قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ↓
أَيْ تَقَدَّمُوا وَاقْرَءُوا حَقًّا يَقِينًا كَمَا أَوْحَى إِلَيَّ رَبِّي , لَا ظَنًّا وَلَا كَذِبًا كَمَا زَعَمْتُمْ . ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ " أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " يُقَال لِلرَّجُلِ : تَعَالَ , أَيْ تَقَدَّمْ , وَلِلْمَرْأَةِ تَعَالَيْ , وَلِلِاثْنَيْنِ وَالِاثْنَتَيْنِ تَعَالَيَا , وَلِجَمَاعَةِ الرِّجَال تَعَالَوْا , وَلِجَمَاعَةِ النِّسَاء تَعَالَيْنَ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعكُنَّ " [ الْأَحْزَاب : 28 ] . وَجَعَلُوا التَّقَدُّم ضَرْبًا مِنْ التَّعَالِي وَالِارْتِفَاع ; لِأَنَّ الْمَأْمُور بِالتَّقَدُّمِ فِي أَصْل وَضْع هَذَا الْفِعْل كَأَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا فَقِيلَ لَهُ تَعَالَ , أَيْ اِرْفَعْ شَخْصك بِالْقِيَامِ وَتَقَدَّمْ ; وَاتْسَعُوا فِيهِ حَتَّى جَعَلُوهُ لِلْوَاقِفِ وَالْمَاشِي ; قَالَهُ اِبْن الشَّجَرِيّ .
الْوَجْه فِي " مَا " أَنْ تَكُون خَبَرِيَّة فِي مَوْضِع نَصْب ب " أَتْلُ " وَالْمَعْنَى : تَعَالَوْا أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ ; فَإِنْ عَلَّقْت " عَلَيْكُمْ " ب " حَرَّمَ " فَهُوَ الْوَجْه ; لِأَنَّهُ الْأَقْرَب وَهُوَ اِخْتِيَار الْبَصْرِيِّينَ . وَإِنْ عَلَّقْته ب " أَتْلُ " فَجَيِّد لِأَنَّهُ الْأَسْبَق ; وَهُوَ اِخْتِيَار الْكُوفِيِّينَ ; فَالتَّقْدِير فِي هَذَا الْقَوْل أَتْلُ عَلَيْكُمْ الَّذِي حَرَّمَ رَبّكُمْ .
فِي مَوْضِع نَصْب بِتَقْدِيرِ فَعَلَ مِنْ لَفْظ الْأَوَّل , أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا ; أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيم الْإِشْرَاك , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا بِمَا فِي " عَلَيْكُمْ " مِنْ الْإِغْرَاء , وَتَكُون " عَلَيْكُمْ " مُنْقَطِعَة مِمَّا قَبْلهَا ; أَيْ عَلَيْكُمْ تَرْك الْإِشْرَاك , وَعَلَيْكُمْ إِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ , وَأَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ وَأَلَّا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِش . كَمَا تَقُول : عَلَيْك شَأْنك ; أَيْ اِلْزَمْ شَأْنك . وَكَمَا قَالَ : " عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ " [ الْمَائِدَة : 105 ] قَالَ جَمِيعه اِبْن الشَّجَرِيّ . وَقَالَ النَّحَّاس : يَجُوز أَنْ تَكُون " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب بَدَلًا مِنْ " مَا " ; أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيم الْإِشْرَاك . وَاخْتَارَ الْفَرَّاء أَنْ تَكُون " لَا " لِلنَّهْيِ ; لِأَنَّ بَعْده " وَلَا " .
هَذِهِ الْآيَة أَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنْ يَدْعُو جَمِيع الْخَلْق إِلَى سَمَاع تِلَاوَة مَا حَرَّمَ اللَّه . وَهَكَذَا يَجِب عَلَى مَنْ بَعْده مِنْ الْعُلَمَاء أَنْ يُبَلِّغُوا النَّاس وَيُبَيِّنُوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِمَّا حَلَّ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ " [ آل عِمْرَان : 187 ] . وَذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك : أَخْبَرَنَا عِيسَى بْن عُمَر عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ قَالَ : قَالَ رَبِيع بْن خَيْثَم لِجَلِيسٍ لَهُ : أَيَسُرُّك أَنْ تُؤْتَى بِصَحِيفَةٍ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَكّ خَاتَمهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ فَاقْرَأْ " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ " فَقَرَأَ إِلَى آخِر الثَّلَاث الْآيَات . وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار : هَذِهِ الْآيَة مُفْتَتَح التَّوْرَاة : ( بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ ) الْآيَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ الْآيَات الْمُحْكَمَات الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه فِي سُورَة " آل عِمْرَان " أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا شَرَائِع الْخَلْق , وَلَمْ تُنْسَخ قَطُّ فِي مِلَّة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا الْعَشْر كَلِمَات الْمُنَزَّلَة عَلَى مُوسَى .
الْإِحْسَان إِلَى الْوَالِدَيْنِ بِرّهمَا وَحِفْظهمَا وَصِيَانَتهمَا وَامْتِثَال أَمْرهمَا وَإِزَالَة الرِّقّ عَنْهُمَا وَتَرْك السَّلْطَنَة عَلَيْهِمَا . و " إِحْسَانًا " نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , وَنَاصِبه فِعْل مُضْمَر مِنْ لَفْظه ; تَقْدِيره وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .
الْإِمْلَاق الْفَقْر : أَيْ لَا تَئِدُوا - مِنْ الْمَوْءُودَة - بَنَاتكُمْ خَشْيَة الْعَيْلَة , فَإِنِّي رَازِقكُمْ وَإِيَّاهُمْ . وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ بِالْإِنَاثِ وَالذُّكُور خَشْيَة الْفَقْر , كَمَا هُوَ ظَاهِر الْآيَة . أَمْلَقَ أَيْ اِفْتَقَرَ . وَأَمْلَقَهُ أَيْ أَفْقَرَهُ ; فَهُوَ لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ مُؤَرِّج أَنَّهُ قَالَ : الْإِمْلَاق الْجُوع بِلُغَةِ لَخْم . وَذَكَرَ مُنْذِر بْن سَعِيد أَنَّ الْإِمْلَاق الْإِنْفَاق ; يُقَال : أَمْلَقَ مَاله بِمَعْنَى أَنْفَقَهُ . وَذُكِرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَمْلِقِي مِنْ مَالِك مَا شِئْت . وَرَجُل مَلِق يُعْطِي بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبه . فَالْمَلَق لَفْظ مُشْتَرَك يَأْتِي بَيَانه فِي مَوْضِعه .
وَقَدْ يَسْتَدِلّ بِهَذَا مَنْ يَمْنَع الْعَزْل ; لِأَنَّ الْوَأْد يَرْفَع الْمَوْجُود وَالنَّسْل ; وَالْعَزْل مَنْع أَصْل النَّسْل فَتَشَابَهَا ; إِلَّا أَنَّ قَتْل النَّفْس أَعْظَم وِزْرًا وَأَقْبَح فِعْلًا ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : إِنَّهُ يُفْهَم مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْعَزْل : ( ذَلِكَ الْوَأْد الْخَفِيّ ) الْكَرَاهَة لَا التَّحْرِيم وَقَالَ بِهِ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَغَيْرهمْ . وَقَالَ بِإِبَاحَتِهِ أَيْضًا جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَر ) أَيْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح فِي أَلَّا تَفْعَلُوا . وَقَدْ فَهِمَ مِنْهُ الْحَسَن وَمُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى النَّهْي وَالزَّجْر عَنْ الْعَزْل . وَالتَّأْوِيل الْأَوَّل أَوْلَى ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَإِذَا أَرَادَ اللَّه خَلْق شَيْء لَمْ يَمْنَعهُ شَيْء ) . قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز الْعَزْل عَنْ الْحُرَّة إِلَّا بِإِذْنِهَا . وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا الْإِنْزَال مِنْ تَمَام لَذَّاتهَا , وَمِنْ حَقّهَا فِي الْوَلَد , وَلَمْ يَرَوْا ذَلِكَ فِي الْمَوْطُوءَة بِمِلْكِ الْيَمِين , إِذْ لَهُ أَنْ يَعْزِل عَنْهَا بِغَيْرِ إِذْنهَا , إِذْ لَا حَقّ لَهَا فِي شَيْء مِمَّا ذُكِرَ .
نَظِيره " وَذَرُوا ظَاهِر الْإِثْم وَبَاطِنه " [ الْأَنْعَام : 120 ] . فَقَوْله : " مَا ظَهَرَ " نَهْي عَنْ جَمِيع أَنْوَاع الْفَوَاحِش وَهِيَ الْمَعَاصِي . " وَمَا بَطَنَ " مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْقَلْب مِنْ الْمُخَالَفَة . وَظَهَرَ وَبَطَنَ حَالَتَانِ تَسْتَوْفِيَانِ أَقْسَام مَا جُعِلَتْ لَهُ مِنْ الْأَشْيَاء . و " مَا ظَهَرَ " نَصْب عَلَى الْبَدَل مِنْ " الْفَوَاحِش " . " وَمَا بَطَنَ " عَطْف عَلَيْهِ .
الْأَلِف وَاللَّام فِي " النَّفْس " لِتَعْرِيفِ الْجِنْس ; كَقَوْلِهِمْ : أَهْلَكَ النَّاس حُبّ الدِّرْهَم وَالدِّينَار . وَمِثْله " إِنَّ الْإِنْسَان خُلِقَ هَلُوعًا " [ الْمَعَارِج : 19 ] أَلَا تَرَى قَوْله سُبْحَانه : " إِلَّا الْمُصَلِّينَ " ؟ وَكَذَلِكَ قَوْله : " وَالْعَصْر . إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر " [ الْعَصْر : 1 , 2 ] لِأَنَّهُ قَالَ : " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا " وَهَذِهِ الْآيَة نَهْي عَنْ قَتْل النَّفْس الْمُحَرَّمَة , مُؤْمِنَة كَانَتْ أَوْ مُعَاهَدَة إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُوجِب قَتْلهَا . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَقَدْ عَصَمَ مَاله وَنَفْسه إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه ) . وَهَذَا الْحَقّ أُمُور : مِنْهَا مَنْع الزَّكَاة وَتَرْك الصَّلَاة ; وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيق مَانِعِي الزَّكَاة . وَفِي التَّنْزِيل " فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة فَخَلُّوا سَبِيلهمْ " [ التَّوْبَة : 5 ] وَهَذَا بَيِّن . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث الثَّيِّب الزَّانِي وَالنَّفْس بِالنَّفْسِ وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِر مِنْهُمَا ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَل عَمَل قَوْم لُوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ ) . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي " الْأَعْرَاف " . وَفِي التَّنْزِيل : " إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّه وَرَسُوله وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْض فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا " [ الْمَائِدَة : 33 ] الْآيَة . وَقَالَ : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا " [ الْحُجُرَات : 9 ] الْآيَة . وَكَذَلِكَ مَنْ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ وَخَالَفَ إِمَام جَمَاعَتهمْ وَفَرَّقَ كَلِمَتهمْ وَسَعَى فِي الْأَرْض فَسَادًا بِانْتِهَابِ الْأَهْل وَالْمَال وَالْبَغْي عَلَى السُّلْطَان وَالِامْتِنَاع مِنْ حُكْمه يُقْتَل . فَهَذَا مَعْنَى قَوْله : " إِلَّا بِالْحَقِّ " . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ لَا يُقْتَل مُسْلِم بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْد فِي عَهْده وَلَا يَتَوَارَث أَهْل مِلَّتَيْنِ ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنْ أَبِي بَكْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْر كُنْهه حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الْجَنَّة ) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لِأَبِي دَاوُد قَالَ : ( مَنْ قَتَلَ رَجُل مِنْ أَهْل الذِّمَّة لَمْ يَجِد رِيح الْجَنَّة وَإِنَّ رِيحهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَة سَبْعِينَ عَامًا ) . فِي الْبُخَارِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث ( وَإِنَّ رِيحهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَة أَرْبَعِينَ عَامًا ) . خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ .
إِشَارَة إِلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَات . وَالْكَاف وَالْمِيم لَلْخِطَاب , وَلَا حَظّ لَهُمَا مِنْ الْإِعْرَاب .
الْوَصِيَّة الْأَمْر الْمُؤَكَّد الْمَقْدُور . وَالْكَاف وَالْمِيم مَحِلّه النَّصْب ; لِأَنَّهُ ضَمِير مَوْضُوع لِلْمُخَاطَبَةِ . وَفِي وَصَّى ضَمِير فَاعِل يَعُود عَلَى اللَّه . وَرَوَى مَطَر الْوَرَّاق عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ : عَلَامَ تَقْتُلُونِي ! فَإِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث رَجُل زَنَى بَعْد حَصَانَة فَعَلَيْهِ الرَّجْم أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَد أَوْ اِرْتَدَّ بَعْد إِسْلَامه فَعَلَيْهِ الْقَتْل ) فَوَاَللَّهِ مَا زَنَيْت فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام , وَلَا قَتَلْت أَحَدًا فَأُقَيِّد نَفْسِي بِهِ , وَلَا اِرْتَدَدْت مُنْذُ أَسْلَمْت , إِنِّي أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله , ذَلِكُمْ الَّذِي ذَكَرْت لَكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ !
الْوَجْه فِي " مَا " أَنْ تَكُون خَبَرِيَّة فِي مَوْضِع نَصْب ب " أَتْلُ " وَالْمَعْنَى : تَعَالَوْا أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ ; فَإِنْ عَلَّقْت " عَلَيْكُمْ " ب " حَرَّمَ " فَهُوَ الْوَجْه ; لِأَنَّهُ الْأَقْرَب وَهُوَ اِخْتِيَار الْبَصْرِيِّينَ . وَإِنْ عَلَّقْته ب " أَتْلُ " فَجَيِّد لِأَنَّهُ الْأَسْبَق ; وَهُوَ اِخْتِيَار الْكُوفِيِّينَ ; فَالتَّقْدِير فِي هَذَا الْقَوْل أَتْلُ عَلَيْكُمْ الَّذِي حَرَّمَ رَبّكُمْ .
فِي مَوْضِع نَصْب بِتَقْدِيرِ فَعَلَ مِنْ لَفْظ الْأَوَّل , أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا ; أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيم الْإِشْرَاك , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا بِمَا فِي " عَلَيْكُمْ " مِنْ الْإِغْرَاء , وَتَكُون " عَلَيْكُمْ " مُنْقَطِعَة مِمَّا قَبْلهَا ; أَيْ عَلَيْكُمْ تَرْك الْإِشْرَاك , وَعَلَيْكُمْ إِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ , وَأَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ وَأَلَّا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِش . كَمَا تَقُول : عَلَيْك شَأْنك ; أَيْ اِلْزَمْ شَأْنك . وَكَمَا قَالَ : " عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ " [ الْمَائِدَة : 105 ] قَالَ جَمِيعه اِبْن الشَّجَرِيّ . وَقَالَ النَّحَّاس : يَجُوز أَنْ تَكُون " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب بَدَلًا مِنْ " مَا " ; أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيم الْإِشْرَاك . وَاخْتَارَ الْفَرَّاء أَنْ تَكُون " لَا " لِلنَّهْيِ ; لِأَنَّ بَعْده " وَلَا " .
هَذِهِ الْآيَة أَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنْ يَدْعُو جَمِيع الْخَلْق إِلَى سَمَاع تِلَاوَة مَا حَرَّمَ اللَّه . وَهَكَذَا يَجِب عَلَى مَنْ بَعْده مِنْ الْعُلَمَاء أَنْ يُبَلِّغُوا النَّاس وَيُبَيِّنُوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِمَّا حَلَّ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ " [ آل عِمْرَان : 187 ] . وَذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك : أَخْبَرَنَا عِيسَى بْن عُمَر عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ قَالَ : قَالَ رَبِيع بْن خَيْثَم لِجَلِيسٍ لَهُ : أَيَسُرُّك أَنْ تُؤْتَى بِصَحِيفَةٍ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَكّ خَاتَمهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ فَاقْرَأْ " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ " فَقَرَأَ إِلَى آخِر الثَّلَاث الْآيَات . وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار : هَذِهِ الْآيَة مُفْتَتَح التَّوْرَاة : ( بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ ) الْآيَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ الْآيَات الْمُحْكَمَات الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه فِي سُورَة " آل عِمْرَان " أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا شَرَائِع الْخَلْق , وَلَمْ تُنْسَخ قَطُّ فِي مِلَّة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا الْعَشْر كَلِمَات الْمُنَزَّلَة عَلَى مُوسَى .
الْإِحْسَان إِلَى الْوَالِدَيْنِ بِرّهمَا وَحِفْظهمَا وَصِيَانَتهمَا وَامْتِثَال أَمْرهمَا وَإِزَالَة الرِّقّ عَنْهُمَا وَتَرْك السَّلْطَنَة عَلَيْهِمَا . و " إِحْسَانًا " نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , وَنَاصِبه فِعْل مُضْمَر مِنْ لَفْظه ; تَقْدِيره وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .
الْإِمْلَاق الْفَقْر : أَيْ لَا تَئِدُوا - مِنْ الْمَوْءُودَة - بَنَاتكُمْ خَشْيَة الْعَيْلَة , فَإِنِّي رَازِقكُمْ وَإِيَّاهُمْ . وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ بِالْإِنَاثِ وَالذُّكُور خَشْيَة الْفَقْر , كَمَا هُوَ ظَاهِر الْآيَة . أَمْلَقَ أَيْ اِفْتَقَرَ . وَأَمْلَقَهُ أَيْ أَفْقَرَهُ ; فَهُوَ لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ مُؤَرِّج أَنَّهُ قَالَ : الْإِمْلَاق الْجُوع بِلُغَةِ لَخْم . وَذَكَرَ مُنْذِر بْن سَعِيد أَنَّ الْإِمْلَاق الْإِنْفَاق ; يُقَال : أَمْلَقَ مَاله بِمَعْنَى أَنْفَقَهُ . وَذُكِرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَمْلِقِي مِنْ مَالِك مَا شِئْت . وَرَجُل مَلِق يُعْطِي بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبه . فَالْمَلَق لَفْظ مُشْتَرَك يَأْتِي بَيَانه فِي مَوْضِعه .
وَقَدْ يَسْتَدِلّ بِهَذَا مَنْ يَمْنَع الْعَزْل ; لِأَنَّ الْوَأْد يَرْفَع الْمَوْجُود وَالنَّسْل ; وَالْعَزْل مَنْع أَصْل النَّسْل فَتَشَابَهَا ; إِلَّا أَنَّ قَتْل النَّفْس أَعْظَم وِزْرًا وَأَقْبَح فِعْلًا ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : إِنَّهُ يُفْهَم مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْعَزْل : ( ذَلِكَ الْوَأْد الْخَفِيّ ) الْكَرَاهَة لَا التَّحْرِيم وَقَالَ بِهِ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَغَيْرهمْ . وَقَالَ بِإِبَاحَتِهِ أَيْضًا جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَر ) أَيْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح فِي أَلَّا تَفْعَلُوا . وَقَدْ فَهِمَ مِنْهُ الْحَسَن وَمُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى النَّهْي وَالزَّجْر عَنْ الْعَزْل . وَالتَّأْوِيل الْأَوَّل أَوْلَى ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَإِذَا أَرَادَ اللَّه خَلْق شَيْء لَمْ يَمْنَعهُ شَيْء ) . قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز الْعَزْل عَنْ الْحُرَّة إِلَّا بِإِذْنِهَا . وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا الْإِنْزَال مِنْ تَمَام لَذَّاتهَا , وَمِنْ حَقّهَا فِي الْوَلَد , وَلَمْ يَرَوْا ذَلِكَ فِي الْمَوْطُوءَة بِمِلْكِ الْيَمِين , إِذْ لَهُ أَنْ يَعْزِل عَنْهَا بِغَيْرِ إِذْنهَا , إِذْ لَا حَقّ لَهَا فِي شَيْء مِمَّا ذُكِرَ .
نَظِيره " وَذَرُوا ظَاهِر الْإِثْم وَبَاطِنه " [ الْأَنْعَام : 120 ] . فَقَوْله : " مَا ظَهَرَ " نَهْي عَنْ جَمِيع أَنْوَاع الْفَوَاحِش وَهِيَ الْمَعَاصِي . " وَمَا بَطَنَ " مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْقَلْب مِنْ الْمُخَالَفَة . وَظَهَرَ وَبَطَنَ حَالَتَانِ تَسْتَوْفِيَانِ أَقْسَام مَا جُعِلَتْ لَهُ مِنْ الْأَشْيَاء . و " مَا ظَهَرَ " نَصْب عَلَى الْبَدَل مِنْ " الْفَوَاحِش " . " وَمَا بَطَنَ " عَطْف عَلَيْهِ .
الْأَلِف وَاللَّام فِي " النَّفْس " لِتَعْرِيفِ الْجِنْس ; كَقَوْلِهِمْ : أَهْلَكَ النَّاس حُبّ الدِّرْهَم وَالدِّينَار . وَمِثْله " إِنَّ الْإِنْسَان خُلِقَ هَلُوعًا " [ الْمَعَارِج : 19 ] أَلَا تَرَى قَوْله سُبْحَانه : " إِلَّا الْمُصَلِّينَ " ؟ وَكَذَلِكَ قَوْله : " وَالْعَصْر . إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر " [ الْعَصْر : 1 , 2 ] لِأَنَّهُ قَالَ : " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا " وَهَذِهِ الْآيَة نَهْي عَنْ قَتْل النَّفْس الْمُحَرَّمَة , مُؤْمِنَة كَانَتْ أَوْ مُعَاهَدَة إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُوجِب قَتْلهَا . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَقَدْ عَصَمَ مَاله وَنَفْسه إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه ) . وَهَذَا الْحَقّ أُمُور : مِنْهَا مَنْع الزَّكَاة وَتَرْك الصَّلَاة ; وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيق مَانِعِي الزَّكَاة . وَفِي التَّنْزِيل " فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة فَخَلُّوا سَبِيلهمْ " [ التَّوْبَة : 5 ] وَهَذَا بَيِّن . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث الثَّيِّب الزَّانِي وَالنَّفْس بِالنَّفْسِ وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِر مِنْهُمَا ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَل عَمَل قَوْم لُوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ ) . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي " الْأَعْرَاف " . وَفِي التَّنْزِيل : " إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّه وَرَسُوله وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْض فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا " [ الْمَائِدَة : 33 ] الْآيَة . وَقَالَ : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا " [ الْحُجُرَات : 9 ] الْآيَة . وَكَذَلِكَ مَنْ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ وَخَالَفَ إِمَام جَمَاعَتهمْ وَفَرَّقَ كَلِمَتهمْ وَسَعَى فِي الْأَرْض فَسَادًا بِانْتِهَابِ الْأَهْل وَالْمَال وَالْبَغْي عَلَى السُّلْطَان وَالِامْتِنَاع مِنْ حُكْمه يُقْتَل . فَهَذَا مَعْنَى قَوْله : " إِلَّا بِالْحَقِّ " . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ لَا يُقْتَل مُسْلِم بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْد فِي عَهْده وَلَا يَتَوَارَث أَهْل مِلَّتَيْنِ ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنْ أَبِي بَكْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْر كُنْهه حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الْجَنَّة ) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لِأَبِي دَاوُد قَالَ : ( مَنْ قَتَلَ رَجُل مِنْ أَهْل الذِّمَّة لَمْ يَجِد رِيح الْجَنَّة وَإِنَّ رِيحهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَة سَبْعِينَ عَامًا ) . فِي الْبُخَارِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث ( وَإِنَّ رِيحهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَة أَرْبَعِينَ عَامًا ) . خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ .
إِشَارَة إِلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَات . وَالْكَاف وَالْمِيم لَلْخِطَاب , وَلَا حَظّ لَهُمَا مِنْ الْإِعْرَاب .
الْوَصِيَّة الْأَمْر الْمُؤَكَّد الْمَقْدُور . وَالْكَاف وَالْمِيم مَحِلّه النَّصْب ; لِأَنَّهُ ضَمِير مَوْضُوع لِلْمُخَاطَبَةِ . وَفِي وَصَّى ضَمِير فَاعِل يَعُود عَلَى اللَّه . وَرَوَى مَطَر الْوَرَّاق عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ : عَلَامَ تَقْتُلُونِي ! فَإِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث رَجُل زَنَى بَعْد حَصَانَة فَعَلَيْهِ الرَّجْم أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَد أَوْ اِرْتَدَّ بَعْد إِسْلَامه فَعَلَيْهِ الْقَتْل ) فَوَاَللَّهِ مَا زَنَيْت فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام , وَلَا قَتَلْت أَحَدًا فَأُقَيِّد نَفْسِي بِهِ , وَلَا اِرْتَدَدْت مُنْذُ أَسْلَمْت , إِنِّي أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله , ذَلِكُمْ الَّذِي ذَكَرْت لَكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ !
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ↓
أَيْ بِمَا فِيهِ صَلَاحه وَتَثْمِيره , وَذَلِكَ بِحِفْظِ أُصُوله وَتَثْمِير فُرُوعه . وَهَذَا أَحْسَن الْأَقْوَال فِي هَذَا ; فَإِنَّهُ جَامِع . قَالَ مُجَاهِد : " وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن " بِالتِّجَارَةِ فِيهِ , وَلَا تَشْتَرِي مِنْهُ وَلَا تَسْتَقْرِض .
يَعْنِي قُوَّته , وَقَدْ تَكُون فِي الْبَدَن , وَقَدْ تَكُون فِي الْمَعْرِفَة بِالتَّجْرِبَةِ , وَلَا بُدّ مِنْ حُصُول الْوَجْهَيْنِ ; فَإِنَّ الْأَشَدّ وَقَعَتْ هُنَا مُطْلَقَة وَقَدْ جَاءَ بَيَان حَال الْيَتِيم فِي سُورَة " النِّسَاء " مُقَيَّدَة , فَقَالَ : " وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا " [ النِّسَاء : 6 ] فَجَمَعَ بَيْن قُوَّة الْبَدَن وَهُوَ بُلُوغ النِّكَاح , وَبَيْن قُوَّة الْمَعْرِفَة وَهُوَ إِينَاس الرُّشْد ; فَلَوْ مُكِّنَ الْيَتِيم مِنْ مَاله قَبْل حُصُول الْمَعْرِفَة وَبَعْد حُصُول الْقُوَّة لَأَذْهَبَهُ فِي شَهْوَته وَبَقِيَ صُعْلُوكًا لَا مَال لَهُ . وَخَصَّ الْيَتِيم بِهَذَا الشَّرْط لِغَفْلَةِ النَّاس عَنْهُ وَافْتِقَاد الْآبَاء لِأَبْنَائِهِمْ فَكَانَ الِاهْتِبَال بِفَقِيدِ الْأَب أَوْلَى . وَلَيْسَ بُلُوغ الْأَشُدّ مِمَّا يُبِيح قُرْب مَاله بِغَيْرِ الْأَحْسَن ; لِأَنَّ الْحُرْمَة فِي حَقّ الْبَالِغ ثَابِتَة . وَخَصَّ الْيَتِيم بِالذِّكْرِ لِأَنَّ خَصْمه اللَّه . وَالْمَعْنَى : وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن عَلَى الْأَبَد حَتَّى يَبْلُغ أَشُدّهُ . وَفِي الْكَلَام حَذْف ; فَإِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَأُونِسَ مِنْهُ الرُّشْد فَادْفَعُوا إِلَيْهِ مَاله . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَشُدّ الْيَتِيم ; فَقَالَ اِبْن زَيْد : بُلُوغه . وَقَالَ أَهْل الْمَدِينَة . بُلُوغه وَإِينَاس رُشْده . وَعِنْد أَبِي حَنِيفَة : خَمْس وَعِشْرُونَ سَنَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَعَجَبًا مِنْ أَبِي حَنِيفَة , فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمُقَدَّرَات لَا تَثْبُت قِيَاسًا وَلَا نَظَرًا وَإِنَّمَا تَثْبُت نَقْلًا , وَهُوَ يُثْبِتهَا بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَة , وَلَكِنَّهُ سَكَنَ دَار الضَّرْب فَكَثُرَ عِنْده الْمُدَلِّس , وَلَوْ سَكَنَ الْمَعْدِن كَمَا قَيَّضَ اللَّه لِمَالِك لِمَا صَدَرَ عَنْهُ إِلَّا إِبْرِيز الدِّين . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ اِنْتِهَاء الْكُهُولَة فِيهَا مُجْتَمَع الْأَشُدّ ; كَمَا قَالَ سُحَيْم بْن وَثِيل : أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِع أَشُدِّي وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَة الشُّؤُون يُرْوَى " نَجَّدَنِي " بِالدَّالِ وَالذَّال . وَالْأَشُدّ وَاحِد لَا جَمْع لَهُ ; بِمَنْزِلَةِ الْآنُك وَهُوَ الرَّصَاص . وَقَدْ قِيلَ : وَاحِده شَدّ ; كَفَلْسٍ وَأَفْلُس . وَأَصْله مِنْ شَدَّ النَّهَار أَيْ اِرْتَفَعَ ; يُقَال : أَتَيْته شَدَّ النَّهَار وَمَدَّ النَّهَار . وَكَانَ مُحَمَّد بْن الضَّبِّيّ يَنْشُد بَيْت عَنْتَرَة : عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَار كَأَنَّمَا خُضِبَ اللَّبَّان وَرَأْسه بْالْعِظْلِمِ وَقَالَ آخَر : تُطِيف بِهِ شَدَّ النَّهَار ظَعِينَة طَوِيلَة أَنْقَاء الْيَدَيْنِ سَحُوق وَكَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُول : وَاحِده شِدَّة . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَهُوَ حَسَن فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يُقَال : بَلَغَ الْغُلَام شِدَّته , وَلَكِنْ لَا تُجْمَع فِعْلَة عَلَى أَفْعُل , وَأَمَّا أَنْعُم فَإِنَّمَا هُوَ جَمْع نُعْم ; مِنْ قَوْلهمْ : يَوْم بُؤْس وَيَوْم نُعْم . وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ : وَاحِده شَدّ ; مِثْل كَلْب وَأَكْلُب , وَشِدّ مِثْل ذِئْب وَأَذْؤُب فَإِنَّمَا هُوَ قِيَاس . كَمَا يَقُولُونَ فِي وَاحِد الْأَبَابِيل : إِبَّوْل , قِيَاسًا عَلَى عِجَّوْل , وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا سُمِعَ مِنْ الْعَرَب . قَالَ أَبُو زَيْد : أَصَابَتْنِي شُدَّى عَلَى فُعْلَى ; أَيْ شِدَّة . وَأَشَدَّ الرَّجُل إِذَا كَانَتْ مَعَهُ دَابَّة شَدِيدَة .
أَيْ بِالِاعْتِدَالِ فِي الْأَخْذ وَالْعَطَاء عِنْد الْبَيْع وَالشِّرَاء . وَالْقِسْط : الْعَدْل .
أَيْ طَاقَتهَا فِي إِيفَاء الْكَيْل وَالْوَزْن . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْأَوَامِر إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يَقَع تَحْت قُدْرَة الْبَشَر مِنْ التَّحَفُّظ وَالتَّحَرُّر . وَمَا لَا يُمْكِن الِاحْتِرَاز عَنْهُ مِنْ تَفَاوُت مَا بَيْن الْكَيْلَيْنِ , وَلَا يَدْخُل تَحْت قُدْرَة الْبَشَر فَمَعْفُوّ عَنْهُ . وَقِيلَ : الْكَيْل بِمَعْنَى الْمِكْيَال . يُقَال : هَذَا كَذَا وَكَذَا كَيْلًا ; وَلِهَذَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْمِيزَانِ . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَمَّا عَلِمَ اللَّه سُبْحَانه مِنْ عِبَاده أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَضِيق نَفْسه عَنْ أَنْ تَطِيب لِلْغَيْرِ بِمَا لَا يَجِب عَلَيْهَا لَهُ أَمَرَ الْمُعْطِي بِإِيفَاءِ رَبّ الْحَقّ حَقّه الَّذِي هُوَ لَهُ , وَلَمْ يُكَلِّفهُ الزِّيَادَة ; لِمَا فِي الزِّيَادَة عَلَيْهِ مِنْ ضِيق نَفْسه بِهَا . وَأَمَرَ صَاحِب الْحَقّ بِأَخْذِ حَقّه وَلَمْ يُكَلِّفهُ الرِّضَا بِأَقَلّ مِنْهُ ; لِمَا فِي النُّقْصَان مِنْ ضِيق نَفْسه . وَفِي مُوَطَّإِ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : مَا ظَهَرَ الْغُلُول فِي قَوْم قَطُّ إِلَّا أَلْقَى اللَّه فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب , وَلَا فَشَا الزِّنَى فِي قَوْم إِلَّا كَثُرَ فِيهِمْ الْمَوْت , وَلَا نَقَصَ قَوْم الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِلَّا قُطِعَ عَنْهُمْ الرِّزْق , وَلَا حَكَمَ قَوْم بِغَيْرِ الْحَقّ إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الدَّم , وَلَا خَتَرَ قَوْم بِالْعَهْدِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْعَدُوّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : إِنَّكُمْ مَعْشَر الْأَعَاجِم قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ الْكَيْل وَالْمِيزَان .
يَتَضَمَّن الْأَحْكَام وَالشَّهَادَات .
أَيْ وَلَوْ كَانَ الْحَقّ عَلَى مِثْل قَرَابَاتكُمْ . كَمَا تَقَدَّمَ فِي " النِّسَاء " .
عَامّ فِي جَمِيع مَا عَهِدَهُ اللَّه إِلَى عِبَاده . وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِهِ جَمِيع مَا اِنْعَقَدَ بَيْن إِنْسَانَيْنِ . وَأُضِيفَ ذَلِكَ الْعَهْد إِلَى اللَّه مِنْ حَيْثُ أُمِرَ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاء بِهِ .
تَتَّعِظُونَ .
يَعْنِي قُوَّته , وَقَدْ تَكُون فِي الْبَدَن , وَقَدْ تَكُون فِي الْمَعْرِفَة بِالتَّجْرِبَةِ , وَلَا بُدّ مِنْ حُصُول الْوَجْهَيْنِ ; فَإِنَّ الْأَشَدّ وَقَعَتْ هُنَا مُطْلَقَة وَقَدْ جَاءَ بَيَان حَال الْيَتِيم فِي سُورَة " النِّسَاء " مُقَيَّدَة , فَقَالَ : " وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا " [ النِّسَاء : 6 ] فَجَمَعَ بَيْن قُوَّة الْبَدَن وَهُوَ بُلُوغ النِّكَاح , وَبَيْن قُوَّة الْمَعْرِفَة وَهُوَ إِينَاس الرُّشْد ; فَلَوْ مُكِّنَ الْيَتِيم مِنْ مَاله قَبْل حُصُول الْمَعْرِفَة وَبَعْد حُصُول الْقُوَّة لَأَذْهَبَهُ فِي شَهْوَته وَبَقِيَ صُعْلُوكًا لَا مَال لَهُ . وَخَصَّ الْيَتِيم بِهَذَا الشَّرْط لِغَفْلَةِ النَّاس عَنْهُ وَافْتِقَاد الْآبَاء لِأَبْنَائِهِمْ فَكَانَ الِاهْتِبَال بِفَقِيدِ الْأَب أَوْلَى . وَلَيْسَ بُلُوغ الْأَشُدّ مِمَّا يُبِيح قُرْب مَاله بِغَيْرِ الْأَحْسَن ; لِأَنَّ الْحُرْمَة فِي حَقّ الْبَالِغ ثَابِتَة . وَخَصَّ الْيَتِيم بِالذِّكْرِ لِأَنَّ خَصْمه اللَّه . وَالْمَعْنَى : وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن عَلَى الْأَبَد حَتَّى يَبْلُغ أَشُدّهُ . وَفِي الْكَلَام حَذْف ; فَإِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَأُونِسَ مِنْهُ الرُّشْد فَادْفَعُوا إِلَيْهِ مَاله . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَشُدّ الْيَتِيم ; فَقَالَ اِبْن زَيْد : بُلُوغه . وَقَالَ أَهْل الْمَدِينَة . بُلُوغه وَإِينَاس رُشْده . وَعِنْد أَبِي حَنِيفَة : خَمْس وَعِشْرُونَ سَنَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَعَجَبًا مِنْ أَبِي حَنِيفَة , فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمُقَدَّرَات لَا تَثْبُت قِيَاسًا وَلَا نَظَرًا وَإِنَّمَا تَثْبُت نَقْلًا , وَهُوَ يُثْبِتهَا بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَة , وَلَكِنَّهُ سَكَنَ دَار الضَّرْب فَكَثُرَ عِنْده الْمُدَلِّس , وَلَوْ سَكَنَ الْمَعْدِن كَمَا قَيَّضَ اللَّه لِمَالِك لِمَا صَدَرَ عَنْهُ إِلَّا إِبْرِيز الدِّين . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ اِنْتِهَاء الْكُهُولَة فِيهَا مُجْتَمَع الْأَشُدّ ; كَمَا قَالَ سُحَيْم بْن وَثِيل : أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِع أَشُدِّي وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَة الشُّؤُون يُرْوَى " نَجَّدَنِي " بِالدَّالِ وَالذَّال . وَالْأَشُدّ وَاحِد لَا جَمْع لَهُ ; بِمَنْزِلَةِ الْآنُك وَهُوَ الرَّصَاص . وَقَدْ قِيلَ : وَاحِده شَدّ ; كَفَلْسٍ وَأَفْلُس . وَأَصْله مِنْ شَدَّ النَّهَار أَيْ اِرْتَفَعَ ; يُقَال : أَتَيْته شَدَّ النَّهَار وَمَدَّ النَّهَار . وَكَانَ مُحَمَّد بْن الضَّبِّيّ يَنْشُد بَيْت عَنْتَرَة : عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَار كَأَنَّمَا خُضِبَ اللَّبَّان وَرَأْسه بْالْعِظْلِمِ وَقَالَ آخَر : تُطِيف بِهِ شَدَّ النَّهَار ظَعِينَة طَوِيلَة أَنْقَاء الْيَدَيْنِ سَحُوق وَكَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُول : وَاحِده شِدَّة . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَهُوَ حَسَن فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يُقَال : بَلَغَ الْغُلَام شِدَّته , وَلَكِنْ لَا تُجْمَع فِعْلَة عَلَى أَفْعُل , وَأَمَّا أَنْعُم فَإِنَّمَا هُوَ جَمْع نُعْم ; مِنْ قَوْلهمْ : يَوْم بُؤْس وَيَوْم نُعْم . وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ : وَاحِده شَدّ ; مِثْل كَلْب وَأَكْلُب , وَشِدّ مِثْل ذِئْب وَأَذْؤُب فَإِنَّمَا هُوَ قِيَاس . كَمَا يَقُولُونَ فِي وَاحِد الْأَبَابِيل : إِبَّوْل , قِيَاسًا عَلَى عِجَّوْل , وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا سُمِعَ مِنْ الْعَرَب . قَالَ أَبُو زَيْد : أَصَابَتْنِي شُدَّى عَلَى فُعْلَى ; أَيْ شِدَّة . وَأَشَدَّ الرَّجُل إِذَا كَانَتْ مَعَهُ دَابَّة شَدِيدَة .
أَيْ بِالِاعْتِدَالِ فِي الْأَخْذ وَالْعَطَاء عِنْد الْبَيْع وَالشِّرَاء . وَالْقِسْط : الْعَدْل .
أَيْ طَاقَتهَا فِي إِيفَاء الْكَيْل وَالْوَزْن . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْأَوَامِر إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يَقَع تَحْت قُدْرَة الْبَشَر مِنْ التَّحَفُّظ وَالتَّحَرُّر . وَمَا لَا يُمْكِن الِاحْتِرَاز عَنْهُ مِنْ تَفَاوُت مَا بَيْن الْكَيْلَيْنِ , وَلَا يَدْخُل تَحْت قُدْرَة الْبَشَر فَمَعْفُوّ عَنْهُ . وَقِيلَ : الْكَيْل بِمَعْنَى الْمِكْيَال . يُقَال : هَذَا كَذَا وَكَذَا كَيْلًا ; وَلِهَذَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْمِيزَانِ . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَمَّا عَلِمَ اللَّه سُبْحَانه مِنْ عِبَاده أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَضِيق نَفْسه عَنْ أَنْ تَطِيب لِلْغَيْرِ بِمَا لَا يَجِب عَلَيْهَا لَهُ أَمَرَ الْمُعْطِي بِإِيفَاءِ رَبّ الْحَقّ حَقّه الَّذِي هُوَ لَهُ , وَلَمْ يُكَلِّفهُ الزِّيَادَة ; لِمَا فِي الزِّيَادَة عَلَيْهِ مِنْ ضِيق نَفْسه بِهَا . وَأَمَرَ صَاحِب الْحَقّ بِأَخْذِ حَقّه وَلَمْ يُكَلِّفهُ الرِّضَا بِأَقَلّ مِنْهُ ; لِمَا فِي النُّقْصَان مِنْ ضِيق نَفْسه . وَفِي مُوَطَّإِ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : مَا ظَهَرَ الْغُلُول فِي قَوْم قَطُّ إِلَّا أَلْقَى اللَّه فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب , وَلَا فَشَا الزِّنَى فِي قَوْم إِلَّا كَثُرَ فِيهِمْ الْمَوْت , وَلَا نَقَصَ قَوْم الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِلَّا قُطِعَ عَنْهُمْ الرِّزْق , وَلَا حَكَمَ قَوْم بِغَيْرِ الْحَقّ إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الدَّم , وَلَا خَتَرَ قَوْم بِالْعَهْدِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْعَدُوّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : إِنَّكُمْ مَعْشَر الْأَعَاجِم قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ الْكَيْل وَالْمِيزَان .
يَتَضَمَّن الْأَحْكَام وَالشَّهَادَات .
أَيْ وَلَوْ كَانَ الْحَقّ عَلَى مِثْل قَرَابَاتكُمْ . كَمَا تَقَدَّمَ فِي " النِّسَاء " .
عَامّ فِي جَمِيع مَا عَهِدَهُ اللَّه إِلَى عِبَاده . وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِهِ جَمِيع مَا اِنْعَقَدَ بَيْن إِنْسَانَيْنِ . وَأُضِيفَ ذَلِكَ الْعَهْد إِلَى اللَّه مِنْ حَيْثُ أُمِرَ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاء بِهِ .
تَتَّعِظُونَ .
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ↓
هَذِهِ آيَة عَظِيمَة عَطْفهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى وَأَمَرَ حَذَّرَ هُنَا عَنْ اِتِّبَاع غَيْر سَبِيله , فَأَمَرَ فِيهَا بِاتِّبَاعِ طَرِيقه عَلَى مَا نُبَيِّنهُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة وَأَقَاوِيل السَّلَف . " وَأَنَّ " فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ وَاتْلُ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي . عَنْ الْفَرَّاء وَالْكِسَائِيّ . قَالَ الْفَرَّاء : وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَفْضًا , أَيْ وَصَّاكُمْ بِهِ وَبِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي . وَتَقْدِيرهَا عِنْد الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : وَلِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي ; كَمَا قَالَ : " وَأَنَّ الْمَسَاجِد لِلَّهِ " [ الْجِنّ : 18 ] وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " وَإِنَّ هَذَا " بِكَسْرِ الْهَمْزَة عَلَى الِاسْتِئْنَاف ; أَيْ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَات صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب " وَأَنْ هَذَا " بِالتَّخْفِيفِ . وَالْمُخَفَّفَة مِثْل الْمُشَدَّدَة , إِلَّا أَنَّ فِيهِ ضَمِير الْقِصَّة وَالشَّان ; أَيْ وَأَنَّهُ هَذَا . فَهِيَ فِي مَوْضِع رَفْع . وَيَجُوز النَّصْب . وَيَجُوز أَنْ تَكُون زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِير " [ يُوسُف : 96 ] . وَالصِّرَاط : الطَّرِيق الَّذِي هُوَ دِين الْإِسْلَام . " مُسْتَقِيمًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال , وَمَعْنَاهُ مُسْتَوِيًا قَوِيمًا لَا اِعْوِجَاج فِيهِ . فَأُمِرَ بِاتِّبَاعِ طَرِيقه الَّذِي طَرَقَهُ عَلَى لِسَان نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَعَهُ وَنِهَايَته الْجَنَّة . وَتَشَعَّبَتْ مِنْهُ طُرُق فَمَنْ سَلَكَ الْجَادَّة نَجَا , وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تِلْكَ الطُّرُق أَفْضَتْ بِهِ إِلَى النَّار .
أَيْ تَمِيل . رَوَى الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده بِإِسْنَادٍ صَحِيح : أَخْبَرَنَا عَفَّان حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد حَدَّثَنَا عَاصِم بْن بَهْدَلَة عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : خَطَّ لَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا , ثُمَّ قَالَ : ( هَذَا سَبِيل اللَّه ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينه وَخُطُوطًا عَنْ يَسَاره ثُمَّ قَالَ ( هَذِهِ سُبُل عَلَى كُلّ سَبِيل مِنْهَا شَيْطَان يَدْعُو إِلَيْهَا ) ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة . وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : كُنَّا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَّ خَطًّا , وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينه , وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَاره , ثُمَّ وَضَعَ يَده فِي الْخَطّ الْأَوْسَط فَقَالَ : ( هَذَا سَبِيل اللَّه - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة - " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيله " . وَهَذِهِ السُّبُل تَعُمّ الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَالْمَجُوسِيَّة وَسَائِر أَهْل الْمِلَل وَأَهْل الْبِدَع وَالضَّلَالَات مِنْ أَهْل الْأَهْوَاء وَالشُّذُوذ فِي الْفُرُوع , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَهْل التَّعَمُّق فِي الْجَدَل وَالْخَوْض فِي الْكَلَام . هَذِهِ كُلّهَا عُرْضَة لِلزَّلَلِ , وَمَظِنَّة لِسُوءِ الْمُعْتَقَد ; قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة . قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح . ذَكَرَ الطَّبَرِيّ فِي كِتَاب آدَاب النُّفُوس : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن ثَوْر عَنْ مَعْمَر عَنْ أَبَان أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ مَسْعُود : مَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم ؟ قَالَ : تَرَكَنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفه فِي الْجَنَّة , وَعَنْ يَمِينه جَوَاد وَعَنْ يَسَاره جَوَاد , وَثَمَّ رِجَال يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ فَمَنْ أَخَذَ فِي تِلْكَ الْجَوَاد اِنْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّار , وَمَنْ أَخَذَ عَلَى الصِّرَاط اِنْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّة , ثُمَّ قَرَأَ اِبْن مَسْعُود : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا " الْآيَة . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : تَعْلَمُوا الْعِلْم قَبْل أَنْ يُقْبَض , وَقَبْضه أَنْ يَذْهَب أَهْله , أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّع وَالتَّعَمُّق وَالْبِدَع , وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ . أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيّ . وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله : " وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل " قَالَ : الْبِدَع . قَالَ اِبْن شِهَاب : وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينهمْ وَكَانُوا شِيَعًا " [ الْأَنْعَام : 159 ] الْآيَة . فَالْهَرَب الْهَرَب , وَالنَّجَاة النَّجَاة ! وَالتَّمَسُّك بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيم وَالسُّنَن الْقَوِيم , الَّذِي سَلَكَهُ السَّلَف الصَّالِح , وَفِيهِ الْمَتْجَر الرَّابِح . رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره عَنْ الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة قَالَ : وَعَظَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَة ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُون ; وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوب ; فَقُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَة مُوَدِّع , فَمَا تَعْهَد إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ : ( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاء لَيْلهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِك مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اِخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّة الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُور الْمُحْدَثَات فَإِنَّ كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنَّ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّمَا الْمُؤْمِن كَالْجَمَلِ الْأَنِف حَيْثُمَا قِيدَ اِنْقَادَ ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ بِمَعْنَاهُ وَصَحَّحَهُ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن كَثِير قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَان قَالَ : كَتَبَ رَجُل إِلَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز يَسْأَلهُ عَنْ الْقَدَر ; فَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَمَّا بَعْد , فَإِنِّي أُوصِيك بِتَقْوَى اللَّه وَالِاقْتِصَاد فِي أَمْره وَاتِّبَاع سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَرْك مَا أَحْدَثَ الْمُحَدِّثُونَ بَعْد مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّته , وَكُفُوا مَئُونَته , فَعَلَيْك بِلُزُومِ الْجَمَاعَة فَإِنَّهَا لَك بِإِذْنِ اللَّه عِصْمَة , ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِع النَّاس بِدْعَة إِلَّا قَدْ مَضَى قَبْلهَا مَا هُوَ دَلِيل عَلَيْهَا أَوْ عِبْرَة فِيهَا ; فَإِنَّ السُّنَّة إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَلِمَ مَا فِي خِلَافهَا مِنْ الْخَطَإِ وَالزَّلَل , وَالْحُمْق وَالتَّعَمُّق ; فَارْضَ لِنَفْسِك مَا رَضِيَ بِهِ الْقَوْم لِأَنْفُسِهِمْ , فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْم وَقَفُوا , وَبِبَصَرٍ نَافِذ كُفُوا , وَإِنَّهُمْ عَلَى كَشْف الْأُمُور كَانُوا أَقْوَى , وَبِفَضْلِ مَا كَانُوا فِيهِ أَوْلَى , فَإِنْ كَانَ الْهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ , وَلَئِنْ قُلْتُمْ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدهمْ فَمَا أَحْدَثَهُ إِلَّا مَنْ اِتَّبَعَ غَيْر سَبِيلهمْ وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ ; فَإِنَّهُمْ هُمْ السَّابِقُونَ , قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِمَا يَكْفِي وَوَصَفُوا مَا يَشْفِي ; فَمَا دُونهمْ مِنْ مُقَصِّر , وَمَا فَوْقهمْ مِنْ مُجَسِّر , وَقَدْ قَصَّرَ قَوْم دُونهمْ فَجَفَوْا , وَطَمَحَ عَنْهُمْ أَقْوَام فَغَلَوْا وَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيم . وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ : عَلَيْكُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَثَرِ وَالسُّنَّة , فَإِنِّي أَخَاف أَنَّهُ سَيَأْتِي عَنْ قَلِيل زَمَان إِذَا ذَكَرَ إِنْسَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاقْتِدَاء بِهِ فِي جَمِيع أَحْوَاله ذَمُّوهُ وَنَفَرُوا عَنْهُ وَتَبْرَءُوا مِنْهُ وَأَذَلُّوهُ وَأَهَانُوهُ . قَالَ سَهْل : إِنَّمَا ظَهَرَتْ الْبِدْعَة عَلَى يَدَيْ أَهْل السُّنَّة لِأَنَّهُمْ ظَاهَرُوهُمْ وَقَاوَلُوهُمْ ; فَظَهَرَتْ أَقَاوِيلهمْ وَفَشَتْ فِي الْعَامَّة فَسَمِعَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَسْمَعهُ , فَلَوْ تَرَكُوهُمْ وَلَمْ يُكَلِّمُوهُمْ لَمَاتَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَلَى مَا فِي صَدْره وَلَمْ يَظْهَر مِنْهُ شَيْء وَحَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى قَبْره . وَقَالَ سَهْل : لَا يُحْدِث أَحَدكُمْ بِدْعَة حَتَّى يُحْدِث لَهُ إِبْلِيس عِبَادَة فَيَتَعَبَّد بِهَا ثُمَّ يُحْدِث لَهُ بِدْعَة , فَإِذَا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ وَدَعَا النَّاس إِلَيْهَا نَزَعَ مِنْهُ تِلْكَ الْخَذْمَة . قَالَ سَهْل : لَا أَعْلَم حَدِيثًا جَاءَ فِي الْمُبْتَدِعَة أَشَدّ مِنْ هَذَا الْحَدِيث : ( حَجَبَ اللَّه الْجَنَّة عَنْ صَاحِب الْبِدْعَة ) . قَالَ : فَالْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ أُرْجَى مِنْهُمْ . قَالَ سَهْل : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِم دِينه فَلَا يَدْخُل عَلَى السُّلْطَان , وَلَا يَخْلُوَن بِالنِّسْوَان , وَلَا يُخَاصِمَن أَهْل الْأَهْوَاء . وَقَالَ أَيْضًا : اِتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا , فَقَدْ كَفَيْتُمْ . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ : أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ جَاءَ إِلَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن , إِنْ رَأَيْت فِي الْمَسْجِد آنِفًا شَيْئًا أَنْكَرْته وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْد لِلَّهِ إِلَّا خَيْرًا , قَالَ : فَمَا هُوَ ؟ قَالَ : إِنْ عِشْت فَسَتَرَاهُ , قَالَ : رَأَيْت فِي الْمَسْجِد قَوْمًا حِلَقًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاة ; فِي كُلّ حَلْقَة رَجُل وَفِي أَيْدِيهمْ حَصًى فَيَقُول لَهُمْ : كَبِّرُوا مِائَة ; فَيُكَبِّرُونَ مِائَة . فَيَقُول : هَلِّلُوا مِائَة ; فَيُهَلِّلُونَ مِائَة . وَيَقُول : سَبِّحُوا مِائَة ; فَيُسَبِّحُونَ مِائَة . قَالَ : فَمَاذَا قُلْت لَهُمْ ؟ قَالَ : مَا قُلْت لَهُمْ شَيْئًا ; اِنْتِظَار رَأْيك وَانْتِظَار أَمْرك . قَالَ أَفَلَا أَمَرْتهمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتهمْ وَضَمِنْت لَهُمْ أَلَّا يَضِيع مِنْ حَسَنَاتهمْ . ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَة مِنْ تِلْكَ الْحِلَق ; فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالُوا : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن , حَصًى نَعُدّ بِهِ التَّكْبِير وَالتَّهْلِيل وَالتَّسْبِيح . قَالَ : فَعُدُّوا سَيِّئَاتكُمْ وَأَنَا ضَامِن لَكُمْ أَلَّا يَضِيع مِنْ حَسَنَاتكُمْ شَيْء , وَيْحَكُمْ يَا أُمَّة مُحَمَّد ! مَا أَسْرَعَ هَلَكَتكُمْ . أَوْ مُفْتَتِحِي بَاب ضَلَالَة ! قَالُوا : وَاَللَّه يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن , مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْر . فَقَالَ : وَكَمْ مِنْ مُرِيد لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبهُ . وَعَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَسَأَلَهُ رَجُل عَنْ شَيْء مِنْ أَهْل الْأَهْوَاء وَالْبِدَع ; فَقَالَ : عَلَيْك بِدِينِ الْأَعْرَاب وَالْغُلَام فِي الْكِتَاب , وَآله عَمَّا سِوَى ذَلِكَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : قَالَ إِبْلِيس لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَيّ شَيْء تَأْتُونَ بَنِي آدَم ؟ فَقَالُوا : مِنْ كُلّ شَيْء . قَالَ : فَهَلْ تَأْتُونَهُمْ مِنْ قِبَل الِاسْتِغْفَار ؟ قَالُوا : هَيْهَاتَ ! ذَلِكَ شَيْء قُرِنَ بِالتَّوْحِيدِ . قَالَ : لَأُبِثَّنَّ فِيهِمْ شَيْئًا لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّه مِنْهُ . قَالَ : فَبَثَّ فِيهِمْ الْأَهْوَاء . وَقَالَ مُجَاهِد : وَلَا أَدْرِي أَيّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَيَّ أَعْظَم أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ , أَوْ عَافَانِي مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاء . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : إِنَّمَا سَمَّوْا أَصْحَاب الْأَهْوَاء لِأَنَّهُمْ يَهْوُونَ فِي النَّار . كُلّه عَنْ الدَّارِمِيّ . وَسُئِلَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه عَنْ الصَّلَاة خَلْف الْمُعْتَزِلَة وَالنِّكَاح مِنْهُمْ وَتَزْوِيجهمْ . فَقَالَ : لَا , وَلَا كَرَامَة ! هُمْ كُفَّار , كَيْف يُؤْمِن مَنْ يَقُول : الْقُرْآن مَخْلُوق , وَلَا جَنَّة مَخْلُوقَة وَلَا نَار مَخْلُوقَة , وَلَا لِلَّهِ صِرَاط وَلَا شَفَاعَة , وَلَا أَحَد مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُل النَّار وَلَا يَخْرُج مِنْ النَّار مِنْ مُذْنِبِي أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا عَذَاب الْقَبْر وَلَا مُنْكَر وَلَا نَكِير , وَلَا رُؤْيَة لِرَبِّنَا فِي الْآخِرَة وَلَا زِيَادَة , وَأَنَّ عِلْم اللَّه مَخْلُوق , وَلَا يَرَوْنَ السُّلْطَان وَلَا جُمُعَة ; وَيُكَفِّرُونَ مَنْ يُؤْمِن بِهَذَا . وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : مَنْ أَحَبَّ صَاحِب بِدْعَة أَحْبَطَ اللَّه عَمَله , وَأَخْرَجَ نُور الْإِسْلَام مِنْ قَلْبه . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مِنْ كَلَامه وَزِيَادَة . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : الْبِدْعَة أَحَبّ إِلَى إِبْلِيس مِنْ الْمَعْصِيَة ; الْمَعْصِيَة يُتَاب مِنْهَا , وَالْبِدْعَة لَا يُتَاب مِنْهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : النَّظَر إِلَى الرَّجُل مِنْ أَهْل السُّنَّة يَدْعُو إِلَى السُّنَّة وَيَنْهَى عَنْ الْبِدْعَة , عِبَادَة . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : عَلَيْكُمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّل الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يَفْتَرِقُوا . قَالَ عَاصِم الْأَحْوَل : فَحَدَّثْت بِهِ الْحَسَن فَقَالَ : قَدْ نَصَحَك وَاَللَّه وَصَدَقَك . وَقَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيل عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَة وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّة سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ ) . الْحَدِيث . وَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الْعَارِفِينَ : هَذِهِ الْفِرْقَة الَّتِي زَادَتْ فِي فِرَق أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ قَوْم يُعَادُونَ الْعُلَمَاء وَيُبْغِضُونَ الْفُقَهَاء , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطُّ فِي الْأُمَم السَّالِفَة . وَقَدْ رَوَى رَافِع بْن خَدِيج أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( يَكُون فِي أُمَّتِي قَوْم يَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَبِالْقُرْآنِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَمَا كَفَرَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ) . قَالَ فَقُلْت : جُعِلْت فِدَاك يَا رَسُول اللَّه ! كَيْفَ ذَاكَ ؟ قَالَ : ( يُقِرُّونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) . قَالَ قُلْت : جُعِلْت فِدَاك يَا رَسُول اللَّه ! وَكَيْفَ يَقُولُونَ ؟ قَالَ : ( يَجْعَلُونَ إِبْلِيس عَدْلًا لِلَّهِ فِي خَلْقه وَقُوَّته وَرِزْقه وَيَقُولُونَ الْخَيْر مِنْ اللَّه وَالشَّرّ مِنْ إِبْلِيس ) . قَالَ : فَيَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ ثُمَّ يَقْرَءُونَ عَلَى ذَلِكَ كِتَاب اللَّه , فَيَكْفُرُونَ بِالْقُرْآنِ بَعْد الْإِيمَان وَالْمَعْرِفَة ؟ قَالَ : ( فَمَا تَلْقَى أُمَّتِي مِنْهُمْ مِنْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء وَالْجِدَال أُولَئِكَ زَنَادِقَة هَذِهِ الْأُمَّة ) . وَذُكِرَ الْحَدِيث . وَمَضَى فِي " النِّسَاء " وَهَذِهِ السُّورَة النَّهْي عَنْ مُجَالَسَة أَهْل الْبِدَع وَالْأَهْوَاء , وَأَنَّ مَنْ جَالَسَهُمْ حُكْمه حُكْمهمْ فَقَالَ : " وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا " [ الْأَنْعَام : 68 ] الْآيَة . ثُمَّ بَيَّنَ فِي سُورَة " النِّسَاء " وَهِيَ مَدَنِيَّة عُقُوبَة مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَخَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ فَقَالَ : " وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب " [ النِّسَاء : 140 ] الْآيَة . فَأَلْحَقَ مَنْ جَالَسَهُمْ بِهِمْ . وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَة مِنْ أَئِمَّة هَذِهِ الْأُمَّة وَحَكَمَ بِمُوجَبِ هَذِهِ الْآيَات فِي مَجَالِس أَهْل الْبِدَع عَلَى الْمُعَاشَرَة وَالْمُخَالَطَة مِنْهُمْ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارَك فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي رَجُل شَأْنه مُجَالَسَة أَهْل الْبِدَع قَالُوا : يَنْهَى عَنْ مُجَالَسَتهمْ , فَإِنْ اِنْتَهَى وَإِلَّا أُلْحِقَ بِهِمْ , يَعْنُونَ فِي الْحُكْم . وَقَدْ حَمَلَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز الْحَدّ عَلَى مُجَالِس شَرَبَة الْخَمْر , وَتَلَا " إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلهمْ " . قِيلَ لَهُ : فَإِنَّهُ يَقُول إِنِّي أُجَالِسهُمْ لِأُبَايِنهُمْ وَأَرُدّ عَلَيْهِمْ . قَالَ يُنْهَى عَنْ مُجَالَسَتهمْ , فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْحَقّ بِهِمْ .
أَيْ تَمِيل . رَوَى الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده بِإِسْنَادٍ صَحِيح : أَخْبَرَنَا عَفَّان حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد حَدَّثَنَا عَاصِم بْن بَهْدَلَة عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : خَطَّ لَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا , ثُمَّ قَالَ : ( هَذَا سَبِيل اللَّه ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينه وَخُطُوطًا عَنْ يَسَاره ثُمَّ قَالَ ( هَذِهِ سُبُل عَلَى كُلّ سَبِيل مِنْهَا شَيْطَان يَدْعُو إِلَيْهَا ) ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة . وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : كُنَّا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَّ خَطًّا , وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينه , وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَاره , ثُمَّ وَضَعَ يَده فِي الْخَطّ الْأَوْسَط فَقَالَ : ( هَذَا سَبِيل اللَّه - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة - " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيله " . وَهَذِهِ السُّبُل تَعُمّ الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَالْمَجُوسِيَّة وَسَائِر أَهْل الْمِلَل وَأَهْل الْبِدَع وَالضَّلَالَات مِنْ أَهْل الْأَهْوَاء وَالشُّذُوذ فِي الْفُرُوع , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَهْل التَّعَمُّق فِي الْجَدَل وَالْخَوْض فِي الْكَلَام . هَذِهِ كُلّهَا عُرْضَة لِلزَّلَلِ , وَمَظِنَّة لِسُوءِ الْمُعْتَقَد ; قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة . قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح . ذَكَرَ الطَّبَرِيّ فِي كِتَاب آدَاب النُّفُوس : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن ثَوْر عَنْ مَعْمَر عَنْ أَبَان أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ مَسْعُود : مَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم ؟ قَالَ : تَرَكَنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفه فِي الْجَنَّة , وَعَنْ يَمِينه جَوَاد وَعَنْ يَسَاره جَوَاد , وَثَمَّ رِجَال يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ فَمَنْ أَخَذَ فِي تِلْكَ الْجَوَاد اِنْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّار , وَمَنْ أَخَذَ عَلَى الصِّرَاط اِنْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّة , ثُمَّ قَرَأَ اِبْن مَسْعُود : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا " الْآيَة . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : تَعْلَمُوا الْعِلْم قَبْل أَنْ يُقْبَض , وَقَبْضه أَنْ يَذْهَب أَهْله , أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّع وَالتَّعَمُّق وَالْبِدَع , وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ . أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيّ . وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله : " وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل " قَالَ : الْبِدَع . قَالَ اِبْن شِهَاب : وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينهمْ وَكَانُوا شِيَعًا " [ الْأَنْعَام : 159 ] الْآيَة . فَالْهَرَب الْهَرَب , وَالنَّجَاة النَّجَاة ! وَالتَّمَسُّك بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيم وَالسُّنَن الْقَوِيم , الَّذِي سَلَكَهُ السَّلَف الصَّالِح , وَفِيهِ الْمَتْجَر الرَّابِح . رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره عَنْ الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة قَالَ : وَعَظَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَة ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُون ; وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوب ; فَقُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَة مُوَدِّع , فَمَا تَعْهَد إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ : ( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاء لَيْلهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِك مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اِخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّة الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُور الْمُحْدَثَات فَإِنَّ كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنَّ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّمَا الْمُؤْمِن كَالْجَمَلِ الْأَنِف حَيْثُمَا قِيدَ اِنْقَادَ ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ بِمَعْنَاهُ وَصَحَّحَهُ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن كَثِير قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَان قَالَ : كَتَبَ رَجُل إِلَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز يَسْأَلهُ عَنْ الْقَدَر ; فَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَمَّا بَعْد , فَإِنِّي أُوصِيك بِتَقْوَى اللَّه وَالِاقْتِصَاد فِي أَمْره وَاتِّبَاع سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَرْك مَا أَحْدَثَ الْمُحَدِّثُونَ بَعْد مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّته , وَكُفُوا مَئُونَته , فَعَلَيْك بِلُزُومِ الْجَمَاعَة فَإِنَّهَا لَك بِإِذْنِ اللَّه عِصْمَة , ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِع النَّاس بِدْعَة إِلَّا قَدْ مَضَى قَبْلهَا مَا هُوَ دَلِيل عَلَيْهَا أَوْ عِبْرَة فِيهَا ; فَإِنَّ السُّنَّة إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَلِمَ مَا فِي خِلَافهَا مِنْ الْخَطَإِ وَالزَّلَل , وَالْحُمْق وَالتَّعَمُّق ; فَارْضَ لِنَفْسِك مَا رَضِيَ بِهِ الْقَوْم لِأَنْفُسِهِمْ , فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْم وَقَفُوا , وَبِبَصَرٍ نَافِذ كُفُوا , وَإِنَّهُمْ عَلَى كَشْف الْأُمُور كَانُوا أَقْوَى , وَبِفَضْلِ مَا كَانُوا فِيهِ أَوْلَى , فَإِنْ كَانَ الْهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ , وَلَئِنْ قُلْتُمْ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدهمْ فَمَا أَحْدَثَهُ إِلَّا مَنْ اِتَّبَعَ غَيْر سَبِيلهمْ وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ ; فَإِنَّهُمْ هُمْ السَّابِقُونَ , قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِمَا يَكْفِي وَوَصَفُوا مَا يَشْفِي ; فَمَا دُونهمْ مِنْ مُقَصِّر , وَمَا فَوْقهمْ مِنْ مُجَسِّر , وَقَدْ قَصَّرَ قَوْم دُونهمْ فَجَفَوْا , وَطَمَحَ عَنْهُمْ أَقْوَام فَغَلَوْا وَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيم . وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ : عَلَيْكُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَثَرِ وَالسُّنَّة , فَإِنِّي أَخَاف أَنَّهُ سَيَأْتِي عَنْ قَلِيل زَمَان إِذَا ذَكَرَ إِنْسَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاقْتِدَاء بِهِ فِي جَمِيع أَحْوَاله ذَمُّوهُ وَنَفَرُوا عَنْهُ وَتَبْرَءُوا مِنْهُ وَأَذَلُّوهُ وَأَهَانُوهُ . قَالَ سَهْل : إِنَّمَا ظَهَرَتْ الْبِدْعَة عَلَى يَدَيْ أَهْل السُّنَّة لِأَنَّهُمْ ظَاهَرُوهُمْ وَقَاوَلُوهُمْ ; فَظَهَرَتْ أَقَاوِيلهمْ وَفَشَتْ فِي الْعَامَّة فَسَمِعَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَسْمَعهُ , فَلَوْ تَرَكُوهُمْ وَلَمْ يُكَلِّمُوهُمْ لَمَاتَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَلَى مَا فِي صَدْره وَلَمْ يَظْهَر مِنْهُ شَيْء وَحَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى قَبْره . وَقَالَ سَهْل : لَا يُحْدِث أَحَدكُمْ بِدْعَة حَتَّى يُحْدِث لَهُ إِبْلِيس عِبَادَة فَيَتَعَبَّد بِهَا ثُمَّ يُحْدِث لَهُ بِدْعَة , فَإِذَا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ وَدَعَا النَّاس إِلَيْهَا نَزَعَ مِنْهُ تِلْكَ الْخَذْمَة . قَالَ سَهْل : لَا أَعْلَم حَدِيثًا جَاءَ فِي الْمُبْتَدِعَة أَشَدّ مِنْ هَذَا الْحَدِيث : ( حَجَبَ اللَّه الْجَنَّة عَنْ صَاحِب الْبِدْعَة ) . قَالَ : فَالْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ أُرْجَى مِنْهُمْ . قَالَ سَهْل : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِم دِينه فَلَا يَدْخُل عَلَى السُّلْطَان , وَلَا يَخْلُوَن بِالنِّسْوَان , وَلَا يُخَاصِمَن أَهْل الْأَهْوَاء . وَقَالَ أَيْضًا : اِتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا , فَقَدْ كَفَيْتُمْ . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ : أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ جَاءَ إِلَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن , إِنْ رَأَيْت فِي الْمَسْجِد آنِفًا شَيْئًا أَنْكَرْته وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْد لِلَّهِ إِلَّا خَيْرًا , قَالَ : فَمَا هُوَ ؟ قَالَ : إِنْ عِشْت فَسَتَرَاهُ , قَالَ : رَأَيْت فِي الْمَسْجِد قَوْمًا حِلَقًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاة ; فِي كُلّ حَلْقَة رَجُل وَفِي أَيْدِيهمْ حَصًى فَيَقُول لَهُمْ : كَبِّرُوا مِائَة ; فَيُكَبِّرُونَ مِائَة . فَيَقُول : هَلِّلُوا مِائَة ; فَيُهَلِّلُونَ مِائَة . وَيَقُول : سَبِّحُوا مِائَة ; فَيُسَبِّحُونَ مِائَة . قَالَ : فَمَاذَا قُلْت لَهُمْ ؟ قَالَ : مَا قُلْت لَهُمْ شَيْئًا ; اِنْتِظَار رَأْيك وَانْتِظَار أَمْرك . قَالَ أَفَلَا أَمَرْتهمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتهمْ وَضَمِنْت لَهُمْ أَلَّا يَضِيع مِنْ حَسَنَاتهمْ . ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَة مِنْ تِلْكَ الْحِلَق ; فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالُوا : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن , حَصًى نَعُدّ بِهِ التَّكْبِير وَالتَّهْلِيل وَالتَّسْبِيح . قَالَ : فَعُدُّوا سَيِّئَاتكُمْ وَأَنَا ضَامِن لَكُمْ أَلَّا يَضِيع مِنْ حَسَنَاتكُمْ شَيْء , وَيْحَكُمْ يَا أُمَّة مُحَمَّد ! مَا أَسْرَعَ هَلَكَتكُمْ . أَوْ مُفْتَتِحِي بَاب ضَلَالَة ! قَالُوا : وَاَللَّه يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن , مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْر . فَقَالَ : وَكَمْ مِنْ مُرِيد لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبهُ . وَعَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَسَأَلَهُ رَجُل عَنْ شَيْء مِنْ أَهْل الْأَهْوَاء وَالْبِدَع ; فَقَالَ : عَلَيْك بِدِينِ الْأَعْرَاب وَالْغُلَام فِي الْكِتَاب , وَآله عَمَّا سِوَى ذَلِكَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : قَالَ إِبْلِيس لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَيّ شَيْء تَأْتُونَ بَنِي آدَم ؟ فَقَالُوا : مِنْ كُلّ شَيْء . قَالَ : فَهَلْ تَأْتُونَهُمْ مِنْ قِبَل الِاسْتِغْفَار ؟ قَالُوا : هَيْهَاتَ ! ذَلِكَ شَيْء قُرِنَ بِالتَّوْحِيدِ . قَالَ : لَأُبِثَّنَّ فِيهِمْ شَيْئًا لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّه مِنْهُ . قَالَ : فَبَثَّ فِيهِمْ الْأَهْوَاء . وَقَالَ مُجَاهِد : وَلَا أَدْرِي أَيّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَيَّ أَعْظَم أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ , أَوْ عَافَانِي مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاء . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : إِنَّمَا سَمَّوْا أَصْحَاب الْأَهْوَاء لِأَنَّهُمْ يَهْوُونَ فِي النَّار . كُلّه عَنْ الدَّارِمِيّ . وَسُئِلَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه عَنْ الصَّلَاة خَلْف الْمُعْتَزِلَة وَالنِّكَاح مِنْهُمْ وَتَزْوِيجهمْ . فَقَالَ : لَا , وَلَا كَرَامَة ! هُمْ كُفَّار , كَيْف يُؤْمِن مَنْ يَقُول : الْقُرْآن مَخْلُوق , وَلَا جَنَّة مَخْلُوقَة وَلَا نَار مَخْلُوقَة , وَلَا لِلَّهِ صِرَاط وَلَا شَفَاعَة , وَلَا أَحَد مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُل النَّار وَلَا يَخْرُج مِنْ النَّار مِنْ مُذْنِبِي أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا عَذَاب الْقَبْر وَلَا مُنْكَر وَلَا نَكِير , وَلَا رُؤْيَة لِرَبِّنَا فِي الْآخِرَة وَلَا زِيَادَة , وَأَنَّ عِلْم اللَّه مَخْلُوق , وَلَا يَرَوْنَ السُّلْطَان وَلَا جُمُعَة ; وَيُكَفِّرُونَ مَنْ يُؤْمِن بِهَذَا . وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : مَنْ أَحَبَّ صَاحِب بِدْعَة أَحْبَطَ اللَّه عَمَله , وَأَخْرَجَ نُور الْإِسْلَام مِنْ قَلْبه . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مِنْ كَلَامه وَزِيَادَة . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : الْبِدْعَة أَحَبّ إِلَى إِبْلِيس مِنْ الْمَعْصِيَة ; الْمَعْصِيَة يُتَاب مِنْهَا , وَالْبِدْعَة لَا يُتَاب مِنْهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : النَّظَر إِلَى الرَّجُل مِنْ أَهْل السُّنَّة يَدْعُو إِلَى السُّنَّة وَيَنْهَى عَنْ الْبِدْعَة , عِبَادَة . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : عَلَيْكُمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّل الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يَفْتَرِقُوا . قَالَ عَاصِم الْأَحْوَل : فَحَدَّثْت بِهِ الْحَسَن فَقَالَ : قَدْ نَصَحَك وَاَللَّه وَصَدَقَك . وَقَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيل عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَة وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّة سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ ) . الْحَدِيث . وَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الْعَارِفِينَ : هَذِهِ الْفِرْقَة الَّتِي زَادَتْ فِي فِرَق أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ قَوْم يُعَادُونَ الْعُلَمَاء وَيُبْغِضُونَ الْفُقَهَاء , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطُّ فِي الْأُمَم السَّالِفَة . وَقَدْ رَوَى رَافِع بْن خَدِيج أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( يَكُون فِي أُمَّتِي قَوْم يَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَبِالْقُرْآنِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَمَا كَفَرَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ) . قَالَ فَقُلْت : جُعِلْت فِدَاك يَا رَسُول اللَّه ! كَيْفَ ذَاكَ ؟ قَالَ : ( يُقِرُّونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) . قَالَ قُلْت : جُعِلْت فِدَاك يَا رَسُول اللَّه ! وَكَيْفَ يَقُولُونَ ؟ قَالَ : ( يَجْعَلُونَ إِبْلِيس عَدْلًا لِلَّهِ فِي خَلْقه وَقُوَّته وَرِزْقه وَيَقُولُونَ الْخَيْر مِنْ اللَّه وَالشَّرّ مِنْ إِبْلِيس ) . قَالَ : فَيَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ ثُمَّ يَقْرَءُونَ عَلَى ذَلِكَ كِتَاب اللَّه , فَيَكْفُرُونَ بِالْقُرْآنِ بَعْد الْإِيمَان وَالْمَعْرِفَة ؟ قَالَ : ( فَمَا تَلْقَى أُمَّتِي مِنْهُمْ مِنْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء وَالْجِدَال أُولَئِكَ زَنَادِقَة هَذِهِ الْأُمَّة ) . وَذُكِرَ الْحَدِيث . وَمَضَى فِي " النِّسَاء " وَهَذِهِ السُّورَة النَّهْي عَنْ مُجَالَسَة أَهْل الْبِدَع وَالْأَهْوَاء , وَأَنَّ مَنْ جَالَسَهُمْ حُكْمه حُكْمهمْ فَقَالَ : " وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا " [ الْأَنْعَام : 68 ] الْآيَة . ثُمَّ بَيَّنَ فِي سُورَة " النِّسَاء " وَهِيَ مَدَنِيَّة عُقُوبَة مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَخَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ فَقَالَ : " وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب " [ النِّسَاء : 140 ] الْآيَة . فَأَلْحَقَ مَنْ جَالَسَهُمْ بِهِمْ . وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَة مِنْ أَئِمَّة هَذِهِ الْأُمَّة وَحَكَمَ بِمُوجَبِ هَذِهِ الْآيَات فِي مَجَالِس أَهْل الْبِدَع عَلَى الْمُعَاشَرَة وَالْمُخَالَطَة مِنْهُمْ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارَك فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي رَجُل شَأْنه مُجَالَسَة أَهْل الْبِدَع قَالُوا : يَنْهَى عَنْ مُجَالَسَتهمْ , فَإِنْ اِنْتَهَى وَإِلَّا أُلْحِقَ بِهِمْ , يَعْنُونَ فِي الْحُكْم . وَقَدْ حَمَلَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز الْحَدّ عَلَى مُجَالِس شَرَبَة الْخَمْر , وَتَلَا " إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلهمْ " . قِيلَ لَهُ : فَإِنَّهُ يَقُول إِنِّي أُجَالِسهُمْ لِأُبَايِنهُمْ وَأَرُدّ عَلَيْهِمْ . قَالَ يُنْهَى عَنْ مُجَالَسَتهمْ , فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْحَقّ بِهِمْ .
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ↓
قَوْله تَعَالَى : " ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب " مَفْعُولَانِ . " تَمَامًا " مَفْعُول مِنْ أَجْله أَوْ مَصْدَر . " عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ " قُرِئَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع . فَمَنْ رَفَعَ - وَهِيَ قِرَاءَة يَحْيَى بْن يَعْمُر وَابْن أَبِي إِسْحَاق . فَعَلَى تَقْدِير : تَمَامًا عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَفِيهِ بُعْد مِنْ أَجْل حَذْف الْمُبْتَدَأ الْعَائِد عَلَى الَّذِي . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ الْخَلِيل أَنَّهُ سَمِعَ " مَا أَنَا بِاَلَّذِي قَائِل لَك شَيْئًا " . وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى أَنَّهُ فِعْل مَاضٍ دَاخِل فِي الصِّلَة ; هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء أَنْ يَكُون اِسْمًا نَعْتًا لِلَّذِي . وَأَجَازَا " مَرَرْت بِاَلَّذِي أَخِيك " يَنْعَتَانِ الَّذِي بِالْمَعْرِفَةِ وَمَا قَارَبَهَا . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مُحَال عِنْد الْبَصْرِيِّينَ ; لِأَنَّهُ نَعْت لِلِاسْمِ قَبْل أَنْ يَتِمّ , وَالْمَعْنَى عِنْدهمْ : عَلَى الْمُحْسِن . قَالَ مُجَاهِد : تَمَامًا عَلَى الْمُحْسِن الْمُؤْمِن . وَقَالَ الْحَسَن فِي مَعْنَى قَوْله : " تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ " كَانَ فِيهِمْ مُحْسِن وَغَيْر مُحْسِن ; فَأَنْزَلَ اللَّه الْكِتَاب تَمَامًا عَلَى الْمُحْسِنِينَ . وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا الْقَوْل أَنَّ اِبْن مَسْعُود قَرَأَ : " تَمَامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا " . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَعْطَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاة زِيَادَة عَلَى مَا كَانَ يُحْسِنهُ مُوسَى مِمَّا كَانَ عَلَّمَهُ اللَّه قَبْل نُزُول التَّوْرَاة عَلَيْهِ . قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : فَالْمَعْنَى " تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ " أَيْ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ الرِّسَالَة وَغَيْرهَا . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن زَيْد : مَعْنَاهُ عَلَى إِحْسَان اللَّه تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَام مِنْ الرِّسَالَة وَغَيْرهَا . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : تَمَامًا عَلَى إِحْسَان مُوسَى مِنْ طَاعَته لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; وَقَالَهُ الْفَرَّاء . ثُمَّ قِيلَ : " ثُمَّ " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي بَعْد الْأَوَّل , وَقِصَّة مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِتْيَانه الْكِتَاب قَبْل هَذَا ; فَقِيلَ : " ثُمَّ " بِمَعْنَى الْوَاو ; أَيْ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب , لِأَنَّهُمَا حَرْفَا عَطْف . وَقِيلَ : تَقْدِير الْكَلَام ثُمَّ كُنَّا قَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب قَبْل إِنْزَالنَا الْقُرْآن عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ , ثُمَّ أَتْلُ مَا آتَيْنَا مُوسَى تَمَامًا . " وَتَفْصِيلًا " عَطْف عَلَيْهِ . وَكَذَا " وَهُدًى وَرَحْمَة "
" وَهَذَا كِتَاب " اِبْتِدَاء وَخَبَر . " أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَك " نَعْت ; أَيْ كَثِير الْخَيْرَات . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن " مُبَارَكًا " عَلَى الْحَال . " فَاتَّبِعُوهُ " أَيْ اِعْمَلُوا بِمَا فِيهِ . " وَاتَّقُوا " أَيْ اِتَّقُوا تَحْرِيفه . " لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " أَيْ لِتَكُونُوا رَاجِينَ لِلرَّحْمَةِ فَلَا تُعَذَّبُونَ .
أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ↓
فِي مَوْضِع نَصْب . قَالَ الْكُوفِيُّونَ . لِئَلَّا تَقُولُوا . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : أَنْزَلْنَاهُ كَرَاهِيَة أَنْ تَقُولُوا . وَقَالَ الْفَرَّاء وَالْكِسَائِيّ : الْمَعْنَى فَاتَّقُوا أَنْ تَقُولُوا يَا أَهْل مَكَّة .
أَيْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل .
أَيْ عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَلَمْ يَنْزِل عَلَيْنَا كِتَاب .
أَيْ عَنْ تِلَاوَة كُتُبهمْ وَعَنْ لُغَاتهمْ . وَلَمْ يَقُلْ عَنْ دِرَاسَتهمَا ; لِأَنَّ كُلّ طَائِفَة جَمَاعَة .
أَيْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل .
أَيْ عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَلَمْ يَنْزِل عَلَيْنَا كِتَاب .
أَيْ عَنْ تِلَاوَة كُتُبهمْ وَعَنْ لُغَاتهمْ . وَلَمْ يَقُلْ عَنْ دِرَاسَتهمَا ; لِأَنَّ كُلّ طَائِفَة جَمَاعَة .
أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ↓
عُطِفَ عَلَى " أَنْ تَقُولُوا " .
أَيْ قَدْ زَالَ الْعُذْر بِمَجِيءِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْبَيِّنَة وَالْبَيَان وَاحِد ; وَالْمُرَاد مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , سَمَّاهُ سُبْحَانه بَيِّنَة .
أَيْ لِمَنْ اِتَّبَعَهُ .
أَيْ فَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَلَا أَحَد أَظْلَم مِنْكُمْ . " صَدَف " أَعْرَضَ .
" يَصْدِفُونَ " يُعْرِضُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ قَدْ زَالَ الْعُذْر بِمَجِيءِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْبَيِّنَة وَالْبَيَان وَاحِد ; وَالْمُرَاد مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , سَمَّاهُ سُبْحَانه بَيِّنَة .
أَيْ لِمَنْ اِتَّبَعَهُ .
أَيْ فَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَلَا أَحَد أَظْلَم مِنْكُمْ . " صَدَف " أَعْرَضَ .
" يَصْدِفُونَ " يُعْرِضُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ↑
مَعْنَاهُ أَقَمْت عَلَيْهِمْ الْحُجَّة وَأَنْزَلْت عَلَيْهِمْ الْكِتَاب فَلَمْ يُؤْمِنُوا , فَمَاذَا يَنْتَظِرُونَ .
أَيْ عِنْد الْمَوْت لِقَبْضِ أَرْوَاحهمْ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : أَمَرَ رَبّك فِيهِمْ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْره , وَقَدْ يُذْكَر الْمُضَاف إِلَيْهِ وَالْمُرَاد بِهِ الْمُضَاف ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] يَعْنِي أَهْل الْقَرْيَة . وَقَوْله : " وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل " [ الْبَقَرَة : 93 ] أَيْ حُبّ الْعِجْل . كَذَلِكَ هُنَا : يَأْتِي أَمْر رَبّك , أَيْ عُقُوبَة رَبّك وَعَذَاب رَبّك . وَيُقَال : هَذَا مِنْ الْمُتَشَابِه الَّذِي لَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي مِثْله فِي " الْبَقَرَة " وَغَيْرهَا .
قِيلَ : هُوَ طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا . بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُمْ يُمْهَلُونَ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا ظَهَرَتْ السَّاعَة فَلَا إِمْهَال . وَقِيلَ : إِتْيَان اللَّه تَعَالَى مَجِيئُهُ لِفَصْلِ الْقَضَاء بَيْن خَلْقه فِي مَوْقِف الْقِيَامَة ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَجَاءَ رَبّك وَالْمَلَك صَفًّا صَفًّا " [ الْفَجْر : 22 ] . وَلَيْسَ مَجِيئُهُ تَعَالَى حَرَكَة وَلَا اِنْتِقَالًا وَلَا زَوَالًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُون إِذَا كَانَ الْجَائِي جِسْمًا أَوْ جَوْهَرًا . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور أَئِمَّة أَهْل السُّنَّة أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : يَجِيء وَيَنْزِل وَيَأْتِي . وَلَا يُكَيِّفُونَ ; لِأَنَّهُ " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير " [ الشُّورَى : 11 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاث إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا : طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَالدَّجَّال وَدَابَّة الْأَرْض ) . وَعَنْ صَفْوَان بْن عَسَّال الْمُرَادِيّ قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ بِالْمَغْرِبِ بَابًا مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ مَسِيرَة سَبْعِينَ سَنَة لَا يُغْلَق حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْ نَحْوه ) . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالدَّارِمِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَالَ سُفْيَان : قِبَل الشَّام , خَلَقَهُ اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض . ( مَفْتُوحًا ) يَعْنِي لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَق حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْهُ . قَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . قُلْت : وَكَذَّبَ بِهَذَا كُلّه الْخَوَارِج وَالْمُعْتَزِلَة كَمَا تَقَدَّمَ . وَرَوَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ : أَيّهَا النَّاس , إِنَّ الرَّجْم حَقّ فَلَا تُخْدَعُنَّ عَنْهُ , وَإِنَّ آيَة ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَمَ , وَأَنَّ أَبَا بَكْر قَدْ رَجَمَ , وَأَنَا قَدْ رَجَمْنَا بَعْدهمَا , وَسَيَكُونُ قَوْم مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ , وَيُكَذِّبُونَ بِالدَّجَّالِ , وَيُكَذِّبُونَ بِطُلُوعِ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا , وَيُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْر , وَيُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ , وَيُكَذِّبُونَ بِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار بَعْد مَا اِمْتَحَشُوا . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ فِي حَدِيث فِيهِ طُول عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّ الشَّمْس تُحْبَس عَنْ النَّاس - حِين تَكْثُر الْمَعَاصِي فِي الْأَرْض , وَيَذْهَب الْمَعْرُوف فَلَا يَأْمُر بِهِ أَحَد , وَيَفْشُو الْمُنْكَر فَلَا يُنْهَى عَنْهُ - مِقْدَار لَيْلَة تَحْت الْعَرْش , كُلَّمَا سَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ رَبّهَا تَعَالَى مِنْ أَيْنَ تَطْلُع لَمْ يَجِئْ لَهَا جَوَاب حَتَّى يُوَافِيهَا الْقَمَر فَيَسْجُد مَعَهَا , وَيَسْتَأْذِن مِنْ أَيْنَ يَطْلُع فَلَا يُجَاء إِلَيْهِمَا جَوَاب حَتَّى يُحْبَسَا مِقْدَار ثَلَاث لَيَالٍ لِلشَّمْسِ وَلَيْلَتَيْنِ لِلْقَمَرِ ; فَلَا يُعْرَف طُول تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا الْمُتَهَجِّدُونَ فِي الْأَرْض وَهُمْ يَوْمئِذٍ عِصَابَة قَلِيلَة فِي كُلّ بَلْدَة مِنْ بِلَاد الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا تَمَّ لَهُمَا مِقْدَار ثَلَاث لَيَالٍ أَرْسَلَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُول : ( إِنَّ الرَّبّ سُبْحَانه وَتَعَالَى يَأْمُركُمَا أَنْ تَرْجِعَا إِلَى مَغَارِبكُمَا فَتَطْلُعَا مِنْهُ , وَأَنَّهُ لَا ضَوْء لَكُمَا عِنْدنَا وَلَا نُور ) فَيَطْلُعَانِ مِنْ مَغَارِبهمَا أَسْوَدَيْنِ , لَا ضَوْء لِلشَّمْسِ وَلَا نُور لِلْقَمَرِ , مِثْلهمَا فِي كُسُوفهمَا قَبْل ذَلِكَ . فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَجَمَعَ الشَّمْس وَالْقَمَر " [ الْقِيَامَة : 9 ] وَقَوْله : " إِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ " [ التَّكْوِير : 1 ] فَيَرْتَفِعَانِ كَذَلِكَ مِثْل الْبَعِيرَيْنِ الْمَقْرُونَيْنِ ; فَإِذَا مَا بَلَغَ الشَّمْس وَالْقَمَر سُرَّة السَّمَاء وَهِيَ مُنْتَصَفهَا جَاءَهُمَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ بِقُرُونِهِمَا وَرَدَّهُمَا إِلَى الْمَغْرِب , فَلَا يُغَرِّبهُمَا مِنْ مَغَارِبهمَا وَلَكِنْ يُغَرِّبهُمَا مِنْ بَاب التَّوْبَة ثُمَّ يَرُدّ الْمِصْرَاعَيْنِ , ثُمَّ يَلْتَئِم مَا بَيْنهمَا فَيَصِير كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنهمَا صَدْع . فَإِذَا أُغْلِقَ بَاب التَّوْبَة لَمْ تُقْبَل لِعَبْدٍ بَعْد ذَلِكَ تَوْبَة , وَلَمْ تَنْفَعهُ بَعْد ذَلِكَ حَسَنَة يَعْمَلهَا ; إِلَّا مَنْ كَانَ قَبْل ذَلِكَ مُحْسِنًا فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ الْيَوْم ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم يَأْتِي بَعْض آيَات رَبّك لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا " .
ثُمَّ إِنَّ الشَّمْس وَالْقَمَر يُكْسَيَانِ بَعْد ذَلِكَ الضَّوْء وَالنُّور , ثُمَّ يَطْلُعَانِ عَلَى النَّاس وَيُغَرِّبَانِ كَمَا كَانَا قَبْل ذَلِكَ يَطْلُعَانِ وَيَغْرُبَانِ . قَالَ الْعُلَمَاء : وَإِنَّمَا لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا عِنْد طُلُوعهَا مِنْ مَغْرِبهَا ; لِأَنَّهُ خَلَصَ إِلَى قُلُوبهمْ مِنْ الْفَزَع مَا تُخْمَد مَعَهُ كُلّ شَهْوَة مِنْ شَهَوَات النَّفْس , وَتَفْتُر كُلّ قُوَّة مِنْ قُوَى الْبَدَن ; فَيَصِير النَّاس كُلّهمْ لِإِيقَانِهِمْ بِدُنُوِّ الْقِيَامَة فِي حَال مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْت فِي اِنْقِطَاع الدَّوَاعِي إِلَى أَنْوَاع الْمَعَاصِي عَنْهُمْ , وَبُطْلَانهَا مِنْ أَبْدَانهمْ ; فَمَنْ تَابَ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال لَمْ تُقْبَل تَوْبَته , كَمَا لَا تُقْبَل تَوْبَة مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْت . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه يَقْبَل تَوْبَة الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرْغِر ) أَيْ تَبْلُغ رُوحه رَأْس حَلْقه , وَذَلِكَ وَقْت الْمُعَايَنَة الَّذِي يَرَى فِيهِ مَقْعَده مِنْ الْجَنَّة أَوْ مَقْعَده مِنْ النَّار ; فَالْمُشَاهَد لِطُلُوعِ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا مِثْله . وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُون تَوْبَة كُلّ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ كَالْمُشَاهَدِ لَهُ مَرْدُودَة مَا عَاشَ ; لِأَنَّ عِلْمه بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِوَعْدِهِ قَدْ صَارَ ضَرُورَة . فَإِنْ اِمْتَدَّتْ أَيَّام الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَنْسَى النَّاس مِنْ هَذَا الْأَمْر الْعَظِيم مَا كَانَ , وَلَا يَتَحَدَّثُوا عَنْهُ إِلَّا قَلِيلًا , فَيَصِير الْخَبَر عَنْهُ خَاصًّا وَيَنْقَطِع التَّوَاتُر عَنْهُ ; فَمَنْ أَسْلَمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت أَوْ تَابَ قُبِلَ مِنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : حَفِظْت مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْد , سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ أَوَّل الْآيَات خُرُوجًا طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَخُرُوج الدَّابَّة عَلَى النَّاس ضُحًى وَأَيّهمَا مَا كَانَتْ قَبْل صَاحِبَتهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرهَا قَرِيبًا ) . وَفِيهِ عَنْ حُذَيْفَة قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُرْفَة وَنَحْنُ أَسْفَل مِنْهُ , فَاطَّلَعَ إِلَيْنَا فَقَالَ : " مَا تَذْكُرُونَ ) ؟ قُلْنَا : السَّاعَة . قَالَ : ( إِنَّ السَّاعَة لَا تَكُون حَتَّى تَكُون عَشْر آيَات . خَسْف بِالْمَشْرِقِ وَخَسْف بِالْمَغْرِبِ وَخَسْف فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَالدُّخَان وَالدَّجَّال وَدَابَّة الْأَرْض وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج وَطُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَنَار تَخْرُج مِنْ قَعْر عَدْن تُرَحِّل النَّاس ) . قَالَ شُعْبَة : وَحَدَّثَنِي عَبْد الْعَزِيز بْن رُفَيْع عَنْ أَبِي الطُّفَيْل عَنْ أَبِي سَرِيحَة مِثْل ذَلِكَ , لَا يَذْكُر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ أَحَدهمَا فِي الْعَاشِرَة : وَنُزُول عِيسَى اِبْن مَرْيَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْآخَر : وَرِيح تُلْقِي النَّاس فِي الْبَحْر . قُلْت : وَهَذَا حَدِيث مُتْقِن فِي تَرْتِيب الْعَلَامَات . وَقَدْ وَقَعَ بَعْضهَا وَهِيَ الْخُسُوفَات عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ مِنْ وُقُوعهَا بِعِرَاقِ الْعَجَم وَالْمَغْرِب . وَهَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْق كَثِير ; ذَكَرَهُ فِي كِتَاب فُهُوم الْآثَار وَغَيْره . وَيَأْتِي ذِكْر الدَّابَّة فِي " النَّمْل " . وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي " الْكَهْف " . وَيُقَال : إِنَّ الْآيَات تَتَابَع كَالنَّظْمِ فِي الْخَيْط عَامًا فَعَامًا . وَقِيلَ : إِنَّ الْحُكْم فِي طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا أَنَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِنُمْرُوذ : " فَإِنَّ اللَّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِق فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِب فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ " [ الْبَقَرَة : 258 ] وَأَنَّ الْمُلْحِدَة وَالْمُنَجِّمَة عَنْ آخِرهمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ : هُوَ غَيْر كَائِن ; فَيُطْلِعهَا اللَّه تَعَالَى يَوْمًا مِنْ الْمَغْرِب لِيُرِيَ الْمُنْكِرِينَ قُدْرَته أَنَّ الشَّمْس فِي مُلْكه , إِنْ شَاءَ أَطْلَعَهَا مِنْ الْمَشْرِق وَإِنْ شَاءَ أَطْلَعَهَا مِنْ الْمَغْرِب . وَعَلَى هَذَا يَحْتَمِل أَنْ يَكُون رَدّ التَّوْبَة وَالْإِيمَان عَلَى مَنْ آمَنَ وَتَابَ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ الْمُكَذِّبِينَ لِخَبَرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطُلُوعِهَا , فَأَمَّا الْمُصَدِّقُونَ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ تُقْبَل تَوْبَتهمْ وَيَنْفَعهُمْ إِيمَانهمْ قَبْل ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْبَل مِنْ كَافِر عَمَل وَلَا تَوْبَة إِذَا أَسْلَمَ حِين يَرَاهَا , إِلَّا مَنْ كَانَ صَغِيرًا يَوْمئِذٍ ; فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ بَعْد ذَلِكَ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ . وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مُذْنِبًا فَتَابَ مِنْ الذَّنْب قُبِلَ مِنْهُ . وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا لَمْ تُقْبَل تَوْبَته وَقْت طُلُوع الشَّمْس حِين تَكُون صَيْحَة فَيَهْلِك فِيهَا كَثِير مِنْ النَّاس ; فَمَنْ أَسْلَمَ أَوْ تَابَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَهَلَكَ لَمْ تُقْبَل تَوْبَته , وَمَنْ تَابَ بَعْد ذَلِكَ قُبِلَتْ تَوْبَته ; ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ فِي تَفْسِيره . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : يَبْقَى النَّاس بَعْد طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة حَتَّى يَغْرِسُوا النَّخْل . وَاَللَّه بِغَيْبِهِ أَعْلَم . وَقَرَأَ اِبْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر " يَوْم تَأْتِي " بِالتَّاءِ ; مِثْل " تَلْتَقِطهُ بَعْض السَّيَّارَة " . وَذَهَبَتْ بَعْض أَصَابِعه . وَقَالَ جَرِير : لَمَّا أَتَى خَبَر الزُّبَيْر تَوَاضَعَتْ سُوَر الْمَدِينَة وَالْجِبَال الْخُشَّع قَالَ الْمُبَرِّد : التَّأْنِيث عَلَى الْمُجَاوَرَة لِمُؤَنَّثٍ لَا عَلَى الْأَصْل . وَقَرَأَ اِبْن سِيرِينَ " لَا تَنْفَع " بِالتَّاءِ . قَالَ أَبُو حَاتِم : يَذْكُرُونَ أَنَّ هَذَا غَلَط مِنْ اِبْن سِيرِينَ . قَالَ النَّحَّاس : فِي هَذَا شَيْء دَقِيق مِنْ النَّحْو ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَان وَالنَّفْس كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مُشْتَمِل عَلَى الْآخَر فَأَنَّثَ الْإِيمَان إِذْ هُوَ مِنْ النَّفْس وَبِهَا ; وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : مَشَيْنَ كَمَا اِهْتَزَّتْ رِمَاح تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرّ الرِّيَاح النَّوَاسِم قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَكَثِيرًا مَا يُؤَنِّثُونَ فِعْل الْمُضَاف الْمُذَكَّر إِذَا كَانَتْ إِضَافَته إِلَى مُؤَنَّث , وَكَانَ الْمُضَاف بَعْض الْمُضَاف إِلَيْهِ مِنْهُ أَوْ بِهِ ; وَعَلَيْهِ قَوْل ذِي الرُّمَّة : مَشَيْنَ . . . الْبَيْت فَأَنَّثَ الْمَرّ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الرِّيَاح وَهِيَ مُؤَنَّثَة , إِذْ كَانَ الْمَرّ مِنْ الرِّيَاح . قَالَ النَّحَّاس : وَفِيهِ قَوْل آخَر وَهُوَ أَنْ يُؤَنَّث الْإِيمَان لِأَنَّهُ مَصْدَر كَمَا يُذَكَّر الْمَصْدَر الْمُؤَنَّث ; مِثْل " فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبّه " [ الْبَقَرَة : 275 ] وَكَمَا قَالَ : فَقَدْ عَذَرْتنَا فِي صَحَابَته الْعُذْر فَفِي أَحَد الْأَقْوَال أَنَّثَ الْعُذْر لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَعْذِرَة . " قُلْ اِنْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ " بِكُمْ الْعَذَاب .
أَيْ عِنْد الْمَوْت لِقَبْضِ أَرْوَاحهمْ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : أَمَرَ رَبّك فِيهِمْ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْره , وَقَدْ يُذْكَر الْمُضَاف إِلَيْهِ وَالْمُرَاد بِهِ الْمُضَاف ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] يَعْنِي أَهْل الْقَرْيَة . وَقَوْله : " وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل " [ الْبَقَرَة : 93 ] أَيْ حُبّ الْعِجْل . كَذَلِكَ هُنَا : يَأْتِي أَمْر رَبّك , أَيْ عُقُوبَة رَبّك وَعَذَاب رَبّك . وَيُقَال : هَذَا مِنْ الْمُتَشَابِه الَّذِي لَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي مِثْله فِي " الْبَقَرَة " وَغَيْرهَا .
قِيلَ : هُوَ طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا . بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُمْ يُمْهَلُونَ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا ظَهَرَتْ السَّاعَة فَلَا إِمْهَال . وَقِيلَ : إِتْيَان اللَّه تَعَالَى مَجِيئُهُ لِفَصْلِ الْقَضَاء بَيْن خَلْقه فِي مَوْقِف الْقِيَامَة ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَجَاءَ رَبّك وَالْمَلَك صَفًّا صَفًّا " [ الْفَجْر : 22 ] . وَلَيْسَ مَجِيئُهُ تَعَالَى حَرَكَة وَلَا اِنْتِقَالًا وَلَا زَوَالًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُون إِذَا كَانَ الْجَائِي جِسْمًا أَوْ جَوْهَرًا . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور أَئِمَّة أَهْل السُّنَّة أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : يَجِيء وَيَنْزِل وَيَأْتِي . وَلَا يُكَيِّفُونَ ; لِأَنَّهُ " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير " [ الشُّورَى : 11 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاث إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا : طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَالدَّجَّال وَدَابَّة الْأَرْض ) . وَعَنْ صَفْوَان بْن عَسَّال الْمُرَادِيّ قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ بِالْمَغْرِبِ بَابًا مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ مَسِيرَة سَبْعِينَ سَنَة لَا يُغْلَق حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْ نَحْوه ) . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالدَّارِمِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَالَ سُفْيَان : قِبَل الشَّام , خَلَقَهُ اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض . ( مَفْتُوحًا ) يَعْنِي لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَق حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْهُ . قَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . قُلْت : وَكَذَّبَ بِهَذَا كُلّه الْخَوَارِج وَالْمُعْتَزِلَة كَمَا تَقَدَّمَ . وَرَوَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ : أَيّهَا النَّاس , إِنَّ الرَّجْم حَقّ فَلَا تُخْدَعُنَّ عَنْهُ , وَإِنَّ آيَة ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَمَ , وَأَنَّ أَبَا بَكْر قَدْ رَجَمَ , وَأَنَا قَدْ رَجَمْنَا بَعْدهمَا , وَسَيَكُونُ قَوْم مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ , وَيُكَذِّبُونَ بِالدَّجَّالِ , وَيُكَذِّبُونَ بِطُلُوعِ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا , وَيُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْر , وَيُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ , وَيُكَذِّبُونَ بِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار بَعْد مَا اِمْتَحَشُوا . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ فِي حَدِيث فِيهِ طُول عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّ الشَّمْس تُحْبَس عَنْ النَّاس - حِين تَكْثُر الْمَعَاصِي فِي الْأَرْض , وَيَذْهَب الْمَعْرُوف فَلَا يَأْمُر بِهِ أَحَد , وَيَفْشُو الْمُنْكَر فَلَا يُنْهَى عَنْهُ - مِقْدَار لَيْلَة تَحْت الْعَرْش , كُلَّمَا سَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ رَبّهَا تَعَالَى مِنْ أَيْنَ تَطْلُع لَمْ يَجِئْ لَهَا جَوَاب حَتَّى يُوَافِيهَا الْقَمَر فَيَسْجُد مَعَهَا , وَيَسْتَأْذِن مِنْ أَيْنَ يَطْلُع فَلَا يُجَاء إِلَيْهِمَا جَوَاب حَتَّى يُحْبَسَا مِقْدَار ثَلَاث لَيَالٍ لِلشَّمْسِ وَلَيْلَتَيْنِ لِلْقَمَرِ ; فَلَا يُعْرَف طُول تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا الْمُتَهَجِّدُونَ فِي الْأَرْض وَهُمْ يَوْمئِذٍ عِصَابَة قَلِيلَة فِي كُلّ بَلْدَة مِنْ بِلَاد الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا تَمَّ لَهُمَا مِقْدَار ثَلَاث لَيَالٍ أَرْسَلَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُول : ( إِنَّ الرَّبّ سُبْحَانه وَتَعَالَى يَأْمُركُمَا أَنْ تَرْجِعَا إِلَى مَغَارِبكُمَا فَتَطْلُعَا مِنْهُ , وَأَنَّهُ لَا ضَوْء لَكُمَا عِنْدنَا وَلَا نُور ) فَيَطْلُعَانِ مِنْ مَغَارِبهمَا أَسْوَدَيْنِ , لَا ضَوْء لِلشَّمْسِ وَلَا نُور لِلْقَمَرِ , مِثْلهمَا فِي كُسُوفهمَا قَبْل ذَلِكَ . فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَجَمَعَ الشَّمْس وَالْقَمَر " [ الْقِيَامَة : 9 ] وَقَوْله : " إِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ " [ التَّكْوِير : 1 ] فَيَرْتَفِعَانِ كَذَلِكَ مِثْل الْبَعِيرَيْنِ الْمَقْرُونَيْنِ ; فَإِذَا مَا بَلَغَ الشَّمْس وَالْقَمَر سُرَّة السَّمَاء وَهِيَ مُنْتَصَفهَا جَاءَهُمَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ بِقُرُونِهِمَا وَرَدَّهُمَا إِلَى الْمَغْرِب , فَلَا يُغَرِّبهُمَا مِنْ مَغَارِبهمَا وَلَكِنْ يُغَرِّبهُمَا مِنْ بَاب التَّوْبَة ثُمَّ يَرُدّ الْمِصْرَاعَيْنِ , ثُمَّ يَلْتَئِم مَا بَيْنهمَا فَيَصِير كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنهمَا صَدْع . فَإِذَا أُغْلِقَ بَاب التَّوْبَة لَمْ تُقْبَل لِعَبْدٍ بَعْد ذَلِكَ تَوْبَة , وَلَمْ تَنْفَعهُ بَعْد ذَلِكَ حَسَنَة يَعْمَلهَا ; إِلَّا مَنْ كَانَ قَبْل ذَلِكَ مُحْسِنًا فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ الْيَوْم ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم يَأْتِي بَعْض آيَات رَبّك لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا " .
ثُمَّ إِنَّ الشَّمْس وَالْقَمَر يُكْسَيَانِ بَعْد ذَلِكَ الضَّوْء وَالنُّور , ثُمَّ يَطْلُعَانِ عَلَى النَّاس وَيُغَرِّبَانِ كَمَا كَانَا قَبْل ذَلِكَ يَطْلُعَانِ وَيَغْرُبَانِ . قَالَ الْعُلَمَاء : وَإِنَّمَا لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا عِنْد طُلُوعهَا مِنْ مَغْرِبهَا ; لِأَنَّهُ خَلَصَ إِلَى قُلُوبهمْ مِنْ الْفَزَع مَا تُخْمَد مَعَهُ كُلّ شَهْوَة مِنْ شَهَوَات النَّفْس , وَتَفْتُر كُلّ قُوَّة مِنْ قُوَى الْبَدَن ; فَيَصِير النَّاس كُلّهمْ لِإِيقَانِهِمْ بِدُنُوِّ الْقِيَامَة فِي حَال مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْت فِي اِنْقِطَاع الدَّوَاعِي إِلَى أَنْوَاع الْمَعَاصِي عَنْهُمْ , وَبُطْلَانهَا مِنْ أَبْدَانهمْ ; فَمَنْ تَابَ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال لَمْ تُقْبَل تَوْبَته , كَمَا لَا تُقْبَل تَوْبَة مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْت . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه يَقْبَل تَوْبَة الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرْغِر ) أَيْ تَبْلُغ رُوحه رَأْس حَلْقه , وَذَلِكَ وَقْت الْمُعَايَنَة الَّذِي يَرَى فِيهِ مَقْعَده مِنْ الْجَنَّة أَوْ مَقْعَده مِنْ النَّار ; فَالْمُشَاهَد لِطُلُوعِ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا مِثْله . وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُون تَوْبَة كُلّ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ كَالْمُشَاهَدِ لَهُ مَرْدُودَة مَا عَاشَ ; لِأَنَّ عِلْمه بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِوَعْدِهِ قَدْ صَارَ ضَرُورَة . فَإِنْ اِمْتَدَّتْ أَيَّام الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَنْسَى النَّاس مِنْ هَذَا الْأَمْر الْعَظِيم مَا كَانَ , وَلَا يَتَحَدَّثُوا عَنْهُ إِلَّا قَلِيلًا , فَيَصِير الْخَبَر عَنْهُ خَاصًّا وَيَنْقَطِع التَّوَاتُر عَنْهُ ; فَمَنْ أَسْلَمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت أَوْ تَابَ قُبِلَ مِنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : حَفِظْت مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْد , سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ أَوَّل الْآيَات خُرُوجًا طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَخُرُوج الدَّابَّة عَلَى النَّاس ضُحًى وَأَيّهمَا مَا كَانَتْ قَبْل صَاحِبَتهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرهَا قَرِيبًا ) . وَفِيهِ عَنْ حُذَيْفَة قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُرْفَة وَنَحْنُ أَسْفَل مِنْهُ , فَاطَّلَعَ إِلَيْنَا فَقَالَ : " مَا تَذْكُرُونَ ) ؟ قُلْنَا : السَّاعَة . قَالَ : ( إِنَّ السَّاعَة لَا تَكُون حَتَّى تَكُون عَشْر آيَات . خَسْف بِالْمَشْرِقِ وَخَسْف بِالْمَغْرِبِ وَخَسْف فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَالدُّخَان وَالدَّجَّال وَدَابَّة الْأَرْض وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج وَطُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَنَار تَخْرُج مِنْ قَعْر عَدْن تُرَحِّل النَّاس ) . قَالَ شُعْبَة : وَحَدَّثَنِي عَبْد الْعَزِيز بْن رُفَيْع عَنْ أَبِي الطُّفَيْل عَنْ أَبِي سَرِيحَة مِثْل ذَلِكَ , لَا يَذْكُر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ أَحَدهمَا فِي الْعَاشِرَة : وَنُزُول عِيسَى اِبْن مَرْيَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْآخَر : وَرِيح تُلْقِي النَّاس فِي الْبَحْر . قُلْت : وَهَذَا حَدِيث مُتْقِن فِي تَرْتِيب الْعَلَامَات . وَقَدْ وَقَعَ بَعْضهَا وَهِيَ الْخُسُوفَات عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ مِنْ وُقُوعهَا بِعِرَاقِ الْعَجَم وَالْمَغْرِب . وَهَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْق كَثِير ; ذَكَرَهُ فِي كِتَاب فُهُوم الْآثَار وَغَيْره . وَيَأْتِي ذِكْر الدَّابَّة فِي " النَّمْل " . وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي " الْكَهْف " . وَيُقَال : إِنَّ الْآيَات تَتَابَع كَالنَّظْمِ فِي الْخَيْط عَامًا فَعَامًا . وَقِيلَ : إِنَّ الْحُكْم فِي طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا أَنَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِنُمْرُوذ : " فَإِنَّ اللَّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِق فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِب فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ " [ الْبَقَرَة : 258 ] وَأَنَّ الْمُلْحِدَة وَالْمُنَجِّمَة عَنْ آخِرهمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ : هُوَ غَيْر كَائِن ; فَيُطْلِعهَا اللَّه تَعَالَى يَوْمًا مِنْ الْمَغْرِب لِيُرِيَ الْمُنْكِرِينَ قُدْرَته أَنَّ الشَّمْس فِي مُلْكه , إِنْ شَاءَ أَطْلَعَهَا مِنْ الْمَشْرِق وَإِنْ شَاءَ أَطْلَعَهَا مِنْ الْمَغْرِب . وَعَلَى هَذَا يَحْتَمِل أَنْ يَكُون رَدّ التَّوْبَة وَالْإِيمَان عَلَى مَنْ آمَنَ وَتَابَ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ الْمُكَذِّبِينَ لِخَبَرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطُلُوعِهَا , فَأَمَّا الْمُصَدِّقُونَ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ تُقْبَل تَوْبَتهمْ وَيَنْفَعهُمْ إِيمَانهمْ قَبْل ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْبَل مِنْ كَافِر عَمَل وَلَا تَوْبَة إِذَا أَسْلَمَ حِين يَرَاهَا , إِلَّا مَنْ كَانَ صَغِيرًا يَوْمئِذٍ ; فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ بَعْد ذَلِكَ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ . وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مُذْنِبًا فَتَابَ مِنْ الذَّنْب قُبِلَ مِنْهُ . وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا لَمْ تُقْبَل تَوْبَته وَقْت طُلُوع الشَّمْس حِين تَكُون صَيْحَة فَيَهْلِك فِيهَا كَثِير مِنْ النَّاس ; فَمَنْ أَسْلَمَ أَوْ تَابَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَهَلَكَ لَمْ تُقْبَل تَوْبَته , وَمَنْ تَابَ بَعْد ذَلِكَ قُبِلَتْ تَوْبَته ; ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ فِي تَفْسِيره . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : يَبْقَى النَّاس بَعْد طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة حَتَّى يَغْرِسُوا النَّخْل . وَاَللَّه بِغَيْبِهِ أَعْلَم . وَقَرَأَ اِبْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر " يَوْم تَأْتِي " بِالتَّاءِ ; مِثْل " تَلْتَقِطهُ بَعْض السَّيَّارَة " . وَذَهَبَتْ بَعْض أَصَابِعه . وَقَالَ جَرِير : لَمَّا أَتَى خَبَر الزُّبَيْر تَوَاضَعَتْ سُوَر الْمَدِينَة وَالْجِبَال الْخُشَّع قَالَ الْمُبَرِّد : التَّأْنِيث عَلَى الْمُجَاوَرَة لِمُؤَنَّثٍ لَا عَلَى الْأَصْل . وَقَرَأَ اِبْن سِيرِينَ " لَا تَنْفَع " بِالتَّاءِ . قَالَ أَبُو حَاتِم : يَذْكُرُونَ أَنَّ هَذَا غَلَط مِنْ اِبْن سِيرِينَ . قَالَ النَّحَّاس : فِي هَذَا شَيْء دَقِيق مِنْ النَّحْو ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَان وَالنَّفْس كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مُشْتَمِل عَلَى الْآخَر فَأَنَّثَ الْإِيمَان إِذْ هُوَ مِنْ النَّفْس وَبِهَا ; وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : مَشَيْنَ كَمَا اِهْتَزَّتْ رِمَاح تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرّ الرِّيَاح النَّوَاسِم قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَكَثِيرًا مَا يُؤَنِّثُونَ فِعْل الْمُضَاف الْمُذَكَّر إِذَا كَانَتْ إِضَافَته إِلَى مُؤَنَّث , وَكَانَ الْمُضَاف بَعْض الْمُضَاف إِلَيْهِ مِنْهُ أَوْ بِهِ ; وَعَلَيْهِ قَوْل ذِي الرُّمَّة : مَشَيْنَ . . . الْبَيْت فَأَنَّثَ الْمَرّ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الرِّيَاح وَهِيَ مُؤَنَّثَة , إِذْ كَانَ الْمَرّ مِنْ الرِّيَاح . قَالَ النَّحَّاس : وَفِيهِ قَوْل آخَر وَهُوَ أَنْ يُؤَنَّث الْإِيمَان لِأَنَّهُ مَصْدَر كَمَا يُذَكَّر الْمَصْدَر الْمُؤَنَّث ; مِثْل " فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبّه " [ الْبَقَرَة : 275 ] وَكَمَا قَالَ : فَقَدْ عَذَرْتنَا فِي صَحَابَته الْعُذْر فَفِي أَحَد الْأَقْوَال أَنَّثَ الْعُذْر لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَعْذِرَة . " قُلْ اِنْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ " بِكُمْ الْعَذَاب .
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ↓
قَرَأَهُ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ فَارَقُوا بِالْأَلِفِ , وَهِيَ قِرَاءَة عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب كَرَّمَ اللَّه وَجْهه ; مِنْ الْمُفَارَقَة وَالْفِرَاق . عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا دِينهمْ وَخَرَجُوا عَنْهُ . وَكَانَ عَلِيّ يَقُول : وَاَللَّه مَا فَرَّقُوهُ وَلَكِنْ فَارَقُوهُ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ ; إِلَّا النَّخَعِيّ فَإِنَّهُ قَرَأَ " فَرَّقُوا " مُخَفَّفًا ; أَيْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ . وَالْمُرَاد الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي قَوْل مُجَاهِد وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَالضَّحَّاك . وَقَدْ وُصِفُوا بِالتَّفَرُّقِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَة " [ الْبَيِّنَة : 4 ] . وَقَالَ : " وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْن اللَّه وَرُسُله " [ النِّسَاء : 150 ] . وَقِيلَ : عَنَى الْمُشْرِكِينَ , عَبَدَ بَعْضهمْ الصَّنَم وَبَعْضهمْ الْمَلَائِكَة . وَقِيلَ : الْآيَة عَامَّة فِي جَمِيع الْكُفَّار . وَكُلّ مَنْ اِبْتَدَعَ وَجَاءَ بِمَا لَمْ يَأْمُر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ فَقَدْ فَرَّقَ دِينه . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَة " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينهمْ " هُمْ أَهْل الْبِدَع وَالشُّبُهَات , وَأَهْل الضَّلَالَة مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة . وَرَوَى بَقِيَّة بْن الْوَلِيد حَدَّثَنَا شُعْبَة بْن الْحَجَّاج حَدَّثَنَا مُجَالِد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ شُرَيْح عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَة : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينهمْ وَكَانُوا شِيَعًا إِنَّمَا هُمْ أَصْحَاب الْبِدَع وَأَصْحَاب الْأَهْوَاء وَأَصْحَاب الضَّلَالَة مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة , يَا عَائِشَة إِنَّ لِكُلِّ صَاحِب ذَنْب تَوْبَة غَيْر أَصْحَاب الْبِدَع وَأَصْحَاب الْأَهْوَاء لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَة وَأَنَا بَرِيء مِنْهُمْ وَهُمْ مِنَّا بُرَآء ) . وَرَوَى لَيْث بْن أَبِي سُلَيْم عَنْ طَاوُس عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ " إِنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينهمْ " .
فِرَقًا وَأَحْزَابًا . وَكُلّ قَوْم أَمْرهمْ وَاحِد يَتَّبِع بَعْضهمْ رَأْي بَعْض فَهُمْ شِيَع .
فَأَوْجَبَ بَرَاءَته مِنْهُمْ ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) أَيْ نَحْنُ بُرَآء مِنْهُ . وَقَالَ الشَّاعِر : إِذَا حَاوَلْت فِي أَسَد فُجُورًا فَإِنِّي لَسْت مِنْك وَلَسْت مِنِّي أَيْ أَنَا أَبْرَأ مِنْك . وَمَوْضِع " فِي شَيْء " نَصْب عَلَى الْحَال مِنْ الْمُضْمَر الَّذِي فِي الْخَبَر ; قَالَهُ أَبُو عَلِيّ . وَقَالَ الْفَرَّاء هُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف , الْمَعْنَى لَسْت مِنْ عِقَابهمْ فِي شَيْء , وَإِنَّمَا عَلَيْك الْإِنْذَار .
تَعْزِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فِرَقًا وَأَحْزَابًا . وَكُلّ قَوْم أَمْرهمْ وَاحِد يَتَّبِع بَعْضهمْ رَأْي بَعْض فَهُمْ شِيَع .
فَأَوْجَبَ بَرَاءَته مِنْهُمْ ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) أَيْ نَحْنُ بُرَآء مِنْهُ . وَقَالَ الشَّاعِر : إِذَا حَاوَلْت فِي أَسَد فُجُورًا فَإِنِّي لَسْت مِنْك وَلَسْت مِنِّي أَيْ أَنَا أَبْرَأ مِنْك . وَمَوْضِع " فِي شَيْء " نَصْب عَلَى الْحَال مِنْ الْمُضْمَر الَّذِي فِي الْخَبَر ; قَالَهُ أَبُو عَلِيّ . وَقَالَ الْفَرَّاء هُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف , الْمَعْنَى لَسْت مِنْ عِقَابهمْ فِي شَيْء , وَإِنَّمَا عَلَيْك الْإِنْذَار .
تَعْزِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ↓
اِبْتِدَاء , وَهُوَ شَرْط , وَالْجَوَاب " فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا "
أَيْ فَلَهُ عَشْر حَسَنَات أَمْثَالهَا ; فَحُذِفَتْ الْحَسَنَات وَأُقِيمَتْ الْأَمْثَال الَّتِي هِيَ صِفَتهَا مَقَامهَا ; جَمْع مِثْل وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : عِنْدِي عَشَرَة نَسَّابَات , أَيْ عِنْدِي عَشَرَة رِجَال نَسَّابَات . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : حَسُنَ التَّأْنِيث فِي " عَشْر أَمْثَالهَا " لِمَا كَانَ الْأَمْثَال مُضَافًا إِلَى مُؤَنَّث , وَالْإِضَافَة إِلَى الْمُؤَنَّث إِذَا كَانَ إِيَّاهُ فِي الْمَعْنَى يَحْسُن فِيهِ ذَلِكَ ; نَحْو " تَلْتَقِطهُ بَعْض السَّيَّارَة " . وَذَهَبَتْ بَعْض أَصَابِعه . وَقَرَأَ الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْأَعْمَش " فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا " . وَالتَّقْدِير : فَلَهُ عَشْر حَسَنَات أَمْثَالهَا , أَيْ لَهُ مِنْ الْجَزَاء عَشْرَة أَضْعَاف مِمَّا يَجِب لَهُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون لَهُ مِثْل , وَيُضَاعَف الْمِثْل فَيَصِير عَشَرَة . وَالْحَسَنَة هُنَا : الْإِيمَان . أَيْ مَنْ جَاءَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَلَهُ بِكُلِّ عَمَل عَمَله فِي الدُّنْيَا مِنْ الْخَيْر عَشَرَة أَمْثَاله مِنْ الثَّوَاب .
يَعْنِي الشِّرْك .
وَهُوَ الْخُلُود فِي النَّار ; لِأَنَّ الشِّرْك أَعْظَم الذُّنُوب , وَالنَّار أَعْظَم الْعُقُوبَة ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " جَزَاء وِفَاقًا " [ النَّبَأ : 26 ] يَعْنِي جَزَاء وَافَقَ الْعَمَل . وَأَمَّا الْحَسَنَة فَبِخِلَافِ ذَلِكَ ; لِنَصِّ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ . وَفِي الْخَبَر ( الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا وَأَزِيد وَالسَّيِّئَة وَاحِدَة وَأَغْفِر فَالْوَيْل لِمَنْ غَلَبَتْ آحَاده أَعْشَاره ) . وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح قَالَ : الْحَسَنَة لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَالسَّيِّئَة الشِّرْك .
أَيْ لَا يَنْقُص ثَوَاب أَعْمَالهمْ . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " بَيَان هَذِهِ الْآيَة , وَأَنَّهَا مُخَالِفَة لِلْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّه ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : الْعَشْر لِسَائِرِ الْحَسَنَات ; وَالسَّبْعمِائَةِ لِلنَّفَقَةِ فِي سَبِيل اللَّه , وَالْخَاصّ وَالْعَامّ فِيهِ سَوَاء . وَقَالَ بَعْضهمْ : يَكُون لِلْعَوَامِّ عَشَرَة وَلِلْخَوَاصِّ سَبْعمِائَةِ وَأَكْثَر إِلَى مَا لَا يُحْصَى ; وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى تَوْقِيف . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; لِحَدِيثِ خُرَيْم بْن فَاتِك عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ : ( وَأَمَّا حَسَنَة بِعَشْرٍ فَمَنْ عَمِلَ حَسَنَة فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا وَأَمَّا حَسَنَة بِسَبْعِمِائَةٍ فَالنَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه ) .
أَيْ فَلَهُ عَشْر حَسَنَات أَمْثَالهَا ; فَحُذِفَتْ الْحَسَنَات وَأُقِيمَتْ الْأَمْثَال الَّتِي هِيَ صِفَتهَا مَقَامهَا ; جَمْع مِثْل وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : عِنْدِي عَشَرَة نَسَّابَات , أَيْ عِنْدِي عَشَرَة رِجَال نَسَّابَات . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : حَسُنَ التَّأْنِيث فِي " عَشْر أَمْثَالهَا " لِمَا كَانَ الْأَمْثَال مُضَافًا إِلَى مُؤَنَّث , وَالْإِضَافَة إِلَى الْمُؤَنَّث إِذَا كَانَ إِيَّاهُ فِي الْمَعْنَى يَحْسُن فِيهِ ذَلِكَ ; نَحْو " تَلْتَقِطهُ بَعْض السَّيَّارَة " . وَذَهَبَتْ بَعْض أَصَابِعه . وَقَرَأَ الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْأَعْمَش " فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا " . وَالتَّقْدِير : فَلَهُ عَشْر حَسَنَات أَمْثَالهَا , أَيْ لَهُ مِنْ الْجَزَاء عَشْرَة أَضْعَاف مِمَّا يَجِب لَهُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون لَهُ مِثْل , وَيُضَاعَف الْمِثْل فَيَصِير عَشَرَة . وَالْحَسَنَة هُنَا : الْإِيمَان . أَيْ مَنْ جَاءَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَلَهُ بِكُلِّ عَمَل عَمَله فِي الدُّنْيَا مِنْ الْخَيْر عَشَرَة أَمْثَاله مِنْ الثَّوَاب .
يَعْنِي الشِّرْك .
وَهُوَ الْخُلُود فِي النَّار ; لِأَنَّ الشِّرْك أَعْظَم الذُّنُوب , وَالنَّار أَعْظَم الْعُقُوبَة ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " جَزَاء وِفَاقًا " [ النَّبَأ : 26 ] يَعْنِي جَزَاء وَافَقَ الْعَمَل . وَأَمَّا الْحَسَنَة فَبِخِلَافِ ذَلِكَ ; لِنَصِّ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ . وَفِي الْخَبَر ( الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا وَأَزِيد وَالسَّيِّئَة وَاحِدَة وَأَغْفِر فَالْوَيْل لِمَنْ غَلَبَتْ آحَاده أَعْشَاره ) . وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح قَالَ : الْحَسَنَة لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَالسَّيِّئَة الشِّرْك .
أَيْ لَا يَنْقُص ثَوَاب أَعْمَالهمْ . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " بَيَان هَذِهِ الْآيَة , وَأَنَّهَا مُخَالِفَة لِلْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّه ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : الْعَشْر لِسَائِرِ الْحَسَنَات ; وَالسَّبْعمِائَةِ لِلنَّفَقَةِ فِي سَبِيل اللَّه , وَالْخَاصّ وَالْعَامّ فِيهِ سَوَاء . وَقَالَ بَعْضهمْ : يَكُون لِلْعَوَامِّ عَشَرَة وَلِلْخَوَاصِّ سَبْعمِائَةِ وَأَكْثَر إِلَى مَا لَا يُحْصَى ; وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى تَوْقِيف . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; لِحَدِيثِ خُرَيْم بْن فَاتِك عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ : ( وَأَمَّا حَسَنَة بِعَشْرٍ فَمَنْ عَمِلَ حَسَنَة فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا وَأَمَّا حَسَنَة بِسَبْعِمِائَةٍ فَالنَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه ) .
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ↓
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّار تَفَرَّقُوا بَيَّنَ أَنَّ اللَّه هَدَاهُ إِلَى الدِّين الْمُسْتَقِيم وَهُوَ دِين إِبْرَاهِيم
نُصِبَ عَلَى الْحَال ; عَنْ قُطْرُب . وَقِيلَ : نُصِبَ ب " هَدَانِي " عَنْ الْأَخْفَش . قَالَ غَيْره : اُنْتُصِبَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى هَدَانِي عَرَفَنِي دِينًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون بَدَلًا مِنْ الصِّرَاط , أَيْ هَدَانِي صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا دِينًا . وَقِيلَ : مَنْصُوب بِإِضْمَارِ فِعْل ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : اِتَّبِعُوا دِينًا , وَاعْرِفُوا دِينًا .
قَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ وَابْن عَامِر بِكَسْرِ الْقَاف وَالتَّخْفِيف وَفَتْح الْيَاء , مَصْدَر كَالشِّبَعِ فَوُصِفَ بِهِ . وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَاف وَكَسْر الْيَاء وَشَدّهَا , وَهُمَا لُغَتَانِ . وَأَصْل الْيَاء الْوَاو " قَيُّوم " ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْوَاو فِي الْيَاء كَمَيِّتٍ . وَمَعْنَاهُ دِينًا مُسْتَقِيمًا لَا عِوَج فِيهِ .
بَدَل .
قَالَ الزَّجَّاج : هُوَ حَال مِنْ إِبْرَاهِيم . وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : هُوَ نَصْب بِإِضْمَارِ أَعْنِي .
نُصِبَ عَلَى الْحَال ; عَنْ قُطْرُب . وَقِيلَ : نُصِبَ ب " هَدَانِي " عَنْ الْأَخْفَش . قَالَ غَيْره : اُنْتُصِبَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى هَدَانِي عَرَفَنِي دِينًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون بَدَلًا مِنْ الصِّرَاط , أَيْ هَدَانِي صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا دِينًا . وَقِيلَ : مَنْصُوب بِإِضْمَارِ فِعْل ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : اِتَّبِعُوا دِينًا , وَاعْرِفُوا دِينًا .
قَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ وَابْن عَامِر بِكَسْرِ الْقَاف وَالتَّخْفِيف وَفَتْح الْيَاء , مَصْدَر كَالشِّبَعِ فَوُصِفَ بِهِ . وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَاف وَكَسْر الْيَاء وَشَدّهَا , وَهُمَا لُغَتَانِ . وَأَصْل الْيَاء الْوَاو " قَيُّوم " ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْوَاو فِي الْيَاء كَمَيِّتٍ . وَمَعْنَاهُ دِينًا مُسْتَقِيمًا لَا عِوَج فِيهِ .
بَدَل .
قَالَ الزَّجَّاج : هُوَ حَال مِنْ إِبْرَاهِيم . وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : هُوَ نَصْب بِإِضْمَارِ أَعْنِي .
قَدْ تَقَدَّمَ اِشْتِقَاق لَفْظ الصَّلَاة . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهَا هُنَا صَلَاة اللَّيْل . وَقِيلَ : صَلَاة الْعِيد . وَالنُّسُك جَمْع نَسِيكَة , وَهِيَ الذَّبِيحَة , وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيْرهمْ . وَالْمَعْنَى : ذَبْحِي فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَة . وَقَالَ الْحَسَن : نُسُكِي دِينِي . وَقَالَ الزَّجَّاج : عِبَادَتِي ; وَمِنْهُ النَّاسِك الَّذِي يَتَقَرَّب إِلَى اللَّه بِالْعِبَادَةِ . وَقَالَ قَوْم : النُّسُك فِي هَذِهِ الْآيَة جَمِيع أَعْمَال الْبِرّ وَالطَّاعَات ; مِنْ قَوْلك نَسَكَ فُلَان فَهُوَ نَاسِك , إِذَا تَعَبَّدَ .
أَيْ مَا أَعْمَلهُ فِي حَيَاتِي .
أَيْ مَا أُوصِي بِهِ بَعْد وَفَاتِي .
أَيْ أُفْرِدهُ بِالتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَيْهِ . وَقِيلَ : " وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ " أَيْ حَيَاتِي وَمَوْتِي لَهُ . وَقَرَأَ الْحَسَن : " نُسْكِي " بِإِسْكَانِ السِّين . وَأَهْل الْمَدِينَة " وَمَحْيَايْ " بِسُكُونِ الْيَاء فِي الْإِدْرَاج . وَالْعَامَّة بِفَتْحِهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِع سَاكِنَانِ . قَالَ النَّحَّاس : لَمْ يُجِزْهُ أَحَد مِنْ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا يُونُس , وَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّ قَبْله أَلِفًا , وَالْأَلِف الْمَدَّة الَّتِي فِيهَا تَقُوم مَقَام الْحَرَكَة . وَأَجَازَ يُونُس اِضْرِبَانِ زَيْدًا , وَإِنَّمَا مَنَعَ النَّحْوِيُّونَ هَذَا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْن سَاكِنَيْنِ وَلَيْسَ فِي الثَّانِي إِدْغَام , وَمَنْ قَرَأَ بِقِرَاءَةِ أَهْل الْمَدِينَة وَأَرَادَ أَنْ يَسْلَم مِنْ اللَّحْن وَقَفَ عَلَى " مَحْيَايَ " فَيَكُون غَيْر لَاحِن عِنْد جَمِيع النَّحْوِيِّينَ . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق وَعِيسَى بْن عُمَر وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ " وَمَحْيَيَّ " بِتَشْدِيدِ الْيَاء الثَّانِيَة مِنْ غَيْر أَلِف ; وَهِيَ لُغَة عُلْيَا مُضَر يَقُولُونَ : قَفَيَّ وَعَصَيَّ . وَأَنْشَدَ أَهْل اللُّغَة : سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : قَوْله تَعَالَى : " قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " إِلَى قَوْله : " قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " اِسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيّ عَلَى اِفْتِتَاح الصَّلَاة بِهَذَا الذِّكْر ; فَإِنَّ اللَّه أَمَرَ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَهُ فِي كِتَابه , ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة قَالَ : " وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ - إِلَى قَوْله - وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) . قُلْت : رَوَى مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَالَ : ( وَجَّهْت وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيك لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ . اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ , أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَن الْأَخْلَاق لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِف عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْر كُلّه فِي يَدَيْك وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك . تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت . أَسْتَغْفِرك وَأَتُوب إِلَيْك . الْحَدِيث . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِي آخِره : بَلَغَنَا عَنْ النَّضْر بْن شُمَيْل وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاء بِاللُّغَةِ وَغَيْرهَا قَالَ : مَعْنَى قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك ) الشَّرّ لَيْسَ مِمَّا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَيْك . قَالَ مَالِك : لَيْسَ التَّوْجِيه فِي الصَّلَاة بِوَاجِبٍ عَلَى النَّاس , وَالْوَاجِب عَلَيْهِمْ التَّكْبِير ثُمَّ الْقِرَاءَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : لَمْ يَرَ مَالِك هَذَا الَّذِي يَقُولهُ النَّاس قَبْل الْقِرَاءَة : سُبْحَانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك . وَفِي مُخْتَصَر مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَر : أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولهُ فِي خَاصَّة نَفْسه ; لِصِحَّةِ الْحَدِيث بِهِ , وَكَانَ لَا يَرَاهُ لِلنَّاسِ مَخَافَة أَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبه . قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : وَكُنْت أُصَلِّي وَرَاء شَيْخنَا أَبِي بَكْر الدَّيْنَوَرِيّ الْفَقِيه فِي زَمَان الصَّبَا , فَرَآنِي مَرَّة أَفْعَل هَذَا فَقَالَ : يَا بُنَيّ , إِنَّ الْفُقَهَاء قَدْ اِخْتَلَفُوا فِي وُجُوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة خَلْف الْإِمَام , وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الِافْتِتَاح سُنَّة , فَاشْتَغِلْ بِالْوَاجِبِ وَدَعْ السُّنَن . وَالْحُجَّة لِمَالِكٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاة : ( إِذَا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَكَبِّرْ ثُمَّ اِقْرَأْ ) وَلَمْ يَقُلْ لَهُ سَبِّحْ كَمَا يَقُول أَبُو حَنِيفَة , وَلَا قُلْ وَجَّهْت وَجْهِيَ , كَمَا يَقُول الشَّافِعِيّ . وَقَالَ لِأُبَيّ : ( كَيْف تَقْرَأ إِذَا اِفْتَتَحَتْ الصَّلَاة ) ؟ قَالَ : قُلْت اللَّه أَكْبَر , الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . فَلَمْ يَذْكُر تَوْجِيهًا وَلَا تَسْبِيحًا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ عَلِيًّا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولهُ . قُلْنَا : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَالَهُ قَبْل التَّكْبِير ثُمَّ كَبَّرَ , وَذَلِكَ حَسَن عِنْدنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة كَبَّرَ ثُمَّ يَقُول : ( إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ) الْحَدِيث قُلْنَا : هَذَا نَحْمِلهُ عَلَى النَّافِلَة فِي صَلَاة اللَّيْل ; كَمَا جَاءَ فِي كِتَاب النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة بِاللَّيْلِ قَالَ : ( سُبْحَانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك تَبَارَكَ اِسْمك وَتَعَالَى جَدّك وَلَا إِلَه غَيْرك ) . أَوْ فِي النَّافِلَة مُطْلَقًا ; فَإِنَّ النَّافِلَة أَخَفّ مِنْ الْفَرْض ; لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُصَلِّيهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا , وَإِلَى الْقِبْلَة وَغَيْرهَا فِي السَّفَر , فَأَمْرهَا أَيْسَر .
أَيْ مَا أَعْمَلهُ فِي حَيَاتِي .
أَيْ مَا أُوصِي بِهِ بَعْد وَفَاتِي .
أَيْ أُفْرِدهُ بِالتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَيْهِ . وَقِيلَ : " وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ " أَيْ حَيَاتِي وَمَوْتِي لَهُ . وَقَرَأَ الْحَسَن : " نُسْكِي " بِإِسْكَانِ السِّين . وَأَهْل الْمَدِينَة " وَمَحْيَايْ " بِسُكُونِ الْيَاء فِي الْإِدْرَاج . وَالْعَامَّة بِفَتْحِهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِع سَاكِنَانِ . قَالَ النَّحَّاس : لَمْ يُجِزْهُ أَحَد مِنْ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا يُونُس , وَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّ قَبْله أَلِفًا , وَالْأَلِف الْمَدَّة الَّتِي فِيهَا تَقُوم مَقَام الْحَرَكَة . وَأَجَازَ يُونُس اِضْرِبَانِ زَيْدًا , وَإِنَّمَا مَنَعَ النَّحْوِيُّونَ هَذَا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْن سَاكِنَيْنِ وَلَيْسَ فِي الثَّانِي إِدْغَام , وَمَنْ قَرَأَ بِقِرَاءَةِ أَهْل الْمَدِينَة وَأَرَادَ أَنْ يَسْلَم مِنْ اللَّحْن وَقَفَ عَلَى " مَحْيَايَ " فَيَكُون غَيْر لَاحِن عِنْد جَمِيع النَّحْوِيِّينَ . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق وَعِيسَى بْن عُمَر وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ " وَمَحْيَيَّ " بِتَشْدِيدِ الْيَاء الثَّانِيَة مِنْ غَيْر أَلِف ; وَهِيَ لُغَة عُلْيَا مُضَر يَقُولُونَ : قَفَيَّ وَعَصَيَّ . وَأَنْشَدَ أَهْل اللُّغَة : سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : قَوْله تَعَالَى : " قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " إِلَى قَوْله : " قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " اِسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيّ عَلَى اِفْتِتَاح الصَّلَاة بِهَذَا الذِّكْر ; فَإِنَّ اللَّه أَمَرَ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَهُ فِي كِتَابه , ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة قَالَ : " وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ - إِلَى قَوْله - وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) . قُلْت : رَوَى مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَالَ : ( وَجَّهْت وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيك لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ . اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ , أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَن الْأَخْلَاق لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِف عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْر كُلّه فِي يَدَيْك وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك . تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت . أَسْتَغْفِرك وَأَتُوب إِلَيْك . الْحَدِيث . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِي آخِره : بَلَغَنَا عَنْ النَّضْر بْن شُمَيْل وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاء بِاللُّغَةِ وَغَيْرهَا قَالَ : مَعْنَى قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك ) الشَّرّ لَيْسَ مِمَّا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَيْك . قَالَ مَالِك : لَيْسَ التَّوْجِيه فِي الصَّلَاة بِوَاجِبٍ عَلَى النَّاس , وَالْوَاجِب عَلَيْهِمْ التَّكْبِير ثُمَّ الْقِرَاءَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : لَمْ يَرَ مَالِك هَذَا الَّذِي يَقُولهُ النَّاس قَبْل الْقِرَاءَة : سُبْحَانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك . وَفِي مُخْتَصَر مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَر : أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولهُ فِي خَاصَّة نَفْسه ; لِصِحَّةِ الْحَدِيث بِهِ , وَكَانَ لَا يَرَاهُ لِلنَّاسِ مَخَافَة أَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبه . قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : وَكُنْت أُصَلِّي وَرَاء شَيْخنَا أَبِي بَكْر الدَّيْنَوَرِيّ الْفَقِيه فِي زَمَان الصَّبَا , فَرَآنِي مَرَّة أَفْعَل هَذَا فَقَالَ : يَا بُنَيّ , إِنَّ الْفُقَهَاء قَدْ اِخْتَلَفُوا فِي وُجُوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة خَلْف الْإِمَام , وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الِافْتِتَاح سُنَّة , فَاشْتَغِلْ بِالْوَاجِبِ وَدَعْ السُّنَن . وَالْحُجَّة لِمَالِكٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاة : ( إِذَا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَكَبِّرْ ثُمَّ اِقْرَأْ ) وَلَمْ يَقُلْ لَهُ سَبِّحْ كَمَا يَقُول أَبُو حَنِيفَة , وَلَا قُلْ وَجَّهْت وَجْهِيَ , كَمَا يَقُول الشَّافِعِيّ . وَقَالَ لِأُبَيّ : ( كَيْف تَقْرَأ إِذَا اِفْتَتَحَتْ الصَّلَاة ) ؟ قَالَ : قُلْت اللَّه أَكْبَر , الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . فَلَمْ يَذْكُر تَوْجِيهًا وَلَا تَسْبِيحًا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ عَلِيًّا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولهُ . قُلْنَا : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَالَهُ قَبْل التَّكْبِير ثُمَّ كَبَّرَ , وَذَلِكَ حَسَن عِنْدنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة كَبَّرَ ثُمَّ يَقُول : ( إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ) الْحَدِيث قُلْنَا : هَذَا نَحْمِلهُ عَلَى النَّافِلَة فِي صَلَاة اللَّيْل ; كَمَا جَاءَ فِي كِتَاب النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة بِاللَّيْلِ قَالَ : ( سُبْحَانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك تَبَارَكَ اِسْمك وَتَعَالَى جَدّك وَلَا إِلَه غَيْرك ) . أَوْ فِي النَّافِلَة مُطْلَقًا ; فَإِنَّ النَّافِلَة أَخَفّ مِنْ الْفَرْض ; لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُصَلِّيهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا , وَإِلَى الْقِبْلَة وَغَيْرهَا فِي السَّفَر , فَأَمْرهَا أَيْسَر .
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا قَالَ : ( اللَّه أَكْبَر . وَجَّهْت وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيك لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ . اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك وَبِحَمْدِك ) . ثُمَّ يَقْرَأ . وَهَذَا نَصّ فِي التَّطَوُّع لَا فِي الْوَاجِب . وَإِنْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرِيضَة بَعْد التَّكْبِير , فَيُحْمَل عَلَى الْجَوَاز وَالِاسْتِحْبَاب , وَأَمَّا الْمَسْنُون فَالْقِرَاءَة بَعْد التَّكْبِير , وَاَللَّه بِحَقَائِق الْأُمُور عَلِيم . ثُمَّ إِذَا قَالَهُ فَلَا يَقُلْ : " وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ " .
إِذْ لَيْسَ أَحَدهمْ بِأَوَّلِهِمْ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنْ قِيلَ : أَوَلَيْسَ إِبْرَاهِيم وَالنَّبِيُّونَ قَبْله ؟ قُلْنَا عَنْهُ ثَلَاثَة أَجْوِبَة : الْأَوَّل : أَنَّهُ أَوَّل الْخَلْق أَجْمَع مَعْنًى ; كَمَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَة وَنَحْنُ أَوَّل مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة ) . وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة ( نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْل الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَة الْمَقْضِيّ لَهُمْ قَبْل الْخَلَائِق ) . الثَّانِي : أَنَّهُ أَوَّلهمْ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الْخَلْق عَلَيْهِمْ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقهمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوح " [ الْأَحْزَاب : 7 ] . قَالَ قَتَادَة : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كُنْت أَوَّل الْأَنْبِيَاء فِي الْخَلْق وَآخِرهمْ فِي الْبَعْث ) . فَلِذَلِكَ وَقَعَ ذِكْره هُنَا مُقَدَّمًا قَبْل نُوح وَغَيْره . الثَّالِث : أَوَّل الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْل مِلَّته ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ , وَهُوَ قَوْل قَتَادَة وَغَيْره . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات فِي " أَوَّل " فَفِي بَعْضهَا ثُبُوتهَا وَفِي بَعْضهَا لَا , عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَرَوَى عِمْرَان بْن حُصَيْن قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا فَاطِمَة قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتك فَإِنَّهُ يُغْفَر لَك فِي أَوَّل قَطْرَة مِنْ دَمهَا كُلّ ذَنْب عَمِلْتِيهِ ثُمَّ قَوْلِي : إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيك لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ ) . قَالَ عِمْرَان : يَا رَسُول اللَّه , هَذَا لَك وَلِأَهْلِ بَيْتك خَاصَّة أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّة ؟ قَالَ : ( بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّة ) .
إِذْ لَيْسَ أَحَدهمْ بِأَوَّلِهِمْ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنْ قِيلَ : أَوَلَيْسَ إِبْرَاهِيم وَالنَّبِيُّونَ قَبْله ؟ قُلْنَا عَنْهُ ثَلَاثَة أَجْوِبَة : الْأَوَّل : أَنَّهُ أَوَّل الْخَلْق أَجْمَع مَعْنًى ; كَمَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَة وَنَحْنُ أَوَّل مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة ) . وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة ( نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْل الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَة الْمَقْضِيّ لَهُمْ قَبْل الْخَلَائِق ) . الثَّانِي : أَنَّهُ أَوَّلهمْ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الْخَلْق عَلَيْهِمْ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقهمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوح " [ الْأَحْزَاب : 7 ] . قَالَ قَتَادَة : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كُنْت أَوَّل الْأَنْبِيَاء فِي الْخَلْق وَآخِرهمْ فِي الْبَعْث ) . فَلِذَلِكَ وَقَعَ ذِكْره هُنَا مُقَدَّمًا قَبْل نُوح وَغَيْره . الثَّالِث : أَوَّل الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْل مِلَّته ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ , وَهُوَ قَوْل قَتَادَة وَغَيْره . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات فِي " أَوَّل " فَفِي بَعْضهَا ثُبُوتهَا وَفِي بَعْضهَا لَا , عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَرَوَى عِمْرَان بْن حُصَيْن قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا فَاطِمَة قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتك فَإِنَّهُ يُغْفَر لَك فِي أَوَّل قَطْرَة مِنْ دَمهَا كُلّ ذَنْب عَمِلْتِيهِ ثُمَّ قَوْلِي : إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيك لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ ) . قَالَ عِمْرَان : يَا رَسُول اللَّه , هَذَا لَك وَلِأَهْلِ بَيْتك خَاصَّة أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّة ؟ قَالَ : ( بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّة ) .
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ↓
أَيْ مَالِكه . رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّار قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اِرْجِعْ يَا مُحَمَّد إِلَى دِيننَا , وَاعْبُدْ آلِهَتنَا , وَاتْرُكْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ , وَنَحْنُ نَتَكَفَّل لَك بِكُلِّ تِبَاعَة تَتَوَقَّعهَا فِي دُنْيَاك وَآخِرَتك ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَهِيَ اِسْتِفْهَام يَقْتَضِي التَّقْرِير وَالتَّوْبِيخ . و " غَيْرَ " نُصِبَ بِ " أَبْغِي " و " رَبًّا " تَمْيِيز .
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا " أَيْ لَا يَنْفَعنِي فِي اِبْتِغَاء رَبّ غَيْر اللَّه كَوْنكُمْ عَلَى ذَلِكَ ; إِذْ لَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا ; أَيْ لَا يُؤْخَذ بِمَا أَتَتْ مِنْ الْمَعْصِيَة , وَرَكِبَتْ مِنْ الْخَطِيئَة سِوَاهَا . الثَّانِيَة : وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء مِنْ الْمُخَالِفِينَ بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ بَيْع الْفُضُولِيّ لَا يَصِحّ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُرَاد مِنْ الْآيَة تَحْمِل الثَّوَاب وَالْعِقَاب دُون أَحْكَام الدُّنْيَا , بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " عَلَى مَا يَأْتِي . وَبَيْع الْفُضُولِيّ عِنْدنَا مَوْقُوف عَلَى إِجَازَة الْمَالِك , فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ . هَذَا عُرْوَة الْبَارِقِيّ قَدْ بَاعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَرَى وَتَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْره , فَأَجَازَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَرَوَى الْبُخَارِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عُرْوَة بْن أَبِي الْجَعْد قَالَ : عُرِضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَب فَأَعْطَانِي دِينَارًا وَقَالَ : ( أَيْ عُرْوَة اِيتِ الْجَلَب فَاشْتَرِ لَنَا شَاة بِهَذَا الدِّينَار ) فَأَتَيْت الْجَلَب فَسَاوَمْت فَاشْتَرَيْت شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ , فَجِئْت أَسُوقهُمَا - أَوْ قَالَ أَقُودهُمَا - فَلَقِيَنِي رَجُل فِي الطَّرِيق فَسَاوَمَنِي فَبِعْته إِحْدَى الشَّاتَيْنِ بِدِينَارٍ , وَجِئْت بِالشَّاةِ الْأُخْرَى وَبِدِينَارٍ , فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه , هَذِهِ الشَّاة وَهَذَا دِينَاركُمْ . قَالَ : ( كَيْفَ صَنَعْت ) ؟ فَحَدَّثْته الْحَدِيث . قَالَ : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَة يَمِينه ) . قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْتنِي أَقِف فِي كُنَاسَة الْكُوفَة فَأَرْبَح أَرْبَعِينَ أَلْفًا قَبْل أَنْ أَصِل إِلَى أَهْلِي . لَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهُوَ حَدِيث جَيِّد , وَفِيهِ صِحَّة ثُبُوت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّاتَيْنِ , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَخَذَ مِنْهُ الدِّينَار وَلَا أَمْضَى لَهُ الْبَيْع . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز الْوَكَالَة , وَلَا خِلَاف فِيهَا بَيْن الْعُلَمَاء . فَإِذَا قَالَ الْمُوَكَّل لِوَكِيلِهِ : اِشْتَرِ كَذَا ; فَاشْتَرَى زِيَادَة عَلَى مَا وُكِّلَ بِهِ فَهَلْ يَلْزَم ذَلِكَ الْأَمْر أَمْ لَا ؟ . كَرَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ : اِشْتَرِ بِهَذَا الدِّرْهَم رِطْل لَحْم , صِفَته كَذَا ; فَاشْتَرَى لَهُ أَرْبَعَة أَرْطَال مِنْ تِلْكَ الصِّفَة بِذَلِكَ الدِّرْهَم . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّ الْجَمِيع يَلْزَمهُ إِذَا وَافَقَ الصِّفَة وَمِنْ جِنْسهَا ; لِأَنَّهُ مُحْسِن . وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الزِّيَادَة لِلْمُشْتَرِي . وَهَذَا الْحَدِيث حُجَّة عَلَيْهِ .
" وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " أَيْ لَا تَحْمِل حَامِلَة ثِقَل أُخْرَى , أَيْ لَا تُؤْخَذ نَفْس بِذَنْبِ غَيْرهَا , بَلْ كُلّ نَفْس مَأْخُوذَة بِجُرْمِهَا وَمُعَاقَبَة بِإِثْمِهَا . وَأَصْل الْوِزْر الثِّقَل ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرك " [ الشَّرْح : 2 ] . وَهُوَ هُنَا الذَّنْب ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ " [ الْأَنْعَام : 31 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ الْأَخْفَش : يُقَال وَزِرَ يَوْزَر , وَوَزَرَ يَزِر , وَوُزِرَ يُوزَر وَزَرًا . وَيَجُوز إِزْرًا , كَمَا يُقَال : إِسَادَة . وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة , كَانَ يَقُول : اِتَّبِعُوا سَبِيلِي أَحْمِل أَوْزَاركُمْ ; ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ مُؤَاخَذَة الرَّجُل بِأَبِيهِ وَبِابْنِهِ وَبِجَرِيرَةِ حَلِيفه .
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة فِي الْآخِرَة , وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلهَا ; فَأَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يُؤَاخَذ فِيهَا بَعْضهمْ بِجُرْمِ بَعْض , لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْهَ الطَّائِعُونَ الْعَاصِينَ , كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيث أَبِي بَكْر فِي قَوْله : " عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ " [ الْمَائِدَة : 105 ] . وَقَوْله تَعَالَى : " وَاتَّقُوا فِتْنَة لَا تُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة " [ الْأَنْفَال : 25 ] . " إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [ الرَّعْد : 11 ] . وَقَالَتْ زَيْنَب بِنْت جَحْش : يَا رَسُول اللَّه , أَنَهْلَك وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَث ) . قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ أَوْلَاد الزِّنَى . وَالْخَبَث ( بِفَتْحِ الْبَاء ) اِسْم لِلزِّنَى . فَأَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَة الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَة حَتَّى لَا يُطَلّ دَم الْحُرّ الْمُسْلِم تَعْظِيمًا لِلدِّمَاءِ . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْر خِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ ; فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ . وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا فِي الدُّنْيَا , فِي أَلَّا يُؤَاخَذ زَيْد بِفِعْلِ عَمْرو , وَأَنَّ كُلّ مُبَاشِر لِجَرِيمَةٍ فَعَلَيْهِ مَغَبَّتهَا . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي رِمْثَة قَالَ ; اِنْطَلَقْت مَعَ أَبِي نَحْو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي : ( اِبْنك هَذَا ) ؟ قَالَ : أَيْ وَرَبّ الْكَعْبَة . قَالَ : ( حَقًّا ) . قَالَ : أَشْهَد بِهِ . قَالَ : فَتَبَسَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ثَبْت شَبَهِي فِي أَبِي , وَمِنْ حَلِف أَبِي عَلِيّ . ثُمَّ قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ ) . وَقَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " . وَلَا يُعَارِض مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ : " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ " [ الْعَنْكَبُوت : 13 ] ; فَإِنَّ هَذَا مُبِين فِي الْآيَة الْأُخْرَى قَوْله : " لِيَحْمِلُوا أَوْزَارهمْ كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمِنْ أَوْزَار الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم " [ النَّحْل : 25 ] . فَمَنْ كَانَ إِمَامًا فِي الضَّلَالَة وَدَعَا إِلَيْهَا وَاتَّبَعَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَحْمِل وِزْر مَنْ أَضَلَّهُ مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ وِزْر الْمُضِلّ شَيْء , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا " أَيْ لَا يَنْفَعنِي فِي اِبْتِغَاء رَبّ غَيْر اللَّه كَوْنكُمْ عَلَى ذَلِكَ ; إِذْ لَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا ; أَيْ لَا يُؤْخَذ بِمَا أَتَتْ مِنْ الْمَعْصِيَة , وَرَكِبَتْ مِنْ الْخَطِيئَة سِوَاهَا . الثَّانِيَة : وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء مِنْ الْمُخَالِفِينَ بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ بَيْع الْفُضُولِيّ لَا يَصِحّ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُرَاد مِنْ الْآيَة تَحْمِل الثَّوَاب وَالْعِقَاب دُون أَحْكَام الدُّنْيَا , بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " عَلَى مَا يَأْتِي . وَبَيْع الْفُضُولِيّ عِنْدنَا مَوْقُوف عَلَى إِجَازَة الْمَالِك , فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ . هَذَا عُرْوَة الْبَارِقِيّ قَدْ بَاعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَرَى وَتَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْره , فَأَجَازَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَرَوَى الْبُخَارِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عُرْوَة بْن أَبِي الْجَعْد قَالَ : عُرِضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَب فَأَعْطَانِي دِينَارًا وَقَالَ : ( أَيْ عُرْوَة اِيتِ الْجَلَب فَاشْتَرِ لَنَا شَاة بِهَذَا الدِّينَار ) فَأَتَيْت الْجَلَب فَسَاوَمْت فَاشْتَرَيْت شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ , فَجِئْت أَسُوقهُمَا - أَوْ قَالَ أَقُودهُمَا - فَلَقِيَنِي رَجُل فِي الطَّرِيق فَسَاوَمَنِي فَبِعْته إِحْدَى الشَّاتَيْنِ بِدِينَارٍ , وَجِئْت بِالشَّاةِ الْأُخْرَى وَبِدِينَارٍ , فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه , هَذِهِ الشَّاة وَهَذَا دِينَاركُمْ . قَالَ : ( كَيْفَ صَنَعْت ) ؟ فَحَدَّثْته الْحَدِيث . قَالَ : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَة يَمِينه ) . قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْتنِي أَقِف فِي كُنَاسَة الْكُوفَة فَأَرْبَح أَرْبَعِينَ أَلْفًا قَبْل أَنْ أَصِل إِلَى أَهْلِي . لَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهُوَ حَدِيث جَيِّد , وَفِيهِ صِحَّة ثُبُوت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّاتَيْنِ , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَخَذَ مِنْهُ الدِّينَار وَلَا أَمْضَى لَهُ الْبَيْع . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز الْوَكَالَة , وَلَا خِلَاف فِيهَا بَيْن الْعُلَمَاء . فَإِذَا قَالَ الْمُوَكَّل لِوَكِيلِهِ : اِشْتَرِ كَذَا ; فَاشْتَرَى زِيَادَة عَلَى مَا وُكِّلَ بِهِ فَهَلْ يَلْزَم ذَلِكَ الْأَمْر أَمْ لَا ؟ . كَرَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ : اِشْتَرِ بِهَذَا الدِّرْهَم رِطْل لَحْم , صِفَته كَذَا ; فَاشْتَرَى لَهُ أَرْبَعَة أَرْطَال مِنْ تِلْكَ الصِّفَة بِذَلِكَ الدِّرْهَم . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّ الْجَمِيع يَلْزَمهُ إِذَا وَافَقَ الصِّفَة وَمِنْ جِنْسهَا ; لِأَنَّهُ مُحْسِن . وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الزِّيَادَة لِلْمُشْتَرِي . وَهَذَا الْحَدِيث حُجَّة عَلَيْهِ .
" وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " أَيْ لَا تَحْمِل حَامِلَة ثِقَل أُخْرَى , أَيْ لَا تُؤْخَذ نَفْس بِذَنْبِ غَيْرهَا , بَلْ كُلّ نَفْس مَأْخُوذَة بِجُرْمِهَا وَمُعَاقَبَة بِإِثْمِهَا . وَأَصْل الْوِزْر الثِّقَل ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرك " [ الشَّرْح : 2 ] . وَهُوَ هُنَا الذَّنْب ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ " [ الْأَنْعَام : 31 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ الْأَخْفَش : يُقَال وَزِرَ يَوْزَر , وَوَزَرَ يَزِر , وَوُزِرَ يُوزَر وَزَرًا . وَيَجُوز إِزْرًا , كَمَا يُقَال : إِسَادَة . وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة , كَانَ يَقُول : اِتَّبِعُوا سَبِيلِي أَحْمِل أَوْزَاركُمْ ; ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ مُؤَاخَذَة الرَّجُل بِأَبِيهِ وَبِابْنِهِ وَبِجَرِيرَةِ حَلِيفه .
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة فِي الْآخِرَة , وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلهَا ; فَأَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يُؤَاخَذ فِيهَا بَعْضهمْ بِجُرْمِ بَعْض , لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْهَ الطَّائِعُونَ الْعَاصِينَ , كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيث أَبِي بَكْر فِي قَوْله : " عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ " [ الْمَائِدَة : 105 ] . وَقَوْله تَعَالَى : " وَاتَّقُوا فِتْنَة لَا تُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة " [ الْأَنْفَال : 25 ] . " إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [ الرَّعْد : 11 ] . وَقَالَتْ زَيْنَب بِنْت جَحْش : يَا رَسُول اللَّه , أَنَهْلَك وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَث ) . قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ أَوْلَاد الزِّنَى . وَالْخَبَث ( بِفَتْحِ الْبَاء ) اِسْم لِلزِّنَى . فَأَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَة الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَة حَتَّى لَا يُطَلّ دَم الْحُرّ الْمُسْلِم تَعْظِيمًا لِلدِّمَاءِ . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْر خِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ ; فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ . وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا فِي الدُّنْيَا , فِي أَلَّا يُؤَاخَذ زَيْد بِفِعْلِ عَمْرو , وَأَنَّ كُلّ مُبَاشِر لِجَرِيمَةٍ فَعَلَيْهِ مَغَبَّتهَا . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي رِمْثَة قَالَ ; اِنْطَلَقْت مَعَ أَبِي نَحْو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي : ( اِبْنك هَذَا ) ؟ قَالَ : أَيْ وَرَبّ الْكَعْبَة . قَالَ : ( حَقًّا ) . قَالَ : أَشْهَد بِهِ . قَالَ : فَتَبَسَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ثَبْت شَبَهِي فِي أَبِي , وَمِنْ حَلِف أَبِي عَلِيّ . ثُمَّ قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ ) . وَقَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " . وَلَا يُعَارِض مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ : " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ " [ الْعَنْكَبُوت : 13 ] ; فَإِنَّ هَذَا مُبِين فِي الْآيَة الْأُخْرَى قَوْله : " لِيَحْمِلُوا أَوْزَارهمْ كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمِنْ أَوْزَار الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم " [ النَّحْل : 25 ] . فَمَنْ كَانَ إِمَامًا فِي الضَّلَالَة وَدَعَا إِلَيْهَا وَاتَّبَعَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَحْمِل وِزْر مَنْ أَضَلَّهُ مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ وِزْر الْمُضِلّ شَيْء , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ↓
" خَلَائِف " جَمْع خَلِيفَة , كَكَرَائِم جَمْع كَرِيمَة . وَكُلّ مَنْ جَاءَ بَعْد مَنْ مَضَى فَهُوَ خَلِيفَة . أَيْ جَعَلَكُمْ خَلَفًا لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَة وَالْقُرُون السَّالِفَة . قَالَ الشَّمَّاخ : تُصِيبهُمْ وَتُخْطِئنِي الْمَنَايَا وَأَخْلَفَ فِي رُبُوع عَنْ رُبُوع
فِي الْخَلْق . الرِّزْق وَالْقُوَّة وَالْبَسْطَة وَالْفَضْل وَالْعِلْم .
نُصِبَ بِإِسْقَاطِ الْخَافِض , أَيْ إِلَى دَرَجَات .
نُصِبَ بِلَامِ كَيْ . وَالِابْتِلَاء الِاخْتِبَار ; أَيْ لِيُظْهِر مِنْكُمْ مَا يَكُون غَايَته الثَّوَاب وَالْعِقَاب . وَلَمْ يَزَلْ بِعِلْمِهِ غَنِيًّا ; فَابْتَلَى الْمُوسِر بِالْغِنَى وَطَلَب مِنْهُ الشُّكْر , وَابْتَلَى الْمُعْسِر بِالْفَقْرِ وَطَلَب مِنْهُ الصَّبْر . وَيُقَال : " لِيَبْلُوَكُمْ " أَيْ بَعْضكُمْ بِبَعْضٍ . كَمَا قَالَ : " وَجَعَلْنَا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة " [ الْفُرْقَان : 20 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فَقَالَ : " إِنَّ رَبّك سَرِيع الْعِقَاب " .
لِمَنْ عَصَاهُ .
لِمَنْ أَطَاعَهُ . وَقَالَ : " سَرِيع الْعِقَاب " مَعَ وَصْفه سُبْحَانه بِالْإِمْهَالِ , وَمَعَ أَنَّ عِقَاب النَّار فِي الْآخِرَة ; لِأَنَّ كُلّ آتٍ قَرِيب ; فَهُوَ سَرِيع عَلَى هَذَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَمَا أَمْر السَّاعَة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَر أَوْ هُوَ أَقْرَب " [ النَّحْل : 77 ] . وَقَالَ " يَرَوْنَهُ بَعِيدًا . وَنَرَاهُ قَرِيبًا " [ الْمَعَارِج : 6 , 7 ] . وَيَكُون أَيْضًا سَرِيع الْعِقَاب لِمَنْ اِسْتَحَقَّهُ فِي دَار الدُّنْيَا ; فَيَكُون تَحْذِيرًا لِمُوَاقِعِ الْخَطِيئَة عَلَى هَذِهِ الْجِهَة . وَاَللَّه أَعْلَم . تَمَّتْ سُورَة الْأَنْعَام بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى وَصَلَوَاته عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آله وَصَحْبه وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
فِي الْخَلْق . الرِّزْق وَالْقُوَّة وَالْبَسْطَة وَالْفَضْل وَالْعِلْم .
نُصِبَ بِإِسْقَاطِ الْخَافِض , أَيْ إِلَى دَرَجَات .
نُصِبَ بِلَامِ كَيْ . وَالِابْتِلَاء الِاخْتِبَار ; أَيْ لِيُظْهِر مِنْكُمْ مَا يَكُون غَايَته الثَّوَاب وَالْعِقَاب . وَلَمْ يَزَلْ بِعِلْمِهِ غَنِيًّا ; فَابْتَلَى الْمُوسِر بِالْغِنَى وَطَلَب مِنْهُ الشُّكْر , وَابْتَلَى الْمُعْسِر بِالْفَقْرِ وَطَلَب مِنْهُ الصَّبْر . وَيُقَال : " لِيَبْلُوَكُمْ " أَيْ بَعْضكُمْ بِبَعْضٍ . كَمَا قَالَ : " وَجَعَلْنَا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة " [ الْفُرْقَان : 20 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فَقَالَ : " إِنَّ رَبّك سَرِيع الْعِقَاب " .
لِمَنْ عَصَاهُ .
لِمَنْ أَطَاعَهُ . وَقَالَ : " سَرِيع الْعِقَاب " مَعَ وَصْفه سُبْحَانه بِالْإِمْهَالِ , وَمَعَ أَنَّ عِقَاب النَّار فِي الْآخِرَة ; لِأَنَّ كُلّ آتٍ قَرِيب ; فَهُوَ سَرِيع عَلَى هَذَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَمَا أَمْر السَّاعَة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَر أَوْ هُوَ أَقْرَب " [ النَّحْل : 77 ] . وَقَالَ " يَرَوْنَهُ بَعِيدًا . وَنَرَاهُ قَرِيبًا " [ الْمَعَارِج : 6 , 7 ] . وَيَكُون أَيْضًا سَرِيع الْعِقَاب لِمَنْ اِسْتَحَقَّهُ فِي دَار الدُّنْيَا ; فَيَكُون تَحْذِيرًا لِمُوَاقِعِ الْخَطِيئَة عَلَى هَذِهِ الْجِهَة . وَاَللَّه أَعْلَم . تَمَّتْ سُورَة الْأَنْعَام بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى وَصَلَوَاته عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آله وَصَحْبه وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا