجَبَ الضَّمَان , وَكَذَلِكَ الْقَوْل فِي ضَرْب الْمُؤَدِّبِ غُلَامَهُ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآن وَالْأَدَب . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : ( اِتَّقُوا اللَّه فِي النِّسَاء فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّه وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّه وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح ) الْحَدِيث . أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث جَابِر الطَّوِيل فِي الْحَجّ , أَيْ لَا يُدْخِلْنَ مَنَازِلَكُمْ أَحَدًا مِمَّنْ تَكْرَهُونَهُ مِنْ الْأَقَارِب وَالنِّسَاء الْأَجَانِب . وَعَلَى هَذَا يُحْمَل مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَمْرو بْن الْأَحْوَص أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّة الْوَدَاع مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَّرَ وَوَعَظَ فَقَالَ : ( أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْر ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتهنَّ وَطَعَامِهِنَّ ) . وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَقَوْله : " بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة " [ النِّسَاء : 19 ] يُرِيد لَا يُدْخِلْنَ مَنْ يَكْرَهُهُ أَزْوَاجُهُنَّ وَلَا يُغْضِبَنَّهُمْ . وَلَيْسَ الْمُرَاد بِذَلِكَ الزِّنَى ; فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّم وَيَلْزَم عَلَيْهِ الْحَدّ . وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( اضْرِبُوا النِّسَاء إِذَا عَصَيْنَكُمْ فِي مَعْرُوف ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح ) . قَالَ عَطَاء : قُلْت لِابْنِ عَبَّاس مَا الضَّرْب غَيْر الْمُبَرِّح ؟ قَالَ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوه . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ضَرَبَ اِمْرَأَته فَعُذِلَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يُسْأَل الرَّجُل فِيمَ ضَرَبَ أَهْلَهُ ) .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ . أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَأْمُر فِي شَيْء مِنْ كِتَابه بِالضَّرْبِ صُرَاحًا7 إِلَّا هُنَا وَفِي الْحُدُود الْعِظَام ; فَسَاوَى مَعْصِيَتَهُنَّ بِأَزْوَاجِهِنَّ بِمَعْصِيَةِ الْكَبَائِر , وَوَلَّى الْأَزْوَاج ذَلِكَ دُون الْأَئِمَّة , وَجَعَلَهُ لَهُمْ دُون الْقُضَاة بِغَيْرِ شُهُود وَلَا بَيِّنَات اِئْتِمَانًا مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْأَزْوَاجِ عَلَى النِّسَاء . قَالَ الْمُهَلَّب : إِنَّمَا جُوِّزَ ضَرْب النِّسَاء مِنْ أَجْل اِمْتِنَاعِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجهنَّ فِي الْمُبَاضَعَة . وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوب ضَرْبهَا فِي الْخِدْمَة , وَالْقِيَاس يُوجِب أَنَّهُ إِذَا جَازَ ضَرْبهَا فِي الْمُبَاضَعَة جَازَ ضَرْبهَا فِي الْخِدْمَة الْوَاجِبَة لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ . وَقَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ . وَالنُّشُوز يُسْقِط النَّفَقَة وَجَمِيع الْحُقُوق الزَّوْجِيَّة , وَيَجُوز مَعَهُ أَنْ يَضْرِبهَا الزَّوْج ضَرْب الْأَدَب غَيْر الْمُبَرِّح , وَالْوَعْظ وَالْهَجْر حَتَّى تَرْجِع عَنْ نُشُوزهَا , فَإِذَا رَجَعَتْ عَادَتْ حُقُوقهَا ; وَكَذَلِكَ كُلّ مَا اِقْتَضَى الْأَدَب فَجَائِز لِلزَّوْجِ تَأْدِيبهَا . وَيَخْتَلِف الْحَال فِي أَدَب الرَّفِيعَة وَالدَّنِيئَة ; فَأَدَبُ الرَّفِيعَة الْعَذْلُ , وَأَدَبُ الدَّنِيئَة السَّوْطُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَحِمَ اللَّه اِمْرَأً عَلَّقَ سَوْطَهُ وَأَدَّبَ أَهْله ) . وَقَالَ : ( إِنَّ أَبَا جَهْم لَا يَضَع عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ ) . وَقَالَ بَشَّار : الْحُرُّ يُلْحَى وَالْعَصَا لِلْعَبْدِ يُلْحَى أَيْ يُلَام ; وَقَالَ اِبْن دُرَيْد : وَاللَّوْم لِلْحُرِّ مُقِيمٌ رَادِعُ وَالْعَبْدُ لَا يَرْدَعُهُ إِلَّا الْعَصَا قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : اِتَّفَقَ أَهْل الْعِلْم عَلَى وُجُوب نَفَقَات الزَّوْجَات عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا بَالِغِينَ إِلَّا النَّاشِز مِنْهُنَّ الْمُمْتَنِعَة . وَقَالَ أَبُو عُمَر : مَنْ نَشَزَتْ عَنْهُ اِمْرَأَته بَعْد دُخُوله سَقَطَتْ عَنْهُ نَفَقَتُهَا إِلَّا أَنْ تَكُون حَامِلًا . وَخَالَفَ اِبْن الْقَاسِم جَمَاعَة الْفُقَهَاء فِي نَفَقَة النَّاشِز فَأَوْجَبَهَا . وَإِذَا عَادَتْ النَّاشِز إِلَى زَوْجهَا وَجَبَ فِي الْمُسْتَقْبَل نَفَقَتهَا . وَلَا تَسْقُط نَفَقَة الْمَرْأَة عَنْ زَوْجهَا لِشَيْءٍ غَيْر النُّشُوز ; لَا مِنْ مَرَض وَلَا حَيْض وَلَا نِفَاس وَلَا صَوْم وَلَا حَجّ وَلَا مَغِيب زَوْجهَا وَلَا حَبْسه عَنْهَا فِي حَقّ أَوْ جَوْر غَيْر مَا ذَكَرْنَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ تَرَكُوا النُّشُوز .
أَيْ لَا تَجْنُوا عَلَيْهِنَّ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْل . وَهَذَا نَهْي عَنْ ظُلْمِهِنَّ بَعْد تَقْرِير الْفَضْل عَلَيْهِنَّ وَالتَّمْكِين مِنْ أَدَبِهِنَّ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُكَلِّفُوهُنَّ الْحُبَّ لَكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهِنَّ .
إِشَارَة إِلَى الْأَزْوَاج بِخَفْضِ الْجَنَاح وَلِين الْجَانِب ; أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِنَّ فَتَذْكُرُوا قُدْرَة اللَّه ; فَيَدُهُ بِالْقُدْرَةِ فَوْق كُلّ يَد . فَلَا يَسْتَعْلِي أَحَد عَلَى اِمْرَأَتِهِ فَاَللَّه بِالْمِرْصَادِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ الِاتِّصَاف , هُنَا بِالْعُلُوِّ وَالْكِبَر .
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ↓
فِيهِ خَمْس مَسَائِل :
الْأُولَى : " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاق بَيْنهمَا " قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشِّقَاق فِي " الْبَقَرَة " . فَكَأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَأْخُذ شِقًّا غَيْر شِقّ صَاحِبه , أَيْ نَاحِيَةً غَيْرَ نَاحِيَة صَاحِبه . وَالْمُرَاد إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقًا بَيْنَهُمَا ; فَأُضِيفَ الْمَصْدَر إِلَى الظَّرْف كَقَوْلِك : يُعْجِبُنِي سَيْر اللَّيْلَة الْمُقْمِرَة , وَصَوْم يَوْم عَرَفَة . وَفِي التَّنْزِيل : " بَلْ مَكْرُ اللَّيْل وَالنَّهَار " [ سَبَأ : 33 ] . وَقِيلَ : إِنَّ " بَيْنَ " أُجْرِيَ مَجْرَى الْأَسْمَاء وَأُزِيلَ عَنْهُ الظَّرْفِيَّة ; إِذْ هُوَ بِمَعْنَى حَالِهِمَا وَعِشْرَتِهِمَا , أَيْ وَإِنْ خِفْتُمْ تَبَاعُد عِشْرَتهمَا وَصُحْبَتِهِمَا " فَابْعَثُوا " . و " خَتَمَ " عَلَى الْخِلَاف الْمُتَقَدِّم . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْحُكْم أَنْ يَعِظَهَا أَوَّلًا , فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا , فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا , فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا بَعَثَ الْحَاكِم حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا , فَيَنْظُرَانِ مِمَّنْ الضَّرَر , وَعِنْد ذَلِكَ يَكُون الْخُلْع . وَقَدْ قِيلَ : لَهُ أَنْ يَضْرِب قَبْل الْوَعْظ . وَالْأَوَّل أَصَحّ لِتَرْتِيبِ ذَلِكَ فِي الْآيَة .
الثَّانِيَة : وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَب بِقَوْلِهِ : " وَإِنْ خِفْتُمْ " الْحُكَّام وَالْأُمَرَاء . وَأَنَّ قَوْل : " إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّه بَيْنهمَا " يَعْنِي الْحَكَمِينَ ; فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . أَيْ إِنْ يُرِدْ الْحَكَمَانِ إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّه بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ . وَقِيلَ : الْمُرَاد الزَّوْجَانِ ; أَيْ إِنْ يُرِدْ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا وَصِدْقًا فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ الْحَكَمَيْنِ " يُوَفِّقْ اللَّه بَيْنهمَا " . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلْأَوْلِيَاءِ . يَقُول : " إِنْ خِفْتُمْ " أَيْ عَلِمْتُمْ خِلَافًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ " فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا " وَالْحَكَمَانِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنْ أَهْل الرَّجُل وَالْمَرْأَة ; إِذْ هُمَا أَقْعَد بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ , وَيَكُونَانِ مِنْ أَهْل الْعَدَالَة وَحُسْن النَّظَر وَالْبَصَر بِالْفِقْهِ . فَإِنْ لَمْ يُوجَد مِنْ أَهْلهمَا مَنْ يَصْلُح لِذَلِكَ فَيُرْسِل مِنْ غَيْرهمَا عَدْلَيْنِ عَالِمَيْنِ ; وَذَلِكَ إِذَا أَشْكَلَ أَمْرهمَا وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنْ الْإِسَاءَة مِنْهُمَا . فَأَمَّا إِنْ عُرِفَ الظَّالِمُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ الْحَقّ لِصَاحِبِهِ وَيُجْبَر عَلَى إِزَالَة الضَّرَر . وَيُقَال : إِنَّ الْحَكَم مِنْ أَهْل الزَّوْج يَخْلُو بِهِ وَيَقُول لَهُ : أَخْبِرْنِي بِمَا فِي نَفْسك أَتَهْوَاهَا أَمْ لَا حَتَّى أَعْلَمَ مُرَادك ؟ فَإِنْ قَالَ : لَا حَاجَة لِي فِيهَا خُذْ لِي مِنْهَا مَا اِسْتَطَعْت وَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنهَا , فَيُعْرَف أَنَّ مِنْ قِبَلِهِ النُّشُوز . وَإِنْ قَالَ : إِنِّي أَهْوَاهَا فَأَرْضِهَا مِنْ مَالِي بِمَا شِئْت وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنهَا , فَيُعْلَم أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاشِزٍ . وَيَخْلُو الْحَكَم مِنْ جِهَتِهَا بِالْمَرْأَةِ وَيَقُول لَهَا : أَتَهْوَيْنَ زَوْجَك أَمْ لَا ; فَإِنْ قَالَتْ : فَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنه وَأَعْطِهِ مِنْ مَالِي مَا أَرَادَ ; فَيُعْلَم أَنَّ النُّشُوز مِنْ قِبَلهَا . وَإِنْ قَالَتْ : لَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَلَكِنْ حُثَّهُ عَلَى أَنْ يَزِيد فِي نَفَقَتِي وَيُحْسِنَ إِلَيَّ , عُلِمَ أَنَّ النُّشُوز لَيْسَ مِنْ قِبَلهَا . فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمَا الَّذِي كَانَ النُّشُوز مِنْ قِبَلِهِ يُقْبِلَانِ عَلَيْهِ بِالْعِظَةِ وَالزَّجْر وَالنَّهْي ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا " .
الثَّالِثَة : قَالَ الْعُلَمَاء : قَسَّمَتْ هَذِهِ الْآيَة النِّسَاء تَقْسِيمًا عَقْلِيًّا ; لِأَنَّهُنَّ إِمَّا طَائِعَة وَإِمَّا نَاشِز ; وَالنُّشُوز إِمَّا أَنْ يَرْجِع إِلَى الطَّوَاعِيَة أَوْ لَا . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّل تُرِكَا ; لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَنَّ عَقِيل بْن أَبِي طَالِب تَزَوَّجَ فَاطِمَة بِنْت عُتْبَة بْن رَبِيعَة فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا تَقُول : يَا بَنِي هَاشِم , وَاَللَّهِ لَا يُحِبُّكُمْ قَلْبِي أَبَدًا ! أَيْنَ الَّذِينَ أَعْنَاقُهُمْ كَأَبَارِيق الْفِضَّة ! تُرَدُّ أُنُوفُهُمْ قَبْل شِفَاهِهِمْ , أَيْنَ عُتْبَة بْن رَبِيعَة , أَيْنَ شَيْبَة بْن رَبِيعَة ; فَيَسْكُت عَنْهَا , حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا وَهُوَ بَرِمٌ فَقَالَتْ لَهُ : أَيْنَ عُتْبَة بْن رَبِيعَة ؟ فَقَالَ : عَلَى يَسَارِك فِي النَّار إِذَا دَخَلْتِ ; فَنَشَرَتْ عَلَيْهَا ثِيَابهَا , فَجَاءَتْ عُثْمَان فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ ; فَأَرْسَلَ اِبْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنهمَا ; وَقَالَ مُعَاوِيَة : مَا كُنْت لِأُفَرِّقَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْد مَنَافٍ . فَأَتَيَاهُمَا فَوَجَدَاهُمَا قَدْ سَدَّا عَلَيْهِمَا أَبْوَابَهُمَا وَأَصْلَحَا أَمْرَهُمَا . فَإِنْ وَجَدَاهُمَا قَدْ اِخْتَلَفَا وَلَمْ يَصْطَلِحَا وَتَفَاقَمَ أَمْرهمَا سَعَيَا فِي الْأُلْفَة جَهْدَهُمَا , وَذُكِّرَا بِاَللَّهِ وَبِالصُّحْبَةِ . فَإِنْ أَنَابَا وَرَجَعَا تَرَكَاهُمَا , وَإِنْ كَانَا غَيْر ذَلِكَ وَرَأَيَا الْفُرْقَة فَرَّقَا بَيْنَهُمَا . وَتَفْرِيقُهُمَا جَائِز عَلَى الزَّوْجَيْنِ ; وَسَوَاء وَافَقَ حُكْمَ قَاضِي الْبَلَد أَوْ خَالَفَهُ , وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوَكِّلَاهُمَا . وَالْفِرَاق فِي ذَلِكَ طَلَاق بَائِن . وَقَالَ قَوْم : لَيْسَ لَهُمَا الطَّلَاق مَا لَمْ يُوَكِّلْهُمَا الزَّوْج فِي ذَلِكَ , وَلْيُعَرِّفَا الْإِمَام ; وَهَذَا بِنَاء عَلَى أَنَّهُمَا رَسُولَانِ شَاهِدَانِ . ثُمَّ الْإِمَام يُفَرِّق إِنْ أَرَادَ وَيَأْمُر الْحَكَم بِالتَّفْرِيقِ . وَهَذَا أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ ; وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ , وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَابْن زَيْد وَالْحَسَن , وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر . وَالصَّحِيح الْأَوَّل , لِأَنَّ لِلْحَكَمَيْنِ التَّطْلِيقَ دُون تَوْكِيل ; وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَان وَعَلِيّ وَابْن عَبَّاس , وَعَنْ الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا " وَهَذَا نَصّ مِنْ اللَّه سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لَا وَكِيلَانِ وَلَا شَاهِدَانِ . وَلِلْوَكِيلِ اِسْم فِي الشَّرِيعَة وَمَعْنًى , وَلِلْحَكَمِ اِسْم فِي الشَّرِيعَة وَمَعْنًى ; فَإِذَا بَيَّنَ اللَّه كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فَلَا يَنْبَغِي لِشَاذٍّ - فَكَيْفَ لِعَالِمٍ - أَنْ يُرَكِّبَ مَعْنَى أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر ! . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَة فِي هَذِهِ الْآيَة " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاق بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا " قَالَ : جَاءَ رَجُل وَامْرَأَة إِلَى عَلِيّ مَعَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاس فَأَمَرَهُمْ فَبَعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا , وَقَالَ لِلْحَكَمَيْنِ : هَلْ تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا . فَقَالَتْ الْمَرْأَة : رَضِيت بِكِتَابِ اللَّه بِمَا عَلَيَّ فِيهِ وَلِي . وَقَالَ الزَّوْج : أَمَّا الْفُرْقَة فَلَا . فَقَالَ عَلِيّ : كَذَبْت , وَاَللَّهِ لَا تَبْرَح حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح ثَابِت رُوِيَ عَنْ عَلِيّ مِنْ وُجُوه ثَابِتَة عَنْ اِبْن سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَة ; قَالَهُ أَبُو عُمَر . فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ أَوْ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا : أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ إِنَّمَا كَانَ يَقُول : أَتَدْرِيَانِ بِمَا وُكِّلْتُمَا ؟ وَهَذَا بَيِّنٌ . اِحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة بِقَوْلِ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِلزَّوْجِ : لَا تَبْرَح حَتَّى تَرْضَى بِمَا رَضِيَتْ بِهِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبه أَنَّهُمَا لَا يُفَرِّقَانِ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْج , وَبِأَنَّ الْأَصْل الْمُجْتَمَع عَلَيْهِ أَنَّ الطَّلَاق بِيَدِ الزَّوْج أَوْ بِيَدِ مَنْ جُعِلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ . وَجَعَلَهُ مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ بَاب طَلَاق السُّلْطَان عَلَى الْمَوْلَى وَالْعِنِّين .
الرَّابِعَة : فَإِنْ اِخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ لَمْ يَنْفُذْ قَوْلُهُمَا وَلَمْ يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ شَيْء إِلَّا مَا اِجْتَمَعَا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ كُلّ حَكَمَيْنِ حَكَمَا فِي أَمْر ; فَإِنَّ حَكَمَ أَحَدهمَا بِالْفُرْقَةِ وَلَمْ يَحْكُم بِهَا الْآخَر , أَوْ حَكَمَ أَحَدهمَا بِمَالٍ وَأَبَى الْآخَر فَلَيْسَا بِشَيْءٍ حَتَّى يَتَّفِقَا . وَقَالَ مَالِك فِي الْحَكَمَيْنِ يُطَلِّقَانِ ثَلَاثًا قَالَ : تَلْزَم وَاحِدَة وَلَيْسَ لَهُمَا الْفِرَاق بِأَكْثَر مِنْ وَاحِدَة بَائِنَة ; وَهُوَ قَوْل اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم أَيْضًا : تَلْزَمُهُ الثَّلَاث إِنْ اِجْتَمَعَا عَلَيْهَا ; وَقَالَهُ الْمُغِيرَة وَأَشْهَب وَابْن الْمَاجِشُون وَأَصْبَغ . وَقَالَ اِبْن الْمَوَّاز : إِنْ حَكَمَ أَحَدهمَا بِوَاحِدَةٍ وَالْآخَر بِثَلَاثٍ فَهِيَ وَاحِدَة . وَحَكَى اِبْن حَبِيب عَنْ أَصْبَغ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
الْخَامِسَة : وَيُجْزِئ إِرْسَال الْوَاحِد ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه حَكَمَ فِي الزِّنَى بِأَرْبَعَةِ شُهُود , ثُمَّ قَدْ أَرْسَلَ . النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَرْأَة الزَّانِيَة أُنَيْسًا وَحْدَهُ وَقَالَ لَهُ : ( إِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ) وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْد الْمَلِك فِي الْمُدَوَّنَة .
قُلْت : وَإِذَا جَازَ إِرْسَال الْوَاحِد فَلَوْ حَكَّمَ الزَّوْجَانِ وَاحِدًا لَأَجْزَأَ , وَهُوَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى إِذَا رَضِيَا بِذَلِكَ , وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّه بِالْإِرْسَالِ الْحُكَّام دُون الزَّوْجَيْنِ . فَإِنْ أَرْسَلَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ وَحُكِّمَا نَفَذَ حُكْمُهُمَا ; لِأَنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَنَا جَائِزٌ , وَيَنْفُذ فِعْل الْحَكَم فِي كُلّ مَسْأَلَة . هَذَا إِذَا كَانَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَدْلًا , وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْل قَالَ عَبْد الْمَلِك : حُكْمُهُ مَنْقُوض ; لِأَنَّهُمَا تَخَاطَرَا بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْغَرَر . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح نُفُوذُهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَوْكِيلًا فَفِعْل الْوَكِيل نَافِذ , وَإِنْ كَانَ تَحْكِيمًا فَقَدْ قَدَّمَاهُ عَلَى أَنْفُسهمَا وَلَيْسَ الْغَرَر بِمُؤَثِّرٍ فِيهِ كَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي بَاب التَّوْكِيل , وَبَابُ الْقَضَاء مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَرَر كُلّه , وَلَيْسَ يَلْزَم فِيهِ مَعْرِفَة الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْحُكْم . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : مَسْأَلَة الْحَكَمِينَ نَصَّ اللَّه عَلَيْهَا وَحَكَمَ بِهَا عِنْد ظُهُور الشِّقَاق بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ , وَاخْتِلَاف مَا بَيْنهمَا . وَهِيَ مَسْأَلَة عَظِيمَة اِجْتَمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَصْلهَا فِي الْبَعْث , وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيل مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ . وَعَجَبًا لِأَهْلِ بَلَدنَا حَيْثُ غَفَلُوا عَنْ مُوجِب الْكِتَاب وَالسُّنَّة فِي ذَلِكَ وَقَالُوا : يُجْعَلَانِ عَلَى يَدَيْ أَمِين ; وَفِي هَذَا مِنْ مُعَانَدَة النَّصّ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ , فَلَا بِكِتَابِ اللَّه اِئْتَمَرُوا وَلَا بِالْأَقْيِسَةِ اِجْتَزَءُوا . وَقَدْ نَدَبْت إِلَى ذَلِكَ فَمَا أَجَابَنِي إِلَى بَعْث الْحَكَمَيْنِ عِنْد الشِّقَاق إِلَّا قَاضٍ وَاحِد , وَلَا بِالْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد إِلَّا آخَر , فَلَمَّا مَلَّكَنِي اللَّه الْأَمْر أَجْرَيْت السُّنَّة كَمَا يَنْبَغِي . وَلَا تَعْجَبْ لِأَهْلِ بَلَدنَا لِمَا غَمَرَهُمْ مِنْ الْجَهَالَة , وَلَكِنْ اِعْجَبْ لِأَبِي حَنِيفَة لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ عِنْده خَبَرٌ , بَلْ اِعْجَبْ مَرَّتَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِر الْآيَة أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ مَعًا حَتَّى يَشْتَبِه فِيهِ حَالَاهُمَا . قَالَ : وَذَلِكَ أَنِّي وَجَدْت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ فِي نُشُوز الزَّوْج بِأَنْ يَصْطَلِحَا وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه بِالْخُلْعِ وَذَلِكَ يُشْبِه أَنْ يَكُون بِرِضَا الْمَرْأَة . وَحَظَرَ أَنْ يَأْخُذ الزَّوْج مِمَّا أَعْطَى شَيْئًا إِذَا أَرَادَ اِسْتِبْدَال زَوْج مَكَان زَوْج ; فَلَمَّا أَمَرَ فِيمَنْ خِفْنَا الشِّقَاق بَيْنهمَا بِالْحَكَمَيْنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْر حُكْم الْأَزْوَاج , فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا , وَلَا يَبْعَث الْحَكَمَيْنِ إِلَّا مَأْمُونَيْنِ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلهمَا بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إِذَا رَأَيَا ذَلِكَ . وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذَا مُنْتَهَى كَلَام الشَّافِعِيّ , وَأَصْحَابه يَفْرَحُونَ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ وَلَا يُشْبِه نِصَابَهُ فِي الْعِلْم , وَقَدْ تَوَلَّى الرَّدّ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاق وَلَمْ يُنْصِفْهُ فِي الْأَكْثَر . أَمَّا قَوْله : " الَّذِي يُشْبِه ظَاهِر الْآيَة أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ " فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هُوَ نَصُّهُ , وَهِيَ مِنْ أَبْيَن آيَات الْقُرْآن وَأَوْضَحِهَا جَلَاء ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء " [ النِّسَاء : 34 ] - وَمَنْ خَافَ مِنْ اِمْرَأَته نُشُوزًا وَعَظَهَا , فَإِنْ أَنَابَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَع , فَإِنْ اِرْعَوَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا , فَإِنْ اِسْتَمَرَّتْ فِي غَلْوَائِهَا مَشَى الْحَكَمَانِ إِلَيْهِمَا . وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآن بَيَان . وَدَعْهُ لَا يَكُون نَصًّا , يَكُون ظَاهِرًا ; فَأَمَّا أَنْ يَقُول الشَّافِعِيّ : يُشْبِه الظَّاهِر فَلَا نَدْرِي مَا الَّذِي أَشْبَهَ الظَّاهِر ؟ . ثُمَّ قَالَ : " وَأَذِنَ فِي خَوْفهمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه بِالْخُلْعِ وَذَلِكَ يُشْبِه أَنْ يَكُون بِرِضَا الْمَرْأَة , بَلْ يَجِب أَنْ يَكُون كَذَلِكَ وَهُوَ نَصُّهُ " . ثُمَّ قَالَ : " فَلَمَّا أَمَرَ بِالْحَكَمَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْر حُكْم الْأَزْوَاج , وَيَجِب أَنْ يَكُون غَيْره بِأَنْ يَنْفُذ عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْر اِخْتِيَارهمَا فَتَتَحَقَّق الْغَيْرِيَّة . فَأَمَّا إِذَا أَنْفَذَا عَلَيْهِمَا مَا وَكَّلَاهُمَا بِهِ فَلَمْ يَحْكُمَا بِخِلَافِ أَمْرِهِمَا فَلَمْ تَتَحَقَّق الْغَيْرِيَّة " . وَأَمَّا قَوْله " بِرِضَى الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلهمَا " فَخَطَأ صُرَاح ; فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه خَاطَبَ غَيْر الزَّوْجَيْنِ إِذَا خَافَ الشِّقَاق بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِإِرْسَالِ الْحَكَمَيْنِ , وَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَب غَيْرَهُمَا كَيْفَ يَكُون ذَلِكَ بِتَوْكِيلِهِمَا , وَلَا يَصِحّ لَهُمَا حُكْم إِلَّا بِمَا اِجْتَمَعَا عَلَيْهِ . هَذَا وَجْه الْإِنْصَاف وَالتَّحْقِيق فِي الرَّدّ عَلَيْهِ . وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى إِثْبَات التَّحْكِيم , وَلَيْسَ كَمَا تَقُول الْخَوَارِج إِنَّهُ لَيْسَ التَّحْكِيم لِأَحَدٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى . وَهَذِهِ كَلِمَة حَقّ وَلَكِنْ يُرِيدُونَ بِهَا الْبَاطِل .
الْأُولَى : " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاق بَيْنهمَا " قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشِّقَاق فِي " الْبَقَرَة " . فَكَأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَأْخُذ شِقًّا غَيْر شِقّ صَاحِبه , أَيْ نَاحِيَةً غَيْرَ نَاحِيَة صَاحِبه . وَالْمُرَاد إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقًا بَيْنَهُمَا ; فَأُضِيفَ الْمَصْدَر إِلَى الظَّرْف كَقَوْلِك : يُعْجِبُنِي سَيْر اللَّيْلَة الْمُقْمِرَة , وَصَوْم يَوْم عَرَفَة . وَفِي التَّنْزِيل : " بَلْ مَكْرُ اللَّيْل وَالنَّهَار " [ سَبَأ : 33 ] . وَقِيلَ : إِنَّ " بَيْنَ " أُجْرِيَ مَجْرَى الْأَسْمَاء وَأُزِيلَ عَنْهُ الظَّرْفِيَّة ; إِذْ هُوَ بِمَعْنَى حَالِهِمَا وَعِشْرَتِهِمَا , أَيْ وَإِنْ خِفْتُمْ تَبَاعُد عِشْرَتهمَا وَصُحْبَتِهِمَا " فَابْعَثُوا " . و " خَتَمَ " عَلَى الْخِلَاف الْمُتَقَدِّم . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْحُكْم أَنْ يَعِظَهَا أَوَّلًا , فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا , فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا , فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا بَعَثَ الْحَاكِم حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا , فَيَنْظُرَانِ مِمَّنْ الضَّرَر , وَعِنْد ذَلِكَ يَكُون الْخُلْع . وَقَدْ قِيلَ : لَهُ أَنْ يَضْرِب قَبْل الْوَعْظ . وَالْأَوَّل أَصَحّ لِتَرْتِيبِ ذَلِكَ فِي الْآيَة .
الثَّانِيَة : وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَب بِقَوْلِهِ : " وَإِنْ خِفْتُمْ " الْحُكَّام وَالْأُمَرَاء . وَأَنَّ قَوْل : " إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّه بَيْنهمَا " يَعْنِي الْحَكَمِينَ ; فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . أَيْ إِنْ يُرِدْ الْحَكَمَانِ إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّه بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ . وَقِيلَ : الْمُرَاد الزَّوْجَانِ ; أَيْ إِنْ يُرِدْ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا وَصِدْقًا فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ الْحَكَمَيْنِ " يُوَفِّقْ اللَّه بَيْنهمَا " . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلْأَوْلِيَاءِ . يَقُول : " إِنْ خِفْتُمْ " أَيْ عَلِمْتُمْ خِلَافًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ " فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا " وَالْحَكَمَانِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنْ أَهْل الرَّجُل وَالْمَرْأَة ; إِذْ هُمَا أَقْعَد بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ , وَيَكُونَانِ مِنْ أَهْل الْعَدَالَة وَحُسْن النَّظَر وَالْبَصَر بِالْفِقْهِ . فَإِنْ لَمْ يُوجَد مِنْ أَهْلهمَا مَنْ يَصْلُح لِذَلِكَ فَيُرْسِل مِنْ غَيْرهمَا عَدْلَيْنِ عَالِمَيْنِ ; وَذَلِكَ إِذَا أَشْكَلَ أَمْرهمَا وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنْ الْإِسَاءَة مِنْهُمَا . فَأَمَّا إِنْ عُرِفَ الظَّالِمُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ الْحَقّ لِصَاحِبِهِ وَيُجْبَر عَلَى إِزَالَة الضَّرَر . وَيُقَال : إِنَّ الْحَكَم مِنْ أَهْل الزَّوْج يَخْلُو بِهِ وَيَقُول لَهُ : أَخْبِرْنِي بِمَا فِي نَفْسك أَتَهْوَاهَا أَمْ لَا حَتَّى أَعْلَمَ مُرَادك ؟ فَإِنْ قَالَ : لَا حَاجَة لِي فِيهَا خُذْ لِي مِنْهَا مَا اِسْتَطَعْت وَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنهَا , فَيُعْرَف أَنَّ مِنْ قِبَلِهِ النُّشُوز . وَإِنْ قَالَ : إِنِّي أَهْوَاهَا فَأَرْضِهَا مِنْ مَالِي بِمَا شِئْت وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنهَا , فَيُعْلَم أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاشِزٍ . وَيَخْلُو الْحَكَم مِنْ جِهَتِهَا بِالْمَرْأَةِ وَيَقُول لَهَا : أَتَهْوَيْنَ زَوْجَك أَمْ لَا ; فَإِنْ قَالَتْ : فَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنه وَأَعْطِهِ مِنْ مَالِي مَا أَرَادَ ; فَيُعْلَم أَنَّ النُّشُوز مِنْ قِبَلهَا . وَإِنْ قَالَتْ : لَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَلَكِنْ حُثَّهُ عَلَى أَنْ يَزِيد فِي نَفَقَتِي وَيُحْسِنَ إِلَيَّ , عُلِمَ أَنَّ النُّشُوز لَيْسَ مِنْ قِبَلهَا . فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمَا الَّذِي كَانَ النُّشُوز مِنْ قِبَلِهِ يُقْبِلَانِ عَلَيْهِ بِالْعِظَةِ وَالزَّجْر وَالنَّهْي ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا " .
الثَّالِثَة : قَالَ الْعُلَمَاء : قَسَّمَتْ هَذِهِ الْآيَة النِّسَاء تَقْسِيمًا عَقْلِيًّا ; لِأَنَّهُنَّ إِمَّا طَائِعَة وَإِمَّا نَاشِز ; وَالنُّشُوز إِمَّا أَنْ يَرْجِع إِلَى الطَّوَاعِيَة أَوْ لَا . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّل تُرِكَا ; لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَنَّ عَقِيل بْن أَبِي طَالِب تَزَوَّجَ فَاطِمَة بِنْت عُتْبَة بْن رَبِيعَة فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا تَقُول : يَا بَنِي هَاشِم , وَاَللَّهِ لَا يُحِبُّكُمْ قَلْبِي أَبَدًا ! أَيْنَ الَّذِينَ أَعْنَاقُهُمْ كَأَبَارِيق الْفِضَّة ! تُرَدُّ أُنُوفُهُمْ قَبْل شِفَاهِهِمْ , أَيْنَ عُتْبَة بْن رَبِيعَة , أَيْنَ شَيْبَة بْن رَبِيعَة ; فَيَسْكُت عَنْهَا , حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا وَهُوَ بَرِمٌ فَقَالَتْ لَهُ : أَيْنَ عُتْبَة بْن رَبِيعَة ؟ فَقَالَ : عَلَى يَسَارِك فِي النَّار إِذَا دَخَلْتِ ; فَنَشَرَتْ عَلَيْهَا ثِيَابهَا , فَجَاءَتْ عُثْمَان فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ ; فَأَرْسَلَ اِبْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنهمَا ; وَقَالَ مُعَاوِيَة : مَا كُنْت لِأُفَرِّقَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْد مَنَافٍ . فَأَتَيَاهُمَا فَوَجَدَاهُمَا قَدْ سَدَّا عَلَيْهِمَا أَبْوَابَهُمَا وَأَصْلَحَا أَمْرَهُمَا . فَإِنْ وَجَدَاهُمَا قَدْ اِخْتَلَفَا وَلَمْ يَصْطَلِحَا وَتَفَاقَمَ أَمْرهمَا سَعَيَا فِي الْأُلْفَة جَهْدَهُمَا , وَذُكِّرَا بِاَللَّهِ وَبِالصُّحْبَةِ . فَإِنْ أَنَابَا وَرَجَعَا تَرَكَاهُمَا , وَإِنْ كَانَا غَيْر ذَلِكَ وَرَأَيَا الْفُرْقَة فَرَّقَا بَيْنَهُمَا . وَتَفْرِيقُهُمَا جَائِز عَلَى الزَّوْجَيْنِ ; وَسَوَاء وَافَقَ حُكْمَ قَاضِي الْبَلَد أَوْ خَالَفَهُ , وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوَكِّلَاهُمَا . وَالْفِرَاق فِي ذَلِكَ طَلَاق بَائِن . وَقَالَ قَوْم : لَيْسَ لَهُمَا الطَّلَاق مَا لَمْ يُوَكِّلْهُمَا الزَّوْج فِي ذَلِكَ , وَلْيُعَرِّفَا الْإِمَام ; وَهَذَا بِنَاء عَلَى أَنَّهُمَا رَسُولَانِ شَاهِدَانِ . ثُمَّ الْإِمَام يُفَرِّق إِنْ أَرَادَ وَيَأْمُر الْحَكَم بِالتَّفْرِيقِ . وَهَذَا أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ ; وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ , وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَابْن زَيْد وَالْحَسَن , وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر . وَالصَّحِيح الْأَوَّل , لِأَنَّ لِلْحَكَمَيْنِ التَّطْلِيقَ دُون تَوْكِيل ; وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَان وَعَلِيّ وَابْن عَبَّاس , وَعَنْ الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا " وَهَذَا نَصّ مِنْ اللَّه سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لَا وَكِيلَانِ وَلَا شَاهِدَانِ . وَلِلْوَكِيلِ اِسْم فِي الشَّرِيعَة وَمَعْنًى , وَلِلْحَكَمِ اِسْم فِي الشَّرِيعَة وَمَعْنًى ; فَإِذَا بَيَّنَ اللَّه كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فَلَا يَنْبَغِي لِشَاذٍّ - فَكَيْفَ لِعَالِمٍ - أَنْ يُرَكِّبَ مَعْنَى أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر ! . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَة فِي هَذِهِ الْآيَة " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاق بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا " قَالَ : جَاءَ رَجُل وَامْرَأَة إِلَى عَلِيّ مَعَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاس فَأَمَرَهُمْ فَبَعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا , وَقَالَ لِلْحَكَمَيْنِ : هَلْ تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا . فَقَالَتْ الْمَرْأَة : رَضِيت بِكِتَابِ اللَّه بِمَا عَلَيَّ فِيهِ وَلِي . وَقَالَ الزَّوْج : أَمَّا الْفُرْقَة فَلَا . فَقَالَ عَلِيّ : كَذَبْت , وَاَللَّهِ لَا تَبْرَح حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح ثَابِت رُوِيَ عَنْ عَلِيّ مِنْ وُجُوه ثَابِتَة عَنْ اِبْن سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَة ; قَالَهُ أَبُو عُمَر . فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ أَوْ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا : أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ إِنَّمَا كَانَ يَقُول : أَتَدْرِيَانِ بِمَا وُكِّلْتُمَا ؟ وَهَذَا بَيِّنٌ . اِحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة بِقَوْلِ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِلزَّوْجِ : لَا تَبْرَح حَتَّى تَرْضَى بِمَا رَضِيَتْ بِهِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبه أَنَّهُمَا لَا يُفَرِّقَانِ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْج , وَبِأَنَّ الْأَصْل الْمُجْتَمَع عَلَيْهِ أَنَّ الطَّلَاق بِيَدِ الزَّوْج أَوْ بِيَدِ مَنْ جُعِلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ . وَجَعَلَهُ مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ بَاب طَلَاق السُّلْطَان عَلَى الْمَوْلَى وَالْعِنِّين .
الرَّابِعَة : فَإِنْ اِخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ لَمْ يَنْفُذْ قَوْلُهُمَا وَلَمْ يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ شَيْء إِلَّا مَا اِجْتَمَعَا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ كُلّ حَكَمَيْنِ حَكَمَا فِي أَمْر ; فَإِنَّ حَكَمَ أَحَدهمَا بِالْفُرْقَةِ وَلَمْ يَحْكُم بِهَا الْآخَر , أَوْ حَكَمَ أَحَدهمَا بِمَالٍ وَأَبَى الْآخَر فَلَيْسَا بِشَيْءٍ حَتَّى يَتَّفِقَا . وَقَالَ مَالِك فِي الْحَكَمَيْنِ يُطَلِّقَانِ ثَلَاثًا قَالَ : تَلْزَم وَاحِدَة وَلَيْسَ لَهُمَا الْفِرَاق بِأَكْثَر مِنْ وَاحِدَة بَائِنَة ; وَهُوَ قَوْل اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم أَيْضًا : تَلْزَمُهُ الثَّلَاث إِنْ اِجْتَمَعَا عَلَيْهَا ; وَقَالَهُ الْمُغِيرَة وَأَشْهَب وَابْن الْمَاجِشُون وَأَصْبَغ . وَقَالَ اِبْن الْمَوَّاز : إِنْ حَكَمَ أَحَدهمَا بِوَاحِدَةٍ وَالْآخَر بِثَلَاثٍ فَهِيَ وَاحِدَة . وَحَكَى اِبْن حَبِيب عَنْ أَصْبَغ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
الْخَامِسَة : وَيُجْزِئ إِرْسَال الْوَاحِد ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه حَكَمَ فِي الزِّنَى بِأَرْبَعَةِ شُهُود , ثُمَّ قَدْ أَرْسَلَ . النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَرْأَة الزَّانِيَة أُنَيْسًا وَحْدَهُ وَقَالَ لَهُ : ( إِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ) وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْد الْمَلِك فِي الْمُدَوَّنَة .
قُلْت : وَإِذَا جَازَ إِرْسَال الْوَاحِد فَلَوْ حَكَّمَ الزَّوْجَانِ وَاحِدًا لَأَجْزَأَ , وَهُوَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى إِذَا رَضِيَا بِذَلِكَ , وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّه بِالْإِرْسَالِ الْحُكَّام دُون الزَّوْجَيْنِ . فَإِنْ أَرْسَلَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ وَحُكِّمَا نَفَذَ حُكْمُهُمَا ; لِأَنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَنَا جَائِزٌ , وَيَنْفُذ فِعْل الْحَكَم فِي كُلّ مَسْأَلَة . هَذَا إِذَا كَانَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَدْلًا , وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْل قَالَ عَبْد الْمَلِك : حُكْمُهُ مَنْقُوض ; لِأَنَّهُمَا تَخَاطَرَا بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْغَرَر . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح نُفُوذُهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَوْكِيلًا فَفِعْل الْوَكِيل نَافِذ , وَإِنْ كَانَ تَحْكِيمًا فَقَدْ قَدَّمَاهُ عَلَى أَنْفُسهمَا وَلَيْسَ الْغَرَر بِمُؤَثِّرٍ فِيهِ كَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي بَاب التَّوْكِيل , وَبَابُ الْقَضَاء مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَرَر كُلّه , وَلَيْسَ يَلْزَم فِيهِ مَعْرِفَة الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْحُكْم . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : مَسْأَلَة الْحَكَمِينَ نَصَّ اللَّه عَلَيْهَا وَحَكَمَ بِهَا عِنْد ظُهُور الشِّقَاق بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ , وَاخْتِلَاف مَا بَيْنهمَا . وَهِيَ مَسْأَلَة عَظِيمَة اِجْتَمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَصْلهَا فِي الْبَعْث , وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيل مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ . وَعَجَبًا لِأَهْلِ بَلَدنَا حَيْثُ غَفَلُوا عَنْ مُوجِب الْكِتَاب وَالسُّنَّة فِي ذَلِكَ وَقَالُوا : يُجْعَلَانِ عَلَى يَدَيْ أَمِين ; وَفِي هَذَا مِنْ مُعَانَدَة النَّصّ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ , فَلَا بِكِتَابِ اللَّه اِئْتَمَرُوا وَلَا بِالْأَقْيِسَةِ اِجْتَزَءُوا . وَقَدْ نَدَبْت إِلَى ذَلِكَ فَمَا أَجَابَنِي إِلَى بَعْث الْحَكَمَيْنِ عِنْد الشِّقَاق إِلَّا قَاضٍ وَاحِد , وَلَا بِالْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد إِلَّا آخَر , فَلَمَّا مَلَّكَنِي اللَّه الْأَمْر أَجْرَيْت السُّنَّة كَمَا يَنْبَغِي . وَلَا تَعْجَبْ لِأَهْلِ بَلَدنَا لِمَا غَمَرَهُمْ مِنْ الْجَهَالَة , وَلَكِنْ اِعْجَبْ لِأَبِي حَنِيفَة لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ عِنْده خَبَرٌ , بَلْ اِعْجَبْ مَرَّتَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِر الْآيَة أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ مَعًا حَتَّى يَشْتَبِه فِيهِ حَالَاهُمَا . قَالَ : وَذَلِكَ أَنِّي وَجَدْت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ فِي نُشُوز الزَّوْج بِأَنْ يَصْطَلِحَا وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه بِالْخُلْعِ وَذَلِكَ يُشْبِه أَنْ يَكُون بِرِضَا الْمَرْأَة . وَحَظَرَ أَنْ يَأْخُذ الزَّوْج مِمَّا أَعْطَى شَيْئًا إِذَا أَرَادَ اِسْتِبْدَال زَوْج مَكَان زَوْج ; فَلَمَّا أَمَرَ فِيمَنْ خِفْنَا الشِّقَاق بَيْنهمَا بِالْحَكَمَيْنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْر حُكْم الْأَزْوَاج , فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا , وَلَا يَبْعَث الْحَكَمَيْنِ إِلَّا مَأْمُونَيْنِ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلهمَا بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إِذَا رَأَيَا ذَلِكَ . وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذَا مُنْتَهَى كَلَام الشَّافِعِيّ , وَأَصْحَابه يَفْرَحُونَ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ وَلَا يُشْبِه نِصَابَهُ فِي الْعِلْم , وَقَدْ تَوَلَّى الرَّدّ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاق وَلَمْ يُنْصِفْهُ فِي الْأَكْثَر . أَمَّا قَوْله : " الَّذِي يُشْبِه ظَاهِر الْآيَة أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ " فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هُوَ نَصُّهُ , وَهِيَ مِنْ أَبْيَن آيَات الْقُرْآن وَأَوْضَحِهَا جَلَاء ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء " [ النِّسَاء : 34 ] - وَمَنْ خَافَ مِنْ اِمْرَأَته نُشُوزًا وَعَظَهَا , فَإِنْ أَنَابَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَع , فَإِنْ اِرْعَوَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا , فَإِنْ اِسْتَمَرَّتْ فِي غَلْوَائِهَا مَشَى الْحَكَمَانِ إِلَيْهِمَا . وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآن بَيَان . وَدَعْهُ لَا يَكُون نَصًّا , يَكُون ظَاهِرًا ; فَأَمَّا أَنْ يَقُول الشَّافِعِيّ : يُشْبِه الظَّاهِر فَلَا نَدْرِي مَا الَّذِي أَشْبَهَ الظَّاهِر ؟ . ثُمَّ قَالَ : " وَأَذِنَ فِي خَوْفهمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه بِالْخُلْعِ وَذَلِكَ يُشْبِه أَنْ يَكُون بِرِضَا الْمَرْأَة , بَلْ يَجِب أَنْ يَكُون كَذَلِكَ وَهُوَ نَصُّهُ " . ثُمَّ قَالَ : " فَلَمَّا أَمَرَ بِالْحَكَمَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْر حُكْم الْأَزْوَاج , وَيَجِب أَنْ يَكُون غَيْره بِأَنْ يَنْفُذ عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْر اِخْتِيَارهمَا فَتَتَحَقَّق الْغَيْرِيَّة . فَأَمَّا إِذَا أَنْفَذَا عَلَيْهِمَا مَا وَكَّلَاهُمَا بِهِ فَلَمْ يَحْكُمَا بِخِلَافِ أَمْرِهِمَا فَلَمْ تَتَحَقَّق الْغَيْرِيَّة " . وَأَمَّا قَوْله " بِرِضَى الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلهمَا " فَخَطَأ صُرَاح ; فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه خَاطَبَ غَيْر الزَّوْجَيْنِ إِذَا خَافَ الشِّقَاق بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِإِرْسَالِ الْحَكَمَيْنِ , وَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَب غَيْرَهُمَا كَيْفَ يَكُون ذَلِكَ بِتَوْكِيلِهِمَا , وَلَا يَصِحّ لَهُمَا حُكْم إِلَّا بِمَا اِجْتَمَعَا عَلَيْهِ . هَذَا وَجْه الْإِنْصَاف وَالتَّحْقِيق فِي الرَّدّ عَلَيْهِ . وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى إِثْبَات التَّحْكِيم , وَلَيْسَ كَمَا تَقُول الْخَوَارِج إِنَّهُ لَيْسَ التَّحْكِيم لِأَحَدٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى . وَهَذِهِ كَلِمَة حَقّ وَلَكِنْ يُرِيدُونَ بِهَا الْبَاطِل .
وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ↓
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مِنْ الْمُحْكَم الْمُتَّفَق عَلَيْهِ , لَيْسَ مِنْهَا شَيْء مَنْسُوخ . وَكَذَلِكَ هِيَ فِي جَمِيع الْكُتُب . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْ جِهَة الْعَقْل , وَإِنْ لَمْ يَنْزِل بِهِ الْكِتَاب . وَقَدْ مَضَى مَعْنَى الْعُبُودِيَّة وَهِيَ التَّذَلُّل وَالِافْتِقَار , لِمَنْ لَهُ الْحُكْم وَالِاخْتِيَار ; فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى عِبَادَهُ بِالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالْإِخْلَاص فِيهِ , فَالْآيَة أَصْل فِي خُلُوص الْأَعْمَال لِلَّهِ تَعَالَى وَتَصْفِيَتهَا مِنْ شَوَائِب الرِّيَاء وَغَيْره ; قَالَ اللَّه تَعَالَى " فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا " [ الْكَهْف : 110 ] حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : إِنَّهُ مَنْ تَطَهَّرَ تَبَرُّدًا أَوْ صَامَ مُحِمًّا لِمَعِدَتِهِ وَنَوَى مَعَ ذَلِكَ التَّقَرُّب لَمْ يُجْزِهِ ; لِأَنَّهُ مَزَجَ فِي نِيَّة التَّقَرُّب نِيَّة دُنْيَاوِيَّة وَلَيْسَ لِلَّهِ إِلَّا الْعَمَل الْخَالِص ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " أَلَا لِلَّهِ الدِّين الْخَالِص " [ الزُّمَر : 3 ] . وَقَالَ تَعَالَى : " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين " [ الْبَيِّنَة : 5 ] . وَكَذَلِكَ إِذَا أَحَسَّ الرَّجُل بِدَاخِلٍ فِي الرُّكُوع وَهُوَ إِمَام لَمْ يَنْتَظِرْهُ ; لِأَنَّهُ يُخْرِجُ رُكُوعَهُ بِانْتِظَارِهِ عَنْ كَوْنه خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاء عَنْ الشِّرْك مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْته وَشِرْكَهُ ) . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُجَاء يَوْم الْقِيَامَة بِصُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ فَتُنْصَب بَيْنَ يَدَيْ اللَّه تَعَالَى فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا فَتَقُول الْمَلَائِكَة وَعِزَّتِك مَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ - وَهُوَ أَعْلَم - إِنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِي وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْم مِنْ الْعَمَل إِلَّا مَا كَانَ اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي ) . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الضَّحَّاك بْن قَيْس الْفِهْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول أَنَا خَيْر شَرِيك فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي شَرِيكًا فَهُوَ لِشَرِيكِي يَا أَيّهَا النَّاس أَخْلِصُوا أَعْمَالكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّه لَا يَقْبَل إِلَّا مَا خَلَصَ لَهُ وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهَا شَيْء وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ وَلَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهَا شَيْء ) .
مَسْأَلَة : إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَالُوا : الشِّرْك عَلَى ثَلَاث مَرَاتِب وَكُلّه مُحَرَّم . وَأَصْله اِعْتِقَاد شَرِيك لِلَّهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ , وَهُوَ الشِّرْك الْأَعْظَم وَهُوَ شِرْك الْجَاهِلِيَّة , وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " . [ النِّسَاء : 48 ] . وَيَلِيهِ فِي الرُّتْبَة اِعْتِقَاد شَرِيك لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْفِعْل , وَهُوَ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ مَوْجُودًا مَا غَيْر اللَّه تَعَالَى يَسْتَقِلُّ بِإِحْدَاثِ فِعْل وَإِيجَاده وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَهُ إِلَهًا كَالْقَدَرِيَّةِ مَجُوس هَذِهِ الْأُمَّة , وَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ اِبْن عُمَر كَمَا فِي حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام . وَيَلِي هَذِهِ الرُّتْبَة الْإِشْرَاك فِي الْعِبَادَة وَهُوَ الرِّيَاء ; وَهُوَ أَنْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ الْعِبَادَات الَّتِي أَمَرَ اللَّه بِفِعْلِهَا لَهُ لِغَيْرِهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي سِيقَتْ الْآيَات وَالْأَحَادِيث لِبَيَانِ تَحْرِيمِهِ , وَهُوَ مُبْطِل لِلْأَعْمَالِ وَهُوَ خَفِيّ لَا يَعْرِفُهُ كُلّ جَاهِلٍ غَبِيٍّ . وَرَضِيَ اللَّه عَنْ الْمُحَاسِبِيّ فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي كِتَابه " الرِّعَايَة " وَبَيَّنَ إِفْسَاده لِلْأَعْمَالِ . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيد بْن أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيّ وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا جَمَعَ اللَّه الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة لِيَوْمٍ لَا رَيْب فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَل عَمِلَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابه مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه فَإِنَّ اللَّه أَغْنَى الشُّرَكَاء عَنْ الشِّرْك ) . وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَر الْمَسِيخ الدَّجَّال فَقَالَ : ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيخ الدَّجَّال ؟ ) قَالَ : فَقُلْنَا بَلَى يَا رَسُول اللَّه ; فَقَالَ : ( الشِّرْك الْخَفِيّ أَنْ يَقُوم الرَّجُل يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاته لِمَا يَرَى مِنْ نَظَر رَجُل ) . وَفِيهِ عَنْ شَدَّاد بْن أَوْس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَخْوَف مَا أَتَخَوَّف عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ أَمَا إِنِّي لَسْت أَقُول يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّه وَشَهْوَةً خَفِيَّةً ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم . وَسَيَأْتِي فِي آخِر الْكَهْف , وَفِيهِ بَيَان الشَّهْوَة الْخَفِيَّة . وَرَوَى اِبْن لَهِيعَة عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشَّهْوَة الْخَفِيَّة فَقَالَ : ( هُوَ الرَّجُل يَتَعَلَّم الْعِلْم يُحِبّ أَنْ يُجْلَس إِلَيْهِ ) . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الرِّيَاء عَلَى ثَلَاثَة وُجُوه ; أَحَدهَا : أَنْ يَعْقِدَ فِي أَصْل فِعْله لِغَيْرِ اللَّه وَيُرِيدَ بِهِ أَنْ يُعْرَف أَنَّهُ لِلَّهِ , فَهَذَا صِنْف مِنْ النِّفَاق وَتَشَكُّكٌ فِي الْإِيمَان . وَالْآخَر : يَدْخُل فِي الشَّيْء لِلَّهِ فَإِذَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْر اللَّه نَشِطَ , فَهَذَا إِذَا تَابَ يَزِيد أَنْ يُعِيد جَمِيع مَا عَمِلَ . وَالثَّالِث : دَخَلَ فِي الْعَمَل بِالْإِخْلَاصِ وَخَرَجَ بِهِ لِلَّهِ فَعُرِفَ بِذَلِكَ وَمُدِحَ عَلَيْهِ وَسَكَنَ إِلَى مَدْحِهِمْ ; فَهَذَا الرِّيَاء الَّذِي نَهَى اللَّه عَنْهُ . قَالَ سَهْل : قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ : الرِّيَاء أَنْ تَطْلُبَ ثَوَاب عَمَلِك فِي دَار الدُّنْيَا , وَإِنَّمَا عَمَل الْقَوْم لِلْآخِرَةِ . قِيلَ لَهُ : فَمَا دَوَاء الرِّيَاء ؟ قَالَ كِتْمَان الْعَمَل , قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ يُكْتَمُ الْعَمَل ؟ قَالَ : مَا كُلِّفْت إِظْهَاره مِنْ الْعَمَل فَلَا تَدْخُل فِيهِ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ , وَمَا لَمْ تُكَلَّف إِظْهَاره أَحَبَّ أَلَّا يَطَّلِع عَلَيْهِ إِلَّا اللَّه . قَالَ : وَكُلّ عَمَل اِطَّلَعَ عَلَيْهِ الْخَلْق فَلَا تَعُدَّهُ مِنْ الْعَمَل . وَقَالَ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ : مَا هُوَ بِعَاقِلٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْرِفَ مَكَانَهُ مِنْ عَمَلِهِ .
قُلْت : قَوْل سَهْل " وَالثَّالِث دَخَلَ فِي الْعَمَل بِالْإِخْلَاصِ " إِلَى آخِرِهِ , إِنْ كَانَ سُكُونُهُ وَسُرُوره إِلَيْهِمْ لِتَحْصُلَ مَنْزِلَتُهُ فِي قُلُوبهمْ فَيَحْمَدُوهُ وَيُجِلُّوهُ وَيَبَرُّوهُ وَيَنَال مَا يُرِيدُهُ مِنْهُمْ مِنْ مَال أَوْ غَيْره فَهَذَا مَذْمُوم ; لِأَنَّ قَلْبه مَغْمُور فَرَحًا بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانُوا قَدْ اِطَّلَعُوا عَلَيْهِ بَعْد الْفَرَاغ . فَأَمَّا مَنْ أَطْلَعَ اللَّه عَلَيْهِ خَلْقَهُ وَهُوَ لَا يُحِبُّ اِطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهِ فَيُسَرّ بِصُنْعِ اللَّه وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ فَسُرُوره بِفَضْلِ اللَّه طَاعَةٌ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " قُلْ بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْر مِمَّا يَجْمَعُونَ " [ يُونُس : 58 ] . وَبَسْط هَذَا وَتَتْمِيمُهُ فِي كِتَاب " الرِّعَايَة لِلْمُحَاسِبِيّ " , فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ هُنَاكَ . وَقَدْ سُئِلَ سَهْل عَنْ حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنِّي أُسِرُّ الْعَمَل فَيُطَّلَع عَلَيْهِ فَيُعْجِبُنِي ) قَالَ : يُعْجِبهُ مِنْ جِهَة الشُّكْر لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ أَوْ نَحْو هَذَا . فَهَذِهِ جُمْلَة كَافِيَة فِي الرِّيَاء وَخُلُوص الْأَعْمَال . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " . حَقِيقَة الْإِخْلَاص . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة أَنَّ مِنْ الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا عِتْقهمَا , وَيَأْتِي فِي " سُبْحَان " [ الْإِسْرَاء : 1 ] حُكْم بِرِّهِمَا مَعْنًى مُسْتَوْفًى . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة " إِحْسَانٌ " بِالرَّفْعِ أَيْ وَاجِب الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا . الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ , عَلَى مَعْنَى أَحْسِنُوا إِلَيْهِمَا إِحْسَانًا . قَالَ الْعُلَمَاء : فَأَحَقّ النَّاس بَعْد الْخَالِق الْمَنَّان بِالشُّكْرِ وَالْإِحْسَان وَالْتِزَام الْبِرّ وَالطَّاعَة لَهُ وَالْإِذْعَان مَنْ قَرَنَ اللَّه الْإِحْسَان إِلَيْهِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَته وَشُكْرَهُ بِشُكْرِهِ وَهُمَا الْوَالِدَانِ ; فَقَالَ تَعَالَى : " أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك . [ لُقْمَان : 14 ] . وَرَوَى شُعْبَة وَهُشَيْم الْوَاسِطِيَّانِ عَنْ يَعْلَى بْن عَطَاء عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( رِضَا الرَّبّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسُخْطه فِي سُخْط الْوَالِدَيْنِ " .
عَطْف ذِي الْقُرْبَى عَلَى الْوَالِدَيْنِ . وَالْقُرْبَى : بِمَعْنَى الْقَرَابَة , وَهُوَ مَصْدَر كَالرُّجْعَى وَالْعُقْبَى ; أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَات بِصِلَةِ أَرْحَامهمْ . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا مُفَصَّلًا فِي سُورَة " الْقِتَال " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الْيَتَامَى عَطْف أَيْضًا , وَهُوَ جَمْع يَتِيم ; مِثْل نَدْمَى جَمْع نَدِيم . وَالْيُتْم فِي بَنِي آدَم بِفَقْدِ الْأَب , وَفِي الْبَهَائِم بِفَقْدِ الْأُمّ . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ الْيَتِيم يُقَال فِي بَنِي آدَم فِي فَقْد الْأُمّ ; وَالْأَوَّل الْمَعْرُوف . وَأَصْله الِانْفِرَاد ; يُقَال : صَبِيٌّ يَتِيم , أَيْ مُنْفَرِد مِنْ أَبِيهِ . وَبَيْت يَتِيم : أَيْ لَيْسَ قَبْله وَلَا بَعْده شَيْء مِنْ الشِّعْر . وَدُرَّة يَتِيمَة : لَيْسَ لَهَا نَظِير . وَقِيلَ : أَصْله الْإِبْطَاء ; فَسُمِّيَ بِهِ الْيَتِيم ; لِأَنَّ الْبِرّ يُبْطِئ عَنْهُ . وَيُقَال : يَتُمَ يَيْتُم يُتْمًا ; مِثْل عَظُمَ يَعْظُم . وَيَتِمَ يَيْتَم يَتْمًا وَيَتَمًا ; مِثْل سَمِعَ يَسْمَع , ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْفَرَّاء . وَقَدْ أَيْتَمَهُ اللَّه . وَيَدُلّ هَذَا عَلَى الرَّأْفَة بِالْيَتِيمِ وَالْحَضّ عَلَى كَفَالَته وَحِفْظ مَاله ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " النِّسَاء " . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَافِل الْيَتِيم لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّة ) . وَأَشَارَ مَالِك بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ; رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَخَرَّجَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد مِنْ حَدِيث الْحَسَن بْن دِينَار أَبِي سَعِيد الْبَصْرِيّ وَهُوَ الْحَسَن بْن وَاصِل قَالَ حَدَّثَنَا الْأَسْوَد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ هِصَّان عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا قَعَدَ يَتِيم مَعَ قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيَقْرَب قَصْعَتهمْ الشَّيْطَان ) . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيث حُسَيْن بْن قَيْس وَهُوَ أَبُو عَلِيّ الرَّحَبِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنْ بَيْنَ مُلِمِّينَ إِلَى طَعَامه وَشَرَابه حَتَّى يُغْنِيَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ غَفَرْت لَهُ ذُنُوبه أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَل عَمَلًا لَا يُغْفَر وَمَنْ أَذْهَبَ اللَّه كَرِيمَتَيْهِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ غَفَرْت لَهُ ذُنُوبه - قَالُوا : وَمَا كَرِيمَتَاهُ ؟ قَالَ : - عَيْنَاهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاث بَنَات أَوْ ثَلَاث أَخَوَات فَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُتْنَ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبه أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَل عَمَلًا لَا يُغْفَر ) فَنَادَاهُ رَجُل مِنْ الْأَعْرَاب مِمَّنْ هَاجَرَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه أَوْ اِثْنَتَيْنِ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَوْ اِثْنَتَيْنِ ) . فَكَانَ اِبْن عَبَّاس إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيث قَالَ : هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ غَرَائِب الْحَدِيث وَغُرَرِهِ .
" الْمَسَاكِين " عَطْف أَيْضًا أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِين , وَهُمْ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمْ الْحَاجَة وَأَذَلَّتْهُمْ . وَهَذَا يَتَضَمَّن الْحَضّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْمُؤَاسَاة وَتَفَقُّد أَحْوَال الْمَسَاكِين وَالضُّعَفَاء . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَة وَالْمِسْكِين كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيل اللَّه - وَأَحْسَبهُ قَالَ - وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُر وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِر ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَانَ طَاوُس يَرَى السَّعْي عَلَى الْأَخَوَات أَفْضَل مِنْ الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه .
مَّا الْجَار فَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِحِفْظِهِ وَالْقِيَام بِحَقِّهِ وَالْوَصَاة بِرَعْيِ ذِمَّته فِي كِتَابه وَعَلَى لِسَان نَبِيّه . أَلَا تَرَاهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ ذِكْرَهُ بَعْد الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَقَالَ تَعَالَى : " وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى " أَيْ الْقَرِيب . " وَالْجَار الْجُنُب " أَيْ الْغَرِيب ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَة . وَمِنْهُ فُلَان أَجْنَبِيّ , وَكَذَلِكَ الْجَنَابَة الْبُعْد . وَأَنْشَدَ أَهْل اللُّغَة : فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ فَإِنِّي اِمْرُؤٌ وَسْط الْقِبَابِ غَرِيبُ وَقَالَ الْأَعْشَى : أَتَيْت حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جَنَابَةٍ فَكَانَ حُرَيْث عَنْ عَطَائِيَ جَامِدًا وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَالْمُفَضَّل " وَالْجَار الْجَنْب " بِفَتْحِ الْجِيم وَسُكُون النُّون وَهُمَا لُغَتَانِ ; يُقَال : جَنُبَ وَجَنَبَ وَأَجْنَبَ وَأَجْنَبِيّ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنهمَا قَرَابَة , وَجَمْعه أَجَانِب . وَقِيلَ : عَلَى تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف , أَيْ وَالْجَار ذِي الْجَنْب أَيْ ذِي النَّاحِيَة . وَقَالَ نَوْف الشَّامِيّ : " الْجَار ذِي الْقُرْبَى " الْمُسْلِم " وَالْجَار الْجُنُب " الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ .
قُلْت : وَعَلَى هَذَا فَالْوَصَاة بِالْجَارِ مَأْمُور بِهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا , وَهُوَ الصَّحِيح . وَالْإِحْسَان قَدْ يَكُون بِمَعْنَى الْمُوَاسَاة , وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى حُسْن الْعِشْرَة وَكَفّ الْأَذَى وَالْمُحَامَاة دُونه . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا زَالَ جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ) . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي شُرَيْح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِن وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِن وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِن ) قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَنْ ؟ قَالَ : ( الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَاره بَوَائِقَهُ ) وَهَذَا عَامّ فِي كُلّ جَارٍ . وَقَدْ أَكَّدَ عَلَيْهِ السَّلَام تَرْك إِذَايَتِهِ بِقَسَمِهِ ثَلَاث مَرَّات , وَأَنَّهُ لَا يُؤْمِن الْكَامِل مَنْ آذَى جَاره . فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْذَر أَذَى جَاره , وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَى اللَّه وَرَسُوله عَنْهُ , وَيَرْغَب فِيمَا رَضِيَاهُ وَحَضَّا الْعِبَاد عَلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْجِيرَان ثَلَاثَة فَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق وَجَار لَهُ حَقَّانِ وَجَار لَهُ حَقّ وَاحِد فَأَمَّا الْجَار الَّذِي لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق فَالْجَار الْمُسْلِم الْقَرِيب لَهُ حَقّ الْجِوَار وَحَقّ الْقَرَابَة وَحَقّ الْإِسْلَام وَالْجَار الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَهُوَ الْجَار الْمُسْلِم فَلَهُ حَقّ الْإِسْلَام وَحَقّ الْجِوَار وَالْجَار الَّذِي لَهُ حَقّ وَاحِد هُوَ الْكَافِر لَهُ حَقّ الْجِوَار ) .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيّهمَا أُهْدِي , قَالَ : ( إِلَى أَقْرَبهمَا مِنْك بَابًا ) . فَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث يُفَسِّر الْمُرَاد مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى " وَأَنَّهُ الْقَرِيب الْمَسْكَن مِنْك . " وَالْجَار الْجُنُب " هُوَ الْبَعِيد الْمَسْكَن مِنْك . وَاحْتَجُّوا بِهَذَا عَلَى إِيجَاب الشُّفْعَة لِلْجَارِ , وَعَضَّدُوهُ وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْجَار أَحَقّ بِصَقَبِهِ ) . وَلَا حُجَّة فِي ذَلِكَ , فَإِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّمَا سَأَلَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ تَبْدَأ بِهِ مِنْ جِيرَانهَا فِي الْهَدِيَّة فَأَخْبَرَهَا أَنَّ مَنْ قَرُبَ بَابه فَإِنَّهُ أَوْلَى بِهَا مِنْ غَيْره . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْجَار يَقَع عَلَى غَيْر اللَّصِيق . وَقَدْ خَرَجَ أَبُو حَنِيفَة عَنْ ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : إِنَّ الْجَار اللَّصِيق إِذَا تَرَكَ الشُّفْعَة وَطَلَبَهَا الَّذِي يَلِيه وَلَيْسَ لَهُ جِدَار إِلَى الدَّار وَلَا طَرِيق لَا شُفْعَة فِيهِ لَهُ . وَعَوَامّ الْعُلَمَاء يَقُولُونَ : إِنْ أَوْصَى الرَّجُل لِجِيرَانِهِ أُعْطِيَ اللَّصِيق وَغَيْره ; إِلَّا أَبَا حَنِيفَة فَإِنَّهُ فَارَقَ عَوَامّ الْعُلَمَاء وَقَالَ : لَا يُعْطَى إِلَّا اللَّصِيق وَحْده .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي حَدّ الْجِيرَة ; فَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يَقُول : أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلّ نَاحِيَة ; وَقَالَهُ اِبْن شِهَاب . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي نَزَلْت مَحَلَّة قَوْم وَإِنَّ أَقْرَبهمْ إِلَيَّ جِوَارًا أَشَدّهمْ لِي أَذًى ; فَبَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْر وَعُمَر وَعَلِيًّا يَصِيحُونَ عَلَى أَبْوَاب الْمَسَاجِد : أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَار وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة مَنْ لَا يَأْمَن جَاره بَوَائِقَهُ . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : مَنْ سَمِعَ النِّدَاء فَهُوَ جَار . وَقَالَتْ فِرْقَة : مَنْ سَمِعَ إِقَامَة الصَّلَاة فَهُوَ جَار ذَلِكَ الْمَسْجِد . وَقَالَتْ فِرْقَة : مَنْ سَاكَنَ رَجُلًا فِي مَحَلَّة أَوْ مَدِينَة فَهُوَ جَار . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ " [ الْأَحْزَاب : 60 ] إِلَى قَوْله : " ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا " فَجَعَلَ تَعَالَى اِجْتِمَاعَهُمْ فِي الْمَدِينَة جِوَارًا . وَالْجِيرَة مَرَاتِب بَعْضهَا أَلْصَق مِنْ بَعْض , أَدْنَاهَا الزَّوْجَة ; كَمَا قَالَ : أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّك طَالِقَهْ
وَمِنْ إِكْرَام الْجَار مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَبَا ذَرّ إِذَا طَبَخْت مَرَقَة فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَك ) . فَحَضَّ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق ; لِمَا رَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ الْمَحَبَّة وَحُسْن الْعِشْرَة وَدَفْع الْحَاجَة وَالْمَفْسَدَة ; فَإِنَّ الْجَار قَدْ يَتَأَذَّى بِقُتَارِ قِدْرِ جَارِهِ , وَرُبَّمَا تَكُون لَهُ ذُرِّيَّة فَتَهِيجُ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ الشَّهْوَة , وَيَعْظُم عَلَى الْقَائِم عَلَيْهِمْ الْأَلَم وَالْكُلْفَة , لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْقَائِم ضَعِيفًا أَوْ أَرْمَلَة فَتَعْظُم الْمَشَقَّة وَيَشْتَدّ مِنْهُمْ الْأَلَم وَالْحَسْرَة . وَهَذِهِ كَانَتْ عُقُوبَة يَعْقُوب فِي فِرَاق يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَام فِيمَا قِيلَ . وَكُلّ هَذَا يَنْدَفِع بِتَشْرِيكِهِمْ فِي شَيْء مِنْ الطَّبِيخ يُدْفَع إِلَيْهِمْ , وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَضَّ عَلَيْهِ السَّلَام الْجَار الْقَرِيب بِالْهَدِيَّةِ ; لِأَنَّهُ يَنْظُر إِلَى مَا يَدْخُل دَار جَاره وَمَا يَخْرُج مِنْهَا , فَإِذَا رَأَى ذَلِكَ أَحَبَّ أَنْ يُشَارِك فِيهِ ; وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَسْرَع إِجَابَة لِجَارِهِ عِنْدَمَا يَنُوبهُ مِنْ حَاجَة فِي أَوْقَات الْغَفْلَة وَالْغِرَّة ; فَلِذَلِكَ بَدَأَ بِهِ عَلَى مَنْ بَعْد بَابه وَإِنْ كَانَتْ دَاره أَقْرَب . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ الْعُلَمَاء : لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام " فَأَكْثِرْ مَاءَهَا " نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى تَيْسِير الْأَمْر عَلَى الْبَخِيل تَنْبِيهًا لَطِيفًا , وَجَعَلَ الزِّيَادَة فِيمَا لَيْسَ لَهُ ثَمَن وَهُوَ الْمَاء ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ : إِذَا طَبَخْت مَرَقَة فَأَكْثِرْ لَحْمَهَا ; إِذْ لَا يَسْهُل ذَلِكَ عَلَى كُلّ أَحَد . وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل : قِدْرِي وَقِدْرُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ وَإِلَيْهِ قَبْلِي تُرْفَعُ الْقِدْرُ وَلَا يُهْدِي النَّزْرَ الْيَسِيرَ الْمُحْتَقَرَ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( ثُمَّ اُنْظُرْ أَهْل بَيْت مِنْ جِيرَانك فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ ) أَيْ بِشَيْءٍ يُهْدَى عُرْفًا ; فَإِنَّ الْقَلِيل وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُهْدَى فَقَدْ لَا يَقَع ذَلِكَ الْمَوْقِع , فَلَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ إِلَّا الْقَلِيل فَلْيُهْدِهِ وَلَا يَحْتَقِر , وَعَلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ قَبُولُهُ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( يَا نِسَاء الْمُؤْمِنَات لَا تَحْتَقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاع شَاة مُحْرَقًا ) أَخْرَجَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ . وَكَذَا قَيَّدْنَاهُ ( يَا نِسَاء الْمُؤْمِنَات ) بِالرَّفْعِ عَلَى غَيْر الْإِضَافَة , وَالتَّقْدِير : يَا أَيّهَا النِّسَاء الْمُؤْمِنَات ; كَمَا تَقُول يَا رِجَال الْكِرَام ; فَالْمُنَادَى مَحْذُوف وَهُوَ يَا أَيّهَا , وَالنِّسَاء فِي التَّقْدِير النَّعْت لِأَيِّهَا , وَالْمُؤْمِنَات نَعْت لِلنِّسَاءِ . قَدْ قِيلَ : فِيهِ : يَا نِسَاء الْمُؤْمِنَات بِالْإِضَافَةِ , وَالْأَوَّل أَكْثَر .
مِنْ إِكْرَام الْجَار أَلَّا يَمْنَع مِنْ غَرْزِ خَشَبَةٍ لَهُ إِرْفَاقًا بِهِ ; قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا يَمْنَع أَحَدكُمْ جَاره أَنْ يَغْرِز خَشَبَة فِي جِدَاره ) . ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ , وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْنَافكُمْ . رُوِيَ " خُشُبَهُ وَخَشَبَةً " عَلَى الْجَمْع وَالْإِفْرَاد . وَرُوِيَ " أَكْتَافهمْ " بِالتَّاءِ و " أَكْنَافهمْ " بِالنُّونِ . وَمَعْنَى " لَأَرْمِيَنَّ بِهَا " أَيْ بِالْكَلِمَةِ وَالْقِصَّة . وَهَلْ يُقْضَى بِهَذَا عَلَى الْوُجُوب أَوْ النَّدْب ؟ فِيهِ خِلَاف بَيْنَ الْعُلَمَاء . فَذَهَبَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ النَّدْب إِلَى بِرّ الْجَار وَالتَّجَاوُز لَهُ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب ; بِدَلِيلِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَحِلّ مَال اِمْرِئِ مُسْلِم إِلَّا عَنْ طِيب نَفْس مِنْهُ ) . قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْله ( لَا يَمْنَع أَحَدكُمْ جَاره ) هُوَ مِثْل مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا اِسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ اِمْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِد فَلَا يَمْنَعْهَا ) . وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْد الْجَمِيع النَّدْب , عَلَى مَا يَرَاهُ الرَّجُل مِنْ الصَّلَاح وَالْخَيْر فِي ذَلِكَ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة أَهْل الْحَدِيث : إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب . قَالُوا : وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة فَهِمَ فِيمَا سَمِعَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْوُجُوب مَا كَانَ لِيُوجِبَ عَلَيْهِمْ غَيْر وَاجِب . وَهُوَ مَذْهَب عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; فَإِنَّهُ قَضَى عَلَى مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة لِلضَّحَّاكِ بْن خَلِيفَة فِي الْخَلِيج أَنْ يَمُرّ بِهِ فِي أَرْض مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة , فَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة : لَا وَاَللَّهِ . فَقَالَ عُمَر : وَاَللَّه لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنك . فَأَمَرَهُ عُمَر أَنْ يَمُرّ بِهِ فَفَعَلَ الضَّحَّاك ; رَوَاهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ . وَزَعَمَ الشَّافِعِيّ فِي كِتَاب " الرَّدّ " أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَرْوِ عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة خِلَاف عُمَر فِي هَذَا الْبَاب ; وَأَنْكَرَ عَلَى مَالِك أَنَّهُ رَوَاهُ وَأَدْخَلَهُ فِي كِتَابه وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ وَرَدَّهُ بِرَأْيِهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : لَيْسَ كَمَا زَعَمَ الشَّافِعِيّ ; لِأَنَّ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة كَانَ رَأْيه فِي ذَلِكَ خِلَاف رَأْي عُمَر , وَرَأْي الْأَنْصَار أَيْضًا كَانَ خِلَافًا لِرَأْيِ عُمَر , وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف فِي قِصَّة الرَّبِيع وَتَحْوِيله - وَالرَّبِيع السَّاقِيَّة - وَإِذَا اِخْتَلَفَتْ الصَّحَابَة وَجَبَ الرُّجُوع إِلَى النَّظَر , وَالنَّظَر , يَدُلّ عَلَى أَنَّ دِمَاء الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالهمْ وَأَعْرَاضهمْ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض حَرَام إِلَّا مَا تَطِيب بِهِ النَّفْس خَاصَّة ; فَهَذَا هُوَ الثَّابِت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَدُلّ عَلَى الْخِلَاف فِي ذَلِكَ قَوْل أَبِي هُرَيْرَة : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاَللَّه لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهَا ; هَذَا أَوْ نَحْوه . أَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : الْقَضَاء بِالْمِرْفَقِ خَارِج بِالسُّنَّةِ عَنْ مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَحِلّ مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا عَنْ طِيب نَفْس مِنْهُ ) لِأَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ التَّمْلِيك وَالِاسْتِهْلَاك وَلَيْسَ الْمِرْفَق مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنهمَا فِي الْحُكْم . فَغَيْر وَاجِب أَنْ يُجْمَع بَيْنَ مَا فَرَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَحَكَى مَالِك أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَاضٍ يَقْضِي بِهِ يُسَمَّى أَبُو الْمُطَّلِب . وَاحْتَجُّوا مِنْ الْأَثَر بِحَدِيثِ الْأَعْمَش عَنْ أَنَس قَالَ : اُسْتُشْهِدَ مِنَّا غُلَام يَوْم أُحُد فَجَعَلَتْ أُمُّهُ تَمْسَح التُّرَاب عَنْ وَجْهه وَتَقُول : أَبْشِرْ هَنِيئًا لَك الْجَنَّة ; فَقَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّم فِيمَا لَا يَعْنِيه وَيَمْنَع مَا لَا يَضُرُّهُ ) . وَالْأَعْمَش لَا يَصِحُّ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ أَنَس , وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَهُ أَبُو عُمَر .
وَرَدَّ حَدِيث جَمْع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَرَافِق الْجَار , وَهُوَ حَدِيث مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُول اللَّه , مَا حَقّ الْجَار ؟ قَالَ : ( إِنْ اِسْتَقْرَضَك أَقْرَضْته وَإِنْ اِسْتَعَانَك أَعَنْته وَإِنْ اِحْتَاجَ أَعْطَيْته وَإِنْ مَرِضَ عُدْته وَإِنْ مَاتَ تَبِعْت جِنَازَته وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْر سَرَّك وَهَنَّيْتَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَة سَاءَتْك وَعَزَّيْته وَلَا تُؤْذِهِ بِنَارِ قِدْرك إِلَّا أَنْ تَعْرِف لَهُ مِنْهَا وَلَا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ لِتُشْرِف عَلَيْهِ وَتَسُدَّ عَلَيْهِ الرِّيح إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنْ اِشْتَرَيْت فَاكِهَة فَأَهْدِ لَهُ مِنْهَا وَإِلَّا فَأَدْخِلْهَا سِرًّا لَا يَخْرُج وَلَدك بِشَيْءٍ مِنْهُ يَغِيظُونَ بِهِ وَلَده وَهَلْ تَفْقَهُونَ مَا أَقُول لَكُمْ لَنْ يُؤَدِّيَ حَقّ الْجَار إِلَّا الْقَلِيل مِمَّنْ رَحِمَ اللَّه ) أَوْ كَلِمَة نَحْوهَا . هَذَا حَدِيث جَامِع وَهُوَ حَدِيث حَسَن , فِي إِسْنَاده أَبُو الْفَضْل عُثْمَان بْن مَطَر الشَّيْبَانِيّ غَيْر مَرْضِيّ .
قَالَ الْعُلَمَاء : الْأَحَادِيث فِي إِكْرَام الْجَار جَاءَتْ مُطْلَقَة غَيْر مُقَيَّدَة حَتَّى الْكَافِر كَمَا بَيَّنَّا . وَفِي الْخَبَر قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه أَنُطْعِمُهُمْ مِنْ لُحُوم النُّسُك ؟ قَالَ : ( لَا تُطْعِمُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ نُسُك الْمُسْلِمِينَ ) . وَنَهْيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِطْعَام الْمُشْرِكِينَ مِنْ نُسُك الْمُسْلِمِينَ يَحْتَمِل النُّسُك الْوَاجِب فِي الذِّمَّة الَّذِي لَا يَجُوز لِلنَّاسِكِ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ وَلَا أَنْ يُطْعِمَهُ الْأَغْنِيَاء ; فَأَمَّا غَيْر الْوَاجِب الَّذِي يُجْزِيهِ إِطْعَام الْأَغْنِيَاء فَجَائِز أَنْ يُطْعِمَهُ أَهْل الذِّمَّة . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة عِنْد تَفْرِيق لَحْم الْأُضْحِيَّة : ( اِبْدَئِي بِجَارِنَا الْيَهُودِيّ ) . وَرُوِيَ أَنَّ شَاة ذُبِحَتْ فِي أَهْل عَبْد اللَّه بْن عَمْرو فَلَمَّا جَاءَ قَالَ : أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيّ ؟ - ثَلَاث مَرَّات - سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَا زَالَ جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ) . وَقَرَأَ عَاصِم فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَضَّل عَنْهُ " وَالْجَار الْجَنْب " بِفَتْحِ الْجِيم وَسُكُون النُّون . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : هُوَ عَلَى تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف ; أَيْ وَالْجَار ذِي الْجَنْب أَيْ ذِي النَّاحِيَة . وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش : النَّاسُ جَنْبٌ وَالْأَمِيرُ جَنْبُ وَالْجَنْب النَّاحِيَة , أَيْ الْمُتَنَحِّي عَنْ الْقَرَابَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ الرَّفِيق فِي السَّفَر . وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُ رَجُل مِنْ أَصْحَابه وَهُمَا عَلَى رَاحِلَتَيْنِ فَدَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْضَة , فَقَطَعَ قَضِيبَيْنِ أَحَدهمَا مُعْوَجّ , فَخَرَجَ وَأَعْطَى لِصَاحِبِهِ الْقَوِيم ; فَقَالَ : كُنْت يَا رَسُول اللَّه أَحَقّ بِهَذَا ! فَقَالَ : ( كَلَّا يَا فُلَان إِنَّ كُلّ صَاحِب يَصْحَب آخَر فَإِنَّهُ مَسْئُول عَنْ صَحَابَته وَلَوْ سَاعَة مِنْ نَهَار ) . وَقَالَ رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن : لِلسَّفَرِ مُرُوءَةٌ وَلِلْحَضَرِ مُرُوءَةٌ ; فَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فِي السَّفَر فَبَذْل الزَّاد , وَقِلَّة الْخِلَاف عَلَى الْأَصْحَاب , وَكَثْرَة الْمِزَاح فِي غَيْر مَسَاخِطِ اللَّه . وَأَمَّا الْمُرُوءَة فِي الْحَضَر فَالْإِدْمَان إِلَى الْمَسَاجِد , وَتِلَاوَة الْقُرْآن وَكَثْرَة الْإِخْوَان فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَلِبَعْضِ بَنِي أَسَد - وَقِيلَ إِنَّهَا لِحَاتِمٍ الطَّائِيّ : إِذَا مَا رَفِيقِي لَمْ يَكُنْ خَلْفَ نَاقَتِي لَهُ مَرْكَب فَضْلًا فَلَا حَمَلَتْ رِجْلِي وَلَمْ يَكُ مِنْ زَادِي لَهُ شَطْرُ مِزْوَدِي فَلَا كُنْت ذَا زَادٍ وَلَا كُنْت ذَا فَضْلِ شَرِيكَانِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ أَرَى عَلَيَّ لَهُ فَضْلًا بِمَا نَالَ مِنْ فَضْلِي وَقَالَ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَابْن أَبِي لَيْلَى : " الصَّاحِب بِالْجَنْبِ " الزَّوْجَة . اِبْن جُرَيْج : هُوَ الَّذِي يَصْحَبك وَيَلْزَمك رَجَاء نَفْعك . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك . وَقَدْ تَتَنَاوَل الْآيَة الْجَمِيع بِالْعُمُومِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ الَّذِي يُجْتَاز بِك مَارًّا . وَالسَّبِيل الطَّرِيق ; فَنُسِبَ الْمُسَافِر إِلَيْهِ لِمُرُورِهِ عَلَيْهِ وَلُزُومه إِيَّاهُ . وَمِنْ الْإِحْسَان إِلَيْهِ إِعْطَاؤُهُ وَإِرْفَاقه وَهِدَايَته وَرُشْده .
أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَمَالِيك , وَبَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَرَوَى مُسْلِم وَغَيْره عَنْ الْمَعْرُور بْن سُوَيْد قَالَ : مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْد وَعَلَى غُلَامه مِثْله , فَقُلْنَا : يَا أَبَا ذَرّ لَوْ جَمَعْت بَيْنهمَا كَانَتْ حُلَّة ; فَقَالَ : إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُل مِنْ إِخْوَانِي كَلَام , وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّة فَعَيَّرْته بِأُمِّهِ , فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك اِمْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة ) قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمّه . قَالَ : ( يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة هُمْ إِخْوَانكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّه تَحْت أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ) . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ رَكِبَ بَغْلَة ذَات يَوْم فَأَرْدَفَ غُلَامه خَلْفه , فَقَالَ لَهُ قَائِل : لَوْ أَنْزَلْته يَسْعَى خَلْف دَابَّتك ; فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : لَأَنْ يَسْعَى مَعِي ضِغْثَانِ مِنْ نَار يُحْرِقَانِ مِنِّي مَا أَحْرَقَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْعَى غُلَامِي خَلْفِي . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَايَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُ مِمَّا تَكْتَسُونَ وَمَنْ لَا يُلَايِمُكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْق اللَّه ) . لَايَمَكُمْ وَافَقَكُمْ . وَالْمُلَايَمَة الْمُوَافَقَة . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لِلْمَمْلُوكِ طَعَامه وَكِسْوَته وَلَا يُكَلَّف مِنْ الْعَمَل إِلَّا مَا يُطِيق ) وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَقُلْ أَحَدكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي بَلْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي ) وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام . فَنَدَبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّادَة إِلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَا وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الْإِحْسَان وَإِلَى سُلُوك طَرِيق التَّوَاضُع حَتَّى لَا يَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَزِيَّة عَلَى عَبِيدِهِمْ , إِذْ الْكُلّ عَبِيد اللَّه وَالْمَال مَال اللَّه , لَكِنْ سَخَّرَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ , وَمَلَّكَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَتَنْفِيذًا لِلْحِكْمَةِ ; فَإِنْ أَطْعَمُوهُمْ أَقَلّ مِمَّا يَأْكُلُونَ , وَأَلْبَسُوهُمْ أَقَلّ مِمَّا يَلْبَسُونَ صِفَةً وَمِقْدَارًا جَازَ إِذَا قَامَ بِوَاجِبِهِ عَلَيْهِ . وَلَا خِلَاف فِي ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَان لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ : أَعْطَيْت الرَّقِيق قُوتَهُمْ ؟ قَالَ لَا . قَالَ : فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِس عَمَّنْ يَمْلِك قُوتَهُمْ ) .
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ ضَرَبَ عَبْده حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ ) . وَمَعْنَاهُ أَنْ يَضْرِبهُ قَدْر الْحَدّ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدّ . وَجَاءَ عَنْ نَفَر مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُمْ اقْتَصُّوا لِلْخَادِمِ مِنْ الْوَلَد فِي الضَّرْب وَأَعْتَقُوا الْخَادِم لَمَّا لَمْ يُرِدْ الْقِصَاص وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَى أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدّ يَوْم الْقِيَامَة ثَمَانِينَ ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَدْخُل الْجَنَّة سَيِّئُ الْمَلَكَة ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( سُوء الْخُلُق شُؤْم وَحُسْن الْمَلَكَة نَمَاء وَصِلَة الرَّحِم تَزِيد فِي الْعُمُر وَالصَّدَقَة تَدْفَع مِيتَة السُّوء ) .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْبَاب أَيّهمَا أَفْضَل الْحُرّ أَوْ الْعَبْد ; فَرَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوك الْمُصْلِح أَجْرَانِ ) وَاَلَّذِي نَفْس أَبِي هُرَيْرَة بِيَدِهِ لَوْلَا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه وَالْحَجّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْت أَنْ أَمُوت وَأَنَا مَمْلُوك . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْعَبْد إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَة اللَّه فَلَهُ أَجْره مَرَّتَيْنِ ) . فَاسْتُدِلَّ بِهَذَا وَمَا كَانَ مِثْله مِنْ فَضْل الْعَبْد ; لِأَنَّهُ مُخَاطَب مِنْ جِهَتَيْنِ : مُطَالَب بِعِبَادَةِ اللَّه , مُطَالَب بِخِدْمَةِ سَيِّده . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُمَر يُوسُف بْن عَبْد الْبَرّ النَّمَرِيّ وَأَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد الْعَامِرِيّ الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ . اِسْتَدَلَّ مَنْ فَضَّلَ الْحُرّ بِأَنْ قَالَ : الِاسْتِقْلَال بِأُمُورِ الدِّين وَالدُّنْيَا وَإِنَّمَا يَحْصُل بِالْأَحْرَارِ وَالْعَبْد كَالْمَفْقُودِ لِعَدَمِ اِسْتِقْلَال , وَكَالْآلَةِ الْمُصَرَّفَة بِالْقَهْرِ , وَكَالْبَهِيمَةِ الْمُسَخَّرَة بِالْجَبْرِ ; وَلِذَلِكَ سُلِبَ مَنَاصِب الشَّهَادَات وَمُعْظَم الْوِلَايَات , وَنَقَصَتْ حُدُودُهُ عَنْ حُدُود الْأَحْرَار إِشْعَارًا بِخِسَّةِ الْمِقْدَار , وَالْحُرّ وَإِنْ طُولِبَ مِنْ جِهَة وَاحِدَة فَوَظَائِفُهُ فِيهَا أَكْثَر , وَعَنَاؤُهُ أَعْظَم فَثَوَابه أَكْثَر . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو هُرَيْرَة بِقَوْلِهِ : لَوْلَا الْجِهَاد وَالْحَجّ ; أَيْ لَوْلَا النَّقْص الَّذِي يَلْحَق الْعَبْد لِفَوْتِ هَذِهِ الْأُمُور . وَاَللَّه أَعْلَم .
رَوَى أَنَس بْن مَالِك عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا زَالَ جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ , وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالنِّسَاءِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُحَرِّمُ طَلَاقَهُنَّ , وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالْمَمَالِيكِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مُدَّة إِذَا اِنْتَهَوْا إِلَيْهَا عَتَقُوا , وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيت أَنْ يُحْفِيَ فَمِي - وَرُوِيَ حَتَّى كَادَ - وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِقِيَامِ اللَّيْل حَتَّى ظَنَنْت أَنَّ خِيَار أُمَّتِي لَا يَنَامُونَ لَيْلًا ) . ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ فِي تَفْسِيره .
أَيْ لَا يَرْضَى .
فَنَفَى سُبْحَانَهُ مَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَته ; أَيْ لَا يَظْهَر عَلَيْهِ آثَار نِعَمه فِي الْآخِرَة . وَفِي هَذَا ضَرْب مِنْ التَّوَعُّد . وَالْمُخْتَال ذُو الْخُيَلَاء أَيْ الْكِبْر . وَالْفَخُور : الَّذِي يَعْدُدْ مَنَاقِبه كِبْرًا . وَالْفَخْر : الْبَذَخ وَالتَّطَاوُل . وَخَصَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّهُمَا تَحْمِلَانِ صَاحِبَيْهِمَا عَلَى الْأَنَفَة مِنْ الْقَرِيب الْفَقِير وَالْجَار الْفَقِير وَغَيْرهمْ مِمَّنْ ذُكِرَ فِي الْآيَة فَيُضِيع أَمْر اللَّه بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ .
مَسْأَلَة : إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَالُوا : الشِّرْك عَلَى ثَلَاث مَرَاتِب وَكُلّه مُحَرَّم . وَأَصْله اِعْتِقَاد شَرِيك لِلَّهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ , وَهُوَ الشِّرْك الْأَعْظَم وَهُوَ شِرْك الْجَاهِلِيَّة , وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " . [ النِّسَاء : 48 ] . وَيَلِيهِ فِي الرُّتْبَة اِعْتِقَاد شَرِيك لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْفِعْل , وَهُوَ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ مَوْجُودًا مَا غَيْر اللَّه تَعَالَى يَسْتَقِلُّ بِإِحْدَاثِ فِعْل وَإِيجَاده وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَهُ إِلَهًا كَالْقَدَرِيَّةِ مَجُوس هَذِهِ الْأُمَّة , وَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ اِبْن عُمَر كَمَا فِي حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام . وَيَلِي هَذِهِ الرُّتْبَة الْإِشْرَاك فِي الْعِبَادَة وَهُوَ الرِّيَاء ; وَهُوَ أَنْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ الْعِبَادَات الَّتِي أَمَرَ اللَّه بِفِعْلِهَا لَهُ لِغَيْرِهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي سِيقَتْ الْآيَات وَالْأَحَادِيث لِبَيَانِ تَحْرِيمِهِ , وَهُوَ مُبْطِل لِلْأَعْمَالِ وَهُوَ خَفِيّ لَا يَعْرِفُهُ كُلّ جَاهِلٍ غَبِيٍّ . وَرَضِيَ اللَّه عَنْ الْمُحَاسِبِيّ فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي كِتَابه " الرِّعَايَة " وَبَيَّنَ إِفْسَاده لِلْأَعْمَالِ . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيد بْن أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيّ وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا جَمَعَ اللَّه الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة لِيَوْمٍ لَا رَيْب فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَل عَمِلَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابه مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه فَإِنَّ اللَّه أَغْنَى الشُّرَكَاء عَنْ الشِّرْك ) . وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَر الْمَسِيخ الدَّجَّال فَقَالَ : ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيخ الدَّجَّال ؟ ) قَالَ : فَقُلْنَا بَلَى يَا رَسُول اللَّه ; فَقَالَ : ( الشِّرْك الْخَفِيّ أَنْ يَقُوم الرَّجُل يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاته لِمَا يَرَى مِنْ نَظَر رَجُل ) . وَفِيهِ عَنْ شَدَّاد بْن أَوْس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَخْوَف مَا أَتَخَوَّف عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ أَمَا إِنِّي لَسْت أَقُول يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّه وَشَهْوَةً خَفِيَّةً ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم . وَسَيَأْتِي فِي آخِر الْكَهْف , وَفِيهِ بَيَان الشَّهْوَة الْخَفِيَّة . وَرَوَى اِبْن لَهِيعَة عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشَّهْوَة الْخَفِيَّة فَقَالَ : ( هُوَ الرَّجُل يَتَعَلَّم الْعِلْم يُحِبّ أَنْ يُجْلَس إِلَيْهِ ) . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الرِّيَاء عَلَى ثَلَاثَة وُجُوه ; أَحَدهَا : أَنْ يَعْقِدَ فِي أَصْل فِعْله لِغَيْرِ اللَّه وَيُرِيدَ بِهِ أَنْ يُعْرَف أَنَّهُ لِلَّهِ , فَهَذَا صِنْف مِنْ النِّفَاق وَتَشَكُّكٌ فِي الْإِيمَان . وَالْآخَر : يَدْخُل فِي الشَّيْء لِلَّهِ فَإِذَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْر اللَّه نَشِطَ , فَهَذَا إِذَا تَابَ يَزِيد أَنْ يُعِيد جَمِيع مَا عَمِلَ . وَالثَّالِث : دَخَلَ فِي الْعَمَل بِالْإِخْلَاصِ وَخَرَجَ بِهِ لِلَّهِ فَعُرِفَ بِذَلِكَ وَمُدِحَ عَلَيْهِ وَسَكَنَ إِلَى مَدْحِهِمْ ; فَهَذَا الرِّيَاء الَّذِي نَهَى اللَّه عَنْهُ . قَالَ سَهْل : قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ : الرِّيَاء أَنْ تَطْلُبَ ثَوَاب عَمَلِك فِي دَار الدُّنْيَا , وَإِنَّمَا عَمَل الْقَوْم لِلْآخِرَةِ . قِيلَ لَهُ : فَمَا دَوَاء الرِّيَاء ؟ قَالَ كِتْمَان الْعَمَل , قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ يُكْتَمُ الْعَمَل ؟ قَالَ : مَا كُلِّفْت إِظْهَاره مِنْ الْعَمَل فَلَا تَدْخُل فِيهِ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ , وَمَا لَمْ تُكَلَّف إِظْهَاره أَحَبَّ أَلَّا يَطَّلِع عَلَيْهِ إِلَّا اللَّه . قَالَ : وَكُلّ عَمَل اِطَّلَعَ عَلَيْهِ الْخَلْق فَلَا تَعُدَّهُ مِنْ الْعَمَل . وَقَالَ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ : مَا هُوَ بِعَاقِلٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْرِفَ مَكَانَهُ مِنْ عَمَلِهِ .
قُلْت : قَوْل سَهْل " وَالثَّالِث دَخَلَ فِي الْعَمَل بِالْإِخْلَاصِ " إِلَى آخِرِهِ , إِنْ كَانَ سُكُونُهُ وَسُرُوره إِلَيْهِمْ لِتَحْصُلَ مَنْزِلَتُهُ فِي قُلُوبهمْ فَيَحْمَدُوهُ وَيُجِلُّوهُ وَيَبَرُّوهُ وَيَنَال مَا يُرِيدُهُ مِنْهُمْ مِنْ مَال أَوْ غَيْره فَهَذَا مَذْمُوم ; لِأَنَّ قَلْبه مَغْمُور فَرَحًا بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانُوا قَدْ اِطَّلَعُوا عَلَيْهِ بَعْد الْفَرَاغ . فَأَمَّا مَنْ أَطْلَعَ اللَّه عَلَيْهِ خَلْقَهُ وَهُوَ لَا يُحِبُّ اِطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهِ فَيُسَرّ بِصُنْعِ اللَّه وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ فَسُرُوره بِفَضْلِ اللَّه طَاعَةٌ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " قُلْ بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْر مِمَّا يَجْمَعُونَ " [ يُونُس : 58 ] . وَبَسْط هَذَا وَتَتْمِيمُهُ فِي كِتَاب " الرِّعَايَة لِلْمُحَاسِبِيّ " , فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ هُنَاكَ . وَقَدْ سُئِلَ سَهْل عَنْ حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنِّي أُسِرُّ الْعَمَل فَيُطَّلَع عَلَيْهِ فَيُعْجِبُنِي ) قَالَ : يُعْجِبهُ مِنْ جِهَة الشُّكْر لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ أَوْ نَحْو هَذَا . فَهَذِهِ جُمْلَة كَافِيَة فِي الرِّيَاء وَخُلُوص الْأَعْمَال . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " . حَقِيقَة الْإِخْلَاص . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة أَنَّ مِنْ الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا عِتْقهمَا , وَيَأْتِي فِي " سُبْحَان " [ الْإِسْرَاء : 1 ] حُكْم بِرِّهِمَا مَعْنًى مُسْتَوْفًى . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة " إِحْسَانٌ " بِالرَّفْعِ أَيْ وَاجِب الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا . الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ , عَلَى مَعْنَى أَحْسِنُوا إِلَيْهِمَا إِحْسَانًا . قَالَ الْعُلَمَاء : فَأَحَقّ النَّاس بَعْد الْخَالِق الْمَنَّان بِالشُّكْرِ وَالْإِحْسَان وَالْتِزَام الْبِرّ وَالطَّاعَة لَهُ وَالْإِذْعَان مَنْ قَرَنَ اللَّه الْإِحْسَان إِلَيْهِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَته وَشُكْرَهُ بِشُكْرِهِ وَهُمَا الْوَالِدَانِ ; فَقَالَ تَعَالَى : " أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك . [ لُقْمَان : 14 ] . وَرَوَى شُعْبَة وَهُشَيْم الْوَاسِطِيَّانِ عَنْ يَعْلَى بْن عَطَاء عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( رِضَا الرَّبّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسُخْطه فِي سُخْط الْوَالِدَيْنِ " .
عَطْف ذِي الْقُرْبَى عَلَى الْوَالِدَيْنِ . وَالْقُرْبَى : بِمَعْنَى الْقَرَابَة , وَهُوَ مَصْدَر كَالرُّجْعَى وَالْعُقْبَى ; أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَات بِصِلَةِ أَرْحَامهمْ . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا مُفَصَّلًا فِي سُورَة " الْقِتَال " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الْيَتَامَى عَطْف أَيْضًا , وَهُوَ جَمْع يَتِيم ; مِثْل نَدْمَى جَمْع نَدِيم . وَالْيُتْم فِي بَنِي آدَم بِفَقْدِ الْأَب , وَفِي الْبَهَائِم بِفَقْدِ الْأُمّ . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ الْيَتِيم يُقَال فِي بَنِي آدَم فِي فَقْد الْأُمّ ; وَالْأَوَّل الْمَعْرُوف . وَأَصْله الِانْفِرَاد ; يُقَال : صَبِيٌّ يَتِيم , أَيْ مُنْفَرِد مِنْ أَبِيهِ . وَبَيْت يَتِيم : أَيْ لَيْسَ قَبْله وَلَا بَعْده شَيْء مِنْ الشِّعْر . وَدُرَّة يَتِيمَة : لَيْسَ لَهَا نَظِير . وَقِيلَ : أَصْله الْإِبْطَاء ; فَسُمِّيَ بِهِ الْيَتِيم ; لِأَنَّ الْبِرّ يُبْطِئ عَنْهُ . وَيُقَال : يَتُمَ يَيْتُم يُتْمًا ; مِثْل عَظُمَ يَعْظُم . وَيَتِمَ يَيْتَم يَتْمًا وَيَتَمًا ; مِثْل سَمِعَ يَسْمَع , ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْفَرَّاء . وَقَدْ أَيْتَمَهُ اللَّه . وَيَدُلّ هَذَا عَلَى الرَّأْفَة بِالْيَتِيمِ وَالْحَضّ عَلَى كَفَالَته وَحِفْظ مَاله ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " النِّسَاء " . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَافِل الْيَتِيم لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّة ) . وَأَشَارَ مَالِك بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ; رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَخَرَّجَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد مِنْ حَدِيث الْحَسَن بْن دِينَار أَبِي سَعِيد الْبَصْرِيّ وَهُوَ الْحَسَن بْن وَاصِل قَالَ حَدَّثَنَا الْأَسْوَد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ هِصَّان عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا قَعَدَ يَتِيم مَعَ قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيَقْرَب قَصْعَتهمْ الشَّيْطَان ) . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيث حُسَيْن بْن قَيْس وَهُوَ أَبُو عَلِيّ الرَّحَبِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنْ بَيْنَ مُلِمِّينَ إِلَى طَعَامه وَشَرَابه حَتَّى يُغْنِيَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ غَفَرْت لَهُ ذُنُوبه أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَل عَمَلًا لَا يُغْفَر وَمَنْ أَذْهَبَ اللَّه كَرِيمَتَيْهِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ غَفَرْت لَهُ ذُنُوبه - قَالُوا : وَمَا كَرِيمَتَاهُ ؟ قَالَ : - عَيْنَاهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاث بَنَات أَوْ ثَلَاث أَخَوَات فَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُتْنَ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبه أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَل عَمَلًا لَا يُغْفَر ) فَنَادَاهُ رَجُل مِنْ الْأَعْرَاب مِمَّنْ هَاجَرَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه أَوْ اِثْنَتَيْنِ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَوْ اِثْنَتَيْنِ ) . فَكَانَ اِبْن عَبَّاس إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيث قَالَ : هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ غَرَائِب الْحَدِيث وَغُرَرِهِ .
" الْمَسَاكِين " عَطْف أَيْضًا أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِين , وَهُمْ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمْ الْحَاجَة وَأَذَلَّتْهُمْ . وَهَذَا يَتَضَمَّن الْحَضّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْمُؤَاسَاة وَتَفَقُّد أَحْوَال الْمَسَاكِين وَالضُّعَفَاء . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَة وَالْمِسْكِين كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيل اللَّه - وَأَحْسَبهُ قَالَ - وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُر وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِر ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَانَ طَاوُس يَرَى السَّعْي عَلَى الْأَخَوَات أَفْضَل مِنْ الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه .
مَّا الْجَار فَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِحِفْظِهِ وَالْقِيَام بِحَقِّهِ وَالْوَصَاة بِرَعْيِ ذِمَّته فِي كِتَابه وَعَلَى لِسَان نَبِيّه . أَلَا تَرَاهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ ذِكْرَهُ بَعْد الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَقَالَ تَعَالَى : " وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى " أَيْ الْقَرِيب . " وَالْجَار الْجُنُب " أَيْ الْغَرِيب ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَة . وَمِنْهُ فُلَان أَجْنَبِيّ , وَكَذَلِكَ الْجَنَابَة الْبُعْد . وَأَنْشَدَ أَهْل اللُّغَة : فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ فَإِنِّي اِمْرُؤٌ وَسْط الْقِبَابِ غَرِيبُ وَقَالَ الْأَعْشَى : أَتَيْت حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جَنَابَةٍ فَكَانَ حُرَيْث عَنْ عَطَائِيَ جَامِدًا وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَالْمُفَضَّل " وَالْجَار الْجَنْب " بِفَتْحِ الْجِيم وَسُكُون النُّون وَهُمَا لُغَتَانِ ; يُقَال : جَنُبَ وَجَنَبَ وَأَجْنَبَ وَأَجْنَبِيّ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنهمَا قَرَابَة , وَجَمْعه أَجَانِب . وَقِيلَ : عَلَى تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف , أَيْ وَالْجَار ذِي الْجَنْب أَيْ ذِي النَّاحِيَة . وَقَالَ نَوْف الشَّامِيّ : " الْجَار ذِي الْقُرْبَى " الْمُسْلِم " وَالْجَار الْجُنُب " الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ .
قُلْت : وَعَلَى هَذَا فَالْوَصَاة بِالْجَارِ مَأْمُور بِهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا , وَهُوَ الصَّحِيح . وَالْإِحْسَان قَدْ يَكُون بِمَعْنَى الْمُوَاسَاة , وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى حُسْن الْعِشْرَة وَكَفّ الْأَذَى وَالْمُحَامَاة دُونه . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا زَالَ جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ) . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي شُرَيْح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِن وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِن وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِن ) قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَنْ ؟ قَالَ : ( الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَاره بَوَائِقَهُ ) وَهَذَا عَامّ فِي كُلّ جَارٍ . وَقَدْ أَكَّدَ عَلَيْهِ السَّلَام تَرْك إِذَايَتِهِ بِقَسَمِهِ ثَلَاث مَرَّات , وَأَنَّهُ لَا يُؤْمِن الْكَامِل مَنْ آذَى جَاره . فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْذَر أَذَى جَاره , وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَى اللَّه وَرَسُوله عَنْهُ , وَيَرْغَب فِيمَا رَضِيَاهُ وَحَضَّا الْعِبَاد عَلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْجِيرَان ثَلَاثَة فَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق وَجَار لَهُ حَقَّانِ وَجَار لَهُ حَقّ وَاحِد فَأَمَّا الْجَار الَّذِي لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق فَالْجَار الْمُسْلِم الْقَرِيب لَهُ حَقّ الْجِوَار وَحَقّ الْقَرَابَة وَحَقّ الْإِسْلَام وَالْجَار الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَهُوَ الْجَار الْمُسْلِم فَلَهُ حَقّ الْإِسْلَام وَحَقّ الْجِوَار وَالْجَار الَّذِي لَهُ حَقّ وَاحِد هُوَ الْكَافِر لَهُ حَقّ الْجِوَار ) .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيّهمَا أُهْدِي , قَالَ : ( إِلَى أَقْرَبهمَا مِنْك بَابًا ) . فَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث يُفَسِّر الْمُرَاد مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى " وَأَنَّهُ الْقَرِيب الْمَسْكَن مِنْك . " وَالْجَار الْجُنُب " هُوَ الْبَعِيد الْمَسْكَن مِنْك . وَاحْتَجُّوا بِهَذَا عَلَى إِيجَاب الشُّفْعَة لِلْجَارِ , وَعَضَّدُوهُ وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْجَار أَحَقّ بِصَقَبِهِ ) . وَلَا حُجَّة فِي ذَلِكَ , فَإِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّمَا سَأَلَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ تَبْدَأ بِهِ مِنْ جِيرَانهَا فِي الْهَدِيَّة فَأَخْبَرَهَا أَنَّ مَنْ قَرُبَ بَابه فَإِنَّهُ أَوْلَى بِهَا مِنْ غَيْره . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْجَار يَقَع عَلَى غَيْر اللَّصِيق . وَقَدْ خَرَجَ أَبُو حَنِيفَة عَنْ ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : إِنَّ الْجَار اللَّصِيق إِذَا تَرَكَ الشُّفْعَة وَطَلَبَهَا الَّذِي يَلِيه وَلَيْسَ لَهُ جِدَار إِلَى الدَّار وَلَا طَرِيق لَا شُفْعَة فِيهِ لَهُ . وَعَوَامّ الْعُلَمَاء يَقُولُونَ : إِنْ أَوْصَى الرَّجُل لِجِيرَانِهِ أُعْطِيَ اللَّصِيق وَغَيْره ; إِلَّا أَبَا حَنِيفَة فَإِنَّهُ فَارَقَ عَوَامّ الْعُلَمَاء وَقَالَ : لَا يُعْطَى إِلَّا اللَّصِيق وَحْده .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي حَدّ الْجِيرَة ; فَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يَقُول : أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلّ نَاحِيَة ; وَقَالَهُ اِبْن شِهَاب . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي نَزَلْت مَحَلَّة قَوْم وَإِنَّ أَقْرَبهمْ إِلَيَّ جِوَارًا أَشَدّهمْ لِي أَذًى ; فَبَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْر وَعُمَر وَعَلِيًّا يَصِيحُونَ عَلَى أَبْوَاب الْمَسَاجِد : أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَار وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة مَنْ لَا يَأْمَن جَاره بَوَائِقَهُ . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : مَنْ سَمِعَ النِّدَاء فَهُوَ جَار . وَقَالَتْ فِرْقَة : مَنْ سَمِعَ إِقَامَة الصَّلَاة فَهُوَ جَار ذَلِكَ الْمَسْجِد . وَقَالَتْ فِرْقَة : مَنْ سَاكَنَ رَجُلًا فِي مَحَلَّة أَوْ مَدِينَة فَهُوَ جَار . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ " [ الْأَحْزَاب : 60 ] إِلَى قَوْله : " ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا " فَجَعَلَ تَعَالَى اِجْتِمَاعَهُمْ فِي الْمَدِينَة جِوَارًا . وَالْجِيرَة مَرَاتِب بَعْضهَا أَلْصَق مِنْ بَعْض , أَدْنَاهَا الزَّوْجَة ; كَمَا قَالَ : أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّك طَالِقَهْ
وَمِنْ إِكْرَام الْجَار مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَبَا ذَرّ إِذَا طَبَخْت مَرَقَة فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَك ) . فَحَضَّ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق ; لِمَا رَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ الْمَحَبَّة وَحُسْن الْعِشْرَة وَدَفْع الْحَاجَة وَالْمَفْسَدَة ; فَإِنَّ الْجَار قَدْ يَتَأَذَّى بِقُتَارِ قِدْرِ جَارِهِ , وَرُبَّمَا تَكُون لَهُ ذُرِّيَّة فَتَهِيجُ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ الشَّهْوَة , وَيَعْظُم عَلَى الْقَائِم عَلَيْهِمْ الْأَلَم وَالْكُلْفَة , لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْقَائِم ضَعِيفًا أَوْ أَرْمَلَة فَتَعْظُم الْمَشَقَّة وَيَشْتَدّ مِنْهُمْ الْأَلَم وَالْحَسْرَة . وَهَذِهِ كَانَتْ عُقُوبَة يَعْقُوب فِي فِرَاق يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَام فِيمَا قِيلَ . وَكُلّ هَذَا يَنْدَفِع بِتَشْرِيكِهِمْ فِي شَيْء مِنْ الطَّبِيخ يُدْفَع إِلَيْهِمْ , وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَضَّ عَلَيْهِ السَّلَام الْجَار الْقَرِيب بِالْهَدِيَّةِ ; لِأَنَّهُ يَنْظُر إِلَى مَا يَدْخُل دَار جَاره وَمَا يَخْرُج مِنْهَا , فَإِذَا رَأَى ذَلِكَ أَحَبَّ أَنْ يُشَارِك فِيهِ ; وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَسْرَع إِجَابَة لِجَارِهِ عِنْدَمَا يَنُوبهُ مِنْ حَاجَة فِي أَوْقَات الْغَفْلَة وَالْغِرَّة ; فَلِذَلِكَ بَدَأَ بِهِ عَلَى مَنْ بَعْد بَابه وَإِنْ كَانَتْ دَاره أَقْرَب . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ الْعُلَمَاء : لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام " فَأَكْثِرْ مَاءَهَا " نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى تَيْسِير الْأَمْر عَلَى الْبَخِيل تَنْبِيهًا لَطِيفًا , وَجَعَلَ الزِّيَادَة فِيمَا لَيْسَ لَهُ ثَمَن وَهُوَ الْمَاء ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ : إِذَا طَبَخْت مَرَقَة فَأَكْثِرْ لَحْمَهَا ; إِذْ لَا يَسْهُل ذَلِكَ عَلَى كُلّ أَحَد . وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل : قِدْرِي وَقِدْرُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ وَإِلَيْهِ قَبْلِي تُرْفَعُ الْقِدْرُ وَلَا يُهْدِي النَّزْرَ الْيَسِيرَ الْمُحْتَقَرَ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( ثُمَّ اُنْظُرْ أَهْل بَيْت مِنْ جِيرَانك فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ ) أَيْ بِشَيْءٍ يُهْدَى عُرْفًا ; فَإِنَّ الْقَلِيل وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُهْدَى فَقَدْ لَا يَقَع ذَلِكَ الْمَوْقِع , فَلَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ إِلَّا الْقَلِيل فَلْيُهْدِهِ وَلَا يَحْتَقِر , وَعَلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ قَبُولُهُ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( يَا نِسَاء الْمُؤْمِنَات لَا تَحْتَقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاع شَاة مُحْرَقًا ) أَخْرَجَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ . وَكَذَا قَيَّدْنَاهُ ( يَا نِسَاء الْمُؤْمِنَات ) بِالرَّفْعِ عَلَى غَيْر الْإِضَافَة , وَالتَّقْدِير : يَا أَيّهَا النِّسَاء الْمُؤْمِنَات ; كَمَا تَقُول يَا رِجَال الْكِرَام ; فَالْمُنَادَى مَحْذُوف وَهُوَ يَا أَيّهَا , وَالنِّسَاء فِي التَّقْدِير النَّعْت لِأَيِّهَا , وَالْمُؤْمِنَات نَعْت لِلنِّسَاءِ . قَدْ قِيلَ : فِيهِ : يَا نِسَاء الْمُؤْمِنَات بِالْإِضَافَةِ , وَالْأَوَّل أَكْثَر .
مِنْ إِكْرَام الْجَار أَلَّا يَمْنَع مِنْ غَرْزِ خَشَبَةٍ لَهُ إِرْفَاقًا بِهِ ; قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا يَمْنَع أَحَدكُمْ جَاره أَنْ يَغْرِز خَشَبَة فِي جِدَاره ) . ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ , وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْنَافكُمْ . رُوِيَ " خُشُبَهُ وَخَشَبَةً " عَلَى الْجَمْع وَالْإِفْرَاد . وَرُوِيَ " أَكْتَافهمْ " بِالتَّاءِ و " أَكْنَافهمْ " بِالنُّونِ . وَمَعْنَى " لَأَرْمِيَنَّ بِهَا " أَيْ بِالْكَلِمَةِ وَالْقِصَّة . وَهَلْ يُقْضَى بِهَذَا عَلَى الْوُجُوب أَوْ النَّدْب ؟ فِيهِ خِلَاف بَيْنَ الْعُلَمَاء . فَذَهَبَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ النَّدْب إِلَى بِرّ الْجَار وَالتَّجَاوُز لَهُ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب ; بِدَلِيلِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَحِلّ مَال اِمْرِئِ مُسْلِم إِلَّا عَنْ طِيب نَفْس مِنْهُ ) . قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْله ( لَا يَمْنَع أَحَدكُمْ جَاره ) هُوَ مِثْل مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا اِسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ اِمْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِد فَلَا يَمْنَعْهَا ) . وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْد الْجَمِيع النَّدْب , عَلَى مَا يَرَاهُ الرَّجُل مِنْ الصَّلَاح وَالْخَيْر فِي ذَلِكَ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة أَهْل الْحَدِيث : إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب . قَالُوا : وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة فَهِمَ فِيمَا سَمِعَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْوُجُوب مَا كَانَ لِيُوجِبَ عَلَيْهِمْ غَيْر وَاجِب . وَهُوَ مَذْهَب عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; فَإِنَّهُ قَضَى عَلَى مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة لِلضَّحَّاكِ بْن خَلِيفَة فِي الْخَلِيج أَنْ يَمُرّ بِهِ فِي أَرْض مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة , فَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة : لَا وَاَللَّهِ . فَقَالَ عُمَر : وَاَللَّه لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنك . فَأَمَرَهُ عُمَر أَنْ يَمُرّ بِهِ فَفَعَلَ الضَّحَّاك ; رَوَاهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ . وَزَعَمَ الشَّافِعِيّ فِي كِتَاب " الرَّدّ " أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَرْوِ عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة خِلَاف عُمَر فِي هَذَا الْبَاب ; وَأَنْكَرَ عَلَى مَالِك أَنَّهُ رَوَاهُ وَأَدْخَلَهُ فِي كِتَابه وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ وَرَدَّهُ بِرَأْيِهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : لَيْسَ كَمَا زَعَمَ الشَّافِعِيّ ; لِأَنَّ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة كَانَ رَأْيه فِي ذَلِكَ خِلَاف رَأْي عُمَر , وَرَأْي الْأَنْصَار أَيْضًا كَانَ خِلَافًا لِرَأْيِ عُمَر , وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف فِي قِصَّة الرَّبِيع وَتَحْوِيله - وَالرَّبِيع السَّاقِيَّة - وَإِذَا اِخْتَلَفَتْ الصَّحَابَة وَجَبَ الرُّجُوع إِلَى النَّظَر , وَالنَّظَر , يَدُلّ عَلَى أَنَّ دِمَاء الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالهمْ وَأَعْرَاضهمْ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض حَرَام إِلَّا مَا تَطِيب بِهِ النَّفْس خَاصَّة ; فَهَذَا هُوَ الثَّابِت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَدُلّ عَلَى الْخِلَاف فِي ذَلِكَ قَوْل أَبِي هُرَيْرَة : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاَللَّه لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهَا ; هَذَا أَوْ نَحْوه . أَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : الْقَضَاء بِالْمِرْفَقِ خَارِج بِالسُّنَّةِ عَنْ مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَحِلّ مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا عَنْ طِيب نَفْس مِنْهُ ) لِأَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ التَّمْلِيك وَالِاسْتِهْلَاك وَلَيْسَ الْمِرْفَق مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنهمَا فِي الْحُكْم . فَغَيْر وَاجِب أَنْ يُجْمَع بَيْنَ مَا فَرَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَحَكَى مَالِك أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَاضٍ يَقْضِي بِهِ يُسَمَّى أَبُو الْمُطَّلِب . وَاحْتَجُّوا مِنْ الْأَثَر بِحَدِيثِ الْأَعْمَش عَنْ أَنَس قَالَ : اُسْتُشْهِدَ مِنَّا غُلَام يَوْم أُحُد فَجَعَلَتْ أُمُّهُ تَمْسَح التُّرَاب عَنْ وَجْهه وَتَقُول : أَبْشِرْ هَنِيئًا لَك الْجَنَّة ; فَقَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّم فِيمَا لَا يَعْنِيه وَيَمْنَع مَا لَا يَضُرُّهُ ) . وَالْأَعْمَش لَا يَصِحُّ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ أَنَس , وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَهُ أَبُو عُمَر .
وَرَدَّ حَدِيث جَمْع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَرَافِق الْجَار , وَهُوَ حَدِيث مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُول اللَّه , مَا حَقّ الْجَار ؟ قَالَ : ( إِنْ اِسْتَقْرَضَك أَقْرَضْته وَإِنْ اِسْتَعَانَك أَعَنْته وَإِنْ اِحْتَاجَ أَعْطَيْته وَإِنْ مَرِضَ عُدْته وَإِنْ مَاتَ تَبِعْت جِنَازَته وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْر سَرَّك وَهَنَّيْتَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَة سَاءَتْك وَعَزَّيْته وَلَا تُؤْذِهِ بِنَارِ قِدْرك إِلَّا أَنْ تَعْرِف لَهُ مِنْهَا وَلَا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ لِتُشْرِف عَلَيْهِ وَتَسُدَّ عَلَيْهِ الرِّيح إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنْ اِشْتَرَيْت فَاكِهَة فَأَهْدِ لَهُ مِنْهَا وَإِلَّا فَأَدْخِلْهَا سِرًّا لَا يَخْرُج وَلَدك بِشَيْءٍ مِنْهُ يَغِيظُونَ بِهِ وَلَده وَهَلْ تَفْقَهُونَ مَا أَقُول لَكُمْ لَنْ يُؤَدِّيَ حَقّ الْجَار إِلَّا الْقَلِيل مِمَّنْ رَحِمَ اللَّه ) أَوْ كَلِمَة نَحْوهَا . هَذَا حَدِيث جَامِع وَهُوَ حَدِيث حَسَن , فِي إِسْنَاده أَبُو الْفَضْل عُثْمَان بْن مَطَر الشَّيْبَانِيّ غَيْر مَرْضِيّ .
قَالَ الْعُلَمَاء : الْأَحَادِيث فِي إِكْرَام الْجَار جَاءَتْ مُطْلَقَة غَيْر مُقَيَّدَة حَتَّى الْكَافِر كَمَا بَيَّنَّا . وَفِي الْخَبَر قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه أَنُطْعِمُهُمْ مِنْ لُحُوم النُّسُك ؟ قَالَ : ( لَا تُطْعِمُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ نُسُك الْمُسْلِمِينَ ) . وَنَهْيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِطْعَام الْمُشْرِكِينَ مِنْ نُسُك الْمُسْلِمِينَ يَحْتَمِل النُّسُك الْوَاجِب فِي الذِّمَّة الَّذِي لَا يَجُوز لِلنَّاسِكِ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ وَلَا أَنْ يُطْعِمَهُ الْأَغْنِيَاء ; فَأَمَّا غَيْر الْوَاجِب الَّذِي يُجْزِيهِ إِطْعَام الْأَغْنِيَاء فَجَائِز أَنْ يُطْعِمَهُ أَهْل الذِّمَّة . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة عِنْد تَفْرِيق لَحْم الْأُضْحِيَّة : ( اِبْدَئِي بِجَارِنَا الْيَهُودِيّ ) . وَرُوِيَ أَنَّ شَاة ذُبِحَتْ فِي أَهْل عَبْد اللَّه بْن عَمْرو فَلَمَّا جَاءَ قَالَ : أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيّ ؟ - ثَلَاث مَرَّات - سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَا زَالَ جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ) . وَقَرَأَ عَاصِم فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَضَّل عَنْهُ " وَالْجَار الْجَنْب " بِفَتْحِ الْجِيم وَسُكُون النُّون . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : هُوَ عَلَى تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف ; أَيْ وَالْجَار ذِي الْجَنْب أَيْ ذِي النَّاحِيَة . وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش : النَّاسُ جَنْبٌ وَالْأَمِيرُ جَنْبُ وَالْجَنْب النَّاحِيَة , أَيْ الْمُتَنَحِّي عَنْ الْقَرَابَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ الرَّفِيق فِي السَّفَر . وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُ رَجُل مِنْ أَصْحَابه وَهُمَا عَلَى رَاحِلَتَيْنِ فَدَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْضَة , فَقَطَعَ قَضِيبَيْنِ أَحَدهمَا مُعْوَجّ , فَخَرَجَ وَأَعْطَى لِصَاحِبِهِ الْقَوِيم ; فَقَالَ : كُنْت يَا رَسُول اللَّه أَحَقّ بِهَذَا ! فَقَالَ : ( كَلَّا يَا فُلَان إِنَّ كُلّ صَاحِب يَصْحَب آخَر فَإِنَّهُ مَسْئُول عَنْ صَحَابَته وَلَوْ سَاعَة مِنْ نَهَار ) . وَقَالَ رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن : لِلسَّفَرِ مُرُوءَةٌ وَلِلْحَضَرِ مُرُوءَةٌ ; فَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فِي السَّفَر فَبَذْل الزَّاد , وَقِلَّة الْخِلَاف عَلَى الْأَصْحَاب , وَكَثْرَة الْمِزَاح فِي غَيْر مَسَاخِطِ اللَّه . وَأَمَّا الْمُرُوءَة فِي الْحَضَر فَالْإِدْمَان إِلَى الْمَسَاجِد , وَتِلَاوَة الْقُرْآن وَكَثْرَة الْإِخْوَان فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَلِبَعْضِ بَنِي أَسَد - وَقِيلَ إِنَّهَا لِحَاتِمٍ الطَّائِيّ : إِذَا مَا رَفِيقِي لَمْ يَكُنْ خَلْفَ نَاقَتِي لَهُ مَرْكَب فَضْلًا فَلَا حَمَلَتْ رِجْلِي وَلَمْ يَكُ مِنْ زَادِي لَهُ شَطْرُ مِزْوَدِي فَلَا كُنْت ذَا زَادٍ وَلَا كُنْت ذَا فَضْلِ شَرِيكَانِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ أَرَى عَلَيَّ لَهُ فَضْلًا بِمَا نَالَ مِنْ فَضْلِي وَقَالَ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَابْن أَبِي لَيْلَى : " الصَّاحِب بِالْجَنْبِ " الزَّوْجَة . اِبْن جُرَيْج : هُوَ الَّذِي يَصْحَبك وَيَلْزَمك رَجَاء نَفْعك . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك . وَقَدْ تَتَنَاوَل الْآيَة الْجَمِيع بِالْعُمُومِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ الَّذِي يُجْتَاز بِك مَارًّا . وَالسَّبِيل الطَّرِيق ; فَنُسِبَ الْمُسَافِر إِلَيْهِ لِمُرُورِهِ عَلَيْهِ وَلُزُومه إِيَّاهُ . وَمِنْ الْإِحْسَان إِلَيْهِ إِعْطَاؤُهُ وَإِرْفَاقه وَهِدَايَته وَرُشْده .
أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَمَالِيك , وَبَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَرَوَى مُسْلِم وَغَيْره عَنْ الْمَعْرُور بْن سُوَيْد قَالَ : مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْد وَعَلَى غُلَامه مِثْله , فَقُلْنَا : يَا أَبَا ذَرّ لَوْ جَمَعْت بَيْنهمَا كَانَتْ حُلَّة ; فَقَالَ : إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُل مِنْ إِخْوَانِي كَلَام , وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّة فَعَيَّرْته بِأُمِّهِ , فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك اِمْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة ) قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمّه . قَالَ : ( يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة هُمْ إِخْوَانكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّه تَحْت أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ) . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ رَكِبَ بَغْلَة ذَات يَوْم فَأَرْدَفَ غُلَامه خَلْفه , فَقَالَ لَهُ قَائِل : لَوْ أَنْزَلْته يَسْعَى خَلْف دَابَّتك ; فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : لَأَنْ يَسْعَى مَعِي ضِغْثَانِ مِنْ نَار يُحْرِقَانِ مِنِّي مَا أَحْرَقَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْعَى غُلَامِي خَلْفِي . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَايَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُ مِمَّا تَكْتَسُونَ وَمَنْ لَا يُلَايِمُكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْق اللَّه ) . لَايَمَكُمْ وَافَقَكُمْ . وَالْمُلَايَمَة الْمُوَافَقَة . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لِلْمَمْلُوكِ طَعَامه وَكِسْوَته وَلَا يُكَلَّف مِنْ الْعَمَل إِلَّا مَا يُطِيق ) وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَقُلْ أَحَدكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي بَلْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي ) وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام . فَنَدَبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّادَة إِلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَا وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الْإِحْسَان وَإِلَى سُلُوك طَرِيق التَّوَاضُع حَتَّى لَا يَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَزِيَّة عَلَى عَبِيدِهِمْ , إِذْ الْكُلّ عَبِيد اللَّه وَالْمَال مَال اللَّه , لَكِنْ سَخَّرَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ , وَمَلَّكَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَتَنْفِيذًا لِلْحِكْمَةِ ; فَإِنْ أَطْعَمُوهُمْ أَقَلّ مِمَّا يَأْكُلُونَ , وَأَلْبَسُوهُمْ أَقَلّ مِمَّا يَلْبَسُونَ صِفَةً وَمِقْدَارًا جَازَ إِذَا قَامَ بِوَاجِبِهِ عَلَيْهِ . وَلَا خِلَاف فِي ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَان لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ : أَعْطَيْت الرَّقِيق قُوتَهُمْ ؟ قَالَ لَا . قَالَ : فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِس عَمَّنْ يَمْلِك قُوتَهُمْ ) .
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ ضَرَبَ عَبْده حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ ) . وَمَعْنَاهُ أَنْ يَضْرِبهُ قَدْر الْحَدّ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدّ . وَجَاءَ عَنْ نَفَر مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُمْ اقْتَصُّوا لِلْخَادِمِ مِنْ الْوَلَد فِي الضَّرْب وَأَعْتَقُوا الْخَادِم لَمَّا لَمْ يُرِدْ الْقِصَاص وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَى أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدّ يَوْم الْقِيَامَة ثَمَانِينَ ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَدْخُل الْجَنَّة سَيِّئُ الْمَلَكَة ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( سُوء الْخُلُق شُؤْم وَحُسْن الْمَلَكَة نَمَاء وَصِلَة الرَّحِم تَزِيد فِي الْعُمُر وَالصَّدَقَة تَدْفَع مِيتَة السُّوء ) .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْبَاب أَيّهمَا أَفْضَل الْحُرّ أَوْ الْعَبْد ; فَرَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوك الْمُصْلِح أَجْرَانِ ) وَاَلَّذِي نَفْس أَبِي هُرَيْرَة بِيَدِهِ لَوْلَا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه وَالْحَجّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْت أَنْ أَمُوت وَأَنَا مَمْلُوك . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْعَبْد إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَة اللَّه فَلَهُ أَجْره مَرَّتَيْنِ ) . فَاسْتُدِلَّ بِهَذَا وَمَا كَانَ مِثْله مِنْ فَضْل الْعَبْد ; لِأَنَّهُ مُخَاطَب مِنْ جِهَتَيْنِ : مُطَالَب بِعِبَادَةِ اللَّه , مُطَالَب بِخِدْمَةِ سَيِّده . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُمَر يُوسُف بْن عَبْد الْبَرّ النَّمَرِيّ وَأَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد الْعَامِرِيّ الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ . اِسْتَدَلَّ مَنْ فَضَّلَ الْحُرّ بِأَنْ قَالَ : الِاسْتِقْلَال بِأُمُورِ الدِّين وَالدُّنْيَا وَإِنَّمَا يَحْصُل بِالْأَحْرَارِ وَالْعَبْد كَالْمَفْقُودِ لِعَدَمِ اِسْتِقْلَال , وَكَالْآلَةِ الْمُصَرَّفَة بِالْقَهْرِ , وَكَالْبَهِيمَةِ الْمُسَخَّرَة بِالْجَبْرِ ; وَلِذَلِكَ سُلِبَ مَنَاصِب الشَّهَادَات وَمُعْظَم الْوِلَايَات , وَنَقَصَتْ حُدُودُهُ عَنْ حُدُود الْأَحْرَار إِشْعَارًا بِخِسَّةِ الْمِقْدَار , وَالْحُرّ وَإِنْ طُولِبَ مِنْ جِهَة وَاحِدَة فَوَظَائِفُهُ فِيهَا أَكْثَر , وَعَنَاؤُهُ أَعْظَم فَثَوَابه أَكْثَر . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو هُرَيْرَة بِقَوْلِهِ : لَوْلَا الْجِهَاد وَالْحَجّ ; أَيْ لَوْلَا النَّقْص الَّذِي يَلْحَق الْعَبْد لِفَوْتِ هَذِهِ الْأُمُور . وَاَللَّه أَعْلَم .
رَوَى أَنَس بْن مَالِك عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا زَالَ جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ , وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالنِّسَاءِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُحَرِّمُ طَلَاقَهُنَّ , وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالْمَمَالِيكِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مُدَّة إِذَا اِنْتَهَوْا إِلَيْهَا عَتَقُوا , وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيت أَنْ يُحْفِيَ فَمِي - وَرُوِيَ حَتَّى كَادَ - وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِقِيَامِ اللَّيْل حَتَّى ظَنَنْت أَنَّ خِيَار أُمَّتِي لَا يَنَامُونَ لَيْلًا ) . ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ فِي تَفْسِيره .
أَيْ لَا يَرْضَى .
فَنَفَى سُبْحَانَهُ مَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَته ; أَيْ لَا يَظْهَر عَلَيْهِ آثَار نِعَمه فِي الْآخِرَة . وَفِي هَذَا ضَرْب مِنْ التَّوَعُّد . وَالْمُخْتَال ذُو الْخُيَلَاء أَيْ الْكِبْر . وَالْفَخُور : الَّذِي يَعْدُدْ مَنَاقِبه كِبْرًا . وَالْفَخْر : الْبَذَخ وَالتَّطَاوُل . وَخَصَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّهُمَا تَحْمِلَانِ صَاحِبَيْهِمَا عَلَى الْأَنَفَة مِنْ الْقَرِيب الْفَقِير وَالْجَار الْفَقِير وَغَيْرهمْ مِمَّنْ ذُكِرَ فِي الْآيَة فَيُضِيع أَمْر اللَّه بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ .
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ↓
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " الَّذِينَ يَبْخَلُونَ " " الَّذِينَ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْبَدَل مِنْ " مَنْ " فِي قَوْله : " مَنْ كَانَ " وَلَا يَكُون صِفَة ; لِأَنَّ " مَنْ " و " مَا " لَا يُوصَفَانِ وَلَا يُوصَف بِهِمَا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع بَدَلًا مِنْ الْمُضْمَر الَّذِي فِي فَخُور . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع فَيُعْطَف عَلَيْهِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِبْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف , أَيْ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ , لَهُمْ كَذَا , أَوْ يَكُون الْخَبَر " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة " [ النِّسَاء : 40 ] . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي , فَتَكُون الْآيَة فِي الْمُؤْمِنِينَ ; فَتَجِيء الْآيَة عَلَى هَذَا التَّأْوِيل أَنَّ الْبَاخِلِينَ مَنْفِيَّة عَنْهُمْ مَحَبَّة اللَّه , فَأَحْسِنُوا أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى مَنْ سُمِّيَ فَإِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ مَنْ فِيهِ الْخِلَال الْمَانِعَة مِنْ الْإِحْسَان .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبُخْلِ " الْبُخْل الْمَذْمُوم فِي الشَّرْع هُوَ الِامْتِنَاع مِنْ أَدَاء مَا أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ . وَهُوَ مِثْل قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله " [ آل عِمْرَان : 180 ] الْآيَة . وَقَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " الْقَوْل فِي الْبُخْل وَحَقِيقَته , وَالْفَرْق بَيْنه وَبَيْنَ الشُّحّ مُسْتَوْفًى . وَالْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس وَغَيْره الْيَهُود ; فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الِاخْتِيَال وَالْفَخْر وَالْبُخْل بِالْمَالِ وَكِتْمَان مَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ التَّوْرَاة مِنْ نَعْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْمُنَافِقُونَ الَّذِي كَانَ إِنْفَاقهمْ وَإِيمَانهمْ تَقِيَّة , وَالْمَعْنَى إِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَال فَخُور , وَلَا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ; عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِعْرَابه .
فَصَلَ تَعَالَى تَوَعُّد الْمُؤْمِنِينَ الْبَاخِلِينَ مِنْ تَوَعُّد الْكَافِرِينَ بِأَنْ جَعَلَ الْأَوَّل عَدَم الْمَحَبَّة وَالثَّانِي عَذَابًا مُهِينًا .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبُخْلِ " الْبُخْل الْمَذْمُوم فِي الشَّرْع هُوَ الِامْتِنَاع مِنْ أَدَاء مَا أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ . وَهُوَ مِثْل قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله " [ آل عِمْرَان : 180 ] الْآيَة . وَقَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " الْقَوْل فِي الْبُخْل وَحَقِيقَته , وَالْفَرْق بَيْنه وَبَيْنَ الشُّحّ مُسْتَوْفًى . وَالْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس وَغَيْره الْيَهُود ; فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الِاخْتِيَال وَالْفَخْر وَالْبُخْل بِالْمَالِ وَكِتْمَان مَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ التَّوْرَاة مِنْ نَعْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْمُنَافِقُونَ الَّذِي كَانَ إِنْفَاقهمْ وَإِيمَانهمْ تَقِيَّة , وَالْمَعْنَى إِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَال فَخُور , وَلَا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ; عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِعْرَابه .
فَصَلَ تَعَالَى تَوَعُّد الْمُؤْمِنِينَ الْبَاخِلِينَ مِنْ تَوَعُّد الْكَافِرِينَ بِأَنْ جَعَلَ الْأَوَّل عَدَم الْمَحَبَّة وَالثَّانِي عَذَابًا مُهِينًا .
وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا ↓
" وَاَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ رِئَاء النَّاس " الْآيَة . عَطَفَ تَعَالَى عَلَى " الَّذِينَ يَبْخَلُونَ " : " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاس " . وَقِيلَ : هُوَ عَطْف عَلَى الْكَافِرِينَ , فَيَكُون فِي مَوْضِع خَفْض . وَمَنْ رَأَى زِيَادَة الْوَاو أَجَازَ أَنْ يَكُون الثَّانِي عِنْدَهُ خَبَرًا لِلْأَوَّلِ . قَالَ الْجُمْهُور نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " رِئَاءَ النَّاس " وَالرِّئَاء مِنْ النِّفَاق . مُجَاهِد : فِي الْيَهُود . وَضَعَّفَهُ الطَّبَرِيّ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى عَنْ هَذِهِ الصَّنْفَة الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر , وَالْيَهُود لَيْسَ كَذَلِكَ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَوْل مُجَاهِد مُتَّجِهٌ عَلَى الْمُبَالَغَة وَالْإِلْزَام ; إِذْ إِيمَانهمْ بِالْيَوْمِ الْآخِر كَالْإِيمَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي مُطْعِمِي يَوْم بَدْر , وَهُمْ رُؤَسَاء مَكَّة , أَنْفَقُوا عَلَى النَّاس لِيَخْرُجُوا إِلَى بَدْر . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَنَفَقَة الرِّئَاء تَدْخُل فِي الْأَحْكَام مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَا تُجْزِئ . قُلْت : وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَاب قَوْل تَعَالَى : " قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ " [ التَّوْبَة : 53 ] وَسَيَأْتِي .
فِي الْكَلَام إِضْمَار تَقْدِيره " وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " فَقَرِينُهُمْ الشَّيْطَان " وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَان لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا " . وَالْقَرِين : الْمُقَارِن , أَيْ الصَّاحِب وَالْخَلِيل وَهُوَ فَعِيل مِنْ الْإِقْرَان ; قَالَ عَدِيّ بْن زَيْد : عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي وَالْمَعْنَى : مَنْ قَبِلَ مِنْ الشَّيْطَان فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَارَنَهُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى مَنْ قُرِنَ بِهِ الشَّيْطَان فِي النَّار " فَسَاءَ قَرِينًا " أَيْ فَبِئْسَ الشَّيْطَانُ قَرِينًا , وَهُوَ نَصْب عَلَى التَّمْيِيز .
فِي الْكَلَام إِضْمَار تَقْدِيره " وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " فَقَرِينُهُمْ الشَّيْطَان " وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَان لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا " . وَالْقَرِين : الْمُقَارِن , أَيْ الصَّاحِب وَالْخَلِيل وَهُوَ فَعِيل مِنْ الْإِقْرَان ; قَالَ عَدِيّ بْن زَيْد : عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي وَالْمَعْنَى : مَنْ قَبِلَ مِنْ الشَّيْطَان فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَارَنَهُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى مَنْ قُرِنَ بِهِ الشَّيْطَان فِي النَّار " فَسَاءَ قَرِينًا " أَيْ فَبِئْسَ الشَّيْطَانُ قَرِينًا , وَهُوَ نَصْب عَلَى التَّمْيِيز .
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيمًا ↓
" مَا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ و " ذَا " خَبَرُهُ , وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَا وَذَا اِسْمًا وَاحِدًا . فَعَلَى الْأَوَّل تَقْدِيره وَمَا الَّذِي عَلَيْهِمْ , وَعَلَى الثَّانِي تَقْدِيره وَأَيّ شَيْء عَلَيْهِمْ " لَوْ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " , أَيْ صَدَّقُوا بِوَاجِبِ الْوُجُود , وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول مِنْ تَفَاصِيل الْآخِرَة , " وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّه " .
أَيْ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ خَلْقهَا
أَيْ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ خَلْقهَا
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ↓
يْ لَا يَبْخَسُهُمْ وَلَا يُنْقِصُهُمْ مِنْ ثَوَاب عَمَلِهِمْ وَزْن ذَرَّة بَلْ يُجَازِيهِمْ بِهَا وَيُثِيبُهُمْ عَلَيْهَا . وَالْمُرَاد مِنْ الْكَلَام أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَظْلِم قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم النَّاس شَيْئًا " [ يُونُس : 44 ] . وَالذَّرَّة : النَّمْلَة الْحَمْرَاء ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره , وَهِيَ أَصْغَر النَّمْل . وَعَنْهُ أَيْضًا رَأْس النَّمْلَة . وَقَالَ يَزِيد بْن هَارُون : زَعَمُوا أَنَّ الذَّرَّة لَيْسَ لَهَا وَزْن . وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا وَضَعَ خُبْزًا حَتَّى عَلَاهُ الذَّرُّ مِقْدَار مَا يَسْتُرُهُ ثُمَّ وَزَنَهُ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى وَزْن الْخُبْز شَيْئًا .
قُلْت : وَالْقُرْآن وَالسُّنَّة يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ لِلذَّرَّةِ وَزْنًا ; كَمَا أَنَّ لِلدِّينَارِ وَنِصْفه وَزْنًا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : الذَّرَّة الْخَرْدَلَة ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فَلَا تُظْلَم نَفْس شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَال حَبَّة مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا " [ الْأَنْبِيَاء : 47 ] . وَقِيلَ غَيْر هَذَا , وَهِيَ فِي الْجُمْلَة عِبَارَة عَنْ أَقَلّ الْأَشْيَاء وَأَصْغَرِهَا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مُؤْمِنًا حَسَنَة يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَة وَأَمَّا الْكَافِر فَيُطْعَم بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَة لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَة يُجْزَى بِهَا ) .
أَيْ يُكْثِر ثَوَابهَا . وَقَرَأَ أَهْل الْحِجَاز " حَسَنَةٌ " بِالرَّفْعِ , وَالْعَامَّة بِالنَّصْبِ ; فَعَلَى الْأَوَّل " تَكُ " بِمَعْنَى تَحْدُث , فَهِيَ تَامَّة . وَعَلَى الثَّانِي هِيَ النَّاقِصَة , أَيْ إِنْ تَكُ فِعْلَتُهُ حَسَنَة . وَقَرَأَ الْحَسَن " نُضَاعِفْهَا " بِنُونِ الْعَظَمَة . وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ , وَهِيَ أَصَحّ ; لِقَوْلِهِ " وَيُؤْتِ " . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء " يُضَعِّفْهَا " , وَالْبَاقُونَ " يُضَاعِفْهَا " وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا التَّكْثِير . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : " يُضَاعِفهَا " مَعْنَاهُ يَجْعَلهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة , " وَيُضَعِّفهَا " بِالتَّشْدِيدِ يَجْعَلهَا ضِعْفَيْنِ . " مِنْ لَدُنْه " مِنْ عِنْده . وَفِيهِ أَرْبَع لُغَات : لَدُنْ وَلُدْن وَلَدُ وَلَدَى ; فَإِذَا أَضَافُوهُ إِلَى أَنْفُسهمْ شَدَّدُوا النُّون , وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ " مِنْ " حَيْثُ كَانَتْ " مِنْ " الدَّاخِلَة لِابْتِدَاءِ الْغَايَة و " لَدُنْ " كَذَلِكَ , فَلَمَّا تَشَاكَلَا حَسُنَ دُخُول " مِنْ " عَلَيْهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي لَدُنْ : إِنَّهُ الْمَوْضِع الَّذِي هُوَ أَوَّل الْغَايَة . " أَجْرًا عَظِيمًا " يَعْنِي الْجَنَّة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ الطَّوِيل - حَدِيث الشَّفَاعَة - وَفِيهِ : ( حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّار فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد بِأَشَدَّ مُنَاشَدَة لِلَّهِ فِي اِسْتِقْصَاء الْحَقّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْم الْقِيَامَة لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّار يَقُولُونَ رَبّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَيُقَال لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّم صُوَرهمْ عَلَى النَّار فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّار إِلَى نِصْف سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَد مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ فَيَقُول جَلَّ وَعَزَّ اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال نِصْف دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتنَا أَحَدًا ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا ) . وَكَانَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ يَقُول : إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيث فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَالَ ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا " وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْم الْقِيَامَة فَيُوقَف وَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُءُوس الْخَلَائِق هَذَا فُلَان بْن فُلَان مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقّه ثُمَّ يَقُول آتِ هَؤُلَاءِ حُقُوقهمْ فَيَقُول يَا رَبّ مِنْ أَيْنَ لِي وَقَدْ ذَهَبَتْ الدُّنْيَا عَنِّي فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ اُنْظُرُوا إِلَى أَعْمَاله الصَّالِحَة فَأَعْطُوهُمْ مِنْهَا فَإِنْ بَقِيَ مِثْقَال ذَرَّة مِنْ حَسَنَة قَالَتْ الْمَلَائِكَة يَا رَبّ - وَهُوَ أَعْلَم بِذَلِكَ مِنْهُمْ - قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقّ حَقَّهُ وَبَقِيَ مِثْقَال ذَرَّة مِنْ حَسَنَة فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ ضَعِّفُوهَا لِعَبْدِي وَأَدْخِلُوهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِي الْجَنَّة وَمِصْدَاقه " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفْهَا " - وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا قَالَتْ الْمَلَائِكَة إِلَهَنَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَتْ سَيِّئَاتُهُ وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِير فَيَقُول تَعَالَى خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتهمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاته ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّار ) . فَالْآيَة عَلَى هَذَا التَّأْوِيل فِي الْخُصُوم , وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة لِلْخَصْمِ عَلَى الْخَصْم يَأْخُذُ لَهُ مِنْهُ , وَلَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة تَبْقَى لَهُ بَلْ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا وَيُضَعِّفهَا لَهُ ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفْهَا " . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ يُعْطِي عَبْده الْمُؤْمِن بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَة أَلْفَيْ أَلْف حَسَنَة ) وَتَلَا " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا " . قَالَ عَبِيدَة : قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : وَإِذَا قَالَ اللَّه " أَجْرًا عَظِيمًا " فَمَنْ الَّذِي يَقَدِّرُ قَدْرَهُ ! وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة إِحْدَى الْآيَات الَّتِي هِيَ خَيْر مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس .
قُلْت : وَالْقُرْآن وَالسُّنَّة يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ لِلذَّرَّةِ وَزْنًا ; كَمَا أَنَّ لِلدِّينَارِ وَنِصْفه وَزْنًا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : الذَّرَّة الْخَرْدَلَة ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فَلَا تُظْلَم نَفْس شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَال حَبَّة مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا " [ الْأَنْبِيَاء : 47 ] . وَقِيلَ غَيْر هَذَا , وَهِيَ فِي الْجُمْلَة عِبَارَة عَنْ أَقَلّ الْأَشْيَاء وَأَصْغَرِهَا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مُؤْمِنًا حَسَنَة يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَة وَأَمَّا الْكَافِر فَيُطْعَم بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَة لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَة يُجْزَى بِهَا ) .
أَيْ يُكْثِر ثَوَابهَا . وَقَرَأَ أَهْل الْحِجَاز " حَسَنَةٌ " بِالرَّفْعِ , وَالْعَامَّة بِالنَّصْبِ ; فَعَلَى الْأَوَّل " تَكُ " بِمَعْنَى تَحْدُث , فَهِيَ تَامَّة . وَعَلَى الثَّانِي هِيَ النَّاقِصَة , أَيْ إِنْ تَكُ فِعْلَتُهُ حَسَنَة . وَقَرَأَ الْحَسَن " نُضَاعِفْهَا " بِنُونِ الْعَظَمَة . وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ , وَهِيَ أَصَحّ ; لِقَوْلِهِ " وَيُؤْتِ " . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء " يُضَعِّفْهَا " , وَالْبَاقُونَ " يُضَاعِفْهَا " وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا التَّكْثِير . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : " يُضَاعِفهَا " مَعْنَاهُ يَجْعَلهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة , " وَيُضَعِّفهَا " بِالتَّشْدِيدِ يَجْعَلهَا ضِعْفَيْنِ . " مِنْ لَدُنْه " مِنْ عِنْده . وَفِيهِ أَرْبَع لُغَات : لَدُنْ وَلُدْن وَلَدُ وَلَدَى ; فَإِذَا أَضَافُوهُ إِلَى أَنْفُسهمْ شَدَّدُوا النُّون , وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ " مِنْ " حَيْثُ كَانَتْ " مِنْ " الدَّاخِلَة لِابْتِدَاءِ الْغَايَة و " لَدُنْ " كَذَلِكَ , فَلَمَّا تَشَاكَلَا حَسُنَ دُخُول " مِنْ " عَلَيْهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي لَدُنْ : إِنَّهُ الْمَوْضِع الَّذِي هُوَ أَوَّل الْغَايَة . " أَجْرًا عَظِيمًا " يَعْنِي الْجَنَّة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ الطَّوِيل - حَدِيث الشَّفَاعَة - وَفِيهِ : ( حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّار فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد بِأَشَدَّ مُنَاشَدَة لِلَّهِ فِي اِسْتِقْصَاء الْحَقّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْم الْقِيَامَة لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّار يَقُولُونَ رَبّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَيُقَال لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّم صُوَرهمْ عَلَى النَّار فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّار إِلَى نِصْف سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَد مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ فَيَقُول جَلَّ وَعَزَّ اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال نِصْف دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتنَا أَحَدًا ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا ) . وَكَانَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ يَقُول : إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيث فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَالَ ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا " وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْم الْقِيَامَة فَيُوقَف وَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُءُوس الْخَلَائِق هَذَا فُلَان بْن فُلَان مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقّه ثُمَّ يَقُول آتِ هَؤُلَاءِ حُقُوقهمْ فَيَقُول يَا رَبّ مِنْ أَيْنَ لِي وَقَدْ ذَهَبَتْ الدُّنْيَا عَنِّي فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ اُنْظُرُوا إِلَى أَعْمَاله الصَّالِحَة فَأَعْطُوهُمْ مِنْهَا فَإِنْ بَقِيَ مِثْقَال ذَرَّة مِنْ حَسَنَة قَالَتْ الْمَلَائِكَة يَا رَبّ - وَهُوَ أَعْلَم بِذَلِكَ مِنْهُمْ - قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقّ حَقَّهُ وَبَقِيَ مِثْقَال ذَرَّة مِنْ حَسَنَة فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ ضَعِّفُوهَا لِعَبْدِي وَأَدْخِلُوهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِي الْجَنَّة وَمِصْدَاقه " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفْهَا " - وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا قَالَتْ الْمَلَائِكَة إِلَهَنَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَتْ سَيِّئَاتُهُ وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِير فَيَقُول تَعَالَى خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتهمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاته ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّار ) . فَالْآيَة عَلَى هَذَا التَّأْوِيل فِي الْخُصُوم , وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة لِلْخَصْمِ عَلَى الْخَصْم يَأْخُذُ لَهُ مِنْهُ , وَلَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة تَبْقَى لَهُ بَلْ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا وَيُضَعِّفهَا لَهُ ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفْهَا " . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ يُعْطِي عَبْده الْمُؤْمِن بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَة أَلْفَيْ أَلْف حَسَنَة ) وَتَلَا " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا " . قَالَ عَبِيدَة : قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : وَإِذَا قَالَ اللَّه " أَجْرًا عَظِيمًا " فَمَنْ الَّذِي يَقَدِّرُ قَدْرَهُ ! وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة إِحْدَى الْآيَات الَّتِي هِيَ خَيْر مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس .
فُتِحَتْ الْفَاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ " وَإِذْ " ظَرْف زَمَان وَالْعَامِل فِيهِ " جِئْنَا " ذَكَرَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ : حَدَّثَنَا الْخَلِيل بْن أَحْمَد قَالَ : حَدَّثَنَا اِبْن مَنِيع قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو كَامِل قَالَ : حَدَّثَنَا فُضَيْل عَنْ يُونُس بْن مُحَمَّد بْن فَضَالَة عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي بَنِي ظَفَر فَجَلَسَ عَلَى الصَّخْرَة الَّتِي فِي بَنِي ظَفَر وَمَعَهُ اِبْن مَسْعُود وَمُعَاذ وَنَاس مِنْ أَصْحَابه فَأَمَرَ قَارِئًا يَقْرَأ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَة " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمَّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِك عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا " بَكَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اِخْضَلَّتْ وَجْنَتَاهُ ; فَقَالَ : ( يَا رَبّ هَذَا عَلَى مَنْ أَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَكَيْفَ مَنْ لَمْ أَرَهُمْ ) . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ . قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِقْرَأْ عَلَيَّ ) قُلْت : أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ ؟ قَالَ : ( إِنِّي أُحِبّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرَى ) فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَة " النِّسَاء " حَتَّى بَلَغْت " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمَّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِك عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا " قَالَ : ( أَمْسِكْ ) فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَقَالَ بَدَل قَوْله ( أَمْسِكْ ) : فَرَفَعْت رَأْسِي - أَوْ غَمَزَنِي رَجُل إِلَى جَنْبِي - فَرَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت دُمُوعه تَسِيل . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : بُكَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ لِعَظِيمٍ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَة مِنْ هَوْل الْمَطْلَع وَشِدَّة الْأَمْر ; إِذْ يُؤْتَى بِالْأَنْبِيَاءِ شُهَدَاء عَلَى أُمَمهمْ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيب , وَيُؤْتَى بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْقِيَامَة شَهِيدًا . وَالْإِشَارَة بِقَوْلِهِ " عَلَى هَؤُلَاءِ " إِلَى كُفَّار قُرَيْش وَغَيْرهمْ مِنْ الْكُفَّار ; وَإِنَّمَا خُصَّ كُفَّار قُرَيْش بِالذِّكْرِ لِأَنَّ وَظِيفَة الْعَذَاب أَشَدّ عَلَيْهِمْ مِنْهَا عَلَى غَيْرهمْ ; لِعِنَادِهِمْ عِنْد رُؤْيَة الْمُعْجِزَات , وَمَا أَظْهَرَهُ اللَّه عَلَى يَدَيْهِ مِنْ خَوَارِق الْعَادَات . وَالْمَعْنَى فَكَيْفَ يَكُون حَال هَؤُلَاءِ الْكُفَّار يَوْم الْقِيَامَة " إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمَّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِك عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا " أَمُعَذَّبِينَ أَمْ مُنَعَّمِينَ ؟ وَهَذَا اِسْتِفْهَام مَعْنَاهُ التَّوْبِيخ . وَقِيلَ : الْإِشَارَة إِلَى جَمِيع أُمَّته . ذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك أَخْبَرَنَا رَجُل مِنْ الْأَنْصَار عَنْ الْمِنْهَال بْن عُمَر وَحَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقُول : لَيْسَ مِنْ يَوْم إِلَّا تُعْرَض عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّته غَدْوَة وَعَشِيَّة فَيَعْرِفهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالهمْ فَلِذَلِكَ يَشْهَد عَلَيْهِمْ ; يَقُول اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمَّة بِشَهِيدٍ " يَعْنِي بِنَبِيِّهَا " وَجِئْنَا بِك عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا " . وَمَوْضِع " كَيْفَ " نَصْب بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ , التَّقْدِير فَكَيْفَ يَكُون حَالهمْ ; كَمَا ذَكَرْنَا . وَالْفِعْل الْمُضْمَر قَدْ يَسُدُّ مَسَدَّ " إِذَا " , وَالْعَامِل فِي " إِذَا " " جِئْنَا " . و " شَهِيدًا " حَال . وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفِقْه جَوَاز قِرَاءَة الطَّالِب عَلَى الشَّيْخ وَالْعَرْض عَلَيْهِ , وَيَجُوز عَكْسه . وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي حَدِيث أُبَيّ فِي سُورَة " لَمْ يَكُنْ " , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . و " شَهِيدًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال .
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ↓
ضُمَّتْ الْوَاو فِي " عَصَوْا " . لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَيَجُوز كَسْرهَا . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر " تَسَّوَّى " بِفَتْحِ التَّاء وَالتَّشْدِيد فِي السِّين . وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا خَفَّفَا السِّين . وَالْبَاقُونَ ضَمُّوا التَّاء وَخَفَّفُوا السِّين , مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِل غَيْر مُسَمًّى . وَالْمَعْنَى لَوْ يُسَوِّي اللَّه بِهِمْ الْأَرْض . أَيْ يَجْعَلهُمْ وَالْأَرْض سَوَاء . وَمَعْنًى آخَرُ : تَمَنَّوْا لَوْ لَمْ يَبْعَثهُمْ اللَّه وَكَانَتْ الْأَرْض مُسْتَوِيَة عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ التُّرَاب نُقِلُوا . وَعَلَى الْقِرَاءَة الْأُولَى وَالثَّانِيَة فَالْأَرْض فَاعِلَة , وَالْمَعْنَى تَمَنَّوْا لَوْ اِنْفَتَحَتْ لَهُمْ الْأَرْض فَسَاخُوا فِيهَا ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : الْبَاء بِمَعْنَى عَلَى , أَيْ لَوْ تُسَوَّى عَلَيْهِمْ أَيْ تَنْشَقُّ فَتُسَوَّى عَلَيْهِمْ ; عَنْ الْحَسَن . فَقِرَاءَة التَّشْدِيد عَلَى الْإِدْغَام , وَالتَّخْفِيف عَلَى حَذْف التَّاء . وَقِيلَ : إِنَّمَا تَمَنَّوْا هَذَا حِينَ رَأَوْا الْبَهَائِم تَصِير تُرَابًا وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّار ; وَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا " [ النَّبَأ : 40 ] . وَقِيلَ : إِنَّمَا تَمَنَّوْا هَذَا حِين شَهِدَتْ هَذِهِ الْأُمَّة لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا " [ الْبَقَرَة : 143 ] الْآيَة . فَتَقُول الْأُمَم الْخَالِيَة : إِنَّ فِيهِمْ الزُّنَاة وَالسُّرَّاق فَلَا تُقْبَل شَهَادَتهمْ فَيُزَكِّيهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيَقُول الْمُشْرِكُونَ : " وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " [ الْأَنْعَام : 23 ] فَيُخْتَم عَلَى أَفْوَاههمْ وَتَشْهَد أَرْجُلهمْ وَأَيْدِيهمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " يَوْمئِذٍ يَوَدّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُول لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْض " يَعْنِي تُخْسَف بِهِمْ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ الزَّجَّاج : قَالَ بَعْضهمْ : " وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا " مُسْتَأْنَف ; لِأَنَّ مَا عَمِلُوهُ ظَاهِرٌ عِنْد اللَّه لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كِتْمَانِهِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ مَعْطُوف , وَالْمَعْنَى يَوَدّ لَوْ أَنَّ الْأَرْض سُوِّيَتْ بِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُمُوا اللَّه حَدِيثًا ; لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ . وَسُئِلَ اِبْن عَبَّاس عَنْ هَذِهِ الْآيَة , وَعَنْ قَوْله تَعَالَى : " وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " فَقَالَ : لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا أَهْل الْإِسْلَام قَالُوا : " وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " فَخَتَمَ اللَّه عَلَى أَفْوَاههمْ وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ فَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا . وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : الْآخِرَة مَوَاطِن يَكُون هَذَا فِي بَعْضهَا وَهَذَا فِي بَعْضهَا . وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ وَحُوسِبُوا لَمْ يَكْتُمُوا . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي " الْأَنْعَام " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَالَ الزَّجَّاج : قَالَ بَعْضهمْ : " وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا " مُسْتَأْنَف ; لِأَنَّ مَا عَمِلُوهُ ظَاهِرٌ عِنْد اللَّه لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كِتْمَانِهِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ مَعْطُوف , وَالْمَعْنَى يَوَدّ لَوْ أَنَّ الْأَرْض سُوِّيَتْ بِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُمُوا اللَّه حَدِيثًا ; لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ . وَسُئِلَ اِبْن عَبَّاس عَنْ هَذِهِ الْآيَة , وَعَنْ قَوْله تَعَالَى : " وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " فَقَالَ : لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا أَهْل الْإِسْلَام قَالُوا : " وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ " فَخَتَمَ اللَّه عَلَى أَفْوَاههمْ وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ فَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا . وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : الْآخِرَة مَوَاطِن يَكُون هَذَا فِي بَعْضهَا وَهَذَا فِي بَعْضهَا . وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ وَحُوسِبُوا لَمْ يَكْتُمُوا . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي " الْأَنْعَام " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ↓
خَصَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذَا الْخِطَاب الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ الْخَمْر وَأَتْلَفَتْ عَلَيْهِمْ أَذْهَانهمْ فَخُصُّوا بِهَذَا الْخِطَاب ; إِذْ كَانَ الْكُفَّار لَا يَفْعَلُونَهَا صُحَاة وَلَا سُكَارَى . رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر قَالَ عُمَر : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا ; فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة " يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْر وَالْمَيْسِر " [ الْبَقَرَة : 219 ] قَالَ : فَدُعِيَ عُمَر فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا ; فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاء " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " فَكَانَ مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاة يُنَادِي : أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ . فَدُعِيَ عُمَر فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : 91 ] قَالَ عُمَر : اِنْتَهَيْنَا . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : كَانَ النَّاس عَلَى أَمْر جَاهِلِيَّتهمْ حَتَّى يُؤْمَرُوا أَوْ يُنْهَوْا ; فَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا أَوَّل الْإِسْلَام حَتَّى نَزَلَتْ : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْر وَالْمَيْسِر قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافِع لِلنَّاسِ " [ الْبَقَرَة : 219 ] . قَالُوا : نَشْرَبهَا لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلْإِثْمِ ; فَشَرِبَهَا رَجُل فَتَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمْ فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ ; فَنَزَلَتْ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " . فَقَالُوا : فِي غَيْر عَيْن الصَّلَاة . فَقَالَ عُمَر : اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا ; فَنَزَلَتْ : " إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان " [ الْمَائِدَة : 91 ] الْآيَة . فَقَالَ عُمَر : اِنْتَهَيْنَا , اِنْتَهَيْنَا . ثُمَّ طَافَ مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا إِنَّ الْخَمْر قَدْ حُرِّمَتْ ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى : وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : صَنَعَ لَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْر , فَأَخَذَتْ الْخَمْر مِنَّا , وَحَضَرَتْ الصَّلَاة فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت : " قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ " [ الْكَافِرُونَ : 1 - 2 ] وَنَحْنُ نَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ . قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ " . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَوَجْه الِاتِّصَال وَالنَّظْم بِمَا قَبْله أَنَّهُ قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى : " وَاعْبُدُوا اللَّه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " [ النِّسَاء : 36 ] . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْد الْإِيمَان الصَّلَاة الَّتِي هِيَ رَأْس الْعِبَادَات ; وَلِذَلِكَ يُقْتَلُ تَارِكهَا وَلَا يَسْقُط فَرْضهَا , وَانْجَرَّ الْكَلَام إِلَى ذِكْر شُرُوطهَا الَّتِي لَا تَصِحّ إِلَّا بِهَا .
وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالسُّكْرِ سُكْر الْخَمْر ; إِلَّا الضَّحَّاك فَإِنَّهُ قَالَ : الْمُرَاد سُكْر النَّوْم ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا نَعَسَ أَحَدكُمْ فِي الصَّلَاة فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَب عَنْهُ النَّوْم , فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِر فَيَسُبُّ نَفْسه ) . وَقَالَ عَبِيدَة السَّلْمَانِيّ : " وَأَنْتُمْ سُكَارَى " يَعْنِي إِذَا كُنْت حَاقِنًا ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدكُمْ وَهُوَ حَاقِن ) فِي رِوَايَة ( وَهُوَ ضَامٌّ بَيْنَ فَخِذَيْهِ ) .
قُلْت : وَقَوْل الضَّحَّاك وَعَبِيدَة صَحِيح الْمَعْنَى ; فَإِنَّ الْمَطْلُوب مِنْ الْمُصَلِّي الْإِقْبَال عَلَى اللَّه تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَتَرْك الِالْتِفَات إِلَى غَيْره , وَالْخُلُوّ عَنْ كُلّ مَا يُشَوِّش عَلَيْهِ مِنْ نَوْم وَحُقْنَة وَجُوع , وَكُلّ مَا يَشْغَل الْبَال وَيُغَيِّر الْحَال . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا حَضَرَ الْعَشَاء وَأُقِيمَتْ الصَّلَاة فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ ) . فَرَاعَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَال كُلّ مُشَوِّش يَتَعَلَّق بِهِ الْخَاطِر , حَتَّى يُقْبِل عَلَى عِبَادَة رَبّه بِفَرَاغِ قَلْبه وَخَالِص لُبِّهِ , فَيَخْشَع فِي صَلَاته . وَيَدْخُل فِي هَذِهِ الْآيَة : " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتهمْ خَاشِعُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 1 - 2 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ قَوْله تَعَالَى : يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " مَنْسُوخ بِآيَةِ الْمَائِدَة : " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا " [ الْمَائِدَة : 6 ] الْآيَة . فَأُمِرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْل بِأَلَّا يُصَلُّوا سُكَارَى ; ثُمَّ أُمِرُوا بِأَنْ يُصَلُّوا عَلَى كُلّ حَال ; وَهَذَا قَبْل التَّحْرِيم . وَقَالَ مُجَاهِد : نُسِخَتْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْر . وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَة وَقَتَادَة , وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب لِحَدِيثِ عَلِيّ الْمَذْكُور . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَنَادَى مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَعَلَى قَوْل الضَّحَّاك وَعَبِيدَة الْآيَة مُحْكَمَة لَا نَسْخ فِيهَا .
قَوْله تَعَالَى : " لَا تَقْرَبُوا " إِذَا قِيلَ : لَا تَقْرَبْ بِفَتْحِ الرَّاء كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَلَبَّسْ بِالْفِعْلِ , وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاء كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْهُ . وَالْخِطَاب لِجَمَاعَةِ الْأُمَّة الصَّاحِينَ . وَأَمَّا السَّكْرَان إِذَا عَدِمَ الْمَيْزَ لِسُكْرِهِ فَلَيْسَ بِمُخَاطَبٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لِذَهَابِ عَقْله ; وَإِنَّمَا هُوَ مُخَاطَب بِامْتِثَالِ مَا يَجِب عَلَيْهِ , وَبِتَكْفِيرِ مَا ضَيَّعَ فِي وَقْت سُكْره مِنْ الْأَحْكَام الَّتِي تَقَرَّرَ تَكْلِيفه إِيَّاهَا قَبْل السُّكْر .
قَوْله تَعَالَى : " الصَّلَاة " اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالصَّلَاةِ هُنَا ; فَقَالَتْ طَائِفَة : هِيَ الْعِبَادَة الْمَعْرُوفَة نَفْسهَا ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة ; وَلِذَلِكَ قَالَ " حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ " . وَقَالَتْ طَائِفَة : الْمُرَاد مَوَاضِع الصَّلَاة ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ , فَحُذِفَ الْمُضَاف . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى " لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ " [ الْحَجّ : 40 ] فَسَمَّى مَوَاضِع الصَّلَاة صَلَاة . وَيَدُلّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَاز الْعُبُور لِلْجُنُبِ فِي الْمَسْجِد لَا الصَّلَاة فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " الْمُسَافِر إِذَا لَمْ يَجِد الْمَاء فَإِنَّهُ يَتَيَمَّم وَيُصَلِّي ; وَسَيَأْتِي بَيَانه . وَقَالَتْ طَائِفَة : الْمُرَاد الْمَوْضِع وَالصَّلَاة مَعًا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ لَا يَأْتُونَ الْمَسْجِد إِلَّا لِلصَّلَاةِ وَلَا يُصَلُّونَ إِلَّا مُجْتَمِعِينَ , فَكَانَا مُتَلَازِمَيْنِ .
قَوْله تَعَالَى : " وَأَنْتُمْ سُكَارَى " اِبْتِدَاء وَخَبَر , جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ " تَقْرَبُوا " . و " سُكَارَى " جَمْع سَكْرَان ; مِثْل كَسْلَان وَكُسَالَى . وَقَرَأَ النَّخَعِيّ " سَكْرَى " بِفَتْحِ السِّين عَلَى مِثَال فَعْلَى , وَهُوَ تَكْسِير سَكْرَان ; وَإِنَّمَا كُسِرَ عَلَى سَكْرَى لِأَنَّ السُّكْر آفَة تَلْحَق الْعَقْل فَجَرَى مَجْرَى صَرْعَى وَبَابه . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " سُكْرَى " كَحُبْلَى فَهُوَ صِفَة مُفْرَدَة ; وَجَازَ الْإِخْبَار بِالصِّفَةِ الْمُفْرَدَة عَنْ الْجَمَاعَة عَلَى مَا يَسْتَعْمِلُونَهُ مِنْ الْإِخْبَار عَنْ الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ . وَالسُّكْر : نَقِيض الصَّحْو ; يُقَال : سَكِرَ يَسْكَر سَكْرًا , مِنْ بَاب حَمِدَ يَحْمَد . وَسَكِرَتْ عَيْنُهُ تَسْكُر أَيْ تَحَيَّرَتْ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا " [ الْحِجْر : 15 ] . وَسَكَّرْت الشَّقَّ سَدَدْته . فَالسَّكْرَان قَدْ اِنْقَطَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْل .
وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل بَلْ نَصّ عَلَى أَنَّ الشُّرْب كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّل الْإِسْلَام حَتَّى يَنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى السُّكْر . وَقَالَ قَوْم : السُّكْر مُحَرَّم فِي الْعَقْل وَمَا أُبِيحَ فِي شَيْء مِنْ الْأَدْيَان ; وَحَمَلُوا السُّكْر فِي هَذِهِ الْآيَة عَلَى النَّوْم . وَقَالَ الْقَفَّال : يَحْتَمِل أَنَّهُ كَانَ أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ الشَّرَاب مَا يُحَرِّك الطَّبْع إِلَى السَّخَاء وَالشُّجَاعَة وَالْحَمِيَّة .
قُلْت : وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُود فِي أَشْعَارهمْ ; وَقَدْ قَالَ حَسَّان : وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا وَقَدْ أَشْبَعْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " . قَالَ الْقَفَّال : فَأَمَّا مَا يُزِيل الْعَقْل حَتَّى يَصِير صَاحِبه فِي حَدّ الْجُنُون وَالْإِغْمَاء فَمَا أُبِيحَ قَصْده , بَلْ لَوْ اِتَّفَقَ مِنْ غَيْر قَصْد فَيَكُون مَرْفُوعًا عَنْ صَاحِبه .
قُلْت : هَذَا صَحِيح , وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي قِصَّة حَمْزَة . وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة يَجْتَنِبُونَ الشُّرْب أَوْقَات الصَّلَوَات , فَإِذَا صَلَّوْا الْعِشَاء شَرِبُوهَا ; فَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي " الْمَائِدَة " فِي قَوْله تَعَالَى : " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : 91 ] . .
يْ حَتَّى تَعْلَمُوهُ مُتَيَقِّنِينَ فِيهِ مِنْ غَيْر غَلَط . وَالسَّكْرَان لَا يَعْلَم مَا يَقُول ; وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ السَّكْرَان لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقُهُ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَطَاوُس وَعَطَاء وَالْقَاسِم وَرَبِيعَة , وَهُوَ قَوْل اللَّيْث بْن سَعْد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَالْمُزَنِيّ ; وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ وَقَالَ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ طَلَاق الْمَعْتُوه لَا يَجُوز , وَالسَّكْرَان مَعْتُوه كَالْمُوَسْوَسِ مَعْتُوه بِالْوَسْوَاسِ . وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْبَنْج فَذَهَبَ عَقْله أَنَّ طَلَاقه غَيْر جَائِز ; فَكَذَلِكَ مَنْ سَكِرَ مِنْ الشَّرَاب . وَأَجَازَتْ طَائِفَة طَلَاقه ; وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَمُعَاوِيَة وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ , وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَأَلْزَمهُ مَالِك الطَّلَاق وَالْقَوَد فِي الْجِرَاح وَالْقَتْل , وَلَمْ يُلْزِمْهُ النِّكَاح وَالْبَيْع . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : أَفْعَال السَّكْرَان وَعُقُوده كُلّهَا ثَابِتَة كَأَفْعَالِ الصَّاحِي , إِلَّا الرِّدَّة فَإِنَّهُ إِذَا اِرْتَدَّ فَإِنَّهُ لَا تَبِينُ مِنْهُ اِمْرَأَته إِلَّا اِسْتِحْسَانًا . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : يَكُون مُرْتَدًّا فِي حَال سُكْره ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُهُ فِي حَال سُكْره وَلَا يَسْتَتِيبُهُ . وَقَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازَرِيّ : وَقَدْ رُوِيَتْ عِنْدنَا رِوَايَة شَاذَّة أَنَّهُ لَا يَلْزَم طَلَاق السَّكْرَان . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم : لَا يَلْزَمهُ طَلَاق وَلَا عَتَاق . قَالَ اِبْن شَاسٍ : وَنَزَّلَ الشَّيْخ أَبُو الْوَلِيد الْخِلَاف عَلَى الْمُخَلِّط الَّذِي مَعَهُ بَقِيَّة مِنْ عَقْله إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِك الِاخْتِلَاط مِنْ نَفْسه فَيُخْطِئ وَيُصِيب . قَالَ : فَأَمَّا السَّكْرَان الَّذِي لَا يَعْرِف الْأَرْض مِنْ السَّمَاء وَلَا الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة , فَلَا اِخْتِلَاف فِي أَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ فِي جَمِيع أَفْعَاله وَأَحْوَاله فِيمَا بَيْنه وَبَيْنَ النَّاس , وَفِيمَا بَيْنه وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى أَيْضًا ; إِلَّا فِيمَا ذَهَبَ وَقْته مِنْ الصَّلَوَات , فَقِيلَ : إِنَّهَا لَا تَسْقُط عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَجْنُون ; مِنْ أَجْل أَنَّهُ بِإِدْخَالِهِ السُّكْر عَلَى نَفْسه كَالْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتهَا . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : حَدُّ السُّكْر اِخْتِلَال الْعَقْل ; فَإِذَا اُسْتُقْرِئَ فَخَلَّطَ فِي قِرَاءَته وَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يُعْرَفُ جُلِدَ . وَقَالَ أَحْمَد : إِذَا تَغَيَّرَ عَقْله عَنْ حَال الصِّحَّة فَهُوَ سَكْرَان ; وَحُكِيَ عَنْ مَالِك نَحْوه . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : إِذَا خَلَّطَ فِي قِرَاءَته فَهُوَ سَكْرَان ; اِسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : " حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ " . فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَم مَا يَقُول تَجَنَّبَ الْمَسْجِد مَخَافَة التَّلْوِيث ; وَلَا تَصِحّ صَلَاته وَإِنْ صَلَّى قَضَى . وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَعْلَم مَا يَقُول فَأَتَى بِالصَّلَاةِ فَحُكْمُهُ حُكْم الصَّاحِي .
عَطْف عَلَى مَوْضِع الْجُمْلَة الْمَنْصُوبَة فِي قَوْله : " حَتَّى تَعْلَمُوا " أَيْ لَا تُصَلُّوا وَقَدْ أَجْنَبْتُمْ . وَيُقَال : تَجَنَّبْتُمْ وَأَجْنَبْتُمْ وَجَنَّبْتُمْ بِمَعْنًى . وَلَفْظ الْجُنُب لَا يُؤَنَّث وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَع ; لِأَنَّهُ عَلَى وَزْن الْمَصْدَر كَالْبُعْدِ وَالْقُرْب . وَرُبَّمَا خَفَّفُوهُ فَقَالُوا : جَنْب ; وَقَدْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ قَوْم . وَقَالَ الْفَرَّاء : يُقَال جَنَبَ الرَّجُل وَأَجْنَبَ مِنْ الْجَنَابَة . وَقِيلَ : يُجْمَع الْجُنُب فِي لُغَة عَلَى أَجْنَاب ; مِثْل عُنُق وَأَعْنَاق , وَطُنُب وَأَطْنَاب . وَمَنْ قَالَ لِلْوَاحِدِ جَانِب قَالَ فِي الْجَمْع : جُنَّاب ; كَقَوْلِك : رَاكِب وَرُكَّاب . وَالْأَصْل الْبُعْد ; كَأَنَّ الْجُنُب بَعُدَ بِخُرُوجِ الْمَاء الدَّافِق عَنْ حَال الصَّلَاة ; قَالَ : فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ فَإِنِّي اِمْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ وَرَجُل جُنُب : غَرِيب . وَالْجَنَابَة مُخَالَطَة الرَّجُل الْمَرْأَة .
وَالْجُمْهُور مِنْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْجُنُب هُوَ غَيْر الطَّاهِر مِنْ إِنْزَال أَوْ مُجَاوَزَة خِتَان . وَرُوِيَ عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَلَّا غُسْل إِلَّا مِنْ إِنْزَال ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّمَا الْمَاء مِنْ الْمَاء ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِذَا جَامَعَ الرَّجُل الْمَرْأَة فَلَمْ يُنْزِلْ ؟ قَالَ : ( يَغْسِل مَا مَسَّ الْمَرْأَة مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأ وَيُصَلِّي ) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه : الْغُسْل أَحْوَطُ ; وَذَلِكَ الْآخَر إِنَّمَا بَيَّنَّاهُ لِاخْتِلَافِهِمْ . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه بِمَعْنَاهُ , وَقَالَ فِي آخِره : قَالَ أَبُو الْعَلَاء بْن الشِّخِّيرِ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَخُ حَدِيثُهُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا يَنْسَخ الْقُرْآن بَعْضُهُ بَعْضًا . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : هَذَا مَنْسُوخ . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ : كَانَ هَذَا الْحُكْم فِي أَوَّل الْإِسْلَام ثُمَّ نُسِخَ .
قُلْت : عَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاء الْأَمْصَار , وَأَنَّ الْغُسْل يَجِب بِنَفْسِ اِلْتِقَاء الْخِتَانَيْنِ . وَقَدْ كَانَ فِيهِ خِلَاف بَيْنَ الصَّحَابَة ثُمَّ رَجَعُوا فِيهِ إِلَى رِوَايَة عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبهَا الْأَرْبَع وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ مِنْهُ وَجَبَ الْغُسْل ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبهَا الْأَرْبَع ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْل ) . زَادَ مُسْلِم ( وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ) . وَقَالَ اِبْن الْقَصَّار : وَأَجْمَعَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَعْد خِلَاف مَنْ قَبْلهمْ عَلَى الْأَخْذ بِحَدِيثِ ( إِذَا اِلْتَقَى الْخِتَانَانِ ) وَإِذَا صَحَّ الْإِجْمَاع بَعْد الْخِلَاف كَانَ مُسْقِطًا لِلْخِلَافِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : لَا نَعْلَم أَحَدًا قَالَ بِهِ بَعْد خِلَاف الصَّحَابَة إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَعْمَش ثُمَّ بَعْده دَاوُدُ الْأَصْبَهَانِيّ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَمَلَ النَّاس عَلَى تَرْك الْأَخْذ بِحَدِيثِ ( الْمَاء مِنْ الْمَاء ) لَمَّا اِخْتَلَفُوا . وَتَأَوَّلَهُ اِبْن عَبَّاس عَلَى الِاحْتِلَام ; أَيْ إِنَّمَا يَجِب الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ مِنْ إِنْزَال الْمَاء فِي الِاحْتِلَام . وَمَتَى لَمْ يَكُنْ إِنْزَالٌ وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ يُجَامِع فَلَا غُسْل . وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ كَافَّة الْعُلَمَاء .
يُقَال : عَبَرْت الطَّرِيق أَيْ قَطَعْته مِنْ جَانِب إِلَى جَانِب . وَعَبَرْت النَّهَر عُبُورًا , وَهَذَا عَبَرَ النَّهَر أَيْ شَطَّهُ , وَيُقَال : عُبْر بِالضَّمِّ . وَالْمَعْبَر مَا يُعْبَر عَلَيْهِ مِنْ سَفِينَة أَوْ قَنْطَرَة . وَهَذَا عَابِر السَّبِيل أَيْ مَارّ الطَّرِيق . وَنَاقَة عُبْرُ أَسْفَار : لَا تَزَال يُسَافَر عَلَيْهَا وَيُقْطَع بِهَا الْفَلَاة وَالْهَاجِرَة لِسُرْعَةِ مَشْيهَا . قَالَ الشَّاعِر : عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ شِمِلَّةٌ عُبْر الْهَوَاجِرِ كَالْهِزَفِّ الْخَاضِبِ وَعَبَرَ الْقَوْم مَاتُوا . وَأَنْشَدَ : قَضَاءُ اللَّهِ يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ وَيَلْعَبُ بِالْجَزُوعِ وَبِالصَّبُورِ فَإِنْ نَعْبُرْ فَإِنَّ لَنَا لُمَاتٍ وَإِنْ نَغْبُرْ فَنَحْنُ عَلَى نُذُورِ يَقُول : إِنْ مُتْنَا فَلَنَا أَقْرَان , وَإِنْ بَقِينَا فَلَا بُدّ لَنَا مِنْ الْمَوْت ; حَتَّى كَأَنَّ عَلَيْنَا فِي إِتْيَانه نُذُورًا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَوْله : " إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَابْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَالْحَكَم : عَابِر السَّبِيل الْمُسَافِر . وَلَا يَصِحّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَبَ الصَّلَاة وَهُوَ جُنُب إِلَّا بَعْد الِاغْتِسَال , إِلَّا الْمُسَافِر فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ ; وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَة ; لِأَنَّ الْغَالِب فِي الْمَاء لَا يُعْدَم فِي الْحَضَر ; فَالْحَاضِر يَغْتَسِل لِوُجُودِ الْمَاء , وَالْمُسَافِر يَتَيَمَّم إِذَا لَمْ يَجِدهُ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي فِي الْجُنُب الْمُسَافِر يَمُرّ عَلَى مَسْجِد فِيهِ عَيْن مَاء يَتَيَمَّم الصَّعِيد وَيَدْخُل الْمَسْجِد وَيَسْتَقِي مِنْهَا ثُمَّ يُخْرِج الْمَاء مِنْ الْمَسْجِد . وَرَخَّصَتْ طَائِفَة فِي دُخُول الْجُنُب الْمَسْجِد . وَاحْتَجَّ بَعْضهمْ بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُؤْمِن لَيْسَ بِنَجِسٍ ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَابْن مَسْعُود وَعِكْرِمَة وَالنَّخَعِيّ : عَابِر السَّبِيل الْخَاطِر الْمُجْتَاز ; وَهُوَ قَوْل عَمْرو بْن دِينَار وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يَمُرّ الْجُنُب فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَلَّا يَجِد بُدًّا فَيَتَيَمَّم وَيَمُرّ فِيهِ ; هَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيّ وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ . وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق فِي الْجُنُب : إِذَا تَوَضَّأَ لَا بَأْس أَنْ يَجْلِس فِي الْمَسْجِد حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَرَوَى بَعْضهمْ فِي سَبَب الْآيَة أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَار كَانَتْ أَبْوَاب دُورهمْ شَارِعَةً فِي الْمَسْجِد , فَإِذَا أَصَابَ أَحَدهمْ الْجَنَابَة اُضْطُرَّ إِلَى الْمُرُور فِي الْمَسْجِد .
قُلْت : وَهَذَا صَحِيح ; يُعَضِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَسْرَة بِنْت دَجَاجَة قَالَتْ : سَمِعْت عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا تَقُول : جَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوه بُيُوت أَصْحَابه شَارِعَة فِي الْمَسْجِد ; فَقَالَ : ( وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوت عَنْ الْمَسْجِد ) . ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصْنَع الْقَوْم شَيْئًا رَجَاء أَنْ تَنْزِل لَهُمْ رُخْصَة فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : ( وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوت عَنْ الْمَسْجِد فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِد لِحَائِضٍ وَلَا جُنُب ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : ( لَا تَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِد خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْر ) . فَأَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْأَبْوَاب لِمَا كَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اِتِّخَاذ الْمَسْجِد طَرِيقًا وَالْعُبُور فِيهِ . وَاسْتَثْنَى خَوْخَة أَبِي بَكْر إِكْرَامًا لَهُ وَخُصُوصِيَّةً ; لِأَنَّهُمَا كَانَا لَا يَفْتَرِقَانِ غَالِبًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِد وَلَا يَجْلِس فِيهِ إِلَّا عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَرَوَاهُ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ وَلَا يَصْلُح أَنْ يُجْنِب فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَنَا وَعَلِيّ ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ ; لِأَنَّ بَيْت عَلِيّ كَانَ فِي الْمَسْجِد , كَمَا كَانَ بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد , وَإِنْ كَانَ الْبَيْتَانِ لَمْ يَكُونَا فِي الْمَسْجِد وَلَكِنْ كَانَا مُتَّصِلَيْنِ بِالْمَسْجِدِ وَأَبْوَابهمَا كَانَتْ فِي الْمَسْجِد فَجَعَلَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِد فَقَالَ : ( مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ ) الْحَدِيث . وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَيْت عَلِيّ كَانَ فِي الْمَسْجِد مَا رَوَاهُ اِبْن شِهَاب عَنْ سَالِم بْن عَبْد اللَّه قَالَ : سَأَلَ رَجُل أَبِي عَنْ عَلِيّ وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَيّهمَا كَانَ خَيْرًا ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : هَذَا بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! وَأَشَارَ إِلَى بَيْت عَلِيّ إِلَى جَنْبه , لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِد غَيْرهمَا ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَلَمْ يَكُونَا يُجْنِبَانِ فِي الْمَسْجِد وَإِنَّمَا كَانَا يُجْنِبَانِ فِي بُيُوتهمَا , وَبُيُوتهمَا مِنْ الْمَسْجِد إِذْ كَانَ أَبْوَابهمَا فِيهِ ; فَكَانَا يَسْتَطْرِقَانِهِ فِي حَال الْجَنَابَة إِذَا خَرَجَا مِنْ بُيُوتِهِمَا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَهُمَا ; وَقَدْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصَّ بِأَشْيَاء , فَيَكُون هَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ , ثُمَّ خَصَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَام فَرَخَّصَ لَهُ فِي مَا لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ لِغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَتْ أَبْوَاب بُيُوتهمْ فِي الْمَسْجِد , فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِد أَبْوَاب بُيُوت غَيْر بَيْتَيْهِمَا ; حَتَّى أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّهَا إِلَّا بَاب عَلِيّ . وَرَوَى عَمْرو بْن مَيْمُون عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سُدُّوا الْأَبْوَاب إِلَّا بَاب عَلِيّ ) فَخَصَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنْ تُرِكَ بَابه فِي الْمَسْجِد , وَكَانَ يُجْنِب فِي بَيْته وَبَيْته فِي الْمَسْجِد . وَأَمَّا قَوْله : ( لَا تَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِد خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْر ) فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَتْ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَبْوَابًا تَطْلُع إِلَى الْمَسْجِد خَوْخَات , وَأَبْوَاب الْبُيُوت خَارِجَة مِنْ الْمَسْجِد ; فَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَام بِسَدِّ تِلْكَ الْخَوْخَات وَتَرْك خَوْخَة أَبِي بَكْر إِكْرَامًا لَهُ . وَالْخَوْخَات كَالْكُوَى وَالْمَشَاكِي , وَبَاب عَلِيّ كَانَ بَاب الْبَيْت الَّذِي كَانَ يَدْخُل مِنْهُ وَيَخْرُج . وَقَدْ فَسَّرَ اِبْن عُمَر ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِد غَيْرهمَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَطَاء بْن يَسَار أَنَّهُ قَالَ : كَانَ رِجَال مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَة فَيَتَوَضَّئُونَ وَيَأْتُونَ الْمَسْجِد فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اللُّبْث فِي الْمَسْجِد لِلْجُنُبِ جَائِز إِذَا تَوَضَّأَ ; وَهُوَ مَذْهَب أَحْمَد وَإِسْحَاق كَمَا ذَكَرْنَا . فَالْجَوَاب أَنَّ الْوُضُوء لَا يَرْفَع حَدَثَ الْجَنَابَة , وَكُلّ مَوْضِع وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ وَأُكْرِمَ عَنْ النَّجَاسَة الظَّاهِرَة يَنْبَغِي أَلَّا يَدْخُلَهُ مَنْ لَا يُرْضَى لِتِلْكَ الْعِبَادَة , وَلَا يَصِحّ لَهُ أَنْ يَتَلَبَّس بِهَا . وَالْغَالِب مِنْ أَحْوَالهمْ الْمَنْقُولَة أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَسِلُونَ فِي بُيُوتهمْ . فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُل بِالْمُحْدِثِ . قُلْنَا : ذَلِكَ يَكْثُر وُقُوعه فَيَشُقّ الْوُضُوء مِنْهُ ; وَفِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " مَا يُغْنِي وَيَكْفِي . وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوز لَهُ اللُّبْث فِي الْمَسْجِد فَأَحْرَى أَلَّا يَجُوز لَهُ مَسُّ الْمُصْحَف وَلَا الْقِرَاءَة فِيهِ ; إِذْ هُوَ أَعْظَم حُرْمَة . وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " الْوَاقِعَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَيُمْنَع الْجُنُب عِنْد عُلَمَائِنَا مِنْ قِرَاءَة الْقُرْآن غَالِبًا إِلَّا الْآيَات الْيَسِيرَة لِلتَّعَوُّذِ . وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَقْرَأ الْجُنُب وَالْحَائِض شَيْئًا مِنْ الْقُرْآن ) أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث سُفْيَان عَنْ مِسْعَر , وَشُعْبَة عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْجُبهُ عَنْ قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء إِلَّا أَنْ يَكُون جُنُبًا . قَالَ سُفْيَان : قَالَ لِي شُعْبَة : مَا أُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَحْسَنَ مِنْهُ . وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , حَدَّثَنَا شُعْبَة , عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة ; فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ , وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس , عَنْ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَقْرَأ أَحَدُنَا الْقُرْآن وَهُوَ جُنُب ; أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَرَوَى عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : كَانَ اِبْن رَوَاحَة مُضْطَجِعًا إِلَى جَنْب اِمْرَأَته فَقَامَ إِلَى جَارِيَة لَهُ فِي نَاحِيَة الْحُجْرَة فَوَقَعَ عَلَيْهَا ; وَفَزِعَتْ اِمْرَأَته فَلَمْ تَجِدْهُ فِي مَضْجَعِهِ , فَقَامَتْ فَخَرَجَتْ فَرَأَتْهُ عَلَى جَارِيَتِهِ , فَرَجَعَتْ إِلَى الْبَيْت فَأَخَذَتْ الشَّفْرَة ثُمَّ خَرَجَتْ , وَفَرَغَ فَقَامَ فَلَقِيَهَا تَحْمِلُ الشَّفْرَة فَقَالَ مَهْيَمْ ؟ قَالَتْ : مَهْيَمْ ! لَوْ أَدْرَكْتُك حَيْثُ رَأَيْتُك لَوَجَأْت بَيْنَ كَتِفَيْك بِهَذِهِ الشَّفْرَة . قَالَ : وَأَيْنَ رَأَيْتنِي ؟ قَالَتْ : رَأَيْتُك عَلَى الْجَارِيَة ; فَقَالَ : مَا رَأَيْتنِي ; وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُنَا الْقُرْآنَ وَهُوَ جُنُب . قَالَتْ : فَاقْرَأْ , وَكَانَتْ لَا تَقْرَأ الْقُرْآن , فَقَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ كَمَا لَاحَ مَشْهُورٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبُهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اِسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ فَقَالَتْ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَكَذَّبْت الْبَصَر . ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ; فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
نَهَى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الصَّلَاة إِلَّا بَعْد الِاغْتِسَال ; وَالِاغْتِسَال مَعْنًى مَعْقُول , وَلَفْظه عِنْد الْعَرَب مَعْلُوم , يُعَبَّر بِهِ عَنْ إِمْرَار الْيَد مَعَ الْمَاء عَلَى الْمَغْسُول ; وَلِذَلِكَ فَرَّقَتْ الْعَرَب بَيْنَ قَوْلهمْ : غَسَلْت الثَّوْب , وَبَيْنَ قَوْلهمْ : أَفَضْت عَلَيْهِ الْمَاء وَغَمَسْته فِي الْمَاء . إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاء اِخْتَلَفُوا فِي الْجُنُب يَصُبُّ عَلَى جَسَده الْمَاء أَوْ يَنْغَمِس فِيهِ وَلَا يَتَدَلَّك ; فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَتَدَلَّك ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ الْجُنُب بِالِاغْتِسَالِ , كَمَا أَمَرَ الْمُتَوَضِّئ بِغَسْلِ وَجْهه وَيَدَيْهِ ; وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَضِّئِ بُدّ مِنْ إِمْرَار يَدَيْهِ مَعَ الْمَاء عَلَى وَجْهه وَيَدَيْهِ , فَكَذَلِكَ جَمِيع جَسَد الْجُنُب وَرَأْسهُ فِي حُكْم وَجْه الْمُتَوَضِّئ وَيَدَيْهِ . وَهَذَا قَوْل الْمُزَنِيّ وَاخْتِيَاره . قَالَ أَبُو الْفَرَج عَمْرو بْن مُحَمَّد الْمَالِكِيّ : وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُول مِنْ لَفْظ الْغُسْل ; لِأَنَّ الِاغْتِسَال فِي اللُّغَة هُوَ الِافْتِعَال , وَمَنْ لَمْ يَمُرَّ فَلَمْ يَفْعَل غَيْر صَبِّ الْمَاء لَا يُسَمِّيهِ أَهْل اللِّسَان غَاسِلًا , بَلْ يُسَمُّونَهُ صَابًّا لِلْمَاءِ وَمُنْغَمِسًا فِيهِ . قَالَ : وَعَلَى نَحْو هَذَا جَاءَتْ الْآثَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( تَحْت كُلّ شَعْرَة جَنَابَة فَاغْسِلُوا الشَّعْر وَأَنْقُوا الْبَشَرَة ) قَالَ : وَإِنْقَاؤُهُ - وَاَللَّه أَعْلَم - لَا يَكُون إِلَّا بِتَتَبُّعِهِ ; عَلَى حَدّ مَا ذَكَرْنَا .
قُلْت : لَا حُجَّة فِيمَا اِسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ الْحَدِيث لِوَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ قَدْ خُولِفَ فِي تَأْوِيله ; قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ( وَأَنْقُوا الْبَشَرَة ) أَرَادَ غَسْل الْفَرْج وَتَنْظِيفه , وَأَنَّهُ كَنَّى بِالْبَشَرَةِ عَنْ الْفَرْج . قَالَ اِبْن وَهْب : مَا رَأَيْت أَحَدًا أَعْلَم بِتَفْسِيرِ الْأَحَادِيث مِنْ اِبْن عُيَيْنَة . الثَّانِي : أَنَّ الْحَدِيث أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ فِيهِ : وَهَذَا الْحَدِيث ضَعِيف ; كَذَا فِي رِوَايَة اِبْن دَاسَةَ . وَفِي رِوَايَة اللُّؤْلُؤِيّ عَنْهُ : الْحَارِث بْن وَجِيه ضَعِيف , حَدِيثه مُنْكَر ; فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ , وَبَقِيَ الْمُعَوَّل عَلَى اللِّسَان كَمَا بَيَّنَّا . وَيُعَضِّدهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَيْهِ , فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ وَلَمْ يَغْسِلهُ ; رَوَتْهُ عَائِشَة , وَنَحْوه عَنْ أُمّ قَيْس بِنْت مِحْصَن ; أَخْرَجَهُمَا مُسْلِم . وَقَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء : يُجْزِئ الْجُنُبَ صَبُّ الْمَاء وَالِانْغِمَاس فِيهِ إِذَا أَسْبَغَ وَعَمَّ وَإِنْ لَمْ يَتَدَلَّك ; عَلَى مُقْتَضَى حَدِيث مَيْمُونَة وَعَائِشَة فِي غُسْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رَوَاهُمَا الْأَئِمَّة , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفِيض الْمَاء عَلَى جَسَده ; وَبِهِ قَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم , وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْفَرَج وَرَوَاهُ عَنْ مَالِك ; قَالَ : وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِمْرَارِ الْيَدَيْنِ فِي الْغُسْل لِأَنَّهُ لَا يَكَاد مَنْ لَمْ يُمِرَّ يَدَيْهِ عَلَيْهِ يَسْلَم مِنْ تَنَكُّب الْمَاء عَنْ بَعْض مَا يَجِب عَلَيْهِ مِنْ جَسَده . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَعْجَب لِأَبِي الْفَرَج الَّذِي رَوَى وَحَكَى عَنْ صَاحِب الْمَذْهَب أَنَّ الْغُسْل دُون ذَلِكَ يُجْزِئ ! وَمَا قَالَهُ قَطُّ مَالِك نَصًّا وَلَا تَخْرِيجًا , وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْهَامه .
قُلْت : قَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِك نَصًّا ; قَالَ مَرْوَان بْن مُحَمَّد الظَّاهِرِيّ وَهُوَ ثقَة مِنْ ثِقَات الشَّامِيِّينَ : سَأَلْت مَالِك بْن أَنَس عَنْ رَجُل اِنْغَمَسَ فِي مَاء وَهُوَ جُنُب وَلَمْ يَتَوَضَّأ , قَالَ : مَضَتْ صَلَاته . قَالَ أَبُو عُمَر : فَهَذِهِ الرِّوَايَة فِيهَا لَمْ يَتَدَلَّك وَلَا تَوَضَّأَ , وَقَدْ أَجْزَأَهُ عِنْد مَالِك . وَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبه أَنَّهُ لَا يُجْزِئهُ حَتَّى يَتَدَلَّك ; قِيَاسًا عَلَى غَسْل الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ . وَحُجَّة الْجَمَاعَة أَنَّ كُلّ مَنْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاء فَقَدْ اِغْتَسَلَ . وَالْعَرَب تَقُول : غَسَلَتْنِي السَّمَاء . وَقَدْ حَكَتْ عَائِشَة وَمَيْمُونَة صِفَة غُسْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرَا تَدَلُّكًا , وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا تَرَكَهُ ; لِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّه مُرَادَهُ , وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ عَنْهُ ; كَمَا نُقِلَ تَخْلِيل أُصُول شَعْره بِالْمَاءِ وَغَرْفه عَلَى رَأْسه , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ صِفَة غُسْله وَوُضُوئِهِ عَلَيْهِ السَّلَام . قَالَ أَبُو عُمَر : وَغَيْر نَكِير أَنْ يَكُون الْغُسْل فِي لِسَان الْعَرَب مَرَّة بِالْعَرْكِ وَمَرَّة بِالصَّبِّ وَالْإِفَاضَة ; وَإِذَا كَانَ هَذَا فَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُون اللَّه جَلَّ وَعَزَّ تَعَبَّدَ عِبَاده فِي الْوُضُوء بِإِمْرَارِ أَيْدِيهمْ عَلَى وُجُوههمْ مَعَ الْمَاء وَيَكُون ذَلِكَ غُسْلًا , وَأَنْ يُفِيضُوا الْمَاء عَلَى أَنْفُسهمْ فِي غُسْل الْجَنَابَة وَالْحَيْض , وَيَكُون ذَلِكَ غُسْلًا مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ غَيْر خَارِج مِنْ اللُّغَة , وَيَكُون كُلّ وَاحِد مِنْ الْأَمْرَيْنِ أَصْلًا فِي نَفْسه , لَا يَجِب أَنْ يُرَدَّ أَحَدهمَا إِلَى صَاحِبه ; لِأَنَّ الْأُصُول لَا يُرَدُّ بَعْضهَا إِلَى بَعْض قِيَاسًا - وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاء الْأُمَّة . وَإِنَّمَا تُرَدّ الْفُرُوع قِيَاسًا عَلَى الْأُصُول . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
حَدِيث مَيْمُونَة وَعَائِشَة يَرُدّ مَا رَوَاهُ شُعْبَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ إِذَا اِغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَة غَسَلَ يَدَيْهِ سَبْعًا وَفَرْجَهُ سَبْعًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كَانَتْ الصَّلَاة خَمْسِينَ , وَالْغُسْل مِنْ الْجَنَابَة سَبْع مِرَار , وَغَسْل الْبَوْل مِنْ الثَّوْب سَبْع مِرَار ; فَلَمْ يَزَلْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَل حَتَّى جُعِلَتْ الصَّلَاة خَمْسًا , وَالْغُسْل مِنْ الْجَنَابَة مَرَّة , وَالْغَسْل مِنْ الْبَوْل مَرَّة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَإِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث عَنْ اِبْن عُمَر فِيهِ ضَعْف وَلِينٌ , وَإِنْ كَانَ أَبُو دَاوُدَ قَدْ خَرَّجَهُ وَاَلَّذِي قَبْله عَنْ شُعْبَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس , وَشُعْبَة هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَيَرُدّهُمَا حَدِيث عَائِشَة وَمَيْمُونَة .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِمْرَار يَده عَلَى جَسَده فَقَدْ قَالَ سَحْنُون : يَجْعَل مَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْهُ , أَوْ يُعَالِجُهُ بِخِرْقَةٍ . وَفِي الْوَاضِحَة : يُمِرّ يَدَيْهِ عَلَى مَا يُدْرِكهُ مِنْ جَسَده , ثُمَّ يُفِيض الْمَاء حَتَّى يَعُمّ مَا لَمْ تَبْلُغهُ يَدَاهُ .
وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي تَخْلِيل الْجُنُب لِحْيَتَهُ ; فَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَرَوَى أَشْهَب عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ . قَالَ اِبْن عَبْد الْحَكَم : ذَلِكَ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّل شَعْره فِي غُسْل الْجَنَابَة , وَذَلِكَ عَامّ وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَر فِيهِ شَعْر رَأْسه ; وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْعُلَمَاء . وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ اِسْتِيعَاب جَمِيع الْجَسَد فِي الْغُسْل وَاجِب , وَالْبَشَرَة الَّتِي تَحْت اللِّحْيَة مِنْ جُمْلَته ; فَوَجَبَ إِيصَال الْمَاء إِلَيْهَا وَمُبَاشَرَتهَا بِالْيَدِ . وَإِنَّمَا اِنْتَقَلَ الْفَرْض إِلَى الشَّعْر فِي الطَّهَارَة الصُّغْرَى لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة عَلَى التَّخْفِيف , وَنِيَابَة الْأَبْدَال فِيهَا مِنْ غَيْر ضَرُورَة ; وَلِذَلِكَ جَازَ فِيهَا الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ وَلَمْ يَجُزْ فِي الْغُسْل .
قُلْت : وَيُعَضِّد هَذَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَحْت كُلّ شَعْرَة جَنَابَة ) .
وَقَدْ بَالَغَ قَوْم فَأَوْجَبُوا الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى تَغْتَسِلُوا " مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة ; وَلِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَة الْوَجْه وَحُكْمهمَا حُكْم ظَاهِر الْوَجْه كَالْخَدِّ وَالْجَبِين , فَمَنْ تَرَكَهُمَا وَصَلَّى أَعَادَ كَمَنْ تَرَكَ لُمْعَة , وَمَنْ تَرَكَهُمَا فِي وُضُوئِهِ فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ . وَقَالَ مَالِك : لَيْسَتَا بِفَرْضٍ لَا فِي الْجَنَابَة وَلَا فِي الْوُضُوء ; لِأَنَّهُمَا بَاطِنَانِ فَلَا يَجِب كَدَاخِلِ الْجَسَد . وَبِذَلِكَ قَالَ مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ وَاللَّيْث بْن سَعْد وَالْأَوْزَاعِيّ وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ . وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان : هُمَا فَرْض فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل جَمِيعًا ; وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَبَعْض أَصْحَاب دَاوُدَ . وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ وَعَطَاء مِثْل هَذَا الْقَوْل . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَد أَيْضًا أَنَّ الْمَضْمَضَة سُنَّة وَالِاسْتِنْشَاق فَرْض ; وَقَالَ بِهِ بَعْض أَصْحَاب دَاوُدَ . وَحُجَّة مَنْ لَمْ يُوجِبْهُمَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي كِتَابه , وَلَا أَوْجَبَهُمَا رَسُوله وَلَا اِتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَيْهِ ; وَالْفَرَائِض لَا تَثْبُت إِلَّا بِهَذِهِ الْوُجُوه . اِحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُمَا بِالْآيَةِ , وَقَوْله تَعَالَى : " فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ " فَمَا وَجَبَ فِي الْوَاحِد مِنْ الْغُسْل وَجَبَ فِي الْآخَر , وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْفَظ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي وُضُوئِهِ وَلَا فِي غُسْله مِنْ الْجَنَابَة ; وَهُوَ الْمُبَيِّن عَنْ اللَّه مُرَادَهُ قَوْلًا وَعَمَلًا . اِحْتَجَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْمَضْمَضَة وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا , وَأَفْعَالُهُ مَنْدُوب إِلَيْهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ , وَفَعَلَ الِاسْتِنْشَاقَ وَأَمَرَ بِهِ ; وَأَمْره عَلَى الْوُجُوب أَبَدًا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَلَا بُدّ فِي غُسْل الْجَنَابَة مِنْ النِّيَّة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى تَغْتَسِلُوا " وَذَلِكَ يَقْتَضِي النِّيَّة ; وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر , وَكَذَلِكَ الْوُضُوء وَالتَّيَمُّم . وَعَضَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين " [ الْبَيِّنَة : 5 ] وَالْإِخْلَاص النِّيَّة فِي التَّقَرُّب إِلَى اللَّه تَعَالَى , وَالْقَصْد لَهُ بِأَدَاءِ مَا اِفْتَرَضَ عَلَى عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ) وَهَذَا عَمَل . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن : يُجْزِئ الْوُضُوء وَالتَّيَمُّم بِغَيْرِ نِيَّة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : كُلّ طَهَارَة بِالْمَاءِ فَإِنَّهَا تُجْزِئ بِغَيْرِ نِيَّة , وَلَا يُجْزِئ التَّيَمُّم إِلَّا بِنِيَّةٍ ; قِيَاسًا عَلَى إِزَالَة النَّجَاسَة بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَاب بِغَيْرِ نِيَّة . وَرَوَاهُ الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ مَالِك .
وَأَمَّا قَدْر الْمَاء الَّذِي يُغْتَسَل بِهِ ; فَرَوَى مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر عَنْ عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِل مِنْ إِنَاء هُوَ الْفَرَق مِنْ الْجَنَابَة . " الْفَرَق " تُحَرَّك رَاؤُهُ وَتُسَكَّن . قَالَ اِبْن وَهْب : " الْفَرَق " مِكْيَال مِنْ الْخَشَب , كَانَ اِبْن شِهَاب يَقُول : إِنَّهُ يَسَع خَمْسَة أَقْسَاط بِأَقْسَاطِ بَنِي أُمَيَّة . وَقَدْ فَسَّرَ مُحَمَّد بْن عِيسَى الْأَعْشَى " الْفَرَق " فَقَالَ : ثَلَاثَة آصُع , قَالَ : وَهِيَ خَمْسَة أَقْسَاط , قَالَ : وَفِي الْخَمْسَة أَقْسَاط اِثْنَا عَشَرَ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم قَالَ سُفْيَان : " الْفَرَق " ثَلَاثَة آصُع . وَعَنْ أَنَس قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد . وَفِي رِوَايَة : يَغْتَسِل بِخَمْسَةِ مَكَاكِيك وَيَتَوَضَّأ بِمَكُّوكٍ . وَهَذِهِ الْأَحَادِيث تَدُلّ عَلَى اِسْتِحْبَاب تَقْلِيل الْمَاء مِنْ غَيْر كَيْل وَلَا وَزْن , يَأْخُذ مِنْهُ الْإِنْسَان بِقَدْرِ مَا يَكْفِي وَلَا يُكْثِر مِنْهُ , فَإِنَّ الْإِكْثَار مِنْهُ سَرَف وَالسَّرَف مَذْمُوم . وَمَذْهَب الْإِبَاضِيَّة الْإِكْثَار مِنْ الْمَاء , وَذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَان .
هَذِهِ آيَة التَّيَمُّم , نَزَلَتْ فِي عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف أَصَابَتْهُ جَنَابَة وَهُوَ جَرِيح ; فَرُخِّصَ لَهُ فِي أَنْ يَتَيَمَّم , ثُمَّ صَارَتْ الْآيَة عَامَّة فِي جَمِيع النَّاس . وَقِيلَ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدَمِ الصَّحَابَة الْمَاءَ فِي غَزْوَة " الْمُرَيْسِيع " حِينَ اِنْقَطَعَ الْعِقْد لِعَائِشَة . أَخْرَجَ الْحَدِيث مَالِك مِنْ رِوَايَة عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة . وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيّ هَذِهِ الْآيَة فِي كِتَاب التَّفْسِير : حَدَّثَنَا مُحَمَّد قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدَة , عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : هَلَكَتْ قِلَادَة لِأَسْمَاءَ فَبَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبهَا رِجَالًا , فَحَضَرَتْ الصَّلَاة وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوء وَلَمْ يَجِدُوا مَاء فَصَلُّوا وَهُمْ عَلَى غَيْر وُضُوء ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى آيَة التَّيَمُّم .
قُلْت : وَهَذِهِ الرِّوَايَة لَيْسَ فِيهَا ذِكْر لِلْمَوْضِعِ , وَفِيهَا أَنَّ الْقِلَادَة كَانَتْ لِأَسْمَاءَ ; خِلَاف حَدِيث مَالِك . وَذَكَرَ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَة عَلِيّ بْن مُسْهِر عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاء قِلَادَة لَهَا وَهِيَ فِي سَفَر مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْسَلَّتْ مِنْهَا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَكَان يُقَال لَهُ الصُّلْصُل ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ هِشَام أَنَّ الْقِلَادَة كَانَتْ لِأَسْمَاءَ , وَأَنَّ عَائِشَة اِسْتَعَارَتْهَا مِنْ أَسْمَاء . وَهَذَا بَيَان لِحَدِيثِ مَالِك إِذَا قَالَ : اِنْقَطَعَ عِقْد لِعَائِشَةَ , وَلِحَدِيثِ الْبُخَارِيّ إِذْ قَالَ : هَلَكَتْ قِلَادَة لِأَسْمَاءَ . وَفِيهِ أَنَّ الْمَكَان يُقَال لَهُ الصُّلْصُل . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيّ , حَدَّثَنَا سُفْيَان , حَدَّثَنَا هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا سَقَطَتْ قِلَادَتهَا لَيْلَة الْأَبْوَاء , فَأَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ فِي طَلَبهَا , وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ هِشَام أَيْضًا إِضَافَة الْقِلَادَة إِلَيْهَا , لَكِنَّ إِضَافَة مُسْتَعِير بِدَلِيلِ حَدِيث النَّسَائِيّ . وَقَالَ فِي الْمَكَان : " الْأَبْوَاء " كَمَا قَالَ مَالِك , إِلَّا أَنَّهُ مِنْ غَيْر شَكّ . وَفِي حَدِيث مَالِك قَالَ : وَبَعَثْنَا الْبَعِير الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْد تَحْته . وَجَاءَ فِي الْبُخَارِيّ : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهُ . وَهَذَا كُلّه صَحِيح الْمَعْنَى , وَلَيْسَ اِخْتِلَاف النَّقَلَة فِي الْعِقْد وَالْقِلَادَة وَلَا فِي الْمَوْضِع مَا يَقْدَح فِي الْحَدِيث وَلَا يُوهِن شَيْئًا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُرَاد مِنْ الْحَدِيث وَالْمَقْصُود بِهِ إِلَيْهِ هُوَ نُزُول التَّيَمُّم , وَقَدْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَات فِي أَمْر الْقِلَادَة . وَأَمَّا قَوْله فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ : فَأَرْسَلَ رَجُلَيْنِ قِيلَ : أَحَدهمَا أُسَيْد بْن حُضَيْر . وَلَعَلَّهُمَا الْمُرَاد بِالرِّجَالِ فِي حَدِيث الْبُخَارِيّ فَعَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْع , إِذْ أَقَلّ الْجَمْع اِثْنَانِ , أَوْ أَرْدَفَ فِي أَثَرهمَا غَيْرهمَا فَصَحَّ إِطْلَاق اللَّفْظ وَاَللَّه أَعْلَم . فَبَعَثُوا فِي طَلَبهَا فَطَلَبُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فِي وِجْهَتِهِمْ , فَلَمَّا رَجَعُوا أَثَارُوا الْبَعِير فَوَجَدُوهُ تَحْته . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَة فَفَشَتْ فِيهِمْ ثُمَّ اُبْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ فَشَكَوْا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِخِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَا ; فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا أَصَابَتْهُمْ الْجِرَاحَة فِي غَزْوَتهمْ تِلْكَ الَّتِي قَفَلُوا مِنْهَا إِذْ كَانَ فِيهَا قِتَال فَشَكَوْا , وَضَاعَ الْعِقْد وَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ ضَيَاع الْعِقْد كَانَ فِي غَزَاة بَنِي الْمُصْطَلِق . وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِخِلَافٍ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي غَزَاة الْمُرَيْسِيع , إِذْ هِيَ غَزَاة وَاحِدَة ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا بَنِي الْمُصْطَلِق فِي شَعْبَان مِنْ السَّنَة السَّادِسَة مِنْ الْهِجْرَة , عَلَى مَا قَالَ خَلِيفَة بْن خَيَّاط وَأَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ , وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَة أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ . وَقِيلَ : بَلْ نُمَيْلَةَ بْن عَبْد اللَّه اللَّيْثِيّ . وَأَغَارَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِق وَهُمْ غَارُّونَ , وَهُمْ عَلَى مَاءٍ يُقَال لَهُ الْمُرَيْسِيع مِنْ نَاحِيَة قُدَيْد مِمَّا يَلِي السَّاحِل فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ وَسَبَى مَنْ سَبَى مِنْ النِّسَاء وَالذُّرِّيَّة وَكَانَ شِعَارهمْ يَوْمَئِذٍ : أَمِتْ أَمِتْ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِق جَمَعُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادُوهُ , فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَلَقِيَهُمْ عَلَى مَاء . فَهَذَا مَا جَاءَ فِي بَدْء التَّيَمُّم وَالسَّبَب فِيهِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ آيَة الْمَائِدَة آيَة التَّيَمُّم , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ . قَالَ أَبُو عُمَر : فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى آيَة التَّيَمُّم , وَهِيَ آيَة الْوُضُوء الْمَذْكُورَة فِي سُورَة " الْمَائِدَة " , أَوْ الْآيَة الَّتِي فِي سُورَة " النِّسَاء " . لَيْسَ التَّيَمُّم مَذْكُورًا فِي غَيْر هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ .
قَوْله تَعَالَى : " مَرْضَى " الْمَرَض عِبَارَة عَنْ خُرُوج الْبَدَن عَنْ حَدّ الِاعْتِدَال وَالِاعْتِيَاد , إِلَى الِاعْوِجَاج وَالشُّذُوذ . وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : كَثِير وَيَسِير ; فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَخَاف الْمَوْتَ لِبَرْدِ الْمَاءِ , أَوْ لِلْعِلَّةِ الَّتِي بِهِ , أَوْ يَخَاف فَوْت بَعْض الْأَعْضَاء , فَهَذَا يَتَيَمَّم بِإِجْمَاعٍ ; إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَعَطَاء أَنَّهُ يَتَطَهَّر وَإِنْ مَاتَ . وَهَذَا مَرْدُود بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج " [ الْحَجّ : 78 ] وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ " [ النِّسَاء : 29 ] . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر " قَالَ : إِذَا كَانَتْ بِالرَّجُلِ الْجِرَاحَة فِي سَبِيل اللَّه أَوْ الْقُرُوح أَوْ الْجُدَرِيّ فَيُجْنِب فَخَافَ أَنْ يَمُوت إِنْ اِغْتَسَلَ , تَيَمَّمَ . وَعَنْ سَعْد بْن جُبَيْر أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : رُخِّصَ لِلْمَرِيضِ فِي التَّيَمُّم بِالصَّعِيدِ . وَتَيَمَّمَ عَمْرو بْن الْعَاص لَمَّا خَافَ أَنْ يَهْلِك مِنْ شِدَّة الْبَرْد وَلَمْ يَأْمُرهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُسْلٍ وَلَا إِعَادَة . فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا إِلَّا أَنَّهُ يَخَاف مَعَهُ حُدُوث عِلَّة أَوْ زِيَادَتهَا أَوْ بُطْء بُرْء فَهَؤُلَاءِ يَتَيَمَّمُونَ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمَذْهَب . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فِيمَا حَفِظْت .
قُلْت : قَدْ ذَكَرَ الْبَاجِيّ فِيهِ خِلَافًا ; قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن : مِثْل أَنْ يَخَاف الصَّحِيح نَزْلَة أَوْ حُمَّى , وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمَرِيض يَخَاف زِيَادَة مَرَض ; وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز لَهُ التَّيَمُّم مَعَ وُجُود الْمَاء إِلَّا أَنْ يَخَاف التَّلَف ; وَرَوَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن عَنْ مَالِك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " قَالَ الشَّافِعِيّ لَا يُبَاح التَّيَمُّم لِلْمَرِيضِ إِلَّا إِذَا خَافَ التَّلَف ; لِأَنَّ زِيَادَة الْمَرَض غَيْر مُتَحَقِّقَة ; لِأَنَّهَا قَدْ تَكُون وَقَدْ لَا تَكُون , وَلَا يَجُوز تَرْك الْفَرْض الْمُتَيَقَّن لِلْخَوْفِ الْمَشْكُوك . قُلْنَا : قَدْ نَاقَضْت ; فَإِنَّك قُلْت إِذَا خَافَ التَّلَف مِنْ الْبَرْد تَيَمَّمَ ; فَكَمَا يُبِيح التَّيَمُّمَ خَوْفُ التَّلَف كَذَلِكَ , يُبِيحُهُ خَوْف الْمَرَض ; لِأَنَّ الْمَرَض مَحْذُور كَمَا أَنَّ التَّلَف مَحْذُور . قَالَ : وَعَجَبًا لِلشَّافِعِيِّ يَقُول : لَوْ زَادَ الْمَاء عَلَى قَدْر قِيمَته حَبَّة لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ صِيَانَةً لِلْمَالِ وَيَلْزَمهُ التَّيَمُّم , وَهُوَ يَخَاف عَلَى بَدَنه الْمَرَض ! وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ كَلَام يُسَاوِي سَمَاعه " .
قُلْت : الصَّحِيح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ فِيمَا قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر عَبْد الرَّحِيم فِي تَفْسِيره : وَالْمَرَض الَّذِي يُبَاح لَهُ التَّيَمُّم هُوَ الَّذِي يَخَاف فِيهِ فَوْت الرُّوح أَوْ فَوَات بَعْض الْأَعْضَاء لَوْ اِسْتَعْمَلَ الْمَاء . فَإِنْ خَافَ طُول الْمَرَض فَالْقَوْل الصَّحِيح لِلشَّافِعِيِّ : جَوَاز التَّيَمُّم . رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ , عَنْ يَحْيَى بْن أَيُّوب , عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب , عَنْ عِمْرَان بْن أَبِي أَنَس , عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن جُبَيْر , عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : اِحْتَلَمْت فِي لَيْلَة بَارِدَة فِي غَزْوَة ذَات السَّلَاسِل فَأَشْفَقْت إِنْ اِغْتَسَلْت أَنْ أَهْلِكَ ; فَتَيَمَّمْت ثُمَّ صَلَّيْت بِأَصْحَابِي الصُّبْح ; فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا عَمْرو : ( صَلَّيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُب ) ؟ فَأَخْبَرْته بِاَلَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَال وَقُلْت : إِنِّي سَمِعْت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّه كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " [ النِّسَاء : 29 ] فَضَحِكَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى إِبَاحَة التَّيَمُّم مَعَ الْخَوْف لَا مَعَ الْيَقِين , وَفِيهِ إِطْلَاق اِسْم الْجُنُب عَلَى الْمُتَيَمِّم وَجَوَاز صَلَاة الْمُتَيَمِّم بِالْمُتَوَضِّئِينَ ; وَهَذَا أَحَد الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا ; وَهُوَ الصَّحِيح وَهُوَ الَّذِي أَقْرَأهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَقُرِئَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ . وَالْقَوْل الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُصَلِّي ; لِأَنَّهُ أَنْقَصُ فَضِيلَة مِنْ الْمُتَوَضِّئ , وَحُكْم الْإِمَام أَنْ يَكُون أَعْلَى رُتْبَة ; وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَؤُمّ الْمُتَيَمِّم الْمُتَوَضِّئِينَ ) إِسْنَاده ضَعِيف . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَر فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسه ثُمَّ اِحْتَلَمَ , فَسَأَلَ أَصْحَابه هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَة فِي التَّيَمُّم ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِد لَك رُخْصَة وَأَنْتَ تَقْدِر عَلَى الْمَاء ; فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ , فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ : ( قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّه أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاء الْعِيّ السُّؤَال إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّم وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ - شَكَّ مُوسَى - عَلَى جُرْحه خِرْقَة ثُمَّ يَمْسَح عَلَيْهَا وَيَغْسِل سَائِر جَسَده ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : " قَالَ أَبُو بَكْر هَذِهِ سُنَّة تَفَرَّدَ بِهَا أَهْل مَكَّة وَحَمَلَهَا أَهْل الْجَزِيرَة , وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَطَاء عَنْ جَابِر غَيْر الزُّبَيْر بْن خَرِيق , وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَخَالَفَهُ الْأَوْزَاعِيّ فَرَوَاهُ عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس وَهُوَ الصَّوَاب . وَاخْتُلِفَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ عَطَاء , وَقِيلَ عَنْهُ : بَلَغَنِي عَنْ عَطَاء , وَأَرْسَلَ الْأَوْزَاعِيّ آخِرَهُ عَنْ عَطَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّوَاب . وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : سَأَلْت أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْهُ فَقَالَا : رَوَاهُ اِبْن أَبِي الْعِشْرِينَ , عَنْ الْأَوْزَاعِيّ , عَنْ إِسْمَاعِيل بْن مُسْلِم , عَنْ عَطَاء , عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَأَسْنَدَ الْحَدِيث " . وَقَالَ دَاوُدُ : كُلّ مَنْ اِنْطَلَقَ عَلَيْهِ اِسْم الْمَرِيض فَجَائِز لَهُ التَّيَمُّم ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى " . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل خَلَف , وَإِنَّمَا هُوَ عِنْد عُلَمَاء الْأُمَّة لِمَنْ خَافَ مِنْ اِسْتِعْمَال الْمَاء أَوْ تَأَذِّيه بِهِ كَالْمَجْدُورِ وَالْمَحْصُوب , وَالْعِلَل الْمَخُوف عَلَيْهَا مِنْ الْمَاء ; كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس .
يَجُوز التَّيَمُّم بِسَبَبِ السَّفَر طَالَ أَوْ قَصُرَ عِنْد عَدَم الْمَاء , وَلَا يُشْتَرَط أَنْ يَكُون مِمَّا تُقْصَر فِيهِ الصَّلَاة ; هَذَا مَذْهَب مَالِك وَجُمْهُور الْعُلَمَاء . وَقَالَ قَوْم : لَا يَتَيَمَّم إِلَّا فِي سَفَر تُقْصَر فِيهِ الصَّلَاة . وَاشْتَرَطَ آخَرُونَ أَنْ يَكُون سَفَرَ طَاعَة . وَهَذَا كُلّه ضَعِيف . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم فِي السَّفَر حَسْبَمَا ذَكَرْنَا , وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْحَضَر ; فَذَهَبَ مَالِك وَأَصْحَابه إِلَى أَنَّ التَّيَمُّم فِي الْحَضَر وَالسَّفَر جَائِز ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَمُحَمَّد . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز لِلْحَاضِرِ الصَّحِيح أَنْ يَتَيَمَّم إِلَّا أَنْ يَخَاف التَّلَف ; وَهُوَ قَوْل الطَّبَرِيّ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ أَيْضًا وَاللَّيْث وَالطَّبَرِيّ : إِذَا عَدِمَ الْمَاء فِي الْحَضَر مَعَ خَوْف الْوَقْت الصَّحِيح وَالسَّقِيم تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ أَعَادَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَزُفَر : لَا يَجُوز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر لَا لِمَرَضٍ وَلَا لِخَوْفِ الْوَقْت وَقَالَ الْحَسَن وَعَطَاء : لَا يَتَيَمَّم الْمَرِيض إِذَا وَجَدَ الْمَاء , وَلَا غَيْر الْمَرِيض . وَسَبَب الْخِلَاف اِخْتِلَافهمْ فِي مَفْهُوم الْآيَة ; فَقَالَ مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ : ذِكْر اللَّه تَعَالَى الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ فِي شَرْط التَّيَمُّم خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَب فِيمَنْ لَا يَجِد الْمَاء , وَالْحَاضِرُونَ الْأَغْلَب عَلَيْهِمْ وُجُودُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِمْ . فَكُلّ مَنْ لَمْ يَجِد الْمَاء أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ مَانِعٌ أَوْ خَافَ فَوَاتَ وَقْت الصَّلَاة , تَيَمَّمَ الْمُسَافِر بِالنَّصِّ , وَالْحَاضِر بِالْمَعْنَى . وَكَذَلِكَ الْمَرِيض بِالنَّصِّ وَالصَّحِيح بِالْمَعْنَى . وَأَمَّا مَنْ مَنَعَهُ فِي الْحَضَر فَقَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ التَّيَمُّم رُخْصَة لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِر ; كَالْفِطْرِ وَقَصْر الصَّلَاة , وَلَمْ يُبِحْ التَّيَمُّم إِلَّا بِشَرْطَيْنِ , وَهُمَا الْمَرَض وَالسَّفَر ; فَلَا دُخُول لِلْحَاضِرِ الصَّحِيح فِي ذَلِكَ لِخُرُوجِهِ مِنْ شَرْط اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء الَّذِي مَنَعَهُ جُمْلَة مَعَ وُجُود الْمَاء فَقَالَ : إِنَّمَا شَرَطَهُ اللَّه تَعَالَى مَعَ عَدَم الْمَاء , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا " فَلَمْ يُبِحْ التَّيَمُّم لِأَحَدٍ إِلَّا عِنْد فَقْد الْمَاء . وَقَالَ أَبُو عُمَر : وَلَوْلَا قَوْل الْجُمْهُور وَمَا رُوِيَ مِنْ الْأَثَر لَكَانَ قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء صَحِيحًا ; وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ أَجَازَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّيَمُّم لِعَمْرِو بْن الْعَاص وَهُوَ مُسَافِر إِذْ خَافَ الْهَلَاك إِنْ اِغْتَسَلَ بِالْمَاءِ , فَالْمَرِيض أَحْرَى بِذَلِكَ . قُلْت : وَمِنْ الدَّلِيل عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر إِذَا خَافَ فَوَات الصَّلَاة إِنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَاء الْكِتَاب وَالسُّنَّة :
أَمَّا الْكِتَاب فَقَوْله سُبْحَانَهُ : " أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " يَعْنِي الْمُقِيم إِذَا عَدِمَ الْمَاء تَيَمَّمَ . نَصَّ عَلَيْهِ الْقُشَيْرِيّ عَبْد الرَّحِيم قَالَ : ثُمَّ يُقْطَع النَّظَر فِي وُجُوب الْقَضَاء ; لِأَنَّ عَدَم الْمَاء فِي الْحَضَر عُذْر نَادِر وَفِي الْقَضَاء قَوْلَانِ :
قُلْت : وَهَكَذَا نَصَّ أَصْحَابنَا فِيمَنْ تَيَمَّمَ فِي الْحَضَر , فَهَلْ يُعِيد إِذَا وَجَدَ الْمَاء أَمْ لَا ; الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ لَا يُعِيد وَهُوَ الصَّحِيح . وَقَالَ اِبْن حَبِيب وَمُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم . يُعِيد أَبَدًا ; وَرَوَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ مَالِك . وَقَالَ الْوَلِيد عَنْهُ : يَغْتَسِل وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْس . وَأَمَّا السُّنَّة فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي الْجُهَيْم بْن الْحَارِث بْن الصِّمَّة الْأَنْصَارِيّ قَالَ : أَقْبَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْو " بِئْر جَمَل " فَلَقِيَهُ رَجُل فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَار فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ , ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظ " بِئْر " . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر وَفِيهِ " ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُل السَّلَام وَقَالَ : ( إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك السَّلَام إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْر " .
الْغَائِط أَصْله مَا اِنْخَفَضَ مِنْ الْأَرْض , وَالْجَمْع الْغِيطَان أَوْ الْأَغْوَاط ; وَبِهِ سُمِّيَ غُوطَة دِمَشْق . وَكَانَتْ الْعَرَب تَقْصِد هَذَا الصِّنْف مِنْ الْمَوَاضِع لِقَضَاءِ حَاجَتهَا تَسَتُّرًا عَنْ أَعْيُن النَّاس , ثُمَّ سُمِّيَ الْحَدَث الْخَارِج مِنْ الْإِنْسَان غَائِطًا لِلْمُقَارَنَةِ . وَغَاطَ فِي الْأَرْض يَغُوط إِذَا غَابَ . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ : " مِنْ الْغَيْط " فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَصْله الْغَيْط فَخُفِّفَ , كَهَيِّنٍ وَمَيِّت وَشَبَهه . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ الْغَوْط ; بِدَلَالَةِ قَوْلهمْ تَغَوَّطَ إِذَا أَتَى الْغَائِط , فَقُلِبَتْ وَاو الْغَوْط يَاء ; كَمَا قَالُوا فِي لَا حَوْل لَا حَيْلَ . و " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاو , أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر وَجَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط فَتَيَمَّمُوا فَالسَّبَب الْمُوجِب لِلتَّيَمُّمِ عَلَى هَذَا هُوَ الْحَدَث لَا الْمَرَض وَالسَّفَر ; فَدَلَّ عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر كَمَا بَيَّنَّاهُ . وَالصَّحِيح فِي " أَوْ " أَنَّهَا عَلَى بَابهَا عِنْد أَهْل النَّظَر . فَلِأَوْ مَعْنَاهَا , وَلِلْوَاوِ مَعْنَاهَا . وَهَذَا عِنْدهمْ عَلَى الْحَذْف , وَالْمَعْنَى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى مَرَضًا لَا تَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى مَسِّ الْمَاء أَوْ عَلَى سَفَر وَلَمْ تَجِدُوا مَاء وَاحْتَجْتُمْ إِلَى الْمَاء . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
لَفْظ " الْغَائِط " يَجْمَع بِالْمَعْنَى جَمِيعَ الْأَحْدَاث النَّاقِضَة لِلطَّهَارَةِ الصُّغْرَى . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي حَصْرِهَا , وَأَنْبَلُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا ثَلَاثَة أَنْوَاع , لَا خِلَاف فِيهَا فِي مَذْهَبنَا : زَوَال الْعَقْل , خَارِج مُعْتَاد , مُلَامَسَة . وَعَلَى مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة مَا خَرَجَ مِنْ الْجَسَد مِنْ النَّجَاسَات , وَلَا يُرَاعَى الْمَخْرَج وَلَا يُعَدّ اللَّمْس . وَعَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ , وَلَا يُرَاعَى الِاعْتِيَاد , وَيُعَدّ اللَّمْس . وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ زَالَ عَقْله بِإِغْمَاءٍ أَوْ جُنُون أَوْ سُكْر فَعَلَيْهِ الْوُضُوء , وَاخْتَلَفُوا فِي النَّوْم هَلْ هُوَ حَدَث كَسَائِرِ الْأَحْدَاث ؟ أَوْ لَيْسَ بِحَدَثٍ أَوْ مَظِنَّة حَدَثٍ ; ثَلَاثَة أَقْوَال : طَرَفَانِ وَوَاسِطَة .
الطَّرَف الْأَوَّل : ذَهَبَ الْمُزَنِيّ أَبُو إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل إِلَى أَنَّهُ حَدَثٌ , وَأَنَّ الْوُضُوء يَجِب بِقَلِيلِهِ وَكَثِيره كَسَائِرِ الْأَحْدَاث ; وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل مَالِك فِي الْمُوَطَّأ لِقَوْلِهِ : وَلَا يَتَوَضَّأ إِلَّا مِنْ حَدَث يَخْرُج مِنْ ذَكَر أَوْ دُبُر أَوْ نَوْم . وَمُقْتَضَى حَدِيث صَفْوَان بْن عَسَّال أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ . رَوَوْهُ جَمِيعًا مِنْ حَدِيث عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش فَقَالَ : أَتَيْت صَفْوَان بْن عَسَّال الْمُرَادِيّ فَقُلْت : جِئْتُك أَسْأَلُك عَنْ الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ; قَالَ : نَعَمْ كُنْت فِي الْجَيْش الَّذِي بَعَثَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنَا أَنْ نَمْسَح عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَا عَلَى طُهْر ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا , وَيَوْمًا وَلَيْلَة إِذَا أَقَمْنَا , وَلَا نَخْلَعَهُمَا مِنْ بَوْل وَلَا غَائِط وَلَا نَوْم وَلَا نَخْلَعهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَة . فَفِي هَذَا الْحَدِيث وَقَوْل مَالِك التَّسْوِيَة بَيْنَ الْغَائِط وَالْبَوْل وَالنَّوْم . قَالُوا : وَالْقِيَاس أَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَثِيره وَمَا غَلَبَ عَلَى الْعَقْل مِنْهُ حَدَثًا وَجَبَ أَنْ يَكُون قَلِيله كَذَلِكَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وِكَاء السَّهِ الْعَيْنَانِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ ) وَهَذَا عَامّ . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ , وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا الطَّرَف الْآخَر فَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النَّوْم عِنْده لَيْسَ بِحَدَثٍ عَلَى أَيِّ حَال كَانَ , حَتَّى يُحْدِثَ النَّائِم حَدَثًا غَيْر النَّوْم ; لِأَنَّهُ كَانَ يُوَكِّل مِنْ يَحْرُسُهُ إِذَا نَامَ . فَإِنْ لَمْ يَخْرُج مِنْهُ حَدَثٌ قَامَ مِنْ نَوْمه وَصَلَّى ; وَرُوِيَ عَنْ عَبِيدَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَة مَحْمُود بْن خَالِد . وَالْجُمْهُور عَلَى خِلَاف هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ . فَأَمَّا جُمْلَة مَذْهَب مَالِك فَإِنَّ كُلّ نَائِم اِسْتَثْقَلَ نَوْمًا , وَطَالَ نَوْمه عَلَى أَيّ حَال كَانَ , فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء ; وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَة الْوَلِيد بْن مُسْلِم . قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : فَإِنْ كَانَ النَّوْم خَفِيفًا لَا يُخَامِر الْقَلْب وَلَا يَغْمُرُهُ لَمْ يَضُرَّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا وُضُوء إِلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : مَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوء عَلَيْهِ ; وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك . وَالصَّحِيح مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال مَشْهُور مَذْهَب مَالِك ; لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً يَعْنِي الْعِشَاء فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِد ثُمَّ اِسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اِسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : ( لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْأَرْض يَنْتَظِر الصَّلَاة غَيْرُكُمْ ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ ; وَهُوَ أَصَحّ مَا فِي هَذَا الْبَاب مِنْ جِهَة الْإِسْنَاد وَالْعَمَل . وَأَمَّا مَا قَالَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَصَفْوَان بْن عَسَّال فِي حَدِيثه فَمَعْنَاهُ : وَنَوْم ثَقِيل غَالِب عَلَى النَّفْس ; بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيث وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ . وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى حَدِيث صَفْوَان وَكِيع عَنْ مِسْعَر عَنْ عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود فَقَالَ : ( أَوْ رِيح ) بَدَل ( أَوْ نَوْم ) , فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَمْ يَقُلْ فِي هَذَا الْحَدِيث ( أَوْ رِيح ) غَيْر وَكِيع عَنْ مِسْعَر .
قُلْت : وَكِيع ثِقَة إِمَام أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة ; فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِحَدِيثِ صَفْوَان لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ النَّوْم حَدَثٌ . وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَة فَضَعِيف ; رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ وَهُوَ سَاجِد حَتَّى غَطَّ أَوْ نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى , فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه إِنَّك قَدْ نِمْت ! فَقَالَ : ( إِنَّ الْوُضُوء لَا يَجِب إِلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إِذَا اِضْطَجَعَ اِسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ ) . تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو خَالِد عَنْ قَتَادَة وَلَا يَصِحّ ; قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ . وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ : قَوْله : ( الْوُضُوء عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ) هُوَ حَدِيث مُنْكَر لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا أَبُو خَالِد يَزِيد الدَّالَانِيّ عَنْ قَتَادَة , وَرَوَى أَوَّله جَمَاعَة عَنْ اِبْن عَبَّاس لَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ هَذَا . وَقَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : هَذَا حَدِيث مُنْكَر لَمْ يَرْوِهِ أَحَد مِنْ أَصْحَاب قَتَادَة الثِّقَات , وَإِنَّمَا اِنْفَرَدَ بِهِ أَبُو خَالِدٍ الدَّالَانِيّ , وَأَنْكَرُوهُ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا نُقِلَ . وَأَمَّا قَوْل الشَّافِعِيّ : عَلَى كُلّ نَائِم الْوُضُوء إِلَّا عَلَى الْجَالِس وَحْده , وَإِنَّ كُلّ مَنْ زَالَ عَنْ حَدّ الِاسْتِوَاء وَنَامَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوء ; فَهُوَ قَوْل الطَّبَرِيّ وَدَاوُد , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عُمَر ; لِأَنَّ الْجَالِس لَا يَكَاد يَسْتَثْقِل , فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّوْم الْخَفِيف . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب , عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوء عَلَيْهِ وَمَنْ وَضَعَ جَنْبه فَعَلَيْهِ الْوُضُوء ) . وَأَمَّا الْخَارِج ; فَلَنَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَة قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ خَالِد , عَنْ عِكْرِمَة , عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : اِعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِمْرَأَة مِنْ أَزْوَاجه فَكَانَتْ تَرَى الدَّم وَالصُّفْرَة وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي . فَهَذَا خَارِج عَلَى غَيْر الْمُعْتَاد , وَإِنَّمَا هُوَ عِرْق اِنْقَطَعَ فَهُوَ مَرَض ; وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيله مِمَّا يَخْرُج مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَلَا وُضُوء فِيهِ عِنْدنَا إِيجَابًا , خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا . وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقُنَا . وَيُرَدّ عَلَى الْحَنَفِيّ حَيْثُ رَاعَى الْخَارِج النَّجِس . فَصَحَّ وَوَضَحَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْن أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَا تَرَدَّدَ نَفَسٌ , وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
قَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَابْن عَامِر " لَامَسْتُمْ " . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ : " لَمَسْتُمْ " وَفِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : أَنْ يَكُون لَمَسْتُمْ جَامَعْتُمْ . الثَّانِي : لَمَسْتُمْ بَاشَرْتُمْ . الثَّالِث : يَجْمَع الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا . و " لَامَسْتُمْ " بِمَعْنَاهُ عِنْد أَكْثَر النَّاس , إِلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّهُ قَالَ : الْأَوْلَى فِي اللُّغَة أَنْ يَكُون " لَامَسْتُمْ " بِمَعْنَى قَبَّلْتُمْ أَوْ نَظِيره ; لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا فِعْلًا . قَالَ : و " لَمَسْتُمْ " بِمَعْنَى غَشِيتُمْ وَمَسِسْتُمْ , وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ فِي هَذَا فِعْل .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حُكْم الْآيَة عَلَى مَذَاهِبَ خَمْسَةٍ ; فَقَالَتْ فِرْقَة : الْمُلَامَسَة هُنَا مُخْتَصَّة بِالْيَدِ , وَالْجُنُب لَا ذِكْر لَهُ إِلَّا مَعَ الْمَاء ; فَلَمْ يَدْخُل فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى " الْآيَة , فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى التَّيَمُّم , وَإِنَّمَا يَغْتَسِل الْجُنُب أَوْ يَدَع الصَّلَاة حَتَّى يَجِد الْمَاء ; رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عُمَر وَابْن مَسْعُود . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ عُمَر وَعَبْد اللَّه فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة أَحَد مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْ أَهْل الرَّأْي وَحَمَلَة الْآثَار ; وَذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم لِحَدِيثِ عَمَّار وَعِمْرَان بْن حُصَيْن وَحَدِيث أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَيَمُّم الْجُنُب . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة عَكْس هَذَا الْقَوْل , فَقَالَ : الْمُلَامَسَة هُنَا مُخْتَصَّة بِاللَّمْسِ الَّذِي هُوَ الْجِمَاع . فَالْجُنُب يَتَيَمَّم وَاللَّامِس بِيَدِهِ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر ; فَلَيْسَ بِحَدَثٍ وَلَا هُوَ نَاقِض لِوُضُوئِهِ . فَإِذَا قَبَّلَ الرَّجُل اِمْرَأَتَهُ لِلَذَّةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ ; وَعَضَّدُوا هَذَا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاة وَلَمْ يَتَوَضَّأ . قَالَ عُرْوَة : فَقُلْت لَهَا مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ ؟ فَضَحِكَتْ . وَقَالَ مَالِك : الْمُلَامِس بِالْجِمَاعِ يَتَيَمَّم , وَالْمُلَامِس بِالْيَدِ يَتَيَمَّم إِذَا اِلْتَذَّ . فَإِذَا لَمَسَهَا بِغَيْرِ شَهْوَة فَلَا وُضُوء ; وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَق , وَهُوَ مُقْتَضَى الْآيَة . وَقَالَ عَلِيّ بْن زِيَاد : وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ثَوْب كَثِيف فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوء . وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون : مَنْ تَعَمَّدَ مَسَّ اِمْرَأَته بِيَدِهِ لِمُلَاعَبَةٍ فَلْيَتَوَضَّأْ اِلْتَذَّ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى : وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ مِنْ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّ الْوُضُوء إِنَّمَا يَجِب لِقَصْدِهِ اللَّذَّة دُون وُجُودهَا ; فَمَنْ قَصَدَ اللَّذَّة بِلَمْسِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء , اِلْتَذَّ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ ; وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْعُتْبِيَّة مِنْ رِوَايَة عِيسَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم . وَأَمَّا الْإِنْعَاظ بِمُجَرَّدِهِ فَقَدْ رَوَى اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يُوجِب وُضُوءًا وَلَا غَسْلَ ذَكَرٍ حَتَّى يَكُون مَعَهُ لَمْسٌ أَوْ مَذْي . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق : مَنْ أَنْعَظَ إِنْعَاظًا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ; وَهَذَا قَوْل مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا أَفْضَى الرَّجُل بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنه إِلَى بَدَن الْمَرْأَة سَوَاء كَانَ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاء الْجَسَد تَعَلَّقَ نَقْض الطُّهْر بِهِ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود وَابْن عُمَر وَالزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إِذَا كَانَ اللَّمْس بِالْيَدِ نَقَضَ الطُّهْرَ , وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْيَد لَمْ يَنْقُضْهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ " [ الْأَنْعَام : 7 ] . فَهَذِهِ خَمْسَة مَذَاهِب أَسَدُّهَا مَذْهَب مَالِك ; وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر وَابْنه عَبْد اللَّه , وَهُوَ قَوْل عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّ الْمُلَامَسَة مَا دُون الْجِمَاع , وَأَنَّ الْوُضُوء يَجِب بِذَلِكَ ; وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَر الْفُقَهَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ مَعْنَى الْآيَة ; فَإِنَّ قَوْله فِي أَوَّلهَا : " وَلَا جُنُبًا " أَفَادَ الْجِمَاع , وَإِنَّ قَوْله : " أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " أَفَادَ الْحَدَث , وَإِنَّ قَوْله : " أَوْ لَامَسْتُمْ " أَفَادَ اللَّمْسَ وَالْقُبَلَ . فَصَارَتْ ثَلَاث جُمَل لِثَلَاثَةِ أَحْكَام , وَهَذِهِ غَايَة فِي الْعِلْم وَالْإِعْلَام . وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد بِاللَّمْسِ الْجِمَاع كَانَ تَكْرَارًا فِي الْكَلَام .
قُلْت : وَأَمَّا مَا اِسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَة مِنْ حَدِيث عَائِشَة فَحَدِيث مُرْسَل ; رَوَاهُ وَكِيع , عَنْ الْأَعْمَش عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت , عَنْ عُرْوَة , عَنْ عَائِشَة . قَالَ يَحْيَى بْن سَعِيد : وَذَكَرَ حَدِيث الْأَعْمَش عَنْ حَبِيب عَنْ عَمْرو فَقَالَ : أَمَّا أَنَّ سُفْيَان الثَّوْرِيّ كَانَ أَعْلَم النَّاس بِهَذَا , زَعَمَ أَنَّ حَبِيبًا لَمْ يَسْمَع مِنْ عُرْوَة شَيْئًا ; قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ فَيَلْزَمُكُمْ قَبُوله وَالْعَمَل بِهِ . قُلْنَا : تَرَكْنَاهُ لِظَاهِرِ الْآيَة وَعَمَل الصَّحَابَة . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمُلَامَسَة هِيَ الْجِمَاع وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس . قُلْنَا : قَدْ خَالَفَهُ الْفَارُوق وَابْنه وَتَابَعَهُمَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَهُوَ كُوفِيّ , فَمَا لَكُمْ خَالَفْتُمُوهُ ؟ ! فَإِنْ قِيلَ : الْمُلَامَسَة مِنْ بَاب الْمُفَاعَلَة , وَلَا تَكُون إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ , وَاللَّمْس بِالْيَدِ إِنَّمَا يَكُون مِنْ وَاحِد ; فَثَبَتَ أَنَّ الْمُلَامَسَة هِيَ الْجِمَاع . قُلْنَا : الْمُلَامَسَة مُقْتَضَاهَا اِلْتِقَاء الْبَشَرَتَيْنِ , سَوَاء كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَاحِد أَوْ مِنْ اِثْنَيْنِ ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يُوصَف لَامِس وَمَلْمُوس .
جَوَاب آخَر : وَهُوَ أَنَّ الْمُلَامَسَة قَدْ تَكُون مِنْ وَاحِد ; وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع الْمُلَامَسَة , وَالثَّوْب مَلْمُوس وَلَيْسَ بِلَامِسٍ , وَقَدْ قَالَ اِبْن عُمَر مُخْبِرًا عَنْ نَفْسه " وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْت الِاحْتِلَام " . وَتَقُول الْعَرَب : عَاقَبْت اللِّصّ وَطَارَقْت النَّعْل , وَهُوَ كَثِير .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه سَبَب الْحَدَث , وَهُوَ الْمَجِيء مِنْ الْغَائِط ذَكَرَ سَبَب الْجَنَابَة وَهُوَ الْمُلَامَسَة , فَبَيَّنَ الْحَدَث وَالْجَنَابَة عِنْد عَدَم الْمَاء , كَمَا أَفَادَ بَيَان حُكْمهمَا عِنْد وُجُود الْمَاء . قُلْنَا : لَا نَمْنَع حَمْل اللَّفْظ عَلَى الْجِمَاع وَاللَّمْس , وَيُفِيد الْحُكْمَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا . وَقَدْ قُرِئَ " لَمَسْتُمْ " كَمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيّ مِنْ لَمْس الرَّجُل الْمَرْأَة بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ لَا حَائِل بَيْنه وَبَيْنهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَة وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء فَهُوَ ظَاهِر الْقُرْآن أَيْضًا ; وَكَذَلِكَ إِنْ لَمَسَتْهُ هِيَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء , إِلَّا الشَّعْر ; فَإِنَّهُ لَا وُضُوء لِمَنْ مَسَّ شَعْر اِمْرَأَته لِشَهْوَةٍ كَانَ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَة , وَكَذَلِكَ السِّنّ وَالظُّفُر , فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِف لِلْبَشَرَةِ . وَلَوْ احْتَاطَ فَتَوَضَّأَ إِذَا مَسَّ شَعْرهَا كَانَ حَسَنًا . وَلَوْ مَسَّهَا بِيَدِهِ أَوْ مَسَّتْهُ بِيَدِهَا مِنْ فَوْق الثَّوْب فَالْتَذَّ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْء حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْبَشَرَة , وَسَوَاء فِي ذَلِكَ كَانَ مُتَعَمِّدًا أَوْ سَاهِيًا , كَانَتْ الْمَرْأَة حَيَّة أَوْ مَيِّتَة إِذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّة . وَاخْتَلَفَ قَوْله إِذَا لَمَسَ صَبِيَّة صَغِيرَة أَوْ عَجُوزًا كَبِيرَة بِيَدِهِ أَوْ وَاحِدَة مِنْ ذَوَات مَحَارِمِهِ مِمَّنْ لَا يَحِلّ لَهُ نِكَاحهَا , فَمَرَّة قَالَ : يَنْتَقِض الْوُضُوء ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاء " فَلَمْ يُفَرِّق . وَالثَّانِي لَا يُنْقَض ; لِأَنَّهُ لَا مَدْخَل لِلشَّهْوَةِ فِيهِنَّ . قَالَ الْمَرْوَزِيّ : قَوْل الشَّافِعِيّ أَشْبَه بِظَاهِرِ الْكِتَاب ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : " أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاء " وَلَمْ يَقُلْ بِشَهْوَةٍ وَلَا مِنْ غَيْر شَهْوَة ; وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الْوُضُوء مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الشَّهْوَة . قَالَ : وَكَذَلِكَ عَامَّة التَّابِعِينَ . قَالَ الْمَرْوَزِيّ : فَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك مِنْ مُرَاعَاة الشَّهْوَة وَاللَّذَّة مِنْ فَوْق الثَّوْب يُوجِب الْوُضُوء فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ اللَّيْث بْن سَعْد , وَلَا نَعْلَم أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ غَيْرهمَا . قَالَ : وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ فِي النَّظَر ; لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْر لَامِس لِامْرَأَتِهِ , وَغَيْر مُمَاسٍّ لَهَا فِي الْحَقِيقَة , إِنَّمَا هُوَ لَامِس لِثَوْبِهَا . وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ تَلَذَّذَ وَاشْتَهَى أَنْ يَلْمِس لَمْ يَجِب عَلَيْهِ وُضُوء ; فَكَذَلِكَ مَنْ لَمَسَ فَوْق الثَّوْب لِأَنَّهُ غَيْر مُمَاسٍّ لِلْمَرْأَةِ .
قُلْت : أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ مَالِكًا عَلَى قَوْله إِلَّا اللَّيْث بْن سَعْد , فَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ أَنَّ ذَلِكَ قَوْل إِسْحَاق وَأَحْمَد , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ كُلّهمْ قَالُوا : إِذَا لَمَسَ فَالْتَذَّ وَجَبَ الْوُضُوء , وَإِنْ لَمْ يَلْتَذَّ فَلَا وُضُوء . وَأَمَّا قَوْله : " وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ فِي النَّظَر " فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيح الْخَبَر عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : كُنْت أَنَام بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَته , فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلَيَّ , وَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا ثَانِيًا , قَالَتْ : وَالْبُيُوت يَوْمئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيح . فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمُلَامِسَ , وَأَنَّهُ غَمَزَ رِجْلَيْ عَائِشَة ; كَمَا فِي رِوَايَة الْقَاسِم عَنْ عَائِشَة ( فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَ رِجْلَيَّ فَقَبَضْتهُمَا ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . فَهَذَا يَخُصّ عُمُوم قَوْله : " أَوْ لَامَسْتُمْ " فَكَانَ وَاجِبًا لِظَاهِرِ الْآيَة اِنْتِقَاض وُضُوء كُلّ مُلَامِس كَيْفَ لَامَسَ . وَدَلَّتْ السُّنَّة الَّتِي هِيَ الْبَيَان لِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْوُضُوء عَلَى بَعْض الْمُلَامِسِينَ دُون بَعْض , وَهُوَ مَنْ لَمْ يَلْتَذَّ وَلَمْ يَقْصِد . وَلَا يُقَال : فَلَعَلَّهُ كَانَ عَلَى قَدَمَيْ عَائِشَة ثَوْب , أَوْ كَانَ يَضْرِب رِجْلَيْهَا بِكُمِّهِ ; فَإِنَّا نَقُول : حَقِيقَة الْغَمْز إِنَّمَا هُوَ بِالْيَدِ ; وَمِنْهُ غَمْزُك الْكَبْشَ أَيْ تَجُسُّهُ لِتَنْظُرَ أَهُوَ سَمِين أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا أَنْ يَكُون الْغَمْزُ الضَّرْبَ بِالْكُمِّ فَلَا . وَالرِّجْل مِنْ النَّائِمِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا ظُهُورُهَا مِنْ النَّائِم ; لَا سِيَّمَا مَعَ اِمْتِدَاده وَضِيق حَاله . فَهَذِهِ كَانَتْ الْحَال فِي ذَلِكَ الْوَقْت ; أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلهَا : ( وَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا ) وَقَوْلهَا : ( وَالْبُيُوت يَوْمئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيح ) . وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا عَنْهَا قَالَتْ : ( كُنْت أَمُدّ رِجْلَيَّ فِي قِبْلَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَرَفَعْتهمَا , فَإِذَا قَامَ مَدَدْتهمَا ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . فَظَهَرَ أَنَّ الْغَمْز كَانَ عَلَى حَقِيقَته مَعَ الْمُبَاشَرَة . وَدَلِيل آخَر - وَهُوَ مَا رَوَتْهُ عَائِشَة أَيْضًا رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : فَقَدْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة مِنْ الْفِرَاش فَالْتَمَسْته , فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْن قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِد وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ ; الْحَدِيث . فَلَمَّا وَضَعَتْ يَدهَا عَلَى قَدَمِهِ وَهُوَ سَاجِد وَتَمَادَى فِي سُجُوده كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوُضُوء لَا يَنْتَقِض إِلَّا عَلَى بَعْض الْمُلَامِسِينَ دُون بَعْض .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ عَلَى قَدَمِهِ حَائِل كَمَا قَالَهُ الْمُزَنِيّ . قِيلَ لَهُ : الْقَدَم قَدَم بِلَا حَائِل حَتَّى يَثْبُتَ الْحَائِل , وَالْأَصْل الْوُقُوف مَعَ الظَّاهِر ; بَلْ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا يَجْتَمِع مِنْهُ كَالنَّصِّ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اِسْتَكْرَهَ اِمْرَأَة فَمَسَّ خِتَانُهُ خِتَانَهَا وَهِيَ لَا تَلْتَذُّ لِذَلِكَ , أَوْ كَانَتْ نَائِمَة فَلَمْ تَلْتَذَّ وَلَمْ تَشْتَهِ أَنَّ الْغُسْل وَاجِب عَلَيْهَا ; فَكَذَلِكَ حُكْم مَنْ قَبَّلَ أَوْ لَامَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَة انْتَقَضَتْ طَهَارَته وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء ; لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَسَّة وَاللَّمْسَة وَالْقُبْلَة الْفِعْل لَا اللَّذَّة . قُلْنَا : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَعْمَش وَغَيْره قَدْ خَالَفَ فِيمَا اِدَّعَيْتُمُوهُ مِنْ الْإِجْمَاع . سَلَّمْنَاهُ , لَكِنَّ هَذَا اِسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلّ النِّزَاع فَلَا يَلْزَم ; وَقَدْ اِسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّة مَذْهَبنَا بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيّ - فِيمَا زَعَمْتُمْ إِنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ , وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ شَيْخُهُ مَالِك ; كَمَا هُوَ مَشْهُور عِنْدَنَا " إِذَا صَحَّ الْحَدِيث فَخُذُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي " وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيث بِذَلِكَ فَلِمَ لَا تَقُولُونَ بِهِ ؟ ! وَيَلْزَم عَلَى مَذْهَبكُمْ أَنَّ مَنْ ضَرَبَ اِمْرَأَته فَلَطَمَهَا بِيَدِهِ تَأْدِيبًا لَهَا وَإِغْلَاظًا عَلَيْهَا أَنْ يَنْتَقِض وُضُوءُهُ ; إِذْ الْمَقْصُود وُجُود الْفِعْل , وَهَذَا لَا يَقُولهُ أَحَد فِيمَا أَعْلَم , وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى الْأَئِمَّة مَالِك وَغَيْره أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَأُمَامَة بِنْت أَبِي الْعَاص اِبْنَة زَيْنَب بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَاتِقه , فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا , وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُود أَعَادَهَا . وَهَذَا يَرُدّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ : لَوْ لَمَسَ صَغِيرَة لَانْتَقَضَ طُهْره تَمَسُّكًا بِلَفْظِ النِّسَاء , وَهَذَا ضَعِيف ; فَإِنَّ لَمْس الصَّغِيرَة كَلَمْسِ الْحَائِط . وَاخْتَلَفَ قَوْله فِي ذَوَات الْمَحَارِم لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِر اللَّذَّة , وَنَحْنُ اِعْتَبَرْنَا اللَّذَّة فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْم , وَهُوَ وُجُوب الْوُضُوء . وَأَمَّا قَوْل الْأَوْزَاعِيّ فِي اِعْتِبَاره الْيَد خَاصَّة ; فَإِنَّ اللَّمْس أَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل بِالْيَدِ , فَقَصْره عَلَيْهِ دُون غَيْره مِنْ الْأَعْضَاء ; حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ الرَّجُل رِجْلَيْهِ فِي ثِيَاب اِمْرَأَتِهِ فَمَسَّ فَرْجَهَا أَوْ بَطْنَهَا لَا يَنْتَقِضُ لِذَلِكَ وُضُوءُهُ . وَقَالَ فِي الرَّجُل يُقَبِّل اِمْرَأَته : إِنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي قُلْت يَتَوَضَّأ , وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأ لَمْ أَعِبْهُ . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : لَا وُضُوء عَلَى مَنْ قَبَّلَ اِمْرَأَته أَوْ بَاشَرَهَا أَوْ لَمَسَهَا . وَهَذَا يُخَرَّج عَلَى مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة , وَاَللَّه أَعْلَم .
الْأَسْبَاب الَّتِي لَا يَجِد الْمُسَافِر مَعَهَا الْمَاء هِيَ إِمَّا عَدَمه جُمْلَةً أَوْ عَدَم بَعْضه , وَإِمَّا أَنْ يَخَاف فَوَات الرَّفِيق , أَوْ عَلَى الرَّحْل بِسَبَبِ طَلَبِهِ , أَوْ يَخَاف لُصُوصًا أَوْ سِبَاعًا , أَوْ فَوَات الْوَقْت , أَوْ عَطَشًا عَلَى نَفْسه أَوْ عَلَى غَيْره ; وَكَذَلِكَ لِطَبِيخٍ يَطْبُخهُ لِمَصْلَحَةِ بَدَنه ; فَإِذَا كَانَ أَحَد هَذِهِ الْأَشْيَاء تَيَمَّمَ وَصَلَّى . وَيَتَرَتَّب عَدَمه لِلْمَرِيضِ بِأَلَّا يَجِد مَنْ يُنَاوِلُهُ , أَوْ يَخَاف مِنْ ضَرَره . وَيَتَرَتَّب أَيْضًا عَدَمُهُ لِلصَّحِيحِ الْحَاضِر بِالْغَلَاءِ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَصْنَاف , أَوْ بِأَنْ يُسْجَن أَوْ يُرْبَط . وَقَالَ الْحَسَن : يَشْتَرِي الرَّجُل الْمَاء بِمَالِهِ كُلّه وَيَبْقَى عَدِيمًا , وَهَذَا ضَعِيف , لِأَنَّ دِينَ اللَّه يُسْر . وَقَالَتْ طَائِفَة : يَشْتَرِيه مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْقِيمَة الثُّلُث فَصَاعِدًا . وَقَالَتْ طَائِفَة : يَشْتَرِي قِيمَة الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ وَالثَّلَاث وَنَحْو هَذَا ; وَهَذَا كُلّه فِي مَذْهَب مَالِك رَحِمَهُ اللَّه . وَقِيلَ لِأَشْهَب : أَتُشْتَرَى الْقِرْبَة بِعَشَرَةِ دَرَاهِم ؟ فَقَالَ : مَا أَرَى ذَلِكَ عَلَى النَّاس . وَقَالَ الشَّافِعِيّ بِعَدَمِ الزِّيَادَة .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ طَلَب الْمَاء شَرْط فِي صِحَّة التَّيَمُّم أَمْ لَا ؟ فَظَاهِر مَذْهَب مَالِك أَنَّ ذَلِكَ شَرْط , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بْن نَصْر إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّة التَّيَمُّم ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَكُون فِي السَّفَر عَلَى غَلْوَتَيْنِ مِنْ طَرِيقه فَلَا يُعْدَل إِلَيْهِ . قَالَ إِسْحَاق : لَا يَلْزَمهُ الطَّلَب إِلَّا فِي مَوْضِعه , وَذَكَرَ حَدِيث اِبْن عُمَر , وَالْأَوَّل أَصَحّ وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك فِي الْمُوَطَّأ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء " وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّيَمُّم لَا يُسْتَعْمَل إِلَّا بَعْد طَلَب الْمَاء . وَأَيْضًا مِنْ جِهَة الْقِيَاس أَنَّ هَذَا بَدَل مَأْمُور بِهِ عِنْد الْعَجْز عَنْ مُبْدَله , فَلَا يُجْزِئ فِعْله إِلَّا مَعَ تَيَقُّن عَدَم مُبْدَله ; كَالصَّوْمِ مَعَ الْعِتْق فِي الْكَفَّارَة .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَعُدِمَ الْمَاء , فَلَا يَخْلُو أَنْ يَغْلِب عَلَى ظَنّ الْمُكَلَّف الْيَأْس مِنْ وُجُوده فِي الْوَقْت , أَوْ يَغْلِب عَلَى ظَنّه وُجُوده وَيَقْوَى رَجَاؤُهُ لَهُ , أَوْ يَتَسَاوَى عِنْده الْأَمْرَانِ , فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَحْوَال :
فَالْأَوَّل : يُسْتَحَبّ لَهُ التَّيَمُّم وَالصَّلَاة فِي أَوَّل الْوَقْت : لِأَنَّهُ إِذَا فَاتَتْهُ فَضِيلَة الْمَاء فَإِنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يُحْرِز فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت .
الثَّانِي : يَتَيَمَّم وَسَط الْوَقْت ; حَكَاهُ أَصْحَاب مَالِك عَنْهُ , فَيُؤَخِّر الصَّلَاة رَجَاء إِدْرَاك فَضِيلَة الْمَاء مَا لَمْ تَفُتْهُ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت , فَإِنَّ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت قَدْ تُدْرَك بِوَسَطِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ .
الثَّالِث : يُؤَخِّر الصَّلَاة إِلَى أَنْ يَجِد الْمَاء فِي آخِر الْوَقْت ; لِأَنَّ فَضِيلَة الْمَاء أَعْظَم مِنْ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت , لِأَنَّ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت مُخْتَلَف فِيهَا , وَفَضِيلَة الْمَاء مُتَّفَق عَلَيْهَا , وَفَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت يَجُوز تَرْكهَا دُون ضَرُورَة وَلَا يَجُوز تَرْك فَضِيلَة الْمَاء إِلَّا لِضَرُورَةٍ , وَالْوَقْت فِي ذَلِكَ هُوَ آخِر الْوَقْت الْمُخْتَار ; قَالَهُ اِبْن حَبِيب . وَلَوْ عَلِمَ الْمَاء فِي آخِر الْوَقْت فَتَيَمَّمَ فِي أَوَّله وَصَلَّى فَقَدْ قَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُجْزِئهُ , فَإِنْ وَجَدَ الْمَاء أَعَادَ فِي الْوَقْت خَاصَّة . وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون : إِنْ وَجَدَ الْمَاء بَعْدُ أَعَادَ أَبَدًا .
وَاَلَّذِي يُرَاعَى مِنْ وُجُود الْمَاء أَنْ يَجِد مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ , فَإِنْ وَجَدَ أَقَلّ مِنْ كِفَايَته تَيَمَّمَ وَلَمْ يَسْتَعْمِل مَا وَجَدَ مِنْهُ . وَهَذَا قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ فَرْضه أَحَد الشَّيْئَيْنِ , إِمَّا الْمَاء وَإِمَّا التُّرَاب .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَاء مُغْنِيًا عَنْ التَّيَمُّم كَانَ غَيْر مَوْجُود شَرْعًا ; لِأَنَّ الْمَطْلُوب مِنْ وُجُوده الْكِفَايَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر : يَسْتَعْمِل مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاء وَيَتَيَمَّم ; لِأَنَّهُ وَاجِد مَاء فَلَمْ يَتَحَقَّق شَرْط التَّيَمُّم ; فَإِذَا اِسْتَعْمَلَهُ وَفَقَدَ الْمَاء تَيَمَّمَ لِمَا لَمْ يَجِد . وَاخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيّ أَيْضًا فِيمَا إِذَا نَسِيَ الْمَاء فِي رَحْله فَتَيَمَّمَ ; وَالصَّحِيح أَنَّهُ يُعِيدُ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَاء عِنْده فَهُوَ وَاجِد وَإِنَّمَا فَرَّطَ . وَالْقَوْل الْآخَر لَا يُعِيد ; وَهُوَ قَوْل مَالِك ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَلَمْ يَجِدْهُ .
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَة الْوُضُوء بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّر ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء " فَقَالَ : هَذَا نَفْي فِي نَكِرَة , وَهُوَ يَعُمّ لُغَة ; فَيَكُون مُفِيدًا جَوَاز الْوُضُوء بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّر وَغَيْر الْمُتَغَيِّر ; لِانْطِلَاقِ اِسْم الْمَاء عَلَيْهِ . قُلْنَا : النَّفْي فِي النَّكِرَة يَعُمّ كَمَا قُلْتُمْ , وَلَكِنْ فِي الْجِنْس , فَهُوَ عَامّ فِي كُلّ مَاء كَانَ مِنْ سَمَاء أَوْ نَهَر أَوْ عَيْن عَذْب أَوْ مِلْح . فَأَمَّا غَيْر الْجِنْس وَهُوَ الْمُتَغَيِّر فَلَا يَدْخُل فِيهِ ; كَمَا لَا يَدْخُل فِيهِ مَاء الْبَاقِلَاء وَلَا مَاء الْوَرْد , وَسَيَأْتِي حُكْم الْمِيَاه فِي " الْفُرْقَان " , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُضُوء وَالِاغْتِسَال لَا يَجُوز بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْرِبَة سِوَى النَّبِيذ عِنْد عَدَم الْمَاء ; وَقَوْله تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا " يَرُدّهُ . وَالْحَدِيث الَّذِي فِيهِ ذِكْر الْوُضُوء بِالنَّبِيذِ رَوَاهُ اِبْن مَسْعُود , وَلَيْسَ بِثَابِتٍ ; لِأَنَّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو زَيْد , وَهُوَ مَجْهُول لَا يُعْرَف بِصُحْبَةِ عَبْد اللَّه ; قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَغَيْره . وَسَيَأْتِي فِي " الْفُرْقَان " بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الْمَاء الَّذِي يُبِيحُ عَدَمُهُ التَّيَمُّمَ هُوَ الطَّاهِر الْمُطَهِّر الْبَاقِي عَلَى أَوْصَاف خِلْقَته . وَقَالَ بَعْض مَنْ أَلَّفَ فِي أَحْكَام الْقُرْآن لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا } فَإِنَّمَا أَبَاحَ التَّيَمُّم عِنْد عَدَم كُلّ جُزْء مِنْ مَاء ; لِأَنَّهُ لَفْظ مُنَكَّر يَتَنَاوَل كُلّ جُزْء مِنْهُ ; سَوَاء كَانَ مُخَالِطًا لِغَيْرِهِ أَوْ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ . وَلَا يَمْتَنِع أَحَد أَنْ يَقُول فِي نَبِيذ التَّمْر مَاء ; فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّم مَعَ وُجُوده .
وَهَذَا مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه ; وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَخْبَارٍ ضَعِيفَة يَأْتِي ذِكْرهَا فِي سُورَة " الْفُرْقَان " , وَهُنَاكَ يَأْتِي الْقَوْل فِي الْمَاء إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
التَّيَمُّم مِمَّا خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة تَوْسِعَةً عَلَيْهَا ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فُضِّلْنَا عَلَى النَّاس بِثَلَاثٍ جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْض كُلّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا ) وَذَكَرَ الْحَدِيث , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر نُزُوله , وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْقِلَادَة حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر الْأَسْبَاب الَّتِي تُبِيحُهُ , وَالْكَلَام هَاهُنَا فِي مَعْنَاهُ لُغَة وَشَرْعًا , وَفِي صِفَته وَكَيْفِيَّته وَمَا يُتَيَمَّم بِهِ وَلَهُ , وَمَنْ يَجُوز لَهُ التَّيَمُّم , وَشُرُوط التَّيَمُّم إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامه .
فَالتَّيَمُّم لُغَة هُوَ الْقَصْد . تَيَمَّمْت الشَّيْء قَصَدْته , وَتَيَمَّمْت الصَّعِيد تَعَمَّدْته , وَتَيَمَّمْتُهُ بِرُمْحِي وَسَهْمِي أَيْ قَصَدْته دُون مَنْ سِوَاهُ . وَأَنْشَدَ الْخَلِيل : ش يَمَّمْته الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْت لَهُ و هَذِي الْبَسَالَةُ لَا لَعْبُ الزَّحَالِيقِ ش قَالَ الْخَلِيل : مَنْ قَالَ فِي هَذَا الْبَيْت أَمَّمْته فَقَدْ أَخْطَأَ ; لِأَنَّهُ قَالَ : " شَزْرًا " وَلَا يَكُون الشَّزْر إِلَّا مِنْ نَاحِيَة وَلَمْ يَقْصِد بِهِ أَمَامه . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : تَيَمَّمْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلُهَا بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالٍ وَقَالَ أَيْضًا : تَيَمَّمَتْ الْعَيْن الَّتِي عِنْد ضَارِج يَفِيء عَلَيْهَا الظِّلّ عَرْمَضُهَا طَامِي آخَرُ : إِنِّي كَذَاك إِذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ يَمَّمْت بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدَا وَقَالَ أَعْشَى بَاهِلَة : تَيَمَّمْت قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ مِنْ الْأَرْض مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَزَنْ وَقَالَ حُمَيْد بْن ثَوْر : سَلْ الرَّبْع أَنَّى يَمَّمَتْ أُمّ طَارِق وَهَلْ عَادَةٌ لِلرَّبْعِ أَنْ يَتَكَلَّمَا وَلِلشَّافِعِيِّ : عِلْمِي مَعِي حَيْثُمَا يَمَّمْت أَحْمِلُهُ بَطْنِي وِعَاءٌ لَهُ لَا بَطْنُ صُنْدُوقِ قَالَ اِبْن السِّكِّيت : قَوْله تَعَالَى " فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا " أَيْ اِقْصِدُوا ; ثُمَّ كَثُرَ اِسْتِعْمَالُهُمْ لِهَذِهِ الْكَلِمَة حَتَّى صَارَ التَّيَمُّم مَسْح الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ بِالتُّرَابِ . وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ فِي قَوْلهمْ : " قَدْ تَيَمَّمَ الرَّجُل " مَعْنَاهُ قَدْ مَسَحَ التُّرَاب عَلَى وَجْهه وَيَدَيْهِ . قُلْت : وَهَذَا هُوَ التَّيَمُّم الشَّرْعِيّ , إِذَا كَانَ الْمَقْصُود بِهِ الْقُرْبَة . وَيَمَّمْت الْمَرِيض فَتَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ . وَرَجُل مُيَمَّم يَظْفَر بِكُلِّ مَا يَطْلُب ; عَنْ الشَّيْبَانِيّ . وَأَنْشَدَ : إِنَّا وَجَدْنَا أَعْصُرَ بْنَ سَعْدِ مُيَمَّمَ الْبَيْتِ رَفِيعَ الْمَجْدِ وَقَالَ آخَر : أَزْهَر لَمْ يُولَدْ بِنَجْمِ الشُّحِّ مُيَمَّم الْبَيْت كَرِيم السِّنْحِ
لَفْظ التَّيَمُّم ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه فِي " الْبَقَرَة " وَفِي هَذِهِ السُّورَة و " الْمَائِدَة " وَاَلَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَة هِيَ آيَة التَّيَمُّم . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ مُعْضِلَة مَا وَجَدْت لِدَائِهَا مِنْ دَوَاء عِنْد أَحَد ; هُمَا آيَتَانِ فِيهِمَا ذِكْر التَّيَمُّم إِحْدَاهُمَا فِي " النِّسَاء " وَالْأُخْرَى فِي " الْمَائِدَة " . فَلَا نَعْلَم أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَة بِقَوْلِهَا : " فَأَنْزَلَ اللَّه آيَة التَّيَمُّم " . ثُمَّ قَالَ : وَحَدِيثهَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم قَبْل ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ .
قُلْت : أَمَّا قَوْله : " فَلَا نَعْلَم أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَة " فَهِيَ هَذِهِ الْآيَة عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَوْله : " وَحَدِيثُهَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ " فِي صَحِيح وَلَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ أَهْل السِّيَر ; لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنَّ غُسْل الْجَنَابَة لَمْ يُفْتَرَضْ قَبْل الْوُضُوء , كَمَا أَنَّهُ مَعْلُوم عِنْد جَمِيع أَهْل السِّيَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاة بِمَكَّة لَمْ يُصَلِّ إِلَّا بِوُضُوءٍ مِثْل وُضُوئِنَا الْيَوْم . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آيَة الْوُضُوء إِنَّمَا نَزَلَتْ لِيَكُونَ فَرْضُهَا الْمُتَقَدِّم مَتْلُوًّا فِي التَّنْزِيل . وَفِي قَوْله : " فَنَزَلَتْ آيَة التَّيَمُّم " وَلَمْ يَقُلْ آيَة الْوُضُوء مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي طَرَأَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْم فِي ذَلِكَ الْوَقْت حُكْم التَّيَمُّم لَا حُكْم الْوُضُوء ; وَهَذَا بَيِّنٌ لَا إِشْكَال فِيهِ .
التَّيَمُّم يَلْزَم كُلّ مُكَلَّف لَزِمَتْهُ الصَّلَاة إِذَا عَدِمَ الْمَاء وَدَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ وَالْمُزَنِيّ صَاحِب الشَّافِعِيّ : يَجُوز قَبْله ; لِأَنَّ طَلَب الْمَاء عِنْدهمْ لَيْسَ بِشَرْطٍ قِيَاسًا عَلَى النَّافِلَة ; فَلَمَّا جَازَ التَّيَمُّم لِلنَّافِلَةِ دُون طَلَب الْمَاء جَازَ أَيْضًا لِلْفَرِيضَةِ . وَاسْتَدَلُّوا مِنْ السُّنَّة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِي ذَرّ : ( الصَّعِيد الطَّيِّب وَضُوء الْمُسْلِم وَلَوْ لَمْ يَجِد الْمَاء عَشْر حِجَج ) . فَسَمَّى عَلَيْهِ السَّلَام الصَّعِيد وَضُوءًا كَمَا يُسَمَّى الْمَاء ; فَحُكْمه إِذًا حُكْم الْمَاء . وَاَللَّه أَعْلَم . وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء " وَلَا يُقَال : لَمْ يَجِد الْمَاء إِلَّا لِمَنْ طَلَبَ وَلَمْ يَجِد . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى ; وَلِأَنَّهَا طَهَارَة ضَرُورَة كَالْمُسْتَحَاضَةِ ; وَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاة تَيَمَّمْت وَصَلَّيْت ) . وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد , وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عَلِيّ وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم لَا يَرْفَع الْجَنَابَة وَلَا الْحَدَث , وَأَنَّ الْمُتَيَمِّم لَهُمَا إِذَا وَجَدَ الْمَاء عَادَ جُنُبًا كَمَا كَانَ أَوْ مُحْدِثًا ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِي ذَرّ : ( إِذَا وَجَدْت الْمَاء فَأَمِسَّهُ جِلْدَك ) إِلَّا شَيْء رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن , رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج وَعَبْد الْحَمِيد بْن جُبَيْر بْن شَيْبَة عَنْهُ ; وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن حَرْمَلَة عَنْهُ قَالَ فِي الْجُنُب الْمُتَيَمِّم يَجِد الْمَاء وَهُوَ عَلَى طَهَارَته : لَا يَحْتَاج إِلَى غُسْل وَلَا وُضُوء حَتَّى يُحْدِث . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيمَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء فِي الْوَقْت أَنَّهُ يَتَوَضَّأ وَيُعِيد تِلْكَ الصَّلَاة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَهَذَا تَنَاقُض وَقِلَّة رَوِيَّة . وَلَمْ يَكُنْ أَبُو سَلَمَة عِنْدهمْ يَفْقَهُ كَفِقْهِ أَصْحَابه التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمْ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلَاة بَطَلَ تَيَمُّمُهُ ; وَعَلَيْهِ اِسْتِعْمَال الْمَاء . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَفَرَغَ مِنْ صَلَاته , وَقَدْ كَانَ اِجْتَهَدَ فِي طَلَبه الْمَاء وَلَمْ يَكُنْ فِي رَحْله أَنَّ صَلَاته تَامَّة ; لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضه كَمَا أُمِرَ . فَغَيْر جَائِز أَنْ تُوجَب عَلَيْهِ الْإِعَادَة بِغَيْرِ حُجَّة . وَمِنْهُمْ مَنْ اِسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يُعِيد فِي الْوَقْت إِذَا تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ . وَرُوِيَ عَنْ طَاوُس وَعَطَاء وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَمَكْحُول وَابْن سِيرِينَ وَالزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة كُلّهمْ يَقُول : يُعِيد الصَّلَاة . وَاسْتَحَبَّ الْأَوْزَاعِيّ ذَلِكَ وَقَالَ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ ; لِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَر فَحَضَرَتْ الصَّلَاة وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاء فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا , ثُمَّ وَجَدَا الْمَاء فِي الْوَقْت فَأَعَادَ أَحَدهمَا الصَّلَاة بِالْوُضُوءِ وَلَمْ يُعِدْ الْآخَر , ثُمَّ أَتَيَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ : ( أَصَبْت السُّنَّة وَأَجْزَأَتْك صَلَاتُك ) وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ : ( لَك الْأَجْر مَرَّتَيْنِ ) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ : وَغَيْر اِبْن نَافِع يَرْوِيه عَنْ اللَّيْث عَنْ عَمِيرَة بْن أَبِي نَاجِيَة عَنْ بَكْر بْن سَوَادَةَ عَنْ عَطَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْر أَبِي سَعِيد فِي هَذَا الْإِسْنَاد لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِيهِ : ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء بَعْدُ فِي الْوَقْت .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء إِذَا وَجَدَ الْمَاء بَعْد دُخُول فِي الصَّلَاة ; فَقَالَ مَالِك : لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْع الصَّلَاة وَاسْتِعْمَال الْمَاء وَلْيُتِمَّ صَلَاته وَلْيَتَوَضَّأْ لِمَا يَسْتَقْبِل ; وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَجَمَاعَة مِنْهُمْ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَالْمُزَنِيّ : يَقْطَع وَيَتَوَضَّأ وَيَسْتَأْنِف الصَّلَاة لِوُجُودِ الْمَاء . وَحُجَّتهمْ أَنَّ التَّيَمُّم لَمَّا بَطَلَ بِوُجُودِ الْمَاء قَبْل الصَّلَاة فَكَذَلِكَ يَبْطُل مَا بَقِيَ مِنْهَا , وَإِذَا بَطَلَ بَعْضهَا بَطَلَ كُلّهَا ; لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ بِالشُّهُورِ لَا يَبْقَى عَلَيْهَا إِلَّا أَقَلّهَا ثُمَّ تَحِيض أَنَّهَا تَسْتَقْبِل عِدَّتهَا بِالْحَيْضِ . قَالُوا : وَاَلَّذِي يَطْرَأ عَلَيْهِ الْمَاء وَهُوَ فِي الصَّلَاة كَذَلِكَ قِيَاسًا وَنَظَرًا . وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالكُمْ " [ مُحَمَّد : 33 ] . وَقَدْ اِتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَى جَوَاز الدُّخُول فِي الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ عِنْد عَدَم الْمَاء , وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعهَا إِذَا رُئِيَ الْمَاء ; وَلَمْ تَثْبُت سُنَّة بِقَطْعِهَا وَلَا إِجْمَاع . وَمِنْ حُجَّتهمْ أَيْضًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْم فِي ظِهَار أَوْ قَتْل فَصَامَ مِنْهُ أَكْثَره ثُمَّ وَجَدَ رَقَبَة لَا يُلْغِي صَوْمه وَلَا يَعُود إِلَى الرَّقَبَة . وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ لَا يَقْطَعهَا وَلَا يَعُود إِلَى الْوُضُوء بِالْمَاءِ .
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُصَلِّي بِهِ صَلَوَات أَمْ يَلْزَم التَّيَمُّم لِكُلِّ صَلَاة فَرْض وَنَفْل ; فَقَالَ شَرِيك بْن عَبْد اللَّه الْقَاضِي : يَتَيَمَّم لِكُلِّ صَلَاة نَافِلَة وَفَرِيضَة . وَقَالَ مَالِك : لِكُلِّ فَرِيضَة ; لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَغِي الْمَاء لِكُلِّ صَلَاة , فَمَنْ اِبْتَغَى الْمَاء فَلَمْ يَجِدْهُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّم . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالْحَسَن بْن حَيّ وَدَاوُد : يُصَلِّي مَا شَاءَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد مَا لَمْ يُحْدِث ; لِأَنَّهُ طَاهِر مَا لَمْ يَجِد الْمَاء ; وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَب الْمَاء إِذَا يَئِسَ مِنْهُ . وَمَا قُلْنَاهُ أَصَحّ ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ عَلَى كُلّ قَائِم إِلَى الصَّلَاة طَلَب الْمَاء , وَأَوْجَبَ عِنْد عَدَمه التَّيَمُّم لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاة قَبْل خُرُوج الْوَقْت , فَهِيَ طَهَارَة ضَرُورَة نَاقِصَة بِدَلِيلِ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى بُطْلَانهَا بِوُجُودِ الْمَاء وَإِنْ لَمْ يُحْدِث ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّهَارَة بِالْمَاءِ . وَقَدْ يَنْبَنِي هَذَا الْخِلَاف أَيْضًا فِي جَوَاز التَّيَمُّم قَبْل دُخُول الْوَقْت ; فَالشَّافِعِيّ وَأَهْل الْمَقَالَة الْأُولَى لَا يُجَوِّزُونَهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا " ظَهَرَ مِنْهُ تَعَلُّق أَجْزَاء التَّيَمُّم بِالْحَاجَةِ , وَلَا حَاجَة قَبْل الْوَقْت . وَعَلَى هَذَا لَا يُصَلِّي فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد , وَهَذَا بَيِّنٌ . وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ صَلَّى صَلَاتَيْ فَرْض بِتَيَمُّمٍ وَاحِد ; فَرَوَى يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم : يُعِيد الثَّانِيَة مَا دَامَ فِي الْوَقْت . وَرَوَى أَبُو زَيْد بْن أَبِي الْغَمْر عَنْهُ : يُعِيد أَبَدًا . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون يُعِيد الثَّانِيَة أَبَدًا . وَهَذَا الَّذِي يُنَاظِر عَلَيْهِ أَصْحَابنَا ; لِأَنَّ طَلَب الْمَاء شَرْط . وَذَكَرَ اِبْن عَبْدُوس أَنَّ اِبْن نَافِع رَوَى عَنْ مَالِك فِي الَّذِي يَجْمَع بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَنَّهُ يَتَيَمَّم لِكُلِّ صَلَاة . وَقَالَ أَبُو الْفَرَج فِيمَنْ ذَكَرَ صَلَوَات : إِنْ قَضَاهُنَّ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَذَلِكَ جَائِز لَهُ . وَهَذَا عَلَى أَنَّ طَلَب الْمَاء لَيْسَ بِشَرْطٍ . وَالْأَوَّل أَصَحّ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الصَّعِيد : وَجْه الْأَرْض كَانَ عَلَيْهِ تُرَاب أَوْ لَمْ يَكُنْ ; قَالَهُ الْخَلِيل وَابْن الْأَعْرَابِيّ وَالزَّجَّاج . قَالَ الزَّجَّاج : لَا أَعْلَم فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْل اللُّغَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُزُرًا " [ الْكَهْف : 8 ] أَيْ أَرْضًا غَلِيظَة لَا تُنْبِت شَيْئًا . وَقَالَ تَعَالَى " فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا " [ الْكَهْف : 40 ] . وَمِنْهُ قَوْل ذِي الرُّمَّة : كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ دَبَّابَةٌ فِي عِظَام الرَّأْسِ خُرْطُومُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا لِأَنَّهُ نِهَايَة مَا يُصْعَد إِلَيْهِ مِنْ الْأَرْض . وَجَمْع الصَّعِيد صُعُدَات ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوس فِي الصُّعُدَات ) . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهِ مِنْ أَجْل تَقْيِيده بِالطَّيِّبِ ; فَقَالَتْ طَائِفَة : يَتَيَمَّم بِوَجْهِ الْأَرْض كُلّه تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمْلًا أَوْ حِجَارَة أَوْ مَعْدِنًا أَوْ سَبْخَة . هَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَالطَّبَرِيّ . و " طَيِّبًا " مَعْنَاهُ طَاهِرًا . وَقَالَتْ فُرْقَة : " طَيِّبًا " حَلَالًا ; وَهَذَا قَلِق . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف : الصَّعِيد التُّرَاب الْمُنْبِت وَهُوَ الطَّيِّب ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَالْبَلَد الطَّيِّب يَخْرُج نَبَاته بِإِذْنِ رَبّه " [ الْأَعْرَاف : 58 ] فَلَا يَجُوز التَّيَمُّم عِنْدهمْ عَلَى غَيْره . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَقَع الصَّعِيد إِلَّا عَلَى تُرَاب ذِي غُبَار . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ سُئِلَ أَيّ الصَّعِيد أَطْيَب ؟ فَقَالَ : الْحَرْث . قَالَ أَبُو عُمَر : وَفِي قَوْل اِبْن عَبَّاس هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الصَّعِيد يَكُون غَيْر أَرْض الْحَرْث . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُوَ التُّرَاب خَاصَّة . وَفِي كِتَاب الْخَلِيل : تَيَمَّمْ بِالصَّعِيدِ , أَيْ خُذْ مِنْ غُبَاره ; حَكَاهُ اِبْن فَارِس . وَهُوَ يَقْتَضِي التَّيَمُّم بِالتُّرَابِ فَإِنَّ الْحَجَر الصَّلْد لَا غُبَار عَلَيْهِ . وَقَالَ اِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيّ أَنْ يَعْلَق التُّرَاب بِالْيَدِ وَيَتَيَمَّم بِهِ نَقْلًا إِلَى أَعْضَاء التَّيَمُّم , كَالْمَاءِ يُنْقَل إِلَى أَعْضَاء الْوُضُوء . قَالَ اِلْكِيَا : وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظ الصَّعِيد لَيْسَ نَصًّا فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ , إِلَّا أَنَّ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( جُعِلْت لِيَ الْأَرْض مَسْجِدًا وَتُرَابهَا طَهُورًا ) بَيَّنَ ذَلِكَ .
قُلْت : فَاسْتَدَلَّ أَصْحَاب هَذِهِ الْمَقَالَة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَجُعِلَتْ تَرِبَتْهَا لَنَا طَهُورًا ) وَقَالُوا : هَذَا مِنْ بَاب الْمُطْلَق وَالْمُقَيَّد وَلَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَاب النَّصّ عَلَى بَعْض أَشْخَاص الْعُمُوم , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : 68 ] وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله " وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ " [ الْبَقَرَة : 98 ] . وَقَدْ حَكَى أَهْل اللُّغَة أَنَّ الصَّعِيد اِسْم لِوَجْهِ الْأَرْض كَمَا ذَكَرْنَا , وَهُوَ نَصّ الْقُرْآن كَمَا بَيَّنَّا , وَلَيْسَ بَعْد بَيَان اللَّه بَيَان . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجُنُبِ : ( عَلَيْك بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيك ) وَسَيَأْتِي . فَ " صَعِيدًا " عَلَى هَذَا ظَرْف مَكَان . وَمَنْ جَعَلَهُ لِلتُّرَابِ فَهُوَ مَفْعُول بِهِ بِتَقْدِيرِ حَذْف الْبَاء أَيْ بِصَعِيدٍ . و " طَيِّبًا " نَعْت لَهُ . وَمَنْ جَعَلَ " طَيِّبًا " بِمَعْنَى حَلَالًا نَصَبَهُ عَلَى الْحَال أَوْ الْمَصْدَر .
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ مَكَان الْإِجْمَاع مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ الرَّجُل عَلَى تُرَاب مُنْبِت طَاهِر غَيْر مَنْقُول وَلَا مَغْصُوب . وَمَكَان الْإِجْمَاع فِي الْمَنْع أَنْ يَتَيَمَّم الرَّجُل عَلَى الذَّهَب الصِّرْف وَالْفِضَّة وَالْيَاقُوت وَالزُّمُرُّد وَالْأَطْعِمَة كَالْخُبْزِ وَاللَّحْم وَغَيْرهمَا , أَوْ عَلَى النَّجَاسَات . وَاخْتُلِفَ فِي غَيْر هَذَا كَالْمَعَادِنِ ; فَأُجِيزَ وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَغَيْره . وَمُنِعَ وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَغَيْره . وَقَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَيَجُوز عِنْد مَالِك التَّيَمُّم عَلَى الْحَشِيش إِذَا كَانَ دُون الْأَرْض , وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي التَّيَمُّم عَلَى الثَّلْج فَفِي الْمُدَوَّنَة وَالْمَبْسُوط جَوَازُهُ ; وَفِي غَيْرهمَا مَنْعه . وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَب فِي التَّيَمُّم عَلَى الْعُود ; فَالْجُمْهُور عَلَى الْمَنْع . وَفِي مُخْتَصَر الْوَقَار أَنَّهُ جَائِز . وَقِيلَ : بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُون مُنْفَصِلًا أَوْ مُتَّصِلًا فَأُجِيزَ عَلَى الْمُتَّصِل وَمُنِعَ فِي الْمُنْفَصِل . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى شَجَرَة ثُمَّ مَسَحَ بِهَا أَجْزَأَهُ . قَالَ : وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ : يَجُوز بِالْأَرْضِ وَكُلّ مَا عَلَيْهَا مِنْ الشَّجَر وَالْحَجَر وَالْمَدَر وَغَيْرهَا , حَتَّى قَالَا : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْجَمَد وَالثَّلْج أَجْزَأَهُ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَأَمَّا التُّرَاب الْمَنْقُول مِنْ طِين أَوْ غَيْره فَجُمْهُور الْمَذْهَب عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم بِهِ , وَفِي الْمَذْهَب الْمَنْع وَهُوَ فِي غَيْر الْمَذْهَب أَكْثَر , وَأَمَّا مَا طُبِخَ كَالْجَصِّ وَالْآجُرّ فَفِيهِ فِي الْمَذْهَب قَوْلَانِ : الْإِجَازَة وَالْمَنْع ; وَفِي التَّيَمُّم عَلَى الْجِدَار خِلَاف .
قُلْت : وَالصَّحِيح الْجَوَاز لِحَدِيثِ أَبِي جُهَيْم بْن الْحَارِث بْن الصِّمَّة الْأَنْصَارِيّ قَالَ : أَقْبَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْو بِئْر جَمَل فَلَقِيَهُ رَجُل فَسَلَّمَ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَار فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ , ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . وَهُوَ دَلِيل عَلَى صِحَّة التَّيَمُّم بِغَيْرِ التُّرَاب كَمَا يَقُول مَالِك وَمَنْ وَافَقَهُ . وَيَرُدّ عَلَى الشَّافِعِيّ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي أَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ تُرَاب طَاهِر ذُو غُبَار يَعْلَق بِالْيَدِ . وَذَكَرَ النَّقَّاش عَنْ اِبْن عُلَيَّة وَابْن كَيْسَان أَنَّهُمَا أَجَازَا التَّيَمُّم بِالْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَان . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خَطَأ بَحْت مِنْ جِهَات . قَالَ أَبُو عُمَر : وَجَمَاعَة الْعُلَمَاء عَلَى إِجَازَة التَّيَمُّم بِالسِّبَاخِ إِلَّا إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِيمَنْ أَدْرَكَهُ التَّيَمُّم وَهُوَ فِي طِين قَالَ : يَأْخُذ مِنْ الطِّين فَيَطْلِي بِهِ بَعْض جَسَده , فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد : يَجُوز التَّيَمُّم بِغُبَارِ اللِّبَد . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَة التَّيَمُّم بِالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخ وَالنُّورَة وَالْجَصّ وَالْجَوْهَر الْمَسْحُوق . قَالَ : فَإِذَا تَيَمَّمَ بِسِحَالَةِ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالصُّفْر وَالنُّحَاس وَالرَّصَاص لَمْ يُجْزِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْس الْأَرْض .
الْمَسْح لَفْظ مُشْتَرَك يَكُون بِمَعْنَى الْجِمَاع , يُقَال : مَسَحَ الرَّجُل الْمَرْأَة إِذَا جَامَعَهَا . وَالْمَسْح : مَسْح الشَّيْء بِالسَّيْفِ وَقَطْعه . وَمَسَحَتْ الْإِبِل يَوْمهَا إِذَا سَارَتْ . وَالْمَسْحَاء الْمَرْأَة الرَّسْحَاء الَّتِي لَا اِسْت لَهَا . وَبِفُلَانٍ مَسْحَة مِنْ جَمَال . وَالْمُرَاد هُنَا بِالْمَسْحِ عِبَارَة عَنْ جَرّ الْيَد عَلَى الْمَمْسُوح خَاصَّة , فَإِنْ كَانَ بِآلَةٍ فَهُوَ عِبَارَة عَنْ نَقْل الْآلَة إِلَى الْيَد وَجَرِّهَا عَلَى الْمَمْسُوح , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى فِي آيَة الْمَائِدَة : " فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ " [ الْمَائِدَة : 6 ] . فَقَوْله " مِنْهُ " يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ نَقْل التُّرَاب إِلَى مَحِلّ التَّيَمُّم . وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَلَا نَشْتَرِطُهُ نَحْنُ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْض وَرَفَعَهُمَا نَفَخَ فِيهِمَا ; وَفِي رِوَايَة : نَفَضَ . وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى عَدَم اِشْتِرَاط الْآلَة ; يُوَضِّحهُ تَيَمُّمه عَلَى الْجِدَار . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدّ فِي مَسْح الرَّأْس بِالْمَاءِ مِنْ بَلَل يُنْقَل إِلَى الرَّأْس , فَكَذَلِكَ الْمَسْح بِالتُّرَابِ لَا بُدّ مِنْ النَّقْل . وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ حُكْم الْوَجْه فِي التَّيَمُّم وَالْوُضُوء الِاسْتِيعَاب وَتَتَبُّع مَوَاضِعه ; وَأَجَازَ بَعْضهمْ أَلَّا يُتَتَبَّع كَالْغُضُونِ فِي الْخُفَّيْنِ وَمَا بَيْنَ الْأَصَابِع فِي الرَّأْس , وَهُوَ فِي الْمَذْهَب قَوْل مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة ; حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة . وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ " فَبَدَأَ بِالْوَجْهِ قَبْل الْيَدَيْنِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُور . وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث عَمَّار فِي " بَاب التَّيَمُّم ضَرْبَة " ذَكَرَ الْيَدَيْنِ قَبْل الْوَجْه . وَقَالَهُ بَعْض أَهْل الْعِلْم قِيَاسًا عَلَى تَنْكِيس الْوُضُوء .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْنَ يَبْلُغ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْيَدَيْنِ ; فَقَالَ اِبْن شِهَاب : إِلَى الْمَنَاكِب . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق . وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُدَ عَنْ الْأَعْمَش أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ إِلَى أَنْصَاف ذِرَاعَيْهِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَمْ يَقُلْ أَحَد بِهَذَا الْحَدِيث فِيمَا حَفِظْت . وَقِيلَ : يَبْلُغ بِهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوء . وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا وَالثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي سَلَمَة وَاللَّيْث كُلّهمْ يَرَوْنَ بُلُوغ الْمِرْفَقَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَرْضًا وَاجِبًا . وَبِهِ قَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم وَابْن نَافِع , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي . قَالَ اِبْن نَافِع : مَنْ تَيَمَّمَ إِلَى الْكُوعَيْنِ أَعَادَ الصَّلَاة أَبَدًا وَقَالَ مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة : يُعِيد فِي الْوَقْت . وَرَوَى التَّيَمُّم إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عُمَر وَبِهِ كَانَ يَقُول . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : سُئِلَ قَتَادَة عَنْ التَّيَمُّم فِي السَّفَر فَقَالَ : كَانَ اِبْن عُمَر يَقُول إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ . وَكَانَ الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ يَقُولَانِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ . قَالَ : وَحَدَّثَنِي مُحَدِّث عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبْزَى عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ) . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : فَذَكَرْته لِأَحْمَد بْن حَنْبَل فَعَجِبَ مِنْهُ وَقَالَ مَا أَحْسَنَهُ ! . وَقَالَتْ طَائِفَة : يَبْلُغ بِهِ إِلَى الْكُوعَيْنِ وَهُمَا الرُّسْغَانِ . رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَالْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَالشَّعْبِيّ فِي رِوَايَة , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَالطَّبَرِيّ . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم . وَقَالَ مَكْحُول : اِجْتَمَعْت أَنَا وَالزُّهْرِيّ فَتَذَاكَرْنَا التَّيَمُّم فَقَالَ الزُّهْرِيّ : الْمَسْح إِلَى الْآبَاط . فَقُلْت : عَمَّنْ أَخَذْت هَذَا ؟ فَقَالَ : عَنْ كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ " فَهِيَ يَد كُلّهَا . قُلْت لَهُ : فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا " [ الْمَائِدَة : 38 ] فَمِنْ أَيْنَ تُقْطَع الْيَد ؟ قَالَ : فَخَصَمْته . وَحُكِيَ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيّ أَنَّ الْكُوعَيْنِ فَرْض وَالْآبَاط فَضِيلَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذَا قَوْل لَا يُعَضِّدهُ قِيَاس وَلَا دَلِيل , وَإِنَّمَا عَمَّمَ قَوْم لَفْظ الْيَد فَأَوْجَبُوهُ مِنْ الْمَنْكِب : وَقَاسَ قَوْم عَلَى الْوُضُوء فَأَوْجَبُوهُ مِنْ الْمَرَافِق وَهَهُنَا جُمْهُور الْأُمَّة , وَوَقَفَ قَوْم مَعَ الْحَدِيث فِي الْكُوعَيْنِ , وَقِيسَ أَيْضًا عَلَى الْقَطْع إِذْ هُوَ حُكْم شَرْعِيّ وَتَطْهِير كَمَا هَذَا تَطْهِير , وَوَقَفَ قَوْم مَعَ حَدِيث عَمَّار فِي الْكَفَّيْنِ . وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْضًا هَلْ يَكْفِي فِي التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة أَنَّ التَّيَمُّم بِضَرْبَتَيْنِ : ضَرْبَة لِلْوَجْهِ وَضَرْبَة لِلْيَدَيْنِ ; وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ , وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَابْن أَبِي سَلَمَة . وَرَوَاهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ اِبْن أَبِي الْجَهْم : التَّيَمُّم بِضَرْبَةٍ وَاحِدَة . وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ فِي الْأَشْهَر عَنْهُ ; وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَالشَّعْبِيّ فِي رِوَايَة . وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَالطَّبَرِيّ . وَهُوَ أَثْبَت مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيث عَمَّار . قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : إِنْ تَيَمَّمَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَة أَجْزَأَهُ . وَقَالَ اِبْن نَافِع : يُعِيد أَبَدًا . قَالَ أَبُو عُمَر وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَن بْن حَيّ : ضَرْبَتَانِ ; يَمْسَح بِكُلِّ ضَرْبَة مِنْهُمَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ . وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَد مِنْ أَهْل الْعِلْم غَيْرهمَا . قَالَ أَبُو عُمَر : لَمَّا اِخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي كَيْفِيَّة التَّيَمُّم وَتَعَارَضَتْ كَانَ الْوَاجِب فِي ذَلِكَ الرُّجُوع إِلَى ظَاهِر الْكِتَاب , وَهُوَ يَدُلّ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَة لِلْوَجْهِ , وَلِلْيَدَيْنِ أُخْرَى إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ , قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوء وَاتِّبَاعًا لِفِعْلِ اِبْن عُمَر ; فَإِنَّهُ مَنْ لَا يُدْفَع عِلْمه بِكِتَابِ اللَّه . وَلَوْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْء وَجَبَ الْوُقُوف عِنْده . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
أَيْ لَمْ يَزَلْ كَائِنًا يَقْبَل الْعَفْو وَهُوَ السَّهْل , وَيَغْفِر الذَّنْب أَيْ يَسْتُر عُقُوبَتَهُ فَلَا يُعَاقِب .
وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالسُّكْرِ سُكْر الْخَمْر ; إِلَّا الضَّحَّاك فَإِنَّهُ قَالَ : الْمُرَاد سُكْر النَّوْم ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا نَعَسَ أَحَدكُمْ فِي الصَّلَاة فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَب عَنْهُ النَّوْم , فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِر فَيَسُبُّ نَفْسه ) . وَقَالَ عَبِيدَة السَّلْمَانِيّ : " وَأَنْتُمْ سُكَارَى " يَعْنِي إِذَا كُنْت حَاقِنًا ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدكُمْ وَهُوَ حَاقِن ) فِي رِوَايَة ( وَهُوَ ضَامٌّ بَيْنَ فَخِذَيْهِ ) .
قُلْت : وَقَوْل الضَّحَّاك وَعَبِيدَة صَحِيح الْمَعْنَى ; فَإِنَّ الْمَطْلُوب مِنْ الْمُصَلِّي الْإِقْبَال عَلَى اللَّه تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَتَرْك الِالْتِفَات إِلَى غَيْره , وَالْخُلُوّ عَنْ كُلّ مَا يُشَوِّش عَلَيْهِ مِنْ نَوْم وَحُقْنَة وَجُوع , وَكُلّ مَا يَشْغَل الْبَال وَيُغَيِّر الْحَال . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا حَضَرَ الْعَشَاء وَأُقِيمَتْ الصَّلَاة فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ ) . فَرَاعَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَال كُلّ مُشَوِّش يَتَعَلَّق بِهِ الْخَاطِر , حَتَّى يُقْبِل عَلَى عِبَادَة رَبّه بِفَرَاغِ قَلْبه وَخَالِص لُبِّهِ , فَيَخْشَع فِي صَلَاته . وَيَدْخُل فِي هَذِهِ الْآيَة : " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتهمْ خَاشِعُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 1 - 2 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ قَوْله تَعَالَى : يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " مَنْسُوخ بِآيَةِ الْمَائِدَة : " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا " [ الْمَائِدَة : 6 ] الْآيَة . فَأُمِرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْل بِأَلَّا يُصَلُّوا سُكَارَى ; ثُمَّ أُمِرُوا بِأَنْ يُصَلُّوا عَلَى كُلّ حَال ; وَهَذَا قَبْل التَّحْرِيم . وَقَالَ مُجَاهِد : نُسِخَتْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْر . وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَة وَقَتَادَة , وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب لِحَدِيثِ عَلِيّ الْمَذْكُور . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَنَادَى مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَعَلَى قَوْل الضَّحَّاك وَعَبِيدَة الْآيَة مُحْكَمَة لَا نَسْخ فِيهَا .
قَوْله تَعَالَى : " لَا تَقْرَبُوا " إِذَا قِيلَ : لَا تَقْرَبْ بِفَتْحِ الرَّاء كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَلَبَّسْ بِالْفِعْلِ , وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاء كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْهُ . وَالْخِطَاب لِجَمَاعَةِ الْأُمَّة الصَّاحِينَ . وَأَمَّا السَّكْرَان إِذَا عَدِمَ الْمَيْزَ لِسُكْرِهِ فَلَيْسَ بِمُخَاطَبٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لِذَهَابِ عَقْله ; وَإِنَّمَا هُوَ مُخَاطَب بِامْتِثَالِ مَا يَجِب عَلَيْهِ , وَبِتَكْفِيرِ مَا ضَيَّعَ فِي وَقْت سُكْره مِنْ الْأَحْكَام الَّتِي تَقَرَّرَ تَكْلِيفه إِيَّاهَا قَبْل السُّكْر .
قَوْله تَعَالَى : " الصَّلَاة " اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالصَّلَاةِ هُنَا ; فَقَالَتْ طَائِفَة : هِيَ الْعِبَادَة الْمَعْرُوفَة نَفْسهَا ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة ; وَلِذَلِكَ قَالَ " حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ " . وَقَالَتْ طَائِفَة : الْمُرَاد مَوَاضِع الصَّلَاة ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ , فَحُذِفَ الْمُضَاف . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى " لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ " [ الْحَجّ : 40 ] فَسَمَّى مَوَاضِع الصَّلَاة صَلَاة . وَيَدُلّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَاز الْعُبُور لِلْجُنُبِ فِي الْمَسْجِد لَا الصَّلَاة فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " الْمُسَافِر إِذَا لَمْ يَجِد الْمَاء فَإِنَّهُ يَتَيَمَّم وَيُصَلِّي ; وَسَيَأْتِي بَيَانه . وَقَالَتْ طَائِفَة : الْمُرَاد الْمَوْضِع وَالصَّلَاة مَعًا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ لَا يَأْتُونَ الْمَسْجِد إِلَّا لِلصَّلَاةِ وَلَا يُصَلُّونَ إِلَّا مُجْتَمِعِينَ , فَكَانَا مُتَلَازِمَيْنِ .
قَوْله تَعَالَى : " وَأَنْتُمْ سُكَارَى " اِبْتِدَاء وَخَبَر , جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ " تَقْرَبُوا " . و " سُكَارَى " جَمْع سَكْرَان ; مِثْل كَسْلَان وَكُسَالَى . وَقَرَأَ النَّخَعِيّ " سَكْرَى " بِفَتْحِ السِّين عَلَى مِثَال فَعْلَى , وَهُوَ تَكْسِير سَكْرَان ; وَإِنَّمَا كُسِرَ عَلَى سَكْرَى لِأَنَّ السُّكْر آفَة تَلْحَق الْعَقْل فَجَرَى مَجْرَى صَرْعَى وَبَابه . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " سُكْرَى " كَحُبْلَى فَهُوَ صِفَة مُفْرَدَة ; وَجَازَ الْإِخْبَار بِالصِّفَةِ الْمُفْرَدَة عَنْ الْجَمَاعَة عَلَى مَا يَسْتَعْمِلُونَهُ مِنْ الْإِخْبَار عَنْ الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ . وَالسُّكْر : نَقِيض الصَّحْو ; يُقَال : سَكِرَ يَسْكَر سَكْرًا , مِنْ بَاب حَمِدَ يَحْمَد . وَسَكِرَتْ عَيْنُهُ تَسْكُر أَيْ تَحَيَّرَتْ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا " [ الْحِجْر : 15 ] . وَسَكَّرْت الشَّقَّ سَدَدْته . فَالسَّكْرَان قَدْ اِنْقَطَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْل .
وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل بَلْ نَصّ عَلَى أَنَّ الشُّرْب كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّل الْإِسْلَام حَتَّى يَنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى السُّكْر . وَقَالَ قَوْم : السُّكْر مُحَرَّم فِي الْعَقْل وَمَا أُبِيحَ فِي شَيْء مِنْ الْأَدْيَان ; وَحَمَلُوا السُّكْر فِي هَذِهِ الْآيَة عَلَى النَّوْم . وَقَالَ الْقَفَّال : يَحْتَمِل أَنَّهُ كَانَ أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ الشَّرَاب مَا يُحَرِّك الطَّبْع إِلَى السَّخَاء وَالشُّجَاعَة وَالْحَمِيَّة .
قُلْت : وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُود فِي أَشْعَارهمْ ; وَقَدْ قَالَ حَسَّان : وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا وَقَدْ أَشْبَعْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " . قَالَ الْقَفَّال : فَأَمَّا مَا يُزِيل الْعَقْل حَتَّى يَصِير صَاحِبه فِي حَدّ الْجُنُون وَالْإِغْمَاء فَمَا أُبِيحَ قَصْده , بَلْ لَوْ اِتَّفَقَ مِنْ غَيْر قَصْد فَيَكُون مَرْفُوعًا عَنْ صَاحِبه .
قُلْت : هَذَا صَحِيح , وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي قِصَّة حَمْزَة . وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة يَجْتَنِبُونَ الشُّرْب أَوْقَات الصَّلَوَات , فَإِذَا صَلَّوْا الْعِشَاء شَرِبُوهَا ; فَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي " الْمَائِدَة " فِي قَوْله تَعَالَى : " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : 91 ] . .
يْ حَتَّى تَعْلَمُوهُ مُتَيَقِّنِينَ فِيهِ مِنْ غَيْر غَلَط . وَالسَّكْرَان لَا يَعْلَم مَا يَقُول ; وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ السَّكْرَان لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقُهُ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَطَاوُس وَعَطَاء وَالْقَاسِم وَرَبِيعَة , وَهُوَ قَوْل اللَّيْث بْن سَعْد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَالْمُزَنِيّ ; وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ وَقَالَ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ طَلَاق الْمَعْتُوه لَا يَجُوز , وَالسَّكْرَان مَعْتُوه كَالْمُوَسْوَسِ مَعْتُوه بِالْوَسْوَاسِ . وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْبَنْج فَذَهَبَ عَقْله أَنَّ طَلَاقه غَيْر جَائِز ; فَكَذَلِكَ مَنْ سَكِرَ مِنْ الشَّرَاب . وَأَجَازَتْ طَائِفَة طَلَاقه ; وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَمُعَاوِيَة وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ , وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَأَلْزَمهُ مَالِك الطَّلَاق وَالْقَوَد فِي الْجِرَاح وَالْقَتْل , وَلَمْ يُلْزِمْهُ النِّكَاح وَالْبَيْع . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : أَفْعَال السَّكْرَان وَعُقُوده كُلّهَا ثَابِتَة كَأَفْعَالِ الصَّاحِي , إِلَّا الرِّدَّة فَإِنَّهُ إِذَا اِرْتَدَّ فَإِنَّهُ لَا تَبِينُ مِنْهُ اِمْرَأَته إِلَّا اِسْتِحْسَانًا . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : يَكُون مُرْتَدًّا فِي حَال سُكْره ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُهُ فِي حَال سُكْره وَلَا يَسْتَتِيبُهُ . وَقَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازَرِيّ : وَقَدْ رُوِيَتْ عِنْدنَا رِوَايَة شَاذَّة أَنَّهُ لَا يَلْزَم طَلَاق السَّكْرَان . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم : لَا يَلْزَمهُ طَلَاق وَلَا عَتَاق . قَالَ اِبْن شَاسٍ : وَنَزَّلَ الشَّيْخ أَبُو الْوَلِيد الْخِلَاف عَلَى الْمُخَلِّط الَّذِي مَعَهُ بَقِيَّة مِنْ عَقْله إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِك الِاخْتِلَاط مِنْ نَفْسه فَيُخْطِئ وَيُصِيب . قَالَ : فَأَمَّا السَّكْرَان الَّذِي لَا يَعْرِف الْأَرْض مِنْ السَّمَاء وَلَا الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة , فَلَا اِخْتِلَاف فِي أَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ فِي جَمِيع أَفْعَاله وَأَحْوَاله فِيمَا بَيْنه وَبَيْنَ النَّاس , وَفِيمَا بَيْنه وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى أَيْضًا ; إِلَّا فِيمَا ذَهَبَ وَقْته مِنْ الصَّلَوَات , فَقِيلَ : إِنَّهَا لَا تَسْقُط عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَجْنُون ; مِنْ أَجْل أَنَّهُ بِإِدْخَالِهِ السُّكْر عَلَى نَفْسه كَالْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتهَا . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : حَدُّ السُّكْر اِخْتِلَال الْعَقْل ; فَإِذَا اُسْتُقْرِئَ فَخَلَّطَ فِي قِرَاءَته وَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يُعْرَفُ جُلِدَ . وَقَالَ أَحْمَد : إِذَا تَغَيَّرَ عَقْله عَنْ حَال الصِّحَّة فَهُوَ سَكْرَان ; وَحُكِيَ عَنْ مَالِك نَحْوه . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : إِذَا خَلَّطَ فِي قِرَاءَته فَهُوَ سَكْرَان ; اِسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : " حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ " . فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَم مَا يَقُول تَجَنَّبَ الْمَسْجِد مَخَافَة التَّلْوِيث ; وَلَا تَصِحّ صَلَاته وَإِنْ صَلَّى قَضَى . وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَعْلَم مَا يَقُول فَأَتَى بِالصَّلَاةِ فَحُكْمُهُ حُكْم الصَّاحِي .
عَطْف عَلَى مَوْضِع الْجُمْلَة الْمَنْصُوبَة فِي قَوْله : " حَتَّى تَعْلَمُوا " أَيْ لَا تُصَلُّوا وَقَدْ أَجْنَبْتُمْ . وَيُقَال : تَجَنَّبْتُمْ وَأَجْنَبْتُمْ وَجَنَّبْتُمْ بِمَعْنًى . وَلَفْظ الْجُنُب لَا يُؤَنَّث وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَع ; لِأَنَّهُ عَلَى وَزْن الْمَصْدَر كَالْبُعْدِ وَالْقُرْب . وَرُبَّمَا خَفَّفُوهُ فَقَالُوا : جَنْب ; وَقَدْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ قَوْم . وَقَالَ الْفَرَّاء : يُقَال جَنَبَ الرَّجُل وَأَجْنَبَ مِنْ الْجَنَابَة . وَقِيلَ : يُجْمَع الْجُنُب فِي لُغَة عَلَى أَجْنَاب ; مِثْل عُنُق وَأَعْنَاق , وَطُنُب وَأَطْنَاب . وَمَنْ قَالَ لِلْوَاحِدِ جَانِب قَالَ فِي الْجَمْع : جُنَّاب ; كَقَوْلِك : رَاكِب وَرُكَّاب . وَالْأَصْل الْبُعْد ; كَأَنَّ الْجُنُب بَعُدَ بِخُرُوجِ الْمَاء الدَّافِق عَنْ حَال الصَّلَاة ; قَالَ : فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ فَإِنِّي اِمْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ وَرَجُل جُنُب : غَرِيب . وَالْجَنَابَة مُخَالَطَة الرَّجُل الْمَرْأَة .
وَالْجُمْهُور مِنْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْجُنُب هُوَ غَيْر الطَّاهِر مِنْ إِنْزَال أَوْ مُجَاوَزَة خِتَان . وَرُوِيَ عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَلَّا غُسْل إِلَّا مِنْ إِنْزَال ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّمَا الْمَاء مِنْ الْمَاء ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِذَا جَامَعَ الرَّجُل الْمَرْأَة فَلَمْ يُنْزِلْ ؟ قَالَ : ( يَغْسِل مَا مَسَّ الْمَرْأَة مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأ وَيُصَلِّي ) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه : الْغُسْل أَحْوَطُ ; وَذَلِكَ الْآخَر إِنَّمَا بَيَّنَّاهُ لِاخْتِلَافِهِمْ . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه بِمَعْنَاهُ , وَقَالَ فِي آخِره : قَالَ أَبُو الْعَلَاء بْن الشِّخِّيرِ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَخُ حَدِيثُهُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا يَنْسَخ الْقُرْآن بَعْضُهُ بَعْضًا . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : هَذَا مَنْسُوخ . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ : كَانَ هَذَا الْحُكْم فِي أَوَّل الْإِسْلَام ثُمَّ نُسِخَ .
قُلْت : عَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاء الْأَمْصَار , وَأَنَّ الْغُسْل يَجِب بِنَفْسِ اِلْتِقَاء الْخِتَانَيْنِ . وَقَدْ كَانَ فِيهِ خِلَاف بَيْنَ الصَّحَابَة ثُمَّ رَجَعُوا فِيهِ إِلَى رِوَايَة عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبهَا الْأَرْبَع وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ مِنْهُ وَجَبَ الْغُسْل ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبهَا الْأَرْبَع ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْل ) . زَادَ مُسْلِم ( وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ) . وَقَالَ اِبْن الْقَصَّار : وَأَجْمَعَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَعْد خِلَاف مَنْ قَبْلهمْ عَلَى الْأَخْذ بِحَدِيثِ ( إِذَا اِلْتَقَى الْخِتَانَانِ ) وَإِذَا صَحَّ الْإِجْمَاع بَعْد الْخِلَاف كَانَ مُسْقِطًا لِلْخِلَافِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : لَا نَعْلَم أَحَدًا قَالَ بِهِ بَعْد خِلَاف الصَّحَابَة إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَعْمَش ثُمَّ بَعْده دَاوُدُ الْأَصْبَهَانِيّ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَمَلَ النَّاس عَلَى تَرْك الْأَخْذ بِحَدِيثِ ( الْمَاء مِنْ الْمَاء ) لَمَّا اِخْتَلَفُوا . وَتَأَوَّلَهُ اِبْن عَبَّاس عَلَى الِاحْتِلَام ; أَيْ إِنَّمَا يَجِب الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ مِنْ إِنْزَال الْمَاء فِي الِاحْتِلَام . وَمَتَى لَمْ يَكُنْ إِنْزَالٌ وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ يُجَامِع فَلَا غُسْل . وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ كَافَّة الْعُلَمَاء .
يُقَال : عَبَرْت الطَّرِيق أَيْ قَطَعْته مِنْ جَانِب إِلَى جَانِب . وَعَبَرْت النَّهَر عُبُورًا , وَهَذَا عَبَرَ النَّهَر أَيْ شَطَّهُ , وَيُقَال : عُبْر بِالضَّمِّ . وَالْمَعْبَر مَا يُعْبَر عَلَيْهِ مِنْ سَفِينَة أَوْ قَنْطَرَة . وَهَذَا عَابِر السَّبِيل أَيْ مَارّ الطَّرِيق . وَنَاقَة عُبْرُ أَسْفَار : لَا تَزَال يُسَافَر عَلَيْهَا وَيُقْطَع بِهَا الْفَلَاة وَالْهَاجِرَة لِسُرْعَةِ مَشْيهَا . قَالَ الشَّاعِر : عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ شِمِلَّةٌ عُبْر الْهَوَاجِرِ كَالْهِزَفِّ الْخَاضِبِ وَعَبَرَ الْقَوْم مَاتُوا . وَأَنْشَدَ : قَضَاءُ اللَّهِ يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ وَيَلْعَبُ بِالْجَزُوعِ وَبِالصَّبُورِ فَإِنْ نَعْبُرْ فَإِنَّ لَنَا لُمَاتٍ وَإِنْ نَغْبُرْ فَنَحْنُ عَلَى نُذُورِ يَقُول : إِنْ مُتْنَا فَلَنَا أَقْرَان , وَإِنْ بَقِينَا فَلَا بُدّ لَنَا مِنْ الْمَوْت ; حَتَّى كَأَنَّ عَلَيْنَا فِي إِتْيَانه نُذُورًا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَوْله : " إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَابْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَالْحَكَم : عَابِر السَّبِيل الْمُسَافِر . وَلَا يَصِحّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَبَ الصَّلَاة وَهُوَ جُنُب إِلَّا بَعْد الِاغْتِسَال , إِلَّا الْمُسَافِر فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ ; وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَة ; لِأَنَّ الْغَالِب فِي الْمَاء لَا يُعْدَم فِي الْحَضَر ; فَالْحَاضِر يَغْتَسِل لِوُجُودِ الْمَاء , وَالْمُسَافِر يَتَيَمَّم إِذَا لَمْ يَجِدهُ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي فِي الْجُنُب الْمُسَافِر يَمُرّ عَلَى مَسْجِد فِيهِ عَيْن مَاء يَتَيَمَّم الصَّعِيد وَيَدْخُل الْمَسْجِد وَيَسْتَقِي مِنْهَا ثُمَّ يُخْرِج الْمَاء مِنْ الْمَسْجِد . وَرَخَّصَتْ طَائِفَة فِي دُخُول الْجُنُب الْمَسْجِد . وَاحْتَجَّ بَعْضهمْ بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُؤْمِن لَيْسَ بِنَجِسٍ ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَابْن مَسْعُود وَعِكْرِمَة وَالنَّخَعِيّ : عَابِر السَّبِيل الْخَاطِر الْمُجْتَاز ; وَهُوَ قَوْل عَمْرو بْن دِينَار وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يَمُرّ الْجُنُب فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَلَّا يَجِد بُدًّا فَيَتَيَمَّم وَيَمُرّ فِيهِ ; هَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيّ وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ . وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق فِي الْجُنُب : إِذَا تَوَضَّأَ لَا بَأْس أَنْ يَجْلِس فِي الْمَسْجِد حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَرَوَى بَعْضهمْ فِي سَبَب الْآيَة أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَار كَانَتْ أَبْوَاب دُورهمْ شَارِعَةً فِي الْمَسْجِد , فَإِذَا أَصَابَ أَحَدهمْ الْجَنَابَة اُضْطُرَّ إِلَى الْمُرُور فِي الْمَسْجِد .
قُلْت : وَهَذَا صَحِيح ; يُعَضِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَسْرَة بِنْت دَجَاجَة قَالَتْ : سَمِعْت عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا تَقُول : جَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوه بُيُوت أَصْحَابه شَارِعَة فِي الْمَسْجِد ; فَقَالَ : ( وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوت عَنْ الْمَسْجِد ) . ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصْنَع الْقَوْم شَيْئًا رَجَاء أَنْ تَنْزِل لَهُمْ رُخْصَة فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : ( وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوت عَنْ الْمَسْجِد فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِد لِحَائِضٍ وَلَا جُنُب ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : ( لَا تَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِد خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْر ) . فَأَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْأَبْوَاب لِمَا كَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اِتِّخَاذ الْمَسْجِد طَرِيقًا وَالْعُبُور فِيهِ . وَاسْتَثْنَى خَوْخَة أَبِي بَكْر إِكْرَامًا لَهُ وَخُصُوصِيَّةً ; لِأَنَّهُمَا كَانَا لَا يَفْتَرِقَانِ غَالِبًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِد وَلَا يَجْلِس فِيهِ إِلَّا عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَرَوَاهُ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ وَلَا يَصْلُح أَنْ يُجْنِب فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَنَا وَعَلِيّ ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ ; لِأَنَّ بَيْت عَلِيّ كَانَ فِي الْمَسْجِد , كَمَا كَانَ بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد , وَإِنْ كَانَ الْبَيْتَانِ لَمْ يَكُونَا فِي الْمَسْجِد وَلَكِنْ كَانَا مُتَّصِلَيْنِ بِالْمَسْجِدِ وَأَبْوَابهمَا كَانَتْ فِي الْمَسْجِد فَجَعَلَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِد فَقَالَ : ( مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ ) الْحَدِيث . وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَيْت عَلِيّ كَانَ فِي الْمَسْجِد مَا رَوَاهُ اِبْن شِهَاب عَنْ سَالِم بْن عَبْد اللَّه قَالَ : سَأَلَ رَجُل أَبِي عَنْ عَلِيّ وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَيّهمَا كَانَ خَيْرًا ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : هَذَا بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! وَأَشَارَ إِلَى بَيْت عَلِيّ إِلَى جَنْبه , لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِد غَيْرهمَا ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَلَمْ يَكُونَا يُجْنِبَانِ فِي الْمَسْجِد وَإِنَّمَا كَانَا يُجْنِبَانِ فِي بُيُوتهمَا , وَبُيُوتهمَا مِنْ الْمَسْجِد إِذْ كَانَ أَبْوَابهمَا فِيهِ ; فَكَانَا يَسْتَطْرِقَانِهِ فِي حَال الْجَنَابَة إِذَا خَرَجَا مِنْ بُيُوتِهِمَا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَهُمَا ; وَقَدْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصَّ بِأَشْيَاء , فَيَكُون هَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ , ثُمَّ خَصَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَام فَرَخَّصَ لَهُ فِي مَا لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ لِغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَتْ أَبْوَاب بُيُوتهمْ فِي الْمَسْجِد , فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِد أَبْوَاب بُيُوت غَيْر بَيْتَيْهِمَا ; حَتَّى أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّهَا إِلَّا بَاب عَلِيّ . وَرَوَى عَمْرو بْن مَيْمُون عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سُدُّوا الْأَبْوَاب إِلَّا بَاب عَلِيّ ) فَخَصَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنْ تُرِكَ بَابه فِي الْمَسْجِد , وَكَانَ يُجْنِب فِي بَيْته وَبَيْته فِي الْمَسْجِد . وَأَمَّا قَوْله : ( لَا تَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِد خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْر ) فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَتْ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَبْوَابًا تَطْلُع إِلَى الْمَسْجِد خَوْخَات , وَأَبْوَاب الْبُيُوت خَارِجَة مِنْ الْمَسْجِد ; فَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَام بِسَدِّ تِلْكَ الْخَوْخَات وَتَرْك خَوْخَة أَبِي بَكْر إِكْرَامًا لَهُ . وَالْخَوْخَات كَالْكُوَى وَالْمَشَاكِي , وَبَاب عَلِيّ كَانَ بَاب الْبَيْت الَّذِي كَانَ يَدْخُل مِنْهُ وَيَخْرُج . وَقَدْ فَسَّرَ اِبْن عُمَر ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِد غَيْرهمَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَطَاء بْن يَسَار أَنَّهُ قَالَ : كَانَ رِجَال مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَة فَيَتَوَضَّئُونَ وَيَأْتُونَ الْمَسْجِد فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اللُّبْث فِي الْمَسْجِد لِلْجُنُبِ جَائِز إِذَا تَوَضَّأَ ; وَهُوَ مَذْهَب أَحْمَد وَإِسْحَاق كَمَا ذَكَرْنَا . فَالْجَوَاب أَنَّ الْوُضُوء لَا يَرْفَع حَدَثَ الْجَنَابَة , وَكُلّ مَوْضِع وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ وَأُكْرِمَ عَنْ النَّجَاسَة الظَّاهِرَة يَنْبَغِي أَلَّا يَدْخُلَهُ مَنْ لَا يُرْضَى لِتِلْكَ الْعِبَادَة , وَلَا يَصِحّ لَهُ أَنْ يَتَلَبَّس بِهَا . وَالْغَالِب مِنْ أَحْوَالهمْ الْمَنْقُولَة أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَسِلُونَ فِي بُيُوتهمْ . فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُل بِالْمُحْدِثِ . قُلْنَا : ذَلِكَ يَكْثُر وُقُوعه فَيَشُقّ الْوُضُوء مِنْهُ ; وَفِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " مَا يُغْنِي وَيَكْفِي . وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوز لَهُ اللُّبْث فِي الْمَسْجِد فَأَحْرَى أَلَّا يَجُوز لَهُ مَسُّ الْمُصْحَف وَلَا الْقِرَاءَة فِيهِ ; إِذْ هُوَ أَعْظَم حُرْمَة . وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " الْوَاقِعَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَيُمْنَع الْجُنُب عِنْد عُلَمَائِنَا مِنْ قِرَاءَة الْقُرْآن غَالِبًا إِلَّا الْآيَات الْيَسِيرَة لِلتَّعَوُّذِ . وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَقْرَأ الْجُنُب وَالْحَائِض شَيْئًا مِنْ الْقُرْآن ) أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث سُفْيَان عَنْ مِسْعَر , وَشُعْبَة عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْجُبهُ عَنْ قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء إِلَّا أَنْ يَكُون جُنُبًا . قَالَ سُفْيَان : قَالَ لِي شُعْبَة : مَا أُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَحْسَنَ مِنْهُ . وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , حَدَّثَنَا شُعْبَة , عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة ; فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ , وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس , عَنْ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَقْرَأ أَحَدُنَا الْقُرْآن وَهُوَ جُنُب ; أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَرَوَى عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : كَانَ اِبْن رَوَاحَة مُضْطَجِعًا إِلَى جَنْب اِمْرَأَته فَقَامَ إِلَى جَارِيَة لَهُ فِي نَاحِيَة الْحُجْرَة فَوَقَعَ عَلَيْهَا ; وَفَزِعَتْ اِمْرَأَته فَلَمْ تَجِدْهُ فِي مَضْجَعِهِ , فَقَامَتْ فَخَرَجَتْ فَرَأَتْهُ عَلَى جَارِيَتِهِ , فَرَجَعَتْ إِلَى الْبَيْت فَأَخَذَتْ الشَّفْرَة ثُمَّ خَرَجَتْ , وَفَرَغَ فَقَامَ فَلَقِيَهَا تَحْمِلُ الشَّفْرَة فَقَالَ مَهْيَمْ ؟ قَالَتْ : مَهْيَمْ ! لَوْ أَدْرَكْتُك حَيْثُ رَأَيْتُك لَوَجَأْت بَيْنَ كَتِفَيْك بِهَذِهِ الشَّفْرَة . قَالَ : وَأَيْنَ رَأَيْتنِي ؟ قَالَتْ : رَأَيْتُك عَلَى الْجَارِيَة ; فَقَالَ : مَا رَأَيْتنِي ; وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُنَا الْقُرْآنَ وَهُوَ جُنُب . قَالَتْ : فَاقْرَأْ , وَكَانَتْ لَا تَقْرَأ الْقُرْآن , فَقَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ كَمَا لَاحَ مَشْهُورٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبُهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اِسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ فَقَالَتْ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَكَذَّبْت الْبَصَر . ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ; فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
نَهَى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الصَّلَاة إِلَّا بَعْد الِاغْتِسَال ; وَالِاغْتِسَال مَعْنًى مَعْقُول , وَلَفْظه عِنْد الْعَرَب مَعْلُوم , يُعَبَّر بِهِ عَنْ إِمْرَار الْيَد مَعَ الْمَاء عَلَى الْمَغْسُول ; وَلِذَلِكَ فَرَّقَتْ الْعَرَب بَيْنَ قَوْلهمْ : غَسَلْت الثَّوْب , وَبَيْنَ قَوْلهمْ : أَفَضْت عَلَيْهِ الْمَاء وَغَمَسْته فِي الْمَاء . إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاء اِخْتَلَفُوا فِي الْجُنُب يَصُبُّ عَلَى جَسَده الْمَاء أَوْ يَنْغَمِس فِيهِ وَلَا يَتَدَلَّك ; فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَتَدَلَّك ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ الْجُنُب بِالِاغْتِسَالِ , كَمَا أَمَرَ الْمُتَوَضِّئ بِغَسْلِ وَجْهه وَيَدَيْهِ ; وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَضِّئِ بُدّ مِنْ إِمْرَار يَدَيْهِ مَعَ الْمَاء عَلَى وَجْهه وَيَدَيْهِ , فَكَذَلِكَ جَمِيع جَسَد الْجُنُب وَرَأْسهُ فِي حُكْم وَجْه الْمُتَوَضِّئ وَيَدَيْهِ . وَهَذَا قَوْل الْمُزَنِيّ وَاخْتِيَاره . قَالَ أَبُو الْفَرَج عَمْرو بْن مُحَمَّد الْمَالِكِيّ : وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُول مِنْ لَفْظ الْغُسْل ; لِأَنَّ الِاغْتِسَال فِي اللُّغَة هُوَ الِافْتِعَال , وَمَنْ لَمْ يَمُرَّ فَلَمْ يَفْعَل غَيْر صَبِّ الْمَاء لَا يُسَمِّيهِ أَهْل اللِّسَان غَاسِلًا , بَلْ يُسَمُّونَهُ صَابًّا لِلْمَاءِ وَمُنْغَمِسًا فِيهِ . قَالَ : وَعَلَى نَحْو هَذَا جَاءَتْ الْآثَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( تَحْت كُلّ شَعْرَة جَنَابَة فَاغْسِلُوا الشَّعْر وَأَنْقُوا الْبَشَرَة ) قَالَ : وَإِنْقَاؤُهُ - وَاَللَّه أَعْلَم - لَا يَكُون إِلَّا بِتَتَبُّعِهِ ; عَلَى حَدّ مَا ذَكَرْنَا .
قُلْت : لَا حُجَّة فِيمَا اِسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ الْحَدِيث لِوَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ قَدْ خُولِفَ فِي تَأْوِيله ; قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ( وَأَنْقُوا الْبَشَرَة ) أَرَادَ غَسْل الْفَرْج وَتَنْظِيفه , وَأَنَّهُ كَنَّى بِالْبَشَرَةِ عَنْ الْفَرْج . قَالَ اِبْن وَهْب : مَا رَأَيْت أَحَدًا أَعْلَم بِتَفْسِيرِ الْأَحَادِيث مِنْ اِبْن عُيَيْنَة . الثَّانِي : أَنَّ الْحَدِيث أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ فِيهِ : وَهَذَا الْحَدِيث ضَعِيف ; كَذَا فِي رِوَايَة اِبْن دَاسَةَ . وَفِي رِوَايَة اللُّؤْلُؤِيّ عَنْهُ : الْحَارِث بْن وَجِيه ضَعِيف , حَدِيثه مُنْكَر ; فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ , وَبَقِيَ الْمُعَوَّل عَلَى اللِّسَان كَمَا بَيَّنَّا . وَيُعَضِّدهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَيْهِ , فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ وَلَمْ يَغْسِلهُ ; رَوَتْهُ عَائِشَة , وَنَحْوه عَنْ أُمّ قَيْس بِنْت مِحْصَن ; أَخْرَجَهُمَا مُسْلِم . وَقَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء : يُجْزِئ الْجُنُبَ صَبُّ الْمَاء وَالِانْغِمَاس فِيهِ إِذَا أَسْبَغَ وَعَمَّ وَإِنْ لَمْ يَتَدَلَّك ; عَلَى مُقْتَضَى حَدِيث مَيْمُونَة وَعَائِشَة فِي غُسْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رَوَاهُمَا الْأَئِمَّة , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفِيض الْمَاء عَلَى جَسَده ; وَبِهِ قَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم , وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْفَرَج وَرَوَاهُ عَنْ مَالِك ; قَالَ : وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِمْرَارِ الْيَدَيْنِ فِي الْغُسْل لِأَنَّهُ لَا يَكَاد مَنْ لَمْ يُمِرَّ يَدَيْهِ عَلَيْهِ يَسْلَم مِنْ تَنَكُّب الْمَاء عَنْ بَعْض مَا يَجِب عَلَيْهِ مِنْ جَسَده . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَعْجَب لِأَبِي الْفَرَج الَّذِي رَوَى وَحَكَى عَنْ صَاحِب الْمَذْهَب أَنَّ الْغُسْل دُون ذَلِكَ يُجْزِئ ! وَمَا قَالَهُ قَطُّ مَالِك نَصًّا وَلَا تَخْرِيجًا , وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْهَامه .
قُلْت : قَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِك نَصًّا ; قَالَ مَرْوَان بْن مُحَمَّد الظَّاهِرِيّ وَهُوَ ثقَة مِنْ ثِقَات الشَّامِيِّينَ : سَأَلْت مَالِك بْن أَنَس عَنْ رَجُل اِنْغَمَسَ فِي مَاء وَهُوَ جُنُب وَلَمْ يَتَوَضَّأ , قَالَ : مَضَتْ صَلَاته . قَالَ أَبُو عُمَر : فَهَذِهِ الرِّوَايَة فِيهَا لَمْ يَتَدَلَّك وَلَا تَوَضَّأَ , وَقَدْ أَجْزَأَهُ عِنْد مَالِك . وَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبه أَنَّهُ لَا يُجْزِئهُ حَتَّى يَتَدَلَّك ; قِيَاسًا عَلَى غَسْل الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ . وَحُجَّة الْجَمَاعَة أَنَّ كُلّ مَنْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاء فَقَدْ اِغْتَسَلَ . وَالْعَرَب تَقُول : غَسَلَتْنِي السَّمَاء . وَقَدْ حَكَتْ عَائِشَة وَمَيْمُونَة صِفَة غُسْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرَا تَدَلُّكًا , وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا تَرَكَهُ ; لِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّه مُرَادَهُ , وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ عَنْهُ ; كَمَا نُقِلَ تَخْلِيل أُصُول شَعْره بِالْمَاءِ وَغَرْفه عَلَى رَأْسه , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ صِفَة غُسْله وَوُضُوئِهِ عَلَيْهِ السَّلَام . قَالَ أَبُو عُمَر : وَغَيْر نَكِير أَنْ يَكُون الْغُسْل فِي لِسَان الْعَرَب مَرَّة بِالْعَرْكِ وَمَرَّة بِالصَّبِّ وَالْإِفَاضَة ; وَإِذَا كَانَ هَذَا فَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُون اللَّه جَلَّ وَعَزَّ تَعَبَّدَ عِبَاده فِي الْوُضُوء بِإِمْرَارِ أَيْدِيهمْ عَلَى وُجُوههمْ مَعَ الْمَاء وَيَكُون ذَلِكَ غُسْلًا , وَأَنْ يُفِيضُوا الْمَاء عَلَى أَنْفُسهمْ فِي غُسْل الْجَنَابَة وَالْحَيْض , وَيَكُون ذَلِكَ غُسْلًا مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ غَيْر خَارِج مِنْ اللُّغَة , وَيَكُون كُلّ وَاحِد مِنْ الْأَمْرَيْنِ أَصْلًا فِي نَفْسه , لَا يَجِب أَنْ يُرَدَّ أَحَدهمَا إِلَى صَاحِبه ; لِأَنَّ الْأُصُول لَا يُرَدُّ بَعْضهَا إِلَى بَعْض قِيَاسًا - وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاء الْأُمَّة . وَإِنَّمَا تُرَدّ الْفُرُوع قِيَاسًا عَلَى الْأُصُول . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
حَدِيث مَيْمُونَة وَعَائِشَة يَرُدّ مَا رَوَاهُ شُعْبَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ إِذَا اِغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَة غَسَلَ يَدَيْهِ سَبْعًا وَفَرْجَهُ سَبْعًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كَانَتْ الصَّلَاة خَمْسِينَ , وَالْغُسْل مِنْ الْجَنَابَة سَبْع مِرَار , وَغَسْل الْبَوْل مِنْ الثَّوْب سَبْع مِرَار ; فَلَمْ يَزَلْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَل حَتَّى جُعِلَتْ الصَّلَاة خَمْسًا , وَالْغُسْل مِنْ الْجَنَابَة مَرَّة , وَالْغَسْل مِنْ الْبَوْل مَرَّة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَإِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث عَنْ اِبْن عُمَر فِيهِ ضَعْف وَلِينٌ , وَإِنْ كَانَ أَبُو دَاوُدَ قَدْ خَرَّجَهُ وَاَلَّذِي قَبْله عَنْ شُعْبَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس , وَشُعْبَة هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَيَرُدّهُمَا حَدِيث عَائِشَة وَمَيْمُونَة .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِمْرَار يَده عَلَى جَسَده فَقَدْ قَالَ سَحْنُون : يَجْعَل مَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْهُ , أَوْ يُعَالِجُهُ بِخِرْقَةٍ . وَفِي الْوَاضِحَة : يُمِرّ يَدَيْهِ عَلَى مَا يُدْرِكهُ مِنْ جَسَده , ثُمَّ يُفِيض الْمَاء حَتَّى يَعُمّ مَا لَمْ تَبْلُغهُ يَدَاهُ .
وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي تَخْلِيل الْجُنُب لِحْيَتَهُ ; فَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَرَوَى أَشْهَب عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ . قَالَ اِبْن عَبْد الْحَكَم : ذَلِكَ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّل شَعْره فِي غُسْل الْجَنَابَة , وَذَلِكَ عَامّ وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَر فِيهِ شَعْر رَأْسه ; وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْعُلَمَاء . وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ اِسْتِيعَاب جَمِيع الْجَسَد فِي الْغُسْل وَاجِب , وَالْبَشَرَة الَّتِي تَحْت اللِّحْيَة مِنْ جُمْلَته ; فَوَجَبَ إِيصَال الْمَاء إِلَيْهَا وَمُبَاشَرَتهَا بِالْيَدِ . وَإِنَّمَا اِنْتَقَلَ الْفَرْض إِلَى الشَّعْر فِي الطَّهَارَة الصُّغْرَى لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة عَلَى التَّخْفِيف , وَنِيَابَة الْأَبْدَال فِيهَا مِنْ غَيْر ضَرُورَة ; وَلِذَلِكَ جَازَ فِيهَا الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ وَلَمْ يَجُزْ فِي الْغُسْل .
قُلْت : وَيُعَضِّد هَذَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَحْت كُلّ شَعْرَة جَنَابَة ) .
وَقَدْ بَالَغَ قَوْم فَأَوْجَبُوا الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى تَغْتَسِلُوا " مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة ; وَلِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَة الْوَجْه وَحُكْمهمَا حُكْم ظَاهِر الْوَجْه كَالْخَدِّ وَالْجَبِين , فَمَنْ تَرَكَهُمَا وَصَلَّى أَعَادَ كَمَنْ تَرَكَ لُمْعَة , وَمَنْ تَرَكَهُمَا فِي وُضُوئِهِ فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ . وَقَالَ مَالِك : لَيْسَتَا بِفَرْضٍ لَا فِي الْجَنَابَة وَلَا فِي الْوُضُوء ; لِأَنَّهُمَا بَاطِنَانِ فَلَا يَجِب كَدَاخِلِ الْجَسَد . وَبِذَلِكَ قَالَ مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ وَاللَّيْث بْن سَعْد وَالْأَوْزَاعِيّ وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ . وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان : هُمَا فَرْض فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل جَمِيعًا ; وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَبَعْض أَصْحَاب دَاوُدَ . وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ وَعَطَاء مِثْل هَذَا الْقَوْل . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَد أَيْضًا أَنَّ الْمَضْمَضَة سُنَّة وَالِاسْتِنْشَاق فَرْض ; وَقَالَ بِهِ بَعْض أَصْحَاب دَاوُدَ . وَحُجَّة مَنْ لَمْ يُوجِبْهُمَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي كِتَابه , وَلَا أَوْجَبَهُمَا رَسُوله وَلَا اِتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَيْهِ ; وَالْفَرَائِض لَا تَثْبُت إِلَّا بِهَذِهِ الْوُجُوه . اِحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُمَا بِالْآيَةِ , وَقَوْله تَعَالَى : " فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ " فَمَا وَجَبَ فِي الْوَاحِد مِنْ الْغُسْل وَجَبَ فِي الْآخَر , وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْفَظ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي وُضُوئِهِ وَلَا فِي غُسْله مِنْ الْجَنَابَة ; وَهُوَ الْمُبَيِّن عَنْ اللَّه مُرَادَهُ قَوْلًا وَعَمَلًا . اِحْتَجَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْمَضْمَضَة وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا , وَأَفْعَالُهُ مَنْدُوب إِلَيْهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ , وَفَعَلَ الِاسْتِنْشَاقَ وَأَمَرَ بِهِ ; وَأَمْره عَلَى الْوُجُوب أَبَدًا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَلَا بُدّ فِي غُسْل الْجَنَابَة مِنْ النِّيَّة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى تَغْتَسِلُوا " وَذَلِكَ يَقْتَضِي النِّيَّة ; وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر , وَكَذَلِكَ الْوُضُوء وَالتَّيَمُّم . وَعَضَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين " [ الْبَيِّنَة : 5 ] وَالْإِخْلَاص النِّيَّة فِي التَّقَرُّب إِلَى اللَّه تَعَالَى , وَالْقَصْد لَهُ بِأَدَاءِ مَا اِفْتَرَضَ عَلَى عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ) وَهَذَا عَمَل . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن : يُجْزِئ الْوُضُوء وَالتَّيَمُّم بِغَيْرِ نِيَّة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : كُلّ طَهَارَة بِالْمَاءِ فَإِنَّهَا تُجْزِئ بِغَيْرِ نِيَّة , وَلَا يُجْزِئ التَّيَمُّم إِلَّا بِنِيَّةٍ ; قِيَاسًا عَلَى إِزَالَة النَّجَاسَة بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَاب بِغَيْرِ نِيَّة . وَرَوَاهُ الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ مَالِك .
وَأَمَّا قَدْر الْمَاء الَّذِي يُغْتَسَل بِهِ ; فَرَوَى مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر عَنْ عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِل مِنْ إِنَاء هُوَ الْفَرَق مِنْ الْجَنَابَة . " الْفَرَق " تُحَرَّك رَاؤُهُ وَتُسَكَّن . قَالَ اِبْن وَهْب : " الْفَرَق " مِكْيَال مِنْ الْخَشَب , كَانَ اِبْن شِهَاب يَقُول : إِنَّهُ يَسَع خَمْسَة أَقْسَاط بِأَقْسَاطِ بَنِي أُمَيَّة . وَقَدْ فَسَّرَ مُحَمَّد بْن عِيسَى الْأَعْشَى " الْفَرَق " فَقَالَ : ثَلَاثَة آصُع , قَالَ : وَهِيَ خَمْسَة أَقْسَاط , قَالَ : وَفِي الْخَمْسَة أَقْسَاط اِثْنَا عَشَرَ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم قَالَ سُفْيَان : " الْفَرَق " ثَلَاثَة آصُع . وَعَنْ أَنَس قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد . وَفِي رِوَايَة : يَغْتَسِل بِخَمْسَةِ مَكَاكِيك وَيَتَوَضَّأ بِمَكُّوكٍ . وَهَذِهِ الْأَحَادِيث تَدُلّ عَلَى اِسْتِحْبَاب تَقْلِيل الْمَاء مِنْ غَيْر كَيْل وَلَا وَزْن , يَأْخُذ مِنْهُ الْإِنْسَان بِقَدْرِ مَا يَكْفِي وَلَا يُكْثِر مِنْهُ , فَإِنَّ الْإِكْثَار مِنْهُ سَرَف وَالسَّرَف مَذْمُوم . وَمَذْهَب الْإِبَاضِيَّة الْإِكْثَار مِنْ الْمَاء , وَذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَان .
هَذِهِ آيَة التَّيَمُّم , نَزَلَتْ فِي عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف أَصَابَتْهُ جَنَابَة وَهُوَ جَرِيح ; فَرُخِّصَ لَهُ فِي أَنْ يَتَيَمَّم , ثُمَّ صَارَتْ الْآيَة عَامَّة فِي جَمِيع النَّاس . وَقِيلَ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدَمِ الصَّحَابَة الْمَاءَ فِي غَزْوَة " الْمُرَيْسِيع " حِينَ اِنْقَطَعَ الْعِقْد لِعَائِشَة . أَخْرَجَ الْحَدِيث مَالِك مِنْ رِوَايَة عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة . وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيّ هَذِهِ الْآيَة فِي كِتَاب التَّفْسِير : حَدَّثَنَا مُحَمَّد قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدَة , عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : هَلَكَتْ قِلَادَة لِأَسْمَاءَ فَبَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبهَا رِجَالًا , فَحَضَرَتْ الصَّلَاة وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوء وَلَمْ يَجِدُوا مَاء فَصَلُّوا وَهُمْ عَلَى غَيْر وُضُوء ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى آيَة التَّيَمُّم .
قُلْت : وَهَذِهِ الرِّوَايَة لَيْسَ فِيهَا ذِكْر لِلْمَوْضِعِ , وَفِيهَا أَنَّ الْقِلَادَة كَانَتْ لِأَسْمَاءَ ; خِلَاف حَدِيث مَالِك . وَذَكَرَ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَة عَلِيّ بْن مُسْهِر عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاء قِلَادَة لَهَا وَهِيَ فِي سَفَر مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْسَلَّتْ مِنْهَا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَكَان يُقَال لَهُ الصُّلْصُل ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ هِشَام أَنَّ الْقِلَادَة كَانَتْ لِأَسْمَاءَ , وَأَنَّ عَائِشَة اِسْتَعَارَتْهَا مِنْ أَسْمَاء . وَهَذَا بَيَان لِحَدِيثِ مَالِك إِذَا قَالَ : اِنْقَطَعَ عِقْد لِعَائِشَةَ , وَلِحَدِيثِ الْبُخَارِيّ إِذْ قَالَ : هَلَكَتْ قِلَادَة لِأَسْمَاءَ . وَفِيهِ أَنَّ الْمَكَان يُقَال لَهُ الصُّلْصُل . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيّ , حَدَّثَنَا سُفْيَان , حَدَّثَنَا هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا سَقَطَتْ قِلَادَتهَا لَيْلَة الْأَبْوَاء , فَأَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ فِي طَلَبهَا , وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ هِشَام أَيْضًا إِضَافَة الْقِلَادَة إِلَيْهَا , لَكِنَّ إِضَافَة مُسْتَعِير بِدَلِيلِ حَدِيث النَّسَائِيّ . وَقَالَ فِي الْمَكَان : " الْأَبْوَاء " كَمَا قَالَ مَالِك , إِلَّا أَنَّهُ مِنْ غَيْر شَكّ . وَفِي حَدِيث مَالِك قَالَ : وَبَعَثْنَا الْبَعِير الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْد تَحْته . وَجَاءَ فِي الْبُخَارِيّ : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهُ . وَهَذَا كُلّه صَحِيح الْمَعْنَى , وَلَيْسَ اِخْتِلَاف النَّقَلَة فِي الْعِقْد وَالْقِلَادَة وَلَا فِي الْمَوْضِع مَا يَقْدَح فِي الْحَدِيث وَلَا يُوهِن شَيْئًا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُرَاد مِنْ الْحَدِيث وَالْمَقْصُود بِهِ إِلَيْهِ هُوَ نُزُول التَّيَمُّم , وَقَدْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَات فِي أَمْر الْقِلَادَة . وَأَمَّا قَوْله فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ : فَأَرْسَلَ رَجُلَيْنِ قِيلَ : أَحَدهمَا أُسَيْد بْن حُضَيْر . وَلَعَلَّهُمَا الْمُرَاد بِالرِّجَالِ فِي حَدِيث الْبُخَارِيّ فَعَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْع , إِذْ أَقَلّ الْجَمْع اِثْنَانِ , أَوْ أَرْدَفَ فِي أَثَرهمَا غَيْرهمَا فَصَحَّ إِطْلَاق اللَّفْظ وَاَللَّه أَعْلَم . فَبَعَثُوا فِي طَلَبهَا فَطَلَبُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فِي وِجْهَتِهِمْ , فَلَمَّا رَجَعُوا أَثَارُوا الْبَعِير فَوَجَدُوهُ تَحْته . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَة فَفَشَتْ فِيهِمْ ثُمَّ اُبْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ فَشَكَوْا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِخِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَا ; فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا أَصَابَتْهُمْ الْجِرَاحَة فِي غَزْوَتهمْ تِلْكَ الَّتِي قَفَلُوا مِنْهَا إِذْ كَانَ فِيهَا قِتَال فَشَكَوْا , وَضَاعَ الْعِقْد وَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ ضَيَاع الْعِقْد كَانَ فِي غَزَاة بَنِي الْمُصْطَلِق . وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِخِلَافٍ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي غَزَاة الْمُرَيْسِيع , إِذْ هِيَ غَزَاة وَاحِدَة ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا بَنِي الْمُصْطَلِق فِي شَعْبَان مِنْ السَّنَة السَّادِسَة مِنْ الْهِجْرَة , عَلَى مَا قَالَ خَلِيفَة بْن خَيَّاط وَأَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ , وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَة أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ . وَقِيلَ : بَلْ نُمَيْلَةَ بْن عَبْد اللَّه اللَّيْثِيّ . وَأَغَارَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِق وَهُمْ غَارُّونَ , وَهُمْ عَلَى مَاءٍ يُقَال لَهُ الْمُرَيْسِيع مِنْ نَاحِيَة قُدَيْد مِمَّا يَلِي السَّاحِل فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ وَسَبَى مَنْ سَبَى مِنْ النِّسَاء وَالذُّرِّيَّة وَكَانَ شِعَارهمْ يَوْمَئِذٍ : أَمِتْ أَمِتْ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِق جَمَعُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادُوهُ , فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَلَقِيَهُمْ عَلَى مَاء . فَهَذَا مَا جَاءَ فِي بَدْء التَّيَمُّم وَالسَّبَب فِيهِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ آيَة الْمَائِدَة آيَة التَّيَمُّم , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ . قَالَ أَبُو عُمَر : فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى آيَة التَّيَمُّم , وَهِيَ آيَة الْوُضُوء الْمَذْكُورَة فِي سُورَة " الْمَائِدَة " , أَوْ الْآيَة الَّتِي فِي سُورَة " النِّسَاء " . لَيْسَ التَّيَمُّم مَذْكُورًا فِي غَيْر هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ .
قَوْله تَعَالَى : " مَرْضَى " الْمَرَض عِبَارَة عَنْ خُرُوج الْبَدَن عَنْ حَدّ الِاعْتِدَال وَالِاعْتِيَاد , إِلَى الِاعْوِجَاج وَالشُّذُوذ . وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : كَثِير وَيَسِير ; فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَخَاف الْمَوْتَ لِبَرْدِ الْمَاءِ , أَوْ لِلْعِلَّةِ الَّتِي بِهِ , أَوْ يَخَاف فَوْت بَعْض الْأَعْضَاء , فَهَذَا يَتَيَمَّم بِإِجْمَاعٍ ; إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَعَطَاء أَنَّهُ يَتَطَهَّر وَإِنْ مَاتَ . وَهَذَا مَرْدُود بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج " [ الْحَجّ : 78 ] وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ " [ النِّسَاء : 29 ] . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر " قَالَ : إِذَا كَانَتْ بِالرَّجُلِ الْجِرَاحَة فِي سَبِيل اللَّه أَوْ الْقُرُوح أَوْ الْجُدَرِيّ فَيُجْنِب فَخَافَ أَنْ يَمُوت إِنْ اِغْتَسَلَ , تَيَمَّمَ . وَعَنْ سَعْد بْن جُبَيْر أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : رُخِّصَ لِلْمَرِيضِ فِي التَّيَمُّم بِالصَّعِيدِ . وَتَيَمَّمَ عَمْرو بْن الْعَاص لَمَّا خَافَ أَنْ يَهْلِك مِنْ شِدَّة الْبَرْد وَلَمْ يَأْمُرهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُسْلٍ وَلَا إِعَادَة . فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا إِلَّا أَنَّهُ يَخَاف مَعَهُ حُدُوث عِلَّة أَوْ زِيَادَتهَا أَوْ بُطْء بُرْء فَهَؤُلَاءِ يَتَيَمَّمُونَ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمَذْهَب . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فِيمَا حَفِظْت .
قُلْت : قَدْ ذَكَرَ الْبَاجِيّ فِيهِ خِلَافًا ; قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن : مِثْل أَنْ يَخَاف الصَّحِيح نَزْلَة أَوْ حُمَّى , وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمَرِيض يَخَاف زِيَادَة مَرَض ; وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز لَهُ التَّيَمُّم مَعَ وُجُود الْمَاء إِلَّا أَنْ يَخَاف التَّلَف ; وَرَوَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن عَنْ مَالِك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " قَالَ الشَّافِعِيّ لَا يُبَاح التَّيَمُّم لِلْمَرِيضِ إِلَّا إِذَا خَافَ التَّلَف ; لِأَنَّ زِيَادَة الْمَرَض غَيْر مُتَحَقِّقَة ; لِأَنَّهَا قَدْ تَكُون وَقَدْ لَا تَكُون , وَلَا يَجُوز تَرْك الْفَرْض الْمُتَيَقَّن لِلْخَوْفِ الْمَشْكُوك . قُلْنَا : قَدْ نَاقَضْت ; فَإِنَّك قُلْت إِذَا خَافَ التَّلَف مِنْ الْبَرْد تَيَمَّمَ ; فَكَمَا يُبِيح التَّيَمُّمَ خَوْفُ التَّلَف كَذَلِكَ , يُبِيحُهُ خَوْف الْمَرَض ; لِأَنَّ الْمَرَض مَحْذُور كَمَا أَنَّ التَّلَف مَحْذُور . قَالَ : وَعَجَبًا لِلشَّافِعِيِّ يَقُول : لَوْ زَادَ الْمَاء عَلَى قَدْر قِيمَته حَبَّة لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ صِيَانَةً لِلْمَالِ وَيَلْزَمهُ التَّيَمُّم , وَهُوَ يَخَاف عَلَى بَدَنه الْمَرَض ! وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ كَلَام يُسَاوِي سَمَاعه " .
قُلْت : الصَّحِيح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ فِيمَا قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر عَبْد الرَّحِيم فِي تَفْسِيره : وَالْمَرَض الَّذِي يُبَاح لَهُ التَّيَمُّم هُوَ الَّذِي يَخَاف فِيهِ فَوْت الرُّوح أَوْ فَوَات بَعْض الْأَعْضَاء لَوْ اِسْتَعْمَلَ الْمَاء . فَإِنْ خَافَ طُول الْمَرَض فَالْقَوْل الصَّحِيح لِلشَّافِعِيِّ : جَوَاز التَّيَمُّم . رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ , عَنْ يَحْيَى بْن أَيُّوب , عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب , عَنْ عِمْرَان بْن أَبِي أَنَس , عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن جُبَيْر , عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : اِحْتَلَمْت فِي لَيْلَة بَارِدَة فِي غَزْوَة ذَات السَّلَاسِل فَأَشْفَقْت إِنْ اِغْتَسَلْت أَنْ أَهْلِكَ ; فَتَيَمَّمْت ثُمَّ صَلَّيْت بِأَصْحَابِي الصُّبْح ; فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا عَمْرو : ( صَلَّيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُب ) ؟ فَأَخْبَرْته بِاَلَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَال وَقُلْت : إِنِّي سَمِعْت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّه كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " [ النِّسَاء : 29 ] فَضَحِكَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى إِبَاحَة التَّيَمُّم مَعَ الْخَوْف لَا مَعَ الْيَقِين , وَفِيهِ إِطْلَاق اِسْم الْجُنُب عَلَى الْمُتَيَمِّم وَجَوَاز صَلَاة الْمُتَيَمِّم بِالْمُتَوَضِّئِينَ ; وَهَذَا أَحَد الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا ; وَهُوَ الصَّحِيح وَهُوَ الَّذِي أَقْرَأهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَقُرِئَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ . وَالْقَوْل الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُصَلِّي ; لِأَنَّهُ أَنْقَصُ فَضِيلَة مِنْ الْمُتَوَضِّئ , وَحُكْم الْإِمَام أَنْ يَكُون أَعْلَى رُتْبَة ; وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَؤُمّ الْمُتَيَمِّم الْمُتَوَضِّئِينَ ) إِسْنَاده ضَعِيف . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَر فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسه ثُمَّ اِحْتَلَمَ , فَسَأَلَ أَصْحَابه هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَة فِي التَّيَمُّم ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِد لَك رُخْصَة وَأَنْتَ تَقْدِر عَلَى الْمَاء ; فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ , فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ : ( قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّه أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاء الْعِيّ السُّؤَال إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّم وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ - شَكَّ مُوسَى - عَلَى جُرْحه خِرْقَة ثُمَّ يَمْسَح عَلَيْهَا وَيَغْسِل سَائِر جَسَده ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : " قَالَ أَبُو بَكْر هَذِهِ سُنَّة تَفَرَّدَ بِهَا أَهْل مَكَّة وَحَمَلَهَا أَهْل الْجَزِيرَة , وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَطَاء عَنْ جَابِر غَيْر الزُّبَيْر بْن خَرِيق , وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَخَالَفَهُ الْأَوْزَاعِيّ فَرَوَاهُ عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس وَهُوَ الصَّوَاب . وَاخْتُلِفَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ عَطَاء , وَقِيلَ عَنْهُ : بَلَغَنِي عَنْ عَطَاء , وَأَرْسَلَ الْأَوْزَاعِيّ آخِرَهُ عَنْ عَطَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّوَاب . وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : سَأَلْت أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْهُ فَقَالَا : رَوَاهُ اِبْن أَبِي الْعِشْرِينَ , عَنْ الْأَوْزَاعِيّ , عَنْ إِسْمَاعِيل بْن مُسْلِم , عَنْ عَطَاء , عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَأَسْنَدَ الْحَدِيث " . وَقَالَ دَاوُدُ : كُلّ مَنْ اِنْطَلَقَ عَلَيْهِ اِسْم الْمَرِيض فَجَائِز لَهُ التَّيَمُّم ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى " . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل خَلَف , وَإِنَّمَا هُوَ عِنْد عُلَمَاء الْأُمَّة لِمَنْ خَافَ مِنْ اِسْتِعْمَال الْمَاء أَوْ تَأَذِّيه بِهِ كَالْمَجْدُورِ وَالْمَحْصُوب , وَالْعِلَل الْمَخُوف عَلَيْهَا مِنْ الْمَاء ; كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس .
يَجُوز التَّيَمُّم بِسَبَبِ السَّفَر طَالَ أَوْ قَصُرَ عِنْد عَدَم الْمَاء , وَلَا يُشْتَرَط أَنْ يَكُون مِمَّا تُقْصَر فِيهِ الصَّلَاة ; هَذَا مَذْهَب مَالِك وَجُمْهُور الْعُلَمَاء . وَقَالَ قَوْم : لَا يَتَيَمَّم إِلَّا فِي سَفَر تُقْصَر فِيهِ الصَّلَاة . وَاشْتَرَطَ آخَرُونَ أَنْ يَكُون سَفَرَ طَاعَة . وَهَذَا كُلّه ضَعِيف . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم فِي السَّفَر حَسْبَمَا ذَكَرْنَا , وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْحَضَر ; فَذَهَبَ مَالِك وَأَصْحَابه إِلَى أَنَّ التَّيَمُّم فِي الْحَضَر وَالسَّفَر جَائِز ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَمُحَمَّد . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز لِلْحَاضِرِ الصَّحِيح أَنْ يَتَيَمَّم إِلَّا أَنْ يَخَاف التَّلَف ; وَهُوَ قَوْل الطَّبَرِيّ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ أَيْضًا وَاللَّيْث وَالطَّبَرِيّ : إِذَا عَدِمَ الْمَاء فِي الْحَضَر مَعَ خَوْف الْوَقْت الصَّحِيح وَالسَّقِيم تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ أَعَادَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَزُفَر : لَا يَجُوز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر لَا لِمَرَضٍ وَلَا لِخَوْفِ الْوَقْت وَقَالَ الْحَسَن وَعَطَاء : لَا يَتَيَمَّم الْمَرِيض إِذَا وَجَدَ الْمَاء , وَلَا غَيْر الْمَرِيض . وَسَبَب الْخِلَاف اِخْتِلَافهمْ فِي مَفْهُوم الْآيَة ; فَقَالَ مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ : ذِكْر اللَّه تَعَالَى الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ فِي شَرْط التَّيَمُّم خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَب فِيمَنْ لَا يَجِد الْمَاء , وَالْحَاضِرُونَ الْأَغْلَب عَلَيْهِمْ وُجُودُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِمْ . فَكُلّ مَنْ لَمْ يَجِد الْمَاء أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ مَانِعٌ أَوْ خَافَ فَوَاتَ وَقْت الصَّلَاة , تَيَمَّمَ الْمُسَافِر بِالنَّصِّ , وَالْحَاضِر بِالْمَعْنَى . وَكَذَلِكَ الْمَرِيض بِالنَّصِّ وَالصَّحِيح بِالْمَعْنَى . وَأَمَّا مَنْ مَنَعَهُ فِي الْحَضَر فَقَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ التَّيَمُّم رُخْصَة لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِر ; كَالْفِطْرِ وَقَصْر الصَّلَاة , وَلَمْ يُبِحْ التَّيَمُّم إِلَّا بِشَرْطَيْنِ , وَهُمَا الْمَرَض وَالسَّفَر ; فَلَا دُخُول لِلْحَاضِرِ الصَّحِيح فِي ذَلِكَ لِخُرُوجِهِ مِنْ شَرْط اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء الَّذِي مَنَعَهُ جُمْلَة مَعَ وُجُود الْمَاء فَقَالَ : إِنَّمَا شَرَطَهُ اللَّه تَعَالَى مَعَ عَدَم الْمَاء , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا " فَلَمْ يُبِحْ التَّيَمُّم لِأَحَدٍ إِلَّا عِنْد فَقْد الْمَاء . وَقَالَ أَبُو عُمَر : وَلَوْلَا قَوْل الْجُمْهُور وَمَا رُوِيَ مِنْ الْأَثَر لَكَانَ قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء صَحِيحًا ; وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ أَجَازَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّيَمُّم لِعَمْرِو بْن الْعَاص وَهُوَ مُسَافِر إِذْ خَافَ الْهَلَاك إِنْ اِغْتَسَلَ بِالْمَاءِ , فَالْمَرِيض أَحْرَى بِذَلِكَ . قُلْت : وَمِنْ الدَّلِيل عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر إِذَا خَافَ فَوَات الصَّلَاة إِنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَاء الْكِتَاب وَالسُّنَّة :
أَمَّا الْكِتَاب فَقَوْله سُبْحَانَهُ : " أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " يَعْنِي الْمُقِيم إِذَا عَدِمَ الْمَاء تَيَمَّمَ . نَصَّ عَلَيْهِ الْقُشَيْرِيّ عَبْد الرَّحِيم قَالَ : ثُمَّ يُقْطَع النَّظَر فِي وُجُوب الْقَضَاء ; لِأَنَّ عَدَم الْمَاء فِي الْحَضَر عُذْر نَادِر وَفِي الْقَضَاء قَوْلَانِ :
قُلْت : وَهَكَذَا نَصَّ أَصْحَابنَا فِيمَنْ تَيَمَّمَ فِي الْحَضَر , فَهَلْ يُعِيد إِذَا وَجَدَ الْمَاء أَمْ لَا ; الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ لَا يُعِيد وَهُوَ الصَّحِيح . وَقَالَ اِبْن حَبِيب وَمُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم . يُعِيد أَبَدًا ; وَرَوَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ مَالِك . وَقَالَ الْوَلِيد عَنْهُ : يَغْتَسِل وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْس . وَأَمَّا السُّنَّة فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي الْجُهَيْم بْن الْحَارِث بْن الصِّمَّة الْأَنْصَارِيّ قَالَ : أَقْبَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْو " بِئْر جَمَل " فَلَقِيَهُ رَجُل فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَار فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ , ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظ " بِئْر " . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر وَفِيهِ " ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُل السَّلَام وَقَالَ : ( إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك السَّلَام إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْر " .
الْغَائِط أَصْله مَا اِنْخَفَضَ مِنْ الْأَرْض , وَالْجَمْع الْغِيطَان أَوْ الْأَغْوَاط ; وَبِهِ سُمِّيَ غُوطَة دِمَشْق . وَكَانَتْ الْعَرَب تَقْصِد هَذَا الصِّنْف مِنْ الْمَوَاضِع لِقَضَاءِ حَاجَتهَا تَسَتُّرًا عَنْ أَعْيُن النَّاس , ثُمَّ سُمِّيَ الْحَدَث الْخَارِج مِنْ الْإِنْسَان غَائِطًا لِلْمُقَارَنَةِ . وَغَاطَ فِي الْأَرْض يَغُوط إِذَا غَابَ . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ : " مِنْ الْغَيْط " فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَصْله الْغَيْط فَخُفِّفَ , كَهَيِّنٍ وَمَيِّت وَشَبَهه . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ الْغَوْط ; بِدَلَالَةِ قَوْلهمْ تَغَوَّطَ إِذَا أَتَى الْغَائِط , فَقُلِبَتْ وَاو الْغَوْط يَاء ; كَمَا قَالُوا فِي لَا حَوْل لَا حَيْلَ . و " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاو , أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر وَجَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط فَتَيَمَّمُوا فَالسَّبَب الْمُوجِب لِلتَّيَمُّمِ عَلَى هَذَا هُوَ الْحَدَث لَا الْمَرَض وَالسَّفَر ; فَدَلَّ عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر كَمَا بَيَّنَّاهُ . وَالصَّحِيح فِي " أَوْ " أَنَّهَا عَلَى بَابهَا عِنْد أَهْل النَّظَر . فَلِأَوْ مَعْنَاهَا , وَلِلْوَاوِ مَعْنَاهَا . وَهَذَا عِنْدهمْ عَلَى الْحَذْف , وَالْمَعْنَى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى مَرَضًا لَا تَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى مَسِّ الْمَاء أَوْ عَلَى سَفَر وَلَمْ تَجِدُوا مَاء وَاحْتَجْتُمْ إِلَى الْمَاء . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
لَفْظ " الْغَائِط " يَجْمَع بِالْمَعْنَى جَمِيعَ الْأَحْدَاث النَّاقِضَة لِلطَّهَارَةِ الصُّغْرَى . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي حَصْرِهَا , وَأَنْبَلُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا ثَلَاثَة أَنْوَاع , لَا خِلَاف فِيهَا فِي مَذْهَبنَا : زَوَال الْعَقْل , خَارِج مُعْتَاد , مُلَامَسَة . وَعَلَى مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة مَا خَرَجَ مِنْ الْجَسَد مِنْ النَّجَاسَات , وَلَا يُرَاعَى الْمَخْرَج وَلَا يُعَدّ اللَّمْس . وَعَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ , وَلَا يُرَاعَى الِاعْتِيَاد , وَيُعَدّ اللَّمْس . وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ زَالَ عَقْله بِإِغْمَاءٍ أَوْ جُنُون أَوْ سُكْر فَعَلَيْهِ الْوُضُوء , وَاخْتَلَفُوا فِي النَّوْم هَلْ هُوَ حَدَث كَسَائِرِ الْأَحْدَاث ؟ أَوْ لَيْسَ بِحَدَثٍ أَوْ مَظِنَّة حَدَثٍ ; ثَلَاثَة أَقْوَال : طَرَفَانِ وَوَاسِطَة .
الطَّرَف الْأَوَّل : ذَهَبَ الْمُزَنِيّ أَبُو إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل إِلَى أَنَّهُ حَدَثٌ , وَأَنَّ الْوُضُوء يَجِب بِقَلِيلِهِ وَكَثِيره كَسَائِرِ الْأَحْدَاث ; وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل مَالِك فِي الْمُوَطَّأ لِقَوْلِهِ : وَلَا يَتَوَضَّأ إِلَّا مِنْ حَدَث يَخْرُج مِنْ ذَكَر أَوْ دُبُر أَوْ نَوْم . وَمُقْتَضَى حَدِيث صَفْوَان بْن عَسَّال أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ . رَوَوْهُ جَمِيعًا مِنْ حَدِيث عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش فَقَالَ : أَتَيْت صَفْوَان بْن عَسَّال الْمُرَادِيّ فَقُلْت : جِئْتُك أَسْأَلُك عَنْ الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ; قَالَ : نَعَمْ كُنْت فِي الْجَيْش الَّذِي بَعَثَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنَا أَنْ نَمْسَح عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَا عَلَى طُهْر ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا , وَيَوْمًا وَلَيْلَة إِذَا أَقَمْنَا , وَلَا نَخْلَعَهُمَا مِنْ بَوْل وَلَا غَائِط وَلَا نَوْم وَلَا نَخْلَعهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَة . فَفِي هَذَا الْحَدِيث وَقَوْل مَالِك التَّسْوِيَة بَيْنَ الْغَائِط وَالْبَوْل وَالنَّوْم . قَالُوا : وَالْقِيَاس أَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَثِيره وَمَا غَلَبَ عَلَى الْعَقْل مِنْهُ حَدَثًا وَجَبَ أَنْ يَكُون قَلِيله كَذَلِكَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وِكَاء السَّهِ الْعَيْنَانِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ ) وَهَذَا عَامّ . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ , وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا الطَّرَف الْآخَر فَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النَّوْم عِنْده لَيْسَ بِحَدَثٍ عَلَى أَيِّ حَال كَانَ , حَتَّى يُحْدِثَ النَّائِم حَدَثًا غَيْر النَّوْم ; لِأَنَّهُ كَانَ يُوَكِّل مِنْ يَحْرُسُهُ إِذَا نَامَ . فَإِنْ لَمْ يَخْرُج مِنْهُ حَدَثٌ قَامَ مِنْ نَوْمه وَصَلَّى ; وَرُوِيَ عَنْ عَبِيدَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَة مَحْمُود بْن خَالِد . وَالْجُمْهُور عَلَى خِلَاف هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ . فَأَمَّا جُمْلَة مَذْهَب مَالِك فَإِنَّ كُلّ نَائِم اِسْتَثْقَلَ نَوْمًا , وَطَالَ نَوْمه عَلَى أَيّ حَال كَانَ , فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء ; وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَة الْوَلِيد بْن مُسْلِم . قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : فَإِنْ كَانَ النَّوْم خَفِيفًا لَا يُخَامِر الْقَلْب وَلَا يَغْمُرُهُ لَمْ يَضُرَّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا وُضُوء إِلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : مَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوء عَلَيْهِ ; وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك . وَالصَّحِيح مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال مَشْهُور مَذْهَب مَالِك ; لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً يَعْنِي الْعِشَاء فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِد ثُمَّ اِسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اِسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : ( لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْأَرْض يَنْتَظِر الصَّلَاة غَيْرُكُمْ ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ ; وَهُوَ أَصَحّ مَا فِي هَذَا الْبَاب مِنْ جِهَة الْإِسْنَاد وَالْعَمَل . وَأَمَّا مَا قَالَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَصَفْوَان بْن عَسَّال فِي حَدِيثه فَمَعْنَاهُ : وَنَوْم ثَقِيل غَالِب عَلَى النَّفْس ; بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيث وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ . وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى حَدِيث صَفْوَان وَكِيع عَنْ مِسْعَر عَنْ عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود فَقَالَ : ( أَوْ رِيح ) بَدَل ( أَوْ نَوْم ) , فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَمْ يَقُلْ فِي هَذَا الْحَدِيث ( أَوْ رِيح ) غَيْر وَكِيع عَنْ مِسْعَر .
قُلْت : وَكِيع ثِقَة إِمَام أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة ; فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِحَدِيثِ صَفْوَان لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ النَّوْم حَدَثٌ . وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَة فَضَعِيف ; رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ وَهُوَ سَاجِد حَتَّى غَطَّ أَوْ نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى , فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه إِنَّك قَدْ نِمْت ! فَقَالَ : ( إِنَّ الْوُضُوء لَا يَجِب إِلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إِذَا اِضْطَجَعَ اِسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ ) . تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو خَالِد عَنْ قَتَادَة وَلَا يَصِحّ ; قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ . وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ : قَوْله : ( الْوُضُوء عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ) هُوَ حَدِيث مُنْكَر لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا أَبُو خَالِد يَزِيد الدَّالَانِيّ عَنْ قَتَادَة , وَرَوَى أَوَّله جَمَاعَة عَنْ اِبْن عَبَّاس لَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ هَذَا . وَقَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : هَذَا حَدِيث مُنْكَر لَمْ يَرْوِهِ أَحَد مِنْ أَصْحَاب قَتَادَة الثِّقَات , وَإِنَّمَا اِنْفَرَدَ بِهِ أَبُو خَالِدٍ الدَّالَانِيّ , وَأَنْكَرُوهُ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا نُقِلَ . وَأَمَّا قَوْل الشَّافِعِيّ : عَلَى كُلّ نَائِم الْوُضُوء إِلَّا عَلَى الْجَالِس وَحْده , وَإِنَّ كُلّ مَنْ زَالَ عَنْ حَدّ الِاسْتِوَاء وَنَامَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوء ; فَهُوَ قَوْل الطَّبَرِيّ وَدَاوُد , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عُمَر ; لِأَنَّ الْجَالِس لَا يَكَاد يَسْتَثْقِل , فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّوْم الْخَفِيف . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب , عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوء عَلَيْهِ وَمَنْ وَضَعَ جَنْبه فَعَلَيْهِ الْوُضُوء ) . وَأَمَّا الْخَارِج ; فَلَنَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَة قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ خَالِد , عَنْ عِكْرِمَة , عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : اِعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِمْرَأَة مِنْ أَزْوَاجه فَكَانَتْ تَرَى الدَّم وَالصُّفْرَة وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي . فَهَذَا خَارِج عَلَى غَيْر الْمُعْتَاد , وَإِنَّمَا هُوَ عِرْق اِنْقَطَعَ فَهُوَ مَرَض ; وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيله مِمَّا يَخْرُج مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَلَا وُضُوء فِيهِ عِنْدنَا إِيجَابًا , خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا . وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقُنَا . وَيُرَدّ عَلَى الْحَنَفِيّ حَيْثُ رَاعَى الْخَارِج النَّجِس . فَصَحَّ وَوَضَحَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْن أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَا تَرَدَّدَ نَفَسٌ , وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
قَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَابْن عَامِر " لَامَسْتُمْ " . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ : " لَمَسْتُمْ " وَفِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : أَنْ يَكُون لَمَسْتُمْ جَامَعْتُمْ . الثَّانِي : لَمَسْتُمْ بَاشَرْتُمْ . الثَّالِث : يَجْمَع الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا . و " لَامَسْتُمْ " بِمَعْنَاهُ عِنْد أَكْثَر النَّاس , إِلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّهُ قَالَ : الْأَوْلَى فِي اللُّغَة أَنْ يَكُون " لَامَسْتُمْ " بِمَعْنَى قَبَّلْتُمْ أَوْ نَظِيره ; لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا فِعْلًا . قَالَ : و " لَمَسْتُمْ " بِمَعْنَى غَشِيتُمْ وَمَسِسْتُمْ , وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ فِي هَذَا فِعْل .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حُكْم الْآيَة عَلَى مَذَاهِبَ خَمْسَةٍ ; فَقَالَتْ فِرْقَة : الْمُلَامَسَة هُنَا مُخْتَصَّة بِالْيَدِ , وَالْجُنُب لَا ذِكْر لَهُ إِلَّا مَعَ الْمَاء ; فَلَمْ يَدْخُل فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى " الْآيَة , فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى التَّيَمُّم , وَإِنَّمَا يَغْتَسِل الْجُنُب أَوْ يَدَع الصَّلَاة حَتَّى يَجِد الْمَاء ; رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عُمَر وَابْن مَسْعُود . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ عُمَر وَعَبْد اللَّه فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة أَحَد مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْ أَهْل الرَّأْي وَحَمَلَة الْآثَار ; وَذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم لِحَدِيثِ عَمَّار وَعِمْرَان بْن حُصَيْن وَحَدِيث أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَيَمُّم الْجُنُب . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة عَكْس هَذَا الْقَوْل , فَقَالَ : الْمُلَامَسَة هُنَا مُخْتَصَّة بِاللَّمْسِ الَّذِي هُوَ الْجِمَاع . فَالْجُنُب يَتَيَمَّم وَاللَّامِس بِيَدِهِ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر ; فَلَيْسَ بِحَدَثٍ وَلَا هُوَ نَاقِض لِوُضُوئِهِ . فَإِذَا قَبَّلَ الرَّجُل اِمْرَأَتَهُ لِلَذَّةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ ; وَعَضَّدُوا هَذَا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاة وَلَمْ يَتَوَضَّأ . قَالَ عُرْوَة : فَقُلْت لَهَا مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ ؟ فَضَحِكَتْ . وَقَالَ مَالِك : الْمُلَامِس بِالْجِمَاعِ يَتَيَمَّم , وَالْمُلَامِس بِالْيَدِ يَتَيَمَّم إِذَا اِلْتَذَّ . فَإِذَا لَمَسَهَا بِغَيْرِ شَهْوَة فَلَا وُضُوء ; وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَق , وَهُوَ مُقْتَضَى الْآيَة . وَقَالَ عَلِيّ بْن زِيَاد : وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ثَوْب كَثِيف فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوء . وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون : مَنْ تَعَمَّدَ مَسَّ اِمْرَأَته بِيَدِهِ لِمُلَاعَبَةٍ فَلْيَتَوَضَّأْ اِلْتَذَّ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى : وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ مِنْ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّ الْوُضُوء إِنَّمَا يَجِب لِقَصْدِهِ اللَّذَّة دُون وُجُودهَا ; فَمَنْ قَصَدَ اللَّذَّة بِلَمْسِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء , اِلْتَذَّ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ ; وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْعُتْبِيَّة مِنْ رِوَايَة عِيسَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم . وَأَمَّا الْإِنْعَاظ بِمُجَرَّدِهِ فَقَدْ رَوَى اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يُوجِب وُضُوءًا وَلَا غَسْلَ ذَكَرٍ حَتَّى يَكُون مَعَهُ لَمْسٌ أَوْ مَذْي . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق : مَنْ أَنْعَظَ إِنْعَاظًا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ; وَهَذَا قَوْل مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا أَفْضَى الرَّجُل بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنه إِلَى بَدَن الْمَرْأَة سَوَاء كَانَ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاء الْجَسَد تَعَلَّقَ نَقْض الطُّهْر بِهِ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود وَابْن عُمَر وَالزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إِذَا كَانَ اللَّمْس بِالْيَدِ نَقَضَ الطُّهْرَ , وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْيَد لَمْ يَنْقُضْهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ " [ الْأَنْعَام : 7 ] . فَهَذِهِ خَمْسَة مَذَاهِب أَسَدُّهَا مَذْهَب مَالِك ; وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر وَابْنه عَبْد اللَّه , وَهُوَ قَوْل عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّ الْمُلَامَسَة مَا دُون الْجِمَاع , وَأَنَّ الْوُضُوء يَجِب بِذَلِكَ ; وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَر الْفُقَهَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ مَعْنَى الْآيَة ; فَإِنَّ قَوْله فِي أَوَّلهَا : " وَلَا جُنُبًا " أَفَادَ الْجِمَاع , وَإِنَّ قَوْله : " أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " أَفَادَ الْحَدَث , وَإِنَّ قَوْله : " أَوْ لَامَسْتُمْ " أَفَادَ اللَّمْسَ وَالْقُبَلَ . فَصَارَتْ ثَلَاث جُمَل لِثَلَاثَةِ أَحْكَام , وَهَذِهِ غَايَة فِي الْعِلْم وَالْإِعْلَام . وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد بِاللَّمْسِ الْجِمَاع كَانَ تَكْرَارًا فِي الْكَلَام .
قُلْت : وَأَمَّا مَا اِسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَة مِنْ حَدِيث عَائِشَة فَحَدِيث مُرْسَل ; رَوَاهُ وَكِيع , عَنْ الْأَعْمَش عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت , عَنْ عُرْوَة , عَنْ عَائِشَة . قَالَ يَحْيَى بْن سَعِيد : وَذَكَرَ حَدِيث الْأَعْمَش عَنْ حَبِيب عَنْ عَمْرو فَقَالَ : أَمَّا أَنَّ سُفْيَان الثَّوْرِيّ كَانَ أَعْلَم النَّاس بِهَذَا , زَعَمَ أَنَّ حَبِيبًا لَمْ يَسْمَع مِنْ عُرْوَة شَيْئًا ; قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ فَيَلْزَمُكُمْ قَبُوله وَالْعَمَل بِهِ . قُلْنَا : تَرَكْنَاهُ لِظَاهِرِ الْآيَة وَعَمَل الصَّحَابَة . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمُلَامَسَة هِيَ الْجِمَاع وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس . قُلْنَا : قَدْ خَالَفَهُ الْفَارُوق وَابْنه وَتَابَعَهُمَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَهُوَ كُوفِيّ , فَمَا لَكُمْ خَالَفْتُمُوهُ ؟ ! فَإِنْ قِيلَ : الْمُلَامَسَة مِنْ بَاب الْمُفَاعَلَة , وَلَا تَكُون إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ , وَاللَّمْس بِالْيَدِ إِنَّمَا يَكُون مِنْ وَاحِد ; فَثَبَتَ أَنَّ الْمُلَامَسَة هِيَ الْجِمَاع . قُلْنَا : الْمُلَامَسَة مُقْتَضَاهَا اِلْتِقَاء الْبَشَرَتَيْنِ , سَوَاء كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَاحِد أَوْ مِنْ اِثْنَيْنِ ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يُوصَف لَامِس وَمَلْمُوس .
جَوَاب آخَر : وَهُوَ أَنَّ الْمُلَامَسَة قَدْ تَكُون مِنْ وَاحِد ; وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع الْمُلَامَسَة , وَالثَّوْب مَلْمُوس وَلَيْسَ بِلَامِسٍ , وَقَدْ قَالَ اِبْن عُمَر مُخْبِرًا عَنْ نَفْسه " وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْت الِاحْتِلَام " . وَتَقُول الْعَرَب : عَاقَبْت اللِّصّ وَطَارَقْت النَّعْل , وَهُوَ كَثِير .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه سَبَب الْحَدَث , وَهُوَ الْمَجِيء مِنْ الْغَائِط ذَكَرَ سَبَب الْجَنَابَة وَهُوَ الْمُلَامَسَة , فَبَيَّنَ الْحَدَث وَالْجَنَابَة عِنْد عَدَم الْمَاء , كَمَا أَفَادَ بَيَان حُكْمهمَا عِنْد وُجُود الْمَاء . قُلْنَا : لَا نَمْنَع حَمْل اللَّفْظ عَلَى الْجِمَاع وَاللَّمْس , وَيُفِيد الْحُكْمَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا . وَقَدْ قُرِئَ " لَمَسْتُمْ " كَمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيّ مِنْ لَمْس الرَّجُل الْمَرْأَة بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ لَا حَائِل بَيْنه وَبَيْنهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَة وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء فَهُوَ ظَاهِر الْقُرْآن أَيْضًا ; وَكَذَلِكَ إِنْ لَمَسَتْهُ هِيَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء , إِلَّا الشَّعْر ; فَإِنَّهُ لَا وُضُوء لِمَنْ مَسَّ شَعْر اِمْرَأَته لِشَهْوَةٍ كَانَ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَة , وَكَذَلِكَ السِّنّ وَالظُّفُر , فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِف لِلْبَشَرَةِ . وَلَوْ احْتَاطَ فَتَوَضَّأَ إِذَا مَسَّ شَعْرهَا كَانَ حَسَنًا . وَلَوْ مَسَّهَا بِيَدِهِ أَوْ مَسَّتْهُ بِيَدِهَا مِنْ فَوْق الثَّوْب فَالْتَذَّ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْء حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْبَشَرَة , وَسَوَاء فِي ذَلِكَ كَانَ مُتَعَمِّدًا أَوْ سَاهِيًا , كَانَتْ الْمَرْأَة حَيَّة أَوْ مَيِّتَة إِذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّة . وَاخْتَلَفَ قَوْله إِذَا لَمَسَ صَبِيَّة صَغِيرَة أَوْ عَجُوزًا كَبِيرَة بِيَدِهِ أَوْ وَاحِدَة مِنْ ذَوَات مَحَارِمِهِ مِمَّنْ لَا يَحِلّ لَهُ نِكَاحهَا , فَمَرَّة قَالَ : يَنْتَقِض الْوُضُوء ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاء " فَلَمْ يُفَرِّق . وَالثَّانِي لَا يُنْقَض ; لِأَنَّهُ لَا مَدْخَل لِلشَّهْوَةِ فِيهِنَّ . قَالَ الْمَرْوَزِيّ : قَوْل الشَّافِعِيّ أَشْبَه بِظَاهِرِ الْكِتَاب ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : " أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاء " وَلَمْ يَقُلْ بِشَهْوَةٍ وَلَا مِنْ غَيْر شَهْوَة ; وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الْوُضُوء مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الشَّهْوَة . قَالَ : وَكَذَلِكَ عَامَّة التَّابِعِينَ . قَالَ الْمَرْوَزِيّ : فَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك مِنْ مُرَاعَاة الشَّهْوَة وَاللَّذَّة مِنْ فَوْق الثَّوْب يُوجِب الْوُضُوء فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ اللَّيْث بْن سَعْد , وَلَا نَعْلَم أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ غَيْرهمَا . قَالَ : وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ فِي النَّظَر ; لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْر لَامِس لِامْرَأَتِهِ , وَغَيْر مُمَاسٍّ لَهَا فِي الْحَقِيقَة , إِنَّمَا هُوَ لَامِس لِثَوْبِهَا . وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ تَلَذَّذَ وَاشْتَهَى أَنْ يَلْمِس لَمْ يَجِب عَلَيْهِ وُضُوء ; فَكَذَلِكَ مَنْ لَمَسَ فَوْق الثَّوْب لِأَنَّهُ غَيْر مُمَاسٍّ لِلْمَرْأَةِ .
قُلْت : أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ مَالِكًا عَلَى قَوْله إِلَّا اللَّيْث بْن سَعْد , فَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ أَنَّ ذَلِكَ قَوْل إِسْحَاق وَأَحْمَد , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ كُلّهمْ قَالُوا : إِذَا لَمَسَ فَالْتَذَّ وَجَبَ الْوُضُوء , وَإِنْ لَمْ يَلْتَذَّ فَلَا وُضُوء . وَأَمَّا قَوْله : " وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ فِي النَّظَر " فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيح الْخَبَر عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : كُنْت أَنَام بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَته , فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلَيَّ , وَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا ثَانِيًا , قَالَتْ : وَالْبُيُوت يَوْمئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيح . فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمُلَامِسَ , وَأَنَّهُ غَمَزَ رِجْلَيْ عَائِشَة ; كَمَا فِي رِوَايَة الْقَاسِم عَنْ عَائِشَة ( فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَ رِجْلَيَّ فَقَبَضْتهُمَا ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . فَهَذَا يَخُصّ عُمُوم قَوْله : " أَوْ لَامَسْتُمْ " فَكَانَ وَاجِبًا لِظَاهِرِ الْآيَة اِنْتِقَاض وُضُوء كُلّ مُلَامِس كَيْفَ لَامَسَ . وَدَلَّتْ السُّنَّة الَّتِي هِيَ الْبَيَان لِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْوُضُوء عَلَى بَعْض الْمُلَامِسِينَ دُون بَعْض , وَهُوَ مَنْ لَمْ يَلْتَذَّ وَلَمْ يَقْصِد . وَلَا يُقَال : فَلَعَلَّهُ كَانَ عَلَى قَدَمَيْ عَائِشَة ثَوْب , أَوْ كَانَ يَضْرِب رِجْلَيْهَا بِكُمِّهِ ; فَإِنَّا نَقُول : حَقِيقَة الْغَمْز إِنَّمَا هُوَ بِالْيَدِ ; وَمِنْهُ غَمْزُك الْكَبْشَ أَيْ تَجُسُّهُ لِتَنْظُرَ أَهُوَ سَمِين أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا أَنْ يَكُون الْغَمْزُ الضَّرْبَ بِالْكُمِّ فَلَا . وَالرِّجْل مِنْ النَّائِمِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا ظُهُورُهَا مِنْ النَّائِم ; لَا سِيَّمَا مَعَ اِمْتِدَاده وَضِيق حَاله . فَهَذِهِ كَانَتْ الْحَال فِي ذَلِكَ الْوَقْت ; أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلهَا : ( وَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا ) وَقَوْلهَا : ( وَالْبُيُوت يَوْمئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيح ) . وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا عَنْهَا قَالَتْ : ( كُنْت أَمُدّ رِجْلَيَّ فِي قِبْلَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَرَفَعْتهمَا , فَإِذَا قَامَ مَدَدْتهمَا ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . فَظَهَرَ أَنَّ الْغَمْز كَانَ عَلَى حَقِيقَته مَعَ الْمُبَاشَرَة . وَدَلِيل آخَر - وَهُوَ مَا رَوَتْهُ عَائِشَة أَيْضًا رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : فَقَدْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة مِنْ الْفِرَاش فَالْتَمَسْته , فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْن قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِد وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ ; الْحَدِيث . فَلَمَّا وَضَعَتْ يَدهَا عَلَى قَدَمِهِ وَهُوَ سَاجِد وَتَمَادَى فِي سُجُوده كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوُضُوء لَا يَنْتَقِض إِلَّا عَلَى بَعْض الْمُلَامِسِينَ دُون بَعْض .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ عَلَى قَدَمِهِ حَائِل كَمَا قَالَهُ الْمُزَنِيّ . قِيلَ لَهُ : الْقَدَم قَدَم بِلَا حَائِل حَتَّى يَثْبُتَ الْحَائِل , وَالْأَصْل الْوُقُوف مَعَ الظَّاهِر ; بَلْ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا يَجْتَمِع مِنْهُ كَالنَّصِّ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اِسْتَكْرَهَ اِمْرَأَة فَمَسَّ خِتَانُهُ خِتَانَهَا وَهِيَ لَا تَلْتَذُّ لِذَلِكَ , أَوْ كَانَتْ نَائِمَة فَلَمْ تَلْتَذَّ وَلَمْ تَشْتَهِ أَنَّ الْغُسْل وَاجِب عَلَيْهَا ; فَكَذَلِكَ حُكْم مَنْ قَبَّلَ أَوْ لَامَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَة انْتَقَضَتْ طَهَارَته وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء ; لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَسَّة وَاللَّمْسَة وَالْقُبْلَة الْفِعْل لَا اللَّذَّة . قُلْنَا : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَعْمَش وَغَيْره قَدْ خَالَفَ فِيمَا اِدَّعَيْتُمُوهُ مِنْ الْإِجْمَاع . سَلَّمْنَاهُ , لَكِنَّ هَذَا اِسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلّ النِّزَاع فَلَا يَلْزَم ; وَقَدْ اِسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّة مَذْهَبنَا بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيّ - فِيمَا زَعَمْتُمْ إِنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ , وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ شَيْخُهُ مَالِك ; كَمَا هُوَ مَشْهُور عِنْدَنَا " إِذَا صَحَّ الْحَدِيث فَخُذُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي " وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيث بِذَلِكَ فَلِمَ لَا تَقُولُونَ بِهِ ؟ ! وَيَلْزَم عَلَى مَذْهَبكُمْ أَنَّ مَنْ ضَرَبَ اِمْرَأَته فَلَطَمَهَا بِيَدِهِ تَأْدِيبًا لَهَا وَإِغْلَاظًا عَلَيْهَا أَنْ يَنْتَقِض وُضُوءُهُ ; إِذْ الْمَقْصُود وُجُود الْفِعْل , وَهَذَا لَا يَقُولهُ أَحَد فِيمَا أَعْلَم , وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى الْأَئِمَّة مَالِك وَغَيْره أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَأُمَامَة بِنْت أَبِي الْعَاص اِبْنَة زَيْنَب بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَاتِقه , فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا , وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُود أَعَادَهَا . وَهَذَا يَرُدّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ : لَوْ لَمَسَ صَغِيرَة لَانْتَقَضَ طُهْره تَمَسُّكًا بِلَفْظِ النِّسَاء , وَهَذَا ضَعِيف ; فَإِنَّ لَمْس الصَّغِيرَة كَلَمْسِ الْحَائِط . وَاخْتَلَفَ قَوْله فِي ذَوَات الْمَحَارِم لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِر اللَّذَّة , وَنَحْنُ اِعْتَبَرْنَا اللَّذَّة فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْم , وَهُوَ وُجُوب الْوُضُوء . وَأَمَّا قَوْل الْأَوْزَاعِيّ فِي اِعْتِبَاره الْيَد خَاصَّة ; فَإِنَّ اللَّمْس أَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل بِالْيَدِ , فَقَصْره عَلَيْهِ دُون غَيْره مِنْ الْأَعْضَاء ; حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ الرَّجُل رِجْلَيْهِ فِي ثِيَاب اِمْرَأَتِهِ فَمَسَّ فَرْجَهَا أَوْ بَطْنَهَا لَا يَنْتَقِضُ لِذَلِكَ وُضُوءُهُ . وَقَالَ فِي الرَّجُل يُقَبِّل اِمْرَأَته : إِنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي قُلْت يَتَوَضَّأ , وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأ لَمْ أَعِبْهُ . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : لَا وُضُوء عَلَى مَنْ قَبَّلَ اِمْرَأَته أَوْ بَاشَرَهَا أَوْ لَمَسَهَا . وَهَذَا يُخَرَّج عَلَى مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة , وَاَللَّه أَعْلَم .
الْأَسْبَاب الَّتِي لَا يَجِد الْمُسَافِر مَعَهَا الْمَاء هِيَ إِمَّا عَدَمه جُمْلَةً أَوْ عَدَم بَعْضه , وَإِمَّا أَنْ يَخَاف فَوَات الرَّفِيق , أَوْ عَلَى الرَّحْل بِسَبَبِ طَلَبِهِ , أَوْ يَخَاف لُصُوصًا أَوْ سِبَاعًا , أَوْ فَوَات الْوَقْت , أَوْ عَطَشًا عَلَى نَفْسه أَوْ عَلَى غَيْره ; وَكَذَلِكَ لِطَبِيخٍ يَطْبُخهُ لِمَصْلَحَةِ بَدَنه ; فَإِذَا كَانَ أَحَد هَذِهِ الْأَشْيَاء تَيَمَّمَ وَصَلَّى . وَيَتَرَتَّب عَدَمه لِلْمَرِيضِ بِأَلَّا يَجِد مَنْ يُنَاوِلُهُ , أَوْ يَخَاف مِنْ ضَرَره . وَيَتَرَتَّب أَيْضًا عَدَمُهُ لِلصَّحِيحِ الْحَاضِر بِالْغَلَاءِ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَصْنَاف , أَوْ بِأَنْ يُسْجَن أَوْ يُرْبَط . وَقَالَ الْحَسَن : يَشْتَرِي الرَّجُل الْمَاء بِمَالِهِ كُلّه وَيَبْقَى عَدِيمًا , وَهَذَا ضَعِيف , لِأَنَّ دِينَ اللَّه يُسْر . وَقَالَتْ طَائِفَة : يَشْتَرِيه مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْقِيمَة الثُّلُث فَصَاعِدًا . وَقَالَتْ طَائِفَة : يَشْتَرِي قِيمَة الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ وَالثَّلَاث وَنَحْو هَذَا ; وَهَذَا كُلّه فِي مَذْهَب مَالِك رَحِمَهُ اللَّه . وَقِيلَ لِأَشْهَب : أَتُشْتَرَى الْقِرْبَة بِعَشَرَةِ دَرَاهِم ؟ فَقَالَ : مَا أَرَى ذَلِكَ عَلَى النَّاس . وَقَالَ الشَّافِعِيّ بِعَدَمِ الزِّيَادَة .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ طَلَب الْمَاء شَرْط فِي صِحَّة التَّيَمُّم أَمْ لَا ؟ فَظَاهِر مَذْهَب مَالِك أَنَّ ذَلِكَ شَرْط , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بْن نَصْر إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّة التَّيَمُّم ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَكُون فِي السَّفَر عَلَى غَلْوَتَيْنِ مِنْ طَرِيقه فَلَا يُعْدَل إِلَيْهِ . قَالَ إِسْحَاق : لَا يَلْزَمهُ الطَّلَب إِلَّا فِي مَوْضِعه , وَذَكَرَ حَدِيث اِبْن عُمَر , وَالْأَوَّل أَصَحّ وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك فِي الْمُوَطَّأ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء " وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّيَمُّم لَا يُسْتَعْمَل إِلَّا بَعْد طَلَب الْمَاء . وَأَيْضًا مِنْ جِهَة الْقِيَاس أَنَّ هَذَا بَدَل مَأْمُور بِهِ عِنْد الْعَجْز عَنْ مُبْدَله , فَلَا يُجْزِئ فِعْله إِلَّا مَعَ تَيَقُّن عَدَم مُبْدَله ; كَالصَّوْمِ مَعَ الْعِتْق فِي الْكَفَّارَة .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَعُدِمَ الْمَاء , فَلَا يَخْلُو أَنْ يَغْلِب عَلَى ظَنّ الْمُكَلَّف الْيَأْس مِنْ وُجُوده فِي الْوَقْت , أَوْ يَغْلِب عَلَى ظَنّه وُجُوده وَيَقْوَى رَجَاؤُهُ لَهُ , أَوْ يَتَسَاوَى عِنْده الْأَمْرَانِ , فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَحْوَال :
فَالْأَوَّل : يُسْتَحَبّ لَهُ التَّيَمُّم وَالصَّلَاة فِي أَوَّل الْوَقْت : لِأَنَّهُ إِذَا فَاتَتْهُ فَضِيلَة الْمَاء فَإِنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يُحْرِز فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت .
الثَّانِي : يَتَيَمَّم وَسَط الْوَقْت ; حَكَاهُ أَصْحَاب مَالِك عَنْهُ , فَيُؤَخِّر الصَّلَاة رَجَاء إِدْرَاك فَضِيلَة الْمَاء مَا لَمْ تَفُتْهُ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت , فَإِنَّ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت قَدْ تُدْرَك بِوَسَطِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ .
الثَّالِث : يُؤَخِّر الصَّلَاة إِلَى أَنْ يَجِد الْمَاء فِي آخِر الْوَقْت ; لِأَنَّ فَضِيلَة الْمَاء أَعْظَم مِنْ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت , لِأَنَّ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت مُخْتَلَف فِيهَا , وَفَضِيلَة الْمَاء مُتَّفَق عَلَيْهَا , وَفَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت يَجُوز تَرْكهَا دُون ضَرُورَة وَلَا يَجُوز تَرْك فَضِيلَة الْمَاء إِلَّا لِضَرُورَةٍ , وَالْوَقْت فِي ذَلِكَ هُوَ آخِر الْوَقْت الْمُخْتَار ; قَالَهُ اِبْن حَبِيب . وَلَوْ عَلِمَ الْمَاء فِي آخِر الْوَقْت فَتَيَمَّمَ فِي أَوَّله وَصَلَّى فَقَدْ قَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُجْزِئهُ , فَإِنْ وَجَدَ الْمَاء أَعَادَ فِي الْوَقْت خَاصَّة . وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون : إِنْ وَجَدَ الْمَاء بَعْدُ أَعَادَ أَبَدًا .
وَاَلَّذِي يُرَاعَى مِنْ وُجُود الْمَاء أَنْ يَجِد مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ , فَإِنْ وَجَدَ أَقَلّ مِنْ كِفَايَته تَيَمَّمَ وَلَمْ يَسْتَعْمِل مَا وَجَدَ مِنْهُ . وَهَذَا قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ فَرْضه أَحَد الشَّيْئَيْنِ , إِمَّا الْمَاء وَإِمَّا التُّرَاب .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَاء مُغْنِيًا عَنْ التَّيَمُّم كَانَ غَيْر مَوْجُود شَرْعًا ; لِأَنَّ الْمَطْلُوب مِنْ وُجُوده الْكِفَايَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر : يَسْتَعْمِل مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاء وَيَتَيَمَّم ; لِأَنَّهُ وَاجِد مَاء فَلَمْ يَتَحَقَّق شَرْط التَّيَمُّم ; فَإِذَا اِسْتَعْمَلَهُ وَفَقَدَ الْمَاء تَيَمَّمَ لِمَا لَمْ يَجِد . وَاخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيّ أَيْضًا فِيمَا إِذَا نَسِيَ الْمَاء فِي رَحْله فَتَيَمَّمَ ; وَالصَّحِيح أَنَّهُ يُعِيدُ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَاء عِنْده فَهُوَ وَاجِد وَإِنَّمَا فَرَّطَ . وَالْقَوْل الْآخَر لَا يُعِيد ; وَهُوَ قَوْل مَالِك ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَلَمْ يَجِدْهُ .
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَة الْوُضُوء بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّر ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء " فَقَالَ : هَذَا نَفْي فِي نَكِرَة , وَهُوَ يَعُمّ لُغَة ; فَيَكُون مُفِيدًا جَوَاز الْوُضُوء بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّر وَغَيْر الْمُتَغَيِّر ; لِانْطِلَاقِ اِسْم الْمَاء عَلَيْهِ . قُلْنَا : النَّفْي فِي النَّكِرَة يَعُمّ كَمَا قُلْتُمْ , وَلَكِنْ فِي الْجِنْس , فَهُوَ عَامّ فِي كُلّ مَاء كَانَ مِنْ سَمَاء أَوْ نَهَر أَوْ عَيْن عَذْب أَوْ مِلْح . فَأَمَّا غَيْر الْجِنْس وَهُوَ الْمُتَغَيِّر فَلَا يَدْخُل فِيهِ ; كَمَا لَا يَدْخُل فِيهِ مَاء الْبَاقِلَاء وَلَا مَاء الْوَرْد , وَسَيَأْتِي حُكْم الْمِيَاه فِي " الْفُرْقَان " , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُضُوء وَالِاغْتِسَال لَا يَجُوز بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْرِبَة سِوَى النَّبِيذ عِنْد عَدَم الْمَاء ; وَقَوْله تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا " يَرُدّهُ . وَالْحَدِيث الَّذِي فِيهِ ذِكْر الْوُضُوء بِالنَّبِيذِ رَوَاهُ اِبْن مَسْعُود , وَلَيْسَ بِثَابِتٍ ; لِأَنَّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو زَيْد , وَهُوَ مَجْهُول لَا يُعْرَف بِصُحْبَةِ عَبْد اللَّه ; قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَغَيْره . وَسَيَأْتِي فِي " الْفُرْقَان " بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الْمَاء الَّذِي يُبِيحُ عَدَمُهُ التَّيَمُّمَ هُوَ الطَّاهِر الْمُطَهِّر الْبَاقِي عَلَى أَوْصَاف خِلْقَته . وَقَالَ بَعْض مَنْ أَلَّفَ فِي أَحْكَام الْقُرْآن لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا } فَإِنَّمَا أَبَاحَ التَّيَمُّم عِنْد عَدَم كُلّ جُزْء مِنْ مَاء ; لِأَنَّهُ لَفْظ مُنَكَّر يَتَنَاوَل كُلّ جُزْء مِنْهُ ; سَوَاء كَانَ مُخَالِطًا لِغَيْرِهِ أَوْ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ . وَلَا يَمْتَنِع أَحَد أَنْ يَقُول فِي نَبِيذ التَّمْر مَاء ; فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّم مَعَ وُجُوده .
وَهَذَا مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه ; وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَخْبَارٍ ضَعِيفَة يَأْتِي ذِكْرهَا فِي سُورَة " الْفُرْقَان " , وَهُنَاكَ يَأْتِي الْقَوْل فِي الْمَاء إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
التَّيَمُّم مِمَّا خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة تَوْسِعَةً عَلَيْهَا ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فُضِّلْنَا عَلَى النَّاس بِثَلَاثٍ جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْض كُلّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا ) وَذَكَرَ الْحَدِيث , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر نُزُوله , وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْقِلَادَة حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر الْأَسْبَاب الَّتِي تُبِيحُهُ , وَالْكَلَام هَاهُنَا فِي مَعْنَاهُ لُغَة وَشَرْعًا , وَفِي صِفَته وَكَيْفِيَّته وَمَا يُتَيَمَّم بِهِ وَلَهُ , وَمَنْ يَجُوز لَهُ التَّيَمُّم , وَشُرُوط التَّيَمُّم إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامه .
فَالتَّيَمُّم لُغَة هُوَ الْقَصْد . تَيَمَّمْت الشَّيْء قَصَدْته , وَتَيَمَّمْت الصَّعِيد تَعَمَّدْته , وَتَيَمَّمْتُهُ بِرُمْحِي وَسَهْمِي أَيْ قَصَدْته دُون مَنْ سِوَاهُ . وَأَنْشَدَ الْخَلِيل : ش يَمَّمْته الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْت لَهُ و هَذِي الْبَسَالَةُ لَا لَعْبُ الزَّحَالِيقِ ش قَالَ الْخَلِيل : مَنْ قَالَ فِي هَذَا الْبَيْت أَمَّمْته فَقَدْ أَخْطَأَ ; لِأَنَّهُ قَالَ : " شَزْرًا " وَلَا يَكُون الشَّزْر إِلَّا مِنْ نَاحِيَة وَلَمْ يَقْصِد بِهِ أَمَامه . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : تَيَمَّمْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلُهَا بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالٍ وَقَالَ أَيْضًا : تَيَمَّمَتْ الْعَيْن الَّتِي عِنْد ضَارِج يَفِيء عَلَيْهَا الظِّلّ عَرْمَضُهَا طَامِي آخَرُ : إِنِّي كَذَاك إِذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ يَمَّمْت بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدَا وَقَالَ أَعْشَى بَاهِلَة : تَيَمَّمْت قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ مِنْ الْأَرْض مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَزَنْ وَقَالَ حُمَيْد بْن ثَوْر : سَلْ الرَّبْع أَنَّى يَمَّمَتْ أُمّ طَارِق وَهَلْ عَادَةٌ لِلرَّبْعِ أَنْ يَتَكَلَّمَا وَلِلشَّافِعِيِّ : عِلْمِي مَعِي حَيْثُمَا يَمَّمْت أَحْمِلُهُ بَطْنِي وِعَاءٌ لَهُ لَا بَطْنُ صُنْدُوقِ قَالَ اِبْن السِّكِّيت : قَوْله تَعَالَى " فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا " أَيْ اِقْصِدُوا ; ثُمَّ كَثُرَ اِسْتِعْمَالُهُمْ لِهَذِهِ الْكَلِمَة حَتَّى صَارَ التَّيَمُّم مَسْح الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ بِالتُّرَابِ . وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ فِي قَوْلهمْ : " قَدْ تَيَمَّمَ الرَّجُل " مَعْنَاهُ قَدْ مَسَحَ التُّرَاب عَلَى وَجْهه وَيَدَيْهِ . قُلْت : وَهَذَا هُوَ التَّيَمُّم الشَّرْعِيّ , إِذَا كَانَ الْمَقْصُود بِهِ الْقُرْبَة . وَيَمَّمْت الْمَرِيض فَتَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ . وَرَجُل مُيَمَّم يَظْفَر بِكُلِّ مَا يَطْلُب ; عَنْ الشَّيْبَانِيّ . وَأَنْشَدَ : إِنَّا وَجَدْنَا أَعْصُرَ بْنَ سَعْدِ مُيَمَّمَ الْبَيْتِ رَفِيعَ الْمَجْدِ وَقَالَ آخَر : أَزْهَر لَمْ يُولَدْ بِنَجْمِ الشُّحِّ مُيَمَّم الْبَيْت كَرِيم السِّنْحِ
لَفْظ التَّيَمُّم ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه فِي " الْبَقَرَة " وَفِي هَذِهِ السُّورَة و " الْمَائِدَة " وَاَلَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَة هِيَ آيَة التَّيَمُّم . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ مُعْضِلَة مَا وَجَدْت لِدَائِهَا مِنْ دَوَاء عِنْد أَحَد ; هُمَا آيَتَانِ فِيهِمَا ذِكْر التَّيَمُّم إِحْدَاهُمَا فِي " النِّسَاء " وَالْأُخْرَى فِي " الْمَائِدَة " . فَلَا نَعْلَم أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَة بِقَوْلِهَا : " فَأَنْزَلَ اللَّه آيَة التَّيَمُّم " . ثُمَّ قَالَ : وَحَدِيثهَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم قَبْل ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ .
قُلْت : أَمَّا قَوْله : " فَلَا نَعْلَم أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَة " فَهِيَ هَذِهِ الْآيَة عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَوْله : " وَحَدِيثُهَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ " فِي صَحِيح وَلَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ أَهْل السِّيَر ; لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنَّ غُسْل الْجَنَابَة لَمْ يُفْتَرَضْ قَبْل الْوُضُوء , كَمَا أَنَّهُ مَعْلُوم عِنْد جَمِيع أَهْل السِّيَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاة بِمَكَّة لَمْ يُصَلِّ إِلَّا بِوُضُوءٍ مِثْل وُضُوئِنَا الْيَوْم . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آيَة الْوُضُوء إِنَّمَا نَزَلَتْ لِيَكُونَ فَرْضُهَا الْمُتَقَدِّم مَتْلُوًّا فِي التَّنْزِيل . وَفِي قَوْله : " فَنَزَلَتْ آيَة التَّيَمُّم " وَلَمْ يَقُلْ آيَة الْوُضُوء مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي طَرَأَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْم فِي ذَلِكَ الْوَقْت حُكْم التَّيَمُّم لَا حُكْم الْوُضُوء ; وَهَذَا بَيِّنٌ لَا إِشْكَال فِيهِ .
التَّيَمُّم يَلْزَم كُلّ مُكَلَّف لَزِمَتْهُ الصَّلَاة إِذَا عَدِمَ الْمَاء وَدَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ وَالْمُزَنِيّ صَاحِب الشَّافِعِيّ : يَجُوز قَبْله ; لِأَنَّ طَلَب الْمَاء عِنْدهمْ لَيْسَ بِشَرْطٍ قِيَاسًا عَلَى النَّافِلَة ; فَلَمَّا جَازَ التَّيَمُّم لِلنَّافِلَةِ دُون طَلَب الْمَاء جَازَ أَيْضًا لِلْفَرِيضَةِ . وَاسْتَدَلُّوا مِنْ السُّنَّة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِي ذَرّ : ( الصَّعِيد الطَّيِّب وَضُوء الْمُسْلِم وَلَوْ لَمْ يَجِد الْمَاء عَشْر حِجَج ) . فَسَمَّى عَلَيْهِ السَّلَام الصَّعِيد وَضُوءًا كَمَا يُسَمَّى الْمَاء ; فَحُكْمه إِذًا حُكْم الْمَاء . وَاَللَّه أَعْلَم . وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى : " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء " وَلَا يُقَال : لَمْ يَجِد الْمَاء إِلَّا لِمَنْ طَلَبَ وَلَمْ يَجِد . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى ; وَلِأَنَّهَا طَهَارَة ضَرُورَة كَالْمُسْتَحَاضَةِ ; وَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاة تَيَمَّمْت وَصَلَّيْت ) . وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد , وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عَلِيّ وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم لَا يَرْفَع الْجَنَابَة وَلَا الْحَدَث , وَأَنَّ الْمُتَيَمِّم لَهُمَا إِذَا وَجَدَ الْمَاء عَادَ جُنُبًا كَمَا كَانَ أَوْ مُحْدِثًا ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِي ذَرّ : ( إِذَا وَجَدْت الْمَاء فَأَمِسَّهُ جِلْدَك ) إِلَّا شَيْء رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن , رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج وَعَبْد الْحَمِيد بْن جُبَيْر بْن شَيْبَة عَنْهُ ; وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن حَرْمَلَة عَنْهُ قَالَ فِي الْجُنُب الْمُتَيَمِّم يَجِد الْمَاء وَهُوَ عَلَى طَهَارَته : لَا يَحْتَاج إِلَى غُسْل وَلَا وُضُوء حَتَّى يُحْدِث . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيمَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء فِي الْوَقْت أَنَّهُ يَتَوَضَّأ وَيُعِيد تِلْكَ الصَّلَاة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَهَذَا تَنَاقُض وَقِلَّة رَوِيَّة . وَلَمْ يَكُنْ أَبُو سَلَمَة عِنْدهمْ يَفْقَهُ كَفِقْهِ أَصْحَابه التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمْ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلَاة بَطَلَ تَيَمُّمُهُ ; وَعَلَيْهِ اِسْتِعْمَال الْمَاء . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَفَرَغَ مِنْ صَلَاته , وَقَدْ كَانَ اِجْتَهَدَ فِي طَلَبه الْمَاء وَلَمْ يَكُنْ فِي رَحْله أَنَّ صَلَاته تَامَّة ; لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضه كَمَا أُمِرَ . فَغَيْر جَائِز أَنْ تُوجَب عَلَيْهِ الْإِعَادَة بِغَيْرِ حُجَّة . وَمِنْهُمْ مَنْ اِسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يُعِيد فِي الْوَقْت إِذَا تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ . وَرُوِيَ عَنْ طَاوُس وَعَطَاء وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَمَكْحُول وَابْن سِيرِينَ وَالزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة كُلّهمْ يَقُول : يُعِيد الصَّلَاة . وَاسْتَحَبَّ الْأَوْزَاعِيّ ذَلِكَ وَقَالَ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ ; لِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَر فَحَضَرَتْ الصَّلَاة وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاء فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا , ثُمَّ وَجَدَا الْمَاء فِي الْوَقْت فَأَعَادَ أَحَدهمَا الصَّلَاة بِالْوُضُوءِ وَلَمْ يُعِدْ الْآخَر , ثُمَّ أَتَيَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ : ( أَصَبْت السُّنَّة وَأَجْزَأَتْك صَلَاتُك ) وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ : ( لَك الْأَجْر مَرَّتَيْنِ ) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ : وَغَيْر اِبْن نَافِع يَرْوِيه عَنْ اللَّيْث عَنْ عَمِيرَة بْن أَبِي نَاجِيَة عَنْ بَكْر بْن سَوَادَةَ عَنْ عَطَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْر أَبِي سَعِيد فِي هَذَا الْإِسْنَاد لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِيهِ : ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء بَعْدُ فِي الْوَقْت .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء إِذَا وَجَدَ الْمَاء بَعْد دُخُول فِي الصَّلَاة ; فَقَالَ مَالِك : لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْع الصَّلَاة وَاسْتِعْمَال الْمَاء وَلْيُتِمَّ صَلَاته وَلْيَتَوَضَّأْ لِمَا يَسْتَقْبِل ; وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَجَمَاعَة مِنْهُمْ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَالْمُزَنِيّ : يَقْطَع وَيَتَوَضَّأ وَيَسْتَأْنِف الصَّلَاة لِوُجُودِ الْمَاء . وَحُجَّتهمْ أَنَّ التَّيَمُّم لَمَّا بَطَلَ بِوُجُودِ الْمَاء قَبْل الصَّلَاة فَكَذَلِكَ يَبْطُل مَا بَقِيَ مِنْهَا , وَإِذَا بَطَلَ بَعْضهَا بَطَلَ كُلّهَا ; لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ بِالشُّهُورِ لَا يَبْقَى عَلَيْهَا إِلَّا أَقَلّهَا ثُمَّ تَحِيض أَنَّهَا تَسْتَقْبِل عِدَّتهَا بِالْحَيْضِ . قَالُوا : وَاَلَّذِي يَطْرَأ عَلَيْهِ الْمَاء وَهُوَ فِي الصَّلَاة كَذَلِكَ قِيَاسًا وَنَظَرًا . وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالكُمْ " [ مُحَمَّد : 33 ] . وَقَدْ اِتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَى جَوَاز الدُّخُول فِي الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ عِنْد عَدَم الْمَاء , وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعهَا إِذَا رُئِيَ الْمَاء ; وَلَمْ تَثْبُت سُنَّة بِقَطْعِهَا وَلَا إِجْمَاع . وَمِنْ حُجَّتهمْ أَيْضًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْم فِي ظِهَار أَوْ قَتْل فَصَامَ مِنْهُ أَكْثَره ثُمَّ وَجَدَ رَقَبَة لَا يُلْغِي صَوْمه وَلَا يَعُود إِلَى الرَّقَبَة . وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ لَا يَقْطَعهَا وَلَا يَعُود إِلَى الْوُضُوء بِالْمَاءِ .
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُصَلِّي بِهِ صَلَوَات أَمْ يَلْزَم التَّيَمُّم لِكُلِّ صَلَاة فَرْض وَنَفْل ; فَقَالَ شَرِيك بْن عَبْد اللَّه الْقَاضِي : يَتَيَمَّم لِكُلِّ صَلَاة نَافِلَة وَفَرِيضَة . وَقَالَ مَالِك : لِكُلِّ فَرِيضَة ; لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَغِي الْمَاء لِكُلِّ صَلَاة , فَمَنْ اِبْتَغَى الْمَاء فَلَمْ يَجِدْهُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّم . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالْحَسَن بْن حَيّ وَدَاوُد : يُصَلِّي مَا شَاءَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد مَا لَمْ يُحْدِث ; لِأَنَّهُ طَاهِر مَا لَمْ يَجِد الْمَاء ; وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَب الْمَاء إِذَا يَئِسَ مِنْهُ . وَمَا قُلْنَاهُ أَصَحّ ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ عَلَى كُلّ قَائِم إِلَى الصَّلَاة طَلَب الْمَاء , وَأَوْجَبَ عِنْد عَدَمه التَّيَمُّم لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاة قَبْل خُرُوج الْوَقْت , فَهِيَ طَهَارَة ضَرُورَة نَاقِصَة بِدَلِيلِ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى بُطْلَانهَا بِوُجُودِ الْمَاء وَإِنْ لَمْ يُحْدِث ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّهَارَة بِالْمَاءِ . وَقَدْ يَنْبَنِي هَذَا الْخِلَاف أَيْضًا فِي جَوَاز التَّيَمُّم قَبْل دُخُول الْوَقْت ; فَالشَّافِعِيّ وَأَهْل الْمَقَالَة الْأُولَى لَا يُجَوِّزُونَهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا " ظَهَرَ مِنْهُ تَعَلُّق أَجْزَاء التَّيَمُّم بِالْحَاجَةِ , وَلَا حَاجَة قَبْل الْوَقْت . وَعَلَى هَذَا لَا يُصَلِّي فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد , وَهَذَا بَيِّنٌ . وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ صَلَّى صَلَاتَيْ فَرْض بِتَيَمُّمٍ وَاحِد ; فَرَوَى يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم : يُعِيد الثَّانِيَة مَا دَامَ فِي الْوَقْت . وَرَوَى أَبُو زَيْد بْن أَبِي الْغَمْر عَنْهُ : يُعِيد أَبَدًا . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون يُعِيد الثَّانِيَة أَبَدًا . وَهَذَا الَّذِي يُنَاظِر عَلَيْهِ أَصْحَابنَا ; لِأَنَّ طَلَب الْمَاء شَرْط . وَذَكَرَ اِبْن عَبْدُوس أَنَّ اِبْن نَافِع رَوَى عَنْ مَالِك فِي الَّذِي يَجْمَع بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَنَّهُ يَتَيَمَّم لِكُلِّ صَلَاة . وَقَالَ أَبُو الْفَرَج فِيمَنْ ذَكَرَ صَلَوَات : إِنْ قَضَاهُنَّ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَذَلِكَ جَائِز لَهُ . وَهَذَا عَلَى أَنَّ طَلَب الْمَاء لَيْسَ بِشَرْطٍ . وَالْأَوَّل أَصَحّ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الصَّعِيد : وَجْه الْأَرْض كَانَ عَلَيْهِ تُرَاب أَوْ لَمْ يَكُنْ ; قَالَهُ الْخَلِيل وَابْن الْأَعْرَابِيّ وَالزَّجَّاج . قَالَ الزَّجَّاج : لَا أَعْلَم فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْل اللُّغَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُزُرًا " [ الْكَهْف : 8 ] أَيْ أَرْضًا غَلِيظَة لَا تُنْبِت شَيْئًا . وَقَالَ تَعَالَى " فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا " [ الْكَهْف : 40 ] . وَمِنْهُ قَوْل ذِي الرُّمَّة : كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ دَبَّابَةٌ فِي عِظَام الرَّأْسِ خُرْطُومُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا لِأَنَّهُ نِهَايَة مَا يُصْعَد إِلَيْهِ مِنْ الْأَرْض . وَجَمْع الصَّعِيد صُعُدَات ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوس فِي الصُّعُدَات ) . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهِ مِنْ أَجْل تَقْيِيده بِالطَّيِّبِ ; فَقَالَتْ طَائِفَة : يَتَيَمَّم بِوَجْهِ الْأَرْض كُلّه تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمْلًا أَوْ حِجَارَة أَوْ مَعْدِنًا أَوْ سَبْخَة . هَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَالطَّبَرِيّ . و " طَيِّبًا " مَعْنَاهُ طَاهِرًا . وَقَالَتْ فُرْقَة : " طَيِّبًا " حَلَالًا ; وَهَذَا قَلِق . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف : الصَّعِيد التُّرَاب الْمُنْبِت وَهُوَ الطَّيِّب ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَالْبَلَد الطَّيِّب يَخْرُج نَبَاته بِإِذْنِ رَبّه " [ الْأَعْرَاف : 58 ] فَلَا يَجُوز التَّيَمُّم عِنْدهمْ عَلَى غَيْره . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَقَع الصَّعِيد إِلَّا عَلَى تُرَاب ذِي غُبَار . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ سُئِلَ أَيّ الصَّعِيد أَطْيَب ؟ فَقَالَ : الْحَرْث . قَالَ أَبُو عُمَر : وَفِي قَوْل اِبْن عَبَّاس هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الصَّعِيد يَكُون غَيْر أَرْض الْحَرْث . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُوَ التُّرَاب خَاصَّة . وَفِي كِتَاب الْخَلِيل : تَيَمَّمْ بِالصَّعِيدِ , أَيْ خُذْ مِنْ غُبَاره ; حَكَاهُ اِبْن فَارِس . وَهُوَ يَقْتَضِي التَّيَمُّم بِالتُّرَابِ فَإِنَّ الْحَجَر الصَّلْد لَا غُبَار عَلَيْهِ . وَقَالَ اِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيّ أَنْ يَعْلَق التُّرَاب بِالْيَدِ وَيَتَيَمَّم بِهِ نَقْلًا إِلَى أَعْضَاء التَّيَمُّم , كَالْمَاءِ يُنْقَل إِلَى أَعْضَاء الْوُضُوء . قَالَ اِلْكِيَا : وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظ الصَّعِيد لَيْسَ نَصًّا فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ , إِلَّا أَنَّ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( جُعِلْت لِيَ الْأَرْض مَسْجِدًا وَتُرَابهَا طَهُورًا ) بَيَّنَ ذَلِكَ .
قُلْت : فَاسْتَدَلَّ أَصْحَاب هَذِهِ الْمَقَالَة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَجُعِلَتْ تَرِبَتْهَا لَنَا طَهُورًا ) وَقَالُوا : هَذَا مِنْ بَاب الْمُطْلَق وَالْمُقَيَّد وَلَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَاب النَّصّ عَلَى بَعْض أَشْخَاص الْعُمُوم , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : 68 ] وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله " وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ " [ الْبَقَرَة : 98 ] . وَقَدْ حَكَى أَهْل اللُّغَة أَنَّ الصَّعِيد اِسْم لِوَجْهِ الْأَرْض كَمَا ذَكَرْنَا , وَهُوَ نَصّ الْقُرْآن كَمَا بَيَّنَّا , وَلَيْسَ بَعْد بَيَان اللَّه بَيَان . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجُنُبِ : ( عَلَيْك بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيك ) وَسَيَأْتِي . فَ " صَعِيدًا " عَلَى هَذَا ظَرْف مَكَان . وَمَنْ جَعَلَهُ لِلتُّرَابِ فَهُوَ مَفْعُول بِهِ بِتَقْدِيرِ حَذْف الْبَاء أَيْ بِصَعِيدٍ . و " طَيِّبًا " نَعْت لَهُ . وَمَنْ جَعَلَ " طَيِّبًا " بِمَعْنَى حَلَالًا نَصَبَهُ عَلَى الْحَال أَوْ الْمَصْدَر .
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ مَكَان الْإِجْمَاع مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ الرَّجُل عَلَى تُرَاب مُنْبِت طَاهِر غَيْر مَنْقُول وَلَا مَغْصُوب . وَمَكَان الْإِجْمَاع فِي الْمَنْع أَنْ يَتَيَمَّم الرَّجُل عَلَى الذَّهَب الصِّرْف وَالْفِضَّة وَالْيَاقُوت وَالزُّمُرُّد وَالْأَطْعِمَة كَالْخُبْزِ وَاللَّحْم وَغَيْرهمَا , أَوْ عَلَى النَّجَاسَات . وَاخْتُلِفَ فِي غَيْر هَذَا كَالْمَعَادِنِ ; فَأُجِيزَ وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَغَيْره . وَمُنِعَ وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَغَيْره . وَقَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَيَجُوز عِنْد مَالِك التَّيَمُّم عَلَى الْحَشِيش إِذَا كَانَ دُون الْأَرْض , وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي التَّيَمُّم عَلَى الثَّلْج فَفِي الْمُدَوَّنَة وَالْمَبْسُوط جَوَازُهُ ; وَفِي غَيْرهمَا مَنْعه . وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَب فِي التَّيَمُّم عَلَى الْعُود ; فَالْجُمْهُور عَلَى الْمَنْع . وَفِي مُخْتَصَر الْوَقَار أَنَّهُ جَائِز . وَقِيلَ : بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُون مُنْفَصِلًا أَوْ مُتَّصِلًا فَأُجِيزَ عَلَى الْمُتَّصِل وَمُنِعَ فِي الْمُنْفَصِل . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى شَجَرَة ثُمَّ مَسَحَ بِهَا أَجْزَأَهُ . قَالَ : وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ : يَجُوز بِالْأَرْضِ وَكُلّ مَا عَلَيْهَا مِنْ الشَّجَر وَالْحَجَر وَالْمَدَر وَغَيْرهَا , حَتَّى قَالَا : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْجَمَد وَالثَّلْج أَجْزَأَهُ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَأَمَّا التُّرَاب الْمَنْقُول مِنْ طِين أَوْ غَيْره فَجُمْهُور الْمَذْهَب عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم بِهِ , وَفِي الْمَذْهَب الْمَنْع وَهُوَ فِي غَيْر الْمَذْهَب أَكْثَر , وَأَمَّا مَا طُبِخَ كَالْجَصِّ وَالْآجُرّ فَفِيهِ فِي الْمَذْهَب قَوْلَانِ : الْإِجَازَة وَالْمَنْع ; وَفِي التَّيَمُّم عَلَى الْجِدَار خِلَاف .
قُلْت : وَالصَّحِيح الْجَوَاز لِحَدِيثِ أَبِي جُهَيْم بْن الْحَارِث بْن الصِّمَّة الْأَنْصَارِيّ قَالَ : أَقْبَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْو بِئْر جَمَل فَلَقِيَهُ رَجُل فَسَلَّمَ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَار فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ , ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . وَهُوَ دَلِيل عَلَى صِحَّة التَّيَمُّم بِغَيْرِ التُّرَاب كَمَا يَقُول مَالِك وَمَنْ وَافَقَهُ . وَيَرُدّ عَلَى الشَّافِعِيّ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي أَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ تُرَاب طَاهِر ذُو غُبَار يَعْلَق بِالْيَدِ . وَذَكَرَ النَّقَّاش عَنْ اِبْن عُلَيَّة وَابْن كَيْسَان أَنَّهُمَا أَجَازَا التَّيَمُّم بِالْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَان . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خَطَأ بَحْت مِنْ جِهَات . قَالَ أَبُو عُمَر : وَجَمَاعَة الْعُلَمَاء عَلَى إِجَازَة التَّيَمُّم بِالسِّبَاخِ إِلَّا إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِيمَنْ أَدْرَكَهُ التَّيَمُّم وَهُوَ فِي طِين قَالَ : يَأْخُذ مِنْ الطِّين فَيَطْلِي بِهِ بَعْض جَسَده , فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد : يَجُوز التَّيَمُّم بِغُبَارِ اللِّبَد . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَة التَّيَمُّم بِالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخ وَالنُّورَة وَالْجَصّ وَالْجَوْهَر الْمَسْحُوق . قَالَ : فَإِذَا تَيَمَّمَ بِسِحَالَةِ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالصُّفْر وَالنُّحَاس وَالرَّصَاص لَمْ يُجْزِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْس الْأَرْض .
الْمَسْح لَفْظ مُشْتَرَك يَكُون بِمَعْنَى الْجِمَاع , يُقَال : مَسَحَ الرَّجُل الْمَرْأَة إِذَا جَامَعَهَا . وَالْمَسْح : مَسْح الشَّيْء بِالسَّيْفِ وَقَطْعه . وَمَسَحَتْ الْإِبِل يَوْمهَا إِذَا سَارَتْ . وَالْمَسْحَاء الْمَرْأَة الرَّسْحَاء الَّتِي لَا اِسْت لَهَا . وَبِفُلَانٍ مَسْحَة مِنْ جَمَال . وَالْمُرَاد هُنَا بِالْمَسْحِ عِبَارَة عَنْ جَرّ الْيَد عَلَى الْمَمْسُوح خَاصَّة , فَإِنْ كَانَ بِآلَةٍ فَهُوَ عِبَارَة عَنْ نَقْل الْآلَة إِلَى الْيَد وَجَرِّهَا عَلَى الْمَمْسُوح , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى فِي آيَة الْمَائِدَة : " فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ " [ الْمَائِدَة : 6 ] . فَقَوْله " مِنْهُ " يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ نَقْل التُّرَاب إِلَى مَحِلّ التَّيَمُّم . وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَلَا نَشْتَرِطُهُ نَحْنُ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْض وَرَفَعَهُمَا نَفَخَ فِيهِمَا ; وَفِي رِوَايَة : نَفَضَ . وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى عَدَم اِشْتِرَاط الْآلَة ; يُوَضِّحهُ تَيَمُّمه عَلَى الْجِدَار . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدّ فِي مَسْح الرَّأْس بِالْمَاءِ مِنْ بَلَل يُنْقَل إِلَى الرَّأْس , فَكَذَلِكَ الْمَسْح بِالتُّرَابِ لَا بُدّ مِنْ النَّقْل . وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ حُكْم الْوَجْه فِي التَّيَمُّم وَالْوُضُوء الِاسْتِيعَاب وَتَتَبُّع مَوَاضِعه ; وَأَجَازَ بَعْضهمْ أَلَّا يُتَتَبَّع كَالْغُضُونِ فِي الْخُفَّيْنِ وَمَا بَيْنَ الْأَصَابِع فِي الرَّأْس , وَهُوَ فِي الْمَذْهَب قَوْل مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة ; حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة . وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ " فَبَدَأَ بِالْوَجْهِ قَبْل الْيَدَيْنِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُور . وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث عَمَّار فِي " بَاب التَّيَمُّم ضَرْبَة " ذَكَرَ الْيَدَيْنِ قَبْل الْوَجْه . وَقَالَهُ بَعْض أَهْل الْعِلْم قِيَاسًا عَلَى تَنْكِيس الْوُضُوء .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْنَ يَبْلُغ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْيَدَيْنِ ; فَقَالَ اِبْن شِهَاب : إِلَى الْمَنَاكِب . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق . وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُدَ عَنْ الْأَعْمَش أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ إِلَى أَنْصَاف ذِرَاعَيْهِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَمْ يَقُلْ أَحَد بِهَذَا الْحَدِيث فِيمَا حَفِظْت . وَقِيلَ : يَبْلُغ بِهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوء . وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا وَالثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي سَلَمَة وَاللَّيْث كُلّهمْ يَرَوْنَ بُلُوغ الْمِرْفَقَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَرْضًا وَاجِبًا . وَبِهِ قَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم وَابْن نَافِع , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي . قَالَ اِبْن نَافِع : مَنْ تَيَمَّمَ إِلَى الْكُوعَيْنِ أَعَادَ الصَّلَاة أَبَدًا وَقَالَ مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة : يُعِيد فِي الْوَقْت . وَرَوَى التَّيَمُّم إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عُمَر وَبِهِ كَانَ يَقُول . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : سُئِلَ قَتَادَة عَنْ التَّيَمُّم فِي السَّفَر فَقَالَ : كَانَ اِبْن عُمَر يَقُول إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ . وَكَانَ الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ يَقُولَانِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ . قَالَ : وَحَدَّثَنِي مُحَدِّث عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبْزَى عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ) . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : فَذَكَرْته لِأَحْمَد بْن حَنْبَل فَعَجِبَ مِنْهُ وَقَالَ مَا أَحْسَنَهُ ! . وَقَالَتْ طَائِفَة : يَبْلُغ بِهِ إِلَى الْكُوعَيْنِ وَهُمَا الرُّسْغَانِ . رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَالْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَالشَّعْبِيّ فِي رِوَايَة , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَالطَّبَرِيّ . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم . وَقَالَ مَكْحُول : اِجْتَمَعْت أَنَا وَالزُّهْرِيّ فَتَذَاكَرْنَا التَّيَمُّم فَقَالَ الزُّهْرِيّ : الْمَسْح إِلَى الْآبَاط . فَقُلْت : عَمَّنْ أَخَذْت هَذَا ؟ فَقَالَ : عَنْ كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ " فَهِيَ يَد كُلّهَا . قُلْت لَهُ : فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا " [ الْمَائِدَة : 38 ] فَمِنْ أَيْنَ تُقْطَع الْيَد ؟ قَالَ : فَخَصَمْته . وَحُكِيَ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيّ أَنَّ الْكُوعَيْنِ فَرْض وَالْآبَاط فَضِيلَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذَا قَوْل لَا يُعَضِّدهُ قِيَاس وَلَا دَلِيل , وَإِنَّمَا عَمَّمَ قَوْم لَفْظ الْيَد فَأَوْجَبُوهُ مِنْ الْمَنْكِب : وَقَاسَ قَوْم عَلَى الْوُضُوء فَأَوْجَبُوهُ مِنْ الْمَرَافِق وَهَهُنَا جُمْهُور الْأُمَّة , وَوَقَفَ قَوْم مَعَ الْحَدِيث فِي الْكُوعَيْنِ , وَقِيسَ أَيْضًا عَلَى الْقَطْع إِذْ هُوَ حُكْم شَرْعِيّ وَتَطْهِير كَمَا هَذَا تَطْهِير , وَوَقَفَ قَوْم مَعَ حَدِيث عَمَّار فِي الْكَفَّيْنِ . وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْضًا هَلْ يَكْفِي فِي التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة أَنَّ التَّيَمُّم بِضَرْبَتَيْنِ : ضَرْبَة لِلْوَجْهِ وَضَرْبَة لِلْيَدَيْنِ ; وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ , وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَابْن أَبِي سَلَمَة . وَرَوَاهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ اِبْن أَبِي الْجَهْم : التَّيَمُّم بِضَرْبَةٍ وَاحِدَة . وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ فِي الْأَشْهَر عَنْهُ ; وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَالشَّعْبِيّ فِي رِوَايَة . وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَالطَّبَرِيّ . وَهُوَ أَثْبَت مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيث عَمَّار . قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : إِنْ تَيَمَّمَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَة أَجْزَأَهُ . وَقَالَ اِبْن نَافِع : يُعِيد أَبَدًا . قَالَ أَبُو عُمَر وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَن بْن حَيّ : ضَرْبَتَانِ ; يَمْسَح بِكُلِّ ضَرْبَة مِنْهُمَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ . وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَد مِنْ أَهْل الْعِلْم غَيْرهمَا . قَالَ أَبُو عُمَر : لَمَّا اِخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي كَيْفِيَّة التَّيَمُّم وَتَعَارَضَتْ كَانَ الْوَاجِب فِي ذَلِكَ الرُّجُوع إِلَى ظَاهِر الْكِتَاب , وَهُوَ يَدُلّ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَة لِلْوَجْهِ , وَلِلْيَدَيْنِ أُخْرَى إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ , قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوء وَاتِّبَاعًا لِفِعْلِ اِبْن عُمَر ; فَإِنَّهُ مَنْ لَا يُدْفَع عِلْمه بِكِتَابِ اللَّه . وَلَوْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْء وَجَبَ الْوُقُوف عِنْده . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
أَيْ لَمْ يَزَلْ كَائِنًا يَقْبَل الْعَفْو وَهُوَ السَّهْل , وَيَغْفِر الذَّنْب أَيْ يَسْتُر عُقُوبَتَهُ فَلَا يُعَاقِب .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ↓
قَوْله تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَاب " إِلَى قَوْله تَعَالَى : " فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ " الْآيَة . نَزَلَتْ فِي يَهُود الْمَدِينَة وَمَا وَالَاهَا . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : وَكَانَ رِفَاعَة بْن زَيْد بْن التَّابُوت مِنْ عُظَمَاء يَهُود , إِذَا كَلَّمَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوَى لِسَانَهُ وَقَالَ : أَرْعِنَا سَمْعَك يَا مُحَمَّد حَتَّى نُفْهِمك ; ثُمَّ طَعَنَ فِي الْإِسْلَام وَعَابَهُ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَاب " إِلَى قَوْله " قَلِيلًا " . وَمَعْنَى " يَشْتَرُونَ " يَسْتَبْدِلُونَ فَهُوَ فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال , وَفِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره يَشْتَرُونَ الضَّلَالَة بِالْهُدَى ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " أُولَئِكَ الَّذِينَ اِشْتَرَوُا الضَّلَالَة بِالْهُدَى " [ الْبَقَرَة : 16 ] قَالَهُ الْقُتَبِيّ وَغَيْره .
عَطْف عَلَيْهِ , وَالْمَعْنَى تَضِلُّوا طَرِيق الْحَقّ . وَقَرَأَ الْحَسَن : " تُضَلُّوا " بِفَتْحِ الضَّاد أَيْ عَنْ السَّبِيل .
عَطْف عَلَيْهِ , وَالْمَعْنَى تَضِلُّوا طَرِيق الْحَقّ . وَقَرَأَ الْحَسَن : " تُضَلُّوا " بِفَتْحِ الضَّاد أَيْ عَنْ السَّبِيل .
يُرِيد مِنْكُمْ ; فَلَا تَسْتَصْحِبُوهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاؤُكُمْ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " أَعْلَم " بِمَعْنَى عَلِيم ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَهُوَ أَهْوَن عَلَيْهِ " [ الرُّوم : 27 ] أَيْ هَيِّنٌ .
الْبَاء زَائِدَة ; زِيدَتْ لِأَنَّ الْمَعْنَى اِكْتَفُوا بِاَللَّهِ فَهُوَ يَكْفِيكُمْ أَعْدَاءَكُمْ . و " وَلِيًّا " و " نَصِيرًا " نَصْب عَلَى الْبَيَان , وَإِنْ شِئْت عَلَى الْحَال .
الْبَاء زَائِدَة ; زِيدَتْ لِأَنَّ الْمَعْنَى اِكْتَفُوا بِاَللَّهِ فَهُوَ يَكْفِيكُمْ أَعْدَاءَكُمْ . و " وَلِيًّا " و " نَصِيرًا " نَصْب عَلَى الْبَيَان , وَإِنْ شِئْت عَلَى الْحَال .
مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ↓
قَالَ الزَّجَّاج : إِنْ جُعِلَتْ " مِنْ " مُتَعَلِّقَة بِمَا قَبْل فَلَا يُوقَف عَلَى قَوْله " نَصِيرًا " , وَإِنْ جُعِلَتْ مُنْقَطِعَة فَيَجُوز الْوَقْف عَلَى " نَصِيرًا " وَالتَّقْدِير مِنْ الَّذِينَ هَادُوا قَوْم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ; ثُمَّ حُذِفَ . وَهَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهِ , وَأَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ : لَوْ قُلْت مَا فِي قَوْمِهَا لَمْ تِيثَمِ يَفْضُلُهَا فِي حَسَب وَمِيسَم قَالُوا : الْمَعْنَى لَوْ قُلْت مَا فِي قَوْمهَا أَحَد يَفْضُلهَا ; ثُمَّ حُذِفَ . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَحْذُوف " مِنْ " الْمَعْنَى : مِنْ الَّذِينَ هَادُوا مَنْ يُحَرِّفُونَ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَام مَعْلُوم " [ الصَّافَّات : 164 ] أَيْ مَنْ لَهُ . وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ وَآخَر يُذْرِي عَبْرَةَ الْعَيْن بِالْهَمْلِ يُرِيد وَمِنْهُمْ مَنْ دَمْعه , فَحَذَفَ الْمَوْصُول . وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّد وَالزَّجَّاج ; لِأَنَّ حَذْف الْمَوْصُول كَحَذْفِ بَعْض الْكَلِمَة .
يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله . وَذَمَّهُمْ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ مُتَعَمِّدِينَ . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ " الْكَلَام " . قَالَ النَّحَّاس : و " الْكَلِم " فِي هَذَا أَوْلَى ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُحَرِّفُونَ كَلِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَوْ مَا عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة وَلَيْسَ يُحَرِّفُونَ جَمِيع الْكَلَام ,
يَعْنِي صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَيْ سَمِعْنَا قَوْلَك وَعَصَيْنَا أَمْرك .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اِسْمَعْ لَا سَمِعْتَ , هَذَا مُرَادهمْ - لَعَنَهُمْ اللَّه - وَهُمْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ اِسْمَعْ غَيْر مُسْمَع مَكْرُوهًا وَلَا أَذًى . وَقَالَ الْحَسَن وَمُجَاهِد . مَعْنَاهُ غَيْر مُسْمَع مِنْك , أَيْ مَقْبُول وَلَا مُجَاب إِلَى مَا تَقُول . قَالَ النَّحَّاس : وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ غَيْر مَسْمُوع مِنْك .
ذَكَرَ شَيْئًا آخَر مِنْ جَهَالَات الْيَهُود وَالْمَقْصُود نَهْي الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْل ذَلِكَ . وَحَقِيقَة " رَاعِنَا " فِي اللُّغَة اِرْعَنَا وَلْنَرْعَك ; لِأَنَّ الْمُفَاعَلَة مِنْ اِثْنَيْنِ ; فَتَكُون مِنْ رَعَاك اللَّه , أَيْ اِحْفَظْنَا وَلْنَحْفَظْك , وَارْقُبْنَا وَلْنَرْقُبْك . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ أَرْعِنَا سَمْعَك ; أَيْ فَرِّغْ سَمْعَك لِكَلَامِنَا . وَفِي الْمُخَاطَبَة بِهَذَا جَفَاء ; فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَخَيَّرُوا مِنْ الْأَلْفَاظ أَحْسَنَهَا وَمِنْ الْمَعَانِي أَرَقَّهَا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَاعِنَا . عَلَى جِهَة الطَّلَب وَالرَّغْبَة - مِنْ الْمُرَاعَاة - أَيْ اِلْتَفِتْ إِلَيْنَا ; وَكَانَ هَذَا بِلِسَانِ الْيَهُود سَبًّا , أَيْ اِسْمَعْ لَا سَمِعْت ; فَاغْتَنَمُوهَا وَقَالُوا : كُنَّا نَسُبُّهُ سِرًّا فَالْآن نَسُبُّهُ جَهْرًا ; فَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنهمْ ; فَسَمِعَهَا سَعْد بْن مُعَاذ وَكَانَ يَعْرِف لُغَتَهُمْ ; فَقَالَ لِلْيَهُودِ : عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّه ! لَئِنْ سَمِعْتهَا مِنْ رَجُل مِنْكُمْ يَقُولهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقه ; فَقَالُوا : أَوَلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا ؟ فَنَزَلَتْ الْآيَة , وَنُهُوا عَنْهَا لِئَلَّا تَقْتَدِيَ بِهَا الْيَهُود فِي اللَّفْظ وَتَقْصِد الْمَعْنَى الْفَاسِد فِيهِ .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيلَانِ :
أَحَدهمَا : عَلَى تَجَنُّب الْأَلْفَاظ الْمُحْتَمَلَة الَّتِي فِيهَا التَّعْرِيض لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضّ , وَيَخْرُج مِنْ هَذَا فَهْم الْقَذْف بِالتَّعْرِيضِ , وَذَلِكَ يُوجِب الْحَدّ عِنْدنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا حِينَ قَالُوا : التَّعْرِيض مُحْتَمِل لِلْقَذْفِ وَغَيْره , وَالْحَدّ مِمَّا يَسْقُط بِالشُّبْهَةِ . وَسَيَأْتِي فِي " النُّور " بَيَان هَذَا , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الدَّلِيل الثَّانِي : التَّمَسُّك بِسَدِّ الذَّرَائِع وَحِمَايَتهَا وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه وَأَحْمَد بْن حَنْبَل فِي رِوَايَة عَنْهُ ; وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْل الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَالذَّرِيعَة عِبَارَة عَنْ أَمْر غَيْر مَمْنُوع لِنَفْسِهِ يَخَاف مِنْ اِرْتِكَابه الْوُقُوع فِي مَمْنُوع . أَمَّا الْكِتَاب فَهَذِهِ الْآيَة , وَوَجْه التَّمَسُّك بِهَا أَنَّ الْيَهُود كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَهِيَ سَبّ بِلُغَتِهِمْ ; فَلَمَّا عَلِمَ اللَّه ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاق ذَلِكَ اللَّفْظ ; لِأَنَّهُ ذَرِيعَة لِلسَّبِّ , وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه فَيَسُبُّوا اللَّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم " [ الْأَنْعَام : 108 ] فَمَنَعَ مِنْ سَبّ آلِهَتهمْ مَخَافَة مُقَابَلَتهمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ , وَقَوْله تَعَالَى : " وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَة الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَة الْبَحْر " [ الْأَعْرَاف : 163 ] الْآيَة ; فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الصَّيْد فِي يَوْم السَّبْت ; فَكَانَتْ الْحِيتَان تَأْتِيهِمْ يَوْم السَّبْت شُرَّعًا , أَيْ ظَاهِرَة , فَسَدُّوا عَلَيْهَا يَوْم السَّبْت وَأَخَذُوهَا يَوْم الْأَحَد , وَكَانَ السَّدّ ذَرِيعَة لِلِاصْطِيَادِ ; فَمَسَخَهُمْ اللَّه قِرَدَة وَخَنَازِير ; وَذَكَرَ اللَّه لَنَا ذَلِكَ مَعْنَى التَّحْذِير عَنْ ذَلِكَ ; وَقَوْله تَعَالَى لِآدَم وَحَوَّاء : " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة " [ الْبَقَرَة : 35 ] وَفْد تَقَدَّمَ . وَأَمَّا السُّنَّة فَأَحَادِيثُ كَثِيرَة ثَابِتَة صَحِيحَة , مِنْهَا حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ أُمّ حَبِيبَة وَأُمّ سَلَمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُنَّ ذَكَرَتَا كَنِيسَة رَأَيَاهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِير [ فَذَكَرَتَا ذَلِكَ ] لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُل الصَّالِح فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْره مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَر أُولَئِكِ شِرَار الْخَلْق عِنْد اللَّه ) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَفَعَلَ ذَلِكَ أَوَائِلُهُمْ لِيَتَأَنَّسُوا بِرُؤْيَةِ تِلْكَ الصُّوَر وَيَتَذَكَّرُوا أَحْوَالهمْ الصَّالِحَة فَيَجْتَهِدُونَ كَاجْتِهَادِهِمْ وَيَعْبُدُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عِنْد قُبُورهمْ , فَمَضَتْ لَهُمْ بِذَلِكَ أَزْمَان , ثُمَّ أَنَّهُمْ خَلَفَ مِنْ بَعْدهمْ خُلُوف جَهِلُوا أَغْرَاضَهُمْ , وَوَسْوَسَ لَهُمْ الشَّيْطَان أَنَّ آبَاءَكُمْ وَأَجْدَادكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ هَذِهِ الصُّورَة فَعَبَدُوهَا ; فَحَذَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْل ذَلِكَ , وَشَدَّدَ النَّكِير وَالْوَعِيد عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , وَسَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ : ( اِشْتَدَّ غَضَب اللَّه عَلَى قَوْم اِتَّخَذُوا قُبُور أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِد ) وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَد ) . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( الْحَلَال بَيِّنٌ وَالْحَرَام بَيِّنٌ وَبَيْنهمَا أُمُور مُتَشَابِهَات فَمَنْ اِتَّقَى الشُّبُهَات اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضه وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَام كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِك أَنْ يَقَع فِيهِ ) الْحَدِيث , فَمَنَعَ مِنْ الْإِقْدَام عَلَى الشُّبُهَات مَخَافَة الْوُقُوع فِي الْمُحَرَّمَات ; وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَبْلُغُ الْعَبْد أَنْ يَكُون مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْس ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ الْكَبَائِر شَتْمَ الرَّجُل وَالِدَيْهِ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ يَشْتُم الرَّجُل وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ يَسُبّ أَبَا الرَّجُل فَيَسُبّ أَبَاهُ وَيَسُبّ أُمَّهُ فَيَسُبّ أُمَّهُ ) . فَجَعَلَ التَّعَرُّض لِسَبِّ الْآبَاء كَسَبِّ الْآبَاء . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَاب الْبَقَر وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَاد سَلَّطَ اللَّه عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ مِنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينكُمْ ) . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد الْهَرَوِيّ : الْعِينَة هُوَ أَنْ يَبِيع الرَّجُل مِنْ رَجُل سِلْعَة بِثَمَنٍ مَعْلُوم إِلَى أَجَل مُسَمًّى , ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَن الَّذِي بَاعَهَا بِهِ . قَالَ : فَإِنْ اِشْتَرَى بِحَضْرَةِ طَالِب الْعِينَة سِلْعَة مِنْ آخَر بِثَمَنٍ مَعْلُوم وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ طَالِب الْعِينَة بِثَمَنٍ أَكْثَر مِمَّا اِشْتَرَاهُ إِلَى أَجَل مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِع الْأَوَّل بِالنَّقْدِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَن فَهَذِهِ أَيْضًا عِينَة ; وَهِيَ أَهْوَن مِنْ الْأُولَى , وَهُوَ جَائِز عِنْد بَعْضهمْ . وَسُمِّيَتْ عِينَة لِحُصُولِ النَّقْد لِصَاحِبِ الْعِينَة ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْن هُوَ الْمَال الْحَاضِر وَالْمُشْتَرِي إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا بِعَيْنِ حَاضِر يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْره . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ أُمّ وَلَد لِزَيْدِ بْن الْأَرْقَم ذَكَرَتْ لِعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْد عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْعَطَاء ثُمَّ اِبْتَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا ; فَقَالَتْ عَائِشَة : بِئْسَ مَا شَرَيْت , وَبِئْسَ مَا اِشْتَرَيْت ! بَلِّغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ . وَمِثْل هَذَا لَا يُقَال بِالرَّأْيِ ; لِأَنَّ إِبْطَال الْأَعْمَال لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَتهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ ; فَثَبَتَ أَنَّهُ مَرْفُوع إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : دَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَة . وَنَهَى اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بَيْنهمَا حَرِيزَةٌ .
قُلْت : فَهَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّة الَّتِي لَنَا عَلَى سَدّ الذَّرَائِع , وَعَلَيْهِ بَنَى الْمَالِكِيَّة كِتَاب الْآجَال وَغَيْره مِنْ الْمَسَائِل فِي الْبُيُوع وَغَيْرهَا . وَلَيْسَ عِنْد الشَّافِعِيَّة كِتَاب الْآجَال . لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدهمْ عُقُود مُخْتَلِفَة مُسْتَقِلَّة ; قَالُوا : وَأَصْل الْأَشْيَاء عَلَى الظَّوَاهِر لَا عَلَى الظُّنُون . وَالْمَالِكِيَّة جَعَلُوا السِّلْعَة مُحَلَّلَة لِيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى دَرَاهِم بِأَكْثَر مِنْهَا , وَهَذَا هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ ; فَاعْلَمْهُ .
" لَا تَقُولُوا رَاعِنَا " نَهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقَرَأَ الْحَسَن " رَاعِنًا " مَنُونَةً . وَقَالَ : أَيْ هُجْرًا مِنْ الْقَوْل , وَهُوَ مَصْدَر وَنَصْبه بِالْقَوْلِ ; أَيْ لَا تَقُولُوا رُعُونَةً . وَقَرَأَ زِرّ بْن حُبَيْش وَالْأَعْمَش " رَاعُونَا " ; يُقَال لِمَا نَتَأَ مِنْ الْجَبَل : رَعْن ; وَالْجَبَل أَرْعَن . وَجَيْش أَرْعَن أَيْ مُتَفَرِّق . وَكَذَا رَجُل أَرْعَن ; أَيْ مُتَفَرِّق الْحُجَج وَلَيْسَ عَقْلُهُ مُجْتَمِعًا ; عَنْ النَّحَّاس . وَقَالَ اِبْن فَارِس : رَعِنَ الرَّجُل يَرْعَن رَعَنًا فَهُوَ أَرْعَن ; أَيْ أَهْوَج . وَالْمَرْأَة رَعْنَاء . وَسُمِّيَتْ الْبَصْرَة رَعْنَاء لِأَنَّهَا تُشَبَّهُ بِرَعْنِ الْجَبَل ; قَالَ اِبْن دُرَيْد ذَلِكَ , وَأَنْشَدَ لِلْفَرَزْدَقِ : لَوْلَا اِبْن عُتْبَة عَمْرٌو وَالرَّجَاءُ لَهُ مَا كَانَتْ الْبَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنَا
أَيْ يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ عَنْ الْحَقّ أَيْ يُمِيلُونَهَا إِلَى مَا فِي قُلُوبهمْ . وَأَصْل اللَّيّ الْفَتْل , وَهُوَ نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , وَإِنْ شِئْت كَانَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْله . وَأَصْله لَوْيًا ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْوَاو فِي الْيَاء .
مَعْطُوف عَلَيْهِ أَيْ يَطْعَنُونَ فِي الدِّين , أَيْ يَقُولُونَ لِأَصْحَابِهِمْ لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَدَرَى أَنَّنَا نَسُبُّهُ , فَأَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ مِنْ عَلَامَات نُبُوَّتِهِ , وَنَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْقَوْل .
" أَقْوَم " أَصْوَب لَهُمْ فِي الرَّأْي .
" فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا " أَيْ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ اِسْم الْإِيمَان . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ; وَهَذَا بَعِيد لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَعَنَهُمْ بِكُفْرِهِمْ .
يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله . وَذَمَّهُمْ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ مُتَعَمِّدِينَ . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ " الْكَلَام " . قَالَ النَّحَّاس : و " الْكَلِم " فِي هَذَا أَوْلَى ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُحَرِّفُونَ كَلِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَوْ مَا عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة وَلَيْسَ يُحَرِّفُونَ جَمِيع الْكَلَام ,
يَعْنِي صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَيْ سَمِعْنَا قَوْلَك وَعَصَيْنَا أَمْرك .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اِسْمَعْ لَا سَمِعْتَ , هَذَا مُرَادهمْ - لَعَنَهُمْ اللَّه - وَهُمْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ اِسْمَعْ غَيْر مُسْمَع مَكْرُوهًا وَلَا أَذًى . وَقَالَ الْحَسَن وَمُجَاهِد . مَعْنَاهُ غَيْر مُسْمَع مِنْك , أَيْ مَقْبُول وَلَا مُجَاب إِلَى مَا تَقُول . قَالَ النَّحَّاس : وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ غَيْر مَسْمُوع مِنْك .
ذَكَرَ شَيْئًا آخَر مِنْ جَهَالَات الْيَهُود وَالْمَقْصُود نَهْي الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْل ذَلِكَ . وَحَقِيقَة " رَاعِنَا " فِي اللُّغَة اِرْعَنَا وَلْنَرْعَك ; لِأَنَّ الْمُفَاعَلَة مِنْ اِثْنَيْنِ ; فَتَكُون مِنْ رَعَاك اللَّه , أَيْ اِحْفَظْنَا وَلْنَحْفَظْك , وَارْقُبْنَا وَلْنَرْقُبْك . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ أَرْعِنَا سَمْعَك ; أَيْ فَرِّغْ سَمْعَك لِكَلَامِنَا . وَفِي الْمُخَاطَبَة بِهَذَا جَفَاء ; فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَخَيَّرُوا مِنْ الْأَلْفَاظ أَحْسَنَهَا وَمِنْ الْمَعَانِي أَرَقَّهَا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَاعِنَا . عَلَى جِهَة الطَّلَب وَالرَّغْبَة - مِنْ الْمُرَاعَاة - أَيْ اِلْتَفِتْ إِلَيْنَا ; وَكَانَ هَذَا بِلِسَانِ الْيَهُود سَبًّا , أَيْ اِسْمَعْ لَا سَمِعْت ; فَاغْتَنَمُوهَا وَقَالُوا : كُنَّا نَسُبُّهُ سِرًّا فَالْآن نَسُبُّهُ جَهْرًا ; فَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنهمْ ; فَسَمِعَهَا سَعْد بْن مُعَاذ وَكَانَ يَعْرِف لُغَتَهُمْ ; فَقَالَ لِلْيَهُودِ : عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّه ! لَئِنْ سَمِعْتهَا مِنْ رَجُل مِنْكُمْ يَقُولهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقه ; فَقَالُوا : أَوَلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا ؟ فَنَزَلَتْ الْآيَة , وَنُهُوا عَنْهَا لِئَلَّا تَقْتَدِيَ بِهَا الْيَهُود فِي اللَّفْظ وَتَقْصِد الْمَعْنَى الْفَاسِد فِيهِ .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيلَانِ :
أَحَدهمَا : عَلَى تَجَنُّب الْأَلْفَاظ الْمُحْتَمَلَة الَّتِي فِيهَا التَّعْرِيض لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضّ , وَيَخْرُج مِنْ هَذَا فَهْم الْقَذْف بِالتَّعْرِيضِ , وَذَلِكَ يُوجِب الْحَدّ عِنْدنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا حِينَ قَالُوا : التَّعْرِيض مُحْتَمِل لِلْقَذْفِ وَغَيْره , وَالْحَدّ مِمَّا يَسْقُط بِالشُّبْهَةِ . وَسَيَأْتِي فِي " النُّور " بَيَان هَذَا , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الدَّلِيل الثَّانِي : التَّمَسُّك بِسَدِّ الذَّرَائِع وَحِمَايَتهَا وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه وَأَحْمَد بْن حَنْبَل فِي رِوَايَة عَنْهُ ; وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْل الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَالذَّرِيعَة عِبَارَة عَنْ أَمْر غَيْر مَمْنُوع لِنَفْسِهِ يَخَاف مِنْ اِرْتِكَابه الْوُقُوع فِي مَمْنُوع . أَمَّا الْكِتَاب فَهَذِهِ الْآيَة , وَوَجْه التَّمَسُّك بِهَا أَنَّ الْيَهُود كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَهِيَ سَبّ بِلُغَتِهِمْ ; فَلَمَّا عَلِمَ اللَّه ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاق ذَلِكَ اللَّفْظ ; لِأَنَّهُ ذَرِيعَة لِلسَّبِّ , وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه فَيَسُبُّوا اللَّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم " [ الْأَنْعَام : 108 ] فَمَنَعَ مِنْ سَبّ آلِهَتهمْ مَخَافَة مُقَابَلَتهمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ , وَقَوْله تَعَالَى : " وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَة الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَة الْبَحْر " [ الْأَعْرَاف : 163 ] الْآيَة ; فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الصَّيْد فِي يَوْم السَّبْت ; فَكَانَتْ الْحِيتَان تَأْتِيهِمْ يَوْم السَّبْت شُرَّعًا , أَيْ ظَاهِرَة , فَسَدُّوا عَلَيْهَا يَوْم السَّبْت وَأَخَذُوهَا يَوْم الْأَحَد , وَكَانَ السَّدّ ذَرِيعَة لِلِاصْطِيَادِ ; فَمَسَخَهُمْ اللَّه قِرَدَة وَخَنَازِير ; وَذَكَرَ اللَّه لَنَا ذَلِكَ مَعْنَى التَّحْذِير عَنْ ذَلِكَ ; وَقَوْله تَعَالَى لِآدَم وَحَوَّاء : " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة " [ الْبَقَرَة : 35 ] وَفْد تَقَدَّمَ . وَأَمَّا السُّنَّة فَأَحَادِيثُ كَثِيرَة ثَابِتَة صَحِيحَة , مِنْهَا حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ أُمّ حَبِيبَة وَأُمّ سَلَمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُنَّ ذَكَرَتَا كَنِيسَة رَأَيَاهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِير [ فَذَكَرَتَا ذَلِكَ ] لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُل الصَّالِح فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْره مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَر أُولَئِكِ شِرَار الْخَلْق عِنْد اللَّه ) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَفَعَلَ ذَلِكَ أَوَائِلُهُمْ لِيَتَأَنَّسُوا بِرُؤْيَةِ تِلْكَ الصُّوَر وَيَتَذَكَّرُوا أَحْوَالهمْ الصَّالِحَة فَيَجْتَهِدُونَ كَاجْتِهَادِهِمْ وَيَعْبُدُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عِنْد قُبُورهمْ , فَمَضَتْ لَهُمْ بِذَلِكَ أَزْمَان , ثُمَّ أَنَّهُمْ خَلَفَ مِنْ بَعْدهمْ خُلُوف جَهِلُوا أَغْرَاضَهُمْ , وَوَسْوَسَ لَهُمْ الشَّيْطَان أَنَّ آبَاءَكُمْ وَأَجْدَادكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ هَذِهِ الصُّورَة فَعَبَدُوهَا ; فَحَذَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْل ذَلِكَ , وَشَدَّدَ النَّكِير وَالْوَعِيد عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , وَسَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ : ( اِشْتَدَّ غَضَب اللَّه عَلَى قَوْم اِتَّخَذُوا قُبُور أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِد ) وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَد ) . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( الْحَلَال بَيِّنٌ وَالْحَرَام بَيِّنٌ وَبَيْنهمَا أُمُور مُتَشَابِهَات فَمَنْ اِتَّقَى الشُّبُهَات اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضه وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَام كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِك أَنْ يَقَع فِيهِ ) الْحَدِيث , فَمَنَعَ مِنْ الْإِقْدَام عَلَى الشُّبُهَات مَخَافَة الْوُقُوع فِي الْمُحَرَّمَات ; وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَبْلُغُ الْعَبْد أَنْ يَكُون مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْس ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ الْكَبَائِر شَتْمَ الرَّجُل وَالِدَيْهِ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ يَشْتُم الرَّجُل وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ يَسُبّ أَبَا الرَّجُل فَيَسُبّ أَبَاهُ وَيَسُبّ أُمَّهُ فَيَسُبّ أُمَّهُ ) . فَجَعَلَ التَّعَرُّض لِسَبِّ الْآبَاء كَسَبِّ الْآبَاء . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَاب الْبَقَر وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَاد سَلَّطَ اللَّه عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ مِنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينكُمْ ) . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد الْهَرَوِيّ : الْعِينَة هُوَ أَنْ يَبِيع الرَّجُل مِنْ رَجُل سِلْعَة بِثَمَنٍ مَعْلُوم إِلَى أَجَل مُسَمًّى , ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَن الَّذِي بَاعَهَا بِهِ . قَالَ : فَإِنْ اِشْتَرَى بِحَضْرَةِ طَالِب الْعِينَة سِلْعَة مِنْ آخَر بِثَمَنٍ مَعْلُوم وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ طَالِب الْعِينَة بِثَمَنٍ أَكْثَر مِمَّا اِشْتَرَاهُ إِلَى أَجَل مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِع الْأَوَّل بِالنَّقْدِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَن فَهَذِهِ أَيْضًا عِينَة ; وَهِيَ أَهْوَن مِنْ الْأُولَى , وَهُوَ جَائِز عِنْد بَعْضهمْ . وَسُمِّيَتْ عِينَة لِحُصُولِ النَّقْد لِصَاحِبِ الْعِينَة ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْن هُوَ الْمَال الْحَاضِر وَالْمُشْتَرِي إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا بِعَيْنِ حَاضِر يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْره . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ أُمّ وَلَد لِزَيْدِ بْن الْأَرْقَم ذَكَرَتْ لِعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْد عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْعَطَاء ثُمَّ اِبْتَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا ; فَقَالَتْ عَائِشَة : بِئْسَ مَا شَرَيْت , وَبِئْسَ مَا اِشْتَرَيْت ! بَلِّغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ . وَمِثْل هَذَا لَا يُقَال بِالرَّأْيِ ; لِأَنَّ إِبْطَال الْأَعْمَال لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَتهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ ; فَثَبَتَ أَنَّهُ مَرْفُوع إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : دَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَة . وَنَهَى اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بَيْنهمَا حَرِيزَةٌ .
قُلْت : فَهَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّة الَّتِي لَنَا عَلَى سَدّ الذَّرَائِع , وَعَلَيْهِ بَنَى الْمَالِكِيَّة كِتَاب الْآجَال وَغَيْره مِنْ الْمَسَائِل فِي الْبُيُوع وَغَيْرهَا . وَلَيْسَ عِنْد الشَّافِعِيَّة كِتَاب الْآجَال . لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدهمْ عُقُود مُخْتَلِفَة مُسْتَقِلَّة ; قَالُوا : وَأَصْل الْأَشْيَاء عَلَى الظَّوَاهِر لَا عَلَى الظُّنُون . وَالْمَالِكِيَّة جَعَلُوا السِّلْعَة مُحَلَّلَة لِيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى دَرَاهِم بِأَكْثَر مِنْهَا , وَهَذَا هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ ; فَاعْلَمْهُ .
" لَا تَقُولُوا رَاعِنَا " نَهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقَرَأَ الْحَسَن " رَاعِنًا " مَنُونَةً . وَقَالَ : أَيْ هُجْرًا مِنْ الْقَوْل , وَهُوَ مَصْدَر وَنَصْبه بِالْقَوْلِ ; أَيْ لَا تَقُولُوا رُعُونَةً . وَقَرَأَ زِرّ بْن حُبَيْش وَالْأَعْمَش " رَاعُونَا " ; يُقَال لِمَا نَتَأَ مِنْ الْجَبَل : رَعْن ; وَالْجَبَل أَرْعَن . وَجَيْش أَرْعَن أَيْ مُتَفَرِّق . وَكَذَا رَجُل أَرْعَن ; أَيْ مُتَفَرِّق الْحُجَج وَلَيْسَ عَقْلُهُ مُجْتَمِعًا ; عَنْ النَّحَّاس . وَقَالَ اِبْن فَارِس : رَعِنَ الرَّجُل يَرْعَن رَعَنًا فَهُوَ أَرْعَن ; أَيْ أَهْوَج . وَالْمَرْأَة رَعْنَاء . وَسُمِّيَتْ الْبَصْرَة رَعْنَاء لِأَنَّهَا تُشَبَّهُ بِرَعْنِ الْجَبَل ; قَالَ اِبْن دُرَيْد ذَلِكَ , وَأَنْشَدَ لِلْفَرَزْدَقِ : لَوْلَا اِبْن عُتْبَة عَمْرٌو وَالرَّجَاءُ لَهُ مَا كَانَتْ الْبَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنَا
أَيْ يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ عَنْ الْحَقّ أَيْ يُمِيلُونَهَا إِلَى مَا فِي قُلُوبهمْ . وَأَصْل اللَّيّ الْفَتْل , وَهُوَ نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , وَإِنْ شِئْت كَانَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْله . وَأَصْله لَوْيًا ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْوَاو فِي الْيَاء .
مَعْطُوف عَلَيْهِ أَيْ يَطْعَنُونَ فِي الدِّين , أَيْ يَقُولُونَ لِأَصْحَابِهِمْ لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَدَرَى أَنَّنَا نَسُبُّهُ , فَأَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ مِنْ عَلَامَات نُبُوَّتِهِ , وَنَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْقَوْل .
" أَقْوَم " أَصْوَب لَهُمْ فِي الرَّأْي .
" فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا " أَيْ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ اِسْم الْإِيمَان . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ; وَهَذَا بَعِيد لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَعَنَهُمْ بِكُفْرِهِمْ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ↓
قَالَ اِبْن إِسْحَاق : كَلَّمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤَسَاء مِنْ أَحْبَار يَهُود مِنْهُمْ عَبْد اللَّه بْن صُورِيَّا الْأَعْوَر وَكَعْب بْن أَسَد فَقَالَ لَهُمْ : ( يَا مَعْشَر يَهُود اِتَّقُوا اللَّه وَأَسْلِمُوا فَوَاَللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ الْحَقّ ) قَالُوا : مَا نَعْرِف ذَلِكَ يَا مُحَمَّد . وَجَحَدُوا مَا عَرَفُوا وَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْر ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْل أَنْ نَطْمِس وُجُوهًا " إِلَى آخِر الْآيَة .
نَصْب عَلَى الْحَال .
الطَّمْس اِسْتِئْصَال أَثَر الشَّيْء ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا النُّجُوم طُمِسَتْ " [ الْمُرْسَلَات : 8 ] . وَنَطْمِس وَنَطْمُس بِكَسْرِ الْمِيم وَضَمِّهَا فِي الْمُسْتَقْبَل لُغَتَانِ . وَيُقَال فِي الْكَلَام : طَسَمَ يَطْسِمُ وَيَطْسُمُ بِمَعْنَى طَمَسَ ; يُقَال : طَمَسَ الْأَثَر وَطَسَمَ أَيْ اِمَّحَى , كُلّه لُغَات ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " رَبّنَا اِطْمِسْ عَلَى أَمْوَالهمْ " [ يُونُس : 88 ] أَيْ أَهْلِكْهَا ; عَنْ اِبْن عَرَفَة . وَيُقَال : طَمَسْته فَطَمَسَ لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَطَمَسَ اللَّه بَصَرَهُ , وَهُوَ مَطْمُوس الْبَصَر إِذَا ذَهَبَ أَثَر الْعَيْن ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنهمْ " [ يس : 66 ] يَقُول أَعْمَيْنَاهُمْ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة ; هَلْ هُوَ حَقِيقَة فَيُجْعَل الْوَجْه كَالْقَفَا فَيَذْهَب بِالْأَنْفِ وَالْفَم وَالْحَاجِب وَالْعَيْن . أَوْ ذَلِكَ عِبَارَة عَنْ الضَّلَال فِي قُلُوبهمْ وَسَلْبهمْ التَّوْفِيق ؟ قَوْلَانِ . رُوِيَ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ قَالَ : " مِنْ قَبْل أَنْ نَطْمِس " مِنْ قَبْل أَنْ نُضِلَّكُمْ إِضْلَالًا لَا تَهْتَدُونَ بَعْده . يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ تَمْثِيل وَأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَعَلَ هَذَا بِهِمْ عُقُوبَة . وَقَالَ قَتَادَة : مَعْنَاهُ مِنْ قَبْل أَنْ نَجْعَل الْوُجُوه أَقْفَاء . أَيْ يَذْهَب بِالْأَنْفِ وَالشِّفَاه وَالْأَعْيُن وَالْحَوَاجِب ; هَذَا مَعْنَاهُ عِنْد أَهْل اللُّغَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ : أَنَّ الطَّمْس أَنْ تُزَال الْعَيْنَانِ خَاصَّة وَتُرَدّ فِي الْقَفَا ; فَيَكُون ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الدُّبُر وَيَمْشِي الْقَهْقَرَى . وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه : كَانَ أَوَّل إِسْلَام كَعْب الْأَحْبَار أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ اللَّيْل وَهُوَ يَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب آمِنُوا " فَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى وَجْهه وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى إِلَى بَيْته فَأَسْلَمَ مَكَانه وَقَالَ : وَاَللَّه لَقَدْ خِفْت أَلَّا أَبْلُغَ بَيْتِي حَتَّى يُطْمَس وَجْهِي . وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَبْد اللَّه بْن سَلَام , لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة وَسَمِعَهَا أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل أَنْ يَأْتِيَ أَهْله وَأَسْلَمَ وَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , مَا كُنْت أَدْرَى أَنْ أَصِلَ إِلَيْك حَتَّى يُحَوَّل وَجْهِي فِي قَفَايَ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَازَ أَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِطَمْسِ الْوُجُوه إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُفْعَل ذَلِكَ بِهِمْ ; فَقِيلَ : إِنَّهُ لَمَّا آمَنَ هَؤُلَاءِ وَمَنْ اِتَّبَعَهُمْ رُفِعَ الْوَعِيد عَنْ الْبَاقِينَ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : الْوَعِيد بَاقٍ مُنْتَظَر . وَقَالَ : لَا بُدّ مِنْ طَمْس فِي الْيَهُود وَمَسْخ قَبْل يَوْم الْقِيَامَة .
أَيْ أَصْحَاب الْوُجُوه
أَيْ نَمْسَخَهُمْ قِرَدَة وَخَنَازِير ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة . وَقِيلَ : هُوَ خُرُوج مِنْ الْخِطَاب إِلَى الْغَيْبَة
أَيْ كَائِنًا مَوْجُودًا . وَيُرَاد بِالْأَمْرِ الْمَأْمُور فَهُوَ مَصْدَر وَقَعَ مَوْقِع الْمَفْعُول ; فَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَتَى أَرَادَهُ أَوْجَدَهُ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ كُلّ أَمْر أَخْبَرَ بِكَوْنِهِ فَهُوَ كَائِن عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ .
نَصْب عَلَى الْحَال .
الطَّمْس اِسْتِئْصَال أَثَر الشَّيْء ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا النُّجُوم طُمِسَتْ " [ الْمُرْسَلَات : 8 ] . وَنَطْمِس وَنَطْمُس بِكَسْرِ الْمِيم وَضَمِّهَا فِي الْمُسْتَقْبَل لُغَتَانِ . وَيُقَال فِي الْكَلَام : طَسَمَ يَطْسِمُ وَيَطْسُمُ بِمَعْنَى طَمَسَ ; يُقَال : طَمَسَ الْأَثَر وَطَسَمَ أَيْ اِمَّحَى , كُلّه لُغَات ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " رَبّنَا اِطْمِسْ عَلَى أَمْوَالهمْ " [ يُونُس : 88 ] أَيْ أَهْلِكْهَا ; عَنْ اِبْن عَرَفَة . وَيُقَال : طَمَسْته فَطَمَسَ لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَطَمَسَ اللَّه بَصَرَهُ , وَهُوَ مَطْمُوس الْبَصَر إِذَا ذَهَبَ أَثَر الْعَيْن ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنهمْ " [ يس : 66 ] يَقُول أَعْمَيْنَاهُمْ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة ; هَلْ هُوَ حَقِيقَة فَيُجْعَل الْوَجْه كَالْقَفَا فَيَذْهَب بِالْأَنْفِ وَالْفَم وَالْحَاجِب وَالْعَيْن . أَوْ ذَلِكَ عِبَارَة عَنْ الضَّلَال فِي قُلُوبهمْ وَسَلْبهمْ التَّوْفِيق ؟ قَوْلَانِ . رُوِيَ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ قَالَ : " مِنْ قَبْل أَنْ نَطْمِس " مِنْ قَبْل أَنْ نُضِلَّكُمْ إِضْلَالًا لَا تَهْتَدُونَ بَعْده . يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ تَمْثِيل وَأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَعَلَ هَذَا بِهِمْ عُقُوبَة . وَقَالَ قَتَادَة : مَعْنَاهُ مِنْ قَبْل أَنْ نَجْعَل الْوُجُوه أَقْفَاء . أَيْ يَذْهَب بِالْأَنْفِ وَالشِّفَاه وَالْأَعْيُن وَالْحَوَاجِب ; هَذَا مَعْنَاهُ عِنْد أَهْل اللُّغَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ : أَنَّ الطَّمْس أَنْ تُزَال الْعَيْنَانِ خَاصَّة وَتُرَدّ فِي الْقَفَا ; فَيَكُون ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الدُّبُر وَيَمْشِي الْقَهْقَرَى . وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه : كَانَ أَوَّل إِسْلَام كَعْب الْأَحْبَار أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ اللَّيْل وَهُوَ يَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب آمِنُوا " فَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى وَجْهه وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى إِلَى بَيْته فَأَسْلَمَ مَكَانه وَقَالَ : وَاَللَّه لَقَدْ خِفْت أَلَّا أَبْلُغَ بَيْتِي حَتَّى يُطْمَس وَجْهِي . وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَبْد اللَّه بْن سَلَام , لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة وَسَمِعَهَا أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل أَنْ يَأْتِيَ أَهْله وَأَسْلَمَ وَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , مَا كُنْت أَدْرَى أَنْ أَصِلَ إِلَيْك حَتَّى يُحَوَّل وَجْهِي فِي قَفَايَ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَازَ أَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِطَمْسِ الْوُجُوه إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُفْعَل ذَلِكَ بِهِمْ ; فَقِيلَ : إِنَّهُ لَمَّا آمَنَ هَؤُلَاءِ وَمَنْ اِتَّبَعَهُمْ رُفِعَ الْوَعِيد عَنْ الْبَاقِينَ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : الْوَعِيد بَاقٍ مُنْتَظَر . وَقَالَ : لَا بُدّ مِنْ طَمْس فِي الْيَهُود وَمَسْخ قَبْل يَوْم الْقِيَامَة .
أَيْ أَصْحَاب الْوُجُوه
أَيْ نَمْسَخَهُمْ قِرَدَة وَخَنَازِير ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة . وَقِيلَ : هُوَ خُرُوج مِنْ الْخِطَاب إِلَى الْغَيْبَة
أَيْ كَائِنًا مَوْجُودًا . وَيُرَاد بِالْأَمْرِ الْمَأْمُور فَهُوَ مَصْدَر وَقَعَ مَوْقِع الْمَفْعُول ; فَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَتَى أَرَادَهُ أَوْجَدَهُ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ كُلّ أَمْر أَخْبَرَ بِكَوْنِهِ فَهُوَ كَائِن عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ .
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ↓
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا : " إِنَّ اللَّه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا " [ الزُّمَر : 53 ] فَقَالَ لَهُ رَجُل : يَا رَسُول اللَّه وَالشِّرْك ! فَنَزَلَ " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " . وَهَذَا مِنْ الْمُحْكَم الْمُتَّفَق عَلَيْهِ الَّذِي لَا اِخْتِلَاف فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّة . " وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " مِنْ الْمُتَشَابِه الَّذِي قَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاء فِيهِ . فَقَالَ مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ : قَدْ أَبَانَتْ هَذِهِ الْآيَة أَنَّ كُلّ صَاحِب كَبِيرَة فَفِي مَشِيئَة اللَّه تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ذَنْبه , وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَته شِرْكًا بِاَللَّهِ تَعَالَى . وَقَالَ بَعْضهمْ : قَدْ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتكُمْ " [ النِّسَاء : 31 ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَشَاء أَنْ يَغْفِر الصَّغَائِر لِمَنْ اِجْتَنَبَ الْكَبَائِر وَلَا يَغْفِرهَا لِمَنْ أَتَى الْكَبَائِر . وَذَهَبَ بَعْض أَهْل التَّأْوِيل إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِلَّتِي فِي آخِر " الْفُرْقَان " . قَالَ زَيْد بْن ثَابِت : نَزَلَتْ سُورَة " النِّسَاء " بَعْد " الْفُرْقَان " بِسِتَّةِ أَشْهُر , وَالصَّحِيح أَنْ لَا نَسْخ ; لِأَنَّ النَّسْخ فِي الْأَخْبَار يَسْتَحِيل . وَسَيَأْتِي بَيَان الْجَمْع بَيْنَ الْآي فِي هَذِهِ السُّورَة وَفِي " الْفُرْقَان " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : مَا فِي الْقُرْآن آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَة " إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ↓
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسهمْ " هَذَا اللَّفْظ عَامّ فِي ظَاهِره وَلَمْ يَخْتَلِف أَحَد مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ فِي أَنَّ الْمُرَاد الْيَهُود . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي زَكَّوْا بِهِ أَنْفُسهمْ ; فَقَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن : ذَلِكَ قَوْلهمْ : " نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ " , وَقَوْلهمْ : " لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى " وَقَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ : قَوْلهمْ لَا ذُنُوب لَنَا وَمَا فَعَلْنَاهُ نَهَارًا غُفِرَ لَنَا لَيْلًا وَمَا فَعَلْنَاهُ لَيْلًا غُفِرَ لَنَا نَهَارًا , وَنَحْنُ كَالْأَطْفَالِ فِي عَدَم الذُّنُوب . وَقَالَ مُجَاهِد وَأَبُو مَالِك وَعِكْرِمَة : تَقْدِيمُهُمْ الصِّغَار لِلصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا ذُنُوب عَلَيْهِمْ . وَهَذَا يَبْعُد مِنْ مَقْصِد الْآيَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ذَلِكَ قَوْلهمْ آبَاؤُنَا الَّذِينَ مَاتُوا يَشْفَعُونَ لَنَا وَيُزَكُّونَنَا . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : ذَلِكَ ثَنَاء بَعْضهمْ عَلَى بَعْض . وَهَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ ; فَإِنَّهُ الظَّاهِر مِنْ مَعْنَى الْآيَة , وَالتَّزْكِيَة : التَّطْهِير وَالتَّبْرِيَة مِنْ الذُّنُوب .
الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى : " فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ " [ النَّجْم : 32 ] يَقْتَضِي الْغَضّ مِنْ الْمُزَكِّي لِنَفْسِهِ بِلِسَانِهِ , وَالْإِعْلَام بِأَنَّ الزَّاكِيَ الْمُزَكَّى مَنْ حَسُنَتْ أَفْعَاله وَزَكَّاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَا عِبْرَة بِتَزْكِيَةِ الْإِنْسَان نَفْسه , وَإِنَّمَا الْعِبْرَة بِتَزْكِيَةِ اللَّه لَهُ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن عَطَاء قَالَ : سَمَّيْت اِبْنَتِي بَرَّة ; فَقَالَتْ لِي زَيْنَب بِنْت أَبِي سَلَمَة : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا الِاسْم , وَسَمَّيْت بَرَّة ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُزَكُّوا أَنْفُسكُمْ اللَّه أَعْلَم بِأَهْلِ الْبِرّ مِنْكُمْ ) فَقَالُوا : بِمَ نُسَمِّيهَا ؟ فَقَالَ : ( سَمُّوهَا زَيْنَب ) . فَقَدْ دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى الْمَنْع مِنْ تَزْكِيَة الْإِنْسَان نَفْسه , وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مَا قَدْ كَثُرَ فِي هَذِهِ الدِّيَار الْمِصْرِيَّة مِنْ نَعْتهمْ أَنْفُسَهُمْ بِالنُّعُوتِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّزْكِيَة ; كَزَكِيِّ الدِّين وَمُحْيِي الدِّين وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , لَكِنْ لَمَّا كَثُرَتْ قَبَائِح الْمُسَمَّيْنَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاء ظَهَرَ تَخَلُّف هَذِهِ النُّعُوت عَنْ أَصْلهَا فَصَارَتْ لَا تُفِيدُ شَيْئًا .
الثَّالِثَة : فَأَمَّا تَزْكِيَة الْغَيْر وَمَدْحُهُ لَهُ ; فَفِي الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرَة أَنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُل خَيْرًا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيْحَك قَطَعْت عُنُقَ صَاحِبك - يَقُولهُ مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَة فَلْيَقُلْ أَحْسَب كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّه وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّه أَحَدًا ) فَنَهَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْرَط فِي مَدْح الرَّجُل بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَيَدْخُلهُ فِي ذَلِكَ الْإِعْجَاب وَالْكِبْر , وَيَظُنّ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة بِتِلْك الْمَنْزِلَة فَيَحْمِلهُ ذَلِكَ عَلَى تَضْيِيع الْعَمَل وَتَرْك الِازْدِيَاد مِنْ الْفَضْل ; وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيْحَك قَطَعْت عُنُق صَاحِبك ) . وَفِي الْحَدِيث الْآخَر ( قَطَعْتُمْ ظَهْر الرَّجُل ) حِين وَصَفُوهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ . وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ الْعُلَمَاء قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( احْثُوا التُّرَاب فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ ) إِنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمَدَّاحُونَ فِي وُجُوههمْ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِيهِمْ , حَتَّى يَجْعَلُوا ذَلِكَ بِضَاعَة يُسْتَأْكَلُونَ بِهِ الْمَمْدُوح وَيَفْتِنُونَهُ ; فَأَمَّا مَدْح الرَّجُل بِمَا فِيهِ مِنْ الْفِعْل الْحَسَن وَالْأَمْر الْمَحْمُود لِيَكُونَ مِنْهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي أَمْثَاله وَتَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الِاقْتِدَاء بِهِ فِي أَشْبَاهه فَلَيْسَ بِمَدَّاحٍ , وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ مَادِحًا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ جَمِيل الْقَوْل فِيهِ . وَهَذَا رَاجِع إِلَى النِّيَّات " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " . وَقَدْ مُدِحَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْر وَالْخُطَب وَالْمُخَاطَبَة وَلَمْ يَحْثُ فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ التُّرَاب , وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ . كَقَوْلِ أَبِي طَالِب : وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثُمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَكَمَدْحِ الْعَبَّاس وَحَسَّان لَهُ فِي شِعْرِهِمَا , وَمَدَحَهُ كَعْب بْن زُهَيْر , وَمَدَحَ هُوَ أَيْضًا أَصْحَابه فَقَالَ : ( إِنَّكُمْ لَتَقِلُّونَ عِنْد الطَّمَع وَتَكْثُرُونَ عِنْد الْفَزَع ) . وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح الْحَدِيث : ( لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى اِبْن مَرْيَم وَقُولُوا : عَبْد اللَّه وَرَسُوله ) فَمَعْنَاهُ لَا تَصِفُونِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ مِنْ الصِّفَات تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي , كَمَا وَصَفَتْ النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ , فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ اِبْن اللَّه فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ اِمْرَأً فَوْق حَدّه وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَمُعْتَدٍ آثِم ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَد لَكَانَ أَوْلَى الْخَلْق بِذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسهمْ " هَذَا اللَّفْظ عَامّ فِي ظَاهِره وَلَمْ يَخْتَلِف أَحَد مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ فِي أَنَّ الْمُرَاد الْيَهُود . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي زَكَّوْا بِهِ أَنْفُسهمْ ; فَقَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن : ذَلِكَ قَوْلهمْ : " نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ " , وَقَوْلهمْ : " لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى " وَقَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ : قَوْلهمْ لَا ذُنُوب لَنَا وَمَا فَعَلْنَاهُ نَهَارًا غُفِرَ لَنَا لَيْلًا وَمَا فَعَلْنَاهُ لَيْلًا غُفِرَ لَنَا نَهَارًا , وَنَحْنُ كَالْأَطْفَالِ فِي عَدَم الذُّنُوب . وَقَالَ مُجَاهِد وَأَبُو مَالِك وَعِكْرِمَة : تَقْدِيمُهُمْ الصِّغَار لِلصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا ذُنُوب عَلَيْهِمْ . وَهَذَا يَبْعُد مِنْ مَقْصِد الْآيَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ذَلِكَ قَوْلهمْ آبَاؤُنَا الَّذِينَ مَاتُوا يَشْفَعُونَ لَنَا وَيُزَكُّونَنَا . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : ذَلِكَ ثَنَاء بَعْضهمْ عَلَى بَعْض . وَهَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ ; فَإِنَّهُ الظَّاهِر مِنْ مَعْنَى الْآيَة , وَالتَّزْكِيَة : التَّطْهِير وَالتَّبْرِيَة مِنْ الذُّنُوب .
الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى : " فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ " [ النَّجْم : 32 ] يَقْتَضِي الْغَضّ مِنْ الْمُزَكِّي لِنَفْسِهِ بِلِسَانِهِ , وَالْإِعْلَام بِأَنَّ الزَّاكِيَ الْمُزَكَّى مَنْ حَسُنَتْ أَفْعَاله وَزَكَّاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَا عِبْرَة بِتَزْكِيَةِ الْإِنْسَان نَفْسه , وَإِنَّمَا الْعِبْرَة بِتَزْكِيَةِ اللَّه لَهُ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن عَطَاء قَالَ : سَمَّيْت اِبْنَتِي بَرَّة ; فَقَالَتْ لِي زَيْنَب بِنْت أَبِي سَلَمَة : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا الِاسْم , وَسَمَّيْت بَرَّة ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُزَكُّوا أَنْفُسكُمْ اللَّه أَعْلَم بِأَهْلِ الْبِرّ مِنْكُمْ ) فَقَالُوا : بِمَ نُسَمِّيهَا ؟ فَقَالَ : ( سَمُّوهَا زَيْنَب ) . فَقَدْ دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى الْمَنْع مِنْ تَزْكِيَة الْإِنْسَان نَفْسه , وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مَا قَدْ كَثُرَ فِي هَذِهِ الدِّيَار الْمِصْرِيَّة مِنْ نَعْتهمْ أَنْفُسَهُمْ بِالنُّعُوتِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّزْكِيَة ; كَزَكِيِّ الدِّين وَمُحْيِي الدِّين وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , لَكِنْ لَمَّا كَثُرَتْ قَبَائِح الْمُسَمَّيْنَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاء ظَهَرَ تَخَلُّف هَذِهِ النُّعُوت عَنْ أَصْلهَا فَصَارَتْ لَا تُفِيدُ شَيْئًا .
الثَّالِثَة : فَأَمَّا تَزْكِيَة الْغَيْر وَمَدْحُهُ لَهُ ; فَفِي الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرَة أَنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُل خَيْرًا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيْحَك قَطَعْت عُنُقَ صَاحِبك - يَقُولهُ مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَة فَلْيَقُلْ أَحْسَب كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّه وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّه أَحَدًا ) فَنَهَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْرَط فِي مَدْح الرَّجُل بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَيَدْخُلهُ فِي ذَلِكَ الْإِعْجَاب وَالْكِبْر , وَيَظُنّ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة بِتِلْك الْمَنْزِلَة فَيَحْمِلهُ ذَلِكَ عَلَى تَضْيِيع الْعَمَل وَتَرْك الِازْدِيَاد مِنْ الْفَضْل ; وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيْحَك قَطَعْت عُنُق صَاحِبك ) . وَفِي الْحَدِيث الْآخَر ( قَطَعْتُمْ ظَهْر الرَّجُل ) حِين وَصَفُوهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ . وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ الْعُلَمَاء قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( احْثُوا التُّرَاب فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ ) إِنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمَدَّاحُونَ فِي وُجُوههمْ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِيهِمْ , حَتَّى يَجْعَلُوا ذَلِكَ بِضَاعَة يُسْتَأْكَلُونَ بِهِ الْمَمْدُوح وَيَفْتِنُونَهُ ; فَأَمَّا مَدْح الرَّجُل بِمَا فِيهِ مِنْ الْفِعْل الْحَسَن وَالْأَمْر الْمَحْمُود لِيَكُونَ مِنْهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي أَمْثَاله وَتَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الِاقْتِدَاء بِهِ فِي أَشْبَاهه فَلَيْسَ بِمَدَّاحٍ , وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ مَادِحًا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ جَمِيل الْقَوْل فِيهِ . وَهَذَا رَاجِع إِلَى النِّيَّات " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " . وَقَدْ مُدِحَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْر وَالْخُطَب وَالْمُخَاطَبَة وَلَمْ يَحْثُ فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ التُّرَاب , وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ . كَقَوْلِ أَبِي طَالِب : وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثُمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَكَمَدْحِ الْعَبَّاس وَحَسَّان لَهُ فِي شِعْرِهِمَا , وَمَدَحَهُ كَعْب بْن زُهَيْر , وَمَدَحَ هُوَ أَيْضًا أَصْحَابه فَقَالَ : ( إِنَّكُمْ لَتَقِلُّونَ عِنْد الطَّمَع وَتَكْثُرُونَ عِنْد الْفَزَع ) . وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح الْحَدِيث : ( لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى اِبْن مَرْيَم وَقُولُوا : عَبْد اللَّه وَرَسُوله ) فَمَعْنَاهُ لَا تَصِفُونِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ مِنْ الصِّفَات تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي , كَمَا وَصَفَتْ النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ , فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ اِبْن اللَّه فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ اِمْرَأً فَوْق حَدّه وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَمُعْتَدٍ آثِم ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَد لَكَانَ أَوْلَى الْخَلْق بِذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الضَّمِير فِي " يُظْلَمُونَ " عَائِد عَلَى الْمَذْكُورَيْنِ مِمَّنْ زَكَّى نَفْسه وَمِمَّنْ يُزَكِّيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَغَيْر هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ عَلِمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَظْلِمُهُ مِنْ غَيْر هَذِهِ الْآيَة . وَالْفَتِيل الْخَيْط الَّذِي فِي شِقّ نَوَاة التَّمْرَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجَاهِد . وَقِيلَ : الْقِشْرَة الَّتِي حَوْل النَّوَاة بَيْنهَا وَبَيْنَ الْبُسْرَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَأَبُو مَالِك وَالسُّدِّيّ : هُوَ مَا يَخْرُج بَيْنَ أُصْبُعَيْك أَوْ كَفَّيْك مِنْ الْوَسَخ إِذَا فَتَلْتهمَا ; فَهُوَ فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُول . وَهَذَا كُلّه يَرْجِع إِلَى كِنَايَة عَنْ تَحْقِير الشَّيْء وَتَصْغِيره , وَأَنَّ اللَّه لَا يَظْلِمهُ شَيْئًا . وَمِثْل هَذَا فِي التَّحْقِير قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَظْلِمُونَ نَقِيرًا " [ النِّسَاء : 124 ] وَهُوَ النُّكْتَة الَّتِي فِي ظَهْر النَّوَاة , وَمِنْهُ تَنْبُت النَّخْلَة , وَسَيَأْتِي . قَالَ الشَّاعِر يَذُمُّ بَعْض الْمُلُوك : تَجْمَعُ الْجَيْشَ ذَا الْأُلُوف وَتَغْزُو ثُمَّ لَا تَرْزَأُ الْعَدُوَّ فَتِيلًا
الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى : " فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ " [ النَّجْم : 32 ] يَقْتَضِي الْغَضّ مِنْ الْمُزَكِّي لِنَفْسِهِ بِلِسَانِهِ , وَالْإِعْلَام بِأَنَّ الزَّاكِيَ الْمُزَكَّى مَنْ حَسُنَتْ أَفْعَاله وَزَكَّاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَا عِبْرَة بِتَزْكِيَةِ الْإِنْسَان نَفْسه , وَإِنَّمَا الْعِبْرَة بِتَزْكِيَةِ اللَّه لَهُ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن عَطَاء قَالَ : سَمَّيْت اِبْنَتِي بَرَّة ; فَقَالَتْ لِي زَيْنَب بِنْت أَبِي سَلَمَة : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا الِاسْم , وَسَمَّيْت بَرَّة ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُزَكُّوا أَنْفُسكُمْ اللَّه أَعْلَم بِأَهْلِ الْبِرّ مِنْكُمْ ) فَقَالُوا : بِمَ نُسَمِّيهَا ؟ فَقَالَ : ( سَمُّوهَا زَيْنَب ) . فَقَدْ دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى الْمَنْع مِنْ تَزْكِيَة الْإِنْسَان نَفْسه , وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مَا قَدْ كَثُرَ فِي هَذِهِ الدِّيَار الْمِصْرِيَّة مِنْ نَعْتهمْ أَنْفُسَهُمْ بِالنُّعُوتِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّزْكِيَة ; كَزَكِيِّ الدِّين وَمُحْيِي الدِّين وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , لَكِنْ لَمَّا كَثُرَتْ قَبَائِح الْمُسَمَّيْنَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاء ظَهَرَ تَخَلُّف هَذِهِ النُّعُوت عَنْ أَصْلهَا فَصَارَتْ لَا تُفِيدُ شَيْئًا .
الثَّالِثَة : فَأَمَّا تَزْكِيَة الْغَيْر وَمَدْحُهُ لَهُ ; فَفِي الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرَة أَنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُل خَيْرًا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيْحَك قَطَعْت عُنُقَ صَاحِبك - يَقُولهُ مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَة فَلْيَقُلْ أَحْسَب كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّه وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّه أَحَدًا ) فَنَهَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْرَط فِي مَدْح الرَّجُل بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَيَدْخُلهُ فِي ذَلِكَ الْإِعْجَاب وَالْكِبْر , وَيَظُنّ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة بِتِلْك الْمَنْزِلَة فَيَحْمِلهُ ذَلِكَ عَلَى تَضْيِيع الْعَمَل وَتَرْك الِازْدِيَاد مِنْ الْفَضْل ; وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيْحَك قَطَعْت عُنُق صَاحِبك ) . وَفِي الْحَدِيث الْآخَر ( قَطَعْتُمْ ظَهْر الرَّجُل ) حِين وَصَفُوهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ . وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ الْعُلَمَاء قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( احْثُوا التُّرَاب فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ ) إِنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمَدَّاحُونَ فِي وُجُوههمْ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِيهِمْ , حَتَّى يَجْعَلُوا ذَلِكَ بِضَاعَة يُسْتَأْكَلُونَ بِهِ الْمَمْدُوح وَيَفْتِنُونَهُ ; فَأَمَّا مَدْح الرَّجُل بِمَا فِيهِ مِنْ الْفِعْل الْحَسَن وَالْأَمْر الْمَحْمُود لِيَكُونَ مِنْهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي أَمْثَاله وَتَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الِاقْتِدَاء بِهِ فِي أَشْبَاهه فَلَيْسَ بِمَدَّاحٍ , وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ مَادِحًا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ جَمِيل الْقَوْل فِيهِ . وَهَذَا رَاجِع إِلَى النِّيَّات " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " . وَقَدْ مُدِحَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْر وَالْخُطَب وَالْمُخَاطَبَة وَلَمْ يَحْثُ فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ التُّرَاب , وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ . كَقَوْلِ أَبِي طَالِب : وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثُمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَكَمَدْحِ الْعَبَّاس وَحَسَّان لَهُ فِي شِعْرِهِمَا , وَمَدَحَهُ كَعْب بْن زُهَيْر , وَمَدَحَ هُوَ أَيْضًا أَصْحَابه فَقَالَ : ( إِنَّكُمْ لَتَقِلُّونَ عِنْد الطَّمَع وَتَكْثُرُونَ عِنْد الْفَزَع ) . وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح الْحَدِيث : ( لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى اِبْن مَرْيَم وَقُولُوا : عَبْد اللَّه وَرَسُوله ) فَمَعْنَاهُ لَا تَصِفُونِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ مِنْ الصِّفَات تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي , كَمَا وَصَفَتْ النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ , فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ اِبْن اللَّه فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ اِمْرَأً فَوْق حَدّه وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَمُعْتَدٍ آثِم ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَد لَكَانَ أَوْلَى الْخَلْق بِذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسهمْ " هَذَا اللَّفْظ عَامّ فِي ظَاهِره وَلَمْ يَخْتَلِف أَحَد مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ فِي أَنَّ الْمُرَاد الْيَهُود . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي زَكَّوْا بِهِ أَنْفُسهمْ ; فَقَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن : ذَلِكَ قَوْلهمْ : " نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ " , وَقَوْلهمْ : " لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى " وَقَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ : قَوْلهمْ لَا ذُنُوب لَنَا وَمَا فَعَلْنَاهُ نَهَارًا غُفِرَ لَنَا لَيْلًا وَمَا فَعَلْنَاهُ لَيْلًا غُفِرَ لَنَا نَهَارًا , وَنَحْنُ كَالْأَطْفَالِ فِي عَدَم الذُّنُوب . وَقَالَ مُجَاهِد وَأَبُو مَالِك وَعِكْرِمَة : تَقْدِيمُهُمْ الصِّغَار لِلصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا ذُنُوب عَلَيْهِمْ . وَهَذَا يَبْعُد مِنْ مَقْصِد الْآيَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ذَلِكَ قَوْلهمْ آبَاؤُنَا الَّذِينَ مَاتُوا يَشْفَعُونَ لَنَا وَيُزَكُّونَنَا . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : ذَلِكَ ثَنَاء بَعْضهمْ عَلَى بَعْض . وَهَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ ; فَإِنَّهُ الظَّاهِر مِنْ مَعْنَى الْآيَة , وَالتَّزْكِيَة : التَّطْهِير وَالتَّبْرِيَة مِنْ الذُّنُوب .
الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى : " فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ " [ النَّجْم : 32 ] يَقْتَضِي الْغَضّ مِنْ الْمُزَكِّي لِنَفْسِهِ بِلِسَانِهِ , وَالْإِعْلَام بِأَنَّ الزَّاكِيَ الْمُزَكَّى مَنْ حَسُنَتْ أَفْعَاله وَزَكَّاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَا عِبْرَة بِتَزْكِيَةِ الْإِنْسَان نَفْسه , وَإِنَّمَا الْعِبْرَة بِتَزْكِيَةِ اللَّه لَهُ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن عَطَاء قَالَ : سَمَّيْت اِبْنَتِي بَرَّة ; فَقَالَتْ لِي زَيْنَب بِنْت أَبِي سَلَمَة : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا الِاسْم , وَسَمَّيْت بَرَّة ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُزَكُّوا أَنْفُسكُمْ اللَّه أَعْلَم بِأَهْلِ الْبِرّ مِنْكُمْ ) فَقَالُوا : بِمَ نُسَمِّيهَا ؟ فَقَالَ : ( سَمُّوهَا زَيْنَب ) . فَقَدْ دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى الْمَنْع مِنْ تَزْكِيَة الْإِنْسَان نَفْسه , وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مَا قَدْ كَثُرَ فِي هَذِهِ الدِّيَار الْمِصْرِيَّة مِنْ نَعْتهمْ أَنْفُسَهُمْ بِالنُّعُوتِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّزْكِيَة ; كَزَكِيِّ الدِّين وَمُحْيِي الدِّين وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , لَكِنْ لَمَّا كَثُرَتْ قَبَائِح الْمُسَمَّيْنَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاء ظَهَرَ تَخَلُّف هَذِهِ النُّعُوت عَنْ أَصْلهَا فَصَارَتْ لَا تُفِيدُ شَيْئًا .
الثَّالِثَة : فَأَمَّا تَزْكِيَة الْغَيْر وَمَدْحُهُ لَهُ ; فَفِي الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرَة أَنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُل خَيْرًا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيْحَك قَطَعْت عُنُقَ صَاحِبك - يَقُولهُ مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَة فَلْيَقُلْ أَحْسَب كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّه وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّه أَحَدًا ) فَنَهَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْرَط فِي مَدْح الرَّجُل بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَيَدْخُلهُ فِي ذَلِكَ الْإِعْجَاب وَالْكِبْر , وَيَظُنّ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة بِتِلْك الْمَنْزِلَة فَيَحْمِلهُ ذَلِكَ عَلَى تَضْيِيع الْعَمَل وَتَرْك الِازْدِيَاد مِنْ الْفَضْل ; وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيْحَك قَطَعْت عُنُق صَاحِبك ) . وَفِي الْحَدِيث الْآخَر ( قَطَعْتُمْ ظَهْر الرَّجُل ) حِين وَصَفُوهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ . وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ الْعُلَمَاء قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( احْثُوا التُّرَاب فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ ) إِنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمَدَّاحُونَ فِي وُجُوههمْ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِيهِمْ , حَتَّى يَجْعَلُوا ذَلِكَ بِضَاعَة يُسْتَأْكَلُونَ بِهِ الْمَمْدُوح وَيَفْتِنُونَهُ ; فَأَمَّا مَدْح الرَّجُل بِمَا فِيهِ مِنْ الْفِعْل الْحَسَن وَالْأَمْر الْمَحْمُود لِيَكُونَ مِنْهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي أَمْثَاله وَتَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الِاقْتِدَاء بِهِ فِي أَشْبَاهه فَلَيْسَ بِمَدَّاحٍ , وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ مَادِحًا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ جَمِيل الْقَوْل فِيهِ . وَهَذَا رَاجِع إِلَى النِّيَّات " وَاَللَّه يَعْلَم الْمُفْسِد مِنْ الْمُصْلِح " . وَقَدْ مُدِحَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْر وَالْخُطَب وَالْمُخَاطَبَة وَلَمْ يَحْثُ فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ التُّرَاب , وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ . كَقَوْلِ أَبِي طَالِب : وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثُمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَكَمَدْحِ الْعَبَّاس وَحَسَّان لَهُ فِي شِعْرِهِمَا , وَمَدَحَهُ كَعْب بْن زُهَيْر , وَمَدَحَ هُوَ أَيْضًا أَصْحَابه فَقَالَ : ( إِنَّكُمْ لَتَقِلُّونَ عِنْد الطَّمَع وَتَكْثُرُونَ عِنْد الْفَزَع ) . وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح الْحَدِيث : ( لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى اِبْن مَرْيَم وَقُولُوا : عَبْد اللَّه وَرَسُوله ) فَمَعْنَاهُ لَا تَصِفُونِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ مِنْ الصِّفَات تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي , كَمَا وَصَفَتْ النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ , فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ اِبْن اللَّه فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ اِمْرَأً فَوْق حَدّه وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَمُعْتَدٍ آثِم ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَد لَكَانَ أَوْلَى الْخَلْق بِذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الضَّمِير فِي " يُظْلَمُونَ " عَائِد عَلَى الْمَذْكُورَيْنِ مِمَّنْ زَكَّى نَفْسه وَمِمَّنْ يُزَكِّيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَغَيْر هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ عَلِمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَظْلِمُهُ مِنْ غَيْر هَذِهِ الْآيَة . وَالْفَتِيل الْخَيْط الَّذِي فِي شِقّ نَوَاة التَّمْرَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجَاهِد . وَقِيلَ : الْقِشْرَة الَّتِي حَوْل النَّوَاة بَيْنهَا وَبَيْنَ الْبُسْرَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَأَبُو مَالِك وَالسُّدِّيّ : هُوَ مَا يَخْرُج بَيْنَ أُصْبُعَيْك أَوْ كَفَّيْك مِنْ الْوَسَخ إِذَا فَتَلْتهمَا ; فَهُوَ فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُول . وَهَذَا كُلّه يَرْجِع إِلَى كِنَايَة عَنْ تَحْقِير الشَّيْء وَتَصْغِيره , وَأَنَّ اللَّه لَا يَظْلِمهُ شَيْئًا . وَمِثْل هَذَا فِي التَّحْقِير قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَظْلِمُونَ نَقِيرًا " [ النِّسَاء : 124 ] وَهُوَ النُّكْتَة الَّتِي فِي ظَهْر النَّوَاة , وَمِنْهُ تَنْبُت النَّخْلَة , وَسَيَأْتِي . قَالَ الشَّاعِر يَذُمُّ بَعْض الْمُلُوك : تَجْمَعُ الْجَيْشَ ذَا الْأُلُوف وَتَغْزُو ثُمَّ لَا تَرْزَأُ الْعَدُوَّ فَتِيلًا
ثُمَّ عَجِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ : " انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب " فِي قَوْلهمْ : نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ . وَقِيلَ : تَزْكِيَتهمْ لِأَنْفُسِهِمْ ; عَنْ اِبْن جُرَيْج . وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَيْسَ لَنَا ذُنُوب إِلَّا كَذُنُوبِ أَبْنَائِنَا يَوْم تُولَد . وَالِافْتِرَاء الِاخْتِلَاق ; وَمِنْهُ افَتَرَى فُلَان عَلَى فُلَان أَيْ رَمَاهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ . وَفَرَيْت الشَّيْء قَطَعْته .
نُصِبَ عَلَى الْبَيَان . وَالْمَعْنَى تَعْظِيم الذَّنْب وَذَمُّهُ . الْعَرَب تَسْتَعْمِل مِثْل ذَلِكَ فِي الْمَدْح وَالذَّمّ .
نُصِبَ عَلَى الْبَيَان . وَالْمَعْنَى تَعْظِيم الذَّنْب وَذَمُّهُ . الْعَرَب تَسْتَعْمِل مِثْل ذَلِكَ فِي الْمَدْح وَالذَّمّ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ↓
يَعْنِي الْيَهُود
اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل الْجِبْت وَالطَّاغُوت ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَأَبُو الْعَالِيَة : الْجِبْت السَّاحِر بِلِسَانِ الْحَبَشَة , وَالطَّاغُوت الْكَاهِن . وَقَالَ الْفَارُوق عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الْجِبْت السِّحْر وَالطَّاغُوت الشَّيْطَان . اِبْن مَسْعُود : الْجِبْت وَالطَّاغُوت هَاهُنَا كَعْب بْن الْأَشْرَف وَحُيَيّ بْن أَخْطَب . عِكْرِمَة : الْجِبْت حُيَيّ بْن أَخْطَب وَالطَّاغُوت كَعْب بْن الْأَشْرَف ; دَلِيله قَوْل تَعَالَى : " يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت " [ النِّسَاء : 60 ] . قَتَادَة : الْجِبْت الشَّيْطَان وَالطَّاغُوت الْكَاهِن . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك بْن أَنَس : الطَّاغُوت مَا عُبِدَ مِنْ دُون اللَّه . قَالَ : وَسَمِعَتْ مَنْ يَقُول إِنَّ الْجِبْت الشَّيْطَان ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَقِيلَ : هُمَا كُلّ مَعْبُود مِنْ دُون اللَّه , أَوْ مُطَاع فِي مَعْصِيَة اللَّه ; وَهَذَا حَسَن . وَأَصْل الْجِبْت الْجِبْس وَهُوَ الَّذِي لَا خَيْر فِيهِ , فَأُبْدِلَتْ التَّاء مِنْ السِّين ; قَالَهُ قُطْرُب . وَقِيلَ : الْجِبْت إِبْلِيس وَالطَّاغُوت أَوْلِيَاؤُهُ . وَقَوْل مَالِك فِي هَذَا الْبَاب حَسَن ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " أَنْ اُعْبُدُوا اللَّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت " [ النَّحْل : 36 ] وَقَالَ تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا الطَّاغُوت أَنْ يَعْبُدُوهَا " [ الزُّمَر : 17 ] . وَرَوَى قَطَنُ بْنُ الْمُخَارِق عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الطَّرْق وَالطِّيَرَة وَالْعِيَافَة مِنْ الْجِبْت ) . الطَّرْق الزَّجْر , وَالْعِيَافَة الْخَطّ ; خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنه . وَقِيلَ : الْجِبْت كُلّ مَا حَرَّمَ اللَّه , الطَّاغُوت كُلّ مَا يُطْغِي الْإِنْسَان . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ يَقُول الْيَهُود لِكُفَّارِ قُرَيْش أَنْتُمْ أَهْدَى سَبِيلًا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ . وَذَلِكَ أَنَّ كَعْب بْن الْأَشْرَف خَرَجَ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ الْيَهُود إِلَى مَكَّة بَعْد وَقْعَة أُحُد لِيُحَالِفُوا قُرَيْشًا عَلَى قِتَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَ كَعْب عَلَى أَبِي سُفْيَان فَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ , وَنَزَلَتْ الْيَهُود فِي دُور قُرَيْشٍ فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا لَيَجْتَمِعُنَّ عَلَى قِتَال مُحَمَّد ; فَقَالَ أَبُو سُفْيَان : إِنَّك اِمْرُؤٌ تَقْرَأ الْكِتَاب وَتَعْلَم , وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ لَا نَعْلَم , فَأَيُّنَا أَهْدَى سَبِيلًا وَأَقْرَب إِلَى الْحَقّ . نَحْنُ أَمْ مُحَمَّد ؟ فَقَالَ كَعْب : أَنْتُمْ وَاَللَّه أَهْدَى سَبِيلًا مِمَّا عَلَيْهِ مُحَمَّد .
اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل الْجِبْت وَالطَّاغُوت ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَأَبُو الْعَالِيَة : الْجِبْت السَّاحِر بِلِسَانِ الْحَبَشَة , وَالطَّاغُوت الْكَاهِن . وَقَالَ الْفَارُوق عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الْجِبْت السِّحْر وَالطَّاغُوت الشَّيْطَان . اِبْن مَسْعُود : الْجِبْت وَالطَّاغُوت هَاهُنَا كَعْب بْن الْأَشْرَف وَحُيَيّ بْن أَخْطَب . عِكْرِمَة : الْجِبْت حُيَيّ بْن أَخْطَب وَالطَّاغُوت كَعْب بْن الْأَشْرَف ; دَلِيله قَوْل تَعَالَى : " يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت " [ النِّسَاء : 60 ] . قَتَادَة : الْجِبْت الشَّيْطَان وَالطَّاغُوت الْكَاهِن . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك بْن أَنَس : الطَّاغُوت مَا عُبِدَ مِنْ دُون اللَّه . قَالَ : وَسَمِعَتْ مَنْ يَقُول إِنَّ الْجِبْت الشَّيْطَان ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَقِيلَ : هُمَا كُلّ مَعْبُود مِنْ دُون اللَّه , أَوْ مُطَاع فِي مَعْصِيَة اللَّه ; وَهَذَا حَسَن . وَأَصْل الْجِبْت الْجِبْس وَهُوَ الَّذِي لَا خَيْر فِيهِ , فَأُبْدِلَتْ التَّاء مِنْ السِّين ; قَالَهُ قُطْرُب . وَقِيلَ : الْجِبْت إِبْلِيس وَالطَّاغُوت أَوْلِيَاؤُهُ . وَقَوْل مَالِك فِي هَذَا الْبَاب حَسَن ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " أَنْ اُعْبُدُوا اللَّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت " [ النَّحْل : 36 ] وَقَالَ تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا الطَّاغُوت أَنْ يَعْبُدُوهَا " [ الزُّمَر : 17 ] . وَرَوَى قَطَنُ بْنُ الْمُخَارِق عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الطَّرْق وَالطِّيَرَة وَالْعِيَافَة مِنْ الْجِبْت ) . الطَّرْق الزَّجْر , وَالْعِيَافَة الْخَطّ ; خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنه . وَقِيلَ : الْجِبْت كُلّ مَا حَرَّمَ اللَّه , الطَّاغُوت كُلّ مَا يُطْغِي الْإِنْسَان . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ يَقُول الْيَهُود لِكُفَّارِ قُرَيْش أَنْتُمْ أَهْدَى سَبِيلًا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ . وَذَلِكَ أَنَّ كَعْب بْن الْأَشْرَف خَرَجَ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ الْيَهُود إِلَى مَكَّة بَعْد وَقْعَة أُحُد لِيُحَالِفُوا قُرَيْشًا عَلَى قِتَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَ كَعْب عَلَى أَبِي سُفْيَان فَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ , وَنَزَلَتْ الْيَهُود فِي دُور قُرَيْشٍ فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا لَيَجْتَمِعُنَّ عَلَى قِتَال مُحَمَّد ; فَقَالَ أَبُو سُفْيَان : إِنَّك اِمْرُؤٌ تَقْرَأ الْكِتَاب وَتَعْلَم , وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ لَا نَعْلَم , فَأَيُّنَا أَهْدَى سَبِيلًا وَأَقْرَب إِلَى الْحَقّ . نَحْنُ أَمْ مُحَمَّد ؟ فَقَالَ كَعْب : أَنْتُمْ وَاَللَّه أَهْدَى سَبِيلًا مِمَّا عَلَيْهِ مُحَمَّد .
بَيَّنَ أَنَّ السَّبَب فِي نُفُورهمْ عَنْ الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ أَنَّهُمْ لُعِنُوا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرهمْ وَاجْتِرَائِهِمْ ; وَهَذَا هُوَ الْجَزَاء عَلَى الذَّنْب بِأَعْظَم مِنْهُ . وَأَصْل اللَّعْن فِي كَلَام الْعَرَب الطَّرْد وَالْإِبْعَاد . وَيُقَال لِلذِّئْبِ : لَعِين . وَلِلرَّجُلِ الطَّرِيد : لَعِين ; وَقَالَ الشَّمَّاخ : ذَعَرْت بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْت عَنْهُ مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ وَوَجْه الْكَلَام : مَقَام الذِّئْب اللَّعِين كَالرَّجُلِ ; فَالْمَعْنَى أَبْعَدَهُمْ اللَّه مِنْ رَحْمَته . وَقِيلَ : مِنْ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَته . وَقِيلَ : مِنْ كُلّ خَيْر ;
" أَمْ لَهُمْ نَصِيب مِنْ الْمُلْك " أَيْ أَلَهُمْ ؟ وَالْمِيم صِلَة . " نَصِيب " حَظّ " مِنْ الْمُلْك " وَهَذَا عَلَى وَجْه الْإِنْكَار ; يَعْنِي لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْمُلْك شَيْء , وَلَوْ كَانَ لَهُمْ مِنْهُ شَيْء لَمْ يُعْطُوا أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا لِبُخْلِهِمْ وَحَسَدهمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى بَلْ أَلَهُمْ نَصِيب ; فَتَكُون أَمْ مُنْقَطِعَة وَمَعْنَاهَا الْإِضْرَاب عَنْ الْأَوَّل وَالِاسْتِئْنَاف لِلثَّانِي . وَقِيلَ : هِيَ عَاطِفَة عَلَى مَحْذُوف ; لِأَنَّهُمْ أَنِفُوا مِنْ اِتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالتَّقْدِير : أَهُمْ أَوْلَى بِالنُّبُوَّةِ مِمَّنْ أَرْسَلْته أَمْ لَهُمْ نَصِيب مِنْ الْمُلْك ؟ . " فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاس نَقِيرًا " أَيْ يَمْنَعُونَ الْحُقُوق . خَبَّرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ . وَالنَّقِير : النُّكْتَة فِي ظَهْر النَّوَاة , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : النَّقِير : مَا نَقَرَ الرَّجُل بِأُصْبُعِهِ كَمَا يَنْقُر الْأَرْض . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّقِير فَوَضَعَ طَرَف الْإِبْهَام عَلَى بَاطِن السَّبَّابَة ثُمَّ رَفَعَهُمَا وَقَالَ : هَذَا النَّقِير . وَالنَّقِير : أَصْل خَشَبَة يُنْقَر وَيُنْبَذ فِيهِ ; وَفِيهِ جَاءَ النَّهْي ثُمَّ نُسِخَ . وَفُلَان كَرِيم النَّقِير أَيْ الْأَصْل . و " إِذًا " هُنَا مُلْغَاهُ غَيْر عَامِلَة لِدُخُولِ فَاء الْعَطْف عَلَيْهَا , وَلَوْ نُصِبَ لَجَازَ . قَالَ سِيبَوَيْهِ : " إِذًا " فِي عَوَامِل الْأَفْعَال بِمَنْزِلَةِ " أَظُنّ " فِي عَوَامِل الْأَسْمَاء , أَيْ تُلْغَى إِذَا لَمْ يَكُنْ الْكَلَام مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا , فَإِنْ كَانَتْ فِي أَوَّل الْكَلَام وَكَانَ الَّذِي بَعْدهَا مُسْتَقْبَلًا نَصَبَتْ ; كَقَوْلِك : أَنَا أَزُورك فَيَقُول مُجِيبًا لَك : إِذًا أُكْرِمَك . قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَنَمَةَ الضَّبِّيّ : ش اُرْدُدْ حِمَارَك لَا يَرْتَعْ بِرَوْضَتِنَا و إِذَنْ يُرَدَّ وَقَيْدُ الْعَيْرِ مَكْرُوبُ ش نَصَبَ لِأَنَّ الَّذِي قَبْل " إِذَنْ " تَامّ فَوَقَعَتْ اِبْتِدَاءَ كَلَام . فَإِنْ وَقَعَتْ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ شَيْئَيْنِ كَقَوْلِك . زَيْد إِذًا يَزُورُك أُلْغِيَتْ ; فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهَا فَاء الْعَطْف أَوْ وَاو الْعَطْف فَيَجُور فِيهَا الْإِعْمَال وَالْإِلْغَاء ; أَمَّا الْأَعْمَال فَلِأَنَّ مَا بَعْد الْوَاو يُسْتَأْنَف عَلَى طَرِيق عَطْف الْجُمْلَة عَلَى الْجُمْلَة , فَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن فَإِذًا لَا يُؤْتُوا . وَفِي التَّنْزِيل " وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ " [ الْإِسْرَاء : 76 ] وَفِي مُصْحَف أُبَيّ " وَإِذًا لَا يَلْبَثُوا " . وَأَمَّا الْإِلْغَاء فَلِأَنَّ مَا بَعْد الْوَاو لَا يَكُون إِلَّا بَعْد كَلَام يُعْطَف عَلَيْهِ , وَالنَّاصِب لِلْفِعْلِ عِنْد سِيبَوَيْهِ " إِذًا " لِمُضَارَعَتِهَا " أَنْ " , وَعِنْد الْخَلِيل أَنْ مُضْمَرَة بَعْد إِذًا . وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ إِذًا تُكْتَب بِالْأَلِفِ وَأَنَّهَا مُنَوَّنَة . قَالَ النَّحَّاس : وَسَمِعْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَقُول : سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد يَقُول : أَشْتَهِي أَنْ أَكْوِيَ يَدَ مَنْ يَكْتُب إِذًا بِالْأَلِفِ ; إِنَّهَا مِثْل لَنْ وَإِنْ , وَلَا يَدْخُل التَّنْوِين فِي الْحُرُوف .
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ↓
يَعْنِي الْيَهُود .
" النَّاس " يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . حَسَدُوهُ عَلَى النُّبُوَّة وَأَصْحَابه عَلَى الْإِيمَان بِهِ . وَقَالَ قَتَادَة : " النَّاس " الْعَرَب , حَسَدَتْهُمْ الْيَهُود عَلَى النُّبُوَّة . الضَّحَّاك : حَسَدَتْ الْيَهُود قُرَيْشًا ; لِأَنَّ النُّبُوَّة فِيهِمْ . وَالْحَسَد مَذْمُوم وَصَاحِبه مَغْمُوم وَهُوَ يَأْكُل الْحَسَنَات كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطَب ; رَوَاهُ أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْحَسَن : مَا رَأَيْت ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ حَاسِد ; نَفَس دَائِم , وَحُزْن لَازِم , وَعَبْرَة لَا تَنْفَد . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : لَا تُعَادُوا نِعَمَ اللَّه . قِيلَ لَهُ : وَمَنْ يُعَادِي نِعَمَ اللَّه ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاس عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله , يَقُول اللَّه تَعَالَى فِي بَعْض الْكُتُب : الْحَسُود عَدُوّ نِعْمَتِي مُتَسَخِّط لِقَضَائِي غَيْر رَاضٍ بِقِسْمَتِي . وَلِمَنْصُورٍ الْفَقِيه : أَلَا قُلْ لِمَنْ ظَلَّ لِي حَاسِدًا أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الْأَدَبْ أَسَأْت عَلَى اللَّهِ فِي حُكْمِهِ إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ وَيُقَال : الْحَسَد أَوَّل ذَنْب عُصِيَ اللَّه بِهِ فِي السَّمَاء , وَأَوَّل ذَنْب عُصِيَ بِهِ فِي الْأَرْض ; فَأَمَّا فِي السَّمَاء فَحَسَد إِبْلِيس لِآدَم , وَأَمَّا فِي الْأَرْض فَحَسَد قَابِيل لِهَابِيلَ . وَلِأَبِي الْعَتَاهِيَة فِي النَّاس : فَيَا رَبِّ إِنَّ النَّاس لَا يُنْصِفُونَنِي فَكَيْفَ وَلَوْ أَنْصَفْتهمْ ظَلَمُونِي وَإِنْ كَانَ لِي شَيْء تَصَدَّوْا لِأَخْذِهِ وَإِنْ شِئْت أَبْغِي شَيْئَهُمْ مَنَعُونِي وَإِنْ نَالَهُمْ بَذْلِي فَلَا شُكْرَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ أَنَا لَمْ أَبْذُلْ لَهُمْ شَتَمُونِي وَإِنْ طَرَقَتْنِي نَكْبَةٌ فَكِهُوا بِهَا وَإِنْ صَحِبَتْنِي نِعْمَةٌ حَسَدُونِي سَأَمْنَعُ قَلْبِي أَنْ يَحِنَّ إِلَيْهِمُو وَأَحْجُبُ عَنْهُمْ نَاظِرِي وَجُفُونِي وَقِيلَ : إِذَا سَرَّك أَنْ تَسْلَم مِنْ الْحَاسِد فَغَمِّ عَلَيْهِ أَمْرك . وَلِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْش : حَسَدُوا النِّعْمَةَ لَمَّا ظَهَرَتْ فَرَمَوْهَا بِأَبَاطِيلِ الْكَلِمْ وَإِذَا مَا اللَّه أَسْدَى نِعْمَةً لَمْ يَضِرْهَا قَوْل أَعْدَاء النِّعَم وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ : اِصْبِرْ عَلَى حَسَدِ الْحَسُو دِ فَإِنَّ صَبْرَك قَاتِلُهْ فَالنَّارُ تَأْكُلُ بَعْضَهَا إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهْ وَقَالَ بَعْض أَهْل التَّفْسِير فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : " رَبّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنْ الْأَسْفَلِينَ " [ فُصِّلَتْ : 29 ] . إِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِاَلَّذِي مِنْ الْجِنّ إِبْلِيس وَاَلَّذِي مِنْ الْإِنْس قَابِيل ; وَذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيس كَانَ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْكُفْر , وَقَابِيل كَانَ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْل , وَإِنَّمَا كَانَ أَصْل ذَلِكَ كُلّه الْحَسَد . وَقَالَ الشَّاعِر : إِنَّ الْغُرَابَ وَكَانَ يَمْشِي مِشْيَةً فِيمَا مَضَى مِنْ سَالِف الْأَحْوَال حَسَدَ الْقَطَاةَ فَرَامَ يَمْشِي مَشْيَهَا فَأَصَابَهُ ضَرْب مِنْ التَّعْقَالِ
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى آل إِبْرَاهِيم الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَآتَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا . قَالَ هَمَّام بْن الْحَارِث : أُيِّدُوا بِالْمَلَائِكَةِ . وَقِيلَ : يَعْنِي مُلْك سُلَيْمَان ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَعَنْهُ أَيْضًا : الْمَعْنَى أَمْ يَحْسُدُونَ مُحَمَّدًا عَلَى مَا أَحَلَّ اللَّه لَهُ مِنْ النِّسَاء فَيَكُون الْمُلْك الْعَظِيم عَلَى هَذَا أَنَّهُ أَحَلَّ لِدَاوُدَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ اِمْرَأَة وَلِسُلَيْمَان أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . وَاخْتَارَ الطَّبَرِيّ أَنْ يَكُون الْمُرَاد مَا أُوتِيَهُ سُلَيْمَان مِنْ الْمُلْك وَتَحْلِيل النِّسَاء . وَالْمُرَاد تَكْذِيب الْيَهُود وَالرَّدّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلهمْ : لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا رَغِبَ فِي كَثْرَة النِّسَاء وَلَشَغَلَتْهُ النُّبُوَّة عَنْ ذَلِكَ ; فَأَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِمَا كَانَ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَان يُوَبِّخهُمْ , فَأَقَرَّتْ الْيَهُود أَنَّهُ اِجْتَمَعَ عِنْد سُلَيْمَان أَلْف اِمْرَأَة , فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلْف اِمْرَأَة ) ؟ ! قَالُوا : نَعَمْ ثَلَاثُمِائَةِ مَهْرِيَّة , وَسَبْعمِائَةِ سُرِّيَّة , وَعِنْد دَاوُدَ مِائَة اِمْرَأَة . فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلْف عِنْد رَجُل وَمِائَة عِنْد رَجُل أَكْثَر أَوْ تِسْع نِسْوَة ) ؟ فَسَكَتُوا . وَكَانَ لَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْع نِسْوَة .
يُقَال : إِنَّ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَكْثَر الْأَنْبِيَاء نِسَاء . وَالْفَائِدَة فِي كَثْرَة تَزَوُّجه أَنَّهُ كَانَ لَهُ قُوَّة أَرْبَعِينَ نَبِيًّا , وَكُلّ مَنْ كَانَ أَقْوَى فَهُوَ أَكْثَر نِكَاحًا . وَيُقَال : إِنَّهُ أَرَادَ بِالنِّكَاحِ كَثْرَة الْعَشِيرَة ; لِأَنَّ لِكُلِّ اِمْرَأَة قَبِيلَتَيْنِ قَبِيلَة مِنْ جِهَة الْأَب وَقَبِيلَة مِنْ جِهَة الْأُمّ ; فَكُلَّمَا تَزَوَّجَ اِمْرَأَة صَرَفَ وُجُوه الْقَبِيلَتَيْنِ إِلَى نَفْسه فَتَكُون عَوْنًا لَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ . وَيُقَال : إِنَّ كُلّ مَنْ كَانَ أَتْقَى فَشَهْوَتُهُ أَشَدُّ ; لِأَنَّ الَّذِي لَا يَكُون تَقِيًّا فَإِنَّمَا يَتَفَرَّج بِالنَّظَرِ وَالْمَسّ , أَلَا تَرَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر : ( الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ ) . فَإِذَا كَانَ فِي النَّظَر وَالْمَسّ نَوْع مِنْ قَضَاء الشَّهْوَة قَلَّ الْجِمَاع , وَالْمُتَّقِي لَا يَنْظُرُ وَلَا يَمَسّ فَتَكُون الشَّهْوَة مُجْتَمِعَة فِي نَفْسه فَيَكُون أَكْثَرَ جِمَاعًا . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : كُلّ شَهْوَة تُقَسِّي الْقَلْب إِلَّا الْجِمَاع فَإِنَّهُ يُصَفِّي الْقَلْب ; وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاء يَفْعَلُونَ ذَلِكَ .
" النَّاس " يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . حَسَدُوهُ عَلَى النُّبُوَّة وَأَصْحَابه عَلَى الْإِيمَان بِهِ . وَقَالَ قَتَادَة : " النَّاس " الْعَرَب , حَسَدَتْهُمْ الْيَهُود عَلَى النُّبُوَّة . الضَّحَّاك : حَسَدَتْ الْيَهُود قُرَيْشًا ; لِأَنَّ النُّبُوَّة فِيهِمْ . وَالْحَسَد مَذْمُوم وَصَاحِبه مَغْمُوم وَهُوَ يَأْكُل الْحَسَنَات كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطَب ; رَوَاهُ أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْحَسَن : مَا رَأَيْت ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ حَاسِد ; نَفَس دَائِم , وَحُزْن لَازِم , وَعَبْرَة لَا تَنْفَد . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : لَا تُعَادُوا نِعَمَ اللَّه . قِيلَ لَهُ : وَمَنْ يُعَادِي نِعَمَ اللَّه ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاس عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله , يَقُول اللَّه تَعَالَى فِي بَعْض الْكُتُب : الْحَسُود عَدُوّ نِعْمَتِي مُتَسَخِّط لِقَضَائِي غَيْر رَاضٍ بِقِسْمَتِي . وَلِمَنْصُورٍ الْفَقِيه : أَلَا قُلْ لِمَنْ ظَلَّ لِي حَاسِدًا أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الْأَدَبْ أَسَأْت عَلَى اللَّهِ فِي حُكْمِهِ إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ وَيُقَال : الْحَسَد أَوَّل ذَنْب عُصِيَ اللَّه بِهِ فِي السَّمَاء , وَأَوَّل ذَنْب عُصِيَ بِهِ فِي الْأَرْض ; فَأَمَّا فِي السَّمَاء فَحَسَد إِبْلِيس لِآدَم , وَأَمَّا فِي الْأَرْض فَحَسَد قَابِيل لِهَابِيلَ . وَلِأَبِي الْعَتَاهِيَة فِي النَّاس : فَيَا رَبِّ إِنَّ النَّاس لَا يُنْصِفُونَنِي فَكَيْفَ وَلَوْ أَنْصَفْتهمْ ظَلَمُونِي وَإِنْ كَانَ لِي شَيْء تَصَدَّوْا لِأَخْذِهِ وَإِنْ شِئْت أَبْغِي شَيْئَهُمْ مَنَعُونِي وَإِنْ نَالَهُمْ بَذْلِي فَلَا شُكْرَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ أَنَا لَمْ أَبْذُلْ لَهُمْ شَتَمُونِي وَإِنْ طَرَقَتْنِي نَكْبَةٌ فَكِهُوا بِهَا وَإِنْ صَحِبَتْنِي نِعْمَةٌ حَسَدُونِي سَأَمْنَعُ قَلْبِي أَنْ يَحِنَّ إِلَيْهِمُو وَأَحْجُبُ عَنْهُمْ نَاظِرِي وَجُفُونِي وَقِيلَ : إِذَا سَرَّك أَنْ تَسْلَم مِنْ الْحَاسِد فَغَمِّ عَلَيْهِ أَمْرك . وَلِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْش : حَسَدُوا النِّعْمَةَ لَمَّا ظَهَرَتْ فَرَمَوْهَا بِأَبَاطِيلِ الْكَلِمْ وَإِذَا مَا اللَّه أَسْدَى نِعْمَةً لَمْ يَضِرْهَا قَوْل أَعْدَاء النِّعَم وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ : اِصْبِرْ عَلَى حَسَدِ الْحَسُو دِ فَإِنَّ صَبْرَك قَاتِلُهْ فَالنَّارُ تَأْكُلُ بَعْضَهَا إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهْ وَقَالَ بَعْض أَهْل التَّفْسِير فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : " رَبّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنْ الْأَسْفَلِينَ " [ فُصِّلَتْ : 29 ] . إِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِاَلَّذِي مِنْ الْجِنّ إِبْلِيس وَاَلَّذِي مِنْ الْإِنْس قَابِيل ; وَذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيس كَانَ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْكُفْر , وَقَابِيل كَانَ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْل , وَإِنَّمَا كَانَ أَصْل ذَلِكَ كُلّه الْحَسَد . وَقَالَ الشَّاعِر : إِنَّ الْغُرَابَ وَكَانَ يَمْشِي مِشْيَةً فِيمَا مَضَى مِنْ سَالِف الْأَحْوَال حَسَدَ الْقَطَاةَ فَرَامَ يَمْشِي مَشْيَهَا فَأَصَابَهُ ضَرْب مِنْ التَّعْقَالِ
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى آل إِبْرَاهِيم الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَآتَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا . قَالَ هَمَّام بْن الْحَارِث : أُيِّدُوا بِالْمَلَائِكَةِ . وَقِيلَ : يَعْنِي مُلْك سُلَيْمَان ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَعَنْهُ أَيْضًا : الْمَعْنَى أَمْ يَحْسُدُونَ مُحَمَّدًا عَلَى مَا أَحَلَّ اللَّه لَهُ مِنْ النِّسَاء فَيَكُون الْمُلْك الْعَظِيم عَلَى هَذَا أَنَّهُ أَحَلَّ لِدَاوُدَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ اِمْرَأَة وَلِسُلَيْمَان أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . وَاخْتَارَ الطَّبَرِيّ أَنْ يَكُون الْمُرَاد مَا أُوتِيَهُ سُلَيْمَان مِنْ الْمُلْك وَتَحْلِيل النِّسَاء . وَالْمُرَاد تَكْذِيب الْيَهُود وَالرَّدّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلهمْ : لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا رَغِبَ فِي كَثْرَة النِّسَاء وَلَشَغَلَتْهُ النُّبُوَّة عَنْ ذَلِكَ ; فَأَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِمَا كَانَ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَان يُوَبِّخهُمْ , فَأَقَرَّتْ الْيَهُود أَنَّهُ اِجْتَمَعَ عِنْد سُلَيْمَان أَلْف اِمْرَأَة , فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلْف اِمْرَأَة ) ؟ ! قَالُوا : نَعَمْ ثَلَاثُمِائَةِ مَهْرِيَّة , وَسَبْعمِائَةِ سُرِّيَّة , وَعِنْد دَاوُدَ مِائَة اِمْرَأَة . فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلْف عِنْد رَجُل وَمِائَة عِنْد رَجُل أَكْثَر أَوْ تِسْع نِسْوَة ) ؟ فَسَكَتُوا . وَكَانَ لَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْع نِسْوَة .
يُقَال : إِنَّ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَكْثَر الْأَنْبِيَاء نِسَاء . وَالْفَائِدَة فِي كَثْرَة تَزَوُّجه أَنَّهُ كَانَ لَهُ قُوَّة أَرْبَعِينَ نَبِيًّا , وَكُلّ مَنْ كَانَ أَقْوَى فَهُوَ أَكْثَر نِكَاحًا . وَيُقَال : إِنَّهُ أَرَادَ بِالنِّكَاحِ كَثْرَة الْعَشِيرَة ; لِأَنَّ لِكُلِّ اِمْرَأَة قَبِيلَتَيْنِ قَبِيلَة مِنْ جِهَة الْأَب وَقَبِيلَة مِنْ جِهَة الْأُمّ ; فَكُلَّمَا تَزَوَّجَ اِمْرَأَة صَرَفَ وُجُوه الْقَبِيلَتَيْنِ إِلَى نَفْسه فَتَكُون عَوْنًا لَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ . وَيُقَال : إِنَّ كُلّ مَنْ كَانَ أَتْقَى فَشَهْوَتُهُ أَشَدُّ ; لِأَنَّ الَّذِي لَا يَكُون تَقِيًّا فَإِنَّمَا يَتَفَرَّج بِالنَّظَرِ وَالْمَسّ , أَلَا تَرَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر : ( الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ ) . فَإِذَا كَانَ فِي النَّظَر وَالْمَسّ نَوْع مِنْ قَضَاء الشَّهْوَة قَلَّ الْجِمَاع , وَالْمُتَّقِي لَا يَنْظُرُ وَلَا يَمَسّ فَتَكُون الشَّهْوَة مُجْتَمِعَة فِي نَفْسه فَيَكُون أَكْثَرَ جِمَاعًا . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : كُلّ شَهْوَة تُقَسِّي الْقَلْب إِلَّا الْجِمَاع فَإِنَّهُ يُصَفِّي الْقَلْب ; وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاء يَفْعَلُونَ ذَلِكَ .
يَعْنِي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْره وَهُوَ الْمَحْسُود .
" وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ " أَعْرَضَ فَلَمْ يُؤْمِن بِهِ . وَقِيلَ : الضَّمِير فِي " بِهِ " رَاجِع إِلَى إِبْرَاهِيم . وَالْمَعْنَى : فَمِنْ آل إِبْرَاهِيم مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ . وَقِيلَ : يَرْجِع إِلَى الْكِتَاب . وَاَللَّه أَعْلَم .
" وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ " أَعْرَضَ فَلَمْ يُؤْمِن بِهِ . وَقِيلَ : الضَّمِير فِي " بِهِ " رَاجِع إِلَى إِبْرَاهِيم . وَالْمَعْنَى : فَمِنْ آل إِبْرَاهِيم مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ . وَقِيلَ : يَرْجِع إِلَى الْكِتَاب . وَاَللَّه أَعْلَم .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ↓
قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِصْلَاء أَوَّل السُّورَة . وَقَرَأَ حُمَيْد بْن قَيْس " نَصْلِيهِمْ " بِفَتْحِ النُّون أَيْ نَشْوِيهِمْ . يُقَال : شَاة مَصْلِيَّة . وَنَصْب " نَارًا " عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة بِنَزْعِ الْخَافِض تَقْدِيره بِنَارٍ .
يُقَال : نَضِجَ الشَّيْء نَضْجًا وَنُضْجًا , وَفُلَان نَضِيج الرَّأْي مُحْكَمُهُ . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة : تُبَدَّل الْجُلُود جُلُودًا أُخَر . فَإِنْ قَالَ مَنْ يَطْعَن فِي الْقُرْآن مِنْ الزَّنَادِقَة : كَيْفَ جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ جِلْدًا لَمْ يَعْصِهِ ؟ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْجِلْد بِمُعَذَّبٍ وَلَا مُعَاقَبٍ , وَإِنَّمَا الْأَلَم وَاقِع عَلَى النُّفُوس ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُحِسُّ وَتَعْرِفُ فَتَبْدِيل الْجُلُود زِيَادَة فِي عَذَاب النُّفُوس . يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " لِيَذُوقُوا الْعَذَاب " وَقَوْله تَعَالَى : " كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا " [ الْإِسْرَاء : 97 ] . فَالْمَقْصُود تَعْذِيب الْأَبْدَانِ وَإِيلَام الْأَرْوَاح . وَلَوْ أَرَادَ الْجُلُود لَقَالَ : لِيَذُقْنَ الْعَذَاب . مُقَاتِل : تَأْكُلُهُ النَّار كُلّ يَوْم سَبْع مَرَّات . الْحَسَن : سَبْعِينَ أَلْف مَرَّة كُلَّمَا أَكَلَتْهُمْ قِيلَ لَهُمْ : عُودُوا فَعَادُوا كَمَا كَانُوا . اِبْن عُمَر : إِذَا اِحْتَرَقُوا بُدِّلَتْ لَهُمْ جُلُود بِيض كَالْقَرَاطِيسِ . وَقِيلَ : عَنَى بِالْجُلُودِ السَّرَابِيل ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَاد سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَان " [ إِبْرَاهِيم : 49 - 50 ] سُمِّيَتْ جُلُودًا لِلُزُومِهَا جُلُودَهُمْ عَلَى الْمُجَاوَرَة ; كَمَا يُقَال لِلشَّيْءِ الْخَاصّ بِالْإِنْسَانِ : هُوَ جِلْدَة مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ . وَأَنْشَدَ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ش يَلُومُونَنِي فِي سَالِمٍ وَأَلُومُهُمْ و وَجِلْدَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ سَالِمُ ش فَكُلَّمَا اِحْتَرَقَتْ السَّرَابِيل أُعِيدَتْ . قَالَ الشَّاعِر : كَسَا اللُّؤْمُ تَيْمًا خُضْرَةً فِي جُلُودِهَا فَوَيْلٌ لِتَيْمٍ مِنْ سَرَابِيلهَا الْخُضْر فَكَنَّى عَنْ الْجُلُود بِالسَّرَابِيلِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَعَدْنَا الْجِلْد الْأَوَّل جَدِيدًا ; كَمَا تَقُول لِلصَّائِغِ : صُغْ لِي مِنْ هَذَا الْخَاتَم خَاتَمًا غَيْرَهُ ; فَيَكْسِرهُ وَيَصُوغ لَك مِنْهُ خَاتَمًا . فَالْخَاتَم الْمَصُوغ هُوَ الْأَوَّل إِلَّا أَنَّ الصِّيَاغَة تَغَيَّرَتْ وَالْفِضَّة وَاحِدَة . وَهَذَا كَالنَّفْسِ إِذَا صَارَتْ تُرَابًا وَصَارَتْ لَا شَيْء ثُمَّ أَحْيَاهَا اللَّه تَعَالَى . وَكَعَهْدِك بِأَخٍ لَك صَحِيح ثُمَّ تَرَاهُ بَعْد ذَلِكَ سَقِيمًا مُدْنِفًا فَتَقُول لَهُ : كَيْفَ أَنْتَ ؟ فَيَقُول : أَنَا غَيْر الَّذِي عَهِدْت . فَهُوَ هُوَ , وَلَكِنَّ حَاله تَغَيَّرَتْ . فَقَوْل الْقَائِل : أَنَا غَيْر الَّذِي عَهِدْت , وَقَوْله تَعَالَى : " غَيْرهَا " مَجَاز . وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى : " يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض غَيْر الْأَرْض " [ إِبْرَاهِيم : 48 ] وَهِيَ تِلْكَ الْأَرْض بِعَيْنِهَا إِلَّا أَنَّهَا تُغَيَّر آكَامُهَا وَجِبَالهَا وَأَنْهَارهَا وَأَشْجَارهَا , وَيُزَاد فِي سَعَتِهَا وَيُسَوَّى ذَلِكَ مِنْهَا ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " إِبْرَاهِيم " عَلَيْهِ السَّلَام . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل الشَّاعِر : فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتهمْ وَلَا الدَّار بِالدَّارِ الَّتِي كُنْت أَعْرِفُ وَقَالَ الشَّعْبِيّ : جَاءَ رَجُل إِلَى اِبْن عَبَّاس فَقَالَ : أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَة . ذَمَّتْ دَهْرهَا , وَأَنْشَدَتْ بَيْتَيْ لَبِيد : ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ وَبَقِيت فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ يَتَلَذَّذُونَ مَجَانَةً وَمَذَلَّةً وَيُعَاب قَائِلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغَبِ فَقَالَتْ : رَحِمَ اللَّه لَبِيدًا فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ زَمَانَنَا هَذَا ! فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَئِنْ ذَمَّتْ عَائِشَة دَهْرهَا لَقَدْ ذَمَّتْ " عَادٌ " دَهْرَهَا ; لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي خِزَانَة " عَاد " بَعْدَمَا هَلَكُوا بِزَمَنٍ طَوِيل سَهْم كَأَطْوَل مَا يَكُون مِنْ رِمَاح ذَلِكَ الزَّمَن عَلَيْهِ مَكْتُوب : بِلَاد بِهَا كُنَّا وَنَحْنُ بِأَهْلِهَا إِذْ النَّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِلَادُ الْبِلَاد بَاقِيَة كَمَا هِيَ إِلَّا أَنَّ أَحْوَالهَا وَأَحْوَال أَهْلهَا تَنَكَّرَتْ وَتَغَيَّرَتْ .
أَيْ لَا يُعْجِزهُ شَيْء وَلَا يَفُوتهُ .
فِي إِيعَاده عِبَاده .
يُقَال : نَضِجَ الشَّيْء نَضْجًا وَنُضْجًا , وَفُلَان نَضِيج الرَّأْي مُحْكَمُهُ . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة : تُبَدَّل الْجُلُود جُلُودًا أُخَر . فَإِنْ قَالَ مَنْ يَطْعَن فِي الْقُرْآن مِنْ الزَّنَادِقَة : كَيْفَ جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ جِلْدًا لَمْ يَعْصِهِ ؟ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْجِلْد بِمُعَذَّبٍ وَلَا مُعَاقَبٍ , وَإِنَّمَا الْأَلَم وَاقِع عَلَى النُّفُوس ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُحِسُّ وَتَعْرِفُ فَتَبْدِيل الْجُلُود زِيَادَة فِي عَذَاب النُّفُوس . يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " لِيَذُوقُوا الْعَذَاب " وَقَوْله تَعَالَى : " كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا " [ الْإِسْرَاء : 97 ] . فَالْمَقْصُود تَعْذِيب الْأَبْدَانِ وَإِيلَام الْأَرْوَاح . وَلَوْ أَرَادَ الْجُلُود لَقَالَ : لِيَذُقْنَ الْعَذَاب . مُقَاتِل : تَأْكُلُهُ النَّار كُلّ يَوْم سَبْع مَرَّات . الْحَسَن : سَبْعِينَ أَلْف مَرَّة كُلَّمَا أَكَلَتْهُمْ قِيلَ لَهُمْ : عُودُوا فَعَادُوا كَمَا كَانُوا . اِبْن عُمَر : إِذَا اِحْتَرَقُوا بُدِّلَتْ لَهُمْ جُلُود بِيض كَالْقَرَاطِيسِ . وَقِيلَ : عَنَى بِالْجُلُودِ السَّرَابِيل ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَاد سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَان " [ إِبْرَاهِيم : 49 - 50 ] سُمِّيَتْ جُلُودًا لِلُزُومِهَا جُلُودَهُمْ عَلَى الْمُجَاوَرَة ; كَمَا يُقَال لِلشَّيْءِ الْخَاصّ بِالْإِنْسَانِ : هُوَ جِلْدَة مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ . وَأَنْشَدَ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ش يَلُومُونَنِي فِي سَالِمٍ وَأَلُومُهُمْ و وَجِلْدَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ سَالِمُ ش فَكُلَّمَا اِحْتَرَقَتْ السَّرَابِيل أُعِيدَتْ . قَالَ الشَّاعِر : كَسَا اللُّؤْمُ تَيْمًا خُضْرَةً فِي جُلُودِهَا فَوَيْلٌ لِتَيْمٍ مِنْ سَرَابِيلهَا الْخُضْر فَكَنَّى عَنْ الْجُلُود بِالسَّرَابِيلِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَعَدْنَا الْجِلْد الْأَوَّل جَدِيدًا ; كَمَا تَقُول لِلصَّائِغِ : صُغْ لِي مِنْ هَذَا الْخَاتَم خَاتَمًا غَيْرَهُ ; فَيَكْسِرهُ وَيَصُوغ لَك مِنْهُ خَاتَمًا . فَالْخَاتَم الْمَصُوغ هُوَ الْأَوَّل إِلَّا أَنَّ الصِّيَاغَة تَغَيَّرَتْ وَالْفِضَّة وَاحِدَة . وَهَذَا كَالنَّفْسِ إِذَا صَارَتْ تُرَابًا وَصَارَتْ لَا شَيْء ثُمَّ أَحْيَاهَا اللَّه تَعَالَى . وَكَعَهْدِك بِأَخٍ لَك صَحِيح ثُمَّ تَرَاهُ بَعْد ذَلِكَ سَقِيمًا مُدْنِفًا فَتَقُول لَهُ : كَيْفَ أَنْتَ ؟ فَيَقُول : أَنَا غَيْر الَّذِي عَهِدْت . فَهُوَ هُوَ , وَلَكِنَّ حَاله تَغَيَّرَتْ . فَقَوْل الْقَائِل : أَنَا غَيْر الَّذِي عَهِدْت , وَقَوْله تَعَالَى : " غَيْرهَا " مَجَاز . وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى : " يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض غَيْر الْأَرْض " [ إِبْرَاهِيم : 48 ] وَهِيَ تِلْكَ الْأَرْض بِعَيْنِهَا إِلَّا أَنَّهَا تُغَيَّر آكَامُهَا وَجِبَالهَا وَأَنْهَارهَا وَأَشْجَارهَا , وَيُزَاد فِي سَعَتِهَا وَيُسَوَّى ذَلِكَ مِنْهَا ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " إِبْرَاهِيم " عَلَيْهِ السَّلَام . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل الشَّاعِر : فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتهمْ وَلَا الدَّار بِالدَّارِ الَّتِي كُنْت أَعْرِفُ وَقَالَ الشَّعْبِيّ : جَاءَ رَجُل إِلَى اِبْن عَبَّاس فَقَالَ : أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَة . ذَمَّتْ دَهْرهَا , وَأَنْشَدَتْ بَيْتَيْ لَبِيد : ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ وَبَقِيت فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ يَتَلَذَّذُونَ مَجَانَةً وَمَذَلَّةً وَيُعَاب قَائِلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغَبِ فَقَالَتْ : رَحِمَ اللَّه لَبِيدًا فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ زَمَانَنَا هَذَا ! فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَئِنْ ذَمَّتْ عَائِشَة دَهْرهَا لَقَدْ ذَمَّتْ " عَادٌ " دَهْرَهَا ; لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي خِزَانَة " عَاد " بَعْدَمَا هَلَكُوا بِزَمَنٍ طَوِيل سَهْم كَأَطْوَل مَا يَكُون مِنْ رِمَاح ذَلِكَ الزَّمَن عَلَيْهِ مَكْتُوب : بِلَاد بِهَا كُنَّا وَنَحْنُ بِأَهْلِهَا إِذْ النَّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِلَادُ الْبِلَاد بَاقِيَة كَمَا هِيَ إِلَّا أَنَّ أَحْوَالهَا وَأَحْوَال أَهْلهَا تَنَكَّرَتْ وَتَغَيَّرَتْ .
أَيْ لَا يُعْجِزهُ شَيْء وَلَا يَفُوتهُ .
فِي إِيعَاده عِبَاده .
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ↓
يَعْنِي كَثِيفًا لَا شَمْسَ فِيهِ . الْحَسَن : وُصِفَ بِأَنَّهُ ظَلِيل ; لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلهُ مَا يَدْخُل ظِلّ الدُّنْيَا مِنْ الْحَرّ وَالسَّمُوم وَنَحْو ذَلِكَ . وَقَالَ الضَّحَّاك : يَعْنِي ظِلَال الْأَشْجَار وَظِلَال قُصُورهَا الْكَلْبِيّ : " ظِلًّا ظَلِيلًا " يَعْنِي دَائِمًا .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ↓
هَذِهِ الْآيَة مِنْ أُمَّهَات الْأَحْكَام تَضَمَّنَتْ جَمِيع الدِّين وَالشَّرْع . وَقَدْ اِخْتُلِفَ مَنْ الْمُخَاطَب بِهَا ; فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَزَيْد بْن أَسْلَم وَشَهْر بْن حَوْشَب وَابْن زَيْد : هَذَا خِطَاب لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّة , فَهِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَرَائِهِ , ثُمَّ تَتَنَاوَل مَنْ بَعْدَهُمْ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج وَغَيْره : ذَلِكَ خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة فِي أَمْر مِفْتَاح الْكَعْبَة حِينَ أَخَذَهُ مِنْ عُثْمَان بْن أَبِي طَلْحَة الْحَجَبِيّ الْعَبْدَرِيّ مِنْ بَنِي عَبْد الدَّار وَمِنْ اِبْن عَمّه شَيْبَة بْن عُثْمَان بْن أَبِي طَلْحَة وَكَانَا كَافِرَيْنِ وَقْت فَتْح مَكَّة , فَطَلَبَهُ الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب لِتَنْضَافَ لَهُ السِّدَانَة إِلَى السِّقَايَة ; فَدَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَة فَكَسَرَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الْأَوْثَان , وَأَخْرَجَ مَقَام إِبْرَاهِيم وَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيل بِهَذِهِ الْآيَة . قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة , وَمَا كُنْت سَمِعْتهَا قَبْلُ مِنْهُ , فَدَعَا عُثْمَان وَشَيْبَة فَقَالَ : ( خُذَاهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ ) . وَحَكَى مَكِّيّ : أَنَّ شَيْبَة أَرَادَ أَلَّا يَدْفَع الْمِفْتَاح , ثُمَّ دَفَعَهُ , وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذْهُ بِأَمَانَةِ اللَّه . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْآيَة فِي الْوُلَاة خَاصَّة فِي أَنْ يَعِظُوا النِّسَاء فِي النُّشُوز وَنَحْوه وَيَرُدُّوهُنَّ إِلَى الْأَزْوَاج . وَالْأَظْهَر فِي الْآيَة أَنَّهَا عَامَّة فِي جَمِيع النَّاس فَهِيَ تَتَنَاوَل الْوُلَاة فِيمَا إِلَيْهِمْ مِنْ الْأَمَانَات فِي قِسْمَة الْأَمْوَال وَرَدّ الظُّلَامَات وَالْعَدْل فِي الْحُكُومَات . وَهَذَا اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . وَتَتَنَاوَل مَنْ دُونهمْ مِنْ النَّاس فِي حِفْظ الْوَدَائِع وَالتَّحَرُّز فِي الشَّهَادَات وَغَيْر ذَلِكَ , كَالرَّجُلِ يَحْكُم فِي نَازِلَةٍ مَا وَنَحْوه ; وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَسَائِر الْعِبَادَات أَمَانَة اللَّه تَعَالَى . وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه يُكَفِّر الذُّنُوب كُلّهَا ) أَوْ قَالَ : ( كُلّ شَيْء إِلَّا الْأَمَانَة - وَالْأَمَانَة فِي الصَّلَاة وَالْأَمَانَة فِي الصَّوْم وَالْأَمَانَة فِي الْحَدِيث وَأَشَدّ ذَلِكَ الْوَدَائِع ) . ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ فِي الْحِلْيَة . وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الْآيَة عَامَّة فِي الْجَمِيع الْبَرَاء بْن عَازِب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأُبَيّ بْن كَعْب قَالُوا : الْأَمَانَة فِي كُلّ شَيْء فِي الْوُضُوء وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْجَنَابَة وَالصَّوْم وَالْكَيْل وَالْوَزْن وَالْوَدَائِع , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمْ يُرَخِّص اللَّه لِمُعْسِرٍ وَلَا لِمُوسِرٍ أَنْ يُمْسِك الْأَمَانَة .
قُلْت : وَهَذَا إِجْمَاع . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَمَانَات مَرْدُودَة إِلَى أَرْبَابهَا الْأَبْرَار مِنْهُمْ وَالْفُجَّار ; قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَالْأَمَانَة مَصْدَر بِمَعْنَى الْمَفْعُول فَلِذَلِكَ جُمِعَ . وَوَجْه النَّظْم بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ كِتْمَان أَهْل الْكِتَاب صِفَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَوْلهمْ : إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى سَبِيلًا , فَكَانَ ذَلِكَ خِيَانَة مِنْهُمْ فَانْجَرَّ الْكَلَام إِلَى ذِكْر جَمِيع الْأَمَانَات ; فَالْآيَة شَامِلَة بِنَظْمِهَا لِكُلِّ أَمَانَة وَهِيَ أَعْدَاد كَثِيرَة كَمَا ذَكَرْنَا . وَأُمَّهَاتهَا فِي الْأَحْكَام : الْوَدِيعَة وَاللُّقَطَة وَالرَّهْن وَالْعَارِيَة . وَرَوَى أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( أَدِّ الْأَمَانَة إِلَى مَنْ اِئْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك ) . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَرَوَاهُ أَنَس وَأَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " مَعْنَاهُ . وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي خُطْبَته عَام حَجَّة الْوَدَاع : ( الْعَارِيَة مُؤَدَّاة وَالْمِنْحَة مَرْدُودَة وَالدَّيْن مَقْضِيّ وَالزَّعِيم غَارِم ) . صَحِيح أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره . وَزَادَ الدَّارَقُطْنِيّ : فَقَالَ رَجُل : فَعَهْدُ اللَّه ؟ قَالَ : ( عَهْد اللَّه أَحَقّ مَا أُدِّيَ ) . وَقَالَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَة وَالْحَدِيث فِي رَدّ الْوَدِيعَة وَأَنَّهَا مَضْمُونَة عَلَى كُلّ حَال كَانَتْ مِمَّا يُغَاب عَلَيْهَا أَوْ لَا يُغَاب تَعَدَّى فِيهَا أَوْ لَمْ يَتَعَدَّ - عَطَاء وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَشْهَب . وَرُوِيَ أَنَّ اِبْن عَبَّاس وَأَبَا هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ضَمَّنَا الْوَدِيعَة . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ مَنْ اِسْتَعَارَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْره مِمَّا لَا يُغَاب عَلَيْهِ فَتَلِفَ عِنْده فَهُوَ مُصَدَّق فِي تَلَفِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي . وَهَذَا قَوْل الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ , وَهُوَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ وَالْأَوْزَاعِيّ قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْل عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْعَارِيَة مُؤَدَّاة ) هُوَ كَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلهَا " . فَإِذَا تَلِفَتْ الْأَمَانَة لَمْ يَلْزَم الْمُؤْتَمَنَ غُرْمُهَا لِأَنَّهُ مُصَدَّق فَكَذَلِكَ الْعَارِيَة إِذَا تَلِفَتْ مِنْ غَيْر تَعَدٍّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذهَا عَلَى الضَّمَان , فَإِذَا تَلِفَتْ بِتَعَدِّيهِ عَلَيْهَا لَزِمَهُ قِيمَتهَا لِجِنَايَتِهِ عَلَيْهَا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَعُمَر وَابْن مَسْعُود أَنَّهُ لَا ضَمَان فِي الْعَارِيَة . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب , عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا ضَمَان عَلَى مُؤْتَمَن ) . وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ فِيمَا اِسْتَدَلَّ بِهِ بِقَوْلِ صَفْوَان لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اِسْتَعَارَ مِنْهُ الْأَدْرَاع : أَعَارِيَةٌ مَضْمُونَة أَوْ عَارِيَة مُؤَدَّاة ؟ فَقَالَ : ( بَلْ عَارِيَة مُؤَدَّاة ) .
قَالَ الضَّحَّاك : بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى مَنْ أَنْكَرَ . وَهَذَا خِطَاب لِلْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاء وَالْحُكَّام , وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ بِالْمَعْنَى جَمِيع الْخَلْق كَمَا ذَكَرْنَا فِي أَدَاء الْأَمَانَات . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْمُقْسِطِينَ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى مَنَابِر مِنْ نُور عَنْ يَمِين الرَّحْمَن وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمهمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ) . وَقَالَ : ( كُلّكُمْ رَاعٍ وَكُلّكُمْ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّته فَالْإِمَام رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّته وَالرَّجُل رَاعٍ عَلَى أَهْله وَهُوَ مَسْئُول عَنْهُمْ وَالْمَرْأَة رَاعِيَة عَلَى بَيْت زَوْجهَا وَهِيَ مَسْئُولَة عَنْهُ وَالْعَبْد رَاعٍ عَلَى مَال سَيِّده وَهُوَ مَسْئُول عَنْهُ أَلَا فَكُلّكُمْ رَاعٍ وَكُلّكُمْ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّته ) . فَجَعَلَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كُلّ هَؤُلَاءِ رُعَاة : وَحُكَّامًا عَلَى مَرَاتِبهمْ , وَكَذَلِكَ الْعَالِم الْحَاكِم ; لِأَنَّهُ إِذَا أَفْتَى حَكَمَ وَقَضَى وَفَصَلَ بَيْنَ الْحَلَال وَالْحَرَام , وَالْفَرْض وَالنَّدْب , وَالصِّحَّة وَالْفَسَاد , فَجَمِيع ذَلِكَ أَمَانَة تُؤَدَّى وَحُكْم يُقْضَى .
الْقُرَّاء فِي قَوْل " فَنِعِمَّا هِيَ " فَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَنَافِع فِي رِوَايَة وَرْش وَعَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص وَابْن كَثِير " فَنِعِمَّا هِيَ " بِكَسْرِ النُّون وَالْعَيْن . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو أَيْضًا وَنَافِع فِي غَيْر رِوَايَة وَرْش وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَالْمُفَضَّل " فَنِعْمَا " بِكَسْرِ النُّون وَسُكُون الْعَيْن . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَابْن عَامِر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " فَنَعِمَّا " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْعَيْن , وَكُلّهمْ سَكَّنَ الْمِيم . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن فَنِعْمَ مَا هِيَ . قَالَ النَّحَّاس : وَلَكِنَّهُ فِي السَّوَاد مُتَّصِل فَلَزِمَ الْإِدْغَام . وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ فِي " نِعْمَ " أَرْبَع لُغَات : نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ , هَذَا الْأَصْل . وَنِعِمَ الرَّجُل , بِكَسْرِ النُّون لِكَسْرِ الْعَيْن . وَنَعْمَ الرَّجُل , بِفَتْحِ النُّون وَسُكُون الْعَيْن , وَالْأَصْل نَعِمَ حُذِفَتْ الْكَسْرَة لِأَنَّهَا ثَقِيلَة . وَنِعْمَ الرَّجُل , وَهَذَا أَفْضَل اللُّغَات , وَالْأَصْل فِيهَا نَعِمَ . وَهِيَ تَقَع فِي كُلّ مَدْح , فَخُفِّفَتْ وَقُلِبَتْ كَسْرَة الْعَيْن عَلَى النُّون وَأُسْكِنَتْ الْعَيْن , فَمَنْ قَرَأَ " فَنِعِمَّا هِيَ " فَلَهُ تَقْدِيرَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون جَاءَ بِهِ عَلَى لُغَة مَنْ يَقُول نِعِمَ . وَالتَّقْدِير الْآخَر أَنْ يَكُون عَلَى , اللُّغَة الْجَيِّدَة , فَيَكُون الْأَصْل نِعْمَ , ثُمَّ كُسِرَتْ الْعَيْن لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . قَالَ النَّحَّاس : فَأَمَّا الَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو وَنَافِع مِنْ إِسْكَان الْعَيْن فَمُحَال . حُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّهُ قَالَ : أَمَّا إِسْكَان الْعَيْن وَالْمِيم مُشَدَّدَة فَلَا يَقْدِر أَحَد أَنْ يَنْطِق بِهِ , وَإِنَّمَا يَرُوم الْجَمْع بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَيُحَرِّك وَلَا يَأْبَهُ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : مَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْعَيْن لَمْ يَسْتَقِمْ قَوْله ; لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ الْأَوَّل مِنْهُمَا لَيْسَ بِحَرْفِ مَدّ وَلِين وَإِنَّمَا يَجُوز ذَلِكَ عِنْد النَّحْوِيِّينَ إِذَا كَانَ الْأَوَّل حَرْف مَدّ , إِذْ الْمَدّ يَصِير عِوَضًا مِنْ الْحَرَكَة , وَهَذَا نَحْو دَابَّة وَضَوَالّ وَنَحْوه . وَلَعَلَّ أَبَا عَمْرو أَخْفَى الْحَرَكَة وَاخْتَلَسَهَا كَأَخْذِهِ بِالْإِخْفَاءِ فِي " بَارِئُكُمْ - و - يَأْمُركُمْ " فَظَنَّ السَّامِع الْإِخْفَاء إِسْكَانًا لِلُطْفِ ذَلِكَ فِي السَّمْع وَخَفَائِهِ . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ " نَعِمَا " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْعَيْن فَإِنَّمَا جَاءَ بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلهَا وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ إِنَّهُمْ نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْأَمْر الْمُبِرْ
وَصَفَ اللَّه تَعَالَى نَفْسه بِأَنَّهُ سَمِيع بَصِير يَسْمَع وَيَرَى ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَع وَأَرَى " [ طَه : 46 ] فَهَذَا طَرِيق السَّمْع . وَالْعَقْل يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ; فَإِنَّ اِنْتِفَاء السَّمْع وَالْبَصَر يَدُلّ عَلَى نَقِيضِيهِمَا مِنْ الْعَمَى وَالصَّمَم , إِذْ الْمَحَلّ الْقَابِل لِلضِّدَّيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدهمَا , وَهُوَ تَعَالَى مُقَدَّس عَنْ النَّقَائِص وَيَسْتَحِيل صُدُور الْأَفْعَال الْكَامِلَة مِنْ الْمُتَّصِف , بِالنَّقَائِصِ ; كَخَلْقِ السَّمْع وَالْبَصَر مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ سَمْع وَلَا بَصَر . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ النَّقَائِص وَهُوَ أَيْضًا دَلِيل سَمْعِيّ يُكْتَفَى بِهِ مَعَ نَصّ الْقُرْآن فِي مُنَاظَرَة مَنْ تَجْمَعُهُمْ كَلِمَة الْإِسْلَام . جَلَّ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَمَّا يَتَوَهَّمُهُ الْمُتَوَهِّمُونَ وَيَخْتَلِقُهُ الْمُفْتَرُونَ الْكَاذِبُونَ " سُبْحَانَ رَبّك رَبّ الْعِزَّة عَمَّا يَصِفُونَ " [ الصَّافَّات : 180 ] .
قُلْت : وَهَذَا إِجْمَاع . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَمَانَات مَرْدُودَة إِلَى أَرْبَابهَا الْأَبْرَار مِنْهُمْ وَالْفُجَّار ; قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَالْأَمَانَة مَصْدَر بِمَعْنَى الْمَفْعُول فَلِذَلِكَ جُمِعَ . وَوَجْه النَّظْم بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ كِتْمَان أَهْل الْكِتَاب صِفَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَوْلهمْ : إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى سَبِيلًا , فَكَانَ ذَلِكَ خِيَانَة مِنْهُمْ فَانْجَرَّ الْكَلَام إِلَى ذِكْر جَمِيع الْأَمَانَات ; فَالْآيَة شَامِلَة بِنَظْمِهَا لِكُلِّ أَمَانَة وَهِيَ أَعْدَاد كَثِيرَة كَمَا ذَكَرْنَا . وَأُمَّهَاتهَا فِي الْأَحْكَام : الْوَدِيعَة وَاللُّقَطَة وَالرَّهْن وَالْعَارِيَة . وَرَوَى أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( أَدِّ الْأَمَانَة إِلَى مَنْ اِئْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك ) . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَرَوَاهُ أَنَس وَأَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " مَعْنَاهُ . وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي خُطْبَته عَام حَجَّة الْوَدَاع : ( الْعَارِيَة مُؤَدَّاة وَالْمِنْحَة مَرْدُودَة وَالدَّيْن مَقْضِيّ وَالزَّعِيم غَارِم ) . صَحِيح أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره . وَزَادَ الدَّارَقُطْنِيّ : فَقَالَ رَجُل : فَعَهْدُ اللَّه ؟ قَالَ : ( عَهْد اللَّه أَحَقّ مَا أُدِّيَ ) . وَقَالَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَة وَالْحَدِيث فِي رَدّ الْوَدِيعَة وَأَنَّهَا مَضْمُونَة عَلَى كُلّ حَال كَانَتْ مِمَّا يُغَاب عَلَيْهَا أَوْ لَا يُغَاب تَعَدَّى فِيهَا أَوْ لَمْ يَتَعَدَّ - عَطَاء وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَشْهَب . وَرُوِيَ أَنَّ اِبْن عَبَّاس وَأَبَا هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ضَمَّنَا الْوَدِيعَة . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ مَنْ اِسْتَعَارَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْره مِمَّا لَا يُغَاب عَلَيْهِ فَتَلِفَ عِنْده فَهُوَ مُصَدَّق فِي تَلَفِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي . وَهَذَا قَوْل الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ , وَهُوَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ وَالْأَوْزَاعِيّ قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْل عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْعَارِيَة مُؤَدَّاة ) هُوَ كَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلهَا " . فَإِذَا تَلِفَتْ الْأَمَانَة لَمْ يَلْزَم الْمُؤْتَمَنَ غُرْمُهَا لِأَنَّهُ مُصَدَّق فَكَذَلِكَ الْعَارِيَة إِذَا تَلِفَتْ مِنْ غَيْر تَعَدٍّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذهَا عَلَى الضَّمَان , فَإِذَا تَلِفَتْ بِتَعَدِّيهِ عَلَيْهَا لَزِمَهُ قِيمَتهَا لِجِنَايَتِهِ عَلَيْهَا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَعُمَر وَابْن مَسْعُود أَنَّهُ لَا ضَمَان فِي الْعَارِيَة . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب , عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا ضَمَان عَلَى مُؤْتَمَن ) . وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ فِيمَا اِسْتَدَلَّ بِهِ بِقَوْلِ صَفْوَان لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اِسْتَعَارَ مِنْهُ الْأَدْرَاع : أَعَارِيَةٌ مَضْمُونَة أَوْ عَارِيَة مُؤَدَّاة ؟ فَقَالَ : ( بَلْ عَارِيَة مُؤَدَّاة ) .
قَالَ الضَّحَّاك : بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى مَنْ أَنْكَرَ . وَهَذَا خِطَاب لِلْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاء وَالْحُكَّام , وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ بِالْمَعْنَى جَمِيع الْخَلْق كَمَا ذَكَرْنَا فِي أَدَاء الْأَمَانَات . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْمُقْسِطِينَ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى مَنَابِر مِنْ نُور عَنْ يَمِين الرَّحْمَن وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمهمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ) . وَقَالَ : ( كُلّكُمْ رَاعٍ وَكُلّكُمْ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّته فَالْإِمَام رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّته وَالرَّجُل رَاعٍ عَلَى أَهْله وَهُوَ مَسْئُول عَنْهُمْ وَالْمَرْأَة رَاعِيَة عَلَى بَيْت زَوْجهَا وَهِيَ مَسْئُولَة عَنْهُ وَالْعَبْد رَاعٍ عَلَى مَال سَيِّده وَهُوَ مَسْئُول عَنْهُ أَلَا فَكُلّكُمْ رَاعٍ وَكُلّكُمْ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّته ) . فَجَعَلَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كُلّ هَؤُلَاءِ رُعَاة : وَحُكَّامًا عَلَى مَرَاتِبهمْ , وَكَذَلِكَ الْعَالِم الْحَاكِم ; لِأَنَّهُ إِذَا أَفْتَى حَكَمَ وَقَضَى وَفَصَلَ بَيْنَ الْحَلَال وَالْحَرَام , وَالْفَرْض وَالنَّدْب , وَالصِّحَّة وَالْفَسَاد , فَجَمِيع ذَلِكَ أَمَانَة تُؤَدَّى وَحُكْم يُقْضَى .
الْقُرَّاء فِي قَوْل " فَنِعِمَّا هِيَ " فَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَنَافِع فِي رِوَايَة وَرْش وَعَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص وَابْن كَثِير " فَنِعِمَّا هِيَ " بِكَسْرِ النُّون وَالْعَيْن . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو أَيْضًا وَنَافِع فِي غَيْر رِوَايَة وَرْش وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَالْمُفَضَّل " فَنِعْمَا " بِكَسْرِ النُّون وَسُكُون الْعَيْن . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَابْن عَامِر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " فَنَعِمَّا " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْعَيْن , وَكُلّهمْ سَكَّنَ الْمِيم . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن فَنِعْمَ مَا هِيَ . قَالَ النَّحَّاس : وَلَكِنَّهُ فِي السَّوَاد مُتَّصِل فَلَزِمَ الْإِدْغَام . وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ فِي " نِعْمَ " أَرْبَع لُغَات : نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ , هَذَا الْأَصْل . وَنِعِمَ الرَّجُل , بِكَسْرِ النُّون لِكَسْرِ الْعَيْن . وَنَعْمَ الرَّجُل , بِفَتْحِ النُّون وَسُكُون الْعَيْن , وَالْأَصْل نَعِمَ حُذِفَتْ الْكَسْرَة لِأَنَّهَا ثَقِيلَة . وَنِعْمَ الرَّجُل , وَهَذَا أَفْضَل اللُّغَات , وَالْأَصْل فِيهَا نَعِمَ . وَهِيَ تَقَع فِي كُلّ مَدْح , فَخُفِّفَتْ وَقُلِبَتْ كَسْرَة الْعَيْن عَلَى النُّون وَأُسْكِنَتْ الْعَيْن , فَمَنْ قَرَأَ " فَنِعِمَّا هِيَ " فَلَهُ تَقْدِيرَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون جَاءَ بِهِ عَلَى لُغَة مَنْ يَقُول نِعِمَ . وَالتَّقْدِير الْآخَر أَنْ يَكُون عَلَى , اللُّغَة الْجَيِّدَة , فَيَكُون الْأَصْل نِعْمَ , ثُمَّ كُسِرَتْ الْعَيْن لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . قَالَ النَّحَّاس : فَأَمَّا الَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو وَنَافِع مِنْ إِسْكَان الْعَيْن فَمُحَال . حُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّهُ قَالَ : أَمَّا إِسْكَان الْعَيْن وَالْمِيم مُشَدَّدَة فَلَا يَقْدِر أَحَد أَنْ يَنْطِق بِهِ , وَإِنَّمَا يَرُوم الْجَمْع بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَيُحَرِّك وَلَا يَأْبَهُ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : مَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْعَيْن لَمْ يَسْتَقِمْ قَوْله ; لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ الْأَوَّل مِنْهُمَا لَيْسَ بِحَرْفِ مَدّ وَلِين وَإِنَّمَا يَجُوز ذَلِكَ عِنْد النَّحْوِيِّينَ إِذَا كَانَ الْأَوَّل حَرْف مَدّ , إِذْ الْمَدّ يَصِير عِوَضًا مِنْ الْحَرَكَة , وَهَذَا نَحْو دَابَّة وَضَوَالّ وَنَحْوه . وَلَعَلَّ أَبَا عَمْرو أَخْفَى الْحَرَكَة وَاخْتَلَسَهَا كَأَخْذِهِ بِالْإِخْفَاءِ فِي " بَارِئُكُمْ - و - يَأْمُركُمْ " فَظَنَّ السَّامِع الْإِخْفَاء إِسْكَانًا لِلُطْفِ ذَلِكَ فِي السَّمْع وَخَفَائِهِ . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ " نَعِمَا " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْعَيْن فَإِنَّمَا جَاءَ بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلهَا وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ إِنَّهُمْ نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْأَمْر الْمُبِرْ
وَصَفَ اللَّه تَعَالَى نَفْسه بِأَنَّهُ سَمِيع بَصِير يَسْمَع وَيَرَى ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَع وَأَرَى " [ طَه : 46 ] فَهَذَا طَرِيق السَّمْع . وَالْعَقْل يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ; فَإِنَّ اِنْتِفَاء السَّمْع وَالْبَصَر يَدُلّ عَلَى نَقِيضِيهِمَا مِنْ الْعَمَى وَالصَّمَم , إِذْ الْمَحَلّ الْقَابِل لِلضِّدَّيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدهمَا , وَهُوَ تَعَالَى مُقَدَّس عَنْ النَّقَائِص وَيَسْتَحِيل صُدُور الْأَفْعَال الْكَامِلَة مِنْ الْمُتَّصِف , بِالنَّقَائِصِ ; كَخَلْقِ السَّمْع وَالْبَصَر مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ سَمْع وَلَا بَصَر . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ النَّقَائِص وَهُوَ أَيْضًا دَلِيل سَمْعِيّ يُكْتَفَى بِهِ مَعَ نَصّ الْقُرْآن فِي مُنَاظَرَة مَنْ تَجْمَعُهُمْ كَلِمَة الْإِسْلَام . جَلَّ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَمَّا يَتَوَهَّمُهُ الْمُتَوَهِّمُونَ وَيَخْتَلِقُهُ الْمُفْتَرُونَ الْكَاذِبُونَ " سُبْحَانَ رَبّك رَبّ الْعِزَّة عَمَّا يَصِفُونَ " [ الصَّافَّات : 180 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ↓
لَمَّا تَقَدَّمَ إِلَى الْوُلَاة فِي الْآيَة الْمُتَقَدِّمَة وَبَدَأَ بِهِمْ فَأَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ الْأَمَانَات وَأَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاس بِالْعَدْلِ , تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَة إِلَى الرَّعِيَّة فَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ جَلَّ وَعَزَّ أَوَّلًا , وَهِيَ اِمْتِثَال أَوَامِره وَاجْتِنَاب نَوَاهِيه , ثُمَّ بِطَاعَةِ رَسُوله ثَانِيًا فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ , ثُمَّ بِطَاعَةِ الْأُمَرَاء ثَالِثًا ; عَلَى قَوْل الْجُمْهُور وَأَبِي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمْ . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ : أَطِيعُوا السُّلْطَان فِي سَبْعَة : ضَرْب الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير , وَالْمَكَايِيل وَالْأَوْزَان , وَالْأَحْكَام وَالْحَجّ وَالْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ وَالْجِهَاد . قَالَ سَهْل : وَإِذَا نَهَى السُّلْطَانُ الْعَالِمَ أَنْ يُفْتِيَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ , فَإِنْ أَفْتَى فَهُوَ عَاصٍ وَإِنْ كَانَ أَمِيرًا جَائِرًا . وَقَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَأَمَّا طَاعَة السُّلْطَان فَتَجِب فِيمَا كَانَ لَهُ فِيهِ طَاعَة , وَلَا تَجِب فِيمَا كَانَ لِلَّهِ فِيهِ مَعْصِيَة ; وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّ وُلَاة زَمَانِنَا لَا تَجُوز طَاعَتهمْ وَلَا مُعَاوَنَتهمْ وَلَا تَعْظِيمهمْ , وَيَجِب الْغَزْو مَعَهُمْ مَتَى غَزَوْا , وَالْحُكْم مِنْ قَوْلهمْ , وَتَوْلِيَة الْإِمَامَة وَالْحِسْبَة ; وَإِقَامَة ذَلِكَ عَلَى وَجْه الشَّرِيعَة . وَإِنْ صَلَّوْا بِنَا وَكَانُوا فَسَقَة مِنْ جِهَة الْمَعَاصِي جَازَتْ الصَّلَاة مَعَهُمْ , وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعَةً لَمْ تَجُزْ الصَّلَاة مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يُخَافُوا فَيُصَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّةً وَتُعَاد الصَّلَاة .
قُلْت : رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : حَقّ عَلَى الْإِمَام أَنْ يَحْكُم بِالْعَدْلِ , وَيُؤَدِّيَ الْأَمَانَة ; فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُطِيعُوهُ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَنَا بِأَدَاءِ الْأَمَانَة وَالْعَدْل , ثُمَّ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ . وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَمُجَاهِد : " أُولُو الْأَمْر " أَهْل الْقُرْآن وَالْعِلْم ; وَهُوَ اِخْتِيَار مَالِك رَحِمَهُ اللَّه , وَنَحْوه قَوْل الضَّحَّاك قَالَ : يَعْنِي الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء فِي الدِّين . وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُمْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة . وَحَكَى عَنْ عِكْرِمَة أَنَّهَا إِشَارَة إِلَى أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا خَاصَّة . وَرَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ الْحَكَم بْن أَبَانَ أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمَة عَنْ أُمَّهَات الْأَوْلَاد فَقَالَ : هُنَّ حَرَائِر . فَقُلْت بِأَيِّ شَيْء ؟ قَالَ بِالْقُرْآنِ . قُلْت : بِأَيِّ شَيْء فِي الْقُرْآن ؟ قَالَ : قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْر مِنْكُمْ " وَكَانَ عُمَر مِنْ أُولِي الْأَمْر ; قَالَ : عَتَقَتْ وَلَوْ بِسِقْطٍ . وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي سُورَة " الْحَشْر " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " [ الْحَشْر : 7 ] . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : هُمْ أُولُو الْعَقْل , الرَّأْي الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ أَمْر النَّاس .
قُلْت : وَأَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال الْأَوَّل وَالثَّانِي ; أَمَّا الْأَوَّل فَلِأَنَّ أَصْل الْأَمْر مِنْهُمْ وَالْحُكْم إِلَيْهِمْ . وَرَوَى الصَّحِيحَانِ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْر مِنْكُمْ " فِي عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة بْن قَيْس بْن عَدِيّ السَّهْمِيّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّة . قَالَ أَبُو عُمَر : وَكَانَ فِي عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة دُعَابَة مَعْرُوفَة ; وَمِنْ دُعَابَته أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّة فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا حَطَبًا وَيُوقِدُوا نَارًا ; فَلَمَّا أَوْقَدُوهَا أَمَرَهُمْ بِالتَّقَحُّمِ فِيهَا , فَقَالَ لَهُمْ : أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاعَتِي ؟ ! وَقَالَ : ( مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي ) . فَقَالُوا : مَا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاتَّبَعْنَا رَسُوله إِلَّا لِنَنْجُوَ مِنْ النَّار ! فَصَوَّبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَهُمْ وَقَالَ : ( لَا طَاعَة لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَة الْخَالِق قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ " [ النِّسَاء : 29 ] ) . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيح الْإِسْنَاد مَشْهُور . وَرَوَى مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن عَلْقَمَة عَنْ عُمَر بْن الْحَكَم بْن ثَوْبَان أَنَّ أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : كَانَ عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة بْن قَيْس السَّهْمِيّ مِنْ أَصْحَاب بَدْر وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَة . وَذَكَرَ الزُّبَيْر قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد الْجَبَّار بْن سَعِيد عَنْ عَبْد اللَّه بْن وَهْب عَنْ اللَّيْث بْن سَعْد قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّهُ حَلَّ حِزَام رَاحِلَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض أَسْفَاره , حَتَّى كَادَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَع . قَالَ اِبْن وَهْب : فَقُلْت لِلَّيْثِ لِيُضْحِكَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ كَانَتْ فِيهِ دُعَابَة . قَالَ مَيْمُون بْن مِهْرَان وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : " أُولُوا الْأَمْر " أَصْحَاب السَّرَايَا . وَأَمَّا الْقَوْل الثَّانِي فَيَدُلّ عَلَى صِحَّته قَوْله تَعَالَى " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه وَالرَّسُول " . فَأَمَرَ تَعَالَى بِرَدِّ الْمُتَنَازَع فِيهِ إِلَى كِتَاب اللَّه وَسُنَّة نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْعُلَمَاء مَعْرِفَة كَيْفِيَّة الرَّدّ إِلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة ; وَيَدُلّ هَذَا عَلَى صِحَّة كَوْن سُؤَال الْعُلَمَاء وَاجِبًا , وَامْتِثَال فَتْوَاهُمْ لَازِمًا . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه رَحِمَهُ اللَّه : لَا يَزَال النَّاس بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا السُّلْطَان وَالْعُلَمَاء ; فَإِذَا عَظَّمُوا هَذَيْنِ أَصْلَحَ اللَّه دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ , وَإِذَا اِسْتَخَفُّوا بِهَذَيْنِ أُفْسِدَ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ . وَأَمَّا الْقَوْل الثَّالِث فَخَاصّ , وَأَخَصّ مِنْهُ الْقَوْل الرَّابِع . وَأَمَّا الْخَامِس فَيَأْبَاهُ ظَاهِر اللَّفْظ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا , فَإِنَّ الْعَقْل لِكُلِّ فَضِيلَة أُسّ , وَلِكُلِّ أَدَب يَنْبُوع , وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه لِلدِّينِ أَصْلًا وَلِلدُّنْيَا عِمَادًا , فَأَوْجَبَ اللَّه التَّكْلِيف بِكَمَالِهِ , وَجَعَلَ الدُّنْيَا مُدَبَّرَة بِأَحْكَامِهِ ; وَالْعَاقِل أَقْرَب إِلَى رَبّه تَعَالَى مِنْ جَمِيع الْمُجْتَهِدِينَ بِغَيْرِ عَقْل وَرَوَى هَذَا الْمَعْنَى عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَزَعَمَ قَوْم أَنَّ الْمُرَاد بِأُولِي الْأَمْر عَلِيّ وَالْأَئِمَّة الْمَعْصُومُونَ . وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ لِقَوْلِهِ : " فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه وَالرَّسُول " مَعْنًى , بَلْ كَانَ يَقُول فَرُدُّوهُ إِلَى الْإِمَام وَأُولِي الْأَمْر , فَإِنَّ قَوْله عِنْد هَؤُلَاءِ هُوَ الْمُحْكَم عَلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَهَذَا قَوْل مَهْجُور مُخَالِف لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور . وَحَقِيقَة الطَّاعَة اِمْتِثَال الْأَمْر , كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَة ضِدّهَا وَهِيَ مُخَالَفَة الْأَمْر . وَالطَّاعَة مَأْخُوذَة مِنْ أَطَاعَ إِذَا اِنْقَادَ , وَالْمَعْصِيَة مَأْخُوذَة مِنْ عَصَى إِذَا اِشْتَدَّ . و " أُولُو " وَاحِدهمْ " ذُو " عَلَى غَيْر قِيَاس كَالنِّسَاءِ وَالْإِبِل وَالْخَيْل , كُلّ وَاحِد اِسْم الْجَمْع وَلَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه . وَقَدْ قِيلَ فِي وَاحِد الْخَيْل : خَائِل وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ تَجَادَلْتُمْ وَاخْتَلَفْتُمْ ; فَكَأَنَّ كُلّ وَاحِد يَنْتَزِع حُجَّة الْآخَر وَيُذْهِبهَا . وَالنَّزْع الْجَذْب . وَالْمُنَازَعَة مُجَاذَبَة الْحُجَج ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( وَأَنَا أَقُول مَا لِي يُنَازِعُنِي الْقُرْآن ) . وَقَالَ الْأَعْشَى : نَازَعْتهمْ قُضُبَ الرَّيْحَان مُتَّكِئًا وَقَهْوَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ الْخَضِل النَّبَات النَّاعِم وَالْخَضِيلَة الرَّوْضَة
أَيْ مِنْ أَمْر دِينكُمْ .
أَيْ رَدُّوا ذَلِكَ الْحُكْم إِلَى كِتَاب اللَّه أَوْ إِلَى رَسُوله بِالسُّؤَالِ فِي حَيَاته , أَوْ بِالنَّظَرِ فِي سُنَّته بَعْد وَفَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; هَذَا قَوْل مُجَاهِد وَالْأَعْمَش وَقَتَادَة , وَهُوَ الصَّحِيح . وَمِنْ لَمْ يَرَ هَذَا اِخْتَلَّ إِيمَانه ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " . وَقِيلَ : الْمَعْنَى قُولُوا اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم ; فَهَذَا هُوَ الرَّدّ . وَهَذَا كَمَا قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الرُّجُوع إِلَى الْحَقّ خَيْر مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ ; لِقَوْلِ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي كِتَاب اللَّه وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَة , أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُل مُسْلِم . وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل لَبَطَلَ الِاجْتِهَاد الَّذِي خَصَّ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة وَالِاسْتِنْبَاط الَّذِي أُعْطِيَهَا , وَلَكِنْ تُضْرَب الْأَمْثَال وَيَطْلُب الْمِثَال حَتَّى يَخْرُج الصَّوَاب . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أُولِي الْأَمْر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ " [ النِّسَاء : 83 ] . نَعَمْ , مَا كَانَ مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِعِلْمِهِ وَلَمْ يُطْلِع عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ فَذَلِكَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ : اللَّه أَعْلَم . وَقَدْ اِسْتَنْبَطَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مُدَّة أَقَلّ الْحَمْل - وَهُوَ سِتَّة أَشْهُر - مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا " [ الْأَحْقَاف : 15 ] وَقَوْله تَعَالَى : " وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ " [ الْبَقَرَة : 233 ] فَإِذَا فَصَلْنَا الْحَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ سِتَّة أَشْهُر ; وَمِثْله كَثِير . وَفِي قَوْله تَعَالَى : " وَإِلَى الرَّسُول " دَلِيل عَلَى أَنَّ سُنَّتَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْمَل بِهَا وَيُمْتَثَل مَا فِيهَا . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلهمْ وَاخْتِلَافهمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي رَافِع عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَته يَأْتِيه الْأَمْر مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ فَيَقُول لَا نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَاب اللَّه اِتَّبَعْنَاهُ ) . وَعَنْ الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة أَنَّهُ حَضَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُب النَّاس وَهُوَ يَقُول : ( أَيَحْسَبُ أَحَدكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَته قَدْ يَظُنّ أَنَّ اللَّه لَمْ يُحَرِّم شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآن أَلَا وَإِنِّي وَاَللَّه قَدْ أَمَرْت وَوَعَظْت وَنَهَيْت عَنْ أَشْيَاء إِنَّهَا لَمِثْل الْقُرْآن أَوْ أَكْثَر ) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَالْقَاطِع قَوْله تَعَالَى : " فَلْيَحَذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْره أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَة " [ النُّور : 63 ] الْآيَة . وَسَيَأْتِي .
أَيْ رَدُّكُمْ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ إِلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة خَيْر مِنْ التَّنَازُع .
أَيْ مَرْجِعًا ; مِنْ آلَ يَئُولُ إِلَى كَذَا أَيْ صَارَ . وَقِيلَ : مِنْ أُلْتُ الشَّيْء إِذَا جَمَعْته وَأَصْلَحْته . فَالتَّأْوِيل جَمْعُ مَعَانِي أَلْفَاظٍ أَشْكَلَتْ بِلَفْظٍ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; يُقَال : أَوَّلَ اللَّه عَلَيْك أَمْرك أَيْ جَمَعَهُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَأَحْسَنُ مِنْ تَأْوِيلكُمْ .
قُلْت : رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : حَقّ عَلَى الْإِمَام أَنْ يَحْكُم بِالْعَدْلِ , وَيُؤَدِّيَ الْأَمَانَة ; فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُطِيعُوهُ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَنَا بِأَدَاءِ الْأَمَانَة وَالْعَدْل , ثُمَّ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ . وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَمُجَاهِد : " أُولُو الْأَمْر " أَهْل الْقُرْآن وَالْعِلْم ; وَهُوَ اِخْتِيَار مَالِك رَحِمَهُ اللَّه , وَنَحْوه قَوْل الضَّحَّاك قَالَ : يَعْنِي الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء فِي الدِّين . وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُمْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة . وَحَكَى عَنْ عِكْرِمَة أَنَّهَا إِشَارَة إِلَى أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا خَاصَّة . وَرَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ الْحَكَم بْن أَبَانَ أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمَة عَنْ أُمَّهَات الْأَوْلَاد فَقَالَ : هُنَّ حَرَائِر . فَقُلْت بِأَيِّ شَيْء ؟ قَالَ بِالْقُرْآنِ . قُلْت : بِأَيِّ شَيْء فِي الْقُرْآن ؟ قَالَ : قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْر مِنْكُمْ " وَكَانَ عُمَر مِنْ أُولِي الْأَمْر ; قَالَ : عَتَقَتْ وَلَوْ بِسِقْطٍ . وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي سُورَة " الْحَشْر " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " [ الْحَشْر : 7 ] . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : هُمْ أُولُو الْعَقْل , الرَّأْي الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ أَمْر النَّاس .
قُلْت : وَأَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال الْأَوَّل وَالثَّانِي ; أَمَّا الْأَوَّل فَلِأَنَّ أَصْل الْأَمْر مِنْهُمْ وَالْحُكْم إِلَيْهِمْ . وَرَوَى الصَّحِيحَانِ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْر مِنْكُمْ " فِي عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة بْن قَيْس بْن عَدِيّ السَّهْمِيّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّة . قَالَ أَبُو عُمَر : وَكَانَ فِي عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة دُعَابَة مَعْرُوفَة ; وَمِنْ دُعَابَته أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّة فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا حَطَبًا وَيُوقِدُوا نَارًا ; فَلَمَّا أَوْقَدُوهَا أَمَرَهُمْ بِالتَّقَحُّمِ فِيهَا , فَقَالَ لَهُمْ : أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاعَتِي ؟ ! وَقَالَ : ( مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي ) . فَقَالُوا : مَا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاتَّبَعْنَا رَسُوله إِلَّا لِنَنْجُوَ مِنْ النَّار ! فَصَوَّبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَهُمْ وَقَالَ : ( لَا طَاعَة لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَة الْخَالِق قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ " [ النِّسَاء : 29 ] ) . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيح الْإِسْنَاد مَشْهُور . وَرَوَى مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن عَلْقَمَة عَنْ عُمَر بْن الْحَكَم بْن ثَوْبَان أَنَّ أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : كَانَ عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة بْن قَيْس السَّهْمِيّ مِنْ أَصْحَاب بَدْر وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَة . وَذَكَرَ الزُّبَيْر قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد الْجَبَّار بْن سَعِيد عَنْ عَبْد اللَّه بْن وَهْب عَنْ اللَّيْث بْن سَعْد قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّهُ حَلَّ حِزَام رَاحِلَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض أَسْفَاره , حَتَّى كَادَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَع . قَالَ اِبْن وَهْب : فَقُلْت لِلَّيْثِ لِيُضْحِكَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ كَانَتْ فِيهِ دُعَابَة . قَالَ مَيْمُون بْن مِهْرَان وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : " أُولُوا الْأَمْر " أَصْحَاب السَّرَايَا . وَأَمَّا الْقَوْل الثَّانِي فَيَدُلّ عَلَى صِحَّته قَوْله تَعَالَى " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه وَالرَّسُول " . فَأَمَرَ تَعَالَى بِرَدِّ الْمُتَنَازَع فِيهِ إِلَى كِتَاب اللَّه وَسُنَّة نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْعُلَمَاء مَعْرِفَة كَيْفِيَّة الرَّدّ إِلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة ; وَيَدُلّ هَذَا عَلَى صِحَّة كَوْن سُؤَال الْعُلَمَاء وَاجِبًا , وَامْتِثَال فَتْوَاهُمْ لَازِمًا . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه رَحِمَهُ اللَّه : لَا يَزَال النَّاس بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا السُّلْطَان وَالْعُلَمَاء ; فَإِذَا عَظَّمُوا هَذَيْنِ أَصْلَحَ اللَّه دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ , وَإِذَا اِسْتَخَفُّوا بِهَذَيْنِ أُفْسِدَ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ . وَأَمَّا الْقَوْل الثَّالِث فَخَاصّ , وَأَخَصّ مِنْهُ الْقَوْل الرَّابِع . وَأَمَّا الْخَامِس فَيَأْبَاهُ ظَاهِر اللَّفْظ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا , فَإِنَّ الْعَقْل لِكُلِّ فَضِيلَة أُسّ , وَلِكُلِّ أَدَب يَنْبُوع , وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه لِلدِّينِ أَصْلًا وَلِلدُّنْيَا عِمَادًا , فَأَوْجَبَ اللَّه التَّكْلِيف بِكَمَالِهِ , وَجَعَلَ الدُّنْيَا مُدَبَّرَة بِأَحْكَامِهِ ; وَالْعَاقِل أَقْرَب إِلَى رَبّه تَعَالَى مِنْ جَمِيع الْمُجْتَهِدِينَ بِغَيْرِ عَقْل وَرَوَى هَذَا الْمَعْنَى عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَزَعَمَ قَوْم أَنَّ الْمُرَاد بِأُولِي الْأَمْر عَلِيّ وَالْأَئِمَّة الْمَعْصُومُونَ . وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ لِقَوْلِهِ : " فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه وَالرَّسُول " مَعْنًى , بَلْ كَانَ يَقُول فَرُدُّوهُ إِلَى الْإِمَام وَأُولِي الْأَمْر , فَإِنَّ قَوْله عِنْد هَؤُلَاءِ هُوَ الْمُحْكَم عَلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَهَذَا قَوْل مَهْجُور مُخَالِف لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور . وَحَقِيقَة الطَّاعَة اِمْتِثَال الْأَمْر , كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَة ضِدّهَا وَهِيَ مُخَالَفَة الْأَمْر . وَالطَّاعَة مَأْخُوذَة مِنْ أَطَاعَ إِذَا اِنْقَادَ , وَالْمَعْصِيَة مَأْخُوذَة مِنْ عَصَى إِذَا اِشْتَدَّ . و " أُولُو " وَاحِدهمْ " ذُو " عَلَى غَيْر قِيَاس كَالنِّسَاءِ وَالْإِبِل وَالْخَيْل , كُلّ وَاحِد اِسْم الْجَمْع وَلَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه . وَقَدْ قِيلَ فِي وَاحِد الْخَيْل : خَائِل وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ تَجَادَلْتُمْ وَاخْتَلَفْتُمْ ; فَكَأَنَّ كُلّ وَاحِد يَنْتَزِع حُجَّة الْآخَر وَيُذْهِبهَا . وَالنَّزْع الْجَذْب . وَالْمُنَازَعَة مُجَاذَبَة الْحُجَج ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( وَأَنَا أَقُول مَا لِي يُنَازِعُنِي الْقُرْآن ) . وَقَالَ الْأَعْشَى : نَازَعْتهمْ قُضُبَ الرَّيْحَان مُتَّكِئًا وَقَهْوَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ الْخَضِل النَّبَات النَّاعِم وَالْخَضِيلَة الرَّوْضَة
أَيْ مِنْ أَمْر دِينكُمْ .
أَيْ رَدُّوا ذَلِكَ الْحُكْم إِلَى كِتَاب اللَّه أَوْ إِلَى رَسُوله بِالسُّؤَالِ فِي حَيَاته , أَوْ بِالنَّظَرِ فِي سُنَّته بَعْد وَفَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; هَذَا قَوْل مُجَاهِد وَالْأَعْمَش وَقَتَادَة , وَهُوَ الصَّحِيح . وَمِنْ لَمْ يَرَ هَذَا اِخْتَلَّ إِيمَانه ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " . وَقِيلَ : الْمَعْنَى قُولُوا اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم ; فَهَذَا هُوَ الرَّدّ . وَهَذَا كَمَا قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الرُّجُوع إِلَى الْحَقّ خَيْر مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ ; لِقَوْلِ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي كِتَاب اللَّه وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَة , أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُل مُسْلِم . وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل لَبَطَلَ الِاجْتِهَاد الَّذِي خَصَّ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة وَالِاسْتِنْبَاط الَّذِي أُعْطِيَهَا , وَلَكِنْ تُضْرَب الْأَمْثَال وَيَطْلُب الْمِثَال حَتَّى يَخْرُج الصَّوَاب . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أُولِي الْأَمْر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ " [ النِّسَاء : 83 ] . نَعَمْ , مَا كَانَ مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِعِلْمِهِ وَلَمْ يُطْلِع عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ فَذَلِكَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ : اللَّه أَعْلَم . وَقَدْ اِسْتَنْبَطَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مُدَّة أَقَلّ الْحَمْل - وَهُوَ سِتَّة أَشْهُر - مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا " [ الْأَحْقَاف : 15 ] وَقَوْله تَعَالَى : " وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ " [ الْبَقَرَة : 233 ] فَإِذَا فَصَلْنَا الْحَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ سِتَّة أَشْهُر ; وَمِثْله كَثِير . وَفِي قَوْله تَعَالَى : " وَإِلَى الرَّسُول " دَلِيل عَلَى أَنَّ سُنَّتَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْمَل بِهَا وَيُمْتَثَل مَا فِيهَا . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلهمْ وَاخْتِلَافهمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي رَافِع عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَته يَأْتِيه الْأَمْر مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ فَيَقُول لَا نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَاب اللَّه اِتَّبَعْنَاهُ ) . وَعَنْ الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة أَنَّهُ حَضَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُب النَّاس وَهُوَ يَقُول : ( أَيَحْسَبُ أَحَدكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَته قَدْ يَظُنّ أَنَّ اللَّه لَمْ يُحَرِّم شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآن أَلَا وَإِنِّي وَاَللَّه قَدْ أَمَرْت وَوَعَظْت وَنَهَيْت عَنْ أَشْيَاء إِنَّهَا لَمِثْل الْقُرْآن أَوْ أَكْثَر ) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَالْقَاطِع قَوْله تَعَالَى : " فَلْيَحَذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْره أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَة " [ النُّور : 63 ] الْآيَة . وَسَيَأْتِي .
أَيْ رَدُّكُمْ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ إِلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة خَيْر مِنْ التَّنَازُع .
أَيْ مَرْجِعًا ; مِنْ آلَ يَئُولُ إِلَى كَذَا أَيْ صَارَ . وَقِيلَ : مِنْ أُلْتُ الشَّيْء إِذَا جَمَعْته وَأَصْلَحْته . فَالتَّأْوِيل جَمْعُ مَعَانِي أَلْفَاظٍ أَشْكَلَتْ بِلَفْظٍ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; يُقَال : أَوَّلَ اللَّه عَلَيْك أَمْرك أَيْ جَمَعَهُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَأَحْسَنُ مِنْ تَأْوِيلكُمْ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا ↓
رَوَى يَزِيد بْن زُرَيْع عَنْ دَاوُدَ بْن أَبِي هِنْد عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ : كَانَ بَيْنَ رَجُل مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَرَجُل مِنْ الْيَهُود خُصُومَة , فَدَعَا الْيَهُودِيُّ الْمُنَافِقَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَل الرِّشْوَة . وَدَعَا الْمُنَافِقُ الْيَهُودِيَّ إِلَى حُكَّامِهِمْ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الرِّشْوَة فِي أَحْكَامهمْ ; فَلَمَّا اجْتَمَعَا عَلَى أَنْ يُحَكِّمَا كَاهِنًا فِي جُهَيْنَة ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك " يَعْنِي الْمُنَافِق . " وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك " يَعْنِي الْيَهُودِيّ . " يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت " إِلَى قَوْله : " وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " وَقَالَ الضَّحَّاك : دَعَا الْيَهُودِيّ الْمُنَافِق إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَدَعَاهُ الْمُنَافِق إِلَى كَعْب بْن الْأَشْرَف وَهُوَ " الطَّاغُوت " وَرَوَاهُ أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ بَيْنَ رَجُل مِنْ الْمُنَافِقِينَ يُقَال لَهُ بِشْر وَبَيْنَ يَهُودِيّ خُصُومَة ; فَقَالَ الْيَهُودِيّ : اِنْطَلِقْ بِنَا إِلَى مُحَمَّد , وَقَالَ الْمُنَافِق : بَلْ إِلَى كَعْب بْن الْأَشْرَف وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّه " الطَّاغُوت " أَيْ ذُو الطُّغْيَان فَأَبَى الْيَهُودِيّ أَنْ يُخَاصِمَهُ إِلَّا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُنَافِق أَتَى مَعَهُ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِلْيَهُودِيِّ . فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ الْمُنَافِق : لَا أَرْضَى , اِنْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَبِي بَكْر ; فَحَكَمَ لِلْيَهُودِيِّ فَلَمْ يَرْضَ ذَكَرَهُ الزَّجَّاج وَقَالَ : اِنْطَلِقْ بِنَا إِلَى عُمَر فَأَقْبَلَا عَلَى عُمَر فَقَالَ الْيَهُودِيّ : إِنَّا صِرْنَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِلَى أَبِي بَكْر فَلَمْ يَرْضَ ; فَقَالَ عُمَر لِلْمُنَافِقِ : أَكَذَلِكَ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : رُوَيْدَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا . فَدَخَلَ وَأَخَذَ السَّيْف ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الْمُنَافِق حَتَّى بَرَدَ , وَقَالَ : هَكَذَا أَقْضِي عَلَى مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّه وَقَضَاء رَسُوله ; وَهَرَبَ الْيَهُودِيّ , وَنَزَلَتْ الْآيَة , وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْتَ الْفَارُوق ) . وَنَزَلَ جِبْرِيل وَقَالَ : إِنَّ عُمَر فَرَقَ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِل ; فَسُمِّيَ الْفَارُوق . وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَات كُلّهَا إِلَى قَوْله : " وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " [ النِّسَاء : 65 ] وَانْتَصَبَ : " ضَلَالًا " عَلَى الْمَعْنَى , أَيْ فَيَضِلُّونَ ضَلَالًا ; وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " وَاَللَّه أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْض نَبَاتًا " [ نُوح : 17 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى .