وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ↓
" صُدُودًا " اِسْم لِلْمَصْدَرِ عِنْد الْخَلِيل , وَالْمَصْدَر الصَّدّ . وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ : هُمَا مَصْدَرَانِ .
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ↓
أَيْ " فَكَيْفَ " يَكُون حَالهمْ , أَوْ " فَكَيْفَ " يَصْنَعُونَ " إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَة " أَيْ مِنْ تَرْك الِاسْتِعَانَة بِهِمْ , وَمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الذُّلّ فِي قَوْله : " فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا " [ التَّوْبَة : 83 ] . وَقِيلَ : يُرِيد قَتْل صَاحِبِهِمْ " بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ " وَتَمَّ الْكَلَام . ثُمَّ اِبْتَدَأَ يُخْبِر عَنْ فِعْلهمْ ; وَذَلِكَ أَنَّ عُمَر لَمَّا قَتَلَ صَاحِبهمْ جَاءَ قَوْمه يَطْلُبُونَ دِيَته وَيَحْلِفُونَ مَا نُرِيد بِطَلَبِ دِيَته إِلَّا الْإِحْسَان وَمُوَافَقَة الْحَقّ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَا أَرَدْنَا بِالْعُدُولِ عَنْك فِي الْمُحَاكَمَة إِلَّا التَّوْفِيق بَيْنَ الْخُصُوم , وَالْإِحْسَان بِالتَّقْرِيبِ فِي الْحُكْم . اِبْن كَيْسَان : عَدْلًا وَحَقًّا ; نَظِيرهَا " وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى " [ التَّوْبَة : 107 ] .
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ↓
فَقَالَ اللَّه تَعَالَى مُكَذِّبًا لَهُمْ : " أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَم اللَّه مَا فِي قُلُوبهمْ " قَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَاهُ قَدْ عَلِمَ اللَّه أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ . وَالْفَائِدَة لَنَا : اِعْلَمُوا أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ .
قِيلَ : عَنْ عِقَابهمْ . وَقِيلَ : عَنْ قَبُول اعْتِذَارهمْ
أَيْ خَوِّفْهُمْ . قِيلَ فِي الْمَلَا .
أَيْ اُزْجُرْهُمْ بِأَبْلَغ الزَّجْر فِي السِّرّ وَالْخَلَاء . الْحَسَن : قُلْ لَهُمْ إِنْ أَظْهَرْتُمْ مَا فِي قُلُوبكُمْ قَتَلْتُكُمْ . وَقَدْ بَلُغَ الْقَوْلُ بَلَاغَة ; وَرَجُلٌ بَلِيغ يَبْلُغ بِلِسَانِهِ كُنْهَ مَا فِي قَلْبه . وَالْعَرَب تَقُول : أَحْمَقُ بَلْغٌ وَبِلْغٌ , أَيْ نِهَايَة فِي الْحَمَاقَة . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ يَبْلُغ مَا يُرِيد وَإِنْ كَانَ أَحْمَق . وَيُقَال : إِنَّ قَوْله تَعَالَى : " فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَة بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ " نَزَلَ فِي شَأْن الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِد الضِّرَار ; فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّه نِفَاقهمْ , وَأَمَرَهُمْ بِهَدْمِ الْمَسْجِد حَلَفُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسهمْ : مَا أَرَدْنَا بِبِنَاءِ الْمَسْجِد إِلَّا طَاعَة اللَّه وَمُوَافَقَة الْكِتَاب .
قِيلَ : عَنْ عِقَابهمْ . وَقِيلَ : عَنْ قَبُول اعْتِذَارهمْ
أَيْ خَوِّفْهُمْ . قِيلَ فِي الْمَلَا .
أَيْ اُزْجُرْهُمْ بِأَبْلَغ الزَّجْر فِي السِّرّ وَالْخَلَاء . الْحَسَن : قُلْ لَهُمْ إِنْ أَظْهَرْتُمْ مَا فِي قُلُوبكُمْ قَتَلْتُكُمْ . وَقَدْ بَلُغَ الْقَوْلُ بَلَاغَة ; وَرَجُلٌ بَلِيغ يَبْلُغ بِلِسَانِهِ كُنْهَ مَا فِي قَلْبه . وَالْعَرَب تَقُول : أَحْمَقُ بَلْغٌ وَبِلْغٌ , أَيْ نِهَايَة فِي الْحَمَاقَة . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ يَبْلُغ مَا يُرِيد وَإِنْ كَانَ أَحْمَق . وَيُقَال : إِنَّ قَوْله تَعَالَى : " فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَة بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ " نَزَلَ فِي شَأْن الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِد الضِّرَار ; فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّه نِفَاقهمْ , وَأَمَرَهُمْ بِهَدْمِ الْمَسْجِد حَلَفُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسهمْ : مَا أَرَدْنَا بِبِنَاءِ الْمَسْجِد إِلَّا طَاعَة اللَّه وَمُوَافَقَة الْكِتَاب .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ↓
" مِنْ " زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ .
فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ .
" بِعِلْمِ اللَّه . وَقِيلَ : بِتَوْفِيقِ اللَّه .
رَوَى أَبُو صَادِق عَنْ عَلِيّ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا أَعْرَابِيّ بَعْدَمَا دَفَنَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ أَيَّام , فَرَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى قَبْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَثَا عَلَى رَأْسه مِنْ تُرَابه ; فَقَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه فَسَمِعْنَا قَوْلَك , وَوَعَيْت عَنْ اللَّه فَوَعَيْنَا عَنْك , وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ " الْآيَة , وَقَدْ ظَلَمْت نَفْسِي وَجِئْتُك تَسْتَغْفِر لِي . فَنُودِيَ مِنْ الْقَبْر إِنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَك .
أَيْ قَابِلًا لِتَوْبَتِهِمْ , وَهُمَا مَفْعُولَانِ لَا غَيْر .
فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ .
" بِعِلْمِ اللَّه . وَقِيلَ : بِتَوْفِيقِ اللَّه .
رَوَى أَبُو صَادِق عَنْ عَلِيّ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا أَعْرَابِيّ بَعْدَمَا دَفَنَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ أَيَّام , فَرَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى قَبْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَثَا عَلَى رَأْسه مِنْ تُرَابه ; فَقَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه فَسَمِعْنَا قَوْلَك , وَوَعَيْت عَنْ اللَّه فَوَعَيْنَا عَنْك , وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ " الْآيَة , وَقَدْ ظَلَمْت نَفْسِي وَجِئْتُك تَسْتَغْفِر لِي . فَنُودِيَ مِنْ الْقَبْر إِنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَك .
أَيْ قَابِلًا لِتَوْبَتِهِمْ , وَهُمَا مَفْعُولَانِ لَا غَيْر .
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ↓
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : قَالَ مُجَاهِد وَغَيْره : الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْره مِمَّنْ أَرَادَ التَّحَاكُم إِلَى الطَّاغُوت وَفِيهِمْ نَزَلَتْ . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : قَوْله " فَلَا " رَدّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْره ; تَقْدِيره فَلَيْسَ الْأَمْر كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك , ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ الْقَسَم بِقَوْلِهِ : " وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ " . وَقَالَ غَيْره : إِنَّمَا قَدَّمَ " لَا " عَلَى الْقَسَم اِهْتِمَامًا بِالنَّفْيِ وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِ , ثُمَّ كَرَّرَهُ بَعْد الْقَسَم تَأْكِيدًا لِلتَّهَمُّمِ بِالنَّفْيِ , وَكَانَ يَصِحّ إِسْقَاط " لَا " الثَّانِيَة وَيَبْقَى أَكْثَر الِاهْتِمَام بِتَقْدِيمِ الْأُولَى , وَكَانَ يَصِحّ إِسْقَاط الْأُولَى وَيَبْقَى مَعْنَى النَّفْي وَيَذْهَب مَعْنَى الِاهْتِمَام . و " شَجَرَ " مَعْنَاهُ اِخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ ; وَمِنْهُ الشَّجَر لِاخْتِلَافِ أَغْصَانه . وَيُقَال لِعِصِيِّ الْهَوْدَج : شِجَار ; لِتَدَاخُلِ بَعْضهَا فِي بَعْض . قَالَ الشَّاعِر : نَفْسِي فَدَاؤُك وَالرِّمَاحُ شَوَاجِرُ وَالْقَوْمُ ضَنْكٌ لِلِّقَاءِ قِيَامُ وَقَالَ طَرَفَة : وَهُمُ الْحُكَّامُ أَرْبَابُ الْهُدَى وَسُعَاةُ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ الشَّجِرْ وَقَالَتْ طَائِفَة : نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْر مَعَ الْأَنْصَارِيّ , وَكَانَتْ الْخُصُومَة فِي سَقْي بُسْتَان ; فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِلزُّبَيْرِ : ( اِسْقِ أَرْضك ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاء إِلَى أَرْض جَارِك ) . فَقَالَ الْخَصْم : أَرَاك تُحَابِي اِبْن عَمَّتك ; فَتَلَوَّنَ وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ : ( اِسْقِ ثُمَّ اِحْبِسْ الْمَاء حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْر ) وَنَزَلَ : " فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ " . الْحَدِيث ثَابِت صَحِيح رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه عَنْ مُحَمَّد بْن جَعْفَر عَنْ مَعْمَر , وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ قُتَيْبَة كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيّ . وَاخْتَلَفَ أَهْل هَذَا الْقَوْل فِي الرَّجُل الْأَنْصَارِيّ ; فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار مِنْ أَهْل بَدْر . وَقَالَ مَكِّيّ وَالنَّحَّاس : هُوَ حَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَةَ . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ وَالْوَاحِدِيّ وَالْمَهْدَوِيّ : هُوَ حَاطِب . وَقِيلَ : ثَعْلَبَة بْن حَاطِب . وَقِيلَ غَيْره : وَالصَّحِيح الْقَوْل الْأَوَّل ; لِأَنَّهُ غَيْر مُعَيَّن وَلَا مُسَمًّى ; وَكَذَا فِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم أَنَّهُ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار . وَاخْتَارَ الطَّبَرِيّ أَنْ يَكُون نُزُول الْآيَة فِي الْمُنَافِق وَالْيَهُودِيّ . كَمَا قَالَ مُجَاهِد ; ثُمَّ تَتَنَاوَل بِعُمُومِهَا قِصَّة الزُّبَيْر . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح ; فَكُلّ مَنْ اِتَّهَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْم فَهُوَ كَافِر , لَكِنَّ الْأَنْصَارِيّ زَلَّ زَلَّة فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَالَ عَثْرَتَهُ لِعِلْمِهِ بِصِحَّةِ يَقِينه , وَأَنَّهَا كَانَتْ فَلْتَة وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكُلّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الْحَاكِم وَطَعَنَ فِيهِ وَرَدَّهُ فَهِيَ رِدَّة يُسْتَتَاب . أَمَّا إِنْ طَعَنَ فِي الْحَاكِم نَفْسه لَا فِي الْحُكْم فَلَهُ تَعْزِيره وَلَهُ أَنْ يَصْفَح عَنْهُ وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي آخِر سُورَة " الْأَعْرَاف " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الثَّانِيَة : وَإِذَا كَانَ سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيث فَفِقْهُهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام سَلَكَ مَعَ الزُّبَيْر وَخَصْمه مَسْلَك الصُّلْح فَقَالَ : ( اِسْقِ يَا زُبَيْر ) لِقُرْبِهِ مِنْ الْمَاء ( ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاء إِلَى جَارك ) . أَيْ تَسَاهَلْ فِي حَقّك وَلَا تَسْتَوْفِهِ وَعَجِّلْ فِي إِرْسَال الْمَاء إِلَى جَارك . فَحَضَّهُ عَلَى الْمُسَامَحَة وَالتَّيْسِير , فَلَمَّا سَمِعَ الْأَنْصَارِيّ هَذَا لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ وَغَضِبَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيد أَلَّا يُمْسِكَ الْمَاء أَصْلًا , وَعِنْد ذَلِكَ نَطَقَ بِالْكَلِمَةِ الْجَائِرَة الْمُهْلِكَة الْفَاقِرَة فَقَالَ : آنْ كَانَ اِبْن عَمَّتِك ؟ بِمَدِّ هَمْزَة " أَنْ " الْمَفْتُوحَة عَلَى جِهَة الْإِنْكَار ; أَيْ أَتَحْكُمُ لَهُ عَلَيَّ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَرَابَتك ؟ . فَعِنْد ذَلِكَ تَلَوَّنَ وَجْه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا عَلَيْهِ , وَحَكَمَ لِلزُّبَيْرِ بِاسْتِيفَاءِ حَقّه مِنْ غَيْر مُسَامَحَة لَهُ . وَعَلَيْهِ لَا يُقَال : كَيْفَ حَكَمَ فِي حَال غَضَبه وَقَدْ قَالَ : ( لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَان ) ؟ فَإِنَّا نَقُول : لِأَنَّهُ مَعْصُوم مِنْ الْخَطَأ فِي التَّبْلِيغ وَالْأَحْكَام , بِدَلِيلِ الْعَقْل الدَّالّ عَلَى صِدْقه فِيمَا يُبَلِّغهُ عَنْ اللَّه تَعَالَى فَلَيْسَ مِثْل غَيْره مِنْ الْحُكَّام . وَفِي هَذَا الْحَدِيث إِرْشَاد الْحَاكِم إِلَى الْإِصْلَاح بَيْنَ الْخُصُوم وَإِنْ ظَهَرَ الْحَقّ . وَمَنَعَهُ مَالِك , وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَهَذَا الْحَدِيث حُجَّة وَاضِحَة عَلَى الْجَوَاز ; فَإِنْ اِصْطَلَحُوا وَإِلَّا اِسْتَوْفَى لِذِي الْحَقّ حَقّه وَثَبَتَ الْحُكْم .
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب مَالِك فِي صِفَة إِرْسَال الْمَاء الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل ; فَقَالَ اِبْن حَبِيب : يُدْخِل صَاحِب الْأَعْلَى جَمِيع الْمَاء فِي حَائِطه وَيَسْقِي بِهِ , حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْمَاء مِنْ قَاعَة الْحَائِط إِلَى الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْقَائِم فِيهِ أَغْلَقَ مَدْخَلَ الْمَاء , وَصَرَفَ مَا زَادَ مِنْ الْمَاء عَلَى مِقْدَار الْكَعْبَيْنِ إِلَى مَنْ يَلِيهِ , فَيَصْنَع بِهِ مِثْل ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغ السَّيْل إِلَى أَقْصَى الْحَوَائِط . وَهَكَذَا فَسَّرَهُ لِي مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون . وَقَالَهُ اِبْن وَهْب . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِذَا اِنْتَهَى الْمَاء فِي الْحَائِط إِلَى مِقْدَار الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ كُلّه إِلَى مَنْ تَحْتَهُ وَلَا يَحْبِس مِنْهُ شَيْئًا فِي حَائِطه . قَالَ اِبْن حَبِيب : وَقَوْل مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون أَحَبُّ إِلَيَّ وَهُمْ أَعْلَم بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَدِينَة دَارُهُمَا وَبِهَا كَانَتْ الْقَضِيَّة وَفِيهَا جَرَى الْعَمَل .
الرَّابِعَة : رَوَى مَالِك عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَيْل مَهْزُور وَمُذَيْنِب : ( يُمْسِكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَل ) . قَالَ أَبُو عُمَر : " لَا أَعْلَم هَذَا الْحَدِيث يَتَّصِل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْه مِنْ الْوُجُوه , وَأَرْفَعُ أَسَانِيده مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ أَبِي مَالِك بْن ثَعْلَبَة عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ أَهْل مَهْزُور فَقَضَى أَنَّ الْمَاء إِذَا بَلَغَ الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَحْبِس الْأَعْلَى . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ أَبِي حَازِم الْقُرْطُبِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي سَيْل مَهْزُور أَنْ يُحْبَس عَلَى كُلّ حَائِط حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسَل . وَغَيْره مِنْ السُّيُول كَذَلِكَ . وَسُئِلَ أَبُو بَكْر الْبَزَّار عَنْ حَدِيث هَذَا الْبَاب فَقَالَ : لَسْت أَحْفَظ فِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا يَثْبُت . قَالَ أَبُو عُمَر : فِي هَذَا الْمَعْنَى - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا اللَّفْظ حَدِيث ثَابِت مُجْتَمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ . رَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ اللَّيْث بْن سَعْد وَيُونُس بْن يَزِيد جَمِيعًا عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر حَدَّثَهُ عَنْ الزُّبَيْر أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاج الْحَرَّة كَانَا يَسْقِيَانِ بِهَا كِلَاهُمَا النَّخْل ; فَقَالَ الْأَنْصَارِيّ : سَرِّحْ الْمَاءَ ; فَأَبَى عَلَيْهِ , فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَذَكَرَ الْحَدِيث . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَوْله فِي الْحَدِيث : ( يُرْسِل ) وَفِي الْحَدِيث الْآخَر ( إِذَا بَلَغَ الْمَاء الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَحْبِس الْأَعْلَى ) يَشْهَد لِقَوْلِ اِبْن الْقَاسِم . وَمِنْ جِهَة النَّظَر أَنَّ الْأَعْلَى لَوْ لَمْ يُرْسِل إِلَّا مَا زَادَ عَلَى الْكَعْبَيْنِ لَا يَقْطَع ذَلِكَ الْمَاء فِي أَقَلّ مُدَّة , وَلَمْ يَنْتَهِ حَيْثُ يَنْتَهِي إِذَا أَرْسَلَ الْجَمِيع , وَفِي إِرْسَال الْجَمِيع بَعْد أَخْذ الْأَعْلَى مِنْهُ مَا بَلَغَ الْكَعْبَيْنِ أَعَمّ فَائِدَة وَأَكْثَر نَفْعًا فِيمَا قَدْ جَعَلَ النَّاس فِيهِ شُرَكَاء ; فَقَوْل اِبْن الْقَاسِم أَوْلَى عَلَى كُلّ حَال . هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْله مِلْكًا لِلْأَسْفَلِ مُخْتَصًّا بِهِ , فَإِنَّ مَا اِسْتَحَقَّ بِعَمَلٍ أَوْ بِمِلْكٍ صَحِيح أَوْ اِسْتِحْقَاق قَدِيم وَثُبُوت مِلْكٍ فَكُلّ عَلَى حَقّه عَلَى حَسَب مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بِيَدِهِ وَعَلَى أَصْل مَسْأَلَته . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
أَيْ ضِيقًا وَشَكًّا ; وَمِنْهُ قِيلَ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفّ : حَرَج وَحَرَجَة , وَجَمْعهَا حِرَاج . وَقَالَ الضَّحَّاك : أَيْ إِثْمًا بِإِنْكَارِهِمْ مَا قَضَيْت .
أَيْ يَنْقَادُوا لِأَمْرِك فِي الْقَضَاء . وَقَالَ الزَّجَّاج : " تَسْلِيمًا " مَصْدَر مُؤَكَّد ; فَإِذَا قُلْت : ضَرَبْت ضَرْبًا فَكَأَنَّك قُلْت لَا أَشُكّ فِيهِ ; وَكَذَلِكَ " وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " أَيْ وَيُسَلِّمُوا لِحُكْمِك تَسْلِيمًا لَا يُدْخِلُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ شَكًّا .
الثَّانِيَة : وَإِذَا كَانَ سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيث فَفِقْهُهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام سَلَكَ مَعَ الزُّبَيْر وَخَصْمه مَسْلَك الصُّلْح فَقَالَ : ( اِسْقِ يَا زُبَيْر ) لِقُرْبِهِ مِنْ الْمَاء ( ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاء إِلَى جَارك ) . أَيْ تَسَاهَلْ فِي حَقّك وَلَا تَسْتَوْفِهِ وَعَجِّلْ فِي إِرْسَال الْمَاء إِلَى جَارك . فَحَضَّهُ عَلَى الْمُسَامَحَة وَالتَّيْسِير , فَلَمَّا سَمِعَ الْأَنْصَارِيّ هَذَا لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ وَغَضِبَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيد أَلَّا يُمْسِكَ الْمَاء أَصْلًا , وَعِنْد ذَلِكَ نَطَقَ بِالْكَلِمَةِ الْجَائِرَة الْمُهْلِكَة الْفَاقِرَة فَقَالَ : آنْ كَانَ اِبْن عَمَّتِك ؟ بِمَدِّ هَمْزَة " أَنْ " الْمَفْتُوحَة عَلَى جِهَة الْإِنْكَار ; أَيْ أَتَحْكُمُ لَهُ عَلَيَّ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَرَابَتك ؟ . فَعِنْد ذَلِكَ تَلَوَّنَ وَجْه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا عَلَيْهِ , وَحَكَمَ لِلزُّبَيْرِ بِاسْتِيفَاءِ حَقّه مِنْ غَيْر مُسَامَحَة لَهُ . وَعَلَيْهِ لَا يُقَال : كَيْفَ حَكَمَ فِي حَال غَضَبه وَقَدْ قَالَ : ( لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَان ) ؟ فَإِنَّا نَقُول : لِأَنَّهُ مَعْصُوم مِنْ الْخَطَأ فِي التَّبْلِيغ وَالْأَحْكَام , بِدَلِيلِ الْعَقْل الدَّالّ عَلَى صِدْقه فِيمَا يُبَلِّغهُ عَنْ اللَّه تَعَالَى فَلَيْسَ مِثْل غَيْره مِنْ الْحُكَّام . وَفِي هَذَا الْحَدِيث إِرْشَاد الْحَاكِم إِلَى الْإِصْلَاح بَيْنَ الْخُصُوم وَإِنْ ظَهَرَ الْحَقّ . وَمَنَعَهُ مَالِك , وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَهَذَا الْحَدِيث حُجَّة وَاضِحَة عَلَى الْجَوَاز ; فَإِنْ اِصْطَلَحُوا وَإِلَّا اِسْتَوْفَى لِذِي الْحَقّ حَقّه وَثَبَتَ الْحُكْم .
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب مَالِك فِي صِفَة إِرْسَال الْمَاء الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل ; فَقَالَ اِبْن حَبِيب : يُدْخِل صَاحِب الْأَعْلَى جَمِيع الْمَاء فِي حَائِطه وَيَسْقِي بِهِ , حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْمَاء مِنْ قَاعَة الْحَائِط إِلَى الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْقَائِم فِيهِ أَغْلَقَ مَدْخَلَ الْمَاء , وَصَرَفَ مَا زَادَ مِنْ الْمَاء عَلَى مِقْدَار الْكَعْبَيْنِ إِلَى مَنْ يَلِيهِ , فَيَصْنَع بِهِ مِثْل ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغ السَّيْل إِلَى أَقْصَى الْحَوَائِط . وَهَكَذَا فَسَّرَهُ لِي مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون . وَقَالَهُ اِبْن وَهْب . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِذَا اِنْتَهَى الْمَاء فِي الْحَائِط إِلَى مِقْدَار الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ كُلّه إِلَى مَنْ تَحْتَهُ وَلَا يَحْبِس مِنْهُ شَيْئًا فِي حَائِطه . قَالَ اِبْن حَبِيب : وَقَوْل مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون أَحَبُّ إِلَيَّ وَهُمْ أَعْلَم بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَدِينَة دَارُهُمَا وَبِهَا كَانَتْ الْقَضِيَّة وَفِيهَا جَرَى الْعَمَل .
الرَّابِعَة : رَوَى مَالِك عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَيْل مَهْزُور وَمُذَيْنِب : ( يُمْسِكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَل ) . قَالَ أَبُو عُمَر : " لَا أَعْلَم هَذَا الْحَدِيث يَتَّصِل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْه مِنْ الْوُجُوه , وَأَرْفَعُ أَسَانِيده مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ أَبِي مَالِك بْن ثَعْلَبَة عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ أَهْل مَهْزُور فَقَضَى أَنَّ الْمَاء إِذَا بَلَغَ الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَحْبِس الْأَعْلَى . وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ أَبِي حَازِم الْقُرْطُبِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي سَيْل مَهْزُور أَنْ يُحْبَس عَلَى كُلّ حَائِط حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسَل . وَغَيْره مِنْ السُّيُول كَذَلِكَ . وَسُئِلَ أَبُو بَكْر الْبَزَّار عَنْ حَدِيث هَذَا الْبَاب فَقَالَ : لَسْت أَحْفَظ فِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا يَثْبُت . قَالَ أَبُو عُمَر : فِي هَذَا الْمَعْنَى - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا اللَّفْظ حَدِيث ثَابِت مُجْتَمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ . رَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ اللَّيْث بْن سَعْد وَيُونُس بْن يَزِيد جَمِيعًا عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر حَدَّثَهُ عَنْ الزُّبَيْر أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاج الْحَرَّة كَانَا يَسْقِيَانِ بِهَا كِلَاهُمَا النَّخْل ; فَقَالَ الْأَنْصَارِيّ : سَرِّحْ الْمَاءَ ; فَأَبَى عَلَيْهِ , فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَذَكَرَ الْحَدِيث . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَوْله فِي الْحَدِيث : ( يُرْسِل ) وَفِي الْحَدِيث الْآخَر ( إِذَا بَلَغَ الْمَاء الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَحْبِس الْأَعْلَى ) يَشْهَد لِقَوْلِ اِبْن الْقَاسِم . وَمِنْ جِهَة النَّظَر أَنَّ الْأَعْلَى لَوْ لَمْ يُرْسِل إِلَّا مَا زَادَ عَلَى الْكَعْبَيْنِ لَا يَقْطَع ذَلِكَ الْمَاء فِي أَقَلّ مُدَّة , وَلَمْ يَنْتَهِ حَيْثُ يَنْتَهِي إِذَا أَرْسَلَ الْجَمِيع , وَفِي إِرْسَال الْجَمِيع بَعْد أَخْذ الْأَعْلَى مِنْهُ مَا بَلَغَ الْكَعْبَيْنِ أَعَمّ فَائِدَة وَأَكْثَر نَفْعًا فِيمَا قَدْ جَعَلَ النَّاس فِيهِ شُرَكَاء ; فَقَوْل اِبْن الْقَاسِم أَوْلَى عَلَى كُلّ حَال . هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْله مِلْكًا لِلْأَسْفَلِ مُخْتَصًّا بِهِ , فَإِنَّ مَا اِسْتَحَقَّ بِعَمَلٍ أَوْ بِمِلْكٍ صَحِيح أَوْ اِسْتِحْقَاق قَدِيم وَثُبُوت مِلْكٍ فَكُلّ عَلَى حَقّه عَلَى حَسَب مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بِيَدِهِ وَعَلَى أَصْل مَسْأَلَته . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
أَيْ ضِيقًا وَشَكًّا ; وَمِنْهُ قِيلَ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفّ : حَرَج وَحَرَجَة , وَجَمْعهَا حِرَاج . وَقَالَ الضَّحَّاك : أَيْ إِثْمًا بِإِنْكَارِهِمْ مَا قَضَيْت .
أَيْ يَنْقَادُوا لِأَمْرِك فِي الْقَضَاء . وَقَالَ الزَّجَّاج : " تَسْلِيمًا " مَصْدَر مُؤَكَّد ; فَإِذَا قُلْت : ضَرَبْت ضَرْبًا فَكَأَنَّك قُلْت لَا أَشُكّ فِيهِ ; وَكَذَلِكَ " وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " أَيْ وَيُسَلِّمُوا لِحُكْمِك تَسْلِيمًا لَا يُدْخِلُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ شَكًّا .
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ↓
سَبَب نُزُولهَا مَا رُوِيَ أَنَّ ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس تَفَاخَرَ هُوَ وَيَهُودِيّ ; فَقَالَ الْيَهُودِيّ : وَاَللَّهِ لَقَدْ كُتِبَ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتُل أَنْفُسَنَا فَقَتَلْنَا , وَبَلَغَتْ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا ; فَقَالَ ثَابِت : وَاللَّه لَوْ كَتَبَ اللَّه عَلَيْنَا أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ لَفَعَلْنَا . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق السَّبِيعِيّ : لَمَّا نَزَلَتْ " وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ " الْآيَة , قَالَ رَجُل : لَوْ أُمِرْنَا لَفَعَلْنَا , وَالْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا . فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنَّ مِنْ أُمَّتِي رِجَالًا الْإِيمَان أَثْبَتُ فِي قُلُوبهمْ مِنْ الْجِبَال الرَّوَاسِي ) . قَالَ اِبْن وَهْب قَالَ مَالِك : الْقَائِل ذَلِكَ هُوَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَهَكَذَا ذَكَرَ مَكِّيّ أَنَّهُ أَبُو بَكْر . وَذَكَرَ النَّقَّاش أَنَّهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لَبَدَأْت بِنَفْسِي وَأَهْل بَيْتِي . وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ : أَنَّ الْقَائِل مِنْهُمْ عَمَّار بْن يَاسِر وَابْن مَسْعُود وَثَابِت بْن قَيْس , قَالُوا : لَوْ أَنَّ اللَّه أَمَرَنَا أَنْ نَقْتُل أَنْفُسَنَا أَوْ نَخْرُج مِنْ دِيَارنَا لَفَعَلْنَا ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْإِيمَان أَثْبَت فِي قُلُوب الرِّجَال مِنْ الْجِبَال الرَّوَاسِي ) . و " لَوْ " حَرْف يَدُلّ عَلَى اِمْتِنَاع الشَّيْء لِامْتِنَاعِ غَيْره ; فَأَخْبَرَ اللَّه سُبْحَانه أَنَّهُ لَمْ يَكْتُب ذَلِكَ عَلَيْنَا رِفْقًا بِنَا لِئَلَّا تَظْهَرَ مَعْصِيَتُنَا . فَكَمْ مِنْ أَمْر قَصَّرْنَا عَنْهُ مَعَ خِفَّتِهِ فَكَيْفَ بِهَذَا الْأَمْر مَعَ ثِقَلِهِ ! لَكِنْ أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ تَرَكَ الْمُهَاجِرُونَ مَسَاكِنَهُمْ خَاوِيَة وَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ بِهَا عِيشَة رَاضِيَة .
أَيْ الْقَتْل وَالْخُرُوج
" قَلِيل " بَدَلَ مِنْ الْوَاو , وَالتَّقْدِير مَا فَعَلَهُ أَحَد إِلَّا قَلِيل . وَأَهْل الْكُوفَة يَقُولُونَ : هُوَ عَلَى التَّكْرِير مَا فَعَلُوهُ مَا فَعَلَهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ . وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن عَامِر وَعِيسَى بْن عُمَر " إِلَّا قَلِيلًا " عَلَى الِاسْتِثْنَاء . وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِف أَهْل الشَّام . الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ , وَالرَّفْع أَجْوَد عِنْد جَمِيع النَّحْوِيِّينَ . وَقِيلَ : اِنْتَصَبَ عَلَى إِضْمَار فِعْل , تَقْدِيره إِلَّا أَنْ يَكُون قَلِيلًا مِنْهُمْ . وَإِنَّمَا صَارَ الرَّفْع أَجْوَد لِأَنَّ اللَّفْظ أَوْلَى مِنْ الْمَعْنَى , وَهُوَ أَيْضًا يَشْتَمِل عَلَى الْمَعْنَى . وَكَانَ مِنْ الْقَلِيل أَبُو بَكْر وَعُمَر وَثَابِت بْن قَيْس كَمَا ذَكَرْنَا . وَزَادَ الْحَسَن وَمُقَاتِل عَمَّارًا وَابْن مَسْعُود وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا .
أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
أَيْ عَلَى الْحَقّ .
أَيْ الْقَتْل وَالْخُرُوج
" قَلِيل " بَدَلَ مِنْ الْوَاو , وَالتَّقْدِير مَا فَعَلَهُ أَحَد إِلَّا قَلِيل . وَأَهْل الْكُوفَة يَقُولُونَ : هُوَ عَلَى التَّكْرِير مَا فَعَلُوهُ مَا فَعَلَهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ . وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن عَامِر وَعِيسَى بْن عُمَر " إِلَّا قَلِيلًا " عَلَى الِاسْتِثْنَاء . وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِف أَهْل الشَّام . الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ , وَالرَّفْع أَجْوَد عِنْد جَمِيع النَّحْوِيِّينَ . وَقِيلَ : اِنْتَصَبَ عَلَى إِضْمَار فِعْل , تَقْدِيره إِلَّا أَنْ يَكُون قَلِيلًا مِنْهُمْ . وَإِنَّمَا صَارَ الرَّفْع أَجْوَد لِأَنَّ اللَّفْظ أَوْلَى مِنْ الْمَعْنَى , وَهُوَ أَيْضًا يَشْتَمِل عَلَى الْمَعْنَى . وَكَانَ مِنْ الْقَلِيل أَبُو بَكْر وَعُمَر وَثَابِت بْن قَيْس كَمَا ذَكَرْنَا . وَزَادَ الْحَسَن وَمُقَاتِل عَمَّارًا وَابْن مَسْعُود وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا .
أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
أَيْ عَلَى الْحَقّ .
أَيْ ثَوَابًا فِي الْآخِرَة . وَقِيلَ : اللَّام لَام الْجَوَاب , وَ " إِذًا " دَالَّة عَلَى الْجَزَاء , وَالْمَعْنَى لَوْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَآتَيْنَاهُمْ .
أَصْل الصِّرَاط فِي كَلَام الْعَرَب الطَّرِيق ; قَالَ عَامِر بْن الطُّفَيْل : شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنْ الصِّرَاطِ وَقَالَ جَرِير : أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اِعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ وَقَالَ آخَر : فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ الْوَاضِحِ حَكَى النَّقَّاش : الصِّرَاط الطَّرِيق بِلُغَةِ الرُّوم ; فَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا . وَقُرِئَ : السِّرَاط ( بِالسِّينِ ) مِنْ الِاسْتِرَاط بِمَعْنَى الِابْتِلَاع ; كَأَنَّ الطَّرِيق يَسْتَرِط مَنْ يَسْلُكُهُ . وَقُرِئَ بَيْنَ الزَّاي وَالصَّاد . وَقُرِئَ بِزَايٍ خَالِصَة وَالسِّين الْأَصْل . وَحَكَى سَلَمَة عَنْ الْفَرَّاء قَالَ : الزِّرَاط بِإِخْلَاصِ الزَّاي لُغَة لِعُذْرَة وَكَلْبٍ وَبَنِي الْقَيْن , قَالَ : وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ [ فِي أَصْدَق ] : أَزْدَق . وَقَدْ قَالُوا الْأَزَد وَالْأَسَد وَلَسِقَ بِهِ وَلَصِقَ بِهِ . و " الصِّرَاط " نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول الثَّانِي ; لِأَنَّ الْفِعْل مِنْ الْهِدَايَة يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُول الثَّانِي بِحَرْفِ جَرّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاط الْجَحِيم " . [ الصَّافَّات : 23 ] . وَبِغَيْرِ حَرْف كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة . " الْمُسْتَقِيم " صِفَة لِ " الصِّرَاط " وَهُوَ الَّذِي لَا اِعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا اِنْحِرَافَ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ " [ الْأَنْعَام : 153 ] وَأَصْله مُسْتَقْوِم , نُقِلَتْ الْحَرَكَة إِلَى الْقَاف وَانْقَلَبَتْ الْوَاو يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا .
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ↓
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَمْر الَّذِي لَوْ فَعَلَهُ الْمُنَافِقُونَ حِينَ وُعِظُوا بِهِ وَأَنَابُوا إِلَيْهِ لَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ , ذَكَرَ بَعْد ذَلِكَ ثَوَاب مَنْ يَفْعَلُهُ . وَهَذِهِ الْآيَة تَفْسِير قَوْله تَعَالَى : " اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ " [ الْفَاتِحَة : 6 - 7 ] وَهِيَ الْمُرَاد فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد مَوْته ( اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى ) . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَا مِنْ نَبِيّ يَمْرَض إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ) كَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي مَرِضَ فِيهِ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَة فَسَمِعْته يَقُول : ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ) فَعَلِمْت أَنَّهُ خَيْر . وَقَالَتْ طَائِفَة : إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة لَمَّا قَالَ عَبْد اللَّه بْن زَيْد بْن عَبْد رَبّه الْأَنْصَارِيّ - الَّذِي أُرِيَ الْأَذَان - : يَا رَسُول اللَّه , إِذَا مُتّ وَمُتْنَا كُنْت فِي عِلِّيِّينَ لَا نَرَاك وَلَا نَجْتَمِع بِك ; وَذَكَرَ حُزْنه عَلَى ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَذَكَرَ مَكِّيّ عَنْ عَبْد اللَّه هَذَا وَأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اللَّهُمَّ أَعْمِنِي حَتَّى لَا أَرَى شَيْئًا بَعْده ; فَعَمِيَ مَكَانه . وَحَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ فَقَالَ : اللَّهُمَّ أَعْمِنِي فَلَا أَرَى شَيْئًا بَعْد حَبِيبِي حَتَّى أَلْقَى حَبِيبِي ; فَعَمِيَ مَكَانه . وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَوْبَان مَوْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَ شَدِيد الْحُبّ لَهُ قَلِيل الصَّبْر عَنْهُ , فَأَتَاهُ ذَات يَوْم وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنه وَنَحَلَ جِسْمه , يُعْرَف فِي وَجْهه الْحُزْن ; فَقَالَ لَهُ : ( يَا ثَوْبَان مَا غَيَّرَ لَوْنك ) فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَا بِي ضُرّ وَلَا وَجَع , غَيْر أَنِّي إِذَا لَمْ أَرَك اِشْتَقْت إِلَيْك وَاسْتَوْحَشْت وَحْشَة شَدِيدَة حَتَّى أَلْقَاك , ثُمَّ ذَكَرْت الْآخِرَة وَأَخَاف أَلَّا أَرَاك هُنَاكَ ; لِأَنِّي عَرَفْت أَنَّك تُرْفَع مَعَ النَّبِيِّينَ وَأَنِّي إِنْ دَخَلْت الْجَنَّة كُنْت فِي مَنْزِلَة هِيَ أَدْنَى مِنْ مَنْزِلَتك , وَإِنْ لَمْ أَدْخُل فَذَلِكَ حِينَ لَا أَرَاك أَبَدًا ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة . ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيّ عَنْ الْكَلْبِيّ . وَأَسْنَدَ عَنْ مَسْرُوق قَالَ : قَالَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُفَارِقَك فِي الدُّنْيَا , فَإِنَّك إِذَا فَارَقْتنَا رُفِعْت فَوْقَنَا ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَنْ يُطِعْ اللَّه وَالرَّسُول فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ " . وَفِي طَاعَة اللَّه طَاعَة رَسُوله وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُ تَشْرِيفًا لِقَدْرِهِ وَتَنْوِيهًا بِاسْمِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ .
أَيْ هُمْ مَعَهُمْ فِي دَار وَاحِدَة وَنَعِيم وَاحِد يَسْتَمْتِعُونَ بِرُؤْيَتِهِمْ وَالْحُضُور مَعَهُمْ , لَا أَنَّهُمْ يُسَاوُونَهُمْ فِي الدَّرَجَة ; فَإِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ لَكِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ لِلِاتِّبَاعِ فِي الدُّنْيَا وَالِاقْتِدَاء . وَكُلّ مَنْ فِيهَا قَدْ رُزِقَ الرِّضَا بِحَالِهِ , وَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ اِعْتِقَاد أَنَّهُ مَفْضُول . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ مِنْ غِلّ " [ الْأَعْرَاف : 43 ] . وَالصِّدِّيق فِعِّيلٌ , الْمُبَالِغ فِي الصِّدْق أَوْ فِي التَّصْدِيق , وَالصِّدِّيق هُوَ الَّذِي يُحَقِّق بِفِعْلِهِ مَا يَقُول بِلِسَانِهِ . وَقِيل : هُمْ فُضَلَاء أَتْبَاع الْأَنْبِيَاء الَّذِينَ يَسْبِقُونَهُمْ إِلَى التَّصْدِيق كَأَبِي بَكْر الصِّدِّيق . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة اِشْتِقَاق الصِّدِّيق وَمَعْنَى الشَّهِيد . وَالْمُرَاد هُنَا بِالشُّهَدَاءِ عُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ , وَالصَّالِحِينَ سَائِر الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
الْقَتْلَى فِي سَبِيل اللَّه .
صَالِحِي أُمَّة مُحَمَّد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْت : وَاللَّفْظ يَعُمّ كُلّ صَالِح وَشَهِيد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَالرِّفْق لِين الْجَانِب . وَسُمِّيَ الصَّاحِب رَفِيقًا لِارْتِفَاقِك بِصُحْبَتِهِ ; وَمِنْهُ الرُّفْقَة لِارْتِفَاقِ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ . وَيَجُوز " وَحَسُنَ أُولَئِكَ رُفَقَاءَ " . قَالَ الْأَخْفَش : " رَفِيقًا " مَنْصُوب عَلَى الْحَال وَهُوَ بِمَعْنَى رُفَقَاء ; وَقَالَ : اِنْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيز فَوَحَّدَ لِذَلِكَ ; فَكَأَنَّ الْمَعْنَى وَحَسُنَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ رَفِيقًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : " ثُمَّ نُخْرِجكُمْ طِفْلًا " [ الْحَجّ : 5 ] أَيْ نُخْرِج كُلّ وَاحِد مِنْكُمْ طِفْلًا . وَقَالَ تَعَالَى : " يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْف خَفِيّ " [ الشُّورَى : 45 ] وَيُنْظَر مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر الرُّفَقَاء أَرْبَعَة ) وَلَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى هُنَا إِلَّا أَرْبَعَة فَتَأَمَّلْهُ .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى خِلَافَة أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَرَاتِب أَوْلِيَائِهِ فِي كِتَابه بَدَأَ بِالْأَعْلَى مِنْهُمْ وَهُمْ النَّبِيُّونَ , ثُمَّ ثَنَّى بِالصِّدِّيقِينَ وَلَمْ يَجْعَل بَيْنهمَا وَاسِطَة . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَسْمِيَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صِدِّيقًا , كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام رَسُولًا , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَصَحَّ أَنَّهُ الصِّدِّيق وَأَنَّهُ ثَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّم بَعْدَهُ أَحَد . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ هُمْ مَعَهُمْ فِي دَار وَاحِدَة وَنَعِيم وَاحِد يَسْتَمْتِعُونَ بِرُؤْيَتِهِمْ وَالْحُضُور مَعَهُمْ , لَا أَنَّهُمْ يُسَاوُونَهُمْ فِي الدَّرَجَة ; فَإِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ لَكِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ لِلِاتِّبَاعِ فِي الدُّنْيَا وَالِاقْتِدَاء . وَكُلّ مَنْ فِيهَا قَدْ رُزِقَ الرِّضَا بِحَالِهِ , وَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ اِعْتِقَاد أَنَّهُ مَفْضُول . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ مِنْ غِلّ " [ الْأَعْرَاف : 43 ] . وَالصِّدِّيق فِعِّيلٌ , الْمُبَالِغ فِي الصِّدْق أَوْ فِي التَّصْدِيق , وَالصِّدِّيق هُوَ الَّذِي يُحَقِّق بِفِعْلِهِ مَا يَقُول بِلِسَانِهِ . وَقِيل : هُمْ فُضَلَاء أَتْبَاع الْأَنْبِيَاء الَّذِينَ يَسْبِقُونَهُمْ إِلَى التَّصْدِيق كَأَبِي بَكْر الصِّدِّيق . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة اِشْتِقَاق الصِّدِّيق وَمَعْنَى الشَّهِيد . وَالْمُرَاد هُنَا بِالشُّهَدَاءِ عُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ , وَالصَّالِحِينَ سَائِر الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
الْقَتْلَى فِي سَبِيل اللَّه .
صَالِحِي أُمَّة مُحَمَّد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْت : وَاللَّفْظ يَعُمّ كُلّ صَالِح وَشَهِيد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَالرِّفْق لِين الْجَانِب . وَسُمِّيَ الصَّاحِب رَفِيقًا لِارْتِفَاقِك بِصُحْبَتِهِ ; وَمِنْهُ الرُّفْقَة لِارْتِفَاقِ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ . وَيَجُوز " وَحَسُنَ أُولَئِكَ رُفَقَاءَ " . قَالَ الْأَخْفَش : " رَفِيقًا " مَنْصُوب عَلَى الْحَال وَهُوَ بِمَعْنَى رُفَقَاء ; وَقَالَ : اِنْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيز فَوَحَّدَ لِذَلِكَ ; فَكَأَنَّ الْمَعْنَى وَحَسُنَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ رَفِيقًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : " ثُمَّ نُخْرِجكُمْ طِفْلًا " [ الْحَجّ : 5 ] أَيْ نُخْرِج كُلّ وَاحِد مِنْكُمْ طِفْلًا . وَقَالَ تَعَالَى : " يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْف خَفِيّ " [ الشُّورَى : 45 ] وَيُنْظَر مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر الرُّفَقَاء أَرْبَعَة ) وَلَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى هُنَا إِلَّا أَرْبَعَة فَتَأَمَّلْهُ .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى خِلَافَة أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَرَاتِب أَوْلِيَائِهِ فِي كِتَابه بَدَأَ بِالْأَعْلَى مِنْهُمْ وَهُمْ النَّبِيُّونَ , ثُمَّ ثَنَّى بِالصِّدِّيقِينَ وَلَمْ يَجْعَل بَيْنهمَا وَاسِطَة . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَسْمِيَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صِدِّيقًا , كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام رَسُولًا , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَصَحَّ أَنَّهُ الصِّدِّيق وَأَنَّهُ ثَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّم بَعْدَهُ أَحَد . وَاَللَّه أَعْلَم .
صَالِحِي أُمَّة مُحَمَّد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْت : وَاللَّفْظ يَعُمّ كُلّ صَالِح وَشَهِيد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَالرِّفْق لِين الْجَانِب . وَسُمِّيَ الصَّاحِب رَفِيقًا لِارْتِفَاقِك بِصُحْبَتِهِ ; وَمِنْهُ الرُّفْقَة لِارْتِفَاقِ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ . وَيَجُوز " وَحَسُنَ أُولَئِكَ رُفَقَاءَ " . قَالَ الْأَخْفَش : " رَفِيقًا " مَنْصُوب عَلَى الْحَال وَهُوَ بِمَعْنَى رُفَقَاء ; وَقَالَ : اِنْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيز فَوَحَّدَ لِذَلِكَ ; فَكَأَنَّ الْمَعْنَى وَحَسُنَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ رَفِيقًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : " ثُمَّ نُخْرِجكُمْ طِفْلًا " [ الْحَجّ : 5 ] أَيْ نُخْرِج كُلّ وَاحِد مِنْكُمْ طِفْلًا . وَقَالَ تَعَالَى : " يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْف خَفِيّ " [ الشُّورَى : 45 ] وَيُنْظَر مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر الرُّفَقَاء أَرْبَعَة ) وَلَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى هُنَا إِلَّا أَرْبَعَة فَتَأَمَّلْهُ .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى خِلَافَة أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَرَاتِب أَوْلِيَائِهِ فِي كِتَابه بَدَأَ بِالْأَعْلَى مِنْهُمْ وَهُمْ النَّبِيُّونَ , ثُمَّ ثَنَّى بِالصِّدِّيقِينَ وَلَمْ يَجْعَل بَيْنهمَا وَاسِطَة . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَسْمِيَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صِدِّيقًا , كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام رَسُولًا , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَصَحَّ أَنَّهُ الصِّدِّيق وَأَنَّهُ ثَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّم بَعْدَهُ أَحَد . وَاَللَّه أَعْلَم .
قُلْت : وَاللَّفْظ يَعُمّ كُلّ صَالِح وَشَهِيد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَالرِّفْق لِين الْجَانِب . وَسُمِّيَ الصَّاحِب رَفِيقًا لِارْتِفَاقِك بِصُحْبَتِهِ ; وَمِنْهُ الرُّفْقَة لِارْتِفَاقِ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ . وَيَجُوز " وَحَسُنَ أُولَئِكَ رُفَقَاءَ " . قَالَ الْأَخْفَش : " رَفِيقًا " مَنْصُوب عَلَى الْحَال وَهُوَ بِمَعْنَى رُفَقَاء ; وَقَالَ : اِنْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيز فَوَحَّدَ لِذَلِكَ ; فَكَأَنَّ الْمَعْنَى وَحَسُنَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ رَفِيقًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : " ثُمَّ نُخْرِجكُمْ طِفْلًا " [ الْحَجّ : 5 ] أَيْ نُخْرِج كُلّ وَاحِد مِنْكُمْ طِفْلًا . وَقَالَ تَعَالَى : " يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْف خَفِيّ " [ الشُّورَى : 45 ] وَيُنْظَر مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر الرُّفَقَاء أَرْبَعَة ) وَلَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى هُنَا إِلَّا أَرْبَعَة فَتَأَمَّلْهُ .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى خِلَافَة أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَرَاتِب أَوْلِيَائِهِ فِي كِتَابه بَدَأَ بِالْأَعْلَى مِنْهُمْ وَهُمْ النَّبِيُّونَ , ثُمَّ ثَنَّى بِالصِّدِّيقِينَ وَلَمْ يَجْعَل بَيْنهمَا وَاسِطَة . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَسْمِيَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صِدِّيقًا , كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام رَسُولًا , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَصَحَّ أَنَّهُ الصِّدِّيق وَأَنَّهُ ثَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّم بَعْدَهُ أَحَد . وَاَللَّه أَعْلَم .
هَذَا خِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَمْر لَهُمْ بِجِهَادِ الْكُفَّار وَالْخُرُوج فِي سَبِيل اللَّه وَحِمَايَة الشَّرْع . وَوَجْه النَّظْم وَالِاتِّصَال بِمَا قَبْلُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ طَاعَة اللَّه وَطَاعَة رَسُوله , أَمَرَ أَهْل الطَّاعَة بِالْقِيَامِ بِإِحْيَاءِ دِينِهِ وَإِعْلَاء دَعْوَتِهِ , وَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَقْتَحِمُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ عَلَى جَهَالَة حَتَّى يَتَحَسَّسُوا إِلَى مَا عِنْدهمْ , وَيَعْلَمُوا كَيْفَ يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ , فَذَلِكَ أَثْبَت لَهُمْ فَقَالَ : " خُذُوا حِذْرَكُمْ " فَعَلَّمَهُمْ مُبَاشَرَة الْحُرُوب . وَلَا يُنَافِي هَذَا التَّوَكُّل بَلْ هُوَ مَقَام عَيْن التَّوَكُّل كَمَا تَقَدَّمَ فِي " آل عِمْرَان " وَيَأْتِي . وَالْحِذْر وَالْحَذَر لُغَتَانِ كَالْمِثْلِ وَالْمَثَل . قَالَ الْفَرَّاء : أَكْثَر الْكَلَام الْحَذَر , وَالْحِذْر مَسْمُوع أَيْضًا ; يُقَال : خُذْ حَذَرَك , أَيْ اِحْذَرْ . وَقِيلَ : خُذُوا السِّلَاح حَذَرًا ; لِأَنَّهُ بِهِ الْحَذَر وَالْحَذَر لَا يَدْفَع الْقَدَر .
خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلهمْ : إِنَّ الْحَذَر يَدْفَع وَيَمْنَع مِنْ مَكَائِد الْأَعْدَاء , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مَا كَانَ لِأَمْرِهِمْ بِالْحَذَرِ مَعْنًى . فَيُقَال لَهُمْ : لَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْحَذَر يَنْفَع مِنْ الْقَدَر شَيْئًا ; وَلَكِنَّا تُعُبِّدْنَا بِأَلَّا نُلْقِيَ بِأَيْدِينَا إِلَى التَّهْلُكَة ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( اِعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ) . وَإِنْ كَانَ الْقَدَر جَارِيًا عَلَى مَا قُضِيَ , وَيَفْعَل اللَّه مَا يَشَاء , فَالْمُرَاد مِنْهُ طُمَأْنِينَة النَّفْس , لَا أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَع مِنْ الْقَدَر وَكَذَلِكَ أَخْذ الْحَذَر . الدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَثْنَى عَلَى أَصْحَاب نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَنَا " [ التَّوْبَة : 51 ] فَلَوْ كَانَ يُصِيبهُمْ غَيْر مَا قَضَى عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَام مَعْنًى .
يُقَال : نَفَرَ يَنْفِر ( بِكَسْرِ الْفَاء ) نَفِيرًا . وَنَفَرَتْ الدَّابَّة تَنْفُرُ ( بِضَمِّ الْفَاء ) نُفُورًا ; الْمَعْنَى : اِنْهَضُوا لِقِتَالِ الْعَدُوّ . وَاسْتَنْفَرَ الْإِمَام النَّاس دَعَاهُمْ إِلَى النَّفْر , أَيْ لِلْخُرُوجِ إِلَى قِتَال الْعَدُوّ . وَالنَّفِير اِسْم لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ , وَأَصْله مِنْ النِّفَار وَالنُّفُور وَهُوَ الْفَزَع ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارهمْ نُفُورًا " [ الْإِسْرَاء : 46 ] أَيْ نَافِرِينَ . وَمِنْهُ نَفَرَ الْجِلْد أَيْ وَرِمَ . وَتَخَلَّلَ رَجُل بِالْقَصَبِ فَنَفَرَ فَمُهُ أَيْ وَرِمَ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : إِنَّمَا هُوَ مِنْ نِفَار الشَّيْء مِنْ الشَّيْء وَهُوَ تَجَافِيهِ عَنْهُ وَتَبَاعُدُهُ مِنْهُ . قَالَ اِبْن فَارِس : النَّفَر عِدَّة رِجَال مِنْ ثَلَاثَة إِلَى عَشَرَة . وَالنَّفِير النَّفَر أَيْضًا , وَكَذَلِكَ النَّفْر وَالنُّفْرَة , حَكَاهَا الْفَرَّاء بِالْهَاءِ . وَيَوْم النَّفْر : يَوْم يَنْفِر النَّاس عَنْ مِنًى .
" ثُبَات " مَعْنَاهُ جَمَاعَات مُتَفَرِّقَات . وَيُقَال : ثُبِين يُجْمَع جَمْع السَّلَامَة فِي التَّأْنِيث وَالتَّذْكِير . قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : فَأَمَّا يَوْم خَشْيَتِنَا عَلَيْهِمْ فَتُصْبِح خَيْلُنَا عُصْبًا ثُبِينَا كِنَايَة عَنْ السَّرَايَا , الْوَاحِدَة ثُبَة وَهِيَ الْعِصَابَة مِنْ النَّاس . وَكَانَتْ فِي الْأَصْل الثُّبْيَة . وَقَدْ ثَبَّيْت الْجَيْش جَعَلْتهمْ ثُبَة ثُبَة . وَالثُّبَة : وَسَط الْحَوْض الَّذِي يَثُوب إِلَيْهِ الْمَاء أَيْ يَرْجِع قَالَ النَّحَّاس : وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ الضَّعِيف فِي الْعَرَبِيَّة أَنَّهُمَا وَاحِد , وَأَنَّ أَحَدهمَا مِنْ الْآخَر ; وَبَيْنهمَا فَرْق , فَثُبَة الْحَوْض يُقَال فِي تَصْغِيرهَا : ثُوَيْبَة ; لِأَنَّهَا مِنْ ثَابَ يَثُوب . وَيُقَال فِي ثُبَة الْجَمَاعَة : ثُبَيَّة . قَالَ غَيْره : فَثُبَة الْحَوْض مَحْذُوفَة الْوَاو وَهُوَ عَيْن الْفِعْل , وَثُبَة الْجَمَاعَة مُعْتَلّ اللَّام مِنْ ثَبَا يَثْبُو مِثْل خَلَا يَخْلُو . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الثُّبَة بِمَعْنَى الْجَمَاعَة مِنْ ثُبَة الْحَوْض ; لِأَنَّ الْمَاء إِذَا ثَابَ اِجْتَمَعَ ; فَعَلَى هَذَا تُصَغَّر بِهِ الْجَمَاعَة ثُوَيْبَة فَتَدْخُل إِحْدَى الْيَاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ ثُبَة الْجَمَاعَة إِنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ ثَبَيْت عَلَى الرَّجُل إِذَا أَثْنَيْت عَلَيْهِ فِي حَيَاته وَجَمَعْت مَحَاسِن ذِكْره فَيَعُود إِلَى الِاجْتِمَاع .
مَعْنَاهُ الْجَيْش الْكَثِيف مَعَ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَلَا تُخْرَج السَّرَايَا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام لِيَكُونَ مُتَجَسِّسًا لَهُمْ , عَضُدًا مِنْ وَرَائِهِمْ , وَرُبَّمَا اِحْتَاجُوا إِلَى دَرْئِهِ . وَسَيَأْتِي حُكْم السَّرَايَا وَغَنَائِمهمْ وَأَحْكَام الْجُيُوش وَوُجُوب النَّفِير فِي " الْأَنْفَال " و " بَرَاءَة " [ التَّوْبَة ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
: ذَكَرَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " وَبِقَوْلِهِ : " إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ " [ التَّوْبَة : 39 ] ; وَلَأَنْ يَكُون " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " [ التَّوْبَة : 41 ] مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ : " فَانْفِرُوا ثُبَات أَوْ اِنْفِرُوا جَمِيعًا " وَبِقَوْلِهِ : " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة " [ التَّوْبَة : 122 ] أَوْلَى ; لِأَنَّ فَرْض الْجِهَاد تَقَرَّرَ عَلَى الْكِفَايَة , فَمَتَى سَدَّ الثُّغُورَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أُسْقِطَ الْفَرْض عَنْ الْبَاقِينَ . وَالصَّحِيح أَنَّ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا مُحْكَمَتَانِ , إِحْدَاهُمَا فِي الْوَقْت الَّذِي يُحْتَاج فِيهِ إِلَى تَعَيُّن الْجَمِيع , وَالْأُخْرَى عِنْد الِاكْتِفَاء بِطَائِفَةٍ دُون غَيْرهَا .
خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلهمْ : إِنَّ الْحَذَر يَدْفَع وَيَمْنَع مِنْ مَكَائِد الْأَعْدَاء , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مَا كَانَ لِأَمْرِهِمْ بِالْحَذَرِ مَعْنًى . فَيُقَال لَهُمْ : لَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْحَذَر يَنْفَع مِنْ الْقَدَر شَيْئًا ; وَلَكِنَّا تُعُبِّدْنَا بِأَلَّا نُلْقِيَ بِأَيْدِينَا إِلَى التَّهْلُكَة ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( اِعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ) . وَإِنْ كَانَ الْقَدَر جَارِيًا عَلَى مَا قُضِيَ , وَيَفْعَل اللَّه مَا يَشَاء , فَالْمُرَاد مِنْهُ طُمَأْنِينَة النَّفْس , لَا أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَع مِنْ الْقَدَر وَكَذَلِكَ أَخْذ الْحَذَر . الدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَثْنَى عَلَى أَصْحَاب نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَنَا " [ التَّوْبَة : 51 ] فَلَوْ كَانَ يُصِيبهُمْ غَيْر مَا قَضَى عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَام مَعْنًى .
يُقَال : نَفَرَ يَنْفِر ( بِكَسْرِ الْفَاء ) نَفِيرًا . وَنَفَرَتْ الدَّابَّة تَنْفُرُ ( بِضَمِّ الْفَاء ) نُفُورًا ; الْمَعْنَى : اِنْهَضُوا لِقِتَالِ الْعَدُوّ . وَاسْتَنْفَرَ الْإِمَام النَّاس دَعَاهُمْ إِلَى النَّفْر , أَيْ لِلْخُرُوجِ إِلَى قِتَال الْعَدُوّ . وَالنَّفِير اِسْم لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ , وَأَصْله مِنْ النِّفَار وَالنُّفُور وَهُوَ الْفَزَع ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارهمْ نُفُورًا " [ الْإِسْرَاء : 46 ] أَيْ نَافِرِينَ . وَمِنْهُ نَفَرَ الْجِلْد أَيْ وَرِمَ . وَتَخَلَّلَ رَجُل بِالْقَصَبِ فَنَفَرَ فَمُهُ أَيْ وَرِمَ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : إِنَّمَا هُوَ مِنْ نِفَار الشَّيْء مِنْ الشَّيْء وَهُوَ تَجَافِيهِ عَنْهُ وَتَبَاعُدُهُ مِنْهُ . قَالَ اِبْن فَارِس : النَّفَر عِدَّة رِجَال مِنْ ثَلَاثَة إِلَى عَشَرَة . وَالنَّفِير النَّفَر أَيْضًا , وَكَذَلِكَ النَّفْر وَالنُّفْرَة , حَكَاهَا الْفَرَّاء بِالْهَاءِ . وَيَوْم النَّفْر : يَوْم يَنْفِر النَّاس عَنْ مِنًى .
" ثُبَات " مَعْنَاهُ جَمَاعَات مُتَفَرِّقَات . وَيُقَال : ثُبِين يُجْمَع جَمْع السَّلَامَة فِي التَّأْنِيث وَالتَّذْكِير . قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : فَأَمَّا يَوْم خَشْيَتِنَا عَلَيْهِمْ فَتُصْبِح خَيْلُنَا عُصْبًا ثُبِينَا كِنَايَة عَنْ السَّرَايَا , الْوَاحِدَة ثُبَة وَهِيَ الْعِصَابَة مِنْ النَّاس . وَكَانَتْ فِي الْأَصْل الثُّبْيَة . وَقَدْ ثَبَّيْت الْجَيْش جَعَلْتهمْ ثُبَة ثُبَة . وَالثُّبَة : وَسَط الْحَوْض الَّذِي يَثُوب إِلَيْهِ الْمَاء أَيْ يَرْجِع قَالَ النَّحَّاس : وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ الضَّعِيف فِي الْعَرَبِيَّة أَنَّهُمَا وَاحِد , وَأَنَّ أَحَدهمَا مِنْ الْآخَر ; وَبَيْنهمَا فَرْق , فَثُبَة الْحَوْض يُقَال فِي تَصْغِيرهَا : ثُوَيْبَة ; لِأَنَّهَا مِنْ ثَابَ يَثُوب . وَيُقَال فِي ثُبَة الْجَمَاعَة : ثُبَيَّة . قَالَ غَيْره : فَثُبَة الْحَوْض مَحْذُوفَة الْوَاو وَهُوَ عَيْن الْفِعْل , وَثُبَة الْجَمَاعَة مُعْتَلّ اللَّام مِنْ ثَبَا يَثْبُو مِثْل خَلَا يَخْلُو . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الثُّبَة بِمَعْنَى الْجَمَاعَة مِنْ ثُبَة الْحَوْض ; لِأَنَّ الْمَاء إِذَا ثَابَ اِجْتَمَعَ ; فَعَلَى هَذَا تُصَغَّر بِهِ الْجَمَاعَة ثُوَيْبَة فَتَدْخُل إِحْدَى الْيَاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ ثُبَة الْجَمَاعَة إِنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ ثَبَيْت عَلَى الرَّجُل إِذَا أَثْنَيْت عَلَيْهِ فِي حَيَاته وَجَمَعْت مَحَاسِن ذِكْره فَيَعُود إِلَى الِاجْتِمَاع .
مَعْنَاهُ الْجَيْش الْكَثِيف مَعَ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَلَا تُخْرَج السَّرَايَا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام لِيَكُونَ مُتَجَسِّسًا لَهُمْ , عَضُدًا مِنْ وَرَائِهِمْ , وَرُبَّمَا اِحْتَاجُوا إِلَى دَرْئِهِ . وَسَيَأْتِي حُكْم السَّرَايَا وَغَنَائِمهمْ وَأَحْكَام الْجُيُوش وَوُجُوب النَّفِير فِي " الْأَنْفَال " و " بَرَاءَة " [ التَّوْبَة ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
: ذَكَرَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " وَبِقَوْلِهِ : " إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ " [ التَّوْبَة : 39 ] ; وَلَأَنْ يَكُون " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " [ التَّوْبَة : 41 ] مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ : " فَانْفِرُوا ثُبَات أَوْ اِنْفِرُوا جَمِيعًا " وَبِقَوْلِهِ : " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة " [ التَّوْبَة : 122 ] أَوْلَى ; لِأَنَّ فَرْض الْجِهَاد تَقَرَّرَ عَلَى الْكِفَايَة , فَمَتَى سَدَّ الثُّغُورَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أُسْقِطَ الْفَرْض عَنْ الْبَاقِينَ . وَالصَّحِيح أَنَّ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا مُحْكَمَتَانِ , إِحْدَاهُمَا فِي الْوَقْت الَّذِي يُحْتَاج فِيهِ إِلَى تَعَيُّن الْجَمِيع , وَالْأُخْرَى عِنْد الِاكْتِفَاء بِطَائِفَةٍ دُون غَيْرهَا .
وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا ↓
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ . وَالتَّبْطِئَة وَالْإِبْطَاء التَّأَخُّر , تَقُول : مَا أَبْطَأَك عَنَّا ; فَهُوَ لَازِم . وَيَجُوز بَطَّأْت فُلَانًا عَنْ كَذَا أَيْ أَخَّرْته ; فَهُوَ مُتَعَدٍّ . وَالْمَعْنَيَانِ مُرَاد فِي الْآيَة ; فَكَانُوا يَقْعُدُونَ عَنْ الْخُرُوج وَيُقْعِدُونَ غَيْرهمْ . وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ دُخَلَائِكُمْ وَجِنْسكُمْ وَمِمَّنْ أَظْهَرَ إِيمَانَهُ لَكُمْ . فَالْمُنَافِقُونَ فِي ظَاهِر الْحَال مِنْ أَعْدَاد الْمُسْلِمِينَ بِإِجْرَاءِ أَحْكَام الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ . وَاللَّام فِي قَوْله " لَمَنْ " لَام تَوْكِيد , وَالثَّانِيَة لَام قَسَم , و " مَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب , وَصِلَتهَا " لَيُبَطِّئَنَّ " لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِين , وَالْخَبَر " مِنْكُمْ " . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَالنَّخَعِيّ وَالْكَلْبِيّ " وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبْطِئَنَّ " بِالتَّخْفِيفِ , وَالْمَعْنَى وَاحِد . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ " بَعْض الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ اللَّه خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ : " وَإِنَّ مِنْكُمْ " وَقَدْ فَرَّقَ اللَّه تَعَالَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ " وَمَا هُمْ مِنْكُمْ " [ التَّوْبَة : 56 ] وَهَذَا يَأْبَاهُ مَسَاق الْكَلَام وَظَاهِره . وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنهمْ فِي الْخِطَاب مِنْ جِهَة الْجِنْس وَالنَّسَب كَمَا بَيَّنَّا لَا مِنْ جِهْهُ الْإِيمَان . هَذَا قَوْل الْجُمْهُور وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ قَتْل وَهَزِيمَة
يَعْنِي بِالْقُعُودِ , وَهَذَا لَا يَصْدُر إِلَّا مِنْ مُنَافِق ; لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الزَّمَان الْكَرِيم , بَعِيد أَنْ يَقُولَهُ مُؤْمِن . وَيَنْظُر إِلَى هَذِهِ الْآيَة مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْبَارًا عَنْ الْمُنَافِقِينَ ( إِنَّ أَثْقَل صَلَاة عَلَيْهِمْ صَلَاة الْعِشَاء وَصَلَاة الْفَجْر وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ) الْحَدِيث . فِي رِوَايَة ( وَلَوْ عَلِمَ أَحَدهمْ أَنَّهُ يَجِد عَظْمًا سَمِينًا لَشَهِدَهَا ) يَعْنِي صَلَاة الْعِشَاء . يَقُول : لَوْ لَاحَ شَيْء مِنْ الدُّنْيَا يَأْخُذُونَهُ وَكَانُوا عَلَى يَقِين مِنْهُ لَبَادَرُوا إِلَيْهِ .
أَيْ قَتْل وَهَزِيمَة
يَعْنِي بِالْقُعُودِ , وَهَذَا لَا يَصْدُر إِلَّا مِنْ مُنَافِق ; لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الزَّمَان الْكَرِيم , بَعِيد أَنْ يَقُولَهُ مُؤْمِن . وَيَنْظُر إِلَى هَذِهِ الْآيَة مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْبَارًا عَنْ الْمُنَافِقِينَ ( إِنَّ أَثْقَل صَلَاة عَلَيْهِمْ صَلَاة الْعِشَاء وَصَلَاة الْفَجْر وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ) الْحَدِيث . فِي رِوَايَة ( وَلَوْ عَلِمَ أَحَدهمْ أَنَّهُ يَجِد عَظْمًا سَمِينًا لَشَهِدَهَا ) يَعْنِي صَلَاة الْعِشَاء . يَقُول : لَوْ لَاحَ شَيْء مِنْ الدُّنْيَا يَأْخُذُونَهُ وَكَانُوا عَلَى يَقِين مِنْهُ لَبَادَرُوا إِلَيْهِ .
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّه لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ↓
أَيْ غَنِيمَة وَفَتْح
" لَيَقُولَنَّ " هَذَا الْمُنَافِق قَوْل نَادِم حَاسِد " يَا لَيْتَنِي كُنْت مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا " " كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنكُمْ وَبَيْنه مَوَدَّة " فَالْكَلَام فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير . وَقِيلَ : الْمَعْنَى " لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنكُمْ وَبَيْنه مَوَدَّة " أَيْ كَأَنْ لَمْ يُعَاقِدْكُمْ عَلَى الْجِهَاد . وَقِيلَ : هُوَ فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال . وَقَرَأَ الْحَسَن " لَيَقُولُنَّ " بِضَمِّ اللَّام عَلَى مَعْنَى " مَنْ " ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْله " لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ " لَيْسَ يَعْنِي رَجُلًا بِعَيْنِهِ . وَمَنْ فَتَحَ اللَّام أَعَادَ فَوَحَّدَ الضَّمِير عَلَى لَفْظ " مَنْ " . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَحَفْص عَنْ عَاصِم " كَأَنْ لَمْ تَكُنْ " بِالتَّاءِ عَلَى لَفْظ الْمَوَدَّة . وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ جَعَلَ مَوَدَّة بِمَعْنَى الْوُدّ .
وَقَوْل الْمُنَافِق " يَا لَيْتَنِي كُنْت مَعَهُمْ " عَلَى وَجْه الْحَسَد أَوْ الْأَسَف عَلَى فَوْت الْغَنِيمَة مَعَ الشَّكّ فِي الْجَزَاء مِنْ اللَّه .
جَوَاب التَّمَنِّي وَلِذَلِكَ نُصِبَ . وَقَرَأَ الْحَسَن " فَأَفُوزُ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ تَمَنَّى الْفَوْز , فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَا لَيْتَنِي أَفُوز فَوْزًا عَظِيمًا . وَالنَّصْب عَلَى الْجَوَاب ; وَالْمَعْنَى إِنْ أَكُنْ مَعَهُمْ أَفُزْ . وَالنَّصْب فِيهِ بِإِضْمَارِ " أَنْ " لِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى تَأْوِيل الْمَصْدَر ; التَّقْدِير يَا لَيْتَنِي كَانَ لِي حُضُور فَفَوْز .
" لَيَقُولَنَّ " هَذَا الْمُنَافِق قَوْل نَادِم حَاسِد " يَا لَيْتَنِي كُنْت مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا " " كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنكُمْ وَبَيْنه مَوَدَّة " فَالْكَلَام فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير . وَقِيلَ : الْمَعْنَى " لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنكُمْ وَبَيْنه مَوَدَّة " أَيْ كَأَنْ لَمْ يُعَاقِدْكُمْ عَلَى الْجِهَاد . وَقِيلَ : هُوَ فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال . وَقَرَأَ الْحَسَن " لَيَقُولُنَّ " بِضَمِّ اللَّام عَلَى مَعْنَى " مَنْ " ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْله " لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ " لَيْسَ يَعْنِي رَجُلًا بِعَيْنِهِ . وَمَنْ فَتَحَ اللَّام أَعَادَ فَوَحَّدَ الضَّمِير عَلَى لَفْظ " مَنْ " . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَحَفْص عَنْ عَاصِم " كَأَنْ لَمْ تَكُنْ " بِالتَّاءِ عَلَى لَفْظ الْمَوَدَّة . وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ جَعَلَ مَوَدَّة بِمَعْنَى الْوُدّ .
وَقَوْل الْمُنَافِق " يَا لَيْتَنِي كُنْت مَعَهُمْ " عَلَى وَجْه الْحَسَد أَوْ الْأَسَف عَلَى فَوْت الْغَنِيمَة مَعَ الشَّكّ فِي الْجَزَاء مِنْ اللَّه .
جَوَاب التَّمَنِّي وَلِذَلِكَ نُصِبَ . وَقَرَأَ الْحَسَن " فَأَفُوزُ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ تَمَنَّى الْفَوْز , فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَا لَيْتَنِي أَفُوز فَوْزًا عَظِيمًا . وَالنَّصْب عَلَى الْجَوَاب ; وَالْمَعْنَى إِنْ أَكُنْ مَعَهُمْ أَفُزْ . وَالنَّصْب فِيهِ بِإِضْمَارِ " أَنْ " لِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى تَأْوِيل الْمَصْدَر ; التَّقْدِير يَا لَيْتَنِي كَانَ لِي حُضُور فَفَوْز .
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ↓
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيل اللَّه " الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ ; أَيْ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيل اللَّه الْكُفَّار " الَّذِينَ يَشْرُونَ " أَيْ يَبِيعُونَ , أَيْ يَبْذُلُونَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " بِالْآخِرَةِ " أَيْ بِثَوَابِ الْآخِرَة .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيل اللَّه " شَرْط . " فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِب " عَطْف عَلَيْهِ , وَالْمُجَازَاة " فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " . وَمَعْنَى " فَيُقْتَل " فَيُسْتَشْهَد . " أَوْ يَغْلِب " يَظْفَر فَيَغْنَم . وَقَرَأَتْ طَائِفَة " وَمَنْ يُقَاتِلْ " " فَلْيُقَاتِلْ " بِسُكُونِ لَام الْأَمْر . وَقَرَأَتْ فِرْقَة " فَلْيُقَاتِلْ " بِكَسْرِ لَام الْأَمْر . فَذَكَرَ تَعَالَى غَايَتَيْ حَالَة الْمُقَاتِل وَاكْتَفَى بِالْغَايَتَيْنِ عَمَّا بَيْنَهُمَا ; ذَكَرَهُ اِبْن عَطِيَّة .
الثَّالِثَة : ظَاهِر الْآيَة يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَيْنَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا أَوْ اِنْقَلَبَ غَانِمًا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَضَمَّنَ اللَّه لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيله لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَاد فِي سَبِيلِي وَإِيمَان بِي وَتَصْدِيق بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِن أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّة أَوْ أُرْجِعهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْر أَوْ غَنِيمَة ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَفِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ غَازِيَة تَغْزُو فِي سَبِيل اللَّه فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَة إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرهمْ مِنْ الْآخِرَة وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُث وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَة تَمَّ لَهُمْ أَجْرهمْ ) . فَقَوْله : ( نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْر أَوْ غَنِيمَة ) يَقْتَضِي أَنَّ لِمَنْ يُسْتَشْهَدُ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ ; إِمَّا الْأَجْر إِنْ لَمْ يَغْنَم , وَإِمَّا الْغَنِيمَة وَلَا أَجْر , بِخِلَافِ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو , وَلَمَّا كَانَ هَذَا قَالَ قَوْمٌ : حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ فِي إِسْنَاده حُمَيْد بْن هَانِئ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ , وَرَجَّحُوا الْحَدِيث الْأَوَّل عَلَيْهِ لِشُهْرَتِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُض وَلَا اِخْتِلَاف . و " أَوْ " فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة بِمَعْنَى الْوَاو , كَمَا يَقُول الْكُوفِيُّونَ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : ( مِنْ أَجْر وَغَنِيمَة ) بِالْوَاوِ الْجَامِعَة . وَقَدْ رَوَاهُ بَعْض رُوَاةِ مُسْلِم بِالْوَاوِ الْجَامِعَة أَيْضًا . وَحُمَيْد بْن هَانِئ مِصْرِيٌّ سَمِعَ أَبَا عَبْد الرَّحْمَن الْحُبُلِيّ وَعَمْرو بْن مَالِك , وَرَوَى عَنْهُ حَيْوَة بْن شُرَيْح وَابْن وَهْب ; فَالْحَدِيث الْأَوَّل مَحْمُول عَلَى مُجَرَّد النِّيَّة وَالْإِخْلَاص فِي الْجِهَاد ; فَذَلِكَ الَّذِي ضَمِنَ اللَّه لَهُ إِمَّا الشَّهَادَة , وَإِمَّا رَدُّهُ إِلَى أَهْله مَأْجُورًا غَانِمًا , وَيُحْمَل الثَّانِي عَلَى مَا إِذَا نَوَى الْجِهَاد وَلَكِنْ مَعَ نَيْل الْمَغْنَم , فَلَمَّا اِنْقَسَمَتْ نِيَّته اِنْحَطَّ أَجْره ; فَقَدْ دَلَّتْ السُّنَّة عَلَى أَنَّ لِلْغَانِمِ أَجْرًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَاب فَلَا تَعَارُض . ثُمَّ قِيلَ : إِنْ نَقَصَ أَجْر الْغَانِم عَلَى مَنْ يَغْنَم إِنَّمَا هُوَ بِمَا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا فَتَمَتَّعَ بِهِ وَأَزَالَ عَنْ نَفْسه شَظَفَ عَيْشه ; وَمَنْ أَخْفَقَ فَلَمْ يُصِبْ شَيْئًا بَقِيَ عَلَى شَظَفِ عَيْشه وَالصَّبْر عَلَى حَالَته , فَبَقِيَ أَجْره مُوَفَّرًا بِخِلَافِ الْأَوَّل . وَمِثْله قَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر : ( فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُل مِنْ أَجْره شَيْئًا - مِنْهُمْ مُصْعَب بْن عُمَيْر - وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدُبُهَا ) .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيل اللَّه " شَرْط . " فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِب " عَطْف عَلَيْهِ , وَالْمُجَازَاة " فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " . وَمَعْنَى " فَيُقْتَل " فَيُسْتَشْهَد . " أَوْ يَغْلِب " يَظْفَر فَيَغْنَم . وَقَرَأَتْ طَائِفَة " وَمَنْ يُقَاتِلْ " " فَلْيُقَاتِلْ " بِسُكُونِ لَام الْأَمْر . وَقَرَأَتْ فِرْقَة " فَلْيُقَاتِلْ " بِكَسْرِ لَام الْأَمْر . فَذَكَرَ تَعَالَى غَايَتَيْ حَالَة الْمُقَاتِل وَاكْتَفَى بِالْغَايَتَيْنِ عَمَّا بَيْنَهُمَا ; ذَكَرَهُ اِبْن عَطِيَّة .
الثَّالِثَة : ظَاهِر الْآيَة يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَيْنَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا أَوْ اِنْقَلَبَ غَانِمًا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَضَمَّنَ اللَّه لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيله لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَاد فِي سَبِيلِي وَإِيمَان بِي وَتَصْدِيق بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِن أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّة أَوْ أُرْجِعهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْر أَوْ غَنِيمَة ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَفِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ غَازِيَة تَغْزُو فِي سَبِيل اللَّه فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَة إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرهمْ مِنْ الْآخِرَة وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُث وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَة تَمَّ لَهُمْ أَجْرهمْ ) . فَقَوْله : ( نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْر أَوْ غَنِيمَة ) يَقْتَضِي أَنَّ لِمَنْ يُسْتَشْهَدُ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ ; إِمَّا الْأَجْر إِنْ لَمْ يَغْنَم , وَإِمَّا الْغَنِيمَة وَلَا أَجْر , بِخِلَافِ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو , وَلَمَّا كَانَ هَذَا قَالَ قَوْمٌ : حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ فِي إِسْنَاده حُمَيْد بْن هَانِئ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ , وَرَجَّحُوا الْحَدِيث الْأَوَّل عَلَيْهِ لِشُهْرَتِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُض وَلَا اِخْتِلَاف . و " أَوْ " فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة بِمَعْنَى الْوَاو , كَمَا يَقُول الْكُوفِيُّونَ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : ( مِنْ أَجْر وَغَنِيمَة ) بِالْوَاوِ الْجَامِعَة . وَقَدْ رَوَاهُ بَعْض رُوَاةِ مُسْلِم بِالْوَاوِ الْجَامِعَة أَيْضًا . وَحُمَيْد بْن هَانِئ مِصْرِيٌّ سَمِعَ أَبَا عَبْد الرَّحْمَن الْحُبُلِيّ وَعَمْرو بْن مَالِك , وَرَوَى عَنْهُ حَيْوَة بْن شُرَيْح وَابْن وَهْب ; فَالْحَدِيث الْأَوَّل مَحْمُول عَلَى مُجَرَّد النِّيَّة وَالْإِخْلَاص فِي الْجِهَاد ; فَذَلِكَ الَّذِي ضَمِنَ اللَّه لَهُ إِمَّا الشَّهَادَة , وَإِمَّا رَدُّهُ إِلَى أَهْله مَأْجُورًا غَانِمًا , وَيُحْمَل الثَّانِي عَلَى مَا إِذَا نَوَى الْجِهَاد وَلَكِنْ مَعَ نَيْل الْمَغْنَم , فَلَمَّا اِنْقَسَمَتْ نِيَّته اِنْحَطَّ أَجْره ; فَقَدْ دَلَّتْ السُّنَّة عَلَى أَنَّ لِلْغَانِمِ أَجْرًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَاب فَلَا تَعَارُض . ثُمَّ قِيلَ : إِنْ نَقَصَ أَجْر الْغَانِم عَلَى مَنْ يَغْنَم إِنَّمَا هُوَ بِمَا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا فَتَمَتَّعَ بِهِ وَأَزَالَ عَنْ نَفْسه شَظَفَ عَيْشه ; وَمَنْ أَخْفَقَ فَلَمْ يُصِبْ شَيْئًا بَقِيَ عَلَى شَظَفِ عَيْشه وَالصَّبْر عَلَى حَالَته , فَبَقِيَ أَجْره مُوَفَّرًا بِخِلَافِ الْأَوَّل . وَمِثْله قَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر : ( فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُل مِنْ أَجْره شَيْئًا - مِنْهُمْ مُصْعَب بْن عُمَيْر - وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدُبُهَا ) .
وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ↓
حَضٌّ عَلَى الْجِهَاد , وَهُوَ يَتَضَمَّن تَخْلِيص الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَة الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسُومُونَهُمْ سُوء الْعَذَاب , وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ الدِّين ; فَأَوْجَبَ تَعَالَى الْجِهَاد لِإِعْلَاءِ كَلِمَته وَإِظْهَار دِينِهِ وَاسْتِنْقَاذ الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاء مِنْ عِبَاده , وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَلَف النُّفُوس . وَتَخْلِيص الْأُسَارَى وَاجِب عَلَى جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ إِمَّا بِالْقِتَالِ وَإِمَّا بِالْأَمْوَالِ ; وَذَلِكَ أَوْجَبُ لِكَوْنِهَا دُون النُّفُوس إِذْ هِيَ أَهْوَن مِنْهَا . قَالَ مَالِك : وَاجِب عَلَى النَّاس أَنْ يَفْدُوا الْأُسَارَى بِجَمِيعِ أَمْوَالهمْ . وَهَذَا لَا خِلَاف فِيهِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ( فُكُّوا الْعَانِيَ ) وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " . وَكَذَلِكَ قَالُوا : عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَاسُوهُمْ فَإِنَّ الْمُوَاسَاة دُون الْمُفَادَاة . فَإِنْ كَانَ الْأَسِير غَنِيًّا فَهَلْ يَرْجِع عَلَيْهِ الْفَادِي أَمْ لَا ; قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ , أَصَحّهمَا الرُّجُوع .
عَطْف عَلَى اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , أَيْ وَفِي سَبِيل الْمُسْتَضْعَفِينَ , فَإِنَّ خَلَاص الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ سَبِيل اللَّه . وَهَذَا اِخْتِيَار الزَّجَّاج وَقَالَ الزُّهْرِيّ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : أَخْتَار أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ فَيَكُون عَطْفًا عَلَى السَّبِيل ; أَيْ وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ ; فَالسَّبِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ . وَيَعْنِي بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ كَانَ بِمَكَّة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ تَحْت إِذْلَال كَفَرَةِ قُرَيْش وَأَذَاهُمْ وَهُمْ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيد بْن الْوَلِيد وَسَلَمَة بْن هِشَام وَعَيَّاش بْن أَبِي رَبِيعه وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كُنْت أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ . فِي الْبُخَارِيّ عَنْهُ " إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَان " فَقَالَ : كُنْت أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّه , أَنَا مِنْ الْوِلْدَان وَأُمِّي مِنْ النِّسَاء .
الْقَرْيَة هُنَا مَكَّة بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ . وَوَصْفهَا بِالظُّلْمِ وَإِنْ كَانَ الْفِعْل لِلْأَهْلِ لِعُلْقَةِ الضَّمِير . وَهَذَا كَمَا تَقُول : مَرَرْت بِالرَّجُلِ الْوَاسِعَةِ دَارُهُ , وَالْكَرِيم أَبُوهُ , وَالْحَسَنَة جَارِيَته . وَأَنَّمَا وَصَفَ الرَّجُل بِهَا لِلْعُلْقَةِ اللَّفْظِيَّة بَيْنهمَا وَهُوَ الضَّمِير , فَلَوْ قُلْت : مَرَرْت بِالرَّجُلِ الْكَرِيم عَمْرو لَمْ تَجُزْ الْمَسْأَلَة ; لِأَنَّ الْكَرَم لِعَمْرٍو فَلَا يَجُوز أَنْ يُجْعَل صِفَة لِرَجُلٍ إِلَّا بِعُلْقَةٍ وَهِيَ الْهَاء . وَلَا تُثَنَّى هَذِهِ الصِّفَة وَلَا تُجْمَع , لِأَنَّهَا تَقُوم مَقَام الْفِعْل , فَالْمَعْنَى أَيْ الَّتِي ظَلَمَ أَهْلهَا وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ الظَّالِمِينَ . وَتَقُول : مَرَرْت بِرَجُلَيْنِ كَرِيم أَبَوَاهُمَا حَسَنَة جَارِيَتَاهُمَا , وَبِرِجَالٍ كَرِيم آبَاؤُهُمْ حَسَنَة جَوَارِيهمْ .
أَيْ مِنْ عِنْدك .
أَيْ مَنْ يَسْتَنْقِذُنَا
أَيْ يَنْصُرنَا عَلَيْهِمْ .
عَطْف عَلَى اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , أَيْ وَفِي سَبِيل الْمُسْتَضْعَفِينَ , فَإِنَّ خَلَاص الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ سَبِيل اللَّه . وَهَذَا اِخْتِيَار الزَّجَّاج وَقَالَ الزُّهْرِيّ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : أَخْتَار أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ فَيَكُون عَطْفًا عَلَى السَّبِيل ; أَيْ وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ ; فَالسَّبِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ . وَيَعْنِي بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ كَانَ بِمَكَّة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ تَحْت إِذْلَال كَفَرَةِ قُرَيْش وَأَذَاهُمْ وَهُمْ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيد بْن الْوَلِيد وَسَلَمَة بْن هِشَام وَعَيَّاش بْن أَبِي رَبِيعه وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كُنْت أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ . فِي الْبُخَارِيّ عَنْهُ " إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَان " فَقَالَ : كُنْت أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّه , أَنَا مِنْ الْوِلْدَان وَأُمِّي مِنْ النِّسَاء .
الْقَرْيَة هُنَا مَكَّة بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ . وَوَصْفهَا بِالظُّلْمِ وَإِنْ كَانَ الْفِعْل لِلْأَهْلِ لِعُلْقَةِ الضَّمِير . وَهَذَا كَمَا تَقُول : مَرَرْت بِالرَّجُلِ الْوَاسِعَةِ دَارُهُ , وَالْكَرِيم أَبُوهُ , وَالْحَسَنَة جَارِيَته . وَأَنَّمَا وَصَفَ الرَّجُل بِهَا لِلْعُلْقَةِ اللَّفْظِيَّة بَيْنهمَا وَهُوَ الضَّمِير , فَلَوْ قُلْت : مَرَرْت بِالرَّجُلِ الْكَرِيم عَمْرو لَمْ تَجُزْ الْمَسْأَلَة ; لِأَنَّ الْكَرَم لِعَمْرٍو فَلَا يَجُوز أَنْ يُجْعَل صِفَة لِرَجُلٍ إِلَّا بِعُلْقَةٍ وَهِيَ الْهَاء . وَلَا تُثَنَّى هَذِهِ الصِّفَة وَلَا تُجْمَع , لِأَنَّهَا تَقُوم مَقَام الْفِعْل , فَالْمَعْنَى أَيْ الَّتِي ظَلَمَ أَهْلهَا وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ الظَّالِمِينَ . وَتَقُول : مَرَرْت بِرَجُلَيْنِ كَرِيم أَبَوَاهُمَا حَسَنَة جَارِيَتَاهُمَا , وَبِرِجَالٍ كَرِيم آبَاؤُهُمْ حَسَنَة جَوَارِيهمْ .
أَيْ مِنْ عِنْدك .
أَيْ مَنْ يَسْتَنْقِذُنَا
أَيْ يَنْصُرنَا عَلَيْهِمْ .
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ↓
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْكِسَائِيّ : الطَّاغُوت يُذَكَّر وَيُؤَنَّث . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَإِنَّمَا ذُكِّرَ وَأُنِّثَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْكَاهِن وَالْكَاهِنَة طَاغُوتًا . قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاج عَنْ اِبْن جُرَيْج قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْر أَنَّهُ سَمِعَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَسُئِلَ عَنْ الطَّاغُوت الَّتِي كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا فَقَالَ : كَانَتْ فِي جُهَيْنَة وَاحِدَة وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدَة , وَفِي كُلّ حَيّ وَاحِدَة . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : الدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ الشَّيْطَان قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاء الشَّيْطَان إِنَّ كَيْد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفًا " أَيْ مَكْرَهُ وَمَكْرَ مَنْ اِتَّبَعَهُ . وَيُقَال : أَرَادَ بِهِ يَوْم بَدْر حِينَ قَالَ لِلْمُشْرِكِينَ " لَا غَالِب لَكُمْ الْيَوْم مِنْ النَّاس وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُمْ " [ الْأَنْفَال : 48 ] عَلَى مَا يَأْتِي .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ↓
رَوَى عَمْرو بْن دِينَار عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة فَقَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه , كُنَّا فِي عِزّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ , فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّة ؟ فَقَالَ : ( إِنِّي أُمِرْت بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْم ) . فَلَمَّا حَوَّلَ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْمَدِينَة أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا , فَنَزَلَتْ الْآيَة . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ فِي سُنَنه , وَقَالَهُ الْكَلْبِيّ . وَقَالَ مُجَاهِد : هُمْ يَهُود . قَالَ الْحَسَن : هِيَ فِي الْمُؤْمِنِينَ ; لِقَوْلِهِ : " يَخْشَوْنَ النَّاس " أَيْ مُشْرِكِي مَكَّة " كَخَشْيَةِ اللَّه " فَهِيَ عَلَى مَا طُبِعَ عَلَيْهِ الْبَشَر مِنْ الْمَخَافَة لَا عَلَى الْمُخَالَفَة . قَالَ السُّدِّيّ : هُمْ قَوْم أَسْلَمُوا قَبْل فَرْض الْقِتَال فَلَمَّا فُرِضَ كَرِهُوهُ . وَقِيلَ : هُوَ وَصْف لِلْمُنَافِقِينَ ; وَالْمَعْنَى يَخْشَوْنَ الْقَتْل مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَخْشَوْنَ الْمَوْت مِنْ اللَّه . " أَوْ أَشَدّ خَشْيَة " أَيْ عِنْدهمْ وَفِي اِعْتِقَادهمْ .
قُلْت : وَهَذَا أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَة , لِقَوْلِهِ : " وَقَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَبْت عَلَيْنَا الْقِتَال لَوْلَا أَخَّرْتنَا إِلَى أَجَل قَرِيب " أَيْ هَلَّا , وَلَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْل . وَمَعَاذ اللَّه أَنْ يَصْدُر هَذَا الْقَوْل مِنْ صَحَابِيّ كَرِيم يَعْلَم أَنَّ الْآجَال مَحْدُودَةٌ وَالْأَرْزَاقَ مَقْسُومَةٌ , بَلْ كَانُوا لِأَوَامِر اللَّه مُمْتَثِلِينَ سَامِعِينَ طَائِعِينَ , يَرَوْنَ الْوُصُول إِلَى الدَّار الْآجِلَة خَيْرًا مِنْ الْمَقَام فِي الدَّار الْعَاجِلَة , عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مِنْ سِيرَتِهِمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُون قَائِلُهُ مِمَّنْ لَمْ يَرْسَخْ فِي الْإِيمَان قَدَمُهُ , وَلَا اِنْشَرَحَ بِالْإِسْلَامِ جَنَانُهُ , فَإِنَّ أَهْل الْإِيمَان مُتَفَاضِلُونَ فَمِنْهُمْ الْكَامِل وَمِنْهُمْ النَّاقِص , وَهُوَ الَّذِي تَنْفِر نَفْسه عَمَّا يُؤْمَر بِهِ فِيمَا تَلْحَقُهُ فِيهِ الْمَشَقَّة وَتُدْرِكُهُ فِيهِ الشِّدَّة . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله تَعَالَى : " قُلْ مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل " اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَكَذَا " وَالْآخِرَة خَيْر لِمَنْ اِتَّقَى " أَيْ الْمَعَاصِي ; وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي " الْبَقَرَة " وَمَتَاع الدُّنْيَا مَنْفَعَتهَا وَالِاسْتِمْتَاع بِلَذَّاتِهَا وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّهُ لَا بَقَاء لَهُ . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَثَلِي وَمَثَل الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ قَيْلُولَةً تَحْت شَجَرَة ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى .
قُلْت : وَهَذَا أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَة , لِقَوْلِهِ : " وَقَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَبْت عَلَيْنَا الْقِتَال لَوْلَا أَخَّرْتنَا إِلَى أَجَل قَرِيب " أَيْ هَلَّا , وَلَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْل . وَمَعَاذ اللَّه أَنْ يَصْدُر هَذَا الْقَوْل مِنْ صَحَابِيّ كَرِيم يَعْلَم أَنَّ الْآجَال مَحْدُودَةٌ وَالْأَرْزَاقَ مَقْسُومَةٌ , بَلْ كَانُوا لِأَوَامِر اللَّه مُمْتَثِلِينَ سَامِعِينَ طَائِعِينَ , يَرَوْنَ الْوُصُول إِلَى الدَّار الْآجِلَة خَيْرًا مِنْ الْمَقَام فِي الدَّار الْعَاجِلَة , عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مِنْ سِيرَتِهِمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُون قَائِلُهُ مِمَّنْ لَمْ يَرْسَخْ فِي الْإِيمَان قَدَمُهُ , وَلَا اِنْشَرَحَ بِالْإِسْلَامِ جَنَانُهُ , فَإِنَّ أَهْل الْإِيمَان مُتَفَاضِلُونَ فَمِنْهُمْ الْكَامِل وَمِنْهُمْ النَّاقِص , وَهُوَ الَّذِي تَنْفِر نَفْسه عَمَّا يُؤْمَر بِهِ فِيمَا تَلْحَقُهُ فِيهِ الْمَشَقَّة وَتُدْرِكُهُ فِيهِ الشِّدَّة . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله تَعَالَى : " قُلْ مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل " اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَكَذَا " وَالْآخِرَة خَيْر لِمَنْ اِتَّقَى " أَيْ الْمَعَاصِي ; وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي " الْبَقَرَة " وَمَتَاع الدُّنْيَا مَنْفَعَتهَا وَالِاسْتِمْتَاع بِلَذَّاتِهَا وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّهُ لَا بَقَاء لَهُ . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَثَلِي وَمَثَل الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ قَيْلُولَةً تَحْت شَجَرَة ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى .
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ↓
قَوْله تَعَالَى : " أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْت " شَرْط وَمُجَازَاة , و " مَا " زَائِدَة وَهَذَا الْخِطَاب عَامّ وَإِنْ كَانَ الْمُرَاد الْمُنَافِقِينَ أَوْ ضَعَفَة الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَالُوا : " لَوْلَا أَخَّرْتنَا إِلَى أَجَل قَرِيب " أَيْ إِلَى أَنْ نَمُوت بِآجَالِنَا , وَهُوَ أَشْبَه الْمُنَافِقِينَ كَمَا ذَكَرْنَا , لِقَوْلِهِمْ لَمَّا أُصِيبَ أَهْل أُحُد , قَالُوا : " لَوْ كَانُوا عِنْدنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا " [ آل عِمْرَان : 156 ] فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ " أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْت وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة " قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْهُ . وَوَاحِد الْبُرُوج بُرْج , وَهُوَ الْبِنَاء الْمُرْتَفِع وَالْقَصْر الْعَظِيم . قَالَ طَرَفَة يَصِف نَاقَة : كَأَنَّهَا بُرْج رُومِيّ تَكَفَّفَهَا بَانٍ بِشِيدٍ وَآجُرٍّ وَأَحْجَارِ وَقَرَأَ طَلْحَة بْن سُلَيْمَان " يُدْرِكُكُمْ " بِرَفْعِ الْكَاف عَلَى إِضْمَار الْفَاء , وَهُوَ قَلِيل لَمْ يَأْتِ إِلَّا فِي الشِّعْر نَحْو قَوْله : مَنْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا أَرَادَ فَاَللَّه يَشْكُرُهَا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء وَأَهْل التَّأْوِيل فِي الْمُرَاد بِهَذِهِ الْبُرُوج , فَقَالَ الْأَكْثَر وَهُوَ الْأَصَحّ . إِنَّهُ أَرَادَ الْبُرُوج فِي الْحُصُون الَّتِي فِي الْأَرْض الْمَبْنِيَّة , لِأَنَّهَا غَايَة الْبَشَر فِي التَّحَصُّن وَالْمَنَعَة , فَمَثَّلَ اللَّه لَهُمْ بِهَا . وَقَالَ قَتَادَة : فِي قُصُور مُحَصَّنَة . وَقَالَهُ اِبْن جُرَيْج وَالْجُمْهُور , وَمِنْهُ قَوْل عَامِر بْن الطُّفَيْل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ لَك فِي حِصْن حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ ؟ وَقَالَ مُجَاهِد : الْبُرُوج الْقُصُور . اِبْن عَبَّاس : الْبُرُوج الْحُصُون وَالْآطَام وَالْقِلَاع . وَمَعْنَى " مُشَيَّدَة " مُطَوَّلَة , قَالَهُ الزَّجَّاج وَالْقُتَبِيّ . عِكْرِمَة : الْمُزَيَّنَة بِالشِّيدِ وَهُوَ الْجِصّ . قَالَ قَتَادَة : مُحَصَّنَة . وَالْمَشِيد وَالْمُشَيَّد سَوَاء , وَمِنْهُ " وَقَصْرٍ مَشِيد " [ الْحَجّ : 45 ] وَالتَّشْدِيد لِلتَّكْثِيرِ . وَقِيلَ الْمُشَيَّد الْمُطَوَّل , وَالْمَشِيد الْمَطْلِيّ بِالشِّيدِ . يُقَال : شَادَ الْبُنْيَان وَأَشَادَ بِذِكْرِهِ . وَقَالَ السُّدِّيّ : الْمُرَاد بِالْبُرُوجِ بُرُوج فِي السَّمَاء الدُّنْيَا مَبْنِيَّة . وَحَكَى هَذَا الْقَوْل مَكِّيّ عَنْ مَالِك وَأَنَّهُ قَالَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى : " وَالسَّمَاء ذَات الْبُرُوج " [ الْبُرُوج : 1 ] و " جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا " [ الْفُرْقَان : 61 ] " وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا " [ الْحَجَر : 16 ] . وَحَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ أَيْضًا عَنْ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك . وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : " فِي بُرُوج مُشَيَّدَة " مَعْنَاهُ فِي قُصُور مِنْ حَدِيد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا لَا يُعْطِيهِ ظَاهِر اللَّفْظ .
هَذِهِ الْآيَة تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّة فِي الْآجَال , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْت وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة " فَعَرَّفَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ الْآجَال مَتَى اِنْقَضَتْ فَلَا بُدّ مِنْ مُفَارَقَة الرُّوحِ الْجَسَدَ , كَانَ ذَلِكَ بِقَتْلٍ أَوْ مَوْت أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا أَجْرَى اللَّه الْعَادَة بِزُهُوقِهَا بِهِ . وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة : إِنَّ الْمَقْتُول لَوْ لَمْ يَقْتُلهُ الْقَاتِل لَعَاشَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدّ عَلَيْهِمْ فِي " آل عِمْرَان " وَيَأْتِي فَوَافَقُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ .
اِتِّخَاذ الْبِلَاد وَبِنَائِهَا لِيَمْتَنِع بِهَا فِي حِفْظ الْأَمْوَال وَالنُّفُوس , وَهِيَ سُنَّة اللَّه فِي عِبَاده . وَفِي ذَلِكَ أَدَلّ دَلِيل عَلَى رَدّ قَوْل مَنْ يَقُول : التَّوَكُّل تَرْك الْأَسْبَاب , فَإِنَّ اِتِّخَاذ الْبِلَاد مِنْ أَكْبَر الْأَسْبَاب وَأَعْظَمهَا وَقَدْ أُمِرْنَا بِهَا , وَاِتَّخَذَهَا الْأَنْبِيَاء وَحَفَرُوا حَوْلهَا الْخَنَادِق عُدَّةً وَزِيَادَة فِي التَّمَنُّع . وَقَدْ قِيلَ لِلْأَحْنَفِ : مَا حِكْمَة السُّور ؟ فَقَالَ : لِيَرْدَعَ السَّفِيهَ حَتَّى يَأْتِيَ الْحَكِيم فَيَحْمِيهِ . الرَّابِعَة : وَإِذَا تَنَزَّلْنَا عَلَى قَوْل مَالِك وَالسُّدِّيّ فِي أَنَّهَا بُرُوج السَّمَاء , فَبُرُوج الْفَلَك اِثْنَا عَشَرَ بُرْجًا مُشَيَّدَة مِنْ الرَّفْع , وَهِيَ الْكَوَاكِب الْعِظَام . وَقِيلَ لِلْكَوَاكِبِ بُرُوج لِظُهُورِهَا , مِنْ بَرِجَ يَبْرَج إِذَا ظَهَرَ وَارْتَفَعَ ; وَمِنْهُ قَوْله : " وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّج الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى " [ الْأَحْزَاب : 33 ] وَخَلَقَهَا اللَّه تَعَالَى مَنَازِل لِلشَّمْسِ وَالْقَمَر وَقَدَّرَهُ فِيهَا , وَرَتَّبَ الْأَزْمِنَة عَلَيْهَا , وَجَعَلَهَا جَنُوبِيَّة وَشَمَالِيَّة دَلِيلًا عَلَى الْمَصَالِح وَعَلَمًا عَلَى الْقِبْلَة , وَطَرِيقًا إِلَى تَحْصِيل آنَاء اللَّيْل وَآنَاء النَّهَار لِمَعْرِفَةِ أَوْقَات التَّهَجُّد غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْوَال الْمَعَاش .
" وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَة يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْد اللَّه " أَيْ إِنْ يُصِبْ الْمُنَافِقِينَ خِصْب قَالُوا : هَذَا مِنْ عِنْد اللَّه . " وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة " أَيْ جَدْب وَمَحْل قَالُوا : هَذَا مِنْ عِنْدك , أَيْ أَصَابَنَا ذَلِكَ بِشُؤْمِك وَشُؤْم أَصْحَابك . وَقِيلَ : الْحَسَنَة السَّلَامَة وَالْأَمْن , وَالسَّيِّئَة الْأَمْرَاض وَالْخَوْف . وَقِيلَ : الْحَسَنَة الْغِنَى , وَالسَّيِّئَة الْفَقْر . وَقِيلَ : الْحَسَنَة النِّعْمَة وَالْفَتْح وَالْغَنِيمَة يَوْم بَدْر , وَالسَّيِّئَة الْبَلِيَّة وَالشِّدَّة وَالْقَتْل يَوْم أُحُد . وَقِيلَ : الْحَسَنَة السَّرَّاء , وَالسَّيِّئَة الضَّرَّاء . هَذِهِ أَقْوَال الْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاء التَّأْوِيل - اِبْن عَبَّاس وَغَيْره - فِي الْآيَة . وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ , وَذَلِكَ أَنَّهَا لَمَّا قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة عَلَيْهِمْ قَالُوا : مَا زِلْنَا نَعْرِف النَّقْص فِي ثِمَارنَا وَمَزَارِعنَا مُذْ قَدِمَ عَلَيْنَا هَذَا الرَّجُل وَأَصْحَابه . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَمَعْنَى " مِنْ عِنْدك " أَيْ بِسُوءِ تَدْبِيرك . وَقِيلَ : " مِنْ عِنْدك " بِشُؤْمِك , كَمَا ذَكَرْنَا , أَيْ بِشُؤْمِك الَّذِي لَحِقَنَا , قَالُوهُ عَلَى جِهَة التَّطَيُّر .
أَيْ الشِّدَّة وَالرَّخَاء وَالظَّفَر وَالْهَزِيمَة مِنْ عِنْد اللَّه , أَيْ بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَره .
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ
أَيْ مَا شَأْنُهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْد اللَّه .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء وَأَهْل التَّأْوِيل فِي الْمُرَاد بِهَذِهِ الْبُرُوج , فَقَالَ الْأَكْثَر وَهُوَ الْأَصَحّ . إِنَّهُ أَرَادَ الْبُرُوج فِي الْحُصُون الَّتِي فِي الْأَرْض الْمَبْنِيَّة , لِأَنَّهَا غَايَة الْبَشَر فِي التَّحَصُّن وَالْمَنَعَة , فَمَثَّلَ اللَّه لَهُمْ بِهَا . وَقَالَ قَتَادَة : فِي قُصُور مُحَصَّنَة . وَقَالَهُ اِبْن جُرَيْج وَالْجُمْهُور , وَمِنْهُ قَوْل عَامِر بْن الطُّفَيْل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ لَك فِي حِصْن حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ ؟ وَقَالَ مُجَاهِد : الْبُرُوج الْقُصُور . اِبْن عَبَّاس : الْبُرُوج الْحُصُون وَالْآطَام وَالْقِلَاع . وَمَعْنَى " مُشَيَّدَة " مُطَوَّلَة , قَالَهُ الزَّجَّاج وَالْقُتَبِيّ . عِكْرِمَة : الْمُزَيَّنَة بِالشِّيدِ وَهُوَ الْجِصّ . قَالَ قَتَادَة : مُحَصَّنَة . وَالْمَشِيد وَالْمُشَيَّد سَوَاء , وَمِنْهُ " وَقَصْرٍ مَشِيد " [ الْحَجّ : 45 ] وَالتَّشْدِيد لِلتَّكْثِيرِ . وَقِيلَ الْمُشَيَّد الْمُطَوَّل , وَالْمَشِيد الْمَطْلِيّ بِالشِّيدِ . يُقَال : شَادَ الْبُنْيَان وَأَشَادَ بِذِكْرِهِ . وَقَالَ السُّدِّيّ : الْمُرَاد بِالْبُرُوجِ بُرُوج فِي السَّمَاء الدُّنْيَا مَبْنِيَّة . وَحَكَى هَذَا الْقَوْل مَكِّيّ عَنْ مَالِك وَأَنَّهُ قَالَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى : " وَالسَّمَاء ذَات الْبُرُوج " [ الْبُرُوج : 1 ] و " جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا " [ الْفُرْقَان : 61 ] " وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا " [ الْحَجَر : 16 ] . وَحَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ أَيْضًا عَنْ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك . وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : " فِي بُرُوج مُشَيَّدَة " مَعْنَاهُ فِي قُصُور مِنْ حَدِيد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا لَا يُعْطِيهِ ظَاهِر اللَّفْظ .
هَذِهِ الْآيَة تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّة فِي الْآجَال , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْت وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة " فَعَرَّفَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ الْآجَال مَتَى اِنْقَضَتْ فَلَا بُدّ مِنْ مُفَارَقَة الرُّوحِ الْجَسَدَ , كَانَ ذَلِكَ بِقَتْلٍ أَوْ مَوْت أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا أَجْرَى اللَّه الْعَادَة بِزُهُوقِهَا بِهِ . وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة : إِنَّ الْمَقْتُول لَوْ لَمْ يَقْتُلهُ الْقَاتِل لَعَاشَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدّ عَلَيْهِمْ فِي " آل عِمْرَان " وَيَأْتِي فَوَافَقُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ .
اِتِّخَاذ الْبِلَاد وَبِنَائِهَا لِيَمْتَنِع بِهَا فِي حِفْظ الْأَمْوَال وَالنُّفُوس , وَهِيَ سُنَّة اللَّه فِي عِبَاده . وَفِي ذَلِكَ أَدَلّ دَلِيل عَلَى رَدّ قَوْل مَنْ يَقُول : التَّوَكُّل تَرْك الْأَسْبَاب , فَإِنَّ اِتِّخَاذ الْبِلَاد مِنْ أَكْبَر الْأَسْبَاب وَأَعْظَمهَا وَقَدْ أُمِرْنَا بِهَا , وَاِتَّخَذَهَا الْأَنْبِيَاء وَحَفَرُوا حَوْلهَا الْخَنَادِق عُدَّةً وَزِيَادَة فِي التَّمَنُّع . وَقَدْ قِيلَ لِلْأَحْنَفِ : مَا حِكْمَة السُّور ؟ فَقَالَ : لِيَرْدَعَ السَّفِيهَ حَتَّى يَأْتِيَ الْحَكِيم فَيَحْمِيهِ . الرَّابِعَة : وَإِذَا تَنَزَّلْنَا عَلَى قَوْل مَالِك وَالسُّدِّيّ فِي أَنَّهَا بُرُوج السَّمَاء , فَبُرُوج الْفَلَك اِثْنَا عَشَرَ بُرْجًا مُشَيَّدَة مِنْ الرَّفْع , وَهِيَ الْكَوَاكِب الْعِظَام . وَقِيلَ لِلْكَوَاكِبِ بُرُوج لِظُهُورِهَا , مِنْ بَرِجَ يَبْرَج إِذَا ظَهَرَ وَارْتَفَعَ ; وَمِنْهُ قَوْله : " وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّج الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى " [ الْأَحْزَاب : 33 ] وَخَلَقَهَا اللَّه تَعَالَى مَنَازِل لِلشَّمْسِ وَالْقَمَر وَقَدَّرَهُ فِيهَا , وَرَتَّبَ الْأَزْمِنَة عَلَيْهَا , وَجَعَلَهَا جَنُوبِيَّة وَشَمَالِيَّة دَلِيلًا عَلَى الْمَصَالِح وَعَلَمًا عَلَى الْقِبْلَة , وَطَرِيقًا إِلَى تَحْصِيل آنَاء اللَّيْل وَآنَاء النَّهَار لِمَعْرِفَةِ أَوْقَات التَّهَجُّد غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْوَال الْمَعَاش .
" وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَة يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْد اللَّه " أَيْ إِنْ يُصِبْ الْمُنَافِقِينَ خِصْب قَالُوا : هَذَا مِنْ عِنْد اللَّه . " وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة " أَيْ جَدْب وَمَحْل قَالُوا : هَذَا مِنْ عِنْدك , أَيْ أَصَابَنَا ذَلِكَ بِشُؤْمِك وَشُؤْم أَصْحَابك . وَقِيلَ : الْحَسَنَة السَّلَامَة وَالْأَمْن , وَالسَّيِّئَة الْأَمْرَاض وَالْخَوْف . وَقِيلَ : الْحَسَنَة الْغِنَى , وَالسَّيِّئَة الْفَقْر . وَقِيلَ : الْحَسَنَة النِّعْمَة وَالْفَتْح وَالْغَنِيمَة يَوْم بَدْر , وَالسَّيِّئَة الْبَلِيَّة وَالشِّدَّة وَالْقَتْل يَوْم أُحُد . وَقِيلَ : الْحَسَنَة السَّرَّاء , وَالسَّيِّئَة الضَّرَّاء . هَذِهِ أَقْوَال الْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاء التَّأْوِيل - اِبْن عَبَّاس وَغَيْره - فِي الْآيَة . وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ , وَذَلِكَ أَنَّهَا لَمَّا قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة عَلَيْهِمْ قَالُوا : مَا زِلْنَا نَعْرِف النَّقْص فِي ثِمَارنَا وَمَزَارِعنَا مُذْ قَدِمَ عَلَيْنَا هَذَا الرَّجُل وَأَصْحَابه . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَمَعْنَى " مِنْ عِنْدك " أَيْ بِسُوءِ تَدْبِيرك . وَقِيلَ : " مِنْ عِنْدك " بِشُؤْمِك , كَمَا ذَكَرْنَا , أَيْ بِشُؤْمِك الَّذِي لَحِقَنَا , قَالُوهُ عَلَى جِهَة التَّطَيُّر .
أَيْ الشِّدَّة وَالرَّخَاء وَالظَّفَر وَالْهَزِيمَة مِنْ عِنْد اللَّه , أَيْ بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَره .
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ
أَيْ مَا شَأْنُهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْد اللَّه .
مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ↓
أَيْ مَا أَصَابَك يَا مُحَمَّد مِنْ خِصْب وَرَخَاء وَصِحَّة وَسَلَامَة فَبِفَضْلِ اللَّه عَلَيْك وَإِحْسَانه إِلَيْك , وَمَا أَصَابَك مِنْ جَدْب وَشِدَّة فَبِذَنْبٍ أَتَيْته عُوقِبْت عَلَيْهِ . وَالْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته . أَيْ مَا أَصَابَكُمْ يَا مَعْشَر النَّاس مِنْ خِصْب وَاتِّسَاع رِزْق فَمِنْ تَفَضُّل اللَّه عَلَيْكُمْ , وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ جَدْب وَضِيق رِزْق فَمِنْ أَنْفُسكُمْ ; أَيْ مِنْ أَجْل ذُنُوبكُمْ وَقَعَ ذَلِكَ بِكُمْ . قَالَهُ الْحَسَن وَالسُّدِّيّ وَغَيْرهمَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاء " [ الطَّلَاق : 1 ] . وَقَدْ قِيلَ : الْخِطَاب لِلْإِنْسَانِ وَالْمُرَاد بِهِ الْجِنْس ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَالْعَصْر إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر " [ الْعَصْر : 1 - 2 ] أَيْ إِنَّ النَّاس لَفِي خُسْر , أَلَا تَرَاهُ اِسْتَثْنَى مِنْهُمْ فَقَالَ " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا " وَلَا يُسْتَثْنَى إِلَّا مِنْ جُمْلَة أَوْ جَمَاعَة . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَكُون قَوْله " مَا أَصَابَك " اِسْتِئْنَافًا . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره يَقُولُونَ ; وَعَلَيْهِ يَكُون الْكَلَام مُتَّصِلًا ; وَالْمَعْنَى فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا حَتَّى يَقُولُوا مَا أَصَابَك مِنْ حَسَنَة فَمِنْ اللَّه . وَقِيلَ : إِنَّ أَلِف الِاسْتِفْهَام مُضْمَرَة ; وَالْمَعْنَى أَفَمِنْ نَفْسك ؟ وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " وَتِلْكَ نِعْمَة تَمُنُّهَا عَلَيَّ " [ الشُّعَرَاء : 22 ] وَالْمَعْنَى أَوَتِلْكَ نِعْمَة ؟ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى : " فَلَمَّا رَأَى الْقَمَر بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي " [ الْأَنْعَام : 77 ] أَيْ أَهَذَا رَبِّي ؟ قَالَ أَبُو خِرَاش الْهُذَلِيّ : رَمَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِد لَمْ تُرَعِ فَقُلْت وَأَنْكَرْت الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ أَرَادَ " أَهُمْ " فَأَضْمَرَ أَلِف الِاسْتِفْهَام وَهُوَ كَثِير وَسَيَأْتِي . قَالَ الْأَخْفَش " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي . وَقِيلَ : هُوَ شَرْط . قَالَ النَّحَّاس : وَالصَّوَاب قَوْل الْأَخْفَش ; لِأَنَّهُ نَزَلَ فِي شَيْء بِعَيْنِهِ مِنْ الْجَدْب , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَعَاصِي فِي شَيْء وَلَوْ كَانَ مِنْهَا لَكَانَ وَمَا أَصَبْت مِنْ سَيِّئَة . وَرَوَى عَبْد الْوَهَّاب بْن مُجَاهِد عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأُبَيّ وَابْن مَسْعُود " مَا أَصَابَك مِنْ حَسَنَة فَمِنْ اللَّه وَمَا أَصَابَك مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسك وَأَنَا كَتَبْتهَا عَلَيْك " فَهَذِهِ قِرَاءَة عَلَى التَّفْسِير , وَقَدْ أَثْبَتَهَا بَعْض أَهْل الزَّيْغ مِنْ الْقُرْآن , وَالْحَدِيث بِذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَأُبَيّ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ مُجَاهِدًا لَمْ يَرَ عَبْد اللَّه وَلَا أُبَيًّا . وَعَلَى قَوْل مَنْ قَالَ : الْحَسَنَة الْفَتْح وَالْغَنِيمَة يَوْم بَدْر , وَالسَّيِّئَة مَا أَصَابَهُمْ يَوْم أُحُد ; أَنَّهُمْ عُوقِبُوا عِنْد خِلَاف الرُّمَاة الَّذِينَ أَمَرَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمُوا ظَهْرَهُ وَلَا يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانهمْ , فَرَأَوْا الْهَزِيمَة عَلَى قُرَيْش وَالْمُسْلِمُونَ يَغْنَمُونَ أَمْوَالَهُمْ فَتَرَكُوا مَصَافَّهُمْ , فَنَظَرَ خَالِد بْن الْوَلِيد ـ وَكَانَ مَعَ الْكُفَّار يَوْمَئِذٍ ـ ظَهْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اِنْكَشَفَ مِنْ الرُّمَاة فَأَخَذَ سَرِيَّة مِنْ الْخَيْل وَدَار حَتَّى صَارَ خَلْف الْمُسْلِمِينَ وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ , وَلَمْ يَكُنْ خَلْف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرُّمَاة إِلَّا صَاحِب الرَّايَة , حَفِظَ وَصِيَّةَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَ حَتَّى اُسْتُشْهِدَ مَكَانَهُ ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " آل عِمْرَان " بَيَانه . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى نَظِير هَذِهِ الْآيَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَة " [ آل عِمْرَان : 165 ] يَعْنِي يَوْم أُحُد " قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا " يَعْنِي يَوْم بَدْر " قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْد أَنْفُسكُمْ " . وَلَا يَجُوز أَنْ تَكُون الْحَسَنَة هَاهُنَا الطَّاعَة وَالسَّيِّئَة الْمَعْصِيَة كَمَا قَالَتْ الْقَدَرِيَّة ; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَا أَصَبْت كَمَا قَدَّمْنَا , إِذْ هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْل عِنْدهمْ وَالْكَسْب عِنْدَنَا , وَإِنَّمَا تَكُون الْحَسَنَة الطَّاعَة وَالسَّيِّئَة الْمَعْصِيَة فِي نَحْو قَوْله : " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا " [ الْأَنْعَام : 160 ] وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَة فَهِيَ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُنَا لَهُ مِنْ الْخِصْب وَالْجَدْب وَالرَّخَاء وَالشِّدَّة عَلَى نَحْو مَا جَاءَ فِي آيَة " الْأَعْرَاف " وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَقَدْ أَخَذْنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ وَنَقْص مِنْ الثَّمَرَات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ " [ الْأَعْرَاف : 130 ] . " بِالسِّنِينَ " بِالْجَدْبِ سَنَةً بَعْد سَنَة ; حُبِسَ الْمَطَر عَنْهُمْ فَنَقَصَتْ ثِمَارهمْ وَغَلَتْ أَسْعَارهمْ . " فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَة قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ " أَيْ يَتَشَاءَمُونَ بِهِمْ وَيَقُولُونَ هَذَا مِنْ أَجْل اِتِّبَاعِنَا لَك وَطَاعَتِنَا إِيَّاكَ ; فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : " أَلَا إِنَّمَا طَائِرهمْ عِنْد اللَّه " [ الْأَعْرَاف : 131 ] يَعْنِي أَنَّ طَائِر الْبَرَكَة وَطَائِر الشُّؤْم مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ وَالنَّفْع وَالضُّرّ مِنْ اللَّه تَعَالَى لَا صُنْع فِيهِ لِمَخْلُوقٍ ; فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : " وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدك قُلْ كُلّ مِنْ عِنْد اللَّه " كَمَا قَالَ : " أَلَا إِنَّمَا طَائِرهمْ عِنْد اللَّه " وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْم اِلْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّه " [ آل عِمْرَان : 166 ] أَيْ بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ وَعِلْمه , وَآيَات الْكِتَاب يَشْهَد بَعْضهَا لِبَعْضٍ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَمَنْ كَانَ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخَر فَلَا يَشُكّ فِي أَنَّ كُلّ شَيْء بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ وَإِرَادَته وَمَشِيئَته ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فِتْنَة " [ الْأَنْبِيَاء : 35 ] وَقَالَ تَعَالَى : " وَإِذَا أَرَادَ اللَّه بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونَهُ مِنْ وَالٍ " [ الرَّعْد : 11 ] .
مَسْأَلَة : وَقَدْ تَجَاذَبَ بَعْض جُهَّال أَهْل السُّنَّة هَذِهِ الْآيَة وَاحْتَجَّ بِهَا ; كَمَا تَجَاذَبَهَا الْقَدَرِيَّة وَاحْتَجُّوا بِهَا , وَوَجْه اِحْتِجَاجهمْ بِهَا أَنَّ الْقَدَرِيَّة يَقُولُونَ : إِنَّ الْحَسَنَة هَا هُنَا الطَّاعَة , وَالسَّيِّئَة الْمَعْصِيَة ; قَالُوا : وَقَدْ نَسَبَ الْمَعْصِيَة فِي قَوْله تَعَالَى : " وَمَا أَصَابَك مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسك " إِلَى الْإِنْسَان دُون اللَّه تَعَالَى ; فَهَذَا وَجْه تَعَلُّقهمْ بِهَا . وَوَجْه تَعَلُّق الْآخَرِينَ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى : " قُلْ كُلّ مِنْ عِنْد اللَّه " قَالُوا : فَقَدْ أَضَافَ الْحَسَنَة وَالسَّيِّئَة إِلَى نَفْسه دُون خَلْقه . وَهَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا يَتَعَلَّق بِهَا الْجُهَّال مِنْ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ; لِأَنَّهُمْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّيِّئَة هِيَ الْمَعْصِيَة , وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَالْقَدَرِيَّة إِنْ قَالُوا " مَا أَصَابَك مِنْ حَسَنَة " أَيْ مِنْ طَاعَة " فَمِنْ اللَّه " فَلَيْسَ هَذَا اِعْتِقَادهمْ ; لِأَنَّ اِعْتِقَادهمْ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ مَذْهَبهمْ أَنَّ الْحَسَنَة فِعْل الْمُحْسِن وَالسَّيِّئَة فِعْل الْمُسِيء . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا حُجَّة لَكَانَ يَقُول : مَا أَصَبْت مِنْ حَسَنَة وَمَا أَصَبْت مِنْ سَيِّئَة ; لِأَنَّهُ الْفَاعِل لِلْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَة جَمِيعًا , فَلَا يُضَاف إِلَيْهِ إِلَّا بِفِعْلِهِ لَهُمَا لَا بِفِعْلِ غَيْره . نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَة الْإِمَام أَبُو الْحَسَن شَبِيب بْن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن حَيْدَرَة فِي كِتَابه الْمُسَمَّى بِحَزِّ الْغَلَاصِم فِي إِفْحَام الْمُخَاصِم .
مَصْدَر مُؤَكَّد , وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى ذَا رِسَالَة
نَصْب عَلَى الْبَيَان وَالْبَاء زَائِدَة , أَيْ كَفَى اللَّه شَهِيدًا عَلَى صِدْق رِسَالَة نَبِيّه وَأَنَّهُ صَادِق .
مَسْأَلَة : وَقَدْ تَجَاذَبَ بَعْض جُهَّال أَهْل السُّنَّة هَذِهِ الْآيَة وَاحْتَجَّ بِهَا ; كَمَا تَجَاذَبَهَا الْقَدَرِيَّة وَاحْتَجُّوا بِهَا , وَوَجْه اِحْتِجَاجهمْ بِهَا أَنَّ الْقَدَرِيَّة يَقُولُونَ : إِنَّ الْحَسَنَة هَا هُنَا الطَّاعَة , وَالسَّيِّئَة الْمَعْصِيَة ; قَالُوا : وَقَدْ نَسَبَ الْمَعْصِيَة فِي قَوْله تَعَالَى : " وَمَا أَصَابَك مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسك " إِلَى الْإِنْسَان دُون اللَّه تَعَالَى ; فَهَذَا وَجْه تَعَلُّقهمْ بِهَا . وَوَجْه تَعَلُّق الْآخَرِينَ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى : " قُلْ كُلّ مِنْ عِنْد اللَّه " قَالُوا : فَقَدْ أَضَافَ الْحَسَنَة وَالسَّيِّئَة إِلَى نَفْسه دُون خَلْقه . وَهَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا يَتَعَلَّق بِهَا الْجُهَّال مِنْ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ; لِأَنَّهُمْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّيِّئَة هِيَ الْمَعْصِيَة , وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَالْقَدَرِيَّة إِنْ قَالُوا " مَا أَصَابَك مِنْ حَسَنَة " أَيْ مِنْ طَاعَة " فَمِنْ اللَّه " فَلَيْسَ هَذَا اِعْتِقَادهمْ ; لِأَنَّ اِعْتِقَادهمْ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ مَذْهَبهمْ أَنَّ الْحَسَنَة فِعْل الْمُحْسِن وَالسَّيِّئَة فِعْل الْمُسِيء . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا حُجَّة لَكَانَ يَقُول : مَا أَصَبْت مِنْ حَسَنَة وَمَا أَصَبْت مِنْ سَيِّئَة ; لِأَنَّهُ الْفَاعِل لِلْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَة جَمِيعًا , فَلَا يُضَاف إِلَيْهِ إِلَّا بِفِعْلِهِ لَهُمَا لَا بِفِعْلِ غَيْره . نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَة الْإِمَام أَبُو الْحَسَن شَبِيب بْن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن حَيْدَرَة فِي كِتَابه الْمُسَمَّى بِحَزِّ الْغَلَاصِم فِي إِفْحَام الْمُخَاصِم .
مَصْدَر مُؤَكَّد , وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى ذَا رِسَالَة
نَصْب عَلَى الْبَيَان وَالْبَاء زَائِدَة , أَيْ كَفَى اللَّه شَهِيدًا عَلَى صِدْق رِسَالَة نَبِيّه وَأَنَّهُ صَادِق .
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ↓
أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ طَاعَة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَة لَهُ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللَّه وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِير فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِير فَقَدْ عَصَانِي ) فِي رِوَايَة . ( وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي , وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي ) .
أَيْ أَعْرَضَ
أَيْ حَافِظًا وَرَقِيبًا لِأَعْمَالِهِمْ , إِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : مُحَاسِبًا ; فَنَسَخَ اللَّه هَذَا بِآيَةِ السَّيْف وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ مَنْ خَالَفَ اللَّه وَرَسُوله .
أَيْ أَعْرَضَ
أَيْ حَافِظًا وَرَقِيبًا لِأَعْمَالِهِمْ , إِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : مُحَاسِبًا ; فَنَسَخَ اللَّه هَذَا بِآيَةِ السَّيْف وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ مَنْ خَالَفَ اللَّه وَرَسُوله .
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ↓
أَيْ أَمْرُنَا طَاعَة , وَيَجُوز " طَاعَةً " بِالنَّصْبِ , أَيْ نُطِيع طَاعَة , وَهِيَ قِرَاءَة نَصْر بْن عَاصِم وَالْحَسَن وَالْجَحْدَرِيّ . وَهَذَا فِي الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ ; أَيْ يَقُولُونَ إِذَا كَانُوا عِنْدك : أَمْرُنَا طَاعَة , أَوْ نُطِيع طَاعَة , وَقَوْلهمْ هَذَا لَيْسَ بِنَافِعٍ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الطَّاعَة لَيْسَ بِمُطِيعٍ حَقِيقَةً , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُحَقِّقْ طَاعَتهمْ بِمَا أَظْهَرُوهُ , فَلَوْ كَانَتْ الطَّاعَة بِلَا اِعْتِقَاد حَقِيقَة لِحُكْمٍ بِهَا لَهُمْ ; فَثَبَتَ أَنَّ الطَّاعَة بِالِاعْتِقَادِ مَعَ وُجُودهَا .
أَيْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدك
فَذَكَرَ الطَّائِفَة لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى رِجَال . وَأَدْغَمَ الْكُوفِيُّونَ التَّاء فِي الطَّاء ; لِأَنَّهُمَا مِنْ مَخْرَج وَاحِد , وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ الْكِسَائِيّ فِي الْفِعْل وَهُوَ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ غَيْر قَبِيح . وَمَعْنَى " بَيَّتَ " زَوَّرَ وَمَوَّهَ . وَقِيلَ : غَيَّرَ وَبَدَّلَ وَحَرَّفَ ; أَيْ بَدَّلُوا قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِهِ . وَالتَّبْيِيت التَّبْدِيل ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا وَكَانُوا أَتَوْنِي بِأَمْرٍ نُكُرْ لِأُنْكِحَ أَيِّمَهُمْ مُنْذِرًا وَهَلْ يُنْكِحُ الْعَبْدَ حُرٌّ لِحُرْ آخَر : بَيَّتَ قَوْلِيَ عَبْدُ الْمَلِي كِ قَاتَلَهُ اللَّه عَبْدًا كَفُورًا وَبَيَّتَ الرَّجُل الْأَمْر إِذَا دَبَّرَ لَيْلًا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْل " [ النِّسَاء : 108 ] . وَالْعَرَب تَقُول : أَمْر بُيِّتَ بِلَيْلٍ إِذَا أُحْكِمَ . وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّيْل بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْت يُتَفَرَّغ فِيهِ . قَالَ الشَّاعِر : أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ وَمِنْ هَذَا بَيَّتَ الصِّيَام . وَالْبَيُّوت : الْمَاء يَبِيت لَيْلًا . وَالْبَيوت : الْأَمْر يَبِيت عَلَيْهِ صَاحِبه مُهْتَمًّا بِهِ ; قَالَ الْهُذَلِيّ : وَأَجْعَل فِقْرَتَهَا عُدَّةً إِذَا خِفْت بَيُّوتَ أَمْر عُضَالِ وَالتَّبْيِيت وَالْبَيَات أَنْ يَأْتِي الْعَدُوّ لَيْلًا . وَبَاتَ يَفْعَل كَذَا إِذَا فَعَلَهُ لَيْلًا ; كَمَا يُقَال : ظَلَّ بِالنَّهَارِ . وَبَيَّتَ الشَّيْء قَدَّرَ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا وَجْه الْحِكْمَة فِي اِبْتِدَائِهِ بِذِكْرِ جُمْلَتهمْ ثُمَّ قَالَ : " بَيَّتَ طَائِفَة مِنْهُمْ " ؟ قِيلَ : إِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حَال مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى كُفْره وَنِفَاقه , وَصَفَحَ عَمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ . وَقِيلَ : إِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حَال مَنْ شَهِدَ وَحَارَ فِي أَمْره , وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ وَسَكَتَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ يُثْبِتُهُ فِي صَحَائِف أَعْمَالهمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى يُنَزِّلُهُ عَلَيْك فِي الْكِتَاب . وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ مُجَرَّد الْقَوْل لَا يُفِيد شَيْئًا كَمَا ذَكَرْنَا ; فَإِنَّهُمْ قَالُوا : طَاعَة , وَلَفَظُوا بِهَا وَلَمْ يُحَقِّق اللَّه طَاعَتهمْ وَلَا حَكَمَ لَهُمْ بِصِحَّتِهَا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوهَا . فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُون الْمُطِيع مُطِيعًا إِلَّا بِاعْتِقَادِهَا مَعَ وُجُودهَا .
أَيْ لَا تُخْبِر بِأَسْمَائِهِمْ ; عَنْ الضَّحَّاك , يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ . وَقِيلَ : لَا تَعَاقُبِهِمْ .
ثُمَّ أَمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالثِّقَة بِهِ فِي النَّصْر عَلَى عَدُوّهُ . وَيُقَال : إِنَّ هَذَا مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَا أَيّهَا النَّبِيّ جَاهَدَ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ " [ التَّوْبَة : 73 ]
أَيْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدك
فَذَكَرَ الطَّائِفَة لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى رِجَال . وَأَدْغَمَ الْكُوفِيُّونَ التَّاء فِي الطَّاء ; لِأَنَّهُمَا مِنْ مَخْرَج وَاحِد , وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ الْكِسَائِيّ فِي الْفِعْل وَهُوَ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ غَيْر قَبِيح . وَمَعْنَى " بَيَّتَ " زَوَّرَ وَمَوَّهَ . وَقِيلَ : غَيَّرَ وَبَدَّلَ وَحَرَّفَ ; أَيْ بَدَّلُوا قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِهِ . وَالتَّبْيِيت التَّبْدِيل ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا وَكَانُوا أَتَوْنِي بِأَمْرٍ نُكُرْ لِأُنْكِحَ أَيِّمَهُمْ مُنْذِرًا وَهَلْ يُنْكِحُ الْعَبْدَ حُرٌّ لِحُرْ آخَر : بَيَّتَ قَوْلِيَ عَبْدُ الْمَلِي كِ قَاتَلَهُ اللَّه عَبْدًا كَفُورًا وَبَيَّتَ الرَّجُل الْأَمْر إِذَا دَبَّرَ لَيْلًا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْل " [ النِّسَاء : 108 ] . وَالْعَرَب تَقُول : أَمْر بُيِّتَ بِلَيْلٍ إِذَا أُحْكِمَ . وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّيْل بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْت يُتَفَرَّغ فِيهِ . قَالَ الشَّاعِر : أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ وَمِنْ هَذَا بَيَّتَ الصِّيَام . وَالْبَيُّوت : الْمَاء يَبِيت لَيْلًا . وَالْبَيوت : الْأَمْر يَبِيت عَلَيْهِ صَاحِبه مُهْتَمًّا بِهِ ; قَالَ الْهُذَلِيّ : وَأَجْعَل فِقْرَتَهَا عُدَّةً إِذَا خِفْت بَيُّوتَ أَمْر عُضَالِ وَالتَّبْيِيت وَالْبَيَات أَنْ يَأْتِي الْعَدُوّ لَيْلًا . وَبَاتَ يَفْعَل كَذَا إِذَا فَعَلَهُ لَيْلًا ; كَمَا يُقَال : ظَلَّ بِالنَّهَارِ . وَبَيَّتَ الشَّيْء قَدَّرَ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا وَجْه الْحِكْمَة فِي اِبْتِدَائِهِ بِذِكْرِ جُمْلَتهمْ ثُمَّ قَالَ : " بَيَّتَ طَائِفَة مِنْهُمْ " ؟ قِيلَ : إِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حَال مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى كُفْره وَنِفَاقه , وَصَفَحَ عَمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ . وَقِيلَ : إِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حَال مَنْ شَهِدَ وَحَارَ فِي أَمْره , وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ وَسَكَتَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ يُثْبِتُهُ فِي صَحَائِف أَعْمَالهمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى يُنَزِّلُهُ عَلَيْك فِي الْكِتَاب . وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ مُجَرَّد الْقَوْل لَا يُفِيد شَيْئًا كَمَا ذَكَرْنَا ; فَإِنَّهُمْ قَالُوا : طَاعَة , وَلَفَظُوا بِهَا وَلَمْ يُحَقِّق اللَّه طَاعَتهمْ وَلَا حَكَمَ لَهُمْ بِصِحَّتِهَا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوهَا . فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُون الْمُطِيع مُطِيعًا إِلَّا بِاعْتِقَادِهَا مَعَ وُجُودهَا .
أَيْ لَا تُخْبِر بِأَسْمَائِهِمْ ; عَنْ الضَّحَّاك , يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ . وَقِيلَ : لَا تَعَاقُبِهِمْ .
ثُمَّ أَمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالثِّقَة بِهِ فِي النَّصْر عَلَى عَدُوّهُ . وَيُقَال : إِنَّ هَذَا مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَا أَيّهَا النَّبِيّ جَاهَدَ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ " [ التَّوْبَة : 73 ]
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ↓
ثُمَّ عَابَ الْمُنَافِقِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ التَّدَبُّر فِي الْقُرْآن وَالتَّفَكُّر فِيهِ وَفِي مَعَانِيه . تَدَبَّرْت الشَّيْء فَكَّرْت فِي عَاقِبَتِهِ . وَفِي الْحَدِيث ( لَا تَدَابَرُوا ) أَيْ لَا يُوَلِّي بَعْضكُمْ بَعْضًا دُبُرَهُ . وَأَدْبَرَ الْقَوْم مَضَى أَمْرهمْ إِلَى آخِره . وَالتَّدْبِير أَنْ يُدْبِر الْإِنْسَان أَمْره كَأَنَّهُ يَنْظُر إِلَى مَا تَصِير إِلَيْهِ عَاقِبَته . وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى : " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالهَا " [ مُحَمَّد : 24 ] عَلَى وُجُوب التَّدَبُّر فِي الْقُرْآن لِيُعْرَفَ مَعْنَاهُ . فَكَانَ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى فَسَاد قَوْل مَنْ قَالَ : لَا يُؤْخَذ مِنْ تَفْسِيره إِلَّا مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَنَعَ أَنْ يُتَأَوَّل عَلَى مَا يُسَوِّغُهُ لِسَان الْعَرَب . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى الْأَمْر بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَال وَإِبْطَال التَّقْلِيد , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى إِثْبَات الْقِيَاس .
أَيْ تَفَاوُتًا وَتَنَاقُضًا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَابْن زَيْد . وَلَا يَدْخُل فِي هَذَا اِخْتِلَاف أَلْفَاظ الْقِرَاءَات وَأَلْفَاظ الْأَمْثَال وَالدَّلَالَات وَمَقَادِير السُّوَر وَالْآيَات . وَإِنَّمَا أَرَادَ اِخْتِلَاف التَّنَاقُض وَالتَّفَاوُت . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوْ كَانَ مَا تُخْبِرُونَ بِهِ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَاخْتَلَفَ . وَقِيلَ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُتَكَلِّم يَتَكَلَّم كَلَامًا كَثِيرًا إِلَّا وُجِدَ فِي كَلَامه اِخْتِلَاف كَثِير , إِمَّا فِي الْوَصْف وَاللَّفْظ ; وَإِمَّا فِي جَوْدَة الْمَعْنَى , وَإِمَّا فِي التَّنَاقُض , وَإِمَّا فِي الْكَذِب . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآن وَأَمَرَهُمْ بِتَدَبُّرِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِيهِ اِخْتِلَافًا فِي وَصْف وَلَا رَدًّا لَهُ فِي مَعْنًى , وَلَا تَنَاقُضًا وَلَا كَذِبًا فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ مِنْ الْغُيُوب وَمَا يُسِرُّونَ .
أَيْ تَفَاوُتًا وَتَنَاقُضًا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَابْن زَيْد . وَلَا يَدْخُل فِي هَذَا اِخْتِلَاف أَلْفَاظ الْقِرَاءَات وَأَلْفَاظ الْأَمْثَال وَالدَّلَالَات وَمَقَادِير السُّوَر وَالْآيَات . وَإِنَّمَا أَرَادَ اِخْتِلَاف التَّنَاقُض وَالتَّفَاوُت . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوْ كَانَ مَا تُخْبِرُونَ بِهِ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَاخْتَلَفَ . وَقِيلَ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُتَكَلِّم يَتَكَلَّم كَلَامًا كَثِيرًا إِلَّا وُجِدَ فِي كَلَامه اِخْتِلَاف كَثِير , إِمَّا فِي الْوَصْف وَاللَّفْظ ; وَإِمَّا فِي جَوْدَة الْمَعْنَى , وَإِمَّا فِي التَّنَاقُض , وَإِمَّا فِي الْكَذِب . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآن وَأَمَرَهُمْ بِتَدَبُّرِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِيهِ اِخْتِلَافًا فِي وَصْف وَلَا رَدًّا لَهُ فِي مَعْنًى , وَلَا تَنَاقُضًا وَلَا كَذِبًا فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ مِنْ الْغُيُوب وَمَا يُسِرُّونَ .
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ↑
فِي " إِذَا " مَعْنَى الشَّرْط وَلَا يُجَازَى بِهَا وَإِنْ زِيدَتْ عَلَيْهَا " مَا " وَهِيَ قَلِيلَة الِاسْتِعْمَال . قَالَ سِيبَوَيْهِ . وَالْجَيِّد مَا قَالَ كَعْب بْن زُهَيْر : وَإِذَا مَا تَشَاءُ تَبْعَثُ مِنْهَا مَغْرِب الشَّمْس نَاشِطًا مَذْعُورًا يَعْنِي أَنَّ الْجَيِّد لَا يُجْزَم بِإِذَا مَا كَمَا لَمْ يُجْزَم فِي هَذَا الْبَيْت , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل " الْبَقَرَة " . وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا شَيْئًا مِنْ الْأُمُور فِيهِ أَمْن نَحْو ظَفَر الْمُسْلِمِينَ وَقَتْل عَدُوّهُمْ " أَوْ الْخَوْف " وَهُوَ ضِدّ هَذَا
أَيْ أَفْشَوْهُ وَأَظْهَرُوهُ وَتَحَدَّثُوا بِهِ قَبْل أَنْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَته . فَقِيلَ : كَانَ هَذَا مِنْ ضَعَفَة الْمُسْلِمِينَ ; عَنْ الْحَسَن ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُفْشُونَ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا شَيْء عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ الضَّحَّاك وَابْن زَيْد : هُوَ فِي الْمُنَافِقِينَ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ لِمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْكَذِب فِي الْإِرْجَاف .
أَيْ لَمْ يُحَدِّثُوا بِهِ وَلَمْ يُفْشُوهُ حَتَّى يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يُحَدِّث بِهِ وَيُفْشِيه . أَوْ أُولُو الْأَمْر وَهُمْ أَهْل الْعِلْم وَالْفِقْه ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا . السُّدِّيّ وَابْن زَيْد : الْوُلَاة . وَقِيلَ : أُمَرَاء السَّرَايَا .
أَيْ يَسْتَخْرِجُونَهُ , أَيْ لَعَلِمُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْشَى مِنْهُ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَم . وَالِاسْتِنْبَاط مَأْخُوذ مِنْ اِسْتَنْبَطْت الْمَاء إِذَا اِسْتَخْرَجْته . وَالنَّبَط : الْمَاء الْمُسْتَنْبَط أَوَّل مَا يَخْرُج مِنْ مَاء الْبِئْر أَوَّلَ مَا تَحْفِر . وَسُمِّيَ النَّبَط نَبَطًا لِأَنَّهُمْ يَسْتَخْرِجُونَ مَا فِي الْأَرْض . وَالِاسْتِنْبَاط فِي اللُّغَة الِاسْتِخْرَاج , وَهُوَ يَدُلّ عَلَى الِاجْتِهَاد إِذَا عَدِمَ النَّصّ وَالْإِجْمَاع كَمَا تَقَدَّمَ .
رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ عِنْد سِيبَوَيْهِ , وَلَا يَجُوز أَنْ يُظْهَر الْخَبَر عِنْده . وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ : رُفِعَ بِلَوْلَا .
فِي هَذِهِ الْآيَة ثَلَاثَة أَقْوَال ; قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْمَعْنَى أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لَمْ يَذِعْ وَلَمْ يُفْشِ . وَقَالَهُ جَمَاعَة مِنْ النَّحْوِيِّينَ : الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش وَأَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم وَالطَّبَرِيّ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره , وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاج قَالَ : لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِنْبَاط الْأَكْثَر يَعْرِفهُ ; لِأَنَّهُ اِسْتِعْلَام خَبَر . وَاخْتَارَ الْأَوَّل الْفَرَّاء قَالَ : لِأَنَّ عِلْم السَّرَايَا إِذَا ظَهَرَ عَلِمَهُ الْمُسْتَنْبِط وَغَيْره , وَالْإِذَاعَة تَكُون فِي بَعْض دُون بَعْض . قَالَ الْكَلْبِيّ عَنْهُ : فَلِذَلِكَ اُسْتُحْسِنَتْ الِاسْتِثْنَاء مِنْ الْإِذَاعَة . قَالَ النَّحَّاس : فَهَذَانِ قَوْلَانِ عَلَى الْمَجَاز , يُرِيد أَنَّ فِي الْكَلَام تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا . وَقَوْل ثَالِث بِغَيْرِ مَجَاز : يَكُون الْمَعْنَى وَلَوْلَا فَضْل اللَّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَته بِأَنْ بَعَثَ فِيكُمْ رَسُولًا أَقَامَ فِيكُمْ الْحُجَّة لَكَفَرْتُمْ وَأَشْرَكْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يُوَحِّد . وَفِيهِ قَوْل رَابِع - قَالَ الضَّحَّاك : الْمَعْنَى لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلًا , أَيْ إِنَّ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَمْرٍ مِنْ الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلًا , يَعْنِي الَّذِينَ اِمْتَحَنَ اللَّه قُلُوبهمْ لِلتَّقْوَى . وَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَكُون قَوْله " إِلَّا قَلِيلًا " مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْله " لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَان " . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاء , إِذْ لَوْلَا فَضْل اللَّه وَرَحْمَته لَاتَّبَعَ النَّاس كُلّهمْ الشَّيْطَان .
أَيْ أَفْشَوْهُ وَأَظْهَرُوهُ وَتَحَدَّثُوا بِهِ قَبْل أَنْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَته . فَقِيلَ : كَانَ هَذَا مِنْ ضَعَفَة الْمُسْلِمِينَ ; عَنْ الْحَسَن ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُفْشُونَ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا شَيْء عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ الضَّحَّاك وَابْن زَيْد : هُوَ فِي الْمُنَافِقِينَ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ لِمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْكَذِب فِي الْإِرْجَاف .
أَيْ لَمْ يُحَدِّثُوا بِهِ وَلَمْ يُفْشُوهُ حَتَّى يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يُحَدِّث بِهِ وَيُفْشِيه . أَوْ أُولُو الْأَمْر وَهُمْ أَهْل الْعِلْم وَالْفِقْه ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا . السُّدِّيّ وَابْن زَيْد : الْوُلَاة . وَقِيلَ : أُمَرَاء السَّرَايَا .
أَيْ يَسْتَخْرِجُونَهُ , أَيْ لَعَلِمُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْشَى مِنْهُ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَم . وَالِاسْتِنْبَاط مَأْخُوذ مِنْ اِسْتَنْبَطْت الْمَاء إِذَا اِسْتَخْرَجْته . وَالنَّبَط : الْمَاء الْمُسْتَنْبَط أَوَّل مَا يَخْرُج مِنْ مَاء الْبِئْر أَوَّلَ مَا تَحْفِر . وَسُمِّيَ النَّبَط نَبَطًا لِأَنَّهُمْ يَسْتَخْرِجُونَ مَا فِي الْأَرْض . وَالِاسْتِنْبَاط فِي اللُّغَة الِاسْتِخْرَاج , وَهُوَ يَدُلّ عَلَى الِاجْتِهَاد إِذَا عَدِمَ النَّصّ وَالْإِجْمَاع كَمَا تَقَدَّمَ .
رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ عِنْد سِيبَوَيْهِ , وَلَا يَجُوز أَنْ يُظْهَر الْخَبَر عِنْده . وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ : رُفِعَ بِلَوْلَا .
فِي هَذِهِ الْآيَة ثَلَاثَة أَقْوَال ; قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْمَعْنَى أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لَمْ يَذِعْ وَلَمْ يُفْشِ . وَقَالَهُ جَمَاعَة مِنْ النَّحْوِيِّينَ : الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش وَأَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم وَالطَّبَرِيّ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره , وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاج قَالَ : لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِنْبَاط الْأَكْثَر يَعْرِفهُ ; لِأَنَّهُ اِسْتِعْلَام خَبَر . وَاخْتَارَ الْأَوَّل الْفَرَّاء قَالَ : لِأَنَّ عِلْم السَّرَايَا إِذَا ظَهَرَ عَلِمَهُ الْمُسْتَنْبِط وَغَيْره , وَالْإِذَاعَة تَكُون فِي بَعْض دُون بَعْض . قَالَ الْكَلْبِيّ عَنْهُ : فَلِذَلِكَ اُسْتُحْسِنَتْ الِاسْتِثْنَاء مِنْ الْإِذَاعَة . قَالَ النَّحَّاس : فَهَذَانِ قَوْلَانِ عَلَى الْمَجَاز , يُرِيد أَنَّ فِي الْكَلَام تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا . وَقَوْل ثَالِث بِغَيْرِ مَجَاز : يَكُون الْمَعْنَى وَلَوْلَا فَضْل اللَّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَته بِأَنْ بَعَثَ فِيكُمْ رَسُولًا أَقَامَ فِيكُمْ الْحُجَّة لَكَفَرْتُمْ وَأَشْرَكْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يُوَحِّد . وَفِيهِ قَوْل رَابِع - قَالَ الضَّحَّاك : الْمَعْنَى لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلًا , أَيْ إِنَّ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَمْرٍ مِنْ الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلًا , يَعْنِي الَّذِينَ اِمْتَحَنَ اللَّه قُلُوبهمْ لِلتَّقْوَى . وَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَكُون قَوْله " إِلَّا قَلِيلًا " مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْله " لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَان " . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاء , إِذْ لَوْلَا فَضْل اللَّه وَرَحْمَته لَاتَّبَعَ النَّاس كُلّهمْ الشَّيْطَان .
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ↓
هَذِهِ الْفَاء مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " وَمَنْ يُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه فَيُقْتَل أَوْ يَغْلِب فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " [ النِّسَاء : 74 ] " فَقَاتِلْ فِي سَبِيل اللَّه " أَيْ مِنْ أَجْل هَذَا فَقَاتِلْ . وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : " وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه . فَقَاتِلْ " . كَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى : لَا تَدَعْ جِهَاد الْعَدُوّ وَالِاسْتِنْصَار عَلَيْهِمْ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَلَوْ وَحْدَك ; لِأَنَّهُ وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ . قَالَ الزَّجَّاج : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِهَادِ وَإِنْ قَاتَلَ وَحْدَهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ النُّصْرَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : " هَذَا ظَاهِر اللَّفْظ , إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ فِي خَبَر قَطُّ أَنَّ الْقِتَال فَرْض عَلَيْهِ دُون الْأُمَّة مُدَّة مَا ; فَالْمَعْنَى وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّهُ خِطَاب لَهُ فِي اللَّفْظ , وَهُوَ مِثَال مَا يُقَال لِكُلِّ وَاحِد فِي خَاصَّة نَفْسه ; أَيْ أَنْتَ يَا مُحَمَّد وَكُلّ وَاحِد مِنْ أُمَّتك الْقَوْل لَهُ ; " فَقَاتِلْ فِي سَبِيل اللَّه لَا تُكَلَّف إِلَّا نَفْسك " . وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِن أَنْ يُجَاهِد وَلَوْ وَحْدَهُ ; وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ حَتَّى تَنْفَرِد سَالِفَتِي ) . وَقَوْل أَبِي بَكْر وَقْت الرِّدَّة : وَلَوْ خَالَفَتْنِي يَمِينِي لَجَاهَدْتهَا بِشِمَالِي . وَقِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي مَوْسِم بَدْر الصُّغْرَى ; فَإِنَّ أَبَا سُفْيَان لَمَّا اِنْصَرَفَ مِنْ أُحُد وَاعَدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْسِم بَدْر الصُّغْرَى ; فَلَمَّا جَاءَ الْمِيعَاد خَرَجَ إِلَيْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا فَلَمْ يَحْضُرْ أَبُو سُفْيَان وَلَمْ يَتَّفِق قِتَال . وَهَذَا عَلَى مَعْنَى مَا قَالَهُ مُجَاهِد كَمَا تَقَدَّمَ فِي " آل عِمْرَان " . وَوَجْه النَّظْم عَلَى هَذَا وَالِاتِّصَال بِمَا قَبْلُ أَنَّهُ وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ بِالتَّخْلِيطِ وَإِيقَاع الْأَرَاجِيف , ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَبِالْجَدِّ فِي الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّه وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ أَحَد عَلَى ذَلِكَ .
" تُكَلَّف " مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَل , وَلَمْ يُجْزَم لِأَنَّهُ لَيْسَ عِلَّة لِلْأَوَّلِ . وَزَعَمَ الْأَخْفَش أَنَّهُ يَجُوز جَزْمه . " إِلَّا نَفْسك " خَبَر مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ; وَالْمَعْنَى لَا تَلْزَم فِعْل غَيْرك وَلَا تُؤَاخَذ بِهِ .
أَيْ حُضَّهُمْ عَلَى الْجِهَاد وَالْقِتَال . يُقَال : حَرَّضْت فُلَانًا عَلَى كَذَا إِذَا أَمَرْته بِهِ . وَحَارَضَ فُلَان عَلَى الْأَمْر وَأَكَبَّ وَوَاظَبَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
إِطْمَاع , وَالْإِطْمَاع مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَاجِب . عَلَى أَنَّ الطَّمَع قَدْ جَاءَ فِي كَلَام الْعَرَب عَلَى الْوُجُوب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين " [ الشُّعَرَاء : 82 ] . وَقَالَ اِبْن مُقْبِل : ظَنِّي بِهِمْ كَعَسَى وَهُمْ بِتَنُوفَةٍ يَتَنَازَعُونَ جَوَائِز الْأَمْثَالِ إِنْ قَالَ قَائِل : نَحْنُ نَرَى الْكُفَّار فِي بَأْس وَشِدَّة , وَقُلْتُمْ : إِنَّ عَسَى بِمَعْنَى الْيَقِين فَأَيْنَ ذَلِكَ الْوَعْد ؟ قِيلَ لَهُ : قَدْ وُجِدَ هَذَا الْوَعْد وَلَا يَلْزَم وُجُوده عَلَى الِاسْتِمْرَار وَالدَّوَام فَمَتَى وُجِدَ وَلَوْ لَحْظَة مَثَلًا فَقَدْ صَدَقَ الْوَعْد ; فَكَفَّ اللَّه بَأْس الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى , وَأَخْلَفُوا مَا كَانُوا عَاهَدُوهُ مِنْ الْحَرْب وَالْقِتَال " وَكَفَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال " [ الْأَحْزَاب : 25 ] وَبِالْحُدَيْبِيَةِ أَيْضًا عَمَّا رَامُوهُ مِنْ الْغَدْر وَانْتِهَاز الْفُرْصَة , فَفَطِنَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَخَرَجُوا فَأَخَذُوهُمْ أَسَرَة , وَكَانَ ذَلِكَ وَالسُّفَرَاء يَمْشُونَ بَيْنهمْ فِي الصُّلْح , وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ " [ الْفَتْح : 24 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَقَدْ أَلْقَى اللَّه فِي قُلُوب الْأَحْزَاب الرُّعْب وَانْصَرَفُوا مِنْ غَيْر قَتْل وَلَا قِتَال ; كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَكَفَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال " . وَخَرَجَ الْيَهُود مِنْ دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ بِغَيْرِ قِتَال الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ , فَهَذَا كُلّه بَأْس قَدْ كَفَّهُ اللَّه عَنْ الْمُؤْمِنِينَ , مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى الْعَدَد الْكَثِير وَالْجَمّ الْغَفِير تَحْت الْجِزْيَة صَاغِرِينَ وَتَرَكُوا الْمُحَارَبَة دَاخِرِينَ , فَكَفَّ اللَّه بَأْسَهُمْ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ .
أَيْ صَوْلَة وَأَعْظَم سُلْطَانًا وَأَقْدَرُ بَأْسًا عَلَى مَا يُرِيدُهُ .
أَيْ عُقُوبَة ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . قَالَ اِبْن دُرَيْد : رَمَاهُ اللَّه بِنُكْلَةٍ , أَيْ رَمَاهُ بِمَا يُنَكِّلُهُ . قَالَ : وَنَكَّلْت بِالرَّجُلِ تَنْكِيلًا مِنْ النَّكَال . وَالْمَنْكَل الشَّيْء الَّذِي يُنَكِّل بِالْإِنْسَانِ . قَالَ : وَارْمِ عَلَى أَقْفَائِهِمْ بِمَنْكَلِ
" تُكَلَّف " مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَل , وَلَمْ يُجْزَم لِأَنَّهُ لَيْسَ عِلَّة لِلْأَوَّلِ . وَزَعَمَ الْأَخْفَش أَنَّهُ يَجُوز جَزْمه . " إِلَّا نَفْسك " خَبَر مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ; وَالْمَعْنَى لَا تَلْزَم فِعْل غَيْرك وَلَا تُؤَاخَذ بِهِ .
أَيْ حُضَّهُمْ عَلَى الْجِهَاد وَالْقِتَال . يُقَال : حَرَّضْت فُلَانًا عَلَى كَذَا إِذَا أَمَرْته بِهِ . وَحَارَضَ فُلَان عَلَى الْأَمْر وَأَكَبَّ وَوَاظَبَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
إِطْمَاع , وَالْإِطْمَاع مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَاجِب . عَلَى أَنَّ الطَّمَع قَدْ جَاءَ فِي كَلَام الْعَرَب عَلَى الْوُجُوب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين " [ الشُّعَرَاء : 82 ] . وَقَالَ اِبْن مُقْبِل : ظَنِّي بِهِمْ كَعَسَى وَهُمْ بِتَنُوفَةٍ يَتَنَازَعُونَ جَوَائِز الْأَمْثَالِ إِنْ قَالَ قَائِل : نَحْنُ نَرَى الْكُفَّار فِي بَأْس وَشِدَّة , وَقُلْتُمْ : إِنَّ عَسَى بِمَعْنَى الْيَقِين فَأَيْنَ ذَلِكَ الْوَعْد ؟ قِيلَ لَهُ : قَدْ وُجِدَ هَذَا الْوَعْد وَلَا يَلْزَم وُجُوده عَلَى الِاسْتِمْرَار وَالدَّوَام فَمَتَى وُجِدَ وَلَوْ لَحْظَة مَثَلًا فَقَدْ صَدَقَ الْوَعْد ; فَكَفَّ اللَّه بَأْس الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى , وَأَخْلَفُوا مَا كَانُوا عَاهَدُوهُ مِنْ الْحَرْب وَالْقِتَال " وَكَفَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال " [ الْأَحْزَاب : 25 ] وَبِالْحُدَيْبِيَةِ أَيْضًا عَمَّا رَامُوهُ مِنْ الْغَدْر وَانْتِهَاز الْفُرْصَة , فَفَطِنَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَخَرَجُوا فَأَخَذُوهُمْ أَسَرَة , وَكَانَ ذَلِكَ وَالسُّفَرَاء يَمْشُونَ بَيْنهمْ فِي الصُّلْح , وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ " [ الْفَتْح : 24 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَقَدْ أَلْقَى اللَّه فِي قُلُوب الْأَحْزَاب الرُّعْب وَانْصَرَفُوا مِنْ غَيْر قَتْل وَلَا قِتَال ; كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَكَفَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال " . وَخَرَجَ الْيَهُود مِنْ دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ بِغَيْرِ قِتَال الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ , فَهَذَا كُلّه بَأْس قَدْ كَفَّهُ اللَّه عَنْ الْمُؤْمِنِينَ , مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى الْعَدَد الْكَثِير وَالْجَمّ الْغَفِير تَحْت الْجِزْيَة صَاغِرِينَ وَتَرَكُوا الْمُحَارَبَة دَاخِرِينَ , فَكَفَّ اللَّه بَأْسَهُمْ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ .
أَيْ صَوْلَة وَأَعْظَم سُلْطَانًا وَأَقْدَرُ بَأْسًا عَلَى مَا يُرِيدُهُ .
أَيْ عُقُوبَة ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . قَالَ اِبْن دُرَيْد : رَمَاهُ اللَّه بِنُكْلَةٍ , أَيْ رَمَاهُ بِمَا يُنَكِّلُهُ . قَالَ : وَنَكَّلْت بِالرَّجُلِ تَنْكِيلًا مِنْ النَّكَال . وَالْمَنْكَل الشَّيْء الَّذِي يُنَكِّل بِالْإِنْسَانِ . قَالَ : وَارْمِ عَلَى أَقْفَائِهِمْ بِمَنْكَلِ
مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ↓
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " مَنْ يَشْفَعْ " أَصْل الشَّفَاعَة وَالشُّفْعَة وَنَحْوهَا مِنْ الشَّفْع وَهُوَ الزَّوْج فِي الْعَدَد ; وَمِنْهُ الشَّفِيع ; لِأَنَّهُ يَصِير مَعَ صَاحِب الْحَاجَة شَفْعًا . وَمِنْهُ نَاقَة شَفُوع إِذَا جَمَعَتْ بَيْنَ مِحْلَبَيْنِ فِي حَلْبَة وَاحِدَة . وَنَاقَة شَفِيع إِذَا اِجْتَمَعَ لَهَا حَمْل وَوَلَد يَتْبَعُهَا . وَالشَّفْع ضَمّ وَاحِد إِلَى وَاحِد . وَالشُّفْعَة ضَمّ مِلْك الشَّرِيك إِلَى مِلْكك ; فَالشَّفَاعَة إِذًا ضَمّ غَيْرك إِلَى جَاهِك وَوَسِيلَتك , فَهِيَ عَلَى التَّحْقِيق إِظْهَارٌ لِمَنْزِلَةِ الشَّفِيع عِنْد الْمُشَفِّع وَإِيصَال الْمَنْفَعَة إِلَى الْمَشْفُوع لَهُ .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي هَذِهِ الْآيَة ; فَقَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ هِيَ فِي شَفَاعَات النَّاس بَيْنهمْ فِي حَوَائِجهمْ ; فَمَنْ يَشْفَعْ لِيَنْفَعَ فَلَهُ نَصِيب , وَمَنْ يَشْفَعْ لِيَضُرَّ فَلَهُ كِفْل . وَقِيلَ : الشَّفَاعَة الْحَسَنَة هِيَ فِي الْبِرّ وَالطَّاعَة , وَالسَّيِّئَة فِي الْمَعَاصِي . فَمَنْ شَفَعَ شَفَاعَة حَسَنَة لِيُصْلِح بَيْنَ اِثْنَيْنِ اِسْتَوْجَبَ الْأَجْر , وَمَنْ سَعَى بِالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَة أَثِمَ , وَهَذَا قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَقِيلَ : يَعْنِي بِالشَّفَاعَةِ الْحَسَنَة الدُّعَاء لِلْمُسْلِمِينَ , وَالسَّيِّئَة الدُّعَاء عَلَيْهِمْ . وَفِي صَحِيح الْخَبَر : ( مَنْ دَعَا بِظَهْرِ الْغَيْب اُسْتُجِيبَ لَهُ وَقَالَ الْمَلَك آمِينَ وَلَك بِمِثْلٍ ) . هَذَا هُوَ النَّصِيب , وَكَذَلِكَ فِي الشَّرّ ; بَلْ يَرْجِع شُؤْم دُعَائِهِ عَلَيْهِ . وَكَانَتْ الْيَهُود تَدْعُو عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَنْ يَكُنْ شَفْعًا لِصَاحِبِهِ فِي الْجِهَاد يَكُنْ لَهُ نَصِيبُهُ مِنْ الْأَجْر , وَمَنْ يَكُنْ شَفْعًا لِآخَر فِي بَاطِل يَكُنْ لَهُ نَصِيبه مِنْ الْوِزْر . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا : الْحَسَنَة مَا يَجُوز فِي الدِّين , وَالسَّيِّئَة مَا لَا يَجُوز فِيهِ . وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْل جَامِع . وَالْكِفْل الْوِزْر وَالْإِثْم ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة . السُّدِّيّ وَابْن زَيْد هُوَ النَّصِيب . وَاشْتِقَاقه مِنْ الْكِسَاء الَّذِي يَحْوِيه رَاكِب الْبَعِير عَلَى سَنَامه لِئَلَّا يَسْقُط . يُقَال : اِكْتَفَلْت الْبَعِير إِذَا أَدَرْت عَلَى سَنَامه كِسَاء وَرَكِبْت عَلَيْهِ . وَيُقَال لَهُ : اِكْتَفَلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِل الظَّهْر كُلّه بَلْ اِسْتَعْمَلَ نَصِيبًا مِنْ الظَّهْر . وَيُسْتَعْمَل فِي النَّصِيب مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ , وَفِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى " يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَته " [ الْحَدِيد : 28 ] . وَالشَّافِع يُؤْجَر فِيمَا يَجُوز وَإِنْ لَمْ يُشَفَّعْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ " مَنْ يَشْفَعْ " وَلَمْ يَقُلْ يُشَفَّعْ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم ( اِشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّه عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَبَّ ) .
" مُقِيتًا " مَعْنَاهُ مُقْتَدِرًا ; وَمِنْهُ قَوْل الزُّبَيْر بْن عَبْد الْمُطَّلِب : وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْت النَّفْسَ عَنْهُ وَكُنْت عَلَى مَسَاءَتِهِ مُقِيتًا أَيْ قَدِيرًا . فَالْمَعْنَى إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُعْطِي كُلّ إِنْسَان قُوَّته ; وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّع مَنْ يُقِيت ) . عَلَى مَنْ رَوَاهُ هَكَذَا , أَيْ مَنْ هُوَ تَحْت قُدْرَته وَفِي قَبْضَتِهِ مِنْ عِيَال وَغَيْره ; ذَكَرَهُ اِبْن عَطِيَّة . يَقُول مِنْهُ : قُتّه أَقُوتُهُ قَوْتًا , وَأَقَتّه أُقِيتُهُ إِقَاتَةً فَأَنَا قَائِت وَمُقِيت . وَحَكَى الْكِسَائِيّ : أَقَاتَ يُقِيت . وَأَمَّا قَوْل الشَّاعِر : ... إِنِّي عَلَى الْحِسَاب مُقِيت فَقَالَ فِيهِ الطَّبَرِيّ : إِنَّهُ مِنْ غَيْر هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّم , وَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْمَوْقُوف . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْمُقِيت الْحَافِظ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : الْمُقِيت الْمُقْتَدِر . وَقَالَ النَّحَّاس : وَقَوْل أَبِي عُبَيْدَة أَوْلَى لِأَنَّهُ مُشْتَقّ مِنْ الْقَوْت , وَالْقُوت مَعْنَاهُ مِقْدَار مَا يَحْفَظ الْإِنْسَان . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمُقِيت الَّذِي يُعْطِي كُلّ رَجُل قُوته . وَجَاءَ فِي الْحَدِيث : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوت ) و " يُقِيت " ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ : وَحَكَى اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل : الْمُقِيت الْمُقْتَدِر , وَالْمُقِيت الْحَافِظ وَالشَّاهِد , وَمَا عِنْده قِيت لَيْلَة وَقُوت لَيْلَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي هَذِهِ الْآيَة ; فَقَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ هِيَ فِي شَفَاعَات النَّاس بَيْنهمْ فِي حَوَائِجهمْ ; فَمَنْ يَشْفَعْ لِيَنْفَعَ فَلَهُ نَصِيب , وَمَنْ يَشْفَعْ لِيَضُرَّ فَلَهُ كِفْل . وَقِيلَ : الشَّفَاعَة الْحَسَنَة هِيَ فِي الْبِرّ وَالطَّاعَة , وَالسَّيِّئَة فِي الْمَعَاصِي . فَمَنْ شَفَعَ شَفَاعَة حَسَنَة لِيُصْلِح بَيْنَ اِثْنَيْنِ اِسْتَوْجَبَ الْأَجْر , وَمَنْ سَعَى بِالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَة أَثِمَ , وَهَذَا قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَقِيلَ : يَعْنِي بِالشَّفَاعَةِ الْحَسَنَة الدُّعَاء لِلْمُسْلِمِينَ , وَالسَّيِّئَة الدُّعَاء عَلَيْهِمْ . وَفِي صَحِيح الْخَبَر : ( مَنْ دَعَا بِظَهْرِ الْغَيْب اُسْتُجِيبَ لَهُ وَقَالَ الْمَلَك آمِينَ وَلَك بِمِثْلٍ ) . هَذَا هُوَ النَّصِيب , وَكَذَلِكَ فِي الشَّرّ ; بَلْ يَرْجِع شُؤْم دُعَائِهِ عَلَيْهِ . وَكَانَتْ الْيَهُود تَدْعُو عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَنْ يَكُنْ شَفْعًا لِصَاحِبِهِ فِي الْجِهَاد يَكُنْ لَهُ نَصِيبُهُ مِنْ الْأَجْر , وَمَنْ يَكُنْ شَفْعًا لِآخَر فِي بَاطِل يَكُنْ لَهُ نَصِيبه مِنْ الْوِزْر . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا : الْحَسَنَة مَا يَجُوز فِي الدِّين , وَالسَّيِّئَة مَا لَا يَجُوز فِيهِ . وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْل جَامِع . وَالْكِفْل الْوِزْر وَالْإِثْم ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة . السُّدِّيّ وَابْن زَيْد هُوَ النَّصِيب . وَاشْتِقَاقه مِنْ الْكِسَاء الَّذِي يَحْوِيه رَاكِب الْبَعِير عَلَى سَنَامه لِئَلَّا يَسْقُط . يُقَال : اِكْتَفَلْت الْبَعِير إِذَا أَدَرْت عَلَى سَنَامه كِسَاء وَرَكِبْت عَلَيْهِ . وَيُقَال لَهُ : اِكْتَفَلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِل الظَّهْر كُلّه بَلْ اِسْتَعْمَلَ نَصِيبًا مِنْ الظَّهْر . وَيُسْتَعْمَل فِي النَّصِيب مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ , وَفِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى " يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَته " [ الْحَدِيد : 28 ] . وَالشَّافِع يُؤْجَر فِيمَا يَجُوز وَإِنْ لَمْ يُشَفَّعْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ " مَنْ يَشْفَعْ " وَلَمْ يَقُلْ يُشَفَّعْ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم ( اِشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّه عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَبَّ ) .
" مُقِيتًا " مَعْنَاهُ مُقْتَدِرًا ; وَمِنْهُ قَوْل الزُّبَيْر بْن عَبْد الْمُطَّلِب : وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْت النَّفْسَ عَنْهُ وَكُنْت عَلَى مَسَاءَتِهِ مُقِيتًا أَيْ قَدِيرًا . فَالْمَعْنَى إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُعْطِي كُلّ إِنْسَان قُوَّته ; وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّع مَنْ يُقِيت ) . عَلَى مَنْ رَوَاهُ هَكَذَا , أَيْ مَنْ هُوَ تَحْت قُدْرَته وَفِي قَبْضَتِهِ مِنْ عِيَال وَغَيْره ; ذَكَرَهُ اِبْن عَطِيَّة . يَقُول مِنْهُ : قُتّه أَقُوتُهُ قَوْتًا , وَأَقَتّه أُقِيتُهُ إِقَاتَةً فَأَنَا قَائِت وَمُقِيت . وَحَكَى الْكِسَائِيّ : أَقَاتَ يُقِيت . وَأَمَّا قَوْل الشَّاعِر : ... إِنِّي عَلَى الْحِسَاب مُقِيت فَقَالَ فِيهِ الطَّبَرِيّ : إِنَّهُ مِنْ غَيْر هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّم , وَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْمَوْقُوف . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْمُقِيت الْحَافِظ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : الْمُقِيت الْمُقْتَدِر . وَقَالَ النَّحَّاس : وَقَوْل أَبِي عُبَيْدَة أَوْلَى لِأَنَّهُ مُشْتَقّ مِنْ الْقَوْت , وَالْقُوت مَعْنَاهُ مِقْدَار مَا يَحْفَظ الْإِنْسَان . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمُقِيت الَّذِي يُعْطِي كُلّ رَجُل قُوته . وَجَاءَ فِي الْحَدِيث : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوت ) و " يُقِيت " ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ : وَحَكَى اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل : الْمُقِيت الْمُقْتَدِر , وَالْمُقِيت الْحَافِظ وَالشَّاهِد , وَمَا عِنْده قِيت لَيْلَة وَقُوت لَيْلَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ↓
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : التَّحِيَّة تَفْعِلَة مِنْ حَيَّيْت ; الْأَصْل تَحْيِيَة مِثْل تَرْضِيَة وَتَسْمِيَة , فَأَدْغَمُوا الْيَاء فِي الْيَاء . وَالتَّحِيَّة السَّلَام . وَأَصْل التَّحِيَّة الدُّعَاء بِالْحَيَاةِ . وَالتَّحِيَّات لِلَّهِ , أَيْ السَّلَام مِنْ الْآفَات . وَقِيلَ : الْمُلْك . قَالَ عَبْد اللَّه بْن صَالِح الْعِجْلِيّ : سَأَلْت الْكِسَائِيّ عَنْ قَوْله " التَّحِيَّات لِلَّهِ " مَا مَعْنَاهُ ؟ فَقَالَ : التَّحِيَّات مِثْل الْبَرَكَات ; فَقُلْت : مَا مَعْنَى الْبَرَكَات ؟ فَقَالَ : مَا سَمِعْت فِيهَا شَيْئًا . وَسَأَلْت عَنْهَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن فَقَالَ : هُوَ شَيْء تَعَبَّدَ اللَّه بِهِ عِبَاده . فَقَدِمْت الْكُوفَة فَلَقِيت عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس فَقُلْت : إِنِّي سَأَلْت الْكِسَائِيّ وَمُحَمَّدًا عَنْ قَوْل " التَّحِيَّات لِلَّهِ " فَأَجَابَانِي بِكَذَا وَكَذَا ; فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس : إِنَّهُمَا لَا عِلْم لَهُمَا بِالشِّعْرِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاء ؟ ! التَّحِيَّة الْمُلْك ; وَأَنْشَدَ : أَؤُمّ بِهَا أَبَا قَابُوس حَتَّى أُنِيخ عَلَى تَحِيَّته بِجُنْدِي وَأَنْشَدَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : أَسِير بِهِ إِلَى النُّعْمَان حَتَّى أُنِيخ عَلَى تَحِيَّته بِجُنْدِي يُرِيد عَلَى مُلْكه . وَقَالَ آخَر : وَلِكُلِّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْته إِلَّا التَّحِيَّهْ وَقَالَ الْقُتَبِيّ : إِنَّمَا قَالَ " التَّحِيَّات لِلَّهِ " عَلَى الْجَمْع ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْض مُلُوك يُحَيَّوْنَ بِتَحِيَّاتٍ مُخْتَلِفَات ; فَيُقَال لِبَعْضِهِمْ : أَبِيت اللَّعْنَ , وَلِبَعْضِهِمْ : اِسْلَمْ وَانْعَمْ , وَلِبَعْضِهِمْ : عِشْ أَلْف سَنَة . فَقِيلَ لَنَا : قُولُوا التَّحِيَّات لِلَّهِ ; أَيْ الْأَلْفَاظ الَّتِي تَدُلّ عَلَى الْمُلْك , وَيُكَنَّى بِهَا عَنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى . وَوَجْه النَّظْم بِمَا قَبْلُ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا خَرَجْتُمْ لِلْجِهَادِ كَمَا سَبَقَ بِهِ الْأَمْر فَحُيِّيتُمْ فِي سَفَركُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَام , فَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَام لَسْت مُؤْمِنًا , بَلْ رُدُّوا جَوَاب السَّلَام ; فَإِنَّ أَحْكَام الْإِسْلَام تَجْرِي عَلَيْهِمْ .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الْآيَة وَتَأْوِيلهَا ; فَرَوَى اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ هَذِهِ الْآيَة فِي تَشْمِيت الْعَاطِس وَالرَّدّ عَلَى الْمُشَمِّت . وَهَذَا ضَعِيف ; إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَام دَلَالَة عَلَى ذَلِكَ , أَمَّا الرَّدّ عَلَى الْمُشَمِّت فَمِمَّا يَدْخُل بِالْقِيَاسِ فِي مَعْنَى رَدّ التَّحِيَّة , وَهَذَا هُوَ مَنْحَى مَالِك إِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَقَدْ يَجُوز أَنْ تُحْمَل هَذِهِ الْآيَة عَلَى الْهِبَة إِذَا كَانَتْ لِلثَّوَابِ ; فَمَنْ وُهِبَ لَهُ هِبَة عَلَى الثَّوَاب فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ قَبِلَهَا وَأَثَابَ عَلَيْهَا قِيمَتهَا .
قُلْت : وَنَحْو هَذَا قَالَ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة , قَالُوا : التَّحِيَّة هُنَا الْهَدِيَّة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَوْ رُدُّوهَا " وَلَا يُمْكِن رَدّ الْإِسْلَام بِعَيْنِهِ . وَظَاهِر الْكَلَام يَقْتَضِي أَدَاء التَّحِيَّة بِعَيْنِهَا وَهِيَ الْهَدِيَّة , فَأَمَرَ بِالتَّعْوِيضِ إِنْ قَبِلَ أَوْ الرَّدّ بِعَيْنِهِ , وَهَذَا لَا يُمْكِن فِي السَّلَام . وَسَيَأْتِي بَيَان حُكْم الْهِبَة لِلثَّوَابِ وَالْهَدِيَّة فِي سُورَة " الرُّوم " عِنْد قَوْله : " وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا " [ الرُّوم : 39 ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَالصَّحِيح أَنَّ التَّحِيَّة هَهُنَا السَّلَام ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِذَا جَاءُوك حَيَّوْك بِمَا لَمْ يُحَيِّك بِهِ اللَّه " [ الْمُجَادَلَة : 8 ] . وَقَالَ النَّابِغَة الذُّبْيَانِيّ : ش تُحَيِّيهِمْ بِيضُ الْوَلَائِد بَيْنَهُمْ و وَأَكْسِيَةُ الْإِضْرِيجِ فَوْق الْمَشَاجِبِ ش أَرَادَ : وَيُسَلِّم عَلَيْهِمْ . وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْمُفَسِّرِينَ . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَتَقَرَّرَ فَفِقْه الْآيَة أَنْ يُقَال : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاء بِالسَّلَامِ سُنَّة مُرَغَّب فِيهَا , وَرَدُّهُ فَرِيضَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا " . وَاخْتَلَفُوا إِذَا رَدَّ وَاحِد مِنْ جَمَاعَة هَلْ يُجْزِئُ أَوْ لَا ; فَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ إِلَى الْإِجْزَاء , وَأَنَّ الْمُسْلِم قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْل قَوْله . وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ رَدَّ السَّلَام مِنْ الْفُرُوض الْمُتَعَيِّنَة ; قَالُوا : وَالسَّلَام خِلَاف الرَّدّ ; لِأَنَّ الِابْتِدَاء بِهِ تَطَوُّع وَرَدّه فَرِيضَة . وَلَوْ رَدَّ غَيْر الْمُسْلِم عَلَيْهِمْ لَمْ يُسْقِطْ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَرْضَ الرَّدّ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَدَّ السَّلَام يَلْزَم كُلّ إِنْسَان بِعَيْنِهِ ; حَتَّى قَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن : إِنَّ الْمُصَلِّيَ يَرُدّ السَّلَام كَلَامًا إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَع ذَلِكَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ . وَالنَّاس عَلَى خِلَافه . اِحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُجْزِئ مِنْ الْجَمَاعَة إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّم أَحَدهمْ , وَيُجْزِئ عَنْ الْجُلُوس أَنْ يَرُدَّ أَحَدهمْ ) . وَهَذَا نَصّ فِي مَوْضِع الْخِلَاف . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهُوَ حَدِيث حَسَن لَا مُعَارِض لَهُ , وَفِي إِسْنَاده سَعِيد بْن خَالِد , وَهُوَ سَعِيد بْن خَالِد الْخُزَاعِيّ مَدَنِيّ لَيْسَ بِهِ بَأْس عِنْد بَعْضهمْ ; وَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضهمْ مِنْهُمْ أَبُو زُرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَيَعْقُوب بْن شَيْبَة وَجَعَلُوا حَدِيثه هَذَا مُنْكَرًا ; لِأَنَّهُ اِنْفَرَدَ فِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَاد ; عَلَى أَنَّ عَبْد اللَّه بْن الْفَضْل لَمْ يَسْمَع مِنْ عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي رَافِع ; بَيْنهمَا الْأَعْرَج فِي غَيْر مَا حَدِيث . وَاَللَّه أَعْلَم . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( يُسَلِّم الْقَلِيل عَلَى الْكَثِير ) . وَلِمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَاحِد يُسَلِّم عَلَى الْجَمَاعَة وَلَا يَحْتَاج إِلَى تَكْرِيره عَلَى عِدَاد الْجَمَاعَة , كَذَلِكَ يَرُدّ الْوَاحِد عَنْ الْجَمَاعَة وَيَنُوب عَنْ الْبَاقِينَ كَفُرُوضِ الْكِفَايَة . وَرَوَى مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُسَلِّم الرَّاكِب عَلَى الْمَاشِي وَإِذَا سَلَّمَ وَاحِد مِنْ الْقَوْم أَجْزَأَ عَنْهُمْ ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْوَاحِد يَكْفِي فِي الرَّدّ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَال أَجْزَأَ عَنْهُمْ إِلَّا فِيمَا قَدْ وَجَبَ . وَاَللَّه أَعْلَم . قُلْت : هَكَذَا تَأَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا هَذَا الْحَدِيث وَجَعَلُوهُ حُجَّة فِي جَوَاز رَدّ الْوَاحِد ; وَفِيهِ قَلَق .
فِيهَا تِسْع مَسَائِل : الْأُولَى : رَدّ الْأَحْسَن أَنْ يَزِيد فَيَقُول : عَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه ; لِمَنْ قَالَ : سَلَامٌ عَلَيْك . فَإِنْ قَالَ : سَلَام عَلَيْك وَرَحْمَة اللَّه ; زِدْت فِي رَدّك : وَبَرَكَاته . وَهَذَا هُوَ النِّهَايَة فَلَا مَزِيد . قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْبَيْت الْكَرِيم " رَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته " [ هُود : 73 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَإِنْ اِنْتَهَى بِالسَّلَامِ غَايَته , زِدْت فِي رَدّك الْوَاو فِي أَوَّل كَلَامِك فَقُلْت : وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته . وَالرَّدّ بِالْمِثْلِ أَنْ تَقُول لِمَنْ قَالَ السَّلَام عَلَيْك : عَلَيْك السَّلَام , إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون السَّلَام كُلّه بِلَفْظِ الْجَمَاعَة , وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا . رَوَى الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ قَالَ : إِذَا سَلَّمْت عَلَى الْوَاحِد فَقُلْ : السَّلَام عَلَيْكُمْ , فَإِنَّ مَعَهُ الْمَلَائِكَةَ . وَكَذَلِكَ الْجَوَاب يَكُون بِلَفْظِ الْجَمْع ; قَالَ اِبْن أَبِي زَيْد : يَقُول الْمُسَلِّمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ , وَيَقُول الرَّادُّ وَعَلَيْكُمْ السَّلَام , أَوْ يَقُول السَّلَام عَلَيْكُمْ كَمَا قِيلَ لَهُ ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْله " أَوْ رُدُّوهَا " وَلَا تَقُلْ فِي رَدِّك : سَلَام عَلَيْك .
الثَّانِيَة : وَالِاخْتِيَار فِي التَّسْلِيم وَالْأَدَب فِيهِ تَقْدِيم اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَى اِسْم الْمَخْلُوق ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " سَلَام عَلَى إِلْ يَاسِين " [ الصَّافَّات : 130 ] . وَقَالَ فِي قِصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام : " رَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته عَلَيْكُمْ أَهْل الْبَيْت " [ هُود : 73 ] . وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيم : " سَلَام عَلَيْك " [ مَرْيَم : 47 ] . وَفِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ آدَم عَلَى صُورَته طُوله سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اِذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَر وَهُمْ نَفَر مِنْ الْمَلَائِكَة جُلُوس فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَك فَإِنَّهَا تَحِيَّتُك وَتَحِيَّة ذُرِّيَّتك - قَالَ - فَذَهَبَ فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة اللَّه - قَالَ - فَزَادُوهُ وَرَحْمَة اللَّه - قَالَ - فَكُلّ مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة عَلَى صُورَة آدَم وَطُوله سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْق يَنْقُص بَعْده حَتَّى الْآن ) .
قُلْت : فَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَدِيث مَعَ صِحَّته فَوَائِد سَبْعًا : الْأُولَى : الْإِخْبَار عَنْ صِفَة خَلْق آدَم . الثَّانِيَة : أَنَّا نَدْخُل الْجَنَّة عَلَيْهَا بِفَضْلِهِ . الثَّالِثَة : تَسْلِيم الْقَلِيل عَلَى الْكَثِير . الرَّابِعَة : تَقْدِيم اِسْم اللَّه تَعَالَى . الْخَامِسَة : الرَّدّ بِالْمِثْلِ لِقَوْلِهِمْ : السَّلَام عَلَيْكُمْ . السَّادِسَة : الزِّيَادَة فِي الرَّدّ . السَّابِعَة : إِجَابَة الْجَمِيع بِالرَّدِّ كَمَا يَقُول الْكُوفِيُّونَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّالِثَة : فَإِنْ رَدَّ فَقَدَّمَ اِسْم الْمُسَلَّم عَلَيْهِ لَمْ يَأْتِ مُحَرَّمًا وَلَا مَكْرُوهًا ; لِثُبُوتِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يُحْسِن الصَّلَاة وَقَدْ سَلَّمَ عَلَيْهِ : ( وَعَلَيْك السَّلَام اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ) . وَقَالَتْ عَائِشَة : وَعَلَيْهِ السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه ; حِينَ أَخْبَرَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيل يَقْرَأ عَلَيْهَا السَّلَام . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . وَفِي حَدِيث عَائِشَة مِنْ الْفِقْه أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرْسَلَ إِلَى رَجُل بِسَلَامِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ . كَمَا يَرُدّ عَلَيْهِ إِذَا شَافَهَهُ . وَجَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ أَبِي يُقْرِئُك السَّلَام ; فَقَالَ : ( عَلَيْك وَعَلَى أَبِيك السَّلَام ) . وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث جَابِر بْن سُلَيْم قَالَ : لَقِيت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : عَلَيْك السَّلَام يَا رَسُول اللَّه ; فَقَالَ : ( لَا تَقُلْ عَلَيْك السَّلَام فَإِنَّ عَلَيْك السَّلَام تَحِيَّة الْمَيِّت وَلَكِنْ قُلْ السَّلَام عَلَيْك ) . وَهَذَا الْحَدِيث لَا يَثْبُتُ ; إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَرَتْ عَادَة الْعَرَب بِتَقْدِيمِ اِسْم الْمُدَّعُو عَلَيْهِ فِي الشَّرّ كَقَوْلِهِمْ : عَلَيْهِ لَعْنَة اللَّه وَغَضَب اللَّه . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِنَّ عَلَيْك لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدِّين " . [ ص : 78 ] . وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا دَأْب الشُّعَرَاء وَعَادَتْهُمْ فِي تَحِيَّة الْمَوْتَى ; كَقَوْلِهِمْ : عَلَيْك سَلَام اللَّه قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا وَقَالَ آخَر وَهُوَ الشَّمَّاخ : عَلَيْك سَلَامٌ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ يَدُ اللَّه فِي ذَاكَ الْأَدِيم الْمُمَزَّقِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ , لَا أَنَّ ذَاكَ هُوَ اللَّفْظ الْمَشْرُوع فِي حَقّ الْمَوْتَى ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى الْمَوْتَى كَمَا سَلَّمَ عَلَى الْأَحْيَاء فَقَالَ : ( السَّلَام عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْم مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّه بِكُمْ لَاحِقُونَ ) . فَقَالَتْ عَائِشَة : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , كَيْفَ أَقُول إِذَا دَخَلْت الْمَقَابِر ؟ قَالَ : ( قُولِي السَّلَام عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَار مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) الْحَدِيث ; وَسَيَأْتِي فِي سُورَة " أَلْهَاكُمْ " [ التَّكَاثُر ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قُلْت : وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون حَدِيث عَائِشَة وَغَيْره فِي السَّلَام عَلَى أَهْل الْقُبُور جَمِيعهمْ إِذَا دَخَلَهَا وَأَشْرَفَ عَلَيْهَا , وَحَدِيث جَابِر بْن سُلَيْم خَاصّ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمُرُور الْمَقْصُود بِالزِّيَارَةِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الرَّابِعَة : مِنْ السُّنَّة تَسْلِيم الرَّاكِب عَلَى الْمَاشِي , وَالْقَائِم عَلَى الْقَاعِد , وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِير ; هَكَذَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة . قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُسَلِّم الرَّاكِب ) فَذَكَرَهُ فَبَدَأَ بِالرَّاكِبِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُ مِنْ الزَّهْو , وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي الْمَاشِي مِثْله . وَقِيلَ : لَمَّا كَانَ الْقَاعِد عَلَى حَال وَقَار وَثُبُوت وَسُكُون فَلَهُ مَزِيَّة بِذَلِكَ عَلَى الْمَاشِي ; لِأَنَّ حَاله عَلَى الْعَكْس مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا تَسْلِيم الْقَلِيل عَلَى الْكَثِير فَمُرَاعَاة لِشَرَفِيَّةِ جَمْع الْمُسْلِمِينَ وَأَكْثَرِيَّتِهِمْ . وَقَدْ زَادَ الْبُخَارِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث ( وَيُسَلِّم الصَّغِير عَلَى الْكَبِير ) . وَأَمَّا تَسْلِيم الْكَبِير عَلَى الصَّغِير فَرَوَى أَشْعَث عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى التَّسْلِيم عَلَى الصِّبْيَان ; قَالَ : لِأَنَّ الرَّدّ فَرْض وَالصَّبِيّ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّم عَلَيْهِمْ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّم عَلَى الصِّبْيَان وَلَكِنْ لَا يُسْمِعُهُمْ . وَقَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء : التَّسْلِيم عَلَيْهِمْ أَفْضَل مِنْ تَرْكِهِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَيَّار قَالَ : كُنْت أَمْشِي مَعَ ثَابِت فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ , وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ أَنَس فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ , وَحَدَّثَ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ . لَفْظ مُسْلِم . وَهَذَا مِنْ خُلُقِهِ الْعَظِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ تَدْرِيب لِلصَّغِيرِ وَحَضٌّ عَلَى تَعْلِيم السُّنَن وَرِيَاضَة لَهُمْ عَلَى آدَاب الشَّرِيعَة فِيهِ ; فَلْتُقْتَدَ . وَأَمَّا التَّسْلِيم عَلَى النِّسَاء فَجَائِز إِلَّا عَلَى الشَّابَّات مِنْهُنَّ خَوْف الْفِتْنَة مِنْ مُكَالَمَتِهِنَّ بِنَزْعَةِ شَيْطَان أَوْ خَائِنَة عَيْن . وَأَمَّا الْمُتَجَالَّات وَالْعُجْز فَحَسَنٌ لِلْأَمْنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ; هَذَا قَوْل عَطَاء وَقَتَادَة , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِك وَطَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء . وَمَنَعَهُ الْكُوفِيُّونَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُنَّ ذَوَات مَحْرَم وَقَالُوا : لَمَّا سَقَطَ عَنْ النِّسَاء الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَالْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاة سَقَطَ عَنْهُنَّ رَدّ السَّلَام فَلَا يُسَلَّم عَلَيْهِنَّ . وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ سَهْل بْن سَعْد قَالَ : كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَة . قُلْت وَلِمَ ؟ قَالَ : كَانَتْ لَنَا عَجُوز تُرْسِل إِلَيَّ بِضَاعَة - قَالَ اِبْن مَسْلَمَة : نَخْل بِالْمَدِينَةِ - فَتَأْخُذ مِنْ أُصُول السِّلْق فَتَطْرَحهُ فِي الْقِدْر وَتُكَرْكِر حَبَّات مِنْ شَعِير , فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَة اِنْصَرَفْنَا فَنُسَلِّم عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْله : وَمَا كُنَّا نَقِيل وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْد الْجُمُعَة . تُكَرْكِر أَيْ تَطْحَن ; قَالَهُ الْقُتَبِيّ .
الْخَامِسَة : وَالسُّنَّة فِي السَّلَام وَالْجَوَاب الْجَهْر ; وَلَا تَكْفِي الْإِشَارَة بِالْإِصْبَعِ وَالْكَفّ عِنْد الشَّافِعِيّ , وَعِنْدَنَا تَكْفِي إِذَا كَانَ عَلَى بُعْد ; رَوَى اِبْن وَهْب عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : السَّلَام اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَهُ اللَّه فِي الْأَرْض فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ ; فَإِنَّ الرَّجُل إِذَا سَلَّمَ عَلَى الْقَوْم فَرَدُّوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْل دَرَجَة لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ , فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْر مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ . وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث قَالَ : إِذَا سَلَّمَ الرَّجُل عَلَى الْقَوْم كَانَ لَهُ فَضْل دَرَجَة , فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة وَلَعَنَتْهُمْ . فَإِذَا رَدَّ الْمُسَلَّم عَلَيْهِ أَسْمَعَ جَوَابه ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُسْمِع الْمُسَلِّم لَمْ يَكُنْ جَوَابًا لَهُ ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَلِّم إِذَا سَلَّمَ بِسَلَامٍ لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُسَلَّم عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ سَلَامًا , فَكَذَلِكَ إِذَا أَجَابَ بِجَوَابٍ لَمْ يُسْمَع مِنْهُ فَلَيْسَ بِجَوَابٍ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا سَلَّمْتُمْ فَأَسْمِعُوا وَإِذَا رَدَدْتُمْ فَأَسْمِعُوا وَإِذَا قَعَدْتُمْ فَاقْعُدُوا بِالْأَمَانَةِ وَلَا يَرْفَعَنَّ بَعْضكُمْ حَدِيث بَعْض ) . قَالَ اِبْن وَهْب : وَأَخْبَرَنِي أُسَامَة بْن زَيْد عَنْ نَافِع قَالَ : كُنْت أُسَايِر رَجُلًا مِنْ فُقَهَاء الشَّام يُقَال لَهُ عَبْد اللَّه بْن زَكَرِيَّا فَحَبَسَتْنِي دَابَّتِي تَبُول , ثُمَّ أَدْرَكْته وَلَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْهِ ; فَقَالَ : أَلَا تُسَلِّم ؟ فَقُلْت : إِنَّمَا كُنْت مَعَك آنِفًا ; فَقَالَ : وَإِنْ صَحَّ ; لَقَدْ كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَسَايَرُونَ فَيُفَرِّق بَيْنهمْ الشَّجَر فَإِذَا اِلْتَقَوْا سَلَّمَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض .
السَّادِسَة : وَأَمَّا الْكَافِر فَحُكْم الرَّدّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَال لَهُ : وَعَلَيْكُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْمُرَاد بِالْآيَةِ : " وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ " فَإِذَا كَانَتْ مِنْ مُؤْمِن " فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا " وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَافِر فَرُدُّوا عَلَى مَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَال لَهُمْ : ( وَعَلَيْكُمْ ) . وَقَالَ عَطَاء : الْآيَة فِي الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّة , وَمَنْ سَلَّمَ مِنْ غَيْرهمْ قِيلَ لَهُ : عَلَيْك ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث . قُلْت : فَقَدْ جَاءَ إِثْبَات الْوَاو وَإِسْقَاطهَا فِي صَحِيح مُسْلِم ( عَلَيْك ) بِغَيْرِ وَاو وَهِيَ الرِّوَايَة الْوَاضِحَة الْمَعْنَى , وَأَمَّا مَعَ إِثْبَات الْوَاو فَفِيهَا إِشْكَال ; لِأَنَّ الْوَاو الْعَاطِفَة تَقْتَضِي التَّشْرِيك فَيَلْزَم مِنْهُ أَنْ يَدْخُل مَعَهُمْ فِيمَا دَعَوْا بِهِ عَلَيْنَا مِنْ الْمَوْت أَوْ مِنْ سَآمَة دِيننَا ; فَاخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ لِذَلِكَ عَلَى أَقْوَال : أَوْلَاهَا أَنْ يُقَال : إِنَّ الْوَاو عَلَى بَابهَا مِنْ الْعَطْف , غَيْر أَنَّا نُجَاب عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا , كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : هِيَ زَائِدَة . وَقِيلَ : لِلِاسْتِئْنَافِ . وَالْأُولَى أَوْلَى . وَرِوَايَة حَذْف الْوَاو أَحْسَنُ مَعْنًى وَإِثْبَاتهَا أَصَحّ رِوَايَة وَأَشْهَر , وَعَلَيْهَا مِنْ الْعُلَمَاء الْأَكْثَر .
السَّابِعَة : وَاخْتُلِفَ فِي رَدّ السَّلَام عَلَى أَهْل الذِّمَّة هَلْ هُوَ وَاجِب كَالرَّدِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ; وَإِلَيْهِ ذَهَبَ اِبْن عَبَّاس وَالشَّعْبِيّ وَقَتَادَة تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الْآيَة وَبِالْأَمْرِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي صَحِيح السُّنَّة . وَذَهَبَ مَالِك فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَشْهَب وَابْن وَهْب إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ; فَإِنْ رَدَدْت فَقُلْ : عَلَيْك . وَاخْتَارَ اِبْن طَاوُس أَنْ يَقُول فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ : عَلَاك السَّلَامُ . أَيْ اِرْتَفَعَ عَنْك . وَاخْتَارَ بَعْض عُلَمَائِنَا السِّلَام ( بِكَسْرِ السِّين ) يَعْنِي بِهِ الْحِجَارَة . وَقَوْل مَالِك وَغَيْره فِي ذَلِكَ كَافٍ شَافٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث , وَسَيَأْتِي فِي سُورَة " مَرْيَم " الْقَوْل فِي اِبْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ عِنْد قَوْله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيم فِي قَوْله لِأَبِيهِ " سَلَام عَلَيْك " [ مَرْيَم : 47 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْء إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَام بَيْنكُمْ ) . وَهَذَا يَقْتَضِي إِفْشَاءَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ دُون الْمُشْرِكِينَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّامِنَة : وَلَا يُسَلِّم عَلَى الْمُصَلِّي فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَدَّ بِالْإِشَارَةِ بِإِصْبَعِهِ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ حَتَّى يَفْرُغ مِنْ الصَّلَاة ثُمَّ يَرُدّ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّم عَلَى مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِ . دَخَلَ رَجُل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال فَقَالَ لَهُ : ( إِذَا وَجَدْتنِي أَوْ رَأَيْتنِي عَلَى هَذِهِ الْحَال فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيَّ فَإِنَّك إِنْ سَلَّمْت عَلَيَّ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْك ) . وَلَا يُسَلِّم عَلَى مَنْ يَقْرَأ الْقُرْآن فَيَقْطَع عَلَيْهِ قِرَاءَته , وَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَدَّ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ حَتَّى يَفْرُغ ثُمَّ يَرُدّ , وَلَا يُسَلِّم عَلَى مَنْ دَخَلَ الْحَمَّام وَهُوَ كَاشِف الْعَوْرَة , أَوْ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا لَهُ دَخْل بِالْحَمَّامِ , وَمَنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ سَلَّمَ عَلَيْهِ .
مَعْنَاهُ حَفِيظًا . وَقِيلَ : كَافِيًا ; مِنْ قَوْلهمْ : أَحْسَبَنِي كَذَا أَيْ كَفَانِي , وَمِثْله حَسْبُك اللَّه . وَقَالَ قَتَادَة : مُحَاسِبًا كَمَا يُقَال : أَكِيل بِمَعْنَى مُوَاكِل . وَقِيلَ : هُوَ فَعِيل مِنْ الْحِسَاب , وَحَسُنَتْ هَذِهِ الصِّفَة هُنَا ; لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَة فِي أَنْ يَزِيد الْإِنْسَان أَوْ يَنْقُص أَوْ يُوَفِّي قَدْرَ مَا يَجِيء بِهِ . رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن قَالَ : كُنَّا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُل فَسَلَّمَ , فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ فَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( عَشْر ) ثُمَّ جَلَسَ , ثُمَّ جَاءَ آخَر فَسَلَّمَ فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه ; فَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( عِشْرُونَ ) ثُمَّ جَلَسَ وَجَاءَ آخَر فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته ; فَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( ثَلَاثُونَ ) . وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَر مُفَسَّرًا وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِم : سَلَام عَلَيْكُمْ كُتِبَ لَهُ عَشْر حَسَنَات , فَإِنْ قَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَة . فَإِنْ قَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته كُتِبَ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَة , وَكَذَلِكَ لِمَنْ رَدَّ مِنْ الْأَجْر . وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الْآيَة وَتَأْوِيلهَا ; فَرَوَى اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ هَذِهِ الْآيَة فِي تَشْمِيت الْعَاطِس وَالرَّدّ عَلَى الْمُشَمِّت . وَهَذَا ضَعِيف ; إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَام دَلَالَة عَلَى ذَلِكَ , أَمَّا الرَّدّ عَلَى الْمُشَمِّت فَمِمَّا يَدْخُل بِالْقِيَاسِ فِي مَعْنَى رَدّ التَّحِيَّة , وَهَذَا هُوَ مَنْحَى مَالِك إِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَقَدْ يَجُوز أَنْ تُحْمَل هَذِهِ الْآيَة عَلَى الْهِبَة إِذَا كَانَتْ لِلثَّوَابِ ; فَمَنْ وُهِبَ لَهُ هِبَة عَلَى الثَّوَاب فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ قَبِلَهَا وَأَثَابَ عَلَيْهَا قِيمَتهَا .
قُلْت : وَنَحْو هَذَا قَالَ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة , قَالُوا : التَّحِيَّة هُنَا الْهَدِيَّة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَوْ رُدُّوهَا " وَلَا يُمْكِن رَدّ الْإِسْلَام بِعَيْنِهِ . وَظَاهِر الْكَلَام يَقْتَضِي أَدَاء التَّحِيَّة بِعَيْنِهَا وَهِيَ الْهَدِيَّة , فَأَمَرَ بِالتَّعْوِيضِ إِنْ قَبِلَ أَوْ الرَّدّ بِعَيْنِهِ , وَهَذَا لَا يُمْكِن فِي السَّلَام . وَسَيَأْتِي بَيَان حُكْم الْهِبَة لِلثَّوَابِ وَالْهَدِيَّة فِي سُورَة " الرُّوم " عِنْد قَوْله : " وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا " [ الرُّوم : 39 ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَالصَّحِيح أَنَّ التَّحِيَّة هَهُنَا السَّلَام ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِذَا جَاءُوك حَيَّوْك بِمَا لَمْ يُحَيِّك بِهِ اللَّه " [ الْمُجَادَلَة : 8 ] . وَقَالَ النَّابِغَة الذُّبْيَانِيّ : ش تُحَيِّيهِمْ بِيضُ الْوَلَائِد بَيْنَهُمْ و وَأَكْسِيَةُ الْإِضْرِيجِ فَوْق الْمَشَاجِبِ ش أَرَادَ : وَيُسَلِّم عَلَيْهِمْ . وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْمُفَسِّرِينَ . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَتَقَرَّرَ فَفِقْه الْآيَة أَنْ يُقَال : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاء بِالسَّلَامِ سُنَّة مُرَغَّب فِيهَا , وَرَدُّهُ فَرِيضَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا " . وَاخْتَلَفُوا إِذَا رَدَّ وَاحِد مِنْ جَمَاعَة هَلْ يُجْزِئُ أَوْ لَا ; فَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ إِلَى الْإِجْزَاء , وَأَنَّ الْمُسْلِم قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْل قَوْله . وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ رَدَّ السَّلَام مِنْ الْفُرُوض الْمُتَعَيِّنَة ; قَالُوا : وَالسَّلَام خِلَاف الرَّدّ ; لِأَنَّ الِابْتِدَاء بِهِ تَطَوُّع وَرَدّه فَرِيضَة . وَلَوْ رَدَّ غَيْر الْمُسْلِم عَلَيْهِمْ لَمْ يُسْقِطْ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَرْضَ الرَّدّ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَدَّ السَّلَام يَلْزَم كُلّ إِنْسَان بِعَيْنِهِ ; حَتَّى قَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن : إِنَّ الْمُصَلِّيَ يَرُدّ السَّلَام كَلَامًا إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَع ذَلِكَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ . وَالنَّاس عَلَى خِلَافه . اِحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُجْزِئ مِنْ الْجَمَاعَة إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّم أَحَدهمْ , وَيُجْزِئ عَنْ الْجُلُوس أَنْ يَرُدَّ أَحَدهمْ ) . وَهَذَا نَصّ فِي مَوْضِع الْخِلَاف . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهُوَ حَدِيث حَسَن لَا مُعَارِض لَهُ , وَفِي إِسْنَاده سَعِيد بْن خَالِد , وَهُوَ سَعِيد بْن خَالِد الْخُزَاعِيّ مَدَنِيّ لَيْسَ بِهِ بَأْس عِنْد بَعْضهمْ ; وَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضهمْ مِنْهُمْ أَبُو زُرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَيَعْقُوب بْن شَيْبَة وَجَعَلُوا حَدِيثه هَذَا مُنْكَرًا ; لِأَنَّهُ اِنْفَرَدَ فِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَاد ; عَلَى أَنَّ عَبْد اللَّه بْن الْفَضْل لَمْ يَسْمَع مِنْ عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي رَافِع ; بَيْنهمَا الْأَعْرَج فِي غَيْر مَا حَدِيث . وَاَللَّه أَعْلَم . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( يُسَلِّم الْقَلِيل عَلَى الْكَثِير ) . وَلِمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَاحِد يُسَلِّم عَلَى الْجَمَاعَة وَلَا يَحْتَاج إِلَى تَكْرِيره عَلَى عِدَاد الْجَمَاعَة , كَذَلِكَ يَرُدّ الْوَاحِد عَنْ الْجَمَاعَة وَيَنُوب عَنْ الْبَاقِينَ كَفُرُوضِ الْكِفَايَة . وَرَوَى مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُسَلِّم الرَّاكِب عَلَى الْمَاشِي وَإِذَا سَلَّمَ وَاحِد مِنْ الْقَوْم أَجْزَأَ عَنْهُمْ ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْوَاحِد يَكْفِي فِي الرَّدّ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَال أَجْزَأَ عَنْهُمْ إِلَّا فِيمَا قَدْ وَجَبَ . وَاَللَّه أَعْلَم . قُلْت : هَكَذَا تَأَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا هَذَا الْحَدِيث وَجَعَلُوهُ حُجَّة فِي جَوَاز رَدّ الْوَاحِد ; وَفِيهِ قَلَق .
فِيهَا تِسْع مَسَائِل : الْأُولَى : رَدّ الْأَحْسَن أَنْ يَزِيد فَيَقُول : عَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه ; لِمَنْ قَالَ : سَلَامٌ عَلَيْك . فَإِنْ قَالَ : سَلَام عَلَيْك وَرَحْمَة اللَّه ; زِدْت فِي رَدّك : وَبَرَكَاته . وَهَذَا هُوَ النِّهَايَة فَلَا مَزِيد . قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْبَيْت الْكَرِيم " رَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته " [ هُود : 73 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَإِنْ اِنْتَهَى بِالسَّلَامِ غَايَته , زِدْت فِي رَدّك الْوَاو فِي أَوَّل كَلَامِك فَقُلْت : وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته . وَالرَّدّ بِالْمِثْلِ أَنْ تَقُول لِمَنْ قَالَ السَّلَام عَلَيْك : عَلَيْك السَّلَام , إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون السَّلَام كُلّه بِلَفْظِ الْجَمَاعَة , وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا . رَوَى الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ قَالَ : إِذَا سَلَّمْت عَلَى الْوَاحِد فَقُلْ : السَّلَام عَلَيْكُمْ , فَإِنَّ مَعَهُ الْمَلَائِكَةَ . وَكَذَلِكَ الْجَوَاب يَكُون بِلَفْظِ الْجَمْع ; قَالَ اِبْن أَبِي زَيْد : يَقُول الْمُسَلِّمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ , وَيَقُول الرَّادُّ وَعَلَيْكُمْ السَّلَام , أَوْ يَقُول السَّلَام عَلَيْكُمْ كَمَا قِيلَ لَهُ ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْله " أَوْ رُدُّوهَا " وَلَا تَقُلْ فِي رَدِّك : سَلَام عَلَيْك .
الثَّانِيَة : وَالِاخْتِيَار فِي التَّسْلِيم وَالْأَدَب فِيهِ تَقْدِيم اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَى اِسْم الْمَخْلُوق ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " سَلَام عَلَى إِلْ يَاسِين " [ الصَّافَّات : 130 ] . وَقَالَ فِي قِصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام : " رَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته عَلَيْكُمْ أَهْل الْبَيْت " [ هُود : 73 ] . وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيم : " سَلَام عَلَيْك " [ مَرْيَم : 47 ] . وَفِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ آدَم عَلَى صُورَته طُوله سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اِذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَر وَهُمْ نَفَر مِنْ الْمَلَائِكَة جُلُوس فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَك فَإِنَّهَا تَحِيَّتُك وَتَحِيَّة ذُرِّيَّتك - قَالَ - فَذَهَبَ فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة اللَّه - قَالَ - فَزَادُوهُ وَرَحْمَة اللَّه - قَالَ - فَكُلّ مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة عَلَى صُورَة آدَم وَطُوله سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْق يَنْقُص بَعْده حَتَّى الْآن ) .
قُلْت : فَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَدِيث مَعَ صِحَّته فَوَائِد سَبْعًا : الْأُولَى : الْإِخْبَار عَنْ صِفَة خَلْق آدَم . الثَّانِيَة : أَنَّا نَدْخُل الْجَنَّة عَلَيْهَا بِفَضْلِهِ . الثَّالِثَة : تَسْلِيم الْقَلِيل عَلَى الْكَثِير . الرَّابِعَة : تَقْدِيم اِسْم اللَّه تَعَالَى . الْخَامِسَة : الرَّدّ بِالْمِثْلِ لِقَوْلِهِمْ : السَّلَام عَلَيْكُمْ . السَّادِسَة : الزِّيَادَة فِي الرَّدّ . السَّابِعَة : إِجَابَة الْجَمِيع بِالرَّدِّ كَمَا يَقُول الْكُوفِيُّونَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّالِثَة : فَإِنْ رَدَّ فَقَدَّمَ اِسْم الْمُسَلَّم عَلَيْهِ لَمْ يَأْتِ مُحَرَّمًا وَلَا مَكْرُوهًا ; لِثُبُوتِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يُحْسِن الصَّلَاة وَقَدْ سَلَّمَ عَلَيْهِ : ( وَعَلَيْك السَّلَام اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ) . وَقَالَتْ عَائِشَة : وَعَلَيْهِ السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه ; حِينَ أَخْبَرَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيل يَقْرَأ عَلَيْهَا السَّلَام . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . وَفِي حَدِيث عَائِشَة مِنْ الْفِقْه أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرْسَلَ إِلَى رَجُل بِسَلَامِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ . كَمَا يَرُدّ عَلَيْهِ إِذَا شَافَهَهُ . وَجَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ أَبِي يُقْرِئُك السَّلَام ; فَقَالَ : ( عَلَيْك وَعَلَى أَبِيك السَّلَام ) . وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث جَابِر بْن سُلَيْم قَالَ : لَقِيت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : عَلَيْك السَّلَام يَا رَسُول اللَّه ; فَقَالَ : ( لَا تَقُلْ عَلَيْك السَّلَام فَإِنَّ عَلَيْك السَّلَام تَحِيَّة الْمَيِّت وَلَكِنْ قُلْ السَّلَام عَلَيْك ) . وَهَذَا الْحَدِيث لَا يَثْبُتُ ; إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَرَتْ عَادَة الْعَرَب بِتَقْدِيمِ اِسْم الْمُدَّعُو عَلَيْهِ فِي الشَّرّ كَقَوْلِهِمْ : عَلَيْهِ لَعْنَة اللَّه وَغَضَب اللَّه . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِنَّ عَلَيْك لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدِّين " . [ ص : 78 ] . وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا دَأْب الشُّعَرَاء وَعَادَتْهُمْ فِي تَحِيَّة الْمَوْتَى ; كَقَوْلِهِمْ : عَلَيْك سَلَام اللَّه قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا وَقَالَ آخَر وَهُوَ الشَّمَّاخ : عَلَيْك سَلَامٌ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ يَدُ اللَّه فِي ذَاكَ الْأَدِيم الْمُمَزَّقِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ , لَا أَنَّ ذَاكَ هُوَ اللَّفْظ الْمَشْرُوع فِي حَقّ الْمَوْتَى ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى الْمَوْتَى كَمَا سَلَّمَ عَلَى الْأَحْيَاء فَقَالَ : ( السَّلَام عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْم مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّه بِكُمْ لَاحِقُونَ ) . فَقَالَتْ عَائِشَة : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , كَيْفَ أَقُول إِذَا دَخَلْت الْمَقَابِر ؟ قَالَ : ( قُولِي السَّلَام عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَار مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) الْحَدِيث ; وَسَيَأْتِي فِي سُورَة " أَلْهَاكُمْ " [ التَّكَاثُر ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قُلْت : وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون حَدِيث عَائِشَة وَغَيْره فِي السَّلَام عَلَى أَهْل الْقُبُور جَمِيعهمْ إِذَا دَخَلَهَا وَأَشْرَفَ عَلَيْهَا , وَحَدِيث جَابِر بْن سُلَيْم خَاصّ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمُرُور الْمَقْصُود بِالزِّيَارَةِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الرَّابِعَة : مِنْ السُّنَّة تَسْلِيم الرَّاكِب عَلَى الْمَاشِي , وَالْقَائِم عَلَى الْقَاعِد , وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِير ; هَكَذَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة . قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُسَلِّم الرَّاكِب ) فَذَكَرَهُ فَبَدَأَ بِالرَّاكِبِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُ مِنْ الزَّهْو , وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي الْمَاشِي مِثْله . وَقِيلَ : لَمَّا كَانَ الْقَاعِد عَلَى حَال وَقَار وَثُبُوت وَسُكُون فَلَهُ مَزِيَّة بِذَلِكَ عَلَى الْمَاشِي ; لِأَنَّ حَاله عَلَى الْعَكْس مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا تَسْلِيم الْقَلِيل عَلَى الْكَثِير فَمُرَاعَاة لِشَرَفِيَّةِ جَمْع الْمُسْلِمِينَ وَأَكْثَرِيَّتِهِمْ . وَقَدْ زَادَ الْبُخَارِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث ( وَيُسَلِّم الصَّغِير عَلَى الْكَبِير ) . وَأَمَّا تَسْلِيم الْكَبِير عَلَى الصَّغِير فَرَوَى أَشْعَث عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى التَّسْلِيم عَلَى الصِّبْيَان ; قَالَ : لِأَنَّ الرَّدّ فَرْض وَالصَّبِيّ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّم عَلَيْهِمْ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّم عَلَى الصِّبْيَان وَلَكِنْ لَا يُسْمِعُهُمْ . وَقَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء : التَّسْلِيم عَلَيْهِمْ أَفْضَل مِنْ تَرْكِهِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَيَّار قَالَ : كُنْت أَمْشِي مَعَ ثَابِت فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ , وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ أَنَس فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ , وَحَدَّثَ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ . لَفْظ مُسْلِم . وَهَذَا مِنْ خُلُقِهِ الْعَظِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ تَدْرِيب لِلصَّغِيرِ وَحَضٌّ عَلَى تَعْلِيم السُّنَن وَرِيَاضَة لَهُمْ عَلَى آدَاب الشَّرِيعَة فِيهِ ; فَلْتُقْتَدَ . وَأَمَّا التَّسْلِيم عَلَى النِّسَاء فَجَائِز إِلَّا عَلَى الشَّابَّات مِنْهُنَّ خَوْف الْفِتْنَة مِنْ مُكَالَمَتِهِنَّ بِنَزْعَةِ شَيْطَان أَوْ خَائِنَة عَيْن . وَأَمَّا الْمُتَجَالَّات وَالْعُجْز فَحَسَنٌ لِلْأَمْنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ; هَذَا قَوْل عَطَاء وَقَتَادَة , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِك وَطَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء . وَمَنَعَهُ الْكُوفِيُّونَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُنَّ ذَوَات مَحْرَم وَقَالُوا : لَمَّا سَقَطَ عَنْ النِّسَاء الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَالْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاة سَقَطَ عَنْهُنَّ رَدّ السَّلَام فَلَا يُسَلَّم عَلَيْهِنَّ . وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ سَهْل بْن سَعْد قَالَ : كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَة . قُلْت وَلِمَ ؟ قَالَ : كَانَتْ لَنَا عَجُوز تُرْسِل إِلَيَّ بِضَاعَة - قَالَ اِبْن مَسْلَمَة : نَخْل بِالْمَدِينَةِ - فَتَأْخُذ مِنْ أُصُول السِّلْق فَتَطْرَحهُ فِي الْقِدْر وَتُكَرْكِر حَبَّات مِنْ شَعِير , فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَة اِنْصَرَفْنَا فَنُسَلِّم عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْله : وَمَا كُنَّا نَقِيل وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْد الْجُمُعَة . تُكَرْكِر أَيْ تَطْحَن ; قَالَهُ الْقُتَبِيّ .
الْخَامِسَة : وَالسُّنَّة فِي السَّلَام وَالْجَوَاب الْجَهْر ; وَلَا تَكْفِي الْإِشَارَة بِالْإِصْبَعِ وَالْكَفّ عِنْد الشَّافِعِيّ , وَعِنْدَنَا تَكْفِي إِذَا كَانَ عَلَى بُعْد ; رَوَى اِبْن وَهْب عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : السَّلَام اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَهُ اللَّه فِي الْأَرْض فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ ; فَإِنَّ الرَّجُل إِذَا سَلَّمَ عَلَى الْقَوْم فَرَدُّوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْل دَرَجَة لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ , فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْر مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ . وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث قَالَ : إِذَا سَلَّمَ الرَّجُل عَلَى الْقَوْم كَانَ لَهُ فَضْل دَرَجَة , فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة وَلَعَنَتْهُمْ . فَإِذَا رَدَّ الْمُسَلَّم عَلَيْهِ أَسْمَعَ جَوَابه ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُسْمِع الْمُسَلِّم لَمْ يَكُنْ جَوَابًا لَهُ ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَلِّم إِذَا سَلَّمَ بِسَلَامٍ لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُسَلَّم عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ سَلَامًا , فَكَذَلِكَ إِذَا أَجَابَ بِجَوَابٍ لَمْ يُسْمَع مِنْهُ فَلَيْسَ بِجَوَابٍ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا سَلَّمْتُمْ فَأَسْمِعُوا وَإِذَا رَدَدْتُمْ فَأَسْمِعُوا وَإِذَا قَعَدْتُمْ فَاقْعُدُوا بِالْأَمَانَةِ وَلَا يَرْفَعَنَّ بَعْضكُمْ حَدِيث بَعْض ) . قَالَ اِبْن وَهْب : وَأَخْبَرَنِي أُسَامَة بْن زَيْد عَنْ نَافِع قَالَ : كُنْت أُسَايِر رَجُلًا مِنْ فُقَهَاء الشَّام يُقَال لَهُ عَبْد اللَّه بْن زَكَرِيَّا فَحَبَسَتْنِي دَابَّتِي تَبُول , ثُمَّ أَدْرَكْته وَلَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْهِ ; فَقَالَ : أَلَا تُسَلِّم ؟ فَقُلْت : إِنَّمَا كُنْت مَعَك آنِفًا ; فَقَالَ : وَإِنْ صَحَّ ; لَقَدْ كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَسَايَرُونَ فَيُفَرِّق بَيْنهمْ الشَّجَر فَإِذَا اِلْتَقَوْا سَلَّمَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض .
السَّادِسَة : وَأَمَّا الْكَافِر فَحُكْم الرَّدّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَال لَهُ : وَعَلَيْكُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْمُرَاد بِالْآيَةِ : " وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ " فَإِذَا كَانَتْ مِنْ مُؤْمِن " فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا " وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَافِر فَرُدُّوا عَلَى مَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَال لَهُمْ : ( وَعَلَيْكُمْ ) . وَقَالَ عَطَاء : الْآيَة فِي الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّة , وَمَنْ سَلَّمَ مِنْ غَيْرهمْ قِيلَ لَهُ : عَلَيْك ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث . قُلْت : فَقَدْ جَاءَ إِثْبَات الْوَاو وَإِسْقَاطهَا فِي صَحِيح مُسْلِم ( عَلَيْك ) بِغَيْرِ وَاو وَهِيَ الرِّوَايَة الْوَاضِحَة الْمَعْنَى , وَأَمَّا مَعَ إِثْبَات الْوَاو فَفِيهَا إِشْكَال ; لِأَنَّ الْوَاو الْعَاطِفَة تَقْتَضِي التَّشْرِيك فَيَلْزَم مِنْهُ أَنْ يَدْخُل مَعَهُمْ فِيمَا دَعَوْا بِهِ عَلَيْنَا مِنْ الْمَوْت أَوْ مِنْ سَآمَة دِيننَا ; فَاخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ لِذَلِكَ عَلَى أَقْوَال : أَوْلَاهَا أَنْ يُقَال : إِنَّ الْوَاو عَلَى بَابهَا مِنْ الْعَطْف , غَيْر أَنَّا نُجَاب عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا , كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : هِيَ زَائِدَة . وَقِيلَ : لِلِاسْتِئْنَافِ . وَالْأُولَى أَوْلَى . وَرِوَايَة حَذْف الْوَاو أَحْسَنُ مَعْنًى وَإِثْبَاتهَا أَصَحّ رِوَايَة وَأَشْهَر , وَعَلَيْهَا مِنْ الْعُلَمَاء الْأَكْثَر .
السَّابِعَة : وَاخْتُلِفَ فِي رَدّ السَّلَام عَلَى أَهْل الذِّمَّة هَلْ هُوَ وَاجِب كَالرَّدِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ; وَإِلَيْهِ ذَهَبَ اِبْن عَبَّاس وَالشَّعْبِيّ وَقَتَادَة تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الْآيَة وَبِالْأَمْرِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي صَحِيح السُّنَّة . وَذَهَبَ مَالِك فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَشْهَب وَابْن وَهْب إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ; فَإِنْ رَدَدْت فَقُلْ : عَلَيْك . وَاخْتَارَ اِبْن طَاوُس أَنْ يَقُول فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ : عَلَاك السَّلَامُ . أَيْ اِرْتَفَعَ عَنْك . وَاخْتَارَ بَعْض عُلَمَائِنَا السِّلَام ( بِكَسْرِ السِّين ) يَعْنِي بِهِ الْحِجَارَة . وَقَوْل مَالِك وَغَيْره فِي ذَلِكَ كَافٍ شَافٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث , وَسَيَأْتِي فِي سُورَة " مَرْيَم " الْقَوْل فِي اِبْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ عِنْد قَوْله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيم فِي قَوْله لِأَبِيهِ " سَلَام عَلَيْك " [ مَرْيَم : 47 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْء إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَام بَيْنكُمْ ) . وَهَذَا يَقْتَضِي إِفْشَاءَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ دُون الْمُشْرِكِينَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
الثَّامِنَة : وَلَا يُسَلِّم عَلَى الْمُصَلِّي فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَدَّ بِالْإِشَارَةِ بِإِصْبَعِهِ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ حَتَّى يَفْرُغ مِنْ الصَّلَاة ثُمَّ يَرُدّ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّم عَلَى مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِ . دَخَلَ رَجُل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال فَقَالَ لَهُ : ( إِذَا وَجَدْتنِي أَوْ رَأَيْتنِي عَلَى هَذِهِ الْحَال فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيَّ فَإِنَّك إِنْ سَلَّمْت عَلَيَّ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْك ) . وَلَا يُسَلِّم عَلَى مَنْ يَقْرَأ الْقُرْآن فَيَقْطَع عَلَيْهِ قِرَاءَته , وَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَدَّ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ حَتَّى يَفْرُغ ثُمَّ يَرُدّ , وَلَا يُسَلِّم عَلَى مَنْ دَخَلَ الْحَمَّام وَهُوَ كَاشِف الْعَوْرَة , أَوْ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا لَهُ دَخْل بِالْحَمَّامِ , وَمَنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ سَلَّمَ عَلَيْهِ .
مَعْنَاهُ حَفِيظًا . وَقِيلَ : كَافِيًا ; مِنْ قَوْلهمْ : أَحْسَبَنِي كَذَا أَيْ كَفَانِي , وَمِثْله حَسْبُك اللَّه . وَقَالَ قَتَادَة : مُحَاسِبًا كَمَا يُقَال : أَكِيل بِمَعْنَى مُوَاكِل . وَقِيلَ : هُوَ فَعِيل مِنْ الْحِسَاب , وَحَسُنَتْ هَذِهِ الصِّفَة هُنَا ; لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَة فِي أَنْ يَزِيد الْإِنْسَان أَوْ يَنْقُص أَوْ يُوَفِّي قَدْرَ مَا يَجِيء بِهِ . رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن قَالَ : كُنَّا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُل فَسَلَّمَ , فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ فَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( عَشْر ) ثُمَّ جَلَسَ , ثُمَّ جَاءَ آخَر فَسَلَّمَ فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه ; فَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( عِشْرُونَ ) ثُمَّ جَلَسَ وَجَاءَ آخَر فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته ; فَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( ثَلَاثُونَ ) . وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَر مُفَسَّرًا وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِم : سَلَام عَلَيْكُمْ كُتِبَ لَهُ عَشْر حَسَنَات , فَإِنْ قَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَة . فَإِنْ قَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته كُتِبَ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَة , وَكَذَلِكَ لِمَنْ رَدَّ مِنْ الْأَجْر . وَاَللَّه أَعْلَم .
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ↓
اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَاللَّام فِي قَوْل " لَيَجْمَعَنَّكُمْ " لَام الْقَسَم ; نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ شَكُّوا فِي الْبَعْث فَأَقْسَمَ اللَّه تَعَالَى بِنَفْسِهِ . وَكُلّ لَام بَعْدهَا نُون مُشَدَّدَة فَهُوَ لَام الْقَسَم . وَمَعْنَاهُ فِي الْمَوْت وَتَحْت الْأَرْض
وَقَالَ بَعْضهمْ : " إِلَى " صِلَة فِي الْكَلَام , مَعْنَاهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَوْم الْقِيَامَة . وَسُمِّيَتْ الْقِيَامَة قِيَامَة لِأَنَّ النَّاس يَقُومُونَ فِيهِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ جَلَّ وَعَزَّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَلَا يَظُنّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيم . يَوْمَ يَقُوم النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 4 - 6 ] . وَقِيلَ : سُمِّيَ يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّ النَّاس يَقُومُونَ مِنْ قُبُورهمْ إِلَيْهَا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يَوْم يَخْرُجُونَ مِنْ الْأَجْدَاث سِرَاعًا " [ الْمَعَارِج : 43 ] وَأَصْل الْقِيَامَة الْوَاو .
نَصْب عَلَى الْبَيَان , وَالْمَعْنَى لَا أَحَد أَصْدَق مِنْ اللَّه . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " وَمَنْ أَزْدَق " بِالزَّايِ . الْبَاقُونَ : بِالصَّادِ , وَأَصْله الصَّاد إِلَّا أَنَّ لِقُرْبِ مَخْرَجهَا جُعِلَ مَكَانَهَا زَاي .
وَقَالَ بَعْضهمْ : " إِلَى " صِلَة فِي الْكَلَام , مَعْنَاهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَوْم الْقِيَامَة . وَسُمِّيَتْ الْقِيَامَة قِيَامَة لِأَنَّ النَّاس يَقُومُونَ فِيهِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ جَلَّ وَعَزَّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَلَا يَظُنّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيم . يَوْمَ يَقُوم النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 4 - 6 ] . وَقِيلَ : سُمِّيَ يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّ النَّاس يَقُومُونَ مِنْ قُبُورهمْ إِلَيْهَا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يَوْم يَخْرُجُونَ مِنْ الْأَجْدَاث سِرَاعًا " [ الْمَعَارِج : 43 ] وَأَصْل الْقِيَامَة الْوَاو .
نَصْب عَلَى الْبَيَان , وَالْمَعْنَى لَا أَحَد أَصْدَق مِنْ اللَّه . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " وَمَنْ أَزْدَق " بِالزَّايِ . الْبَاقُونَ : بِالصَّادِ , وَأَصْله الصَّاد إِلَّا أَنَّ لِقُرْبِ مَخْرَجهَا جُعِلَ مَكَانَهَا زَاي .
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ↓
" فِئَتَيْنِ " أَيْ فِرْقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ . رَوَى مُسْلِم عَنْ زَيْد بْن ثَابِت أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُد فَرَجَعَ نَاس مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ , فَكَانَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ ; فَقَالَ بَعْضهمْ : نَقْتُلهُمْ . وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا ; فَنَزَلَتْ " فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ " . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ فَزَادَ : وَقَالَ : ( إِنَّهَا طَيِّبَة ) وَقَالَ : ( إِنَّهَا تَنْفِي الْخَبِيث كَمَا تَنْفِي النَّار خَبَثَ الْحَدِيد ) قَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَالَ الْبُخَارِيّ : ( إِنَّهَا طَيْبَة تَنْفِي الْخَبَث كَمَا تَنْفِي النَّار خَبَث الْفِضَّة ) . وَالْمَعْنَى بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَأَصْحَابه الَّذِينَ خَذَلُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أُحُد وَرَجَعُوا بِعَسْكَرِهِمْ بَعْد أَنْ خَرَجُوا ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي " آل عِمْرَان " . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ قَوْم بِمَكَّة آمَنُوا وَتَرَكُوا الْهِجْرَة , قَالَ الضَّحَّاك : وَقَالُوا إِنْ ظَهَرَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ عَرَفَنَا , وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمنَا فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا . فَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ فِئَتَيْنِ قَوْم يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَقَوْم يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ ; فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ " . وَذَكَرَ أَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْم جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَة وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَام ; فَأَصَابَهُمْ وَبَاء الْمَدِينَة وَحُمَّاهَا ; فَأُرْكِسُوا فَخَرَجُوا مِنْ الْمَدِينَة , فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ ؟ فَقَالُوا : أَصَابَنَا وَبَاء الْمَدِينَة فَاجْتَوَيْنَاهَا ; فَقَالُوا : مَا لَكُمْ فِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَة ؟ فَقَالَ بَعْضهمْ : نَافَقُوا . وَقَالَ بَعْضهمْ : لَمْ يُنَافِقُوا , هُمْ مُسْلِمُونَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاَللَّه أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا " الْآيَة . حَتَّى جَاءُوا الْمَدِينَة يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ , ثُمَّ اِرْتَدُّوا بَعْد ذَلِكَ , فَاسْتَأْذَنُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّة لِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ يَتَّجِرُونَ فِيهَا , فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ الْمُؤْمِنُونَ فَقَائِل يَقُول : هُمْ مُنَافِقُونَ , وَقَائِل يَقُول : هُمْ مُؤْمِنُونَ ; فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى نِفَاقهمْ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَة وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ . قُلْت : وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يُعَضِّدُهُمَا سِيَاق آخِر الْآيَة مِنْ قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى يُهَاجِرُوا " [ النِّسَاء : 89 ] , وَالْأَوَّل أَصَحّ نَقْلًا , وَهُوَ اِخْتِيَار الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ . و " فِئَتَيْنِ " نَصْب عَلَى الْحَال ; كَمَا يُقَال : مَا لَك قَائِمًا ؟ عَنْ الْأَخْفَش . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : هُوَ خَبَر " مَا لَكُمْ " كَخَبَرِ كَانَ وَظَنَنْت , وَأَجَازُوا إِدْخَال الْأَلِف وَاللَّام فِيهِ وَحَكَى الْفَرَّاء : " أَرْكَسَهُمْ , وَرَكَسَهُمْ " أَيْ رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْر وَنَكَسَهُمْ ; وَقَالَهُ النَّضْر بْن شُمَيْل وَالْكِسَائِيّ : وَالرَّكْس وَالنَّكْس قَلْب الشَّيْء عَلَى رَأْسه , أَوْ رَدّ أَوَّله عَلَى آخِره , وَالْمَرْكُوس الْمَنْكُوس . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه وَأُبَيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا " وَاَللَّه رَكَسَهُمْ " . وَقَالَ ابْن رَوَاحَة : أُرْكِسُوا فِي فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوهَا فِتَنْ أَيْ نُكِسُوا . وَارْتَكَسَ فُلَان فِي أَمْر كَانَ نَجَا مِنْهُ . وَالرُّكُوسِيَّة قَوْم بَيْنَ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ . وَالرَّاكِس الثَّوْر وَسَط الْبَدْر وَالثِّيرَان حَوَالَيْهِ حِينَ الدِّيَاس .
أَيْ تُرْشِدُوهُ إِلَى الثَّوَاب بِأَنْ يَحْكُم لَهُمْ بِحُكْمِ الْمُؤْمِنِينَ .
أَيْ طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى وَالرُّشْد وَطَلَب الْحُجَّة . وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَغَيْرهمْ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ هُدَاهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ تُرْشِدُوهُ إِلَى الثَّوَاب بِأَنْ يَحْكُم لَهُمْ بِحُكْمِ الْمُؤْمِنِينَ .
أَيْ طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى وَالرُّشْد وَطَلَب الْحُجَّة . وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَغَيْرهمْ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ هُدَاهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ↓
أَيْ تَمَنَّوْا أَنْ تَكُونُوا كَهُمْ فِي الْكُفْر وَالنِّفَاق شَرْعٌ سَوَاء ;
يَقُول : إِنْ أَعْرَضُوا عَنْ التَّوْحِيد وَالْهِجْرَة فَأْسِرُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ .
عَامّ فِي الْأَمَاكِن مِنْ حِلّ وَحَرَم . وَاَللَّه أَعْلَم .
يَقُول : إِنْ أَعْرَضُوا عَنْ التَّوْحِيد وَالْهِجْرَة فَأْسِرُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ .
عَامّ فِي الْأَمَاكِن مِنْ حِلّ وَحَرَم . وَاَللَّه أَعْلَم .
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ↓
اِسْتِثْنَاء أَيْ يَتَّصِلُونَ بِهِمْ وَيَدْخُلُونَ فِيمَا بَيْنهمْ مِنْ الْجِوَار وَالْحِلْف ; الْمَعْنَى : فَلَا تَقْتُلُوا قَوْمًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ فَإِنَّهُمْ عَلَى عَهْدهمْ ثُمَّ اِنْتَسَخَتْ الْعُهُود فَانْتَسَخَ هَذَا . هَذَا قَوْل مُجَاهِد وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ , وَهُوَ أَصَحّ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْآيَة . قَالَ أَبُو عُبَيْد : يَصِلُونَ يَنْتَسِبُونَ ; وَمِنْهُ قَوْل الْأَعْشَى : إِذَا اِتَّصَلَتْ قَالَتْ لِبَكْرِ بْن وَائِل وَبَكْر سَبَتْهَا وَالْأُنُوفُ رَوَاغِمُ يُرِيد إِذَا اِنْتَسَبَتْ . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَأَنْكَرَهُ الْعُلَمَاء ; لِأَنَّ النَّسَب لَا يَمْنَع مِنْ قِتَال الْكُفَّار وَقَتْلهمْ . وَقَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا غَلَط عَظِيم ; لِأَنَّهُ يَذْهَب إِلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَظَرَ أَنْ يُقَاتَل أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ نَسَب , وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْسَاب , وَأَشَدّ مِنْ هَذَا الْجَهْل بِأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ نُسِخَ ; لِأَنَّ أَهْل التَّأْوِيل مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ النَّاسِخ لَهُ " بَرَاءَة " وَإِنَّمَا نَزَلَتْ " بَرَاءَة " بَعْد الْفَتْح وَبَعْد أَنْ اِنْقَطَعَتْ الْحُرُوب . وَقَالَ مَعْنَاهُ الطَّبَرِيّ .
قُلْت : حَمَلَ بَعْض الْعُلَمَاء مَعْنَى يَنْتَسِبُونَ عَلَى الْأَمَان ; أَيْ إِنَّ الْمُنْتَسِب إِلَى أَهْل الْأَمَان آمَنَ إِذَا أَمِنَ الْكُلّ مِنْهُمْ , لَا عَلَى مَعْنَى النَّسَب الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْقَرَابَة . وَاخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاق ; فَقِيلَ : بَنُو مُدْلِج . عَنْ الْحَسَن : كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْنَ قُرَيْش عَقْد , وَكَانَ بَيْنَ قُرَيْش وَبَيْنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْد . وَقَالَ عِكْرِمَة : نَزَلَتْ فِي هِلَال بْن عُوَيْمِر وَسُرَاقَة بْن جُعْشُم وَخُزَيْمَة بْن عَامِر بْن عَبْد مَنَافٍ كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْد . وَقِيلَ : خُزَاعَة . وَقَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق بَنِي بَكْر بْن زَيْد بْن مَنَاة , كَانُوا فِي الصُّلْح وَالْهُدْنَة .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى إِثْبَات الْمُوَادَعَة بَيْنَ أَهْل الْحَرْب وَأَهْل الْإِسْلَام إِذَا كَانَ فِي الْمُوَادَعَة مَصْلَحَة لِلْمُسْلِمِينَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي " الْأَنْفَال وَبَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
أَيْ ضَاقَتْ . وَقَالَ لَبِيد : أَسْهَلْت وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنِيفَةٍ جَرْدَاءَ يَحْصُرُ دُونَهَا جُرَّامُهَا أَيْ تَضِيق صُدُورهمْ مِنْ طُول هَذِهِ النَّخْلَة ; وَمِنْهُ الْحَصْر فِي الْقَوْل وَهُوَ ضِيق الْكَلَام عَلَى الْمُتَكَلِّم . وَالْحَصِرُ الْكَتُوم لِلسِّرِّ ; قَالَ جَرِير : وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاة فَصَادَفُوا حَصِرًا بِسِرِّك يَا أُمِيمُ ضَنِينَا وَمَعْنَى " حَصِرَتْ " قَدْ حَصِرَتْ فَأُضْمِرَتْ قَدْ ; قَالَ الْفَرَّاء : وَهُوَ حَال مِنْ الْمُضْمَر الْمَرْفُوع فِي " جَاءُوكُمْ " كَمَا تَقُول : جَاءَ فُلَان ذَهَبَ عَقْلُهُ , أَيْ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ . وَقِيلَ : هُوَ خَبَر بَعْد خَبَر قَالَهُ الزَّجَّاج . أَيْ جَاءُوكُمْ ثُمَّ أَخْبَرَ فَقَالَ : " حَصِرَتْ صُدُورهمْ " فَعَلَى هَذَا يَكُون " حَصِرَتْ " بَدَلًا مِنْ " جَاءُوكُمْ " كَمَا قِيلَ : " حَصِرَتْ " فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى النَّعْت لِقَوْمٍ . وَفِي حَرْف أُبَيّ " إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ حَصِرَتْ صُدُورهمْ " لَيْسَ فِيهِ " أَوْ جَاءُوكُمْ " . وَقِيلَ : تَقْدِيره أَوْ جَاءُوكُمْ رِجَالًا أَوْ قَوْمًا حَصِرَتْ صُدُورهمْ ; فَهِيَ صِفَة مَوْصُوف مَنْصُوب عَلَى الْحَال . وَقَرَأَ الْحَسَن " أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورهمْ " نَصّ عَلَى الْحَال , وَيَجُوز رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر . وَحَكَى " أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَاتٍ صُدُورُهُمْ " , وَيَجُوز الرَّفْع . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : " حَصِرَتْ صُدُورهمْ " هُوَ دُعَاء عَلَيْهِمْ ; كَمَا تَقُول : لَعَنَ اللَّه الْكَافِر ; وَقَالَهُ الْمُبَرِّد . وَضَعَّفَهُ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ وَقَالَ : هَذَا يَقْتَضِي أَلَّا يُقَاتِلُوا قَوْمهمْ ; وَذَلِكَ فَاسِد ; لِأَنَّهُمْ كُفَّار وَقَوْمهمْ كُفَّار . وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيح , فَيَكُون عَدَم الْقِتَال فِي حَقّ الْمُسْلِمِينَ تَعْجِيزًا لَهُمْ , وَفِي حَقّ قَوْمهمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ . وَقِيلَ : " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاو ; كَأَنَّهُ يَقُول : إِلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق وَجَاءُوكُمْ ضَيِّقَة صُدُورهمْ عَنْ قِتَالكُمْ وَالْقِتَال مَعَكُمْ فَكَرِهُوا قِتَال الْفَرِيقَيْنِ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نَوْع مِنْ الْعَهْد , أَوْ قَالُوا نُسَلِّم وَلَا نُقَاتِل ; فَيَحْتَمِل أَنْ يُقْبَل ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَوَّل الْإِسْلَام حَتَّى يَفْتَح اللَّه قُلُوبهمْ لِلتَّقْوَى وَيَشْرَحَهَا لِلْإِسْلَامِ . وَالْأَوَّل أَظْهَرُ . وَاَللَّه أَعْلَم . " أَوْ يُقَاتِلُوا " فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ عَنْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ .
تَسْلِيط اللَّه تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هُوَ بِأَنْ يُقْدِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُقَوِّيهِمْ إِمَّا عُقُوبَة وَنِقْمَة عِنْد إِذَاعَة الْمُنْكَر وَظُهُور الْمَعَاصِي , وَإِمَّا اِبْتِلَاء وَاخْتِبَارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَم الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ " [ مُحَمَّد : 31 ] , وَإِمَّا تَمْحِيصًا لِلذُّنُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَلِيُمَحَّصَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا " [ آل عِمْرَان : 141 ] وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَل مَا يَشَاء وَيُسَلِّط مَنْ يَشَاء عَلَى مَنْ يَشَاء إِذَا شَاءَ . وَوَجْه النَّظْم وَالِاتِّصَال بِمَا قَبْلُ أَيْ اُقْتُلُوا الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِمْ إِلَّا أَنْ يُهَاجِرُوا , وَإِلَّا أَنْ يَتَّصِلُوا بِمَنْ بَيْنكُمْ وَبَيْنهمْ مِيثَاق فَيَدْخُلُونَ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ فَلَهُمْ حُكْمهمْ , وَإِلَّا الَّذِينَ جَاءُوكُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورهمْ عَنْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمهمْ فَدَخَلُوا فِيكُمْ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ .
قُلْت : حَمَلَ بَعْض الْعُلَمَاء مَعْنَى يَنْتَسِبُونَ عَلَى الْأَمَان ; أَيْ إِنَّ الْمُنْتَسِب إِلَى أَهْل الْأَمَان آمَنَ إِذَا أَمِنَ الْكُلّ مِنْهُمْ , لَا عَلَى مَعْنَى النَّسَب الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْقَرَابَة . وَاخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاق ; فَقِيلَ : بَنُو مُدْلِج . عَنْ الْحَسَن : كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْنَ قُرَيْش عَقْد , وَكَانَ بَيْنَ قُرَيْش وَبَيْنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْد . وَقَالَ عِكْرِمَة : نَزَلَتْ فِي هِلَال بْن عُوَيْمِر وَسُرَاقَة بْن جُعْشُم وَخُزَيْمَة بْن عَامِر بْن عَبْد مَنَافٍ كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْد . وَقِيلَ : خُزَاعَة . وَقَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق بَنِي بَكْر بْن زَيْد بْن مَنَاة , كَانُوا فِي الصُّلْح وَالْهُدْنَة .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى إِثْبَات الْمُوَادَعَة بَيْنَ أَهْل الْحَرْب وَأَهْل الْإِسْلَام إِذَا كَانَ فِي الْمُوَادَعَة مَصْلَحَة لِلْمُسْلِمِينَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي " الْأَنْفَال وَبَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
أَيْ ضَاقَتْ . وَقَالَ لَبِيد : أَسْهَلْت وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنِيفَةٍ جَرْدَاءَ يَحْصُرُ دُونَهَا جُرَّامُهَا أَيْ تَضِيق صُدُورهمْ مِنْ طُول هَذِهِ النَّخْلَة ; وَمِنْهُ الْحَصْر فِي الْقَوْل وَهُوَ ضِيق الْكَلَام عَلَى الْمُتَكَلِّم . وَالْحَصِرُ الْكَتُوم لِلسِّرِّ ; قَالَ جَرِير : وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاة فَصَادَفُوا حَصِرًا بِسِرِّك يَا أُمِيمُ ضَنِينَا وَمَعْنَى " حَصِرَتْ " قَدْ حَصِرَتْ فَأُضْمِرَتْ قَدْ ; قَالَ الْفَرَّاء : وَهُوَ حَال مِنْ الْمُضْمَر الْمَرْفُوع فِي " جَاءُوكُمْ " كَمَا تَقُول : جَاءَ فُلَان ذَهَبَ عَقْلُهُ , أَيْ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ . وَقِيلَ : هُوَ خَبَر بَعْد خَبَر قَالَهُ الزَّجَّاج . أَيْ جَاءُوكُمْ ثُمَّ أَخْبَرَ فَقَالَ : " حَصِرَتْ صُدُورهمْ " فَعَلَى هَذَا يَكُون " حَصِرَتْ " بَدَلًا مِنْ " جَاءُوكُمْ " كَمَا قِيلَ : " حَصِرَتْ " فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى النَّعْت لِقَوْمٍ . وَفِي حَرْف أُبَيّ " إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ حَصِرَتْ صُدُورهمْ " لَيْسَ فِيهِ " أَوْ جَاءُوكُمْ " . وَقِيلَ : تَقْدِيره أَوْ جَاءُوكُمْ رِجَالًا أَوْ قَوْمًا حَصِرَتْ صُدُورهمْ ; فَهِيَ صِفَة مَوْصُوف مَنْصُوب عَلَى الْحَال . وَقَرَأَ الْحَسَن " أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورهمْ " نَصّ عَلَى الْحَال , وَيَجُوز رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر . وَحَكَى " أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَاتٍ صُدُورُهُمْ " , وَيَجُوز الرَّفْع . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : " حَصِرَتْ صُدُورهمْ " هُوَ دُعَاء عَلَيْهِمْ ; كَمَا تَقُول : لَعَنَ اللَّه الْكَافِر ; وَقَالَهُ الْمُبَرِّد . وَضَعَّفَهُ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ وَقَالَ : هَذَا يَقْتَضِي أَلَّا يُقَاتِلُوا قَوْمهمْ ; وَذَلِكَ فَاسِد ; لِأَنَّهُمْ كُفَّار وَقَوْمهمْ كُفَّار . وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيح , فَيَكُون عَدَم الْقِتَال فِي حَقّ الْمُسْلِمِينَ تَعْجِيزًا لَهُمْ , وَفِي حَقّ قَوْمهمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ . وَقِيلَ : " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاو ; كَأَنَّهُ يَقُول : إِلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق وَجَاءُوكُمْ ضَيِّقَة صُدُورهمْ عَنْ قِتَالكُمْ وَالْقِتَال مَعَكُمْ فَكَرِهُوا قِتَال الْفَرِيقَيْنِ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نَوْع مِنْ الْعَهْد , أَوْ قَالُوا نُسَلِّم وَلَا نُقَاتِل ; فَيَحْتَمِل أَنْ يُقْبَل ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَوَّل الْإِسْلَام حَتَّى يَفْتَح اللَّه قُلُوبهمْ لِلتَّقْوَى وَيَشْرَحَهَا لِلْإِسْلَامِ . وَالْأَوَّل أَظْهَرُ . وَاَللَّه أَعْلَم . " أَوْ يُقَاتِلُوا " فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ عَنْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ .
تَسْلِيط اللَّه تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هُوَ بِأَنْ يُقْدِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُقَوِّيهِمْ إِمَّا عُقُوبَة وَنِقْمَة عِنْد إِذَاعَة الْمُنْكَر وَظُهُور الْمَعَاصِي , وَإِمَّا اِبْتِلَاء وَاخْتِبَارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَم الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ " [ مُحَمَّد : 31 ] , وَإِمَّا تَمْحِيصًا لِلذُّنُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَلِيُمَحَّصَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا " [ آل عِمْرَان : 141 ] وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَل مَا يَشَاء وَيُسَلِّط مَنْ يَشَاء عَلَى مَنْ يَشَاء إِذَا شَاءَ . وَوَجْه النَّظْم وَالِاتِّصَال بِمَا قَبْلُ أَيْ اُقْتُلُوا الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِمْ إِلَّا أَنْ يُهَاجِرُوا , وَإِلَّا أَنْ يَتَّصِلُوا بِمَنْ بَيْنكُمْ وَبَيْنهمْ مِيثَاق فَيَدْخُلُونَ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ فَلَهُمْ حُكْمهمْ , وَإِلَّا الَّذِينَ جَاءُوكُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورهمْ عَنْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمهمْ فَدَخَلُوا فِيكُمْ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ .