وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ↓
أَيْ فِيمَا وَجَبَ لَهُ وَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ وَجَازَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا آمَنُوا أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير . وَقَالَ الْحَسَن : مَا عَظَّمُوهُ حَقّ عَظَمَته . وَهَذَا يَكُون مِنْ قَوْلهمْ : لِفُلَانٍ قَدْر . وَشَرْح هَذَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا : " مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء " نَسَبُوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقِيم الْحُجَّة عَلَى عِبَاده , وَلَا يَأْمُرهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ الصَّلَاح ; فَلَمْ يُعَظِّمُوهُ حَقّ عَظَمَته وَلَا عَرَفُوهُ حَقّ مَعْرِفَته . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : أَيْ مَا عَرَفُوا اللَّه حَقّ مَعْرِفَته . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مَعْنًى حَسَن ; لِأَنَّ مَعْنَى قَدَرْت الشَّيْء وَقَدَّرْته عَرَفْت مِقْدَاره . وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء " أَيْ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَقّ مَعْرِفَته ; إِذْ أَنْكَرُوا أَنْ يُرْسِل رَسُولًا . وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ . وَقَدْ قِيلَ : وَمَا قَدَرُوا نِعْمَ اللَّه حَقّ تَقْدِيرهَا . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة " وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدَره " بِفَتْحِ الدَّال , وَهِيَ لُغَة .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْش . وَقَالَ الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر : الَّذِي قَالَهُ أَحَد الْيَهُود , قَالَ : لَمْ يُنْزِل اللَّه كِتَابًا مِنْ السَّمَاء . قَالَ السُّدِّيّ : اِسْمه فِنْحَاص . وَعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَيْضًا قَالَ : هُوَ مَالِك بْن الصَّيْف , جَاءَ يُخَاصِم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْشُدك بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِد فِي التَّوْرَاة أَنَّ اللَّه يُبْغِض الْحَبْر السَّمِين ) ؟ وَكَانَ حَبْرًا سَمِينًا . فَغَضِبَ وَقَالَ : وَاَللَّه مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء . فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه الَّذِينَ مَعَهُ : وَيْحك ! وَلَا عَلَى مُوسَى ؟ فَقَالَ : وَاَللَّه مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . ثُمَّ قَالَ نَقْضًا لِقَوْلِهِمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ : " قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس أَيْ فِي قَرَاطِيس يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا " هَذَا لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْفَوْا صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهَا مِنْ الْأَحْكَام .
خِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ .
لِلْيَهُودِ .
لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا يَصِحّ عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ " بِالْيَاءِ . وَالْوَجْه عَلَى قِرَاءَة التَّاء أَنْ يَكُون كُلّه لِلْيَهُودِ , وَيَكُون مَعْنَى " وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا " أَيْ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ عَلَى وَجْه الْمَنّ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاة . وَجُعِلَتْ التَّوْرَاة صُحُفًا فَلِذَلِكَ قَالَ " قَرَاطِيس تُبْدُونَهَا " أَيْ تُبْدُونَ الْقَرَاطِيس . وَهَذَا ذَمّ لَهُمْ ; وَلِذَلِكَ كَرِهَ الْعُلَمَاء كُتُب الْقُرْآن أَجْزَاء .
أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ ذَلِكَ الْكِتَاب عَلَى مُوسَى وَهَذَا الْكِتَاب عَلَيَّ . أَوْ قُلْ اللَّه عَلَّمَكُمْ الْكِتَاب .
أَيْ لَاعِبِينَ , وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ لَقَالَ يَلْعَبُوا . وَمَعْنَى الْكَلَام التَّهْدِيد . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْمَنْسُوخ بِالْقِتَالِ ; ثُمَّ قِيلَ : " يَجْعَلُونَهُ " فِي مَوْضِع الصِّفَة لِقَوْلِهِ " نُورًا وَهُدًى " فَيَكُون فِي الصِّلَة . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُسْتَأْنَفًا , وَالتَّقْدِير : يَجْعَلُونَهُ ذَا قَرَاطِيس . وَقَوْله : " يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون صِفَة لِقَرَاطِيس ; لِأَنَّ النَّكِرَة تُوصَف بِالْجُمَلِ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُسْتَأْنَفًا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْش . وَقَالَ الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر : الَّذِي قَالَهُ أَحَد الْيَهُود , قَالَ : لَمْ يُنْزِل اللَّه كِتَابًا مِنْ السَّمَاء . قَالَ السُّدِّيّ : اِسْمه فِنْحَاص . وَعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَيْضًا قَالَ : هُوَ مَالِك بْن الصَّيْف , جَاءَ يُخَاصِم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْشُدك بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِد فِي التَّوْرَاة أَنَّ اللَّه يُبْغِض الْحَبْر السَّمِين ) ؟ وَكَانَ حَبْرًا سَمِينًا . فَغَضِبَ وَقَالَ : وَاَللَّه مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء . فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه الَّذِينَ مَعَهُ : وَيْحك ! وَلَا عَلَى مُوسَى ؟ فَقَالَ : وَاَللَّه مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . ثُمَّ قَالَ نَقْضًا لِقَوْلِهِمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ : " قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس أَيْ فِي قَرَاطِيس يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا " هَذَا لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْفَوْا صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهَا مِنْ الْأَحْكَام .
خِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ .
لِلْيَهُودِ .
لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا يَصِحّ عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ " بِالْيَاءِ . وَالْوَجْه عَلَى قِرَاءَة التَّاء أَنْ يَكُون كُلّه لِلْيَهُودِ , وَيَكُون مَعْنَى " وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا " أَيْ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ عَلَى وَجْه الْمَنّ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاة . وَجُعِلَتْ التَّوْرَاة صُحُفًا فَلِذَلِكَ قَالَ " قَرَاطِيس تُبْدُونَهَا " أَيْ تُبْدُونَ الْقَرَاطِيس . وَهَذَا ذَمّ لَهُمْ ; وَلِذَلِكَ كَرِهَ الْعُلَمَاء كُتُب الْقُرْآن أَجْزَاء .
أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ ذَلِكَ الْكِتَاب عَلَى مُوسَى وَهَذَا الْكِتَاب عَلَيَّ . أَوْ قُلْ اللَّه عَلَّمَكُمْ الْكِتَاب .
أَيْ لَاعِبِينَ , وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ لَقَالَ يَلْعَبُوا . وَمَعْنَى الْكَلَام التَّهْدِيد . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْمَنْسُوخ بِالْقِتَالِ ; ثُمَّ قِيلَ : " يَجْعَلُونَهُ " فِي مَوْضِع الصِّفَة لِقَوْلِهِ " نُورًا وَهُدًى " فَيَكُون فِي الصِّلَة . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُسْتَأْنَفًا , وَالتَّقْدِير : يَجْعَلُونَهُ ذَا قَرَاطِيس . وَقَوْله : " يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون صِفَة لِقَرَاطِيس ; لِأَنَّ النَّكِرَة تُوصَف بِالْجُمَلِ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُسْتَأْنَفًا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ .
وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ↓
يَعْنِي الْقُرْآن
صِفَة
أَيْ بُورِكَ فِيهِ , وَالْبَرَكَة الزِّيَادَة . وَيَجُوز نَصْبه فِي غَيْر الْقُرْآن عَلَى الْحَال .
أَيْ مِنْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة قَبْله , فَإِنَّهُ يُوَافِقهَا فِي نَفْي الشِّرْك وَإِثْبَات التَّوْحِيد .
يُرِيد مَكَّة وَالْمُرَاد أَهْلهَا , فَحُذِفَ الْمُضَاف ; أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَةِ وَالْإِنْذَار . " وَمَنْ حَوْلهَا " يَعْنِي جَمِيع الْآفَاق .
يُرِيد أَتْبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; بِدَلِيلِ قَوْله : " وَهُمْ عَلَى صَلَاتهمْ يُحَافِظُونَ " .
وَإِيمَان مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِن بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا بِكِتَابِهِ غَيْر مُعْتَدّ بِهِ .
صِفَة
أَيْ بُورِكَ فِيهِ , وَالْبَرَكَة الزِّيَادَة . وَيَجُوز نَصْبه فِي غَيْر الْقُرْآن عَلَى الْحَال .
أَيْ مِنْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة قَبْله , فَإِنَّهُ يُوَافِقهَا فِي نَفْي الشِّرْك وَإِثْبَات التَّوْحِيد .
يُرِيد مَكَّة وَالْمُرَاد أَهْلهَا , فَحُذِفَ الْمُضَاف ; أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَةِ وَالْإِنْذَار . " وَمَنْ حَوْلهَا " يَعْنِي جَمِيع الْآفَاق .
يُرِيد أَتْبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; بِدَلِيلِ قَوْله : " وَهُمْ عَلَى صَلَاتهمْ يُحَافِظُونَ " .
وَإِيمَان مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِن بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا بِكِتَابِهِ غَيْر مُعْتَدّ بِهِ .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ↓
اِبْتِدَاء وَخَبَر ; أَيْ لَا أَحَد أَظْلَم .
أَيْ اِخْتَلَقَ .
فَزَعَمَ أَنَّهُ نَبِيّ
نَزَلَتْ فِي رَحْمَان الْيَمَامَة وَالْأَسْوَد الْعَنْسِيّ وَسَجَاح زَوْج مُسَيْلِمَة ; كُلّهمْ تَنَبَّأَ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّه قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ . قَالَ قَتَادَة : بَلَغَنَا أَنَّ اللَّه أَنْزَلَ هَذَا فِي مُسَيْلِمَة ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس . قُلْت : وَمِنْ هَذَا النَّمَط مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْفِقْه وَالسُّنَن وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف مِنْ السُّنَن فَيَقُول : وَقَعَ فِي خَاطِرِي كَذَا , أَوْ أَخْبَرَنِي قَلْبِي بِكَذَا ; فَيَحْكُمُونَ بِمَا يَقَع فِي قُلُوبهمْ وَيَغْلِب عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرهمْ , وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِصَفَائِهَا مِنْ الْأَكْدَار وَخُلُوّهَا مِنْ الْأَغْيَار , فَتَتَجَلَّى لَهُمْ الْعُلُوم الْإِلَهِيَّة وَالْحَقَائِق الرَّبَّانِيَّة , فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَار الْكُلِّيَّات وَيَعْلَمُونَ أَحْكَام الْجُزْئِيَّات فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَام الشَّرَائِع الْكُلِّيَّات , وَيَقُولُونَ : هَذِهِ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْعَامَّة , إِنَّمَا يُحْكَم بِهَا عَلَى الْأَغْبِيَاء وَالْعَامَّة , وَأَمَّا الْأَوْلِيَاء وَأَهْل الْخُصُوص , فَلَا يَحْتَاجُونَ لِتِلْكَ النُّصُوص . وَقَدْ جَاءَ فِيمَا يَنْقُلُونَ : اِسْتَفْتِ قَلْبك وَإِنْ أَفْتَاك الْمُفْتُونَ ; وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِالْخَضِرِ ; وَأَنَّهُ اِسْتَغْنَى بِمَا تَجَلَّى لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُوم , عَمَّا كَانَ عِنْد مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْفُهُوم . وَهَذَا الْقَوْل زَنْدَقَة وَكُفْر , يُقْتَل قَائِله وَلَا يُسْتَتَاب , وَلَا يَحْتَاج مَعَهُ إِلَى سُؤَال وَلَا جَوَاب ; فَإِنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ هَدّ الْأَحْكَام وَإِثْبَات أَنْبِيَاء بَعْد نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى فِي " الْكَهْف " مَزِيد بَيَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
" مَنْ " فِي مَوْضِع خَفْض ; أَيْ وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ قَالَ سَأُنْزِلُ , وَالْمُرَاد عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح الَّذِي كَانَ يَكْتُب الْوَحْي لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ اِرْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ . وَسَبَب ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي " الْمُؤْمِنُونَ " : " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين " [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 ] دَعَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمْلَاهَا عَلَيْهِ ; فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى قَوْله " ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر " [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] عَجِبَ عَبْد اللَّه فِي تَفْصِيل خَلْق الْإِنْسَان فَقَالَ : " تَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَهَكَذَا أُنْزِلَتْ عَلَيَّ ) فَشَكَّ عَبْد اللَّه حِينَئِذٍ وَقَالَ : لَئِنْ كَانَ مُحَمَّد صَادِقًا لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ كَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ , وَلَئِنْ كَانَ كَاذِبًا لَقَدْ قُلْت كَمَا قَالَ . فَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ , فَذَلِكَ قَوْله : " وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْل مَا أَنْزَلَ اللَّه " رَوَاهُ الْكَلْبِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق قَالَ حَدَّثَنِي شُرَحْبِيل قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح " وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْل مَا أَنْزَلَ اللَّه " اِرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام , فَلَمَّا دَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَقَتْل عَبْد اللَّه بْن خَطَل وَمَقِيس بْن صُبَابَة وَلَوْ وُجِدُوا تَحْت أَسْتَار الْكَعْبَة , فَفَرَّ عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح إِلَى عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرَّضَاعَة , أَرْضَعَتْ أُمّه عُثْمَان , فَغَيَّبَهُ عُثْمَان حَتَّى أَتَى بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد مَا اِطْمَأَنَّ أَهْل مَكَّة فَاسْتَأْمَنَهُ لَهُ ; فَصَمَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ : ( نَعَمْ ) . فَلَمَّا اِنْصَرَفَ عُثْمَان قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا صُمْت إِلَّا لِيَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضكُمْ فَيَضْرِب عُنُقه ) . فَقَالَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار : فَهَلَّا أَوْمَأْت إِلَيَّ يَا رَسُول اللَّه ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ النَّبِيّ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُون لَهُ خَائِنَة الْأَعْيُن ) . قَالَ أَبُو عُمَر : وَأَسْلَمَ عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح أَيَّام الْفَتْح فَحَسُنَ إِسْلَامه , وَلَمْ يَظْهَر مِنْهُ مَا يُنْكَر عَلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ . وَهُوَ أَحَد النُّجَبَاء الْعُقَلَاء الْكُرَمَاء مِنْ قُرَيْش , وَفَارِس بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ الْمَعْدُود فِيهِمْ , ثُمَّ وَلَّاهُ عُثْمَان بَعْد ذَلِكَ مِصْر سَنَة خَمْس وَعِشْرِينَ . وَفُتِحَ عَلَى يَدَيْهِ إِفْرِيقِيَّة سَنَة سَبْع وَعِشْرِينَ , وَغَزَا مِنْهَا الْأَسَاوِد مِنْ أَرْض النُّوبَة سَنَة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ , وَهُوَ هَادَنَهُمْ الْهُدْنَة الْبَاقِيَة إِلَى الْيَوْم . وَغَزَا الصَّوَارِي مِنْ أَرْض الرُّوم سَنَة أَرْبَع وَثَلَاثِينَ ; فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ وِفَادَاته مَنَعَهُ اِبْن أَبِي حُذَيْفَة مِنْ دُخُول الْفُسْطَاط , فَمَضَى إِلَى عَسْقَلَان , فَأَقَامَ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَقِيلَ : بَلْ أَقَامَ بِالرَّمْلَةِ حَتَّى مَاتَ فَارًّا مِنْ الْفِتْنَة . وَدَعَا رَبّه فَقَالَ : اللَّهُمَّ اِجْعَلْ خَاتِمَة عَمَلِي صَلَاة الصُّبْح ; فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَة الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآن وَالْعَادِيَات , وَفِي الثَّانِيَة بِأُمِّ الْقُرْآن وَسُورَة , ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينه , ثُمَّ ذَهَبَ يُسَلِّم عَنْ يَسَاره فَقَبَضَ اللَّه رُوحه . ذَكَرَ ذَلِكَ كُلّه يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب وَغَيْره . وَلَمْ يُبَايِع لِعَلِيٍّ وَلَا لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَكَانَتْ وَفَاته قَبْل اِجْتِمَاع النَّاس عَلَى مُعَاوِيَة . وَقِيلَ : إِنَّهُ تُوُفِّيَ بِإِفْرِيقِيَّة . وَالصَّحِيح أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِعَسْقَلَان سَنَة سِتّ أَوْ سَبْع وَثَلَاثِينَ . وَقِيلَ : سَنَة سِتّ وَثَلَاثِينَ . وَرَوَى حَفْص بْن عُمَر عَنْ الْحَكَم بْن أَبَان عَنْ عِكْرِمَة أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَارِث ; لِأَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآن فَقَالَ : وَالطَّاحِنَات طَحْنًا . وَالْعَاجِنَات عَجْنًا . فَالْخَابِزَات خَبْزًا . فَاللَّاقِمَات لَقْمًا .
أَيْ شَدَائِده وَسَكَرَاته . وَالْغَمْرَة الشِّدَّة ; وَأَصْلهَا الشَّيْء الَّذِي يَغْمُر الْأَشْيَاء فَيُغَطِّيهَا . وَمِنْهُ غَمَرَهُ الْمَاء . ثُمَّ وُضِعَتْ فِي مَعْنَى الشَّدَائِد وَالْمَكَارِه . وَمِنْهُ غَمَرَات الْحَرْب . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْغَمْرَة الشِّدَّة , وَالْجَمْع غُمَر مِثْل نَوْبَة وَنُوَب . قَالَ الْقُطَامِيّ يَصِف سَفِينَة نُوح عَلَيْهِ السَّلَام : وَحَانَ لِتَالِكَ الْغُمَر اِنْحِسَار وَغَمَرَات الْمَوْت شَدَائِده .
اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَالْأَصْل بَاسِطُونَ . قِيلَ : بِالْعَذَابِ وَمَطَارِق الْحَدِيد ; عَنْ الْحَسَن وَالضَّحَّاك . وَقِيلَ : لِقَبْضِ أَرْوَاحهمْ ; وَفِي التَّنْزِيل : " وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَة يَضْرِبُونَ وُجُوههمْ وَأَدْبَارهمْ " [ الْأَنْفَال : 50 ] فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَة الْقَوْلَيْنِ . يُقَال : بَسَطَ إِلَيْهِ يَده بِالْمَكْرُوهِ .
أَيْ خَلِّصُوهَا مِنْ الْعَذَاب إِنْ أَمْكَنَكُمْ , وَهُوَ تَوْبِيخ . وَقِيلَ : أَخْرِجُوهَا كُرْهًا ; لِأَنَّ رُوح الْمُؤْمِن تَنْشَط لِلْخُرُوجِ لِلِقَاءِ رَبّه , وَرُوح الْكَافِر تُنْتَزَع اِنْتِزَاعًا شَدِيدًا , وَيُقَال : أَيَّتهَا النَّفْس الْخَبِيثَة اُخْرُجِي سَاخِطَة مَسْخُوطًا عَلَيْك إِلَى عَذَاب اللَّه وَهَوَانه ; كَذَا جَاءَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَغَيْره . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقِيلَ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْل الْقَائِل لِمَنْ يُعَذِّبهُ : لَأُذِيقَنك الْعَذَاب وَلَأُخْرِجَن نَفْسك ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُخْرِجُونَ أَنْفُسهمْ بَلْ يَقْبِضهَا مَلَك الْمَوْت وَأَعْوَانه . وَقِيلَ : يُقَال هَذَا لِلْكُفَّارِ وَهُمْ فِي النَّار . وَالْجَوَاب مَحْذُوف لِعِظَمِ الْأَمْر ; أَيْ وَلَوْ رَأَيْت الظَّالِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَال لَرَأَيْت عَذَابًا عَظِيمًا . وَالْهَوْن وَالْهَوَان سَوَاء .
أَيْ تَتَعَظَّمُونَ وَتَأْنَفُونَ عَنْ قَبُول آيَاته .
أَيْ اِخْتَلَقَ .
فَزَعَمَ أَنَّهُ نَبِيّ
نَزَلَتْ فِي رَحْمَان الْيَمَامَة وَالْأَسْوَد الْعَنْسِيّ وَسَجَاح زَوْج مُسَيْلِمَة ; كُلّهمْ تَنَبَّأَ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّه قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ . قَالَ قَتَادَة : بَلَغَنَا أَنَّ اللَّه أَنْزَلَ هَذَا فِي مُسَيْلِمَة ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس . قُلْت : وَمِنْ هَذَا النَّمَط مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْفِقْه وَالسُّنَن وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف مِنْ السُّنَن فَيَقُول : وَقَعَ فِي خَاطِرِي كَذَا , أَوْ أَخْبَرَنِي قَلْبِي بِكَذَا ; فَيَحْكُمُونَ بِمَا يَقَع فِي قُلُوبهمْ وَيَغْلِب عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرهمْ , وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِصَفَائِهَا مِنْ الْأَكْدَار وَخُلُوّهَا مِنْ الْأَغْيَار , فَتَتَجَلَّى لَهُمْ الْعُلُوم الْإِلَهِيَّة وَالْحَقَائِق الرَّبَّانِيَّة , فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَار الْكُلِّيَّات وَيَعْلَمُونَ أَحْكَام الْجُزْئِيَّات فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَام الشَّرَائِع الْكُلِّيَّات , وَيَقُولُونَ : هَذِهِ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْعَامَّة , إِنَّمَا يُحْكَم بِهَا عَلَى الْأَغْبِيَاء وَالْعَامَّة , وَأَمَّا الْأَوْلِيَاء وَأَهْل الْخُصُوص , فَلَا يَحْتَاجُونَ لِتِلْكَ النُّصُوص . وَقَدْ جَاءَ فِيمَا يَنْقُلُونَ : اِسْتَفْتِ قَلْبك وَإِنْ أَفْتَاك الْمُفْتُونَ ; وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِالْخَضِرِ ; وَأَنَّهُ اِسْتَغْنَى بِمَا تَجَلَّى لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُوم , عَمَّا كَانَ عِنْد مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْفُهُوم . وَهَذَا الْقَوْل زَنْدَقَة وَكُفْر , يُقْتَل قَائِله وَلَا يُسْتَتَاب , وَلَا يَحْتَاج مَعَهُ إِلَى سُؤَال وَلَا جَوَاب ; فَإِنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ هَدّ الْأَحْكَام وَإِثْبَات أَنْبِيَاء بَعْد نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى فِي " الْكَهْف " مَزِيد بَيَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
" مَنْ " فِي مَوْضِع خَفْض ; أَيْ وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ قَالَ سَأُنْزِلُ , وَالْمُرَاد عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح الَّذِي كَانَ يَكْتُب الْوَحْي لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ اِرْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ . وَسَبَب ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي " الْمُؤْمِنُونَ " : " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين " [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 ] دَعَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمْلَاهَا عَلَيْهِ ; فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى قَوْله " ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر " [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] عَجِبَ عَبْد اللَّه فِي تَفْصِيل خَلْق الْإِنْسَان فَقَالَ : " تَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَهَكَذَا أُنْزِلَتْ عَلَيَّ ) فَشَكَّ عَبْد اللَّه حِينَئِذٍ وَقَالَ : لَئِنْ كَانَ مُحَمَّد صَادِقًا لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ كَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ , وَلَئِنْ كَانَ كَاذِبًا لَقَدْ قُلْت كَمَا قَالَ . فَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ , فَذَلِكَ قَوْله : " وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْل مَا أَنْزَلَ اللَّه " رَوَاهُ الْكَلْبِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق قَالَ حَدَّثَنِي شُرَحْبِيل قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح " وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْل مَا أَنْزَلَ اللَّه " اِرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام , فَلَمَّا دَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَقَتْل عَبْد اللَّه بْن خَطَل وَمَقِيس بْن صُبَابَة وَلَوْ وُجِدُوا تَحْت أَسْتَار الْكَعْبَة , فَفَرَّ عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح إِلَى عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرَّضَاعَة , أَرْضَعَتْ أُمّه عُثْمَان , فَغَيَّبَهُ عُثْمَان حَتَّى أَتَى بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد مَا اِطْمَأَنَّ أَهْل مَكَّة فَاسْتَأْمَنَهُ لَهُ ; فَصَمَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ : ( نَعَمْ ) . فَلَمَّا اِنْصَرَفَ عُثْمَان قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا صُمْت إِلَّا لِيَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضكُمْ فَيَضْرِب عُنُقه ) . فَقَالَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار : فَهَلَّا أَوْمَأْت إِلَيَّ يَا رَسُول اللَّه ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ النَّبِيّ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُون لَهُ خَائِنَة الْأَعْيُن ) . قَالَ أَبُو عُمَر : وَأَسْلَمَ عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح أَيَّام الْفَتْح فَحَسُنَ إِسْلَامه , وَلَمْ يَظْهَر مِنْهُ مَا يُنْكَر عَلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ . وَهُوَ أَحَد النُّجَبَاء الْعُقَلَاء الْكُرَمَاء مِنْ قُرَيْش , وَفَارِس بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ الْمَعْدُود فِيهِمْ , ثُمَّ وَلَّاهُ عُثْمَان بَعْد ذَلِكَ مِصْر سَنَة خَمْس وَعِشْرِينَ . وَفُتِحَ عَلَى يَدَيْهِ إِفْرِيقِيَّة سَنَة سَبْع وَعِشْرِينَ , وَغَزَا مِنْهَا الْأَسَاوِد مِنْ أَرْض النُّوبَة سَنَة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ , وَهُوَ هَادَنَهُمْ الْهُدْنَة الْبَاقِيَة إِلَى الْيَوْم . وَغَزَا الصَّوَارِي مِنْ أَرْض الرُّوم سَنَة أَرْبَع وَثَلَاثِينَ ; فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ وِفَادَاته مَنَعَهُ اِبْن أَبِي حُذَيْفَة مِنْ دُخُول الْفُسْطَاط , فَمَضَى إِلَى عَسْقَلَان , فَأَقَامَ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَقِيلَ : بَلْ أَقَامَ بِالرَّمْلَةِ حَتَّى مَاتَ فَارًّا مِنْ الْفِتْنَة . وَدَعَا رَبّه فَقَالَ : اللَّهُمَّ اِجْعَلْ خَاتِمَة عَمَلِي صَلَاة الصُّبْح ; فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَة الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآن وَالْعَادِيَات , وَفِي الثَّانِيَة بِأُمِّ الْقُرْآن وَسُورَة , ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينه , ثُمَّ ذَهَبَ يُسَلِّم عَنْ يَسَاره فَقَبَضَ اللَّه رُوحه . ذَكَرَ ذَلِكَ كُلّه يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب وَغَيْره . وَلَمْ يُبَايِع لِعَلِيٍّ وَلَا لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَكَانَتْ وَفَاته قَبْل اِجْتِمَاع النَّاس عَلَى مُعَاوِيَة . وَقِيلَ : إِنَّهُ تُوُفِّيَ بِإِفْرِيقِيَّة . وَالصَّحِيح أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِعَسْقَلَان سَنَة سِتّ أَوْ سَبْع وَثَلَاثِينَ . وَقِيلَ : سَنَة سِتّ وَثَلَاثِينَ . وَرَوَى حَفْص بْن عُمَر عَنْ الْحَكَم بْن أَبَان عَنْ عِكْرِمَة أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَارِث ; لِأَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآن فَقَالَ : وَالطَّاحِنَات طَحْنًا . وَالْعَاجِنَات عَجْنًا . فَالْخَابِزَات خَبْزًا . فَاللَّاقِمَات لَقْمًا .
أَيْ شَدَائِده وَسَكَرَاته . وَالْغَمْرَة الشِّدَّة ; وَأَصْلهَا الشَّيْء الَّذِي يَغْمُر الْأَشْيَاء فَيُغَطِّيهَا . وَمِنْهُ غَمَرَهُ الْمَاء . ثُمَّ وُضِعَتْ فِي مَعْنَى الشَّدَائِد وَالْمَكَارِه . وَمِنْهُ غَمَرَات الْحَرْب . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْغَمْرَة الشِّدَّة , وَالْجَمْع غُمَر مِثْل نَوْبَة وَنُوَب . قَالَ الْقُطَامِيّ يَصِف سَفِينَة نُوح عَلَيْهِ السَّلَام : وَحَانَ لِتَالِكَ الْغُمَر اِنْحِسَار وَغَمَرَات الْمَوْت شَدَائِده .
اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَالْأَصْل بَاسِطُونَ . قِيلَ : بِالْعَذَابِ وَمَطَارِق الْحَدِيد ; عَنْ الْحَسَن وَالضَّحَّاك . وَقِيلَ : لِقَبْضِ أَرْوَاحهمْ ; وَفِي التَّنْزِيل : " وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَة يَضْرِبُونَ وُجُوههمْ وَأَدْبَارهمْ " [ الْأَنْفَال : 50 ] فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَة الْقَوْلَيْنِ . يُقَال : بَسَطَ إِلَيْهِ يَده بِالْمَكْرُوهِ .
أَيْ خَلِّصُوهَا مِنْ الْعَذَاب إِنْ أَمْكَنَكُمْ , وَهُوَ تَوْبِيخ . وَقِيلَ : أَخْرِجُوهَا كُرْهًا ; لِأَنَّ رُوح الْمُؤْمِن تَنْشَط لِلْخُرُوجِ لِلِقَاءِ رَبّه , وَرُوح الْكَافِر تُنْتَزَع اِنْتِزَاعًا شَدِيدًا , وَيُقَال : أَيَّتهَا النَّفْس الْخَبِيثَة اُخْرُجِي سَاخِطَة مَسْخُوطًا عَلَيْك إِلَى عَذَاب اللَّه وَهَوَانه ; كَذَا جَاءَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَغَيْره . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقِيلَ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْل الْقَائِل لِمَنْ يُعَذِّبهُ : لَأُذِيقَنك الْعَذَاب وَلَأُخْرِجَن نَفْسك ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُخْرِجُونَ أَنْفُسهمْ بَلْ يَقْبِضهَا مَلَك الْمَوْت وَأَعْوَانه . وَقِيلَ : يُقَال هَذَا لِلْكُفَّارِ وَهُمْ فِي النَّار . وَالْجَوَاب مَحْذُوف لِعِظَمِ الْأَمْر ; أَيْ وَلَوْ رَأَيْت الظَّالِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَال لَرَأَيْت عَذَابًا عَظِيمًا . وَالْهَوْن وَالْهَوَان سَوَاء .
أَيْ تَتَعَظَّمُونَ وَتَأْنَفُونَ عَنْ قَبُول آيَاته .
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ↓
هَذِهِ عِبَارَة عَنْ الْحَشْر و " فُرَادَى " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال , وَلَمْ يَنْصَرِف لِأَنَّ فِيهِ أَلِف تَأْنِيث . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة " فُرَادًا " بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ لُغَة تَمِيم , وَلَا يَقُولُونَ فِي مَوْضِع الرَّفْع فُرَاد . وَحَكَى أَحْمَد بْن يَحْيَى " فُرَاد " بِلَا تَنْوِين , قَالَ : مِثْل ثُلَاث وَرُبَاع . و " فُرَادَى " جَمْع فُرْدَان كَسُكَارَى جَمْع سَكْرَان , وَكُسَالَى جَمْع كَسْلَان . وَقِيلَ : وَاحِده " فَرْد " بِجَزْمِ الرَّاء , و " فَرِد " بِكَسْرِهَا , و " فَرَد " بِفَتْحِهَا , و " فَرِيد " . وَالْمَعْنَى : جِئْتُمُونَا وَاحِدًا وَاحِدًا , كُلّ وَاحِد مِنْكُمْ مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْل وَلَا مَال وَلَا وَلَد وَلَا نَاصِر مِمَّنْ كَانَ يُصَاحِبكُمْ فِي الْغَيّ , وَلَمْ يَنْفَعكُمْ مَا عَبَدْتُمْ مِنْ دُون اللَّه . وَقَرَأَ الْأَعْرَج " فَرْدَى " مِثْل سَكْرَى وَكَسْلَى بِغَيْرِ أَلِف .
أَيْ مُنْفَرِدِينَ كَمَا خُلِقْتُمْ . وَقِيلَ : عُرَاة كَمَا خَرَجْتُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ حُفَاة غُرْلًا بُهْمًا لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْء . وَقَالَ الْعُلَمَاء : يُحْشَر الْعَبْد غَدًا وَلَهُ مِنْ الْأَعْضَاء مَا كَانَ لَهُ يَوْم وُلِدَ ; فَمَنْ قُطِعَ مِنْهُ عُضْو يُرَدّ فِي الْقِيَامَة عَلَيْهِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْله : " غُرْلًا " أَيْ غَيْر مَخْتُونِينَ , أَيْ يُرَدّ عَلَيْهِمْ مَا قُطِعَ مِنْهُمْ عِنْد الْخِتَان .
أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ وَمَلَّكْنَاكُمْ . وَالْخَوْل : مَا أَعْطَاهُ اللَّه لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْعَبِيد وَالنِّعَم .
أَيْ خَلْفكُمْ .
أَيْ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ وَجَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاء يُرِيد الْأَصْنَام أَيْ شُرَكَائِي . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ : الْأَصْنَام شُرَكَاء اللَّه وَشُفَعَاؤُنَا عِنْده .
قَرَأَ نَافِع وَالْكِسَائِيّ وَحَفْص بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْف , عَلَى مَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلكُمْ بَيْنكُمْ . وَدَلَّ عَلَى حَذْف الْوَصْل قَوْله " وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ " . فَدَلَّ هَذَا عَلَى التَّقَاطُع وَالتَّهَاجُر بَيْنهمْ وَبَيْن شُرَكَائِهِمْ : إِذْ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ . وَمُقَاطَعَتهمْ لَهُمْ هُوَ تَرْكهمْ وَصْلهمْ لَهُمْ ; فَحَسُنَ إِضْمَار الْوَصْل بَعْد " تَقَطَّعَ " لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ . وَفِي حَرْف اِبْن مَسْعُود مَا يَدُلّ عَلَى النَّصْب فِيهِ لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنكُمْ وَهَذَا لَا يَجُوز فِيهِ إِلَّا النَّصْب , لِأَنَّك ذَكَرْت الْمُتَقَطِّع وَهُوَ " مَا " . كَأَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ تَقَطَّعَ الْوَصْل بَيْنكُمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ الْأَمْر بَيْنكُمْ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " بَيْنُكُمْ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اِسْم غَيْر ظَرْف , فَأُسْنِدَ الْفِعْل إِلَيْهِ فَرُفِعَ . وَيُقَوِّي جَعْل " بَيْن " اِسْمًا مِنْ جِهَة دُخُول حَرْف الْجَرّ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَمِنْ بَيْننَا وَبَيْنك حِجَاب " [ فُصِّلَتْ : 5 ] و " هَذَا فِرَاق بَيْنِي وَبَيْنك " [ الْكَهْف : 78 ] . وَيَجُوز أَنْ تَكُون قِرَاءَة النَّصْب عَلَى مَعْنَى الرَّفْع , وَإِنَّمَا نُصِبَ لِكَثْرَةِ اِسْتِعْمَاله ظَرْفًا مَنْصُوبًا وَهُوَ فِي مَوْضِع رَفْع , وَهُوَ مَذْهَب الْأَخْفَش ; فَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى هَذَا بِمَعْنًى وَاحِد , فَاقْرَأْ بِأَيِّهِمَا شِئْت .
أَيْ ذَهَبَ .
أَيْ تَكْذِبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا . رُوِيَ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَارِث . وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَرَأَتْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّل مَرَّة " فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , وَاسَوْءَتَاهُ ! إِنَّ الرِّجَال وَالنِّسَاء يُحْشَرُونَ جَمِيعًا , يَنْظُر بَعْضهمْ إِلَى سَوْءَة بَعْض ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه لَا يَنْظُر الرِّجَال إِلَى النِّسَاء وَلَا النِّسَاء إِلَى الرِّجَال شُغِلَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض ) . وَهَذَا حَدِيث ثَابِت فِي الصَّحِيح أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ .
أَيْ مُنْفَرِدِينَ كَمَا خُلِقْتُمْ . وَقِيلَ : عُرَاة كَمَا خَرَجْتُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ حُفَاة غُرْلًا بُهْمًا لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْء . وَقَالَ الْعُلَمَاء : يُحْشَر الْعَبْد غَدًا وَلَهُ مِنْ الْأَعْضَاء مَا كَانَ لَهُ يَوْم وُلِدَ ; فَمَنْ قُطِعَ مِنْهُ عُضْو يُرَدّ فِي الْقِيَامَة عَلَيْهِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْله : " غُرْلًا " أَيْ غَيْر مَخْتُونِينَ , أَيْ يُرَدّ عَلَيْهِمْ مَا قُطِعَ مِنْهُمْ عِنْد الْخِتَان .
أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ وَمَلَّكْنَاكُمْ . وَالْخَوْل : مَا أَعْطَاهُ اللَّه لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْعَبِيد وَالنِّعَم .
أَيْ خَلْفكُمْ .
أَيْ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ وَجَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاء يُرِيد الْأَصْنَام أَيْ شُرَكَائِي . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ : الْأَصْنَام شُرَكَاء اللَّه وَشُفَعَاؤُنَا عِنْده .
قَرَأَ نَافِع وَالْكِسَائِيّ وَحَفْص بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْف , عَلَى مَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلكُمْ بَيْنكُمْ . وَدَلَّ عَلَى حَذْف الْوَصْل قَوْله " وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ " . فَدَلَّ هَذَا عَلَى التَّقَاطُع وَالتَّهَاجُر بَيْنهمْ وَبَيْن شُرَكَائِهِمْ : إِذْ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ . وَمُقَاطَعَتهمْ لَهُمْ هُوَ تَرْكهمْ وَصْلهمْ لَهُمْ ; فَحَسُنَ إِضْمَار الْوَصْل بَعْد " تَقَطَّعَ " لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ . وَفِي حَرْف اِبْن مَسْعُود مَا يَدُلّ عَلَى النَّصْب فِيهِ لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنكُمْ وَهَذَا لَا يَجُوز فِيهِ إِلَّا النَّصْب , لِأَنَّك ذَكَرْت الْمُتَقَطِّع وَهُوَ " مَا " . كَأَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ تَقَطَّعَ الْوَصْل بَيْنكُمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ الْأَمْر بَيْنكُمْ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " بَيْنُكُمْ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اِسْم غَيْر ظَرْف , فَأُسْنِدَ الْفِعْل إِلَيْهِ فَرُفِعَ . وَيُقَوِّي جَعْل " بَيْن " اِسْمًا مِنْ جِهَة دُخُول حَرْف الْجَرّ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَمِنْ بَيْننَا وَبَيْنك حِجَاب " [ فُصِّلَتْ : 5 ] و " هَذَا فِرَاق بَيْنِي وَبَيْنك " [ الْكَهْف : 78 ] . وَيَجُوز أَنْ تَكُون قِرَاءَة النَّصْب عَلَى مَعْنَى الرَّفْع , وَإِنَّمَا نُصِبَ لِكَثْرَةِ اِسْتِعْمَاله ظَرْفًا مَنْصُوبًا وَهُوَ فِي مَوْضِع رَفْع , وَهُوَ مَذْهَب الْأَخْفَش ; فَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى هَذَا بِمَعْنًى وَاحِد , فَاقْرَأْ بِأَيِّهِمَا شِئْت .
أَيْ ذَهَبَ .
أَيْ تَكْذِبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا . رُوِيَ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَارِث . وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَرَأَتْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّل مَرَّة " فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , وَاسَوْءَتَاهُ ! إِنَّ الرِّجَال وَالنِّسَاء يُحْشَرُونَ جَمِيعًا , يَنْظُر بَعْضهمْ إِلَى سَوْءَة بَعْض ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه لَا يَنْظُر الرِّجَال إِلَى النِّسَاء وَلَا النِّسَاء إِلَى الرِّجَال شُغِلَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض ) . وَهَذَا حَدِيث ثَابِت فِي الصَّحِيح أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ .
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ↓
عُدَّ مِنْ عَجَائِب صُنْعه مَا يَعْجِز عَنْ أَدْنَى شَيْء مِنْهُ آلِهَتهمْ . وَالْفَلْق : الشَّقّ ; أَيْ يَشُقّ النَّوَاة الْمَيِّتَة فَيُخْرِج مِنْهَا وَرَقًا أَخْضَر , وَكَذَلِكَ الْحَبَّة . وَيُخْرِج مِنْ الْوَرِق الْأَخْضَر نَوَاة مَيِّتَة وَحَبَّة ; وَهَذَا مَعْنَى يُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت وَمُخْرِج الْمَيِّت مِنْ الْحَيّ ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : مَعْنَى فَالِق خَالِق . وَقَالَ مُجَاهِد : عُنِيَ بِالْفَلْقِ الشَّقّ الَّذِي فِي الْحَبّ وَفِي النَّوَى . وَالنَّوَى جَمْع نَوَاة . وَيَجْرِي فِي كُلّ مَا لَهُ عَجْم كَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخ .
يُخْرِج الْبَشَر الْحَيّ مِنْ النُّطْفَة الْمَيِّتَة , وَالنُّطْفَة الْمَيِّتَة مِنْ الْبَشَر الْحَيّ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل قَتَادَة وَالْحَسَن . وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي " آل عِمْرَان " . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَلِيّ : وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إِنَّهُ لَعَهْد النَّبِيّ الْأُمِّيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبّنِي إِلَّا مُؤْمِن وَلَا يُبْغِضنِي إِلَّا مُنَافِق .
اِبْتِدَاء وَخَبَر .
فَمِنْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ عَنْ الْحَقّ مَعَ مَا تَرَوْنَ مِنْ قُدْرَة اللَّه جَلَّ وَعَزَّ .
يُخْرِج الْبَشَر الْحَيّ مِنْ النُّطْفَة الْمَيِّتَة , وَالنُّطْفَة الْمَيِّتَة مِنْ الْبَشَر الْحَيّ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل قَتَادَة وَالْحَسَن . وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي " آل عِمْرَان " . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَلِيّ : وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إِنَّهُ لَعَهْد النَّبِيّ الْأُمِّيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبّنِي إِلَّا مُؤْمِن وَلَا يُبْغِضنِي إِلَّا مُنَافِق .
اِبْتِدَاء وَخَبَر .
فَمِنْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ عَنْ الْحَقّ مَعَ مَا تَرَوْنَ مِنْ قُدْرَة اللَّه جَلَّ وَعَزَّ .
فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ↓
قَوْله تَعَالَى : " فَالِق الْإِصْبَاح " نَعْت لِاسْمِ اللَّه تَعَالَى , أَيْ ذَلِكُمْ اللَّه رَبّكُمْ فَالِق الْإِصْبَاح . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ اللَّه فَالِق الْإِصْبَاح . وَالصُّبْح وَالصَّبَاح أَوَّل النَّهَار , وَكَذَلِكَ الْإِصْبَاح ; أَيْ فَالِق الصُّبْح كُلّ يَوْم , يُرِيد الْفَجْر . وَالْإِصْبَاح مَصْدَر أَصْبَحَ . وَالْمَعْنَى : شَاقّ الضِّيَاء عَنْ الظَّلَام وَكَاشِفه . وَقَالَ الضَّحَّاك : فَالِق الْإِصْبَاح خَالِق النَّهَار . وَهُوَ مَعْرِفَة لَا يَجُوز فِيهِ التَّنْوِين عِنْد أَحَد مِنْ النَّحْوِيِّينَ . وَقَرَأَ الْحَسَن وَعِيسَى بْن عُمَر " فَالِق الْأَصْبَاح " بِفَتْحِ الْهَمْزَة , وَهُوَ جَمْع صُبْح . وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَرَأَ " فَلَقَ الْإِصْبَاحَ " عَلَى فَعَلَ , وَالْهَمْزَة مَكْسُورَة وَالْحَاء مَنْصُوبَة . وَقَرَأَ الْحَسَن وَعِيسَى بْن عُمَر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " وَجَعَلَ اللَّيْل سَكَنًا " بِغَيْرِ أَلِف . وَنُصِبَ " اللَّيْل " حَمْلًا عَلَى مَعْنَى " فَالِق " فِي الْمَوْضِعَيْنِ ; لِأَنَّهُ بِمَعْنَى فَلَقَ , لِأَنَّهُ أَمْر قَدْ كَانَ فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى . وَأَيْضًا فَإِنَّ بَعْده أَفْعَالًا مَاضِيَة وَهُوَ قَوْله : " جَعَلَ لَكُمْ النُّجُوم " [ الْأَنْعَام : 97 ] . " أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاء مَاء " [ الرَّعْد : 17 ] . فَحُمِلَ أَوَّل الْكَلَام عَلَى آخِره . يُقَوِّي ذَلِكَ إِجْمَاعهمْ عَلَى نَصْب الشَّمْس وَالْقَمَر عَلَى إِضْمَار فِعْل , وَلَمْ يَحْمِلُوهُ عَلَى فَاعِل فَيَخْفِضُوهُ ; قَالَهُ مَكِّيّ رَحِمَهُ اللَّه . وَقَالَ النَّحَّاس : وَقَدْ قَرَأَ يَزِيد بْن قَطِيب السَّكُونِيّ " جَاعِل اللَّيْل سَكَنًا وَالشَّمْس وَالْقَمَر حُسْبَانًا " بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى اللَّفْظ . قُلْت : فَيُرِيد مَكِّيّ وَالْمَهْدَوِيّ وَغَيْرهمَا إِجْمَاع الْقُرَّاء السَّبْعَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَرَأَ يَعْقُوب فِي رِوَايَة رُوَيْس عَنْهُ " وَجَاعِل اللَّيْل سَاكِنًا " . وَأَهْل الْمَدِينَة " وَجَاعِل اللَّيْل سَكَنَا " أَيْ مَحَلًّا لِلسُّكُونِ . وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فَيَقُول : " اللَّهُمَّ فَالِق الْإِصْبَاح وَجَاعِل اللَّيْل سَكَنًا وَالشَّمْس وَالْقَمَر حُسْبَانًا اِقْضِ عَنِّي الدَّيْن وَاغْنِنِي مِنْ الْفَقْر وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي فِي سَبِيلك ) . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَالَ ( وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي ) وَفِي كِتَاب النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا ( وَاجْعَلْهُ الْوَارِث مِنِّي ) وَذَلِكَ يَفْنَى مَعَ الْبَدَن ؟ قِيلَ لَهُ : فِي الْكَلَام تَجَوُّز , وَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ لَا تُعْدِمهُ قَبْلِي . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالسَّمْعِ وَالْبَصَر هُنَا أَبُو بَكْر وَعُمَر ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِمَا : ( هُمَا السَّمْع وَالْبَصَر ) . وَهَذَا تَأْوِيل بَعِيد , إِنَّمَا الْمُرَاد بِهِمَا الْجَارِحَتَانِ . وَمَعْنَى " حُسْبَانًا " أَيْ بِحِسَابٍ يَتَعَلَّق بِهِ مَصَالِح الْعِبَاد . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله جَلَّ وَعَزَّ : " وَالشَّمْس وَالْقَمَر حُسْبَانًا " أَيْ بِحِسَابٍ . قَالَ الْأَخْفَش : حُسْبَان جَمْع حِسَاب ; مِثْل شِهَاب وَشُهْبَان . وَقَالَ يَعْقُوب : حُسْبَان مَصْدَر حَسِبْت الشَّيْء أَحْسُبهُ حُسْبَانًا وَحِسَابًا وَحِسْبَة , وَالْحِسَاب الِاسْم . وَقَالَ غَيْره : جَعَلَ اللَّه تَعَالَى سَيْر الشَّمْس وَالْقَمَر بِحِسَابٍ لَا يَزِيد وَلَا يَنْقُص ; فَدَلَّهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَته وَوَحْدَانِيّته . وَقِيلَ : " حُسْبَانًا " أَيْ ضِيَاء . وَالْحُسْبَان : النَّار فِي لُغَة ; وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَيُرْسِل عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاء " [ الْكَهْف : 40 ] . قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَارًا . وَالْحُسْبَانَة : الْوِسَادَة الصَّغِيرَة .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ↓
بَيَّنَ كَمَال قُدْرَته , وَفِي النُّجُوم مَنَافِع جَمَّة . ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَة بَعْض مَنَافِعهَا , وَهِيَ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْع إِلَى مَعْرِفَتهَا ; وَفِي التَّنْزِيل : " وَحِفْظًا مِنْ كُلّ شَيْطَان مَارِد " [ الصَّافَّات : 7 ] . " وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ " [ الْمُلْك : 5 ] . و " جَعَلَ " هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ .
أَيْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَة لِتَكُونَ أَبْلَغ فِي الِاعْتِبَار .
خَصَّهُمْ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا .
أَيْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَة لِتَكُونَ أَبْلَغ فِي الِاعْتِبَار .
خَصَّهُمْ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا .
وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ↓
يُرِيد آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل السُّورَة .
قَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَأَبُو عَمْرو وَعِيسَى وَالْأَعْرَج وَشَيْبَة وَالنَّخَعِيّ بِكَسْرِ الْقَاف , وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا . وَهِيَ فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , إِلَّا أَنَّ التَّقْدِير فِيمَنْ كَسَرَ الْقَاف فَمِنْهَا " مُسْتَقَرّ " وَالْفَتْح بِمَعْنَى لَهَا " مُسْتَقَرّ " . قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : فَلَهَا مُسْتَقَرّ فِي الرَّحِم وَمُسْتَوْدَع فِي الْأَرْض الَّتِي تَمُوت فِيهَا ; وَهَذَا التَّفْسِير يَدُلّ عَلَى الْفَتْح . وَقَالَ الْحَسَن : فَمُسْتَقَرّ فِي الْقَبْر . وَأَكْثَر أَهْل التَّفْسِير يَقُولُونَ : الْمُسْتَقَرّ مَا كَانَ فِي الرَّحِم , وَالْمُسْتَوْدَع مَا كَانَ فِي الصُّلْب ; رَوَاهُ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَهُ النَّخَعِيّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : مُسْتَقَرّ فِي الْأَرْض , وَمُسْتَوْدَع فِي الْأَصْلَاب . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قَالَ لِي اِبْن عَبَّاس هَلْ تَزَوَّجْت ؟ قُلْت : لَا ; فَقَالَ : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْرِج مِنْ ظَهْرك مَا اِسْتَوْدَعَهُ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّ الْمُسْتَقَرّ مَنْ خُلِقَ , وَالْمُسْتَوْدَع مَنْ لَمْ يُخْلَق ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : وَمُسْتَوْدَع عِنْد اللَّه . قُلْت : وَفِي التَّنْزِيل " وَلَكُمْ فِي الْأَرْض مُسْتَقَرّ وَمَتَاع إِلَى حِين " [ الْبَقَرَة : 36 ] وَالِاسْتِيدَاع إِشَارَة إِلَى كَوْنهمْ فِي الْقَبْر إِلَى أَنْ يُبْعَثُوا لِلْحِسَابِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة .
قَالَ قَتَادَة : " فَصَّلْنَا " بَيَّنَّا وَقَرَّرْنَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَأَبُو عَمْرو وَعِيسَى وَالْأَعْرَج وَشَيْبَة وَالنَّخَعِيّ بِكَسْرِ الْقَاف , وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا . وَهِيَ فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , إِلَّا أَنَّ التَّقْدِير فِيمَنْ كَسَرَ الْقَاف فَمِنْهَا " مُسْتَقَرّ " وَالْفَتْح بِمَعْنَى لَهَا " مُسْتَقَرّ " . قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : فَلَهَا مُسْتَقَرّ فِي الرَّحِم وَمُسْتَوْدَع فِي الْأَرْض الَّتِي تَمُوت فِيهَا ; وَهَذَا التَّفْسِير يَدُلّ عَلَى الْفَتْح . وَقَالَ الْحَسَن : فَمُسْتَقَرّ فِي الْقَبْر . وَأَكْثَر أَهْل التَّفْسِير يَقُولُونَ : الْمُسْتَقَرّ مَا كَانَ فِي الرَّحِم , وَالْمُسْتَوْدَع مَا كَانَ فِي الصُّلْب ; رَوَاهُ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَهُ النَّخَعِيّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : مُسْتَقَرّ فِي الْأَرْض , وَمُسْتَوْدَع فِي الْأَصْلَاب . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قَالَ لِي اِبْن عَبَّاس هَلْ تَزَوَّجْت ؟ قُلْت : لَا ; فَقَالَ : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْرِج مِنْ ظَهْرك مَا اِسْتَوْدَعَهُ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّ الْمُسْتَقَرّ مَنْ خُلِقَ , وَالْمُسْتَوْدَع مَنْ لَمْ يُخْلَق ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : وَمُسْتَوْدَع عِنْد اللَّه . قُلْت : وَفِي التَّنْزِيل " وَلَكُمْ فِي الْأَرْض مُسْتَقَرّ وَمَتَاع إِلَى حِين " [ الْبَقَرَة : 36 ] وَالِاسْتِيدَاع إِشَارَة إِلَى كَوْنهمْ فِي الْقَبْر إِلَى أَنْ يُبْعَثُوا لِلْحِسَابِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة .
قَالَ قَتَادَة : " فَصَّلْنَا " بَيَّنَّا وَقَرَّرْنَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ↓
أَيْ الْمَطَر .
أَيْ كُلّ صِنْف مِنْ النَّبَات . وَقِيلَ : رِزْق كُلّ حَيَوَان .
قَالَ الْأَخْفَش : أَيْ أَخْضَر ; كَمَا تَقُول الْعَرَب : أَرِنِيهَا نَمِرَة أُرِكْهَا مَطِرَة . وَالْخَضِر رُطَب الْبُقُول . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد الْقَمْح وَالشَّعِير وَالسُّلْت وَالذُّرَة وَالْأَرُزّ وَسَائِر الْحُبُوب .
أَيْ يَرْكَب بَعْضه عَلَى بَعْض كَالسُّنْبُلَةِ .
اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَأَجَازَ الْفَرَّاء فِي غَيْر الْقُرْآن " قِنْوَانًا دَانِيَة " عَلَى الْعَطْف عَلَى مَا قَبْله . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول : قِنْوَان . قَالَ الْفَرَّاء : هَذِهِ لُغَة قَيْس , وَأَهْل الْحِجَاز يَقُولُونَ : قِنْوَان , وَتَمِيم يَقُولُونَ : قِنْيَان ; ثُمَّ يَجْتَمِعُونَ فِي الْوَاحِد فَيَقُولُونَ : قِنْو وَقَنْو . وَالطَّلْع الْكُفُرَّى قَبْل أَنْ يَنْشَقّ عَنْ الْإِغْرِيض . وَالْإِغْرِيض يُسَمَّى طَلْعًا أَيْضًا . وَالطَّلْع ; مَا يُرَى مِنْ عِذْق النَّخْلَة . وَالْقِنْوَان : جَمْع قِنْو , وَتَثْنِيَته قِنْوَان كَصِنْوٍ وَصِنْوَانِ ( بِكَسْرِ النُّون ) . وَجَاءَ الْجَمْع عَلَى لَفْظ الِاثْنَيْنِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره : الِاثْنَانِ صِنْوَانِ وَالْجَمْع صِنْوَانُ ( بِرَفْعِ النُّون ) . وَالْقِنْو : الْعِذْق وَالْجَمْع الْقِنْوَان وَالْأَقْنَاء ; قَالَ : طَوِيلَة الْأَقْنَاء وَالْأَثَاكِل غَيْره : " أَقْنَاء " جَمْع الْقِلَّة . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : قَرَأَ اِبْن هُرْمُز " قَنْوَان " بِفَتْحِ الْقَاف , وَرُوِيَ عَنْهُ ضَمّهَا . فَعَلَى الْفَتْح هُوَ اِسْم لِلْجَمْعِ غَيْر مُكَسَّر , بِمَنْزِلَةِ رَكْب عِنْد سِيبَوَيْهِ , وَبِمَنْزِلَةِ الْبَاقِر وَالْجَامِل ; لِأَنَّ فِعْلَان لَيْسَ مِنْ أَمْثِلَة الْجَمْع , وَضَمّ الْقَاف عَلَى أَنَّهُ جَمْع قِنْو وَهُوَ الْعِذْق ( بِكَسْرِ الْعَيْن ) وَهِيَ الْكِبَاسَة , وَهِيَ عُنْقُود النَّخْلَة . وَالْعِذْق ( بِفَتْحِ الْعَيْن ) النَّخْلَة نَفْسهَا . وَقِيلَ : الْقِنْوَان الْجُمَّار . " دَانِيَة " قَرِيبَة , يَنَالهَا الْقَائِم وَالْقَاعِد . عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْبَرَاء بْن عَازِب وَغَيْرهمَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : مِنْهَا دَانِيَة وَمِنْهَا بَعِيدَة ; فَحُذِفَ ; وَمِثْله " سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : 81 ] . وَخَصَّ الدَّانِيَة بِالذِّكْرِ , لِأَنَّ مِنْ الْغَرَض فِي الْآيَة ذِكْر الْقُدْرَة وَالِامْتِنَان بِالنِّعْمَةِ , وَالِامْتِنَان فِيمَا يَقْرَب مُتَنَاوَله أَكْثَر .
أَيْ وَأَخْرَجْنَا جَنَّات . وَقَرَأَ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى وَالْأَعْمَش , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قِرَاءَة عَاصِم " وَجَنَّات " بِالرَّفْعِ . وَأَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَة أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم , حَتَّى قَالَ أَبُو حَاتِم : هِيَ مُحَال ; لِأَنَّ الْجَنَّات لَا تَكُون مِنْ النَّخْل . قَالَ النَّحَّاس . وَالْقِرَاءَة جَائِزَة , وَلَيْسَ التَّأْوِيل عَلَى هَذَا , وَلَكِنَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر مَحْذُوف ; أَيْ وَلَهُمْ جَنَّات . كَمَا قَرَأَ جَمَاعَة مِنْ الْقُرَّاء " وَحُور عِين " [ الْوَاقِعَة : 22 ] . وَأَجَازَ مِثْل هَذَا سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء ; وَمِثْله كَثِير . وَعَلَى هَذَا أَيْضًا " وَحُورًا عِينًا " حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ , وَأَنْشَدَ : جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْر لِقَوْمِهِمْ أَوْ مِثْل أُسْرَة مَنْظُور بْن سَيَّار وَقِيلَ : التَّقْدِير " وَجَنَّات مِنْ أَعْنَاب " أَخْرَجْنَاهَا ; كَقَوْلِك : أَكْرَمْت عَبْد اللَّه وَأَخُوهُ , أَيْ وَأَخُوهُ أَكْرَمْت أَيْضًا . فَأَمَّا الزَّيْتُون وَالرُّمَّان فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا النَّصْب لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ : " وَجَنَّات " بِالرَّفْعِ عَطْف عَلَى " قِنْوَان " لَفْظًا , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْمَعْنَى مِنْ جِنْسهَا .
أَيْ مُتَشَابِهًا فِي الْأَوْرَاق ; أَيْ وَرَق الزَّيْتُون يُشْبِه وَرَق الرُّمَّان فِي اِشْتِمَاله عَلَى جَمِيع الْغُصْن وَفِي حَجْم الْوَرَق , وَغَيْر مُتَشَابِه فِي الذَّوَاق ; عَنْ قَتَادَة وَغَيْره . قَالَ اِبْن جُرَيْج : " مُتَشَابِهًا " فِي النَّظَر " وَغَيْر مُتَشَابِه " فِي الطَّعْم ; مِثْل الرُّمَّانَتَيْنِ لَوْنهمَا وَاحِد وَطَعَامهمَا مُخْتَلِف . وَخُصَّ الرُّمَّان وَالزَّيْتُون بِالذِّكْرِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمْ وَمَكَانهمَا عِنْدهمْ . وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيْفَ خُلِقَتْ " [ الْغَاشِيَة : 17 ] . رَدَّهُمْ إِلَى الْإِبِل لِأَنَّهَا أَغْلَب مَا يَعْرِفُونَهُ .
أَيْ نَظَر الِاعْتِبَار لَا نَظَر الْإِبْصَار الْمُجَرَّد عَنْ التَّفَكُّر . وَالثَّمَر فِي اللُّغَة جَنَى الشَّجَر . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " ثُمُره " بِضَمِّ الثَّاء وَالْمِيم . وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا جَمْع ثَمَرَة , مِثْل بَقَرَة وَبَقَر وَشَجَرَة وَشَجَر . قَالَ مُجَاهِد الثَّمَر أَصْنَاف الْمَال , وَالتَّمْر ثَمَر النَّخْل . وَكَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى قَوْل مُجَاهِد : اُنْظُرُوا إِلَى الْأَمْوَال الَّتِي يَتَحَصَّل مِنْهُ الثَّمَر ; فَالثَّمَر بِضَمَّتَيْنِ جَمْع ثِمَار وَهُوَ الْمَال الْمُثْمِر . وَرُوِيَ عَنْ الْأَعْمَش " ثُمْره " بِضَمِّ الثَّاء وَسُكُون الْمِيم ; حُذِفَتْ الضَّمَّة لِثِقَلِهَا طَلَبًا لِلْخِفَّةِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون ثَمَر جَمْع ثَمَرَة مِثْل بَدَنَة وَبَدَن . وَيَجُوز أَنْ يَكُون ثَمَر جَمْع جَمْع , فَتَقُول : ثَمَرَة وَثِمَار وَثَمَر مِثْل حِمَار وَحُمُر . وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع ثَمَرَة كَخَشَبَةٍ وَخَشَب لَا جَمْع الْجَمْع .
قَرَأَ مُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع " وَيَانِعه " . وَابْن مُحَيْصِن وَابْن أَبِي إِسْحَاق " وَيُنْعِهِ " بِضَمِّ الْيَاء . قَالَ الْفَرَّاء : هِيَ لُغَة بَعْض أَهْل نَجْد ; يُقَال : يَنَعَ الثَّمَر يَيْنَع , وَالثَّمَر يَانِع . وَأَيْنَعَ يُونِع وَالتَّمْر مُونِع . وَالْمَعْنَى : وَنُضْجه . يَنَعَ وَأَيْنَعَ إِذَا نَضِجَ وَأَدْرَكَ . قَالَ الْحَجَّاج فِي خُطْبَته : أَرَى رُءُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافهَا . قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : الْيَنْع جَمْع يَانِع , كَرَاكِبٍ وَرَكْب , وَتَاجِر وَتَجْر , وَهُوَ الْمُدْرِك الْبَالِغ . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَيْنَع أَكْثَر مِنْ يَنَعَ , وَمَعْنَاهُ أَحْمَر ; وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي حَدِيث الْمُلَاعَنَة ( إِنْ وَلَدْته أَحْمَر مِثْل الْيَنَعَة ) وَهِيَ خَرَزَة حَمْرَاء , يُقَال : إِنَّهُ الْعَقِيق أَوْ نَوْع مِنْهُ . فَدَلَّتْ الْآيَة لِمَنْ تَدَبَّرَ وَنَظَرَ بِبَصَرِهِ وَقَلْبه , نَظَرَ مَنْ تَفَكَّرَ , أَنَّ الْمُتَغَيِّرَات لَا بُدّ لَهَا مِنْ مُغَيِّر ; وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : " اُنْظُرُوا إِلَى ثَمَره إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعه " . فَتَرَاهُ أَوَّلًا طَلْعًا ثُمَّ إِغْرِيضًا إِذَا اِنْشَقَّ عَنْهُ الطَّلْع . وَالْإِغْرِيض يُسَمَّى ضَحْكًا أَيْضًا , ثُمَّ بَلْحًا , ثُمَّ سَيَّابًا , ثُمَّ جِدَالًا إِذْ اِخْضَرَّ وَاسْتَدَارَ قَبْل أَنْ يَشْتَدّ , ثُمَّ بُسْرًا إِذَا عَظُمَ , ثُمَّ زَهْوًا إِذَا اِحْمَرَّ ; يُقَال : أَزْهَى يُزْهِي , ثُمَّ مُوَكَّتًا إِذَا بَدَتْ فِيهِ نُقَط مِنْ الْإِرْطَاب . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَل الذَّنْب فَهِيَ مُذْنِبَة , وَهُوَ التَّذْنُوب , فَإِذَا لَانَتْ فَهِيَ ثَعْدة , فَإِذَا بَلَغَ الْإِرْطَاب نِصْفهَا فَهِيَ مُجَزَّعَة , فَإِذَا بَلَغَ ثُلُثَيْهَا فَهِيَ حُلْقَانَة , فَإِذَا عَمَّهَا الْإِرْطَاب فَهِيَ مُنْسَبِتَة ; يُقَال : رُطَب مُنْسَبِت , ثُمَّ يَيْبَس فَيَصِير تَمْرًا . فَنَبَّهَ اللَّه تَعَالَى بِانْتِقَالِهَا مِنْ حَال إِلَى حَال وَتَغَيُّرهَا وَوُجُودهَا بَعْد أَنْ لَمْ تَكُنْ بَعْد عَلَى وَحْدَانِيّته وَكَمَال قُدْرَته , وَأَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا عَالِمًا . وَدَلَّ عَلَى جَوَاز الْبَعْث ; لِإِيجَادِ النَّبَات بَعْد الْجَفَاف . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : يَنَعَ الثَّمَر يَيْنَع وَيَيْنَع يَنْعًا وَيُنُوعًا , أَيْ نَضِجَ .
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ قَالَ مَالِك : الْإِينَاع الطِّيب بِغَيْرِ فَسَاد وَلَا نَقْش . قَالَ مَالِك : وَالنَّقْش أَنْ يَنْقُش أَهْل الْبَصْرَة الثَّمَر حَتَّى يُرْطَب ; يُرِيد يُثْقَب فِيهِ بِحَيْثُ يُسْرِع دُخُول الْهَوَاء إِلَيْهِ فَيُرْطَب مُعَجَّلًا . فَلَيْسَ ذَلِكَ الْيَنْع الْمُرَاد فِي الْقُرْآن , وَلَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْع , وَإِنَّمَا هُوَ مَا يَكُون مِنْ ذَاته بِغَيْرِ مُحَاوَلَة . وَفِي بَعْض بِلَاد التِّين , وَهِيَ الْبِلَاد الْبَارِدَة , لَا يَنْضَج حَتَّى يَدْخُل فِي فَمه عُود قَدْ دُهِنَ زَيْتًا , فَإِذَا طَابَ حَلَّ بَيْعه ; لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَة الْهَوَاء وَعَادَة الْبِلَاد , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا طَابَ فِي وَقْت الطِّيب . قُلْت : وَهَذَا الْيَنْع الَّذِي يَقِف عَلَيْهِ جَوَاز بَيْع التَّمْر وَبِهِ يَطِيب أَكْلهَا وَيَأْمَن مِنْ الْعَاهَة , هُوَ عِنْد طُلُوع الثُّرَيَّا بِمَا أَجْرَى اللَّه سُبْحَانه مِنْ الْعَادَة وَأَحْكَمَهُ مِنْ الْعِلْم وَالْقُدْرَة . ذَكَرَ الْمُعَلَّى بْن أَسَد عَنْ وُهَيْب عَنْ عَسَل بْن سُفْيَان عَنْ عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِذَا طَلَعَتْ الثُّرَيَّا صَبَاحًا رَفَعَتْ الْعَاهَة عَنْ أَهْل الْبَلَد ) . وَالثُّرَيَّا النَّجْم , لَا خِلَاف فِي ذَلِكَ . وَطُلُوعهَا صَبَاحًا لِاثْنَتَيْ عَشْرَة لَيْلَة تَمْضِي مِنْ شَهْر أَيَّار , وَهُوَ شَهْر مَايُو . وَفِي الْبُخَارِيّ : وَأَخْبَرَنِي خَارِجَة بْن زَيْد بْن ثَابِت أَنَّ زَيْد بْن ثَابِت لَمْ يَكُنْ يَبِيع ثِمَار أَرْضه حَتَّى تَطْلُع الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّن الْأَصْفَر مِنْ الْأَحْمَر .
وَقَدْ اِسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ الْجَوَائِح فِي الثِّمَار بِهَذِهِ الْآثَار , وَمَا كَانَ مِثْلهَا مِنْ نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ بَيْع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا , وَعَنْ بَيْع الثِّمَار حَتَّى تَذْهَب الْعَاهَة . قَالَ عُثْمَان بْن سُرَاقَة : فَسَأَلْت اِبْن عُمَر مَتَى هَذَا ؟ فَقَالَ : طُلُوع الثُّرَيَّا . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمْ يَثْبُت عِنْدِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِح , وَلَوْ ثَبَتَ عِنْدِي لَمْ أَعُدَّهُ , وَالْأَصْل الْمُجْتَمَع عَلَيْهِ أَنَّ كُلّ مَنْ اِبْتَاعَ مَا يَجُوز بَيْعه وَقَبَضَهُ كَانَتْ الْمُصِيبَة مِنْهُ , قَالَ : وَلَوْ كُنْت قَائِلًا بِوَضْعِ الْجَوَائِح لَوَضَعَتْهَا فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير . وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَالْكُوفِيِّينَ . وَذَهَبَ مَالِك وَأَكْثَر أَهْل الْمَدِينَة إِلَى وَضْعهَا ; لِحَدِيثِ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِح . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَبِهِ كَانَ يَقْضِي عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , وَهُوَ قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل وَسَائِر أَصْحَاب الْحَدِيث . وَأَهْل الظَّاهِر وَضَعُوهَا عَنْ الْمُبْتَاع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير عَلَى عُمُوم الْحَدِيث ; إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابه اِعْتَبَرُوا أَنْ تَبْلُغ الْجَائِحَة ثُلُث الثَّمَرَة فَصَاعِدًا , وَمَا كَانَ دُون الثُّلُث أَلْغُوهُ وَجَعَلُوهُ تَبَعًا , إِذْ لَا تَخْلُو ثَمَرَة مِنْ أَنْ يَتَعَذَّر الْقَلِيل مِنْ طِيبهَا وَأَنْ يَلْحَقهَا فِي الْيَسِير مِنْهَا فَسَاد . وَكَانَ أَصْبَغ وَأَشْهَب لَا يَنْظُرَانِ إِلَى الثَّمَرَة وَلَكِنْ إِلَى الْقِيمَة , فَإِذَا كَانَتْ الْقِيمَة الثُّلُث فَصَاعِدًا وُضِعَ عَنْهُ . وَالْجَائِحَة مَا لَا يُمْكِن دَفْعه عِنْد اِبْن الْقَاسِم . وَعَلَيْهِ فَلَا تَكُون السَّرِقَة جَائِحَة , وَكَذَا فِي كِتَاب مُحَمَّد . وَفِي الْكِتَاب أَنَّهُ جَائِحَة , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم , وَخَالَفَهُ أَصْحَابه وَالنَّاس . وَقَالَ مُطَّرِف وَابْن الْمَاجِشُون : مَا أَصَابَ الثَّمَرَة مِنْ السَّمَاء مِنْ عَفَن أَوْ بَرَد , أَوْ عَطَش أَوْ حَرّ أَوْ كَسْر الشَّجَر بِمَا لَيْسَ بِصُنْعِ آدَمِيّ فَهُوَ جَائِحَة . وَاخْتُلِفَ فِي الْعَطَش ; فَفِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم هُوَ جَائِحَة . وَالصَّحِيح فِي الْبُقُول أَنَّهَا فِيهَا جَائِحَة كَالثَّمَرَةِ . وَمَنْ بَاعَ ثَمَرًا قَبْل بُدُوّ صَلَاحه بِشَرْطِ التَّبْقِيَة فُسِخَ بَيْعه وَرُدَّ ; لِلنَّهْيِ عَنْهُ ; وَلِأَنَّهُ مَنْ أَكَلَ الْمَال بِالْبَاطِلِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَرَأَيْت إِنْ مَنَعَ اللَّه الثَّمَرَة فَبِمَ يَأْخُذ أَحَدكُمْ مَال أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقّ ) ؟ هَذَا قَوْل الْجُمْهُور , وَصَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَحَمَلُوا النَّهْي عَلَى الْكَرَاهَة . وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى جَوَاز بَيْعهَا قَبْل بُدُوّ الصَّلَاح بِشَرْطِ الْقَطْع . وَمَنَعَهُ الثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى تَمَسُّكًا بِالنَّهْيِ الْوَارِد فِي ذَلِكَ . وَخَصَّصَهُ الْجُمْهُور بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ ; لِأَنَّهُ مَبِيع مَعْلُوم يَصِحّ قَبْضه حَالَة الْعَقْد فَصَحَّ بَيْعه كَسَائِرِ الْمَبِيعَات .
أَيْ كُلّ صِنْف مِنْ النَّبَات . وَقِيلَ : رِزْق كُلّ حَيَوَان .
قَالَ الْأَخْفَش : أَيْ أَخْضَر ; كَمَا تَقُول الْعَرَب : أَرِنِيهَا نَمِرَة أُرِكْهَا مَطِرَة . وَالْخَضِر رُطَب الْبُقُول . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد الْقَمْح وَالشَّعِير وَالسُّلْت وَالذُّرَة وَالْأَرُزّ وَسَائِر الْحُبُوب .
أَيْ يَرْكَب بَعْضه عَلَى بَعْض كَالسُّنْبُلَةِ .
اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَأَجَازَ الْفَرَّاء فِي غَيْر الْقُرْآن " قِنْوَانًا دَانِيَة " عَلَى الْعَطْف عَلَى مَا قَبْله . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول : قِنْوَان . قَالَ الْفَرَّاء : هَذِهِ لُغَة قَيْس , وَأَهْل الْحِجَاز يَقُولُونَ : قِنْوَان , وَتَمِيم يَقُولُونَ : قِنْيَان ; ثُمَّ يَجْتَمِعُونَ فِي الْوَاحِد فَيَقُولُونَ : قِنْو وَقَنْو . وَالطَّلْع الْكُفُرَّى قَبْل أَنْ يَنْشَقّ عَنْ الْإِغْرِيض . وَالْإِغْرِيض يُسَمَّى طَلْعًا أَيْضًا . وَالطَّلْع ; مَا يُرَى مِنْ عِذْق النَّخْلَة . وَالْقِنْوَان : جَمْع قِنْو , وَتَثْنِيَته قِنْوَان كَصِنْوٍ وَصِنْوَانِ ( بِكَسْرِ النُّون ) . وَجَاءَ الْجَمْع عَلَى لَفْظ الِاثْنَيْنِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره : الِاثْنَانِ صِنْوَانِ وَالْجَمْع صِنْوَانُ ( بِرَفْعِ النُّون ) . وَالْقِنْو : الْعِذْق وَالْجَمْع الْقِنْوَان وَالْأَقْنَاء ; قَالَ : طَوِيلَة الْأَقْنَاء وَالْأَثَاكِل غَيْره : " أَقْنَاء " جَمْع الْقِلَّة . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : قَرَأَ اِبْن هُرْمُز " قَنْوَان " بِفَتْحِ الْقَاف , وَرُوِيَ عَنْهُ ضَمّهَا . فَعَلَى الْفَتْح هُوَ اِسْم لِلْجَمْعِ غَيْر مُكَسَّر , بِمَنْزِلَةِ رَكْب عِنْد سِيبَوَيْهِ , وَبِمَنْزِلَةِ الْبَاقِر وَالْجَامِل ; لِأَنَّ فِعْلَان لَيْسَ مِنْ أَمْثِلَة الْجَمْع , وَضَمّ الْقَاف عَلَى أَنَّهُ جَمْع قِنْو وَهُوَ الْعِذْق ( بِكَسْرِ الْعَيْن ) وَهِيَ الْكِبَاسَة , وَهِيَ عُنْقُود النَّخْلَة . وَالْعِذْق ( بِفَتْحِ الْعَيْن ) النَّخْلَة نَفْسهَا . وَقِيلَ : الْقِنْوَان الْجُمَّار . " دَانِيَة " قَرِيبَة , يَنَالهَا الْقَائِم وَالْقَاعِد . عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْبَرَاء بْن عَازِب وَغَيْرهمَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : مِنْهَا دَانِيَة وَمِنْهَا بَعِيدَة ; فَحُذِفَ ; وَمِثْله " سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : 81 ] . وَخَصَّ الدَّانِيَة بِالذِّكْرِ , لِأَنَّ مِنْ الْغَرَض فِي الْآيَة ذِكْر الْقُدْرَة وَالِامْتِنَان بِالنِّعْمَةِ , وَالِامْتِنَان فِيمَا يَقْرَب مُتَنَاوَله أَكْثَر .
أَيْ وَأَخْرَجْنَا جَنَّات . وَقَرَأَ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى وَالْأَعْمَش , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قِرَاءَة عَاصِم " وَجَنَّات " بِالرَّفْعِ . وَأَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَة أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم , حَتَّى قَالَ أَبُو حَاتِم : هِيَ مُحَال ; لِأَنَّ الْجَنَّات لَا تَكُون مِنْ النَّخْل . قَالَ النَّحَّاس . وَالْقِرَاءَة جَائِزَة , وَلَيْسَ التَّأْوِيل عَلَى هَذَا , وَلَكِنَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر مَحْذُوف ; أَيْ وَلَهُمْ جَنَّات . كَمَا قَرَأَ جَمَاعَة مِنْ الْقُرَّاء " وَحُور عِين " [ الْوَاقِعَة : 22 ] . وَأَجَازَ مِثْل هَذَا سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء ; وَمِثْله كَثِير . وَعَلَى هَذَا أَيْضًا " وَحُورًا عِينًا " حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ , وَأَنْشَدَ : جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْر لِقَوْمِهِمْ أَوْ مِثْل أُسْرَة مَنْظُور بْن سَيَّار وَقِيلَ : التَّقْدِير " وَجَنَّات مِنْ أَعْنَاب " أَخْرَجْنَاهَا ; كَقَوْلِك : أَكْرَمْت عَبْد اللَّه وَأَخُوهُ , أَيْ وَأَخُوهُ أَكْرَمْت أَيْضًا . فَأَمَّا الزَّيْتُون وَالرُّمَّان فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا النَّصْب لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ : " وَجَنَّات " بِالرَّفْعِ عَطْف عَلَى " قِنْوَان " لَفْظًا , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْمَعْنَى مِنْ جِنْسهَا .
أَيْ مُتَشَابِهًا فِي الْأَوْرَاق ; أَيْ وَرَق الزَّيْتُون يُشْبِه وَرَق الرُّمَّان فِي اِشْتِمَاله عَلَى جَمِيع الْغُصْن وَفِي حَجْم الْوَرَق , وَغَيْر مُتَشَابِه فِي الذَّوَاق ; عَنْ قَتَادَة وَغَيْره . قَالَ اِبْن جُرَيْج : " مُتَشَابِهًا " فِي النَّظَر " وَغَيْر مُتَشَابِه " فِي الطَّعْم ; مِثْل الرُّمَّانَتَيْنِ لَوْنهمَا وَاحِد وَطَعَامهمَا مُخْتَلِف . وَخُصَّ الرُّمَّان وَالزَّيْتُون بِالذِّكْرِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمْ وَمَكَانهمَا عِنْدهمْ . وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيْفَ خُلِقَتْ " [ الْغَاشِيَة : 17 ] . رَدَّهُمْ إِلَى الْإِبِل لِأَنَّهَا أَغْلَب مَا يَعْرِفُونَهُ .
أَيْ نَظَر الِاعْتِبَار لَا نَظَر الْإِبْصَار الْمُجَرَّد عَنْ التَّفَكُّر . وَالثَّمَر فِي اللُّغَة جَنَى الشَّجَر . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " ثُمُره " بِضَمِّ الثَّاء وَالْمِيم . وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا جَمْع ثَمَرَة , مِثْل بَقَرَة وَبَقَر وَشَجَرَة وَشَجَر . قَالَ مُجَاهِد الثَّمَر أَصْنَاف الْمَال , وَالتَّمْر ثَمَر النَّخْل . وَكَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى قَوْل مُجَاهِد : اُنْظُرُوا إِلَى الْأَمْوَال الَّتِي يَتَحَصَّل مِنْهُ الثَّمَر ; فَالثَّمَر بِضَمَّتَيْنِ جَمْع ثِمَار وَهُوَ الْمَال الْمُثْمِر . وَرُوِيَ عَنْ الْأَعْمَش " ثُمْره " بِضَمِّ الثَّاء وَسُكُون الْمِيم ; حُذِفَتْ الضَّمَّة لِثِقَلِهَا طَلَبًا لِلْخِفَّةِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون ثَمَر جَمْع ثَمَرَة مِثْل بَدَنَة وَبَدَن . وَيَجُوز أَنْ يَكُون ثَمَر جَمْع جَمْع , فَتَقُول : ثَمَرَة وَثِمَار وَثَمَر مِثْل حِمَار وَحُمُر . وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع ثَمَرَة كَخَشَبَةٍ وَخَشَب لَا جَمْع الْجَمْع .
قَرَأَ مُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع " وَيَانِعه " . وَابْن مُحَيْصِن وَابْن أَبِي إِسْحَاق " وَيُنْعِهِ " بِضَمِّ الْيَاء . قَالَ الْفَرَّاء : هِيَ لُغَة بَعْض أَهْل نَجْد ; يُقَال : يَنَعَ الثَّمَر يَيْنَع , وَالثَّمَر يَانِع . وَأَيْنَعَ يُونِع وَالتَّمْر مُونِع . وَالْمَعْنَى : وَنُضْجه . يَنَعَ وَأَيْنَعَ إِذَا نَضِجَ وَأَدْرَكَ . قَالَ الْحَجَّاج فِي خُطْبَته : أَرَى رُءُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافهَا . قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : الْيَنْع جَمْع يَانِع , كَرَاكِبٍ وَرَكْب , وَتَاجِر وَتَجْر , وَهُوَ الْمُدْرِك الْبَالِغ . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَيْنَع أَكْثَر مِنْ يَنَعَ , وَمَعْنَاهُ أَحْمَر ; وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي حَدِيث الْمُلَاعَنَة ( إِنْ وَلَدْته أَحْمَر مِثْل الْيَنَعَة ) وَهِيَ خَرَزَة حَمْرَاء , يُقَال : إِنَّهُ الْعَقِيق أَوْ نَوْع مِنْهُ . فَدَلَّتْ الْآيَة لِمَنْ تَدَبَّرَ وَنَظَرَ بِبَصَرِهِ وَقَلْبه , نَظَرَ مَنْ تَفَكَّرَ , أَنَّ الْمُتَغَيِّرَات لَا بُدّ لَهَا مِنْ مُغَيِّر ; وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : " اُنْظُرُوا إِلَى ثَمَره إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعه " . فَتَرَاهُ أَوَّلًا طَلْعًا ثُمَّ إِغْرِيضًا إِذَا اِنْشَقَّ عَنْهُ الطَّلْع . وَالْإِغْرِيض يُسَمَّى ضَحْكًا أَيْضًا , ثُمَّ بَلْحًا , ثُمَّ سَيَّابًا , ثُمَّ جِدَالًا إِذْ اِخْضَرَّ وَاسْتَدَارَ قَبْل أَنْ يَشْتَدّ , ثُمَّ بُسْرًا إِذَا عَظُمَ , ثُمَّ زَهْوًا إِذَا اِحْمَرَّ ; يُقَال : أَزْهَى يُزْهِي , ثُمَّ مُوَكَّتًا إِذَا بَدَتْ فِيهِ نُقَط مِنْ الْإِرْطَاب . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَل الذَّنْب فَهِيَ مُذْنِبَة , وَهُوَ التَّذْنُوب , فَإِذَا لَانَتْ فَهِيَ ثَعْدة , فَإِذَا بَلَغَ الْإِرْطَاب نِصْفهَا فَهِيَ مُجَزَّعَة , فَإِذَا بَلَغَ ثُلُثَيْهَا فَهِيَ حُلْقَانَة , فَإِذَا عَمَّهَا الْإِرْطَاب فَهِيَ مُنْسَبِتَة ; يُقَال : رُطَب مُنْسَبِت , ثُمَّ يَيْبَس فَيَصِير تَمْرًا . فَنَبَّهَ اللَّه تَعَالَى بِانْتِقَالِهَا مِنْ حَال إِلَى حَال وَتَغَيُّرهَا وَوُجُودهَا بَعْد أَنْ لَمْ تَكُنْ بَعْد عَلَى وَحْدَانِيّته وَكَمَال قُدْرَته , وَأَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا عَالِمًا . وَدَلَّ عَلَى جَوَاز الْبَعْث ; لِإِيجَادِ النَّبَات بَعْد الْجَفَاف . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : يَنَعَ الثَّمَر يَيْنَع وَيَيْنَع يَنْعًا وَيُنُوعًا , أَيْ نَضِجَ .
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ قَالَ مَالِك : الْإِينَاع الطِّيب بِغَيْرِ فَسَاد وَلَا نَقْش . قَالَ مَالِك : وَالنَّقْش أَنْ يَنْقُش أَهْل الْبَصْرَة الثَّمَر حَتَّى يُرْطَب ; يُرِيد يُثْقَب فِيهِ بِحَيْثُ يُسْرِع دُخُول الْهَوَاء إِلَيْهِ فَيُرْطَب مُعَجَّلًا . فَلَيْسَ ذَلِكَ الْيَنْع الْمُرَاد فِي الْقُرْآن , وَلَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْع , وَإِنَّمَا هُوَ مَا يَكُون مِنْ ذَاته بِغَيْرِ مُحَاوَلَة . وَفِي بَعْض بِلَاد التِّين , وَهِيَ الْبِلَاد الْبَارِدَة , لَا يَنْضَج حَتَّى يَدْخُل فِي فَمه عُود قَدْ دُهِنَ زَيْتًا , فَإِذَا طَابَ حَلَّ بَيْعه ; لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَة الْهَوَاء وَعَادَة الْبِلَاد , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا طَابَ فِي وَقْت الطِّيب . قُلْت : وَهَذَا الْيَنْع الَّذِي يَقِف عَلَيْهِ جَوَاز بَيْع التَّمْر وَبِهِ يَطِيب أَكْلهَا وَيَأْمَن مِنْ الْعَاهَة , هُوَ عِنْد طُلُوع الثُّرَيَّا بِمَا أَجْرَى اللَّه سُبْحَانه مِنْ الْعَادَة وَأَحْكَمَهُ مِنْ الْعِلْم وَالْقُدْرَة . ذَكَرَ الْمُعَلَّى بْن أَسَد عَنْ وُهَيْب عَنْ عَسَل بْن سُفْيَان عَنْ عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِذَا طَلَعَتْ الثُّرَيَّا صَبَاحًا رَفَعَتْ الْعَاهَة عَنْ أَهْل الْبَلَد ) . وَالثُّرَيَّا النَّجْم , لَا خِلَاف فِي ذَلِكَ . وَطُلُوعهَا صَبَاحًا لِاثْنَتَيْ عَشْرَة لَيْلَة تَمْضِي مِنْ شَهْر أَيَّار , وَهُوَ شَهْر مَايُو . وَفِي الْبُخَارِيّ : وَأَخْبَرَنِي خَارِجَة بْن زَيْد بْن ثَابِت أَنَّ زَيْد بْن ثَابِت لَمْ يَكُنْ يَبِيع ثِمَار أَرْضه حَتَّى تَطْلُع الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّن الْأَصْفَر مِنْ الْأَحْمَر .
وَقَدْ اِسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ الْجَوَائِح فِي الثِّمَار بِهَذِهِ الْآثَار , وَمَا كَانَ مِثْلهَا مِنْ نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ بَيْع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا , وَعَنْ بَيْع الثِّمَار حَتَّى تَذْهَب الْعَاهَة . قَالَ عُثْمَان بْن سُرَاقَة : فَسَأَلْت اِبْن عُمَر مَتَى هَذَا ؟ فَقَالَ : طُلُوع الثُّرَيَّا . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمْ يَثْبُت عِنْدِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِح , وَلَوْ ثَبَتَ عِنْدِي لَمْ أَعُدَّهُ , وَالْأَصْل الْمُجْتَمَع عَلَيْهِ أَنَّ كُلّ مَنْ اِبْتَاعَ مَا يَجُوز بَيْعه وَقَبَضَهُ كَانَتْ الْمُصِيبَة مِنْهُ , قَالَ : وَلَوْ كُنْت قَائِلًا بِوَضْعِ الْجَوَائِح لَوَضَعَتْهَا فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير . وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَالْكُوفِيِّينَ . وَذَهَبَ مَالِك وَأَكْثَر أَهْل الْمَدِينَة إِلَى وَضْعهَا ; لِحَدِيثِ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِح . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَبِهِ كَانَ يَقْضِي عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , وَهُوَ قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل وَسَائِر أَصْحَاب الْحَدِيث . وَأَهْل الظَّاهِر وَضَعُوهَا عَنْ الْمُبْتَاع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير عَلَى عُمُوم الْحَدِيث ; إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابه اِعْتَبَرُوا أَنْ تَبْلُغ الْجَائِحَة ثُلُث الثَّمَرَة فَصَاعِدًا , وَمَا كَانَ دُون الثُّلُث أَلْغُوهُ وَجَعَلُوهُ تَبَعًا , إِذْ لَا تَخْلُو ثَمَرَة مِنْ أَنْ يَتَعَذَّر الْقَلِيل مِنْ طِيبهَا وَأَنْ يَلْحَقهَا فِي الْيَسِير مِنْهَا فَسَاد . وَكَانَ أَصْبَغ وَأَشْهَب لَا يَنْظُرَانِ إِلَى الثَّمَرَة وَلَكِنْ إِلَى الْقِيمَة , فَإِذَا كَانَتْ الْقِيمَة الثُّلُث فَصَاعِدًا وُضِعَ عَنْهُ . وَالْجَائِحَة مَا لَا يُمْكِن دَفْعه عِنْد اِبْن الْقَاسِم . وَعَلَيْهِ فَلَا تَكُون السَّرِقَة جَائِحَة , وَكَذَا فِي كِتَاب مُحَمَّد . وَفِي الْكِتَاب أَنَّهُ جَائِحَة , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم , وَخَالَفَهُ أَصْحَابه وَالنَّاس . وَقَالَ مُطَّرِف وَابْن الْمَاجِشُون : مَا أَصَابَ الثَّمَرَة مِنْ السَّمَاء مِنْ عَفَن أَوْ بَرَد , أَوْ عَطَش أَوْ حَرّ أَوْ كَسْر الشَّجَر بِمَا لَيْسَ بِصُنْعِ آدَمِيّ فَهُوَ جَائِحَة . وَاخْتُلِفَ فِي الْعَطَش ; فَفِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم هُوَ جَائِحَة . وَالصَّحِيح فِي الْبُقُول أَنَّهَا فِيهَا جَائِحَة كَالثَّمَرَةِ . وَمَنْ بَاعَ ثَمَرًا قَبْل بُدُوّ صَلَاحه بِشَرْطِ التَّبْقِيَة فُسِخَ بَيْعه وَرُدَّ ; لِلنَّهْيِ عَنْهُ ; وَلِأَنَّهُ مَنْ أَكَلَ الْمَال بِالْبَاطِلِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَرَأَيْت إِنْ مَنَعَ اللَّه الثَّمَرَة فَبِمَ يَأْخُذ أَحَدكُمْ مَال أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقّ ) ؟ هَذَا قَوْل الْجُمْهُور , وَصَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَحَمَلُوا النَّهْي عَلَى الْكَرَاهَة . وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى جَوَاز بَيْعهَا قَبْل بُدُوّ الصَّلَاح بِشَرْطِ الْقَطْع . وَمَنَعَهُ الثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى تَمَسُّكًا بِالنَّهْيِ الْوَارِد فِي ذَلِكَ . وَخَصَّصَهُ الْجُمْهُور بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ ; لِأَنَّهُ مَبِيع مَعْلُوم يَصِحّ قَبْضه حَالَة الْعَقْد فَصَحَّ بَيْعه كَسَائِرِ الْمَبِيعَات .
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ↓
قَوْله تَعَالَى : " وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاء الْجِنّ " هَذَا ذِكْر نَوْع آخَر مِنْ جَهَالَاتهمْ , أَيْ فِيهِمْ مَنْ اِعْتَقَدَ لِلَّهِ شُرَكَاء مِنْ الْجِنّ . قَالَ النَّحَّاس : " الْجِنّ " مَفْعُول أَوَّل , و " شُرَكَاء " مَفْعُول ثَانٍ ; مِثْل " وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا " [ الْمَائِدَة : 20 ] . " وَجَعَلْت لَهُ مَالًا مَمْدُودًا " [ الْمُدَّثِّر : 12 ] . وَهُوَ فِي الْقُرْآن كَثِير . وَالتَّقْدِير وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنّ شُرَكَاء . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " الْجِنّ " بَدَلًا مِنْ شُرَكَاء , وَالْمَفْعُول الثَّانِي " لِلَّهِ " . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ رَفْع " الْجِنّ " بِمَعْنَى هُمْ الْجِنّ . " وَخَلَقَهُمْ " كَذَا قِرَاءَة الْجَمَاعَة , أَيْ خَلَقَ الْجَاعِلِينَ لَهُ شُرَكَاء . وَقِيلَ : خَلَقَ الْجِنّ الشُّرَكَاء . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " وَهُوَ خَلَقَهُمْ " بِزِيَادَةِ هُوَ . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمُر " وَخَلَقَهُمْ " بِسُكُونِ اللَّام , وَقَالَ : أَيْ وَجَعَلُوا خَلْقهمْ لِلَّهِ شُرَكَاء ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْلُقُونَ الشَّيْء ثُمَّ يَعْبُدُونَهُ . وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَب . وَمَعْنَى إِشْرَاكهمْ بِالْجِنِّ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ كَطَاعَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . قَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ : هُمْ الَّذِينَ قَالُوا الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَة , قَالُوا : إِنَّ اللَّه وَإِبْلِيس أَخَوَانِ ; فَاَللَّه خَالِق النَّاس وَالدَّوَابّ , وَإِبْلِيس خَالِق الْجَانّ وَالسِّبَاع وَالْعَقَارِب . وَيَقْرُب مِنْ هَذَا قَوْل الْمَجُوس , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ : إِلَه قَدِيم , وَالثَّانِي شَيْطَان حَادِث مِنْ فِكْرَة الْإِلَه الْقَدِيم ; وَزَعَمُوا أَنَّ صَانِع الشَّرّ حَادِث . وَكَذَا الْحَائِطِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَة مِنْ أَصْحَاب أَحْمَد بْن حَائِط , زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعَيْنِ : الْإِلَه الْقَدِيم , وَالْآخَر مُحْدَث , خَلَقَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلًا ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ تَدْبِير الْعَالَم ; وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِب الْخَلْق فِي الْآخِرَة . تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . " وَخَرَقُوا " قِرَاءَة نَافِع بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِير ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ اِدَّعَوْا أَنَّ لِلَّهِ بَنَات وَهُمْ الْمَلَائِكَة , وَسَمُّوهُمْ جِنًّا لِاجْتِنَانِهِمْ . وَالنَّصَارَى اِدَّعَتْ الْمَسِيح اِبْن اللَّه . وَالْيَهُود قَالَتْ : عُزَيْر اِبْن اللَّه , فَكَثُرَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرهمْ ; فَشُدِّدَ الْفِعْل لِمُطَابَقَةِ الْمَعْنَى . تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُونَ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى التَّقْلِيل . وَسُئِلَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَنْ مَعْنَى " وَخَرَقُوا لَهُ " بِالتَّشْدِيدِ فَقَالَ : إِنَّمَا هُوَ " وَخَرَقُوا " بِالتَّخْفِيفِ , كَلِمَة عَرَبِيَّة , كَانَ الرَّجُل إِذَا كَذَبَ فِي النَّادِي قِيلَ : خَرَقَهَا وَرَبّ الْكَعْبَة . وَقَالَ أَهْل اللُّغَة : مَعْنَى " خَرَقُوا " اِخْتَلِقُوا وَافْتَعَلُوا " وَخَرَقُوا " عَلَى التَّكْثِير . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَابْن زَيْد وَابْن جُرَيْج : " خَرَقُوا " كَذَبُوا . يُقَال : إِنَّ مَعْنَى خَرَقَ وَاخْتَرَقَ وَاخْتَلَقَ سَوَاء ; أَيْ أَحْدَثَ :
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ↓
أَيْ مُبْدِعهمَا ; فَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَكُون لَهُ وَلَد . و " بَدِيع " خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر أَيْ هُوَ بَدِيع . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ خَفْضه عَلَى النَّعْت لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَنَصْبه بِمَعْنَى بَدِيعًا السَّمَوَات وَالْأَرْض . وَذَا خَطَأ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّهُ لِمَا مَضَى .
أَيْ مِنْ أَيْنَ يَكُون لَهُ وَلَد . وَوَلَد كُلّ شَيْء شَبِيهه , وَلَا شَبِيه لَهُ .
أَيْ زَوْجَة .
عُمُوم مَعْنَاهُ الْخُصُوص ; أَيْ خَلَقَ الْعَالَم . وَلَا يَدْخُل فِي ذَلِكَ كَلَامه وَلَا غَيْره مِنْ صِفَات ذَاته . وَمِثْله " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْء " [ الْأَعْرَاف : 156 ] وَلَمْ تَسَع إِبْلِيس وَلَا مَنْ مَاتَ كَافِرًا . وَمِثْله " تُدَمِّر كُلّ شَيْء " [ الْأَحْقَاف : 25 ] وَلَمْ تُدَمِّر السَّمَوَات وَالْأَرْض .
أَيْ مِنْ أَيْنَ يَكُون لَهُ وَلَد . وَوَلَد كُلّ شَيْء شَبِيهه , وَلَا شَبِيه لَهُ .
أَيْ زَوْجَة .
عُمُوم مَعْنَاهُ الْخُصُوص ; أَيْ خَلَقَ الْعَالَم . وَلَا يَدْخُل فِي ذَلِكَ كَلَامه وَلَا غَيْره مِنْ صِفَات ذَاته . وَمِثْله " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْء " [ الْأَعْرَاف : 156 ] وَلَمْ تَسَع إِبْلِيس وَلَا مَنْ مَاتَ كَافِرًا . وَمِثْله " تُدَمِّر كُلّ شَيْء " [ الْأَحْقَاف : 25 ] وَلَمْ تُدَمِّر السَّمَوَات وَالْأَرْض .
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ↓
" ذَلِكُمْ " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . " اللَّه رَبّكُمْ " عَلَى الْبَدَل . " خَالِق كُلّ شَيْء " خَبَر الِابْتِدَاء . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " رَبّكُمْ " الْخَبَر , و " خَالِق " خَبَرًا ثَانِيًا , أَوْ عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ , أَيْ هُوَ خَالِق . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء فِيهِ النَّصْب .
قَوْله تَعَالَى : " لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار " بَيَّنَ سُبْحَانه أَنَّهُ مُنَزَّه عَنْ سِمَات الْحُدُوث , وَمِنْهَا الْإِدْرَاك بِمَعْنَى الْإِحَاطَة وَالتَّحْدِيد , كَمَا تُدْرَك سَائِر الْمَخْلُوقَات , وَالرُّؤْيَة ثَابِتَة . فَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ لَا يَبْلُغ كُنْه حَقِيقَته ; كَمَا تَقُول : أَدْرَكْت كَذَا وَكَذَا ; لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيث فِي الرُّؤْيَة يَوْم الْقِيَامَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار " فِي الدُّنْيَا , وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَة ; لِإِخْبَارِ اللَّه بِهَا فِي قَوْله : " وُجُوه يَوْمئِذٍ نَاضِرَة إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة " [ الْقِيَامَة : 22 - 23 ] . وَقَالَ السُّدِّيّ . وَهُوَ أَحْسَن مَا قِيلَ لِدَلَالَةِ التَّنْزِيل وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة بِرُؤْيَةِ اللَّه فِي الْجَنَّة . وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " يُونُس " . وَقِيلَ : " لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار " لَا تُحِيط بِهِ وَهُوَ يُحِيط بِهَا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُدْرِكهُ أَبْصَار الْقُلُوب , أَيْ لَا تُدْرِكهُ الْعُقُول فَتَتَوَهَّمهُ ; إِذْ " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء " [ الشُّورَى : 11 ] وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار الْمَخْلُوقَة فِي الدُّنْيَا , لَكِنَّهُ يَخْلُق لِمَنْ يُرِيد كَرَامَته بَصَرًا وَإِدْرَاكًا يَرَاهُ فِيهِ كَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام ; إِذْ رُؤْيَته تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَة عَقْلًا , إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ جَائِزَة لَكَانَ سُؤَال مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مُسْتَحِيلًا , وَمُحَال أَنْ يَجْهَل نَبِيّ مَا يَجُوز عَلَى اللَّه وَمَا لَا يَجُوز , بَلْ لَمْ يَسْأَل إِلَّا جَائِزًا غَيْر مُسْتَحِيل . وَاخْتَلَفَ السَّلَف فِي رُؤْيَة نَبِيّنَا عَلَيْهِ السَّلَام رَبّه , فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مَسْرُوق قَالَ : كُنْت مُتَّكِئًا عِنْد عَائِشَة , فَقَالَتْ : يَا أَبَا عَائِشَة , ثَلَاث مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة . قُلْت : مَا هُنَّ ؟ قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبّه فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة . قَالَ : وَكُنْت مُتَّكِئًا فَجَلَسْت فَقُلْت : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجِلِينِي , أَلَمْ يَقُلْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِين " [ التَّكْوِير : 23 ] . " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَة أُخْرَى " [ النَّجْم : 13 ] ؟ فَقَالَتْ : أَنَا أَوَّل هَذِهِ الْأُمَّة مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيل لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَته الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْر هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْته مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاء سَادًّا عِظَم خَلْقه مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض ) . فَقَالَتْ : أَوَلَمْ تَسْمَع أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : " لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يُدْرِك الْأَبْصَار وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير " ؟ أَوَلَمْ تَسْمَع أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلَّا وَحَيًّا أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب أَوْ يُرْسِل رَسُولًا - إِلَى قَوْله - عَلِيّ حَكِيم " [ الشُّورَى : 51 ] ؟ قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَاب اللَّه فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة , وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته " [ الْمَائِدَة : 67 ] قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِر بِمَا يَكُون فِي غَد فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة , وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " قُلْ لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه " [ النَّمْل : 65 ] . وَإِلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مِنْ عَدَم الرُّؤْيَة , وَأَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيل : اِبْن مَسْعُود , وَمِثْله عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَأَنَّهُ رَأَى جِبْرِيل , وَاخْتَلَفَ عَنْهُمَا . وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاع رُؤْيَته جَمَاعَة مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ ; هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَنْهُ . وَحُجَّته قَوْله تَعَالَى : " مَا كَذَبَ الْفُؤَاد مَا رَأَى " [ النَّجْم : 11 ] . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث : اِجْتَمَعَ اِبْن عَبَّاس وَأُبَيّ بْن كَعْب , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَمَا نَحْنُ بَنُو هَاشِم فَنَقُول إِنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبّه مَرَّتَيْنِ . ثُمَّ قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَتَعْجَبُونَ أَنَّ الْخُلَّة تَكُون لِإِبْرَاهِيم وَالْكَلَام لِمُوسَى , وَالرُّؤْيَة لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . قَالَ : فَكَبَّرَ كَعْب حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَال , ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّه قَسَمَ رُؤْيَته وَكَلَامه بَيْن مُحَمَّد وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام , فَكَلَّمَ مُوسَى وَرَآهُ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَحَكَى عَبْد الرَّزَّاق أَنَّ الْحَسَن كَانَ يَحْلِف بِاَللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّد رَبّه . وَحَكَاهُ أَبُو عُمَر الطَّلَمَنْكِيّ عَنْ عِكْرِمَة , وَحَكَاهُ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ عَنْ اِبْن مَسْعُود , وَالْأَوَّل عَنْهُ أَشْهَر . وَحَكَى اِبْن إِسْحَاق أَنَّ مَرْوَان سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَة : هَلْ رَأَى مُحَمَّد رَبّه ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّهُ قَالَ : أَنَا أَقُول بِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس : بِعَيْنِهِ رَآهُ رَآهُ ! حَتَّى اِنْقَطَعَ نَفَسه , يَعْنِي نَفَس أَحْمَد . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى اللَّه بِبَصَرِهِ وَعَيْنَيْ رَأْسه . وَقَالَهُ أَنَس وَابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَالرَّبِيع وَالْحَسَن . وَكَانَ الْحَسَن يَحْلِف بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّد رَبّه . وَقَالَ جَمَاعَة مِنْهُمْ أَبُو الْعَالِيَة وَالْقُرَظِيّ وَالرَّبِيع بْن أَنَس : إِنَّهُ إِنَّمَا رَأَى رَبّه بِقَلْبِهِ وَفُؤَاده ; وَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَعِكْرِمَة . وَقَالَ أَبُو عُمَر : قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَآهُ بِقَلْبِهِ , وَجَبُنَ عَنْ الْقَوْل بِرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ . وَعَنْ مَالِك بْن أَنَس قَالَ : لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ بَاقٍ وَلَا يَرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي , فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَة وَرُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَة رَأَوْا الْبَاقِي بِالْبَاقِي . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَهَذَا كَلَام حَسَن مَلِيح , وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى الِاسْتِحَالَة إِلَّا مِنْ حَيْثُ ضَعْف الْقُدْرَة ; فَإِذَا قَوَّى اللَّه تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَاده وَأَقْدَرَهُ عَلَى حَمْل أَعْبَاء الرُّؤْيَة لَمْ يَمْتَنِع فِي حَقّه . وَسَيَأْتِي شَيْء مِنْ هَذَا فِي حَقّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي " الْأَعْرَاف " إِنْ شَاءَ اللَّه . قَوْله تَعَالَى : " وَهُوَ يُدْرِك الْأَبْصَار " أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء إِلَّا يَرَاهُ وَيَعْلَمهُ . وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَبْصَار ; لِتَجْنِيسِ الْكَلَام . وَقَالَ الزَّجَّاج : وَفِي هَذَا الْكَلَام دَلِيل عَلَى أَنَّ الْخَلْق لَا يُدْرِكُونَ الْأَبْصَار ; أَيْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّة حَقِيقَة الْبَصَر , وَمَا الشَّيْء الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَان يُبْصِر مِنْ عَيْنَيْهِ دُون أَنْ يُبْصِر مِنْ غَيْرهمَا مِنْ سَائِر أَعْضَائِهِ . ثُمَّ قَالَ : " وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير " أَيْ الرَّفِيق بِعِبَادِهِ ; يُقَال : لَطَفَ فُلَان بِفُلَانٍ يَلْطُف , أَيْ رَفَقَ بِهِ . وَاللُّطْف فِي الْفِعْل الرِّفْق فِيهِ . وَاللُّطْف مِنْ اللَّه تَعَالَى التَّوْفِيق وَالْعِصْمَة . وَأَلْطَفَهُ بِكَذَا , أَيْ بَرَّهُ بِهِ . وَالِاسْم اللُّطْف بِالتَّحْرِيكِ . يُقَال : جَاءَتْنَا مِنْ فُلَان لَطَفَة ; أَيْ هَدِيَّة . وَالْمُلَاطَفَة الْمُبَارَّة ; عَنْ الْجَوْهَرِيّ وَابْن فَارِس . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : الْمَعْنَى لَطِيف بِاسْتِخْرَاجِ الْأَشْيَاء خَبِير بِمَكَانِهَا . وَقَالَ الْجُنَيْد : اللَّطِيف مَنْ نَوَّرَ قَلْبك بِالْهُدَى , وَرَبَّى جِسْمك بِالْغِذَا , وَجَعَلَ لَك الْوِلَايَة فِي الْبَلْوَى , وَيَحْرُسك وَأَنْت فِي لَظَى , وَيُدْخِلك جَنَّة الْمَأْوَى . وَقِيلَ غَيْر هَذَا , مِمَّا مَعْنَاهُ رَاجِع إِلَى مَعْنَى الرِّفْق وَغَيْره . وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَقْوَال فِي ذَلِكَ فِي " الشُّورَى " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ↓
أَيْ آيَات وَبَرَاهِين يُبْصِر بِهَا وَيُسْتَدَلّ ; جَمْع بَصِيرَة وَهِيَ الدَّلَالَة . قَالَ الشَّاعِر : جَاءُوا بَصَائِرهمْ عَلَى أَكْتَافهمْ وَبَصِيرَتِي يَعْدُو بِهَا عَتَد وَآي يَعْنِي بِالْبَصِيرَةِ الْحُجَّة الْبَيِّنَة الظَّاهِرَة . وَوَصَفَ الدَّلَالَة بِالْمَجِيءِ لِتَفْخِيمِ شَأْنهَا ; إِذْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِب الْمُتَوَقَّع حُضُوره لِلنَّفْسِ ; كَمَا يُقَال : جَاءَتْ الْعَافِيَة وَقَدْ اِنْصَرَفَ الْمَرَض , وَأَقْبَلَ السُّعُود وَأَدْبَرَ النُّحُوس .
الْإِبْصَار : هُوَ الْإِدْرَاك بِحَاسَّةِ الْبَصَر ; أَيْ فَمَنْ اِسْتَدَلَّ وَتَعَرَّفَ فَنَفْسه نَفَعَ .
لَمْ يُسْتَدَلّ , فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى ; فَعَلَى نَفْسه يَعُود ضَرَر عَمَاهُ .
أَيْ لَمْ أُؤْمَرْ بِحِفْظِكُمْ عَلَى أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسكُمْ . وَقِيلَ : أَيْ لَا أَحْفَظكُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه . وَقِيلَ : " بِحَفِيظٍ " بِرَقِيبٍ ; أُحْصِي عَلَيْكُمْ أَعْمَالكُمْ , وَإِنَّمَا أَنَا رَسُول أُبَلِّغكُمْ رِسَالَات رَبِّي , وَهُوَ الْحَفِيظ عَلَيْكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ أَفْعَالكُمْ . قَالَ الزَّجَّاج : نَزَلَ هَذَا قَبْل فَرْض الْقِتَال , ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَمْنَعهُمْ بِالسَّيْفِ مِنْ عِبَادَة الْأَوْثَان .
الْإِبْصَار : هُوَ الْإِدْرَاك بِحَاسَّةِ الْبَصَر ; أَيْ فَمَنْ اِسْتَدَلَّ وَتَعَرَّفَ فَنَفْسه نَفَعَ .
لَمْ يُسْتَدَلّ , فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى ; فَعَلَى نَفْسه يَعُود ضَرَر عَمَاهُ .
أَيْ لَمْ أُؤْمَرْ بِحِفْظِكُمْ عَلَى أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسكُمْ . وَقِيلَ : أَيْ لَا أَحْفَظكُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه . وَقِيلَ : " بِحَفِيظٍ " بِرَقِيبٍ ; أُحْصِي عَلَيْكُمْ أَعْمَالكُمْ , وَإِنَّمَا أَنَا رَسُول أُبَلِّغكُمْ رِسَالَات رَبِّي , وَهُوَ الْحَفِيظ عَلَيْكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ أَفْعَالكُمْ . قَالَ الزَّجَّاج : نَزَلَ هَذَا قَبْل فَرْض الْقِتَال , ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَمْنَعهُمْ بِالسَّيْفِ مِنْ عِبَادَة الْأَوْثَان .
قَوْله تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ نُصَرِّف الْآيَات " الْكَاف فِي كَذَلِكَ فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ نُصَرِّف الْآيَات مِثْل مَا تَلَوْنَا عَلَيْك . أَيْ كَمَا صَرَّفْنَا الْآيَات فِي الْوَعْد وَالْوَعِيد وَالْوَعْظ وَالتَّنْبِيه فِي هَذِهِ السُّورَة نُصَرِّف فِي غَيْرهَا . " وَلِيَقُولُوا دَرَسْت " وَالْوَاو لِلْعَطْفِ عَلَى مُضْمَر ; أَيْ نُصَرِّف الْآيَات لِتَقُومَ الْحُجَّة وَلِيَقُولُوا دَرَسْت . وَقِيلَ : أَيْ " وَلِيَقُولُوا دَرَسْت " صَرَّفْنَاهَا ; فَهِيَ لَام الصَّيْرُورَة . وَقَالَ الزَّجَّاج : هَذَا كَمَا تَقُول كَتَبَ فُلَان هَذَا الْكِتَاب لِحَتْفِهِ ; أَيْ آلَ أَمْره إِلَى ذَلِكَ . وَكَذَا لَمَّا صُرِّفَتْ الْآيَات آلَ أَمْرهمْ إِلَى أَنْ قَالُوا : دَرَسْت وَتَعَلَّمْت مِنْ جَبْر وَيَسَار , وَكَانَا غُلَامَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ بِمَكَّة , فَقَالَ أَهْل مَكَّة : إِنَّمَا يَتَعَلَّم مِنْهُمَا . قَالَ النَّحَّاس : وَفِي الْمَعْنَى قَوْل آخَر حَسَن , وَهُوَ أَنْ يَكُون مَعْنَى " نُصَرِّف الْآيَات " نَأْتِي بِهَا آيَة بَعْد آيَة لِيَقُولُوا دَرَسْت عَلَيْنَا ; فَيَذْكُرُونَ الْأَوَّل بِالْآخَرِ . فَهَذَا حَقِيقَة , وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاق مَجَاز . وَفِي " دَرَسْت " سَبْع قِرَاءَات . قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير " دَارَسْت " بِالْأَلِفِ بَيْن الدَّال وَالرَّاء ; كَفَاعَلْت . وَهِيَ قِرَاءَة عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَأَهْل مَكَّة . قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَعْنَى " دَارَسْت " تَالَيْت . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر " دَرَسَتْ " بِفَتْحِ السِّين وَإِسْكَان التَّاء مِنْ غَيْر أَلِف ; كَخَرَجَتْ . وَهِيَ قِرَاءَة الْحَسَن . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " دَرَسْت " كَخَرَجْت . فَعَلَى الْأُولَى : دَارَسْت أَهْل الْكِتَاب وَدَارَسُوك ; أَيْ ذَاكَرْتهمْ وَذَاكَرُوك ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ : " وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْم آخَرُونَ " [ الْفُرْقَان : 4 ] أَيْ أَعَانَ الْيَهُود النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقُرْآن وَذَاكِرُوهُ فِيهِ . وَهَذَا كُلّه قَوْل الْمُشْرِكِينَ . وَمِثْله قَوْلهمْ : " وَقَالُوا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة وَأَصِيلًا " [ الْفُرْقَان : 5 ] " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُوا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ " [ النَّحْل : 24 ] . وَقِيلَ : الْمَعْنَى دَارَسْتنَا ; فَيَكُون مَعْنَاهُ كَمَعْنَى دَرَسْت ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس وَاخْتَارَهُ , وَالْأَوَّل ذَكَرَهُ مَكِّيّ . وَزَعَمَ النَّحَّاس أَنَّهُ مَجَاز ; كَمَا قَالَ : فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِد الْوَالِدَة وَمَنْ قَرَأَ " دَرَسَتْ " فَأَحْسَن مَا قِيلَ فِي قِرَاءَته أَنَّ الْمَعْنَى : وَلِئَلَّا يَقُولُوا اِنْقَطَعَتْ وَامَّحَتْ , وَلَيْسَ يَأْتِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِهَا . وَقَرَأَ قَتَادَة " دَرَسْت " أَيْ قَرَأْت . وَرَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو بْن عُبَيْد عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ قَرَأَ " دَارَسَتْ " . وَكَانَ أَبُو حَاتِم يَذْهَب إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَة لَا تَجُوز ; قَالَ : لِأَنَّ الْآيَات لَا تُدَارِس . وَقَالَ غَيْره : الْقِرَاءَة بِهَذَا تَجُوز , وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَاتِم , وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ دَارَسَتْ أُمَّتك ; أَيْ دَارَسَتْك أُمَّتك , وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَقَدَّم لَهَا ذِكْر ; مِثْل قَوْله : " حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ " [ ص : 32 ] . وَحَكَى الْأَخْفَش " وَلْيَقُولُوا دَرُسَتْ " وَهُوَ بِمَعْنَى " دَرَسَتْ " إِلَّا أَنَّهُ أَبْلَغ . وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاس أَنَّهُ قُرِئَ " وَلْيَقُولُوا دَرَسْت " بِإِسْكَانِ اللَّام عَلَى الْأَمْر . وَفِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيد ; أَيْ فَلْيَقُولُوا بِمَا شَاءُوا فَإِنَّ الْحَقّ بَيِّن ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ " فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا " [ التَّوْبَة : 82 ] فَأَمَّا مَنْ كَسَرَ اللَّام فَإِنَّهَا عِنْده لَام كَيْ . وَهَذِهِ الْقِرَاءَات كُلّهَا يَرْجِع اِشْتِقَاقهَا إِلَى شَيْء وَاحِد , إِلَى التَّلْيِين وَالتَّذْلِيل . و " دَرَسْت " مِنْ دَرَسَ يَدْرُس دِرَاسَة , وَهِيَ الْقِرَاءَة عَلَى الْغَيْر . وَقِيلَ : دَرَسْته أَيْ ذَلَّلْته بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَة ; وَأَصْله دَرَسَ الطَّعَام أَيْ دَاسَهُ . وَالدِّيَاس الدِّرَاس بِلُغَةِ أَهْل الشَّام . وَقِيلَ : أَصْله مِنْ دَرَسْت الثَّوْب أَدْرُسهُ دَرْسًا أَيْ أَخَلَقْته . وَقَدْ دَرَسَ الثَّوْب دَرْسًا أَيْ أَخْلَقَ . وَيَرْجِع هَذَا إِلَى التَّذَلُّل أَيْضًا . وَيُقَال : سُمِّيَ إِدْرِيس لِكَثْرَةِ دِرَاسَته لِكِتَابِ اللَّه . وَدَارَسْت الْكُتُب وَتَدَارَسْتهَا وَادَّارَسْتهَا أَيْ دَرَسْتهَا . وَدَرَسْت الْكِتَاب دَرْسًا وَدِرَاسَة . وَدَرَسْت الْمَرْأَة دَرْسًا أَيْ حَاضَتْ . وَيُقَال إِنَّ فَرْج الْمَرْأَة يُكَنَّى أَبَا أَدْرَاس ; وَهُوَ مِنْ الْحَيْض . وَالدَّرْس أَيْضًا : الطَّرِيق الْخَفِيّ . وَحَكَى الْأَصْمَعِيّ : بَعِير لَمْ يُدَرَّس أَيْ لَمْ يُرْكَب , وَدَرَسْت مِنْ دَرَسَ الْمَنْزِل إِذَا عَفَا . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَأَصْحَابه وَأَبِي وَطَلْحَة وَالْأَعْمَش " وَلْيَقُولُوا دَرَسَ " أَيْ دَرَسَ مُحَمَّد الْآيَات . " وَلِنُبَيِّنهُ " يَعْنِي الْقَوْل وَالتَّصْرِيف , أَوْ الْقُرْآن " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " .
قَوْله تَعَالَى: " اِتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْك مِنْ رَبّك " يَعْنِي الْقُرْآن ; أَيْ لَا تَشْغَل قَلْبك وَخَاطِرك بِهِمْ , بَلْ اشْتَغِلْ بِعِبَادَةِ اللَّه . " لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ " مَنْسُوخ .
وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ↓
نَصَّ عَلَى أَنَّ الشِّرْك بِمَشِيئَتِهِ , وَهُوَ إِبْطَال لِمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّة كَمَا تَقَدَّمَ .
أَيْ لَا يُمْكِنك حِفْظهمْ مِنْ عَذَاب اللَّه .
أَيْ قَيِّم بِأُمُورِهِمْ فِي مَصَالِحهمْ لِدِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ , حَتَّى تَلَطَّفَ لَهُمْ فِي تَنَاوُل مَا يَجِب لَهُمْ ; فَلَسْت بِحَفِيظٍ فِي ذَلِكَ وَلَا وَكِيل فِي هَذَا , إِنَّمَا أَنْتَ مُبَلِّغ . وَهَذَا قَبْل أَنْ يُؤْمَر بِالْقِتَالِ .
أَيْ لَا يُمْكِنك حِفْظهمْ مِنْ عَذَاب اللَّه .
أَيْ قَيِّم بِأُمُورِهِمْ فِي مَصَالِحهمْ لِدِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ , حَتَّى تَلَطَّفَ لَهُمْ فِي تَنَاوُل مَا يَجِب لَهُمْ ; فَلَسْت بِحَفِيظٍ فِي ذَلِكَ وَلَا وَكِيل فِي هَذَا , إِنَّمَا أَنْتَ مُبَلِّغ . وَهَذَا قَبْل أَنْ يُؤْمَر بِالْقِتَالِ .
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ↓
نَهْي .
جَوَاب النَّهْي . فَنَهَى سُبْحَانه الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانهمْ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ إِذَا سَبُّوهَا نَفَرَ الْكُفَّار وَازْدَادُوا كُفْرًا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالَتْ كُفَّار قُرَيْش لِأَبِي طَالِب إِمَّا أَنْ تَنْهَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه عَنْ سَبّ آلِهَتنَا وَالْغَضّ مِنْهَا وَإِمَّا أَنْ نَسُبّ إِلَهه وَنَهْجُوهُ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة .
قَالَ الْعُلَمَاء : حُكْمهَا بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّة عَلَى كُلّ حَال ; فَمَتَى كَانَ الْكَافِر فِي مَنَعَة وَخِيفَ أَنْ يَسُبّ الْإِسْلَام أَوْ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام أَوْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , فَلَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسُبّ صُلْبَانهمْ وَلَا دِينهمْ وَلَا كَنَائِسهمْ , وَلَا يَتَعَرَّض إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْث عَلَى الْمَعْصِيَة . وَعَبَّرَ عَنْ الْأَصْنَام وَهِيَ لَا تَعْقِل ب " الَّذِينَ " عَلَى مُعْتَقَد الْكَفَرَة فِيهَا .
فِي هَذِهِ الْآيَة أَيْضًا ضَرْب مِنْ الْمُوَادَعَة , وَدَلِيل عَلَى وُجُوب الْحُكْم بِسَدِّ الذَّرَائِع ; حَسْب مَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . وَفِيهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُحِقّ قَدْ يَكُفّ عَنْ حَقّ لَهُ إِذَا أَدَّى إِلَى ضَرَر يَكُون فِي الدِّين . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَبُتُّوا الْحُكْم بَيْن ذَوِي الْقَرَابَات مَخَافَة الْقَطِيعَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنْ كَانَ الْحَقّ وَاجِبًا فَيَأْخُذهُ بِكُلِّ حَال وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَفِيهِ يَكُون هَذَا الْقَوْل .
أَيْ جَهْلًا وَاعْتِدَاء . وَرُوِيَ عَنْ أَهْل مَكَّة أَنَّهُمْ قَرَءُوا " عُدُوًّا " بِضَمِّ الْعَيْن وَالدَّال وَتَشْدِيد الْوَاو , وَهِيَ قِرَاءَة الْحَسَن وَأَبِي رَجَاء وَقَتَادَة , وَهِيَ رَاجِعَة إِلَى الْقِرَاءَة الْأُولَى , وَهُمَا جَمِيعًا بِمَعْنَى الظُّلْم . وَقَرَأَ أَهْل مَكَّة أَيْضًا " عَدُوًّا " بِفَتْحِ الْعَيْن وَضَمّ الدَّال بِمَعْنَى عَدُوّ . وَهُوَ وَاحِد يُؤَدِّي عَنْ جَمْع ; كَمَا قَالَ : " فَإِنَّهُمْ عَدُوّ لِي إِلَّا رَبّ الْعَالَمِينَ " [ الشُّعَرَاء : 77 ] . وَقَالَ تَعَالَى : " هُمْ الْعَدُوّ " وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر أَوْ عَلَى الْمَفْعُول مِنْ أَجْله .
أَيْ كَمَا زَيَّنَّا لِهَؤُلَاءِ أَعْمَالهمْ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلهمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس . زَيَّنَّا لِأَهْلِ الطَّاعَة الطَّاعَة , وَلِأَهْلِ الْكُفْر الْكُفْر ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " كَذَلِكَ يُضِلّ اللَّه مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء " [ الْمُدَّثِّر : 31 ] . وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة .
جَوَاب النَّهْي . فَنَهَى سُبْحَانه الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانهمْ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ إِذَا سَبُّوهَا نَفَرَ الْكُفَّار وَازْدَادُوا كُفْرًا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالَتْ كُفَّار قُرَيْش لِأَبِي طَالِب إِمَّا أَنْ تَنْهَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه عَنْ سَبّ آلِهَتنَا وَالْغَضّ مِنْهَا وَإِمَّا أَنْ نَسُبّ إِلَهه وَنَهْجُوهُ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة .
قَالَ الْعُلَمَاء : حُكْمهَا بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّة عَلَى كُلّ حَال ; فَمَتَى كَانَ الْكَافِر فِي مَنَعَة وَخِيفَ أَنْ يَسُبّ الْإِسْلَام أَوْ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام أَوْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , فَلَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسُبّ صُلْبَانهمْ وَلَا دِينهمْ وَلَا كَنَائِسهمْ , وَلَا يَتَعَرَّض إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْث عَلَى الْمَعْصِيَة . وَعَبَّرَ عَنْ الْأَصْنَام وَهِيَ لَا تَعْقِل ب " الَّذِينَ " عَلَى مُعْتَقَد الْكَفَرَة فِيهَا .
فِي هَذِهِ الْآيَة أَيْضًا ضَرْب مِنْ الْمُوَادَعَة , وَدَلِيل عَلَى وُجُوب الْحُكْم بِسَدِّ الذَّرَائِع ; حَسْب مَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . وَفِيهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُحِقّ قَدْ يَكُفّ عَنْ حَقّ لَهُ إِذَا أَدَّى إِلَى ضَرَر يَكُون فِي الدِّين . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَبُتُّوا الْحُكْم بَيْن ذَوِي الْقَرَابَات مَخَافَة الْقَطِيعَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنْ كَانَ الْحَقّ وَاجِبًا فَيَأْخُذهُ بِكُلِّ حَال وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَفِيهِ يَكُون هَذَا الْقَوْل .
أَيْ جَهْلًا وَاعْتِدَاء . وَرُوِيَ عَنْ أَهْل مَكَّة أَنَّهُمْ قَرَءُوا " عُدُوًّا " بِضَمِّ الْعَيْن وَالدَّال وَتَشْدِيد الْوَاو , وَهِيَ قِرَاءَة الْحَسَن وَأَبِي رَجَاء وَقَتَادَة , وَهِيَ رَاجِعَة إِلَى الْقِرَاءَة الْأُولَى , وَهُمَا جَمِيعًا بِمَعْنَى الظُّلْم . وَقَرَأَ أَهْل مَكَّة أَيْضًا " عَدُوًّا " بِفَتْحِ الْعَيْن وَضَمّ الدَّال بِمَعْنَى عَدُوّ . وَهُوَ وَاحِد يُؤَدِّي عَنْ جَمْع ; كَمَا قَالَ : " فَإِنَّهُمْ عَدُوّ لِي إِلَّا رَبّ الْعَالَمِينَ " [ الشُّعَرَاء : 77 ] . وَقَالَ تَعَالَى : " هُمْ الْعَدُوّ " وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر أَوْ عَلَى الْمَفْعُول مِنْ أَجْله .
أَيْ كَمَا زَيَّنَّا لِهَؤُلَاءِ أَعْمَالهمْ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلهمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس . زَيَّنَّا لِأَهْلِ الطَّاعَة الطَّاعَة , وَلِأَهْلِ الْكُفْر الْكُفْر ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " كَذَلِكَ يُضِلّ اللَّه مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء " [ الْمُدَّثِّر : 31 ] . وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة .
وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ↓
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَأَقْسَمُوا " أَيْ حَلَفُوا . وَجَهْد الْيَمِين أَشَدّهَا , وَهُوَ بِاَللَّهِ . فَقَوْله : " جَهْد أَيْمَانهمْ " أَيْ غَايَة أَيْمَانهمْ الَّتِي بَلَغَهَا عِلْمهمْ , وَانْتَهَتْ إِلَيْهَا قُدْرَتهمْ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّه هُوَ الْإِلَه الْأَعْظَم , وَأَنَّ هَذِهِ الْآلِهَة إِنَّمَا يَعْبُدُونَهَا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبهُمْ إِلَى اللَّه زُلْفَى ; كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا نَعْبُدهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّه زُلْفَى " [ الزُّمَر : 3 ] . وَكَانُوا يَحْلِفُونَ بِآبَائِهِمْ وَبِالْأَصْنَامِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ , وَكَانُوا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ جَهْد الْيَمِين إِذَا كَانَتْ الْيَمِين بِاَللَّهِ . " جَهْد " مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر وَالْعَامِل فِيهِ " أَقْسَمُوا " عَلَى مَذْهَب سِيبَوَيْهِ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ . وَالْجَهْد ( بِفَتْحِ الْجِيم ) : الْمَشَقَّة يُقَال : فَعَلْت ذَلِكَ بِجَهْدٍ . وَالْجَهْد ( بِضَمِّهَا ) : الطَّاقَة يُقَال : هَذَا جَهْدِي , أَيْ طَاقَتِي . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلهُمَا وَاحِدًا , وَيَحْتَجّ بِقَوْلِهِ " وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جَهْدهمْ " [ التَّوْبَة : 79 ] . وَقُرِئَ " جَهْدهمْ " بِالْفَتْحِ ; عَنْ اِبْن قُتَيْبَة . وَسَبَب الْآيَة فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ : الْقُرَظِيّ وَالْكَلْبِيّ وَغَيْرهمَا , أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ : يَا مُحَمَّد , تُخْبِرنَا بِأَنَّ مُوسَى ضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَر فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتَا عَشْرَة عَيْنًا , وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى , وَأَنَّ ثَمُود كَانَتْ لَهُمْ نَاقَة ; فَائِتنَا بِبَعْضِ هَذِهِ الْآيَات حَتَّى نُصَدِّقك . فَقَالَ : ( أَيّ شَيْء تُحِبُّونَ ) ؟ قَالُوا : اِجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا ; فَوَاَللَّهِ إِنْ فَعَلْته لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعُونَ . فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ سَلَّمَ يَدْعُو ; فَجَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : ( إِنْ شِئْت أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا , وَلَئِنْ أَرْسَلَ اللَّه آيَة وَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدهَا لَيُعَذِّبَنهُمْ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوب تَائِبهمْ ) فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بَلْ يَتُوب تَائِبهمْ ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَبَيَّنَ الرَّبّ بِأَنَّ مَنْ سَبَقَ الْعِلْم الْأَزَلِيّ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِن فَإِنَّهُ لَا يُؤْمِن وَإِنْ أَقْسَمَ لَيُؤْمِنَنَّ .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى " " جَهْد أَيْمَانهمْ " قِيلَ : مَعْنَاهُ بِأَغْلَظ الْأَيْمَان عِنْدهمْ . وَتُعْرَض هُنَا مَسْأَلَة مِنْ الْأَحْكَام عُظْمَى , وَهِيَ قَوْل الرَّجُل : الْأَيْمَان تَلْزَمهُ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِين فِي صَدْر الْإِسْلَام مَعْرُوفَة بِغَيْرِ هَذِهِ الصُّورَة , كَانُوا يَقُولُونَ : عَلَيَّ أَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد ; فَقَالَ مَالِك : تَطْلُق نِسَاؤُهُ . ثُمَّ تَكَاثَرَتْ الصُّورَة حَتَّى آلَتْ بَيْن النَّاس إِلَى صُورَة هَذِهِ أُمّهَا . وَكَانَ شَيْخنَا الْفِهْرِيّ الطَّرَسُوسِيّ يَقُول : يَلْزَمهُ إِطْعَام ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا إِذَا حَنِثَ فِيهَا ; لِأَنَّ قَوْله " الْأَيْمَان " جَمْع يَمِين , وَهُوَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ يَمِين وَحَنِثَ أَلْزَمْنَاهُ كَفَّارَة . وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ يَمِينَانِ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ إِذَا حَنِثَ . وَالْأَيْمَان جَمْع يَمِين فَيَلْزَمهُ فِيهَا ثَلَاث كَفَّارَات . قُلْت : وَذَكَرَ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مُغِيث فِي وَثَائِقه : اِخْتَلَفَ شُيُوخ الْقَيْرَوَان فِيهَا ; فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي زَيْد ; يَلْزَمهُ فِي زَوْجَته ثَلَاث تَطْلِيقَات , وَالْمَشْي إِلَى مَكَّة , وَتَفْرِيق ثُلُث مَاله , وَكَفَّارَة يَمِين , وَعِتْق رَقَبَة . قَالَ اِبْن مُغِيث : وَبِهِ قَالَ اِبْن أَرْفَع رَأْسه وَابْن بَدْر مِنْ فُقَهَاء طُلَيْطِلَة . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عِمْرَان الْفَاسِيّ وَأَبُو الْحَسَن الْقَابِسِيّ وَأَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن الْقَرَوِيّ : تَلْزَمهُ طَلْقَة وَاحِدَة إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة . وَمِنْ حُجَّتهمْ فِي ذَلِكَ رِوَايَة اِبْن الْحَسَن فِي سَمَاعه مِنْ اِبْن وَهْب فِي قَوْله : " وَأَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد أَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَفَّارَة يَمِين " . قَالَ اِبْن مُغِيث : فَجَعَلَ مَنْ سَمَّيْنَاهُ عَلَى الْقَائِل : " الْأَيْمَان تَلْزَمهُ " طَلْقَة وَاحِدَة ; لِأَنَّهُ لَا يَكُون أَسْوَأ حَالًا مِنْ قَوْله : أَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين , قَالَ وَبِهِ نَقُول . قَالَ : وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِ اِبْن الْقَاسِم فِيمَنْ قَالَ : عَلَيَّ عَهْد اللَّه وَغَلِيظ مِيثَاقه وَكَفَالَته وَأَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد عَلَى أَمَرَ أَلَّا يَفْعَلهُ ثُمَّ فَعَلَهُ ; فَقَالَ : إِنْ لَمْ يُرِدْ الطَّلَاق وَلَا الْعَتَاق وَعَزَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَلْتَكُنْ ثَلَاث كَفَّارَات . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة حِين حَلَفَ فَلْيُكَفِّرْ كَفَّارَتَيْنِ فِي قَوْله : عَلَيَّ عَهْد اللَّه وَغَلِيظ مِيثَاقه . وَيَعْتِق رَقَبَة وَتَطْلُق نِسَاؤُهُ , وَيَمْشِي إِلَى مَكَّة وَيَتَصَدَّق بِثُلُثِ مَاله فِي قَوْله : وَأَشَدّ مَا أَخَذَهُ عَلَى أَحَد . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا طَرِيق الْأَدِلَّة فَإِنَّ الْأَلِف وَاللَّام فِي الْأَيْمَان لَا تَخْلُو أَنْ يُرَاد بِهَا الْجِنْس أَوْ الْعَهْد ; فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْعَهْدِ فَالْمَعْهُود قَوْلك " بِاَللَّهِ " فَيَكُون مَا قَالَهُ الْفِهْرِيّ . فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْجِنْسِ فَالطَّلَاق جِنْس فَيَدْخُل فِيهَا وَلَا يُسْتَوْفَى عَدَده , فَإِنَّ الَّذِي يَكْفِي أَنْ يَدْخُل فِي كُلّ جِنْس مَعْنًى وَاحِد ; فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي الْجِنْس الْمَعْنَى كُلّه لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّق بِجَمِيعِ مَاله ; إِذْ قَدْ تَكُون الصَّدَقَة بِالْمَالِ يَمِينًا . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد : اللَّه الْقَادِر عَلَى الْإِتْيَان بِهَا , وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهَا إِذَا شَاءَ . " وَمَا يُشْعِركُمْ " أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيْمَانكُمْ ; فَحَذَفَ الْمَفْعُول . ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ : " إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ " بِكَسْرِ إِنَّ , وَهِيَ قِرَاءَة مُجَاهِد وَأَبِي عَمْرو وَابْن كَثِير . وَيَشْهَد لِهَذَا قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " وَمَا يَشْعُركُمْ إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ " . وَقَالَ مُجَاهِد وَابْن زَيْد : الْمُخَاطَب بِهَذَا الْمُشْرِكُونَ , وَتَمَّ الْكَلَام . حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ , وَقَدْ أَعْلَمَنَا فِي الْآيَة بَعْد هَذِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَهَذَا التَّأْوِيل يُشْبِه قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " تُؤْمِنُونَ " بِالتَّاءِ . وَقَالَ الْفَرَّاء وَغَيْره ; الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُول اللَّه , لَوْ نَزَلَتْ الْآيَة لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا يُشْعِركُمْ " .
أَيْ يُعَلِّمكُمْ وَيُدْرِيكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ . " أَنَّهَا " بِالْفَتْحِ , وَهِيَ قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة , أَيْ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ . قَالَ الْخَلِيل : " أَنَّهَا " بِمَعْنَى لَعَلَّهَا ; وَحَكَاهُ عَنْهُ سِيبَوَيْهِ . وَفِي التَّنْزِيل : " وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ يَزَّكَّى " [ عَبَسَ : 3 ] أَيْ أَنَّهُ يَزَّكَّى . وَحُكِيَ عَنْ الْعَرَب : اِيتِ السُّوق أَنَّك تَشْتَرِي لَنَا شَيْئًا , أَيْ لَعَلَّك . وَقَالَ أَبُو النَّجْم : قُلْت لِشَيْبَان اُدْنُ مِنْ لِقَائِهْ أَنَّ تُغَدِّي الْقَوْم مِنْ شِوَائِهْ وَقَالَ عَدِيّ بْن زَيْد : أَعَاذِل مَا يُدْرِيك أَنَّ مَنِيَّتِي إِلَى سَاعَة فِي الْيَوْم أَوْ فِي ضُحَى الْغَد أَيْ لَعَلَّ . وَقَالَ دُرَيْد بْن الصِّمَّة . أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا أَيْ لَعَلَّنِي . وَهُوَ فِي كَلَام الْعَرَب كَثِير " أَنَّ " بِمَعْنَى لَعَلَّ . وَحَكَى الْكِسَائِيّ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي مُصْحَف أُبَيّ بْن كَعْب " وَمَا أَدْرَاكُمْ لَعَلَّهَا " . وَقَالَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء : أَنَّ " لَا " زَائِدَة , وَالْمَعْنَى : وَمَا يُشْعِركُمْ أَنَّهَا - أَيْ الْآيَات - إِذَا جَاءَتْ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ , فَزِيدَتْ " لَا " ; كَمَا زِيدَتْ " لَا " فِي قَوْله تَعَالَى : " وَحَرَام عَلَى قَرْيَة أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 95 ] . لِأَنَّ الْمَعْنَى : وَحَرَام عَلَى قَرْيَة مُهْلَكَة رُجُوعهمْ . وَفِي قَوْله : " مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد " [ الْأَعْرَاف : 12 ] . وَالْمَعْنَى : مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد . وَضَعَّفَ الزَّجَّاج وَالنَّحَّاس وَغَيْرهمَا زِيَادَة " لَا " وَقَالُوا : هُوَ غَلَط وَخَطَأ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُزَاد فِيمَا لَا يُشْكِل . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , وَالْمَعْنَى : وَمَا يُشْعِركُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَوْ يُؤْمِنُونَ , ثُمَّ حَذَفَ هَذَا لِعِلْمِ السَّامِع ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس وَغَيْره .
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى " " جَهْد أَيْمَانهمْ " قِيلَ : مَعْنَاهُ بِأَغْلَظ الْأَيْمَان عِنْدهمْ . وَتُعْرَض هُنَا مَسْأَلَة مِنْ الْأَحْكَام عُظْمَى , وَهِيَ قَوْل الرَّجُل : الْأَيْمَان تَلْزَمهُ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِين فِي صَدْر الْإِسْلَام مَعْرُوفَة بِغَيْرِ هَذِهِ الصُّورَة , كَانُوا يَقُولُونَ : عَلَيَّ أَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد ; فَقَالَ مَالِك : تَطْلُق نِسَاؤُهُ . ثُمَّ تَكَاثَرَتْ الصُّورَة حَتَّى آلَتْ بَيْن النَّاس إِلَى صُورَة هَذِهِ أُمّهَا . وَكَانَ شَيْخنَا الْفِهْرِيّ الطَّرَسُوسِيّ يَقُول : يَلْزَمهُ إِطْعَام ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا إِذَا حَنِثَ فِيهَا ; لِأَنَّ قَوْله " الْأَيْمَان " جَمْع يَمِين , وَهُوَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ يَمِين وَحَنِثَ أَلْزَمْنَاهُ كَفَّارَة . وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ يَمِينَانِ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ إِذَا حَنِثَ . وَالْأَيْمَان جَمْع يَمِين فَيَلْزَمهُ فِيهَا ثَلَاث كَفَّارَات . قُلْت : وَذَكَرَ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مُغِيث فِي وَثَائِقه : اِخْتَلَفَ شُيُوخ الْقَيْرَوَان فِيهَا ; فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي زَيْد ; يَلْزَمهُ فِي زَوْجَته ثَلَاث تَطْلِيقَات , وَالْمَشْي إِلَى مَكَّة , وَتَفْرِيق ثُلُث مَاله , وَكَفَّارَة يَمِين , وَعِتْق رَقَبَة . قَالَ اِبْن مُغِيث : وَبِهِ قَالَ اِبْن أَرْفَع رَأْسه وَابْن بَدْر مِنْ فُقَهَاء طُلَيْطِلَة . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عِمْرَان الْفَاسِيّ وَأَبُو الْحَسَن الْقَابِسِيّ وَأَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن الْقَرَوِيّ : تَلْزَمهُ طَلْقَة وَاحِدَة إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة . وَمِنْ حُجَّتهمْ فِي ذَلِكَ رِوَايَة اِبْن الْحَسَن فِي سَمَاعه مِنْ اِبْن وَهْب فِي قَوْله : " وَأَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد أَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَفَّارَة يَمِين " . قَالَ اِبْن مُغِيث : فَجَعَلَ مَنْ سَمَّيْنَاهُ عَلَى الْقَائِل : " الْأَيْمَان تَلْزَمهُ " طَلْقَة وَاحِدَة ; لِأَنَّهُ لَا يَكُون أَسْوَأ حَالًا مِنْ قَوْله : أَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين , قَالَ وَبِهِ نَقُول . قَالَ : وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِ اِبْن الْقَاسِم فِيمَنْ قَالَ : عَلَيَّ عَهْد اللَّه وَغَلِيظ مِيثَاقه وَكَفَالَته وَأَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد عَلَى أَمَرَ أَلَّا يَفْعَلهُ ثُمَّ فَعَلَهُ ; فَقَالَ : إِنْ لَمْ يُرِدْ الطَّلَاق وَلَا الْعَتَاق وَعَزَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَلْتَكُنْ ثَلَاث كَفَّارَات . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة حِين حَلَفَ فَلْيُكَفِّرْ كَفَّارَتَيْنِ فِي قَوْله : عَلَيَّ عَهْد اللَّه وَغَلِيظ مِيثَاقه . وَيَعْتِق رَقَبَة وَتَطْلُق نِسَاؤُهُ , وَيَمْشِي إِلَى مَكَّة وَيَتَصَدَّق بِثُلُثِ مَاله فِي قَوْله : وَأَشَدّ مَا أَخَذَهُ عَلَى أَحَد . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا طَرِيق الْأَدِلَّة فَإِنَّ الْأَلِف وَاللَّام فِي الْأَيْمَان لَا تَخْلُو أَنْ يُرَاد بِهَا الْجِنْس أَوْ الْعَهْد ; فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْعَهْدِ فَالْمَعْهُود قَوْلك " بِاَللَّهِ " فَيَكُون مَا قَالَهُ الْفِهْرِيّ . فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْجِنْسِ فَالطَّلَاق جِنْس فَيَدْخُل فِيهَا وَلَا يُسْتَوْفَى عَدَده , فَإِنَّ الَّذِي يَكْفِي أَنْ يَدْخُل فِي كُلّ جِنْس مَعْنًى وَاحِد ; فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي الْجِنْس الْمَعْنَى كُلّه لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّق بِجَمِيعِ مَاله ; إِذْ قَدْ تَكُون الصَّدَقَة بِالْمَالِ يَمِينًا . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد : اللَّه الْقَادِر عَلَى الْإِتْيَان بِهَا , وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهَا إِذَا شَاءَ . " وَمَا يُشْعِركُمْ " أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيْمَانكُمْ ; فَحَذَفَ الْمَفْعُول . ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ : " إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ " بِكَسْرِ إِنَّ , وَهِيَ قِرَاءَة مُجَاهِد وَأَبِي عَمْرو وَابْن كَثِير . وَيَشْهَد لِهَذَا قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " وَمَا يَشْعُركُمْ إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ " . وَقَالَ مُجَاهِد وَابْن زَيْد : الْمُخَاطَب بِهَذَا الْمُشْرِكُونَ , وَتَمَّ الْكَلَام . حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ , وَقَدْ أَعْلَمَنَا فِي الْآيَة بَعْد هَذِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَهَذَا التَّأْوِيل يُشْبِه قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " تُؤْمِنُونَ " بِالتَّاءِ . وَقَالَ الْفَرَّاء وَغَيْره ; الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُول اللَّه , لَوْ نَزَلَتْ الْآيَة لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا يُشْعِركُمْ " .
أَيْ يُعَلِّمكُمْ وَيُدْرِيكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ . " أَنَّهَا " بِالْفَتْحِ , وَهِيَ قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة , أَيْ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ . قَالَ الْخَلِيل : " أَنَّهَا " بِمَعْنَى لَعَلَّهَا ; وَحَكَاهُ عَنْهُ سِيبَوَيْهِ . وَفِي التَّنْزِيل : " وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ يَزَّكَّى " [ عَبَسَ : 3 ] أَيْ أَنَّهُ يَزَّكَّى . وَحُكِيَ عَنْ الْعَرَب : اِيتِ السُّوق أَنَّك تَشْتَرِي لَنَا شَيْئًا , أَيْ لَعَلَّك . وَقَالَ أَبُو النَّجْم : قُلْت لِشَيْبَان اُدْنُ مِنْ لِقَائِهْ أَنَّ تُغَدِّي الْقَوْم مِنْ شِوَائِهْ وَقَالَ عَدِيّ بْن زَيْد : أَعَاذِل مَا يُدْرِيك أَنَّ مَنِيَّتِي إِلَى سَاعَة فِي الْيَوْم أَوْ فِي ضُحَى الْغَد أَيْ لَعَلَّ . وَقَالَ دُرَيْد بْن الصِّمَّة . أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا أَيْ لَعَلَّنِي . وَهُوَ فِي كَلَام الْعَرَب كَثِير " أَنَّ " بِمَعْنَى لَعَلَّ . وَحَكَى الْكِسَائِيّ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي مُصْحَف أُبَيّ بْن كَعْب " وَمَا أَدْرَاكُمْ لَعَلَّهَا " . وَقَالَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء : أَنَّ " لَا " زَائِدَة , وَالْمَعْنَى : وَمَا يُشْعِركُمْ أَنَّهَا - أَيْ الْآيَات - إِذَا جَاءَتْ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ , فَزِيدَتْ " لَا " ; كَمَا زِيدَتْ " لَا " فِي قَوْله تَعَالَى : " وَحَرَام عَلَى قَرْيَة أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 95 ] . لِأَنَّ الْمَعْنَى : وَحَرَام عَلَى قَرْيَة مُهْلَكَة رُجُوعهمْ . وَفِي قَوْله : " مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد " [ الْأَعْرَاف : 12 ] . وَالْمَعْنَى : مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد . وَضَعَّفَ الزَّجَّاج وَالنَّحَّاس وَغَيْرهمَا زِيَادَة " لَا " وَقَالُوا : هُوَ غَلَط وَخَطَأ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُزَاد فِيمَا لَا يُشْكِل . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , وَالْمَعْنَى : وَمَا يُشْعِركُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَوْ يُؤْمِنُونَ , ثُمَّ حَذَفَ هَذَا لِعِلْمِ السَّامِع ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس وَغَيْره .
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ↓
هَذِهِ آيَة مُشْكِلَة , وَلَا سِيَّمَا وَفِيهَا " وَنَذَرهُمْ فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ " . قِيلَ : الْمَعْنَى وَنُقَلِّب أَفْئِدَتهمْ وَأَنْظَارهمْ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى لَهَب النَّار وَحَرّ الْجَمْر ; كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي الدُّنْيَا . " وَنَذَرهُمْ " فِي الدُّنْيَا , أَيْ نُمْهِلهُمْ وَلَا نُعَاقِبهُمْ ; فَبَعْض الْآيَة فِي الْآخِرَة , وَبَعْضهَا فِي الدُّنْيَا . وَنَظِيرهَا " وُجُوه يَوْمئِذٍ خَاشِعَة " [ الْغَاشِيَة : 2 ] فَهَذَا فِي الْآخِرَة . " عَامِلَة نَاصِبَة " فِي الدُّنْيَا . وَقِيلَ : وَنُقَلِّب فِي الدُّنْيَا ; أَيْ نَحُول بَيْنهمْ وَبَيْن الْإِيمَان لَوْ جَاءَتْهُمْ تِلْكَ الْآيَة , كَمَا حُلْنَا بَيْنهمْ وَبَيْن الْإِيمَان أَوَّل مَرَّة ; لَمَّا دَعَوْتهمْ وَأَظْهَرْت الْمُعْجِزَة . وَفِي التَّنْزِيل : " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه يَحُول بَيْن الْمَرْء وَقَلْبه " [ الْأَنْفَال : 24 ] . وَالْمَعْنَى : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمِنُوا إِذَا جَاءَتْهُمْ الْآيَة فَرَأَوْهَا بِأَبْصَارِهِمْ وَعَرَفُوهَا بِقُلُوبِهِمْ ; فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا كَانَ ذَلِكَ بِتَقْلِيبِ اللَّه قُلُوبهمْ وَأَبْصَارهمْ .
وَدَخَلَتْ الْكَاف عَلَى مَحْذُوف , أَيْ فَلَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّل مَرَّة ; أَيْ أَوَّل مَرَّة أَتَتْهُمْ الْآيَات الَّتِي عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتهَا مِثْل الْقُرْآن وَغَيْره . وَقِيلَ : وَنُقَلِّب أَفْئِدَة هَؤُلَاءِ كَيْ لَا يُؤْمِنُوا ; كَمَا لَمْ تُؤْمِن كُفَّار الْأُمَم السَّالِفَة لَمَّا رَأَوْا مَا اِقْتَرَحُوا مِنْ الْآيَات . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير ; أَيْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا أَوَّل مَرَّة وَنُقَلِّب أَفْئِدَتهمْ وَأَبْصَارهمْ .
يَتَحَيَّرُونَ . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " .
وَدَخَلَتْ الْكَاف عَلَى مَحْذُوف , أَيْ فَلَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّل مَرَّة ; أَيْ أَوَّل مَرَّة أَتَتْهُمْ الْآيَات الَّتِي عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتهَا مِثْل الْقُرْآن وَغَيْره . وَقِيلَ : وَنُقَلِّب أَفْئِدَة هَؤُلَاءِ كَيْ لَا يُؤْمِنُوا ; كَمَا لَمْ تُؤْمِن كُفَّار الْأُمَم السَّالِفَة لَمَّا رَأَوْا مَا اِقْتَرَحُوا مِنْ الْآيَات . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير ; أَيْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا أَوَّل مَرَّة وَنُقَلِّب أَفْئِدَتهمْ وَأَبْصَارهمْ .
يَتَحَيَّرُونَ . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " .
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ↓
فَرَأَوْهُمْ عِيَانًا .
بِإِحْيَائِنَا إِيَّاهُمْ .
سَأَلُوهُ مِنْ الْآيَات .
مُقَابَلَة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَابْن زَيْد . وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن عَامِر . وَقِيلَ : مُعَايَنَة , لَمَّا آمَنُوا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : يَكُون " قِبَلًا " بِمَعْنَى نَاحِيَة ; كَمَا تَقُول : لِي قِبَل فُلَان مَال ; فَقِبَلًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْف . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " قُبُلًا " بِضَمِّ الْقَاف وَالْبَاء , وَمَعْنَاهُ ضُمَنَاء ; فَيَكُون جَمْع قَبِيل بِمَعْنَى كَفِيلٍ , نَحْو رَغِيف وَرُغُف ; كَمَا قَالَ : " أَوْ تَأْتِي بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَة قَبِيلًا " [ الْإِسْرَاء : 92 ] ; أَيْ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ ; عَنْ الْفَرَّاء . وَقَالَ الْأَخْفَش : هُوَ بِمَعْنَى قَبِيل قَبِيل ; أَيْ جَمَاعَة جَمَاعَة , وَقَالَهُ مُجَاهِد , وَهُوَ نَصْب عَلَى الْحَال عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد " قُبُلًا " أَيْ مُقَابَلَة ; وَمِنْهُ " إِنْ كَانَ قَمِيصه قُدَّ مِنْ قُبُل " [ يُوسُف : 26 ] . وَمِنْهُ قُبُل الرَّجُل وَدُبُره لَمَّا كَانَ مِنْ بَيْن يَدَيْهِ وَمِنْ وَرَائِهِ . وَمِنْهُ قَبْل الْحَيْض . حَكَى أَبُو زَيْد : لَقِيت فُلَانًا قُبُلًا وَمُقَابَلَة وَقَبَلًا وَقِبُلًا , كُلّه بِمَعْنَى الْمُوَاجَهَة ; فَيَكُون الضَّمّ كَالْكَسْرِ فِي الْمَعْنَى وَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ ; قَالَهُ مَكِّيّ . وَقَرَأَ الْحَسَن " قُبْلًا " حَذَفَ الضَّمَّة مِنْ الْبَاء لِثِقَلِهَا . وَعَلَى قَوْل الْفَرَّاء يَكُون فِيهِ نُطْق مَا لَا يَنْطِق , وَفِي كَفَالَة مَا لَا يَعْقِل آيَة عَظِيمَة لَهُمْ . وَعَلَى قَوْل الْأَخْفَش يَكُون فِيهِ اِجْتِمَاع الْأَجْنَاس الَّذِي لَيْسَ بِمَعْهُودٍ . وَالْحَشْر الْجَمْع .
" أَنْ " فِي مَوْضِع اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل ; أَيْ لَكِنْ إِنْ شَاءَ ذَلِكَ لَهُمْ . وَقِيلَ : الِاسْتِثْنَاء لِأَهْلِ السَّعَادَة الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْم اللَّه الْإِيمَان . وَفِي هَذَا تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَيْ يَجْهَلُونَ الْحَقّ . وَقِيلَ : يَجْهَلُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوز اِقْتِرَاح الْآيَات بَعْد أَنْ رَأَوْا آيَة وَاحِدَة .
بِإِحْيَائِنَا إِيَّاهُمْ .
سَأَلُوهُ مِنْ الْآيَات .
مُقَابَلَة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَابْن زَيْد . وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن عَامِر . وَقِيلَ : مُعَايَنَة , لَمَّا آمَنُوا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : يَكُون " قِبَلًا " بِمَعْنَى نَاحِيَة ; كَمَا تَقُول : لِي قِبَل فُلَان مَال ; فَقِبَلًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْف . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " قُبُلًا " بِضَمِّ الْقَاف وَالْبَاء , وَمَعْنَاهُ ضُمَنَاء ; فَيَكُون جَمْع قَبِيل بِمَعْنَى كَفِيلٍ , نَحْو رَغِيف وَرُغُف ; كَمَا قَالَ : " أَوْ تَأْتِي بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَة قَبِيلًا " [ الْإِسْرَاء : 92 ] ; أَيْ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ ; عَنْ الْفَرَّاء . وَقَالَ الْأَخْفَش : هُوَ بِمَعْنَى قَبِيل قَبِيل ; أَيْ جَمَاعَة جَمَاعَة , وَقَالَهُ مُجَاهِد , وَهُوَ نَصْب عَلَى الْحَال عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد " قُبُلًا " أَيْ مُقَابَلَة ; وَمِنْهُ " إِنْ كَانَ قَمِيصه قُدَّ مِنْ قُبُل " [ يُوسُف : 26 ] . وَمِنْهُ قُبُل الرَّجُل وَدُبُره لَمَّا كَانَ مِنْ بَيْن يَدَيْهِ وَمِنْ وَرَائِهِ . وَمِنْهُ قَبْل الْحَيْض . حَكَى أَبُو زَيْد : لَقِيت فُلَانًا قُبُلًا وَمُقَابَلَة وَقَبَلًا وَقِبُلًا , كُلّه بِمَعْنَى الْمُوَاجَهَة ; فَيَكُون الضَّمّ كَالْكَسْرِ فِي الْمَعْنَى وَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ ; قَالَهُ مَكِّيّ . وَقَرَأَ الْحَسَن " قُبْلًا " حَذَفَ الضَّمَّة مِنْ الْبَاء لِثِقَلِهَا . وَعَلَى قَوْل الْفَرَّاء يَكُون فِيهِ نُطْق مَا لَا يَنْطِق , وَفِي كَفَالَة مَا لَا يَعْقِل آيَة عَظِيمَة لَهُمْ . وَعَلَى قَوْل الْأَخْفَش يَكُون فِيهِ اِجْتِمَاع الْأَجْنَاس الَّذِي لَيْسَ بِمَعْهُودٍ . وَالْحَشْر الْجَمْع .
" أَنْ " فِي مَوْضِع اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل ; أَيْ لَكِنْ إِنْ شَاءَ ذَلِكَ لَهُمْ . وَقِيلَ : الِاسْتِثْنَاء لِأَهْلِ السَّعَادَة الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْم اللَّه الْإِيمَان . وَفِي هَذَا تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَيْ يَجْهَلُونَ الْحَقّ . وَقِيلَ : يَجْهَلُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوز اِقْتِرَاح الْآيَات بَعْد أَنْ رَأَوْا آيَة وَاحِدَة .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ↓
يُعَزِّي نَبِيّه وَيُسَلِّيه , أَيْ كَمَا اِبْتَلَيْنَاك بِهَؤُلَاءِ الْقَوْم فَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّ قَبْلك .
أَيْ أَعْدَاء .
حَكَى سِيبَوَيْهِ جَعَلَ بِمَعْنَى وَصَفَ . " عَدُوًّا " مَفْعُول أَوَّل . " لِكُلِّ نَبِيّ " فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي . " شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ " بَدَل مِنْ عَدُوّ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " شَيَاطِين " مَفْعُولًا أَوَّل , " عَدُوًّا " مَفْعُولًا ثَانِيًا ; كَأَنَّهُ قِيلَ : جَعَلْنَا شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ عَدُوًّا . وَقَرَأَ الْأَعْمَش : " شَيَاطِين الْجِنّ وَالْإِنْس " بِتَقْدِيمِ الْجِنّ . وَالْمَعْنَى وَاحِد .
عِبَارَة عَمَّا يُوَسْوِس بِهِ شَيَاطِين الْجِنّ إِلَى شَيَاطِين الْإِنْس . وَسُمِّيَ وَحْيًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُون خُفْيَة , وَجَعَلَ تَمْوِيههمْ زُخْرُفًا لِتَزْيِينِهِمْ إِيَّاهُ ; وَمِنْهُ سُمِّيَ الذَّهَب زُخْرُفًا . وَكُلّ شَيْء حَسَن مُمَوَّه فَهُوَ زُخْرُف . وَالْمُزَخْرَف الْمُزَيَّن . وَزَخَارِف الْمَاء طَرَائِقه . و " غُرُورًا " نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , لِأَنَّ مَعْنَى " يُوحِي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض " يَغُرُّونَهُمْ بِذَلِكَ غُرُورًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع الْحَال . وَالْغُرُور الْبَاطِل . قَالَ النَّحَّاس : وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس بِإِسْنَادٍ ضَعِيف أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " يُوحِي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض " قَالَ : مَعَ كُلّ جِنِّيّ شَيْطَان , وَمَعَ كُلّ إِنْسِيّ شَيْطَان , فَيَلْقَى أَحَدهمَا الْآخَر فَيَقُول : إِنِّي قَدْ أَضْلَلْت صَاحِبِي بِكَذَا فَأَضِلَّ صَاحِبك بِمِثْلِهِ . وَيَقُول الْآخَر مِثْل ذَلِكَ ; فَهَذَا وَحْي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض . وَقَالَهُ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ . قَالَ النَّحَّاس : وَالْقَوْل الْأَوَّل يَدُلّ عَلَيْهِ " وَإِنَّ الشَّيَاطِين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ " [ الْأَنْعَام : 121 ] ; فَهَذَا يُبَيِّن مَعْنَى ذَلِكَ .
قُلْت : وَيَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ صَحِيح السُّنَّة قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينه مِنْ الْجِنّ ) قِيلَ : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( وَلَا أَنَا إِلَّا أَنَّ اللَّه أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَم فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَيْرٍ ) . رُوِيَ ( فَأَسْلَم ) بِرَفْعِ الْمِيم وَنَصْبهَا . فَالرَّفْع عَلَى مَعْنَى فَأَسْلَمُ مِنْ شَرّه . وَالنَّصْب عَلَى مَعْنَى فَأَسْلَمَ هُوَ . فَقَالَ : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد ) وَلَمْ يَقُلْ وَلَا مِنْ الشَّيَاطِين ; إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَبَّهَ عَلَى أَحَد الْجِنْسَيْنِ بِالْآخَرِ ; فَيَكُون مِنْ بَاب " سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : 81 ] وَفِيهِ بَعْد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى عَوْف بْن مَالِك عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَبَا ذَرّ هَلْ تَعَوَّذْت بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ ) ؟ قَالَ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِين ؟ قَالَ : ( نَعَمْ هُمْ شَرّ مِنْ شَيَاطِين الْجِنّ ) . وَقَالَ مَالِك بْن دِينَار : إِنَّ شَيْطَان الْإِنْس أَشَدّ عَلَيَّ مِنْ شَيْطَان الْجِنّ , وَذَلِكَ أَنِّي إِذَا تَعَوَّذْت بِاَللَّهِ ذَهَبَ عَنِّي شَيْطَان الْجِنّ , وَشَيْطَان الْإِنْس يَجِيئنِي فَيَجُرّنِي إِلَى الْمَعَاصِي عِيَانًا . وَسَمِعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِمْرَأَة تَنْشُد : إِنَّ النِّسَاء رَيَاحِين خُلِقْنَ لَكُمْ وَكُلّكُمْ يَشْتَهِي شَمَّ الرَّيَاحِين فَأَجَابَهَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ النِّسَاء شَيَاطِين خُلِقْنَ لَنَا نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ الشَّيَاطِين
أَيْ مَا فَعَلُوا إِيحَاء الْقَوْل بِالْغُرُورِ .
أَمْر فِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيد . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَلَا يُقَال وَذَرَ وَلَا وَدَعَ , اِسْتَغْنَوْا عَنْهُمَا بِتَرَكَ . قُلْت : هَذَا إِنَّمَا خَرَجَ عَلَى الْأَكْثَر . وَفِي التَّنْزِيل : " وَذَرِ الَّذِينَ " و " ذَرْهُمْ " و " مَا وَدَعَك " [ الضُّحَى : 3 ] . وَفِي السُّنَّة ( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَام عَنْ وَدَعهمْ الْجُمُعَات ) . وَقَوْله : ( إِذَا فَعَلُوا - يُرِيد الْمَعَاصِي - فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ ) . قَالَ الزَّجَّاج : الْوَاو ثَقِيلَة ; فَلَمَّا كَانَ " تَرَكَ " لَيْسَ فِيهِ وَاو بِمَعْنَى مَا فِيهِ الْوَاو تُرِكَ مَا فِيهِ الْوَاو . وَهَذَا مَعْنَى قَوْله وَلَيْسَ بِنَصِّهِ .
أَيْ أَعْدَاء .
حَكَى سِيبَوَيْهِ جَعَلَ بِمَعْنَى وَصَفَ . " عَدُوًّا " مَفْعُول أَوَّل . " لِكُلِّ نَبِيّ " فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي . " شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ " بَدَل مِنْ عَدُوّ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " شَيَاطِين " مَفْعُولًا أَوَّل , " عَدُوًّا " مَفْعُولًا ثَانِيًا ; كَأَنَّهُ قِيلَ : جَعَلْنَا شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ عَدُوًّا . وَقَرَأَ الْأَعْمَش : " شَيَاطِين الْجِنّ وَالْإِنْس " بِتَقْدِيمِ الْجِنّ . وَالْمَعْنَى وَاحِد .
عِبَارَة عَمَّا يُوَسْوِس بِهِ شَيَاطِين الْجِنّ إِلَى شَيَاطِين الْإِنْس . وَسُمِّيَ وَحْيًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُون خُفْيَة , وَجَعَلَ تَمْوِيههمْ زُخْرُفًا لِتَزْيِينِهِمْ إِيَّاهُ ; وَمِنْهُ سُمِّيَ الذَّهَب زُخْرُفًا . وَكُلّ شَيْء حَسَن مُمَوَّه فَهُوَ زُخْرُف . وَالْمُزَخْرَف الْمُزَيَّن . وَزَخَارِف الْمَاء طَرَائِقه . و " غُرُورًا " نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , لِأَنَّ مَعْنَى " يُوحِي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض " يَغُرُّونَهُمْ بِذَلِكَ غُرُورًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع الْحَال . وَالْغُرُور الْبَاطِل . قَالَ النَّحَّاس : وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس بِإِسْنَادٍ ضَعِيف أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " يُوحِي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض " قَالَ : مَعَ كُلّ جِنِّيّ شَيْطَان , وَمَعَ كُلّ إِنْسِيّ شَيْطَان , فَيَلْقَى أَحَدهمَا الْآخَر فَيَقُول : إِنِّي قَدْ أَضْلَلْت صَاحِبِي بِكَذَا فَأَضِلَّ صَاحِبك بِمِثْلِهِ . وَيَقُول الْآخَر مِثْل ذَلِكَ ; فَهَذَا وَحْي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض . وَقَالَهُ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ . قَالَ النَّحَّاس : وَالْقَوْل الْأَوَّل يَدُلّ عَلَيْهِ " وَإِنَّ الشَّيَاطِين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ " [ الْأَنْعَام : 121 ] ; فَهَذَا يُبَيِّن مَعْنَى ذَلِكَ .
قُلْت : وَيَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ صَحِيح السُّنَّة قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينه مِنْ الْجِنّ ) قِيلَ : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( وَلَا أَنَا إِلَّا أَنَّ اللَّه أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَم فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَيْرٍ ) . رُوِيَ ( فَأَسْلَم ) بِرَفْعِ الْمِيم وَنَصْبهَا . فَالرَّفْع عَلَى مَعْنَى فَأَسْلَمُ مِنْ شَرّه . وَالنَّصْب عَلَى مَعْنَى فَأَسْلَمَ هُوَ . فَقَالَ : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد ) وَلَمْ يَقُلْ وَلَا مِنْ الشَّيَاطِين ; إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَبَّهَ عَلَى أَحَد الْجِنْسَيْنِ بِالْآخَرِ ; فَيَكُون مِنْ بَاب " سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : 81 ] وَفِيهِ بَعْد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى عَوْف بْن مَالِك عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَبَا ذَرّ هَلْ تَعَوَّذْت بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ ) ؟ قَالَ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِين ؟ قَالَ : ( نَعَمْ هُمْ شَرّ مِنْ شَيَاطِين الْجِنّ ) . وَقَالَ مَالِك بْن دِينَار : إِنَّ شَيْطَان الْإِنْس أَشَدّ عَلَيَّ مِنْ شَيْطَان الْجِنّ , وَذَلِكَ أَنِّي إِذَا تَعَوَّذْت بِاَللَّهِ ذَهَبَ عَنِّي شَيْطَان الْجِنّ , وَشَيْطَان الْإِنْس يَجِيئنِي فَيَجُرّنِي إِلَى الْمَعَاصِي عِيَانًا . وَسَمِعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِمْرَأَة تَنْشُد : إِنَّ النِّسَاء رَيَاحِين خُلِقْنَ لَكُمْ وَكُلّكُمْ يَشْتَهِي شَمَّ الرَّيَاحِين فَأَجَابَهَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ النِّسَاء شَيَاطِين خُلِقْنَ لَنَا نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ الشَّيَاطِين
أَيْ مَا فَعَلُوا إِيحَاء الْقَوْل بِالْغُرُورِ .
أَمْر فِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيد . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَلَا يُقَال وَذَرَ وَلَا وَدَعَ , اِسْتَغْنَوْا عَنْهُمَا بِتَرَكَ . قُلْت : هَذَا إِنَّمَا خَرَجَ عَلَى الْأَكْثَر . وَفِي التَّنْزِيل : " وَذَرِ الَّذِينَ " و " ذَرْهُمْ " و " مَا وَدَعَك " [ الضُّحَى : 3 ] . وَفِي السُّنَّة ( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَام عَنْ وَدَعهمْ الْجُمُعَات ) . وَقَوْله : ( إِذَا فَعَلُوا - يُرِيد الْمَعَاصِي - فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ ) . قَالَ الزَّجَّاج : الْوَاو ثَقِيلَة ; فَلَمَّا كَانَ " تَرَكَ " لَيْسَ فِيهِ وَاو بِمَعْنَى مَا فِيهِ الْوَاو تُرِكَ مَا فِيهِ الْوَاو . وَهَذَا مَعْنَى قَوْله وَلَيْسَ بِنَصِّهِ .
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ↑
تَصْغَى تَمِيل ; يُقَال : صَغَوْت أَصْغُو صَغْوًا وَصُغُوًّا , وَصَغَيْت أَصْغَى , وَصَغَيْت بِالْكَسْرِ أَيْضًا . يُقَال مِنْهُ : صَغِيَ يَصْغَى صَغًى وَصُغْيًا , وَأَصْغَيْت إِلَيْهِ إِصْغَاء بِمَعْنًى .
قَالَ الشَّاعِر : تَرَى السَّفِيه بِهِ عَنْ كُلّ مُحْكَمَة زَيْغ وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيه إِصْغَاء وَيُقَال : أَصْغَيْت الْإِنَاء إِذَا أَمَلْته لِيَجْتَمِع مَا فِيهِ . وَأَصْله الْمَيْل إِلَى الشَّيْء لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاض . وَمِنْهُ صَغَتْ النُّجُوم : مَالَتْ لِلْغُرُوبِ . وَفِي التَّنْزِيل : " فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا " [ التَّحْرِيم : 4 ] . قَالَ أَبُو زَيْد : يُقَال صَغْوُهُ مَعَك وَصِغْوُهُ , وَصَغَاهُ مَعَك , أَيْ مَيْله . وَفِي الْحَدِيث : ( فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاء ) يَعْنِي لِلْهِرَّةِ . وَأَكْرَمُوا فُلَانًا فِي صَاغِيَته , أَيْ فِي قَرَابَته الَّذِينَ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ وَيَطْلُبُونَ مَا عِنْده . وَأَصْغَتْ النَّاقَة إِذَا أَمَالَتْ رَأْسهَا إِلَى الرَّجُل كَأَنَّهَا تَسْتَمِع شَيْئًا حِين يُشَدّ عَلَيْهَا الرَّحْل . قَالَ ذُو الرُّمَّة : تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُورِ جَانِحَة حَتَّى إِذَا مَا اِسْتَوَى فِي غَرْزهَا تَثِب وَاللَّام فِي وَلِتَصْغَى لَام كَيْ , وَالْعَامِل فِيهَا " يُوحِي " تَقْدِيره : يُوحِي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض لِيَغُرُّوهُمْ وَلِتَصْغَى . وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّهَا لَام الْأَمْر , وَهُوَ غَلَط ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِب " وَلْتَصْغَ إِلَيْهِ " بِحَذْفِ الْأَلِف , وَإِنَّمَا هِيَ لَام كَيْ .
وَكَذَلِكَ وَلْيَقْتَرِفُوا إِلَّا أَنَّ الْحَسَن قَرَأَ " وَلْيَرْضَوْهُ وَلْيَقْتَرِفُوا " بِإِسْكَانِ اللَّام , جَعَلَهَا لَام أَمْر فِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيد ; كَمَا يُقَال : اِفْعَلْ مَا شِئْت .
أَيْ وَلِيَكْتَسِبُوا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد . يُقَال : خَرَجَ يَقْتَرِف أَهْله أَيْ يَكْتَسِب لَهُمْ . وَقَارَفَ فُلَان هَذَا الْأَمْر إِذَا وَاقَعَهُ وَعَمِلَهُ . وَقَرَفْتنِي بِمَا اِدَّعَيْت عَلَيَّ , أَيْ رَمَيْتنِي بِالرِّيبَةِ . وَقَرَفَ الْقَرْحَة إِذَا قَشَرَ مِنْهَا . وَاقْتَرَفَ كَذِبًا . قَالَ رُؤْبَة : أَعْيَا اِقْتِرَاف الْكَذِب الْمَقْرُوف تَقْوَى التَّقِيّ وَعِفَّة الْعَفِيف وَأَصْله اِقْتِطَاع قِطْعَة مِنْ الشَّيْء .
قَالَ الشَّاعِر : تَرَى السَّفِيه بِهِ عَنْ كُلّ مُحْكَمَة زَيْغ وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيه إِصْغَاء وَيُقَال : أَصْغَيْت الْإِنَاء إِذَا أَمَلْته لِيَجْتَمِع مَا فِيهِ . وَأَصْله الْمَيْل إِلَى الشَّيْء لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاض . وَمِنْهُ صَغَتْ النُّجُوم : مَالَتْ لِلْغُرُوبِ . وَفِي التَّنْزِيل : " فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا " [ التَّحْرِيم : 4 ] . قَالَ أَبُو زَيْد : يُقَال صَغْوُهُ مَعَك وَصِغْوُهُ , وَصَغَاهُ مَعَك , أَيْ مَيْله . وَفِي الْحَدِيث : ( فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاء ) يَعْنِي لِلْهِرَّةِ . وَأَكْرَمُوا فُلَانًا فِي صَاغِيَته , أَيْ فِي قَرَابَته الَّذِينَ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ وَيَطْلُبُونَ مَا عِنْده . وَأَصْغَتْ النَّاقَة إِذَا أَمَالَتْ رَأْسهَا إِلَى الرَّجُل كَأَنَّهَا تَسْتَمِع شَيْئًا حِين يُشَدّ عَلَيْهَا الرَّحْل . قَالَ ذُو الرُّمَّة : تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُورِ جَانِحَة حَتَّى إِذَا مَا اِسْتَوَى فِي غَرْزهَا تَثِب وَاللَّام فِي وَلِتَصْغَى لَام كَيْ , وَالْعَامِل فِيهَا " يُوحِي " تَقْدِيره : يُوحِي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض لِيَغُرُّوهُمْ وَلِتَصْغَى . وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّهَا لَام الْأَمْر , وَهُوَ غَلَط ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِب " وَلْتَصْغَ إِلَيْهِ " بِحَذْفِ الْأَلِف , وَإِنَّمَا هِيَ لَام كَيْ .
وَكَذَلِكَ وَلْيَقْتَرِفُوا إِلَّا أَنَّ الْحَسَن قَرَأَ " وَلْيَرْضَوْهُ وَلْيَقْتَرِفُوا " بِإِسْكَانِ اللَّام , جَعَلَهَا لَام أَمْر فِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيد ; كَمَا يُقَال : اِفْعَلْ مَا شِئْت .
أَيْ وَلِيَكْتَسِبُوا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد . يُقَال : خَرَجَ يَقْتَرِف أَهْله أَيْ يَكْتَسِب لَهُمْ . وَقَارَفَ فُلَان هَذَا الْأَمْر إِذَا وَاقَعَهُ وَعَمِلَهُ . وَقَرَفْتنِي بِمَا اِدَّعَيْت عَلَيَّ , أَيْ رَمَيْتنِي بِالرِّيبَةِ . وَقَرَفَ الْقَرْحَة إِذَا قَشَرَ مِنْهَا . وَاقْتَرَفَ كَذِبًا . قَالَ رُؤْبَة : أَعْيَا اِقْتِرَاف الْكَذِب الْمَقْرُوف تَقْوَى التَّقِيّ وَعِفَّة الْعَفِيف وَأَصْله اِقْتِطَاع قِطْعَة مِنْ الشَّيْء .
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ↓
" غَيْر " نَصْب ب " أَبْتَغِي " . " حَكَمًا " نَصْب عَلَى الْبَيَان , وَإِنْ شِئْت عَلَى الْحَال . وَالْمَعْنَى : أَفَغَيْر اللَّه أَطْلُب لَكُمْ حَاكِمًا وَهُوَ كَفَاكُمْ مَئُونَة الْمَسْأَلَة فِي الْآيَات بِمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَاب الْمُفَصَّل , أَيْ الْمُبِين . ثُمَّ قِيلَ : الْحَكَم أَبْلَغ مِنْ الْحَاكِم ; إِذْ لَا يَسْتَحِقّ التَّسْمِيَة بِحُكْمٍ إِلَّا مَنْ يَحْكُم بِالْحَقِّ , لِأَنَّهَا صِفَة تَعْظِيم فِي مَدْح . وَالْحَاكِم صِفَة جَارِيَة عَلَى الْفِعْل , فَقَدْ يُسَمَّى بِهَا مَنْ يَحْكُم بِغَيْرِ الْحَقّ .
يُرِيد الْيَهُود وَالنَّصَارَى . وَقِيلَ : مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَسَلْمَان وَصُهَيْب وَعَبْد اللَّه بْن سَلَّام .
أَيْ الْقُرْآن .
أَيْ أَنَّ كُلّ مَا فِيهِ مِنْ الْوَعْد وَالْوَعِيد لَحَقّ .
أَيْ مِنْ الشَّاكِّينَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّل مِنْ عِنْد اللَّه . وَقَالَ عَطَاء : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب وَهُمْ رُؤَسَاء أَصْحَاب مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام : أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ .
يُرِيد الْيَهُود وَالنَّصَارَى . وَقِيلَ : مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَسَلْمَان وَصُهَيْب وَعَبْد اللَّه بْن سَلَّام .
أَيْ الْقُرْآن .
أَيْ أَنَّ كُلّ مَا فِيهِ مِنْ الْوَعْد وَالْوَعِيد لَحَقّ .
أَيْ مِنْ الشَّاكِّينَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّل مِنْ عِنْد اللَّه . وَقَالَ عَطَاء : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب وَهُمْ رُؤَسَاء أَصْحَاب مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام : أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ .
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ↓
قِرَاءَة أَهْل الْكُوفَة بِالتَّوْحِيدِ , وَالْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَوَاعِيد رَبّك , فَلَا مُغَيِّر لَهَا . وَالْكَلِمَات تَرْجِع إِلَى الْعِبَارَات أَوْ إِلَى الْمُتَعَلَّقَات مِنْ الْوَعْد وَالْوَعِيد وَغَيْرهمَا . قَالَ قَتَادَة : الْكَلِمَات هِيَ الْقُرْآن لَا مُبَدِّل لَهُ , لَا يَزِيد فِيهِ الْمُفْتَرُونَ وَلَا يَنْقُصُونَ .
أَيْ فِيمَا وَعَدَ وَحَكَمَ , لَا رَادّ لِقَضَائِهِ وَلَا خُلْف فِي وَعْده . وَحَكَى الرُّمَّانِيّ عَنْ قَتَادَة .
لَا مُبَدِّل لَهَا فِيمَا حَكَمَ بِهِ , أَيْ إِنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّغْيِير وَالتَّبْدِيل فِي الْأَلْفَاظ كَمَا غَيَّرَ أَهْل الْكِتَاب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَإِنَّهُ لَا يَعْتَدّ بِذَلِكَ . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى وُجُوب اِتِّبَاع دَلَالَات الْقُرْآن ; لِأَنَّهُ حَقّ لَا يُمْكِن تَبْدِيله بِمَا يُنَاقِضهُ , لِأَنَّهُ مِنْ عِنْد حَكِيم لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ الْأُمُور كُلّهَا .
أَيْ فِيمَا وَعَدَ وَحَكَمَ , لَا رَادّ لِقَضَائِهِ وَلَا خُلْف فِي وَعْده . وَحَكَى الرُّمَّانِيّ عَنْ قَتَادَة .
لَا مُبَدِّل لَهَا فِيمَا حَكَمَ بِهِ , أَيْ إِنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّغْيِير وَالتَّبْدِيل فِي الْأَلْفَاظ كَمَا غَيَّرَ أَهْل الْكِتَاب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَإِنَّهُ لَا يَعْتَدّ بِذَلِكَ . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى وُجُوب اِتِّبَاع دَلَالَات الْقُرْآن ; لِأَنَّهُ حَقّ لَا يُمْكِن تَبْدِيله بِمَا يُنَاقِضهُ , لِأَنَّهُ مِنْ عِنْد حَكِيم لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ الْأُمُور كُلّهَا .
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ↓
أَيْ الْكُفَّار .
أَيْ عَنْ الطَّرِيق الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى ثَوَاب اللَّه .
" إِنْ " بِمَعْنَى مَا . وَكَذَلِكَ " وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ " .
أَيْ يَحْدِسُونَ وَيَقْدِرُونَ ; وَمِنْهُ الْخَرْص , وَأَصْله الْقَطْع . قَالَ الشَّاعِر : تَرَى قَصْد الْمِرَان فِينَا كَأَنَّهُ تَذَرُّع خِرْصَان بِأَيْدِي الشَّوَاطِب يَعْنِي جَرِيدًا يُقْطَع طُولًا وَيُتَّخَذ مِنْهُ الْخَرْص . وَهُوَ جَمْع الْخَرْص ; وَمِنْهُ خَرَصَ يَخْرُص النَّخْل خَرْصًا إِذَا حَزَرَهُ لِيَأْخُذ الْخَرَاج مِنْهُ . فَالْخَارِص يَقْطَع بِمَا لَا يَجُوز الْقَطْع بِهِ ; إِذْ لَا يَقِين مَعَهُ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي " الذَّارِيَات " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
أَيْ عَنْ الطَّرِيق الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى ثَوَاب اللَّه .
" إِنْ " بِمَعْنَى مَا . وَكَذَلِكَ " وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ " .
أَيْ يَحْدِسُونَ وَيَقْدِرُونَ ; وَمِنْهُ الْخَرْص , وَأَصْله الْقَطْع . قَالَ الشَّاعِر : تَرَى قَصْد الْمِرَان فِينَا كَأَنَّهُ تَذَرُّع خِرْصَان بِأَيْدِي الشَّوَاطِب يَعْنِي جَرِيدًا يُقْطَع طُولًا وَيُتَّخَذ مِنْهُ الْخَرْص . وَهُوَ جَمْع الْخَرْص ; وَمِنْهُ خَرَصَ يَخْرُص النَّخْل خَرْصًا إِذَا حَزَرَهُ لِيَأْخُذ الْخَرَاج مِنْهُ . فَالْخَارِص يَقْطَع بِمَا لَا يَجُوز الْقَطْع بِهِ ; إِذْ لَا يَقِين مَعَهُ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي " الذَّارِيَات " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَالَ بَعْض النَّاس : إِنَّ " أَعْلَم " هُنَا بِمَعْنَى يَعْلَم ; وَأَنْشَدَ قَوْل حَاتِم الطَّائِيّ : تَحَالَفَتْ طَيْء مِنْ دُوننَا حِلْفًا وَاَللَّه أَعْلَم مَا كُنَّا لَهُمْ خُذُلًا وَقَوْل الْخَنْسَاء : اللَّه أَعْلَم أَنَّ جَفْنَته تَغْدُو غَدَاة الرِّيح أَوْ تَسْرِي وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُطَابِق " هُوَ أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ " . وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى أَصْله .
" مَنْ " بِمَعْنَى أَيْ ; فَهُوَ فِي مَحَلّ رَفْع وَالرَّافِع لَهُ " يَضِلّ " . وَقِيلَ : فِي مَحْل نَصْب بِأَعْلَم , أَيْ إِنَّ رَبّك أَعْلَم أَيّ النَّاس يَضِلّ عَنْ سَبِيله . وَقِيلَ : فِي مَحَلّ نَصْب بِنَزْعِ الْخَافِض ; أَيْ بِمَنْ يَضِلّ . قَالَهُ بَعْض الْبَصْرِيِّينَ , وَهُوَ حَسَن .
وَقَوْله فِي آخِر النَّحْل : " إِنَّ رَبّك هُوَ أَعْلَم بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيله وَهُوَ أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ " [ النَّحْل : 125 ] . وَقُرِئَ " يَضِلّ " وَهَذَا عَلَى حَذْف الْمَفْعُول , وَالْأَوَّل أَحْسَن ; لِأَنَّهُ قَالَ : " وَهُوَ أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ " . فَلَوْ كَانَ مِنْ الْإِضْلَال لَقَالَ وَهُوَ أَعْلَم بِالْهَادِينَ .
" مَنْ " بِمَعْنَى أَيْ ; فَهُوَ فِي مَحَلّ رَفْع وَالرَّافِع لَهُ " يَضِلّ " . وَقِيلَ : فِي مَحْل نَصْب بِأَعْلَم , أَيْ إِنَّ رَبّك أَعْلَم أَيّ النَّاس يَضِلّ عَنْ سَبِيله . وَقِيلَ : فِي مَحَلّ نَصْب بِنَزْعِ الْخَافِض ; أَيْ بِمَنْ يَضِلّ . قَالَهُ بَعْض الْبَصْرِيِّينَ , وَهُوَ حَسَن .
وَقَوْله فِي آخِر النَّحْل : " إِنَّ رَبّك هُوَ أَعْلَم بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيله وَهُوَ أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ " [ النَّحْل : 125 ] . وَقُرِئَ " يَضِلّ " وَهَذَا عَلَى حَذْف الْمَفْعُول , وَالْأَوَّل أَحْسَن ; لِأَنَّهُ قَالَ : " وَهُوَ أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ " . فَلَوْ كَانَ مِنْ الْإِضْلَال لَقَالَ وَهُوَ أَعْلَم بِالْهَادِينَ .
نَزَلَتْ بِسَبَبِ أُنَاس أَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّا نَأْكُل مَا نَقْتُل وَلَا نَأْكُل مَا قَتَلَ اللَّه ؟ فَنَزَلَتْ " فَكُلُوا " إِلَى قَوْله " وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ " [ الْأَنْعَام : 121 ] خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره . قَالَ عَطَاء : هَذِهِ الْآيَة أَمْر بِذِكْرِ اِسْم اللَّه عَلَى الشَّرَاب وَالذَّبْح وَكُلّ مَطْعُوم .
أَيْ بِأَحْكَامِهِ وَأَوَامِره آخِذِينَ ; فَإِنَّ الْإِيمَان بِهَا يَتَضَمَّن وَيَقْتَضِي الْأَخْذ بِهَا وَالِانْقِيَاد لَهَا .
أَيْ بِأَحْكَامِهِ وَأَوَامِره آخِذِينَ ; فَإِنَّ الْإِيمَان بِهَا يَتَضَمَّن وَيَقْتَضِي الْأَخْذ بِهَا وَالِانْقِيَاد لَهَا .
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ↓
الْمَعْنَى مَا الْمَانِع لَكُمْ مِنْ أَكْل مَا سَمَّيْتُمْ عَلَيْهِ رَبّكُمْ وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ .
أَيْ بَيَّنَ لَكُمْ الْحَلَال مِنْ الْحَرَام , وَأُزِيلَ عَنْكُمْ اللَّبْس وَالشَّكّ . ف " مَا " اِسْتِفْهَام يَتَضَمَّن التَّقْرِير . وَتَقْدِير الْكَلَام : وَأَيّ شَيْء لَكُمْ فِي أَلَّا تَأْكُلُوا . ف " أَنَّ " فِي مَوْضِع خَفْض بِتَقْدِيرِ حَرْف الْجَرّ . وَيَصِحّ أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى أَلَّا يُقَدَّر حَرْف جَرّ , وَيَكُون النَّاصِب مَعْنَى الْفِعْل الَّذِي فِي قَوْله " مَا لَكُمْ " تَقْدِيره أَيْ مَا يَمْنَعكُمْ . ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ إِلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ " .
يُرِيد مِنْ جَمِيع مَا حَرَّمَ كَالْمَيْتَةِ وَغَيْرهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . وَهُوَ اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع . وَقَرَأَ نَافِع وَيَعْقُوب " وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ " بِفَتْحِ الْفِعْلَيْنِ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن عَامِر وَابْن كَثِير بِالضَّمِّ فِيهِمَا , وَالْكُوفِيُّونَ " فَصَّلَ " بِالْفَتْحِ " حُرِّمَ " بِالضَّمِّ . وَقَرَأَ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ " فَصَلَ " بِالتَّخْفِيفِ . وَمَعْنَاهُ أَبَانَ وَظَهَرَ ; كَمَا قُرِئَ " الر كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاته ثُمَّ فُصِّلَتْ " [ هُود : 1 ] أَيْ اِسْتَبَانَتْ . وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَة قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة . وَقِيلَ : " فَصَّلَ " أَيْ بَيَّنَ , وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَة " الْمَائِدَة " مِنْ قَوْله : " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير " [ الْمَائِدَة : 3 ] الْآيَة . قُلْت : هَذَا فِيهِ نَظَر ; فَإِنَّ " الْأَنْعَام " مَكِّيَّة وَالْمَائِدَة مَدَنِيَّة فَكَيْفَ يُحِيل بِالْبَيَانِ عَلَى مَا لَمْ يُنَزِّل بَعْد , إِلَّا أَنْ يَكُون فَصَّلَ بِمَعْنَى يُفَصِّل . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " يُضِلُّونَ " مِنْ أَضَلَّ . يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ قَالُوا : مَا ذَبَحَ اللَّه بِسِكِّينِهِ خَيْر مِمَّا ذَبَحْتُمْ بِسَكَاكِينِكُمْ " بِغَيْرِ عِلْم " أَيْ بِغَيْرِ عِلْم يَعْلَمُونَهُ فِي أَمْر الذَّبْح ; إِذْ الْحِكْمَة فِيهِ إِخْرَاج مَا حَرَّمَهُ اللَّه عَلَيْنَا مِنْ الدَّم بِخِلَافِ مَا مَاتَ حَتْف أَنْفه ; وَلِذَلِكَ شَرَعَ الذَّكَاة فِي مَحَلّ مَخْصُوص لِيَكُونَ الذَّبْح فِيهِ سَبَبًا لِجَذْبِ كُلّ دَم فِي الْحَيَوَان بِخِلَافِ غَيْره مِنْ الْأَعْضَاء . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ بَيَّنَ لَكُمْ الْحَلَال مِنْ الْحَرَام , وَأُزِيلَ عَنْكُمْ اللَّبْس وَالشَّكّ . ف " مَا " اِسْتِفْهَام يَتَضَمَّن التَّقْرِير . وَتَقْدِير الْكَلَام : وَأَيّ شَيْء لَكُمْ فِي أَلَّا تَأْكُلُوا . ف " أَنَّ " فِي مَوْضِع خَفْض بِتَقْدِيرِ حَرْف الْجَرّ . وَيَصِحّ أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى أَلَّا يُقَدَّر حَرْف جَرّ , وَيَكُون النَّاصِب مَعْنَى الْفِعْل الَّذِي فِي قَوْله " مَا لَكُمْ " تَقْدِيره أَيْ مَا يَمْنَعكُمْ . ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ إِلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ " .
يُرِيد مِنْ جَمِيع مَا حَرَّمَ كَالْمَيْتَةِ وَغَيْرهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . وَهُوَ اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع . وَقَرَأَ نَافِع وَيَعْقُوب " وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ " بِفَتْحِ الْفِعْلَيْنِ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن عَامِر وَابْن كَثِير بِالضَّمِّ فِيهِمَا , وَالْكُوفِيُّونَ " فَصَّلَ " بِالْفَتْحِ " حُرِّمَ " بِالضَّمِّ . وَقَرَأَ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ " فَصَلَ " بِالتَّخْفِيفِ . وَمَعْنَاهُ أَبَانَ وَظَهَرَ ; كَمَا قُرِئَ " الر كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاته ثُمَّ فُصِّلَتْ " [ هُود : 1 ] أَيْ اِسْتَبَانَتْ . وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَة قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة . وَقِيلَ : " فَصَّلَ " أَيْ بَيَّنَ , وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَة " الْمَائِدَة " مِنْ قَوْله : " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير " [ الْمَائِدَة : 3 ] الْآيَة . قُلْت : هَذَا فِيهِ نَظَر ; فَإِنَّ " الْأَنْعَام " مَكِّيَّة وَالْمَائِدَة مَدَنِيَّة فَكَيْفَ يُحِيل بِالْبَيَانِ عَلَى مَا لَمْ يُنَزِّل بَعْد , إِلَّا أَنْ يَكُون فَصَّلَ بِمَعْنَى يُفَصِّل . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " يُضِلُّونَ " مِنْ أَضَلَّ . يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ قَالُوا : مَا ذَبَحَ اللَّه بِسِكِّينِهِ خَيْر مِمَّا ذَبَحْتُمْ بِسَكَاكِينِكُمْ " بِغَيْرِ عِلْم " أَيْ بِغَيْرِ عِلْم يَعْلَمُونَهُ فِي أَمْر الذَّبْح ; إِذْ الْحِكْمَة فِيهِ إِخْرَاج مَا حَرَّمَهُ اللَّه عَلَيْنَا مِنْ الدَّم بِخِلَافِ مَا مَاتَ حَتْف أَنْفه ; وَلِذَلِكَ شَرَعَ الذَّكَاة فِي مَحَلّ مَخْصُوص لِيَكُونَ الذَّبْح فِيهِ سَبَبًا لِجَذْبِ كُلّ دَم فِي الْحَيَوَان بِخِلَافِ غَيْره مِنْ الْأَعْضَاء . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ↓
لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَال كَثِيرَة وَحَاصِلهَا رَاجِع إِلَى أَنَّ الظَّاهِر مَا كَانَ عَمَلًا بِالْبَدَنِ مِمَّا نَهَى اللَّه عَنْهُ , وَبَاطِنه مَا عَقَدَ بِالْقَلْبِ مِنْ مُخَالَفَة أَمْر اللَّه فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى ; وَهَذِهِ الْمَرْتَبَة لَا يَبْلُغهَا إِلَّا مَنْ اِتَّقَى وَأَحْسَن ; كَمَا قَالَ : " ثُمَّ اِتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا " [ الْمَائِدَة : 93 ] . وَهِيَ الْمَرْتَبَة الثَّالِثَة حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " .
وَقِيلَ : هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ الزِّنَا الظَّاهِر وَاِتِّخَاذ الْحَلَائِل فِي الْبَاطِن . وَمَا قَدَّمْنَا جَامِع لِكُلِّ إِثْم وَمُوجِب لِكُلِّ أَمْر
وَقِيلَ : هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ الزِّنَا الظَّاهِر وَاِتِّخَاذ الْحَلَائِل فِي الْبَاطِن . وَمَا قَدَّمْنَا جَامِع لِكُلِّ إِثْم وَمُوجِب لِكُلِّ أَمْر