الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍسورة يونس الآية رقم 61
" مَا " لِلْجَحْدِ ; أَيْ لَسْت فِي شَأْن , يَعْنِي مِنْ عِبَادَة أَوْ غَيْرهَا إِلَّا وَالرَّبّ مُطَّلِع عَلَيْك . وَالشَّأْن الْخَطْب , وَالْأَمْر , وَجَمْعه شُئُون . قَالَ الْأَخْفَش : تَقُول الْعَرَب مَا شَأَنْت شَأْنه , أَيْ مَا عَمِلْت عَمَله .


قَالَ الْفَرَّاء وَالزَّجَّاج : الْهَاء فِي " مِنْهُ " تَعُود عَلَى الشَّأْن , أَيْ تُحْدِث شَأْنًا فَيُتْلَى مِنْ أَجْله الْقُرْآن فَيُعْلَم كَيْفَ حُكْمه , أَوْ يَنْزِل فِيهِ قُرْآن فَيُتْلَى . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : " مِنْهُ " أَيْ مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى . " مِنْ قُرْآن " أَعَادَ تَفْخِيمًا ; كَقَوْلِهِ : " إِنِّي أَنَا اللَّه " [ الْقَصَص : 30 ] .


يُخَاطِب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأُمَّة . وَقَوْله : " وَمَا تَكُون فِي شَأْن " خِطَاب لَهُ وَالْمُرَاد هُوَ وَأُمَّته ; وَقَدْ يُخَاطَب الرَّسُول وَالْمُرَاد هُوَ وَأَتْبَاعه . وَقِيلَ : الْمُرَاد كُفَّار قُرَيْش .


أَيْ نَعْلَمهُ ; وَنَظِيره " مَا يَكُون مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رَابِعهمْ " [ الْمُجَادَلَة : 4 ]


أَيْ تَأْخُذُونَ فِيهِ , وَالْهَاء عَائِدَة عَلَى الْعَمَل ; يُقَال : أَفَاضَ فُلَان فِي الْحَدِيث وَالْعَمَل إِذَا اِنْدَفَعَ فِيهِ . قَالَ الرَّاعِي : فَأَفَضْنَ بَعْد كُظُومهنَّ بِجِرَّةٍ مِنْ ذِي الْأَبَاطِح إِذْ رَعَيْنَ حَقِيلَا اِبْن عَبَّاس : " تُفِيضُونَ فِيهِ " تَفْعَلُونَهُ . الْأَخْفَش : تَتَكَلَّمُونَ . اِبْن زَيْد : تَخُوضُونَ . اِبْن كَيْسَان : تَنْشُرُونَ الْقَوْل . وَقَالَ الضَّحَّاك : الْهَاء عَائِدَة عَلَى الْقُرْآن ; الْمَعْنَى : إِذْ تُشِيعُونَ فِي الْقُرْآن الْكَذِب .


قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَغِيب . وَقَالَ أَبُو رَوْق : يَبْعُد . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : يَذْهَب . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ " يَعْزِب " بِكَسْرِ الزَّاي حَيْثُ وَقَعَ ; وَضَمَّ الْبَاقُونَ ; وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ ; نَحْو يَعْرِش وَيَعْرُش .


" مِنْ " صِلَة ; أَيْ وَمَا يَعْزُب عَنْ رَبّك مِثْقَال


أَيْ وَزْن ذَرَّة , أَيْ نُمَيْلَة حَمْرَاء صَغِيرَة ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النِّسَاء


عَطْف عَلَى لَفْظ مِثْقَال , وَإِنْ شِئْت عَلَى ذَرَّة . وَقَرَأَ يَعْقُوب وَحَمْزَة بِرَفْعِ الرَّاء فِيهِمَا عَطْفًا عَلَى مَوْضِع مِثْقَال لِأَنَّ مِنْ زَائِدَة لِلتَّأْكِيدِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : وَيَجُوز الرَّفْع عَلَى الِابْتِدَاء . وَخَبَره


يَعْنِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ مَعَ عِلْم اللَّه تَعَالَى بِهِ . قَالَ الْجُرْجَانِيّ " إِلَّا " بِمَعْنَى وَاو النَّسَق , أَيْ وَهُوَ فِي كِتَاب مُبِين ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنِّي لَا يَخَاف لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ " [ النَّمْل : 10 - 11 ] أَيْ وَمَنْ ظَلَمَ . وَقَوْله : " لِئَلَّا يَكُون لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " [ الْبَقَرَة : 150 ] أَيْ وَاَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ; فَ " إِلَّا " بِمَعْنَى وَاو النَّسَق , وَأُضْمِرَ هُوَ بَعْده كَقَوْلِهِ : " وَقُولُوا حِطَّة " [ الْبَقَرَة : 58 ] . أَيْ هِيَ حِطَّة . وَقَوْله : " وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَة " [ النِّسَاء : 171 ] أَيْ هُمْ ثَلَاثَة . وَنَظِير مَا نَحْنُ فِيهِ : " وَمَا تَسْقُط مِنْ وَرَقَة إِلَّا يَعْلَمهَا وَلَا حَبَّة فِي ظُلُمَات الْأَرْض وَلَا رَطْب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كِتَاب مُبِين " [ الْأَنْعَام : 59 ] وَهُوَ فِي كِتَاب مُبِين .
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة يونس الآية رقم 62
" أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّه لَا خَوْف عَلَيْهِمْ " أَيْ فِي الْآخِرَة . " وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " لِفَقْدِ الدُّنْيَا . وَقِيلَ : " لَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " أَيْ مَنْ تَوَلَّاهُ اللَّه تَعَالَى وَتَوَلَّى حِفْظه وَحِيَاطَته وَرَضِيَ عَنْهُ فَلَا يَخَاف يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يَحْزَن ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا " أَيْ عَنْ جَهَنَّم " مُبْعَدُونَ " إِلَى قَوْله " لَا يَحْزُنهُمْ الْفَزَع الْأَكْبَر " [ الْأَنْبِيَاء : 101 - 103 ] . وَرَوَى سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : مَنْ أَوْلِيَاء اللَّه ؟ فَقَالَ : ( الَّذِينَ يُذْكَر اللَّه بِرُؤْيَتِهِمْ ) . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب , فِي هَذِهِ الْآيَة : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ مِنْ عِبَاد اللَّه عِبَادًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاء تَغْبِطهُمْ الْأَنْبِيَاء وَالشُّهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة لِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّه تَعَالَى ) . قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه , خَبِّرْنَا مَنْ هُمْ وَمَا أَعْمَالهمْ فَلَعَلَّنَا نُحِبّهُمْ . قَالَ : ( هُمْ قَوْم تَحَابُّوا فِي اللَّه عَلَى غَيْر أَرْحَام بَيْنهمْ وَلَا أَمْوَال يَتَعَاطَوْنَ بِهَا فَوَاَللَّهِ إِنَّ وُجُوههمْ لَنُور وَإِنَّهُمْ عَلَى مَنَابِر مِنْ نُور لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاس وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاس ثُمَّ قَرَأَ " أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّه لَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَوْلِيَاء اللَّه قَوْم صُفْر الْوُجُوه مِنْ السَّهَر , عُمْش الْعُيُون مِنْ الْعِبَر , خُمْص الْبُطُون مِنْ الْجُوع , يُبْس الشِّفَاه مِنْ الذُّوِيّ . وَقِيلَ : " لَا خَوْف عَلَيْهِمْ " فِي ذُرِّيَّتهمْ , لِأَنَّ اللَّه يَتَوَلَّاهُمْ . " وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " عَلَى دُنْيَاهُمْ لِتَعْوِيضِ اللَّه إِيَّاهُمْ فِي أُولَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ لِأَنَّهُ وَلِيّهمْ وَمَوْلَاهُمْ .
الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَسورة يونس الآية رقم 63
هَذِهِ صِفَة أَوْلِيَاء اللَّه تَعَالَى ; فَيَكُون : " الَّذِينَ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْبَدَل مِنْ اِسْم " إِنَّ " وَهُوَ " أَوْلِيَاء " . وَإِنْ شِئْت عَلَى أَعْنِي . وَقِيلَ : هُوَ اِبْتِدَاء , وَخَبَره . " لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة " فَيَكُون مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْله . أَيْ يَتَّقُونَ الشِّرْك وَالْمَعَاصِي .
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُسورة يونس الآية رقم 64
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ : سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ : ( مَا سَأَلَنِي أَحَد عَنْهَا غَيْرك مُنْذُ أُنْزِلَتْ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الْمُسْلِم أَوْ تُرَى لَهُ ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه . وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَعَطَاء وَقَتَادَة : هِيَ الْبِشَارَة الَّتِي تُبَشِّر بِهَا الْمَلَائِكَة الْمُؤْمِن فِي الدُّنْيَا عِنْد الْمَوْت . وَعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ قَالَ : إِذَا اِسْتَنْقَعَتْ نَفْس الْعَبْد الْمُؤْمِن جَاءَهُ مَلَك الْمَوْت فَقَالَ : ( السَّلَام عَلَيْك وَلِيّ اللَّه اللَّه يُقْرِئك السَّلَام ) . ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَة : " الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَام عَلَيْكُمْ " [ النَّحْل : 32 ] ذَكَرَهُ اِبْن الْمُبَارَك . وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك : هِيَ أَنْ يَعْلَم أَيْنَ هُوَ مِنْ قَبْل أَنْ يَمُوت . وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ مَا يُبَشِّرهُمْ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه مِنْ جَنَّته وَكَرِيم ثَوَابه ; لِقَوْلِهِ : " يُبَشِّرهُمْ رَبّهمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَان " [ التَّوْبَة : 21 ] , وَقَوْله : " وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات أَنَّ لَهُمْ جَنَّات " [ الْبَقَرَة : 25 ] . وَقَوْله : " وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ " [ فُصِّلَتْ : 30 ] وَلِهَذَا قَالَ : " لَا تَبْدِيل لِكَلِمَاتِ اللَّه " أَيْ لَا خُلْف لِمَوَاعِيدِهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ مَوَاعِيده بِكَلِمَاتِهِ .


قِيلَ : بِالْجَنَّةِ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورهمْ . وَقِيلَ : إِذَا خَرَجَتْ الرُّوج بُشِّرَتْ بِرِضْوَانِ اللَّه . وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ : سَمِعْت أَبَا بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْجَوْزَقِيّ يَقُول : رَأَيْت أَبَا عَبْد اللَّه الْحَافِظ فِي الْمَنَام رَاكِبًا بِرْذَوْنًا عَلَيْهِ طَيْلَسَان وَعِمَامَة , فَسَلَّمْت عَلَيْهِ وَقُلْت لَهُ : أَهْلًا بِك , إِنَّا لَا نَزَال نَذْكُرك وَنَذْكُر مَحَاسِنك ; فَقَالَ : وَنَحْنُ لَا نَزَال نَذْكُرك وَنَذْكُر مَحَاسِنك , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة " الثَّنَاء الْحَسَن : وَأَشَارَ بِيَدِهِ .


أَيْ لَا خُلْف لِوَعْدِهِ . وَقِيلَ : لَا تَبْدِيل لِأَخْبَارِهِ , أَيْ لَا يَنْسَخهَا بِشَيْءٍ , وَلَا تَكُون إِلَّا كَمَا قَالَ .


أَيْ مَا يَصِير إِلَيْهِ أَوْلِيَاؤُهُ فَهُوَ الْفَوْز الْعَظِيم .
وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُسورة يونس الآية رقم 65
أَيْ لَا يَحْزُنك اِفْتِرَاؤُهُمْ وَتَكْذِيبهمْ لَك ,


ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَقَالَ : " إِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ " أَيْ الْقُوَّة الْكَامِلَة وَالْغَلَبَة الشَّامِلَة وَالْقُدْرَة التَّامَّة لِلَّهِ وَحْده ; فَهُوَ نَاصِرك وَمُعِينك وَمَانِعك .



نُصِبَ عَلَى الْحَال , وَلَا يُعَارِض هَذَا قَوْله : " وَلِلَّهِ الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ " [ الْمُنَافِقُونَ : 8 ] فَإِنَّ كُلّ عِزَّة بِاَللَّهِ فَهِيَ كُلّهَا لِلَّهِ ; قَالَ اللَّه سُبْحَانه : " سُبْحَان رَبّك رَبّ الْعِزَّة عَمَّا يَصِفُونَ " [ الصَّافَّات : 180 ] .


السَّمِيع لِأَقْوَالِهِمْ وَأَصْوَاتهمْ , الْعَلِيم بِأَعْمَالِهِمْ وَأَفْعَالهمْ وَجَمِيع حَرَكَاتهمْ .
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَسورة يونس الآية رقم 66
أَيْ يَحْكُم فِيهِمْ بِمَا يُرِيد وَيَفْعَل فِيهِمْ مَا يَشَاء سُبْحَانه ! .


" مَا " لِلنَّفْيِ , أَيْ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاء عَلَى الْحَقِيقَة , بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا تَشْفَع أَوْ تَنْفَع . وَقِيلَ : " مَا " اِسْتِفْهَام , أَيْ أَيّ شَيْء يَتَّبِع الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه شُرَكَاء تَقْبِيحًا لِفِعْلِهِمْ ,


ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ : " إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ " أَيْ يَحْدُسُونَ وَيَكْذِبُونَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَسورة يونس الآية رقم 67
بَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِب عِبَادَة مَنْ يَقْدِر عَلَى خَلْق اللَّيْل وَالنَّهَار لَا عِبَادَة مَنْ لَا يَقْدِر عَلَى شَيْء . " لِتَسْكُنُوا فِيهِ " أَيْ مَعَ أَزْوَاجكُمْ وَأَوْلَادكُمْ لِيَزُولَ التَّعَب وَالْكَلَال بِكُمْ . وَالسُّكُون : الْهُدُوء عَنْ الِاضْطِرَاب .


أَيْ مُضِيئًا لِتَهْتَدُوا بِهِ فِي حَوَائِجكُمْ . وَالْمُبْصِر : الَّذِي يُبْصِر , وَالنَّهَار يُبْصَر فِيهِ . وَقَالَ : " مُبْصِرًا " تَجَوُّزًا وَتَوَسُّعًا عَلَى عَادَة الْعَرَب فِي قَوْلهمْ : " لَيْل قَائِم , وَنَهَار صَائِم " . وَقَالَ جَرِير : لَقَدْ لُمْتنَا يَا أُمّ غَيْلَان فِي السُّرَى وَنِمْت وَمَا لَيْل الْمَطِيّ بِنَائِمٍ وَقَالَ قُطْرُب : يُقَال أَظْلَمَ اللَّيْل أَيْ صَارَ ذَا ظُلْمَة , وَأَضَاءَ النَّهَار وَأَبْصَرَ أَيْ صَارَ ذَا ضِيَاء وَبَصَر .


أَيْ عَلَامَات وَدَلَالَات .


أَيْ سَمَاع اِعْتِبَار ؟
قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَسورة يونس الآية رقم 68
يَعْنِي الْكُفَّار . وَقَدْ تَقَدَّمَ .


نَزَّهَ نَفْسه عَنْ الصَّاحِبَة وَالْأَوْلَاد وَعَنْ الشُّرَكَاء وَالْأَنْدَاد .


ثُمَّ أَخْبَرَ بِغِنَاهُ الْمُطْلَق , وَأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض مُلْكًا وَخَلْقًا وَعَبْدًا ; " إِنْ كُلّ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عَبْدًا " [ مَرْيَم : 93 ] .


أَيْ مَا عِنْدكُمْ مِنْ حُجَّة بِهَذَا .


مِنْ إِثْبَات الْوَلَد لَهُ , وَالْوَلَد يَقْتَضِي الْمُجَانَسَة وَالْمُشَابَهَة وَاَللَّه تَعَالَى لَا يُجَانِس شَيْئًا وَلَا يُشَابِه شَيْئًا .
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَسورة يونس الآية رقم 69
أَيْ يَخْتَلِقُونَ .


أَيْ لَا يَفُوزُونَ وَلَا يَأْمَنُونَ ; وَتَمَّ الْكَلَام .
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَسورة يونس الآية رقم 70
أَيْ ذَلِكَ مَتَاع , أَوْ هُوَ مَتَاع فِي الدُّنْيَا ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ . وَقَالَ الْأَخْفَش : لَهُمْ مَتَاع فِي الدُّنْيَا . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : وَيَجُوز النَّصْب فِي غَيْر الْقُرْآن عَلَى مَعْنَى يَتَمَتَّعُونَ مَتَاعًا .



أَيْ رُجُوعهمْ .


أَيْ الْغَلِيظ .


أَيْ بِكُفْرِهِمْ .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِسورة يونس الآية رقم 71
أَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يُذَكِّرهُمْ أَقَاصِيص الْمُتَقَدِّمِينَ , وَيُخَوِّفهُمْ الْعَذَاب الْأَلِيم عَلَى كُفْرهمْ . وَحُذِفَتْ الْوَاو مِنْ " اُتْلُ " لِأَنَّهُ أَمْر ; أَيْ اِقْرَأْ عَلَيْهِمْ خَبَر نُوح .


" إِذْ " فِي مَوْضِع نَصْب .


أَيْ عَظُمَ وَثَقُلَ عَلَيْكُمْ .


الْمَقَام ( بِفَتْحِ الْمِيم ) : الْمَوْضِع الَّذِي يَقُوم فِيهِ . وَالْمُقَام ( بِالضَّمِّ ) الْإِقَامَة . وَلَمْ يُقْرَأ بِهِ فِيمَا عَلِمْت ; أَيْ إِنْ طَالَ عَلَيْكُمْ لُبْثِي فِيكُمْ .


وَعَزَمْتُمْ عَلَى قَتْلِي وَطَرْدِي إِيَّاكُمْ , وَتَخْوِيفِي لَكُمْ .


أَيْ اِعْتَمَدْت . وَهَذَا هُوَ جَوَاب الشَّرْط , وَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ السَّلَام مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّه فِي كُلّ حَال ; وَلَكِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ مُتَوَكِّل فِي هَذَا عَلَى الْخُصُوص لِيَعْرِف قَوْمه أَنَّ اللَّه يَكْفِيه أَمْرهمْ ; أَيْ إِنْ لَمْ تَنْصُرُونِي فَإِنِّي أَتَوَكَّل عَلَى مَنْ يَنْصُرنِي .



قِرَاءَة الْعَامَّة " فَأَجْمِعُوا " بِقَطْعِ الْأَلِف " شُرَكَاءَكُمْ " بِالنَّصْبِ . وَقَرَأَ عَاصِم الْجَحْدَرِيّ " فَاجْمَعُوا " بِوَصْلِ الْأَلِف وَفَتْح الْمِيم ; مِنْ جَمَعَ يَجْمَع . " شُرَكَاءَكُمْ " بِالنَّصْبِ . وَقَرَأَ الْحَسَن وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب " فَأَجْمِعُوا " بِقَطْعِ الْأَلِف " شُرَكَاؤُكُمْ " بِالرَّفْعِ . فَأَمَّا الْقِرَاءَة الْأُولَى مِنْ أَجْمَعَ عَلَى الشَّيْء إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَجْمَعَ الشَّيْء أَعَدَّهُ . وَقَالَ الْمُؤَرِّج : أَجْمَعْت الْأَمْر أَفْصَح مَنْ أَجْمَعْت عَلَيْهِ . وَأَنْشَدَ : يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لَا تَنْفَع هَلْ أَغْدُوَن يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَع قَالَ النَّحَّاس : وَفِي نَصْب الشُّرَكَاء عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة ثَلَاثَة أَوْجُه ; قَالَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء : هُوَ بِمَعْنَى وَادْعُو شُرَكَاءَكُمْ لِنُصْرَتِكُمْ ; وَهُوَ مَنْصُوب عِنْدهمَا عَلَى إِضْمَار هَذَا الْفِعْل . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : هُوَ مَعْطُوف عَلَى الْمَعْنَى ; كَمَا قَالَ : رَأَيْت زَوْجك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا وَالرُّمْح لَا يُتَقَلَّد , إِلَّا أَنَّهُ مَحْمُول كَالسَّيْفِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : الْمَعْنَى مَعَ شُرَكَائِكُمْ عَلَى تَنَاصُركُمْ ; كَمَا يُقَال : اِلْتَقَى الْمَاء وَالْخَشَبَة . وَالْقِرَاءَة الثَّانِيَة مِنْ الْجَمْع , اِعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَجَمَعَ كَيْده ثُمَّ أَتَى " [ طَه : 60 ] . قَالَ أَبُو مُعَاذ : وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمَعَ وَأَجْمَعَ بِمَعْنًى وَاحِد , " وَشُرَكَاءَكُمْ " عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة عَطْف عَلَى " أَمْركُمْ " , أَوْ عَلَى مَعْنَى فَأَجْمِعُوا أَمْركُمْ وَأَجْمِعُوا شُرَكَاءَكُمْ , وَإِنْ شِئْت بِمَعْنَى مَعَ , قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَسَمِعْت أَبَا إِسْحَاق يُجِيز قَامَ زَيْد وَعَمْرًا . وَالْقِرَاءَة الثَّالِثَة عَلَى أَنْ يَعْطِف الشُّرَكَاء عَلَى الْمُضْمَر الْمَرْفُوع فِي أَجْمِعُوا , وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَام قَدْ طَالَ . قَالَ النَّحَّاس وَغَيْره : وَهَذِهِ الْقِرَاءَة تُبْعَد ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَرْفُوعًا لَوَجَبَ أَنْ تُكْتَب بِالْوَاوِ , وَلَمْ يُرَ فِي الْمَصَاحِف وَاو فِي قَوْله " وَشُرَكَاءَكُمْ " , وَأَيْضًا فَإِنَّ شُرَكَاءَهُمْ الْأَصْنَام , وَالْأَصْنَام لَا تَصْنَع شَيْئًا وَلَا فِعْل لَهَا حَتَّى تُجْمَع . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَيَجُوز أَنْ يَرْتَفِع الشُّرَكَاء بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر مَحْذُوف , أَيْ وَشُرَكَاءَكُمْ لِيُجْمِعُوا أَمْرهمْ , وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الشُّرَكَاء وَهِيَ لَا تَسْمَع وَلَا تُبْصِر وَلَا تُمَيِّز عَلَى جِهَة التَّوْبِيخ لِمَنْ عَبَدَهَا .



اِسْم يَكُنْ وَخَبَرهَا . وَغُمَّة وَغَمّ سَوَاء , وَمَعْنَاهُ التَّغْطِيَة ; مِنْ قَوْلهمْ : غُمَّ الْهِلَال إِذَا اِسْتَتَرَ ; أَيْ لِيَكُنْ أَمْركُمْ ظَاهِرًا مُنْكَشِفًا تَتَمَكَّنُونَ فِيهِ مِمَّا شِئْتُمْ ; لَا كَمَنْ يَخْفَى أَمْره فَلَا يَقْدِر عَلَى مَا يُرِيد . قَالَ طَرَفَة : لَعَمْرك مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّة نَهَارِي وَلَا لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ الزَّجَّاج : غُمَّة ذَا غَمّ , وَالْغَمّ وَالْغُمَّة كَالْكَرْبِ وَالْكُرْبَة . وَقِيلَ : إِنَّ الْغُمَّة ضِيق الْأَمْر الَّذِي يُوجِب الْغَمّ فَلَا يَتَبَيَّن صَاحِبه لِأَمْرِهِ مَصْدَرًا لِيَنْفَرِج عَنْهُ مَا يَغُمّهُ . وَفِي الصِّحَاح : وَالْغُمَّة الْكُرْبَة . قَالَ الْعَجَّاج : بَلْ لَوْ شَهِدْت النَّاس إِذْ تُكُمُّوا بِغُمَّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّج غُمُّوا يُقَال : أَمْر غُمَّة , أَيْ مُبْهَم مُلْتَبِس ; قَالَ تَعَالَى : " ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْركُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة " . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : مَجَازهَا ظُلْمَة وَضِيق . وَالْغُمَّة أَيْضًا : قَعْر النِّحْي وَغَيْره . قَالَ غَيْره : وَأَصْل هَذَا كُلّه مُشْتَقّ مِنْ الْغَمَامَة .



أَلِف " اِقْضُوا " أَلِف وَصْل , مِنْ قَضَى يَقْضِي . قَالَ الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ : وَهُوَ مِثْل : " وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْر " [ الْحِجْر : 66 ] أَيْ أَنْهَيْنَاهُ إِلَيْهِ وَأَبْلَغْنَاهُ إِيَّاهُ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " ثُمَّ اِقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونَ " قَالَ : اِمْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُؤَخِّرُونَ . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا قَوْل صَحِيح فِي اللُّغَة ; وَمِنْهُ : قَضَى الْمَيِّت أَيْ مَضَى . وَأَعْلَمَهُمْ بِهَذَا أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ , وَهَذَا مِنْ دَلَائِل النُّبُوَّات . وَحَكَى الْفَرَّاء عَنْ بَعْض الْقُرَّاء " ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ " بِالْفَاءِ وَقَطْع الْأَلِف , أَيْ تَوَجَّهُوا ; يُقَال : أَفْضَتْ الْخِلَافَة إِلَى فُلَان , وَأَفْضَى إِلَيَّ الْوَجَع . وَهَذَا إِخْبَار مِنْ اللَّه تَعَالَى عَنْ نَبِيّه نُوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ كَانَ بِنَصْرِ اللَّه وَاثِقًا , وَمِنْ كَيْدهمْ غَيْر خَائِف ; عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُمْ وَآلِهَتهمْ لَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ . وَهُوَ تَعْزِيَة لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْوِيَة لِقَلْبِهِ .
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَسورة يونس الآية رقم 72
أَيْ فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنِّي سَأَلْتُكُمْ أَجْرًا فَيَثْقُل عَلَيْكُمْ مُكَافَأَتِي .


فِي تَبْلِيغ رِسَالَته .


أَيْ الْمُوَحِّدِينَ لِلَّهِ تَعَالَى . فَتَحَ أَهْل الْمَدِينَة وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامِر وَحَفْص يَاء " أَجْرِيَ " حَيْثُ وَقَعَ , وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ .
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَسورة يونس الآية رقم 73
يَعْنِي نُوحًا .


أَيْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ


أَيْ السَّفِينَة , وَسَيَأْتِي ذِكْرهَا .


أَيْ سُكَّان الْأَرْض وَخَلَفًا مِمَّنْ غَرِقَ .


يَعْنِي آخِر أَمْر الَّذِينَ أَنْذَرَهُمْ الرُّسُل فَلَمْ يُؤْمِنُوا .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَسورة يونس الآية رقم 74
أَيْ مِنْ بَعْد نُوح .


كَهُودٍ وَصَالِح وَإِبْرَاهِيم وَلُوط وَشُعَيْب وَغَيْرهمْ .



أَيْ بِالْمُعْجِزَاتِ .


التَّقْدِير : بِمَا كَذَّبَ بِهِ قَوْم نُوح مِنْ قَبْل . وَقِيلَ : " بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْل " أَيْ مِنْ قَبْل يَوْم الذَّرّ , فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ كَذَّبَ بِقَلْبِهِ وَإِنْ قَالَ الْجَمِيع : بَلَى . قَالَ النَّحَّاس : وَمِنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذَا أَنَّهُ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ ; مِثْل : " أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " . [ الْبَقَرَة : 6 ]


أَيْ نَخْتِم .


أَيْ الْمُجَاوِزِينَ الْحَدّ فِي الْكُفْر وَالتَّكْذِيب فَلَا يُؤْمِنُوا . وَهَذَا يَرُدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة قَوْلهمْ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَسورة يونس الآية رقم 75
أَيْ مِنْ بَعْد الرُّسُل وَالْأُمَم .


أَيْ أَشْرَاف قَوْمه .


يُرِيد الْآيَات التِّسْع , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرهَا .


أَيْ عَنْ الْحَقّ .


أَيْ مُشْرِكِينَ .
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌسورة يونس الآية رقم 76
يُرِيد فِرْعَوْن وَقَوْمه


حَمَلُوا الْمُعْجِزَات عَلَى السِّحْر .
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَسورة يونس الآية رقم 77
قِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , الْمَعْنَى : أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ هَذَا سِحْر . فَ " أَتَقُولُونَ " إِنْكَار وَقَوْلهمْ مَحْذُوف أَيْ هَذَا سِحْر , ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ إِنْكَارًا آخَر مِنْ قِبَله فَقَالَ : أَسِحْر هَذَا ! فَحَذَفَ قَوْلهمْ الْأَوَّل اِكْتِفَاء بِالثَّانِي مِنْ قَوْلهمْ , مُنْكِرًا عَلَى فِرْعَوْن وَمَلَئِهِ . وَقَالَ الْأَخْفَش : هُوَ مِنْ قَوْلهمْ , وَدَخَلَتْ الْأَلِف حِكَايَة لِقَوْلِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا أَسِحْر هَذَا . فَقِيلَ لَهُمْ : أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْر هَذَا ; وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن .


أَيْ لَا يُفْلِح مَنْ أَتَى بِهِ .
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَسورة يونس الآية رقم 78
أَيْ تَصْرِفنَا وَتَلْوِينَا , يُقَال : لَفَتَهُ يَلْفِتهُ لَفْتًا إِذَا لَوَاهُ وَصَرَفَهُ . قَالَ الشَّاعِر : تَلَفَّتّ نَحْو الْحَيّ حَتَّى رَأَيْتُنِي وَجِعْت مِنْ الْإِصْغَاء لِيتًا وَأَخْدَعَا وَمِنْ هَذَا اِلْتَفَتَ إِنَّمَا هُوَ عَدَلَ عَنْ الْجِهَة الَّتِي بَيْن يَدَيْهِ .


يُرِيد مِنْ عِبَادَة الْأَصْنَام .


أَيْ الْعَظَمَة وَالْمُلْك وَالسُّلْطَان وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَالْحَسَن وَغَيْرهمَا " وَيَكُون " بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ تَأْنِيث غَيْر حَقِيقِيّ وَقَدْ فُصِلَ بَيْنهمَا . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : حَضَرَ الْقَاضِي الْيَوْم اِمْرَأَتَانِ .


يُرِيد أَرْض مِصْر . وَيُقَال لِلْمُلْكِ : الْكِبْرِيَاء لِأَنَّهُ أَعْظَم مَا يُطْلَب فِي الدُّنْيَا . " وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ "
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍسورة يونس الآية رقم 79
إِنَّمَا قَالَهُ لَمَّا رَأَى الْعَصَا وَالْيَد الْبَيْضَاء وَاعْتَقَدَ أَنَّهُمَا سِحْر . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَابْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش " سَحَّار " وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَاف الْقَوْل فِيهِمَا .
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَسورة يونس الآية رقم 80
أَيْ اِطْرَحُوا عَلَى الْأَرْض مَا مَعَكُمْ مِنْ حِبَالكُمْ وَعِصِيّكُمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَاف الْقَوْل فِي هَذَا مُسْتَوْفًى .
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَسورة يونس الآية رقم 81
تَكُون " مَا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر " جِئْتُمْ بِهِ " وَالتَّقْدِير : أَيّ شَيْء جِئْتُمْ بِهِ , عَلَى التَّوْبِيخ وَالتَّصْغِير لِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ السِّحْر . وَقِرَاءَة أَبِي عَمْرو " آلسِّحْر " عَلَى الِاسْتِفْهَام عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ وَالتَّقْدِير أَهُوَ السِّحْر . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُبْتَدَأ وَالْخَبَر مَحْذُوف , التَّقْدِير : السِّحْر جِئْتُمْ بِهِ . وَلَا تَكُون " مَا " عَلَى قِرَاءَة مَنْ اِسْتَفْهَمَ بِمَعْنَى الَّذِي , إِذْ لَا خَبَر لَهَا . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " السِّحْر " عَلَى الْخَبَر , وَدَلِيل هَذِهِ الْقِرَاءَة قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود : " مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْر " . وَقِرَاءَة أُبَيّ : " مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْر " ; فَ " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي , وَ " جِئْتُمْ بِهِ " الصِّلَة , وَمَوْضِع " مَا " رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَالسِّحْر خَبَر الِابْتِدَاء . وَلَا تَكُون " مَا " إِذَا جَعَلْتهَا بِمَعْنَى الَّذِي نَصْبًا لِأَنَّ الصِّلَة لَا تَعْمَل فِي الْمَوْصُول . وَأَجَازَ الْفَرَّاء نَصْب السِّحْر بِجِئْتُمْ , وَتَكُون لَا لِلشَّرْطِ , وَجِئْتُمْ فِي مَوْضِع جَزْم بِمَا وَالْفَاء مَحْذُوفَة ; التَّقْدِير : فَإِنَّ اللَّه سَيُبْطِلُهُ . وَيَجُوز أَنْ يُنْصَب السِّحْر عَلَى الْمَصْدَر , أَيْ مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرًا , ثُمَّ دَخَلَتْ الْأَلِف وَاللَّام زَائِدَتَيْنِ , فَلَا يُحْتَاج عَلَى هَذَا التَّقْدِير إِلَى حَذْف الْفَاء . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل النَّحَّاس , وَقَالَ : حَذْف الْفَاء فِي الْمُجَازَاة لَا يُجِيزهُ كَثِير مِنْ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا فِي ضَرُورَة الشِّعْر ; كَمَا قَالَ : مَنْ يَفْعَل الْحَسَنَات اللَّه يَشْكُرهَا بَلْ رُبَّمَا قَالَ بَعْضهمْ : إِنَّهُ لَا يَجُوز أَلْبَتَّة . وَسَمِعْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَقُول : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يَزِيد قَالَ حَدَّثَنِي الْمَازِنِيّ قَالَ سَمِعْت الْأَصْمَعِيّ يَقُول : غَيَّرَ النَّحْوِيُّونَ هَذَا الْبَيْت , وَإِنَّمَا الرِّوَايَة : مَنْ يَفْعَل الْخَيْر فَالرَّحْمَن يَشْكُرهُ وَسَمِعْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَقُول : حَذْف الْفَاء فِي الْمُجَازَاة جَائِز . قَالَ : وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ " . " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ " قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ .


يَعْنِي السِّحْر . قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَنْ أَخَذَ مَضْجَعه مِنْ اللَّيْل ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة . ( مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْر إِنَّ اللَّه سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّه لَا يُصْلِح عَمَل الْمُفْسِدِينَ ) لَمْ يَضُرّهُ كَيْد سَاحِر . وَلَا تُكْتَب عَلَى مَسْحُور إِلَّا دَفَعَ اللَّه عَنْهُ السِّحْر .
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَسورة يونس الآية رقم 82
أَيْ يُبَيِّنهُ وَيُوَضِّحهُ .


أَيْ بِكَلَامِهِ وَحُجَجه وَبَرَاهِينه . وَقِيلَ : بِعِدَاتِهِ بِالنَّصْرِ .


مِنْ آل فِرْعَوْن .
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَسورة يونس الآية رقم 83
الْهَاء عَائِدَة عَلَى مُوسَى . قَالَ مُجَاهِد : أَيْ لَمْ يُؤْمِن مِنْهُمْ أَحَد , وَإِنَّمَا آمَنَ أَوْلَاد مَنْ أُرْسِلَ مُوسَى إِلَيْهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , لِطُولِ الزَّمَان هَلَكَ الْآبَاء وَبَقِيَ الْأَبْنَاء فَآمَنُوا ; وَهَذَا اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . وَالذُّرِّيَّة أَعْقَاب الْإِنْسَان وَقَدْ تَكْثُر . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ مُؤْمِنِي بَنِي إِسْرَائِيل . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا سِتّمِائَةِ أَلْف , وَذَلِكَ أَنَّ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام دَخَلَ مِصْر فِي اِثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ إِنْسَانًا فَتَوَالَدُوا بِمِصْرَ حَتَّى بَلَغُوا سِتّمِائَةِ أَلْف . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : " مِنْ قَوْمه " يَعْنِي مِنْ قَوْم فِرْعَوْن ; مِنْهُمْ مُؤْمِن آل فِرْعَوْن وَخَازِن فِرْعَوْن وَامْرَأَته وَمَاشِطَة اِبْنَته وَامْرَأَة خَازِنه . وَقِيلَ : هُمْ أَقْوَام آبَاؤُهُمْ مِنْ الْقِبْط , وَأُمَّهَاتهمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَسُمُّوا ذُرِّيَّة كَمَا يُسَمَّى أَوْلَاد الْفُرْس الَّذِينَ تَوَالَدُوا بِالْيَمَنِ وَبِلَاد الْعَرَب الْأَبْنَاء ; لِأَنَّ أُمَّهَاتهمْ مِنْ غَيْر جِنْس آبَائِهِمْ ; قَالَ الْفَرَّاء . وَعَلَى هَذَا فَالْكِنَايَة فِي " قَوْمه " تَرْجِع إِلَى مُوسَى لِلْقَرَابَةِ مِنْ جِهَة الْأُمَّهَات , وَإِلَى فِرْعَوْن إِذَا كَانُوا مِنْ الْقِبْط .


لِأَنَّهُ كَانَ مُسَلَّطًا عَلَيْهِمْ عَاتِيًا .



وَلَمْ يَقُلْ وَمَلَئِهِ ; وَعَنْهُ سِتَّة أَجْوِبَة : أَحَدهَا : أَنَّ فِرْعَوْن لَمَّا كَانَ جَبَّارًا أَخْبَرَ عَنْهُ بِفِعْلِ الْجَمِيع . الثَّانِي : أَنَّ فِرْعَوْن لَمَّا ذُكِرَ عُلِمَ أَنَّ مَعَهُ غَيْره , فَعَادَ الضَّمِير عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ ; وَهَذَا أَحَد قَوْلَيْ الْفَرَّاء . الثَّالِث : أَنْ تَكُون الْجَمَاعَة سُمِّيَتْ بِفِرْعَوْنَ مِثْل ثَمُود . الرَّابِع : أَنْ يَكُون التَّقْدِير : عَلَى خَوْف مِنْ آل فِرْعَوْن ; فَيَكُون مِنْ بَاب حَذْف الْمُضَاف مِثْل : " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " , [ يُوسُف : 82 ] وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلْفَرَّاءِ . وَهَذَا الْجَوَاب عَلَى مَذْهَب سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيل خَطَأ , لَا يَجُوز عِنْدهمَا قَامَتْ هِنْد , وَأَنْتَ تُرِيد غُلَامهَا . الْخَامِس : مَذْهَب الْأَخْفَش سَعِيد أَنْ يَكُون الضَّمِير يَعُود عَلَى الذُّرِّيَّة , أَيْ مَلَأ الذُّرِّيَّة ; وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . السَّادِس : أَنْ يَكُون الضَّمِير يَعُود عَلَى قَوْمه . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الْجَوَاب كَأَنَّهُ أَبْلَغهَا .



وَحَّدَ " يَفْتِنهُمْ " عَلَى الْإِخْبَار عَنْ فِرْعَوْن , أَيْ يَصْرِفهُمْ عَنْ دِينهمْ بِالْعُقُوبَاتِ , وَهُوَ فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى أَنَّهُ بَدَل اِشْتِمَال . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب بِ " خَوْف " . وَلَمْ يَنْصَرِف فِرْعَوْن لِأَنَّهُ اِسْم أَعْجَمِيّ وَهُوَ مَعْرِفَة .


أَيْ عَاتٍ مُتَكَبِّر


أَيْ الْمُجَاوِزِينَ الْحَدّ فِي الْكُفْر ; لِأَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَادَّعَى الرُّبُوبِيَّة .
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَسورة يونس الآية رقم 84
أَيْ صَدَّقْتُمْ .


أَيْ اِعْتَمِدُوا .


كَرَّرَ الشَّرْط تَأْكِيدًا , وَبَيَّنَ أَنَّ كَمَال الْإِيمَان بِتَفْوِيضِ الْأَمْر إِلَى اللَّه .
فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَسورة يونس الآية رقم 85
أَيْ أَسْلَمْنَا أُمُورنَا إِلَيْهِ , وَرَضِينَا بِقَضَائِهِ وَقَدَره , وَانْتَهَيْنَا إِلَى أَمْره .


أَيْ لَا تَنْصُرهُمْ عَلَيْنَا , فَيَكُون ذَلِكَ فِتْنَة لَنَا عَنْ الدِّين , أَوْ لَا تَمْتَحِنَّا بِأَنْ تُعَذِّبنَا عَلَى أَيْدِيهمْ . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى لَا تُهْلِكنَا بِأَيْدِي أَعْدَائِنَا , وَلَا تُعَذِّبنَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدك , فَيَقُول أَعْدَاؤُنَا لَوْ كَانُوا عَلَى حَقّ لَمْ نُسَلَّط عَلَيْهِمْ ; فَيُفْتَنُوا . وَقَالَ أَبُو مِجْلَز وَأَبُو الضُّحَى : يَعْنِي لَا تُظْهِرهُمْ عَلَيْنَا فَيَرَوْا أَنَّهُمْ خَيْر مِنَّا فَيَزْدَادُوا طُغْيَانًا .
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَسورة يونس الآية رقم 86
أَيْ خَلِّصْنَا .


أَيْ مِنْ فِرْعَوْن وَقَوْمه لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّة .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَسورة يونس الآية رقم 87
" وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ " أَيْ اِتَّخِذَا . " لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا " يُقَال : بَوَّأْت زَيْدًا مَكَانًا وَبَوَّأْت لِزَيْدٍ مَكَانًا . وَالْمُبَوَّأ الْمَنْزِل الْمَلْزُوم ; وَمِنْهُ بَوَّأَهُ اللَّه مَنْزِلًا , أَيْ أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ وَأَسْكَنَهُ ; وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار ) قَالَ الرَّاجِز : نَحْنُ بَنُو عَدْنَان لَيْسَ شَكّ تَبَوَّأَ الْمَجْد بِنَا وَالْمُلْك وَمِصْر فِي هَذِهِ الْآيَة هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة ; فِي قَوْل مُجَاهِد . وَقَالَ الضَّحَّاك : إِنَّهُ الْبَلَد الْمُسَمَّى مِصْر , وَمِصْر مَا بَيْن الْبَحْر إِلَى أُسْوَان , وَالْإِسْكَنْدَرِيَّة مِنْ أَرْض مِصْر .



قَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : كَانَ بَنُو إِسْرَائِيل لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِي مَسَاجِدهمْ وَكَنَائِسهمْ وَكَانَتْ ظَاهِرَة , فَلَمَّا أُرْسِلَ مُوسَى أَمَرَ فِرْعَوْن بِمَسَاجِد بَنِي إِسْرَائِيل فَخُرِّبَتْ كُلّهَا وَمُنِعُوا مِنْ الصَّلَاة ; فَأَوْحَى اللَّه إِلَى مُوسَى وَهَارُون أَنْ اِتَّخِذَا وَتَخَيَّرَا لِبَنِي إِسْرَائِيل بُيُوتًا بِمِصْرَ , أَيْ مَسَاجِد , وَلَمْ يُرِدْ الْمَنَازِل الْمَسْكُونَة . هَذَا قَوْل إِبْرَاهِيم وَابْن زَيْد وَالرَّبِيع وَأَبِي مَالِك وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمْ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّ الْمَعْنَى : وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ يُقَابِل بَعْضهَا بَعْضًا . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ ; أَيْ اِجْعَلُوا مَسَاجِدكُمْ إِلَى الْقِبْلَة ; قِيلَ : بَيْت الْمَقْدِس , وَهِيَ قِبْلَة الْيَهُود إِلَى الْيَوْم ; قَالَ اِبْن بَحْر . وَقِيلَ الْكَعْبَة . عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : وَكَانَتْ الْكَعْبَة قِبْلَة مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَة فِي الصَّلَاة كَانَتْ شَرْعًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , وَلَمْ تَخْلُ الصَّلَاة عَنْ شَرْط الطَّهَارَة وَسَتْر الْعَوْرَة وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَة ; فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغ فِي التَّكْلِيف وَأَوْفَر لِلْعِبَادَةِ . وَقِيلَ : الْمُرَاد صَلُّوا فِي بُيُوتكُمْ سِرًّا لِتَأْمَنُوا ; وَذَلِكَ حِين أَخَافَهُمْ فِرْعَوْن فَأُمِرُوا بِالصَّبْرِ وَاِتِّخَاذ الْمَسَاجِد فِي الْبُيُوت , وَالْإِقْدَام عَلَى الصَّلَاة , وَالدُّعَاء إِلَى أَنْ يُنْجِز اللَّه وَعْده , وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ وَاصْبِرُوا " الْآيَة . وَكَانَ مِنْ دِينهمْ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِي الْبِيَع وَالْكَنَائِس مَا دَامُوا عَلَى أَمْن , فَإِذَا خَافُوا فَقَدْ أَذِنَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتهمْ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْأَوَّل أَظْهَر الْقَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ الثَّانِي دَعْوَى . قُلْت : قَوْله : " دَعْوَى " صَحِيح ; فَإِنَّ فِي الصَّحِيح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْض مَسْجِدًا وَطَهُورًا ) وَهَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ دُون الْأَنْبِيَاء ; فَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّه نُصَلِّي فِي الْمَسَاجِد وَالْبُيُوت , وَحَيْثُ أَدْرَكَتْنَا الصَّلَاة ; إِلَّا أَنَّ النَّافِلَة فِي الْمَنَازِل أَفْضَل مِنْهَا فِي الْمَسَاجِد , حَتَّى الرُّكُوع قَبْل الْجُمُعَة وَبَعْدهَا . وَقَبْل الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَات وَبَعْدهَا ; إِذْ النَّوَافِل يَحْصُل فِيهَا الرِّيَاء , وَالْفَرَائِض لَا يَحْصُل فِيهَا ذَلِكَ , وَكُلَّمَا خَلَصَ الْعَمَل مِنْ الرِّيَاء كَانَ أَوْزَنَ وَأَزْلَفَ عِنْد اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى . رَوَى مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن شَقِيق قَالَ : سَأَلْت عَائِشَة عَنْ صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَطَوُّعه قَالَتْ : ( كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْل الظُّهْر أَرْبَعًا , ثُمَّ يَخْرُج فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ , ثُمَّ يَدْخُل فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ , وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِب , ثُمَّ يَدْخُل فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاء , وَيَدْخُل بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ) الْحَدِيث . وَعَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : صَلَّيْت مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الظُّهْر سَجْدَتَيْنِ وَبَعْدهَا سَجْدَتَيْنِ وَبَعْد الْمَغْرِب سَجْدَتَيْنِ ; فَأَمَّا الْمَغْرِب وَالْعِشَاء وَالْجُمُعَة فَصَلَّيْت مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْته . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ كَعْب بْن عُجْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مَسْجِد بَنِي الْأَشْهَل فَصَلَّى فِيهِ الْمَغْرِب ; فَلَمَّا قَضَوْا صَلَاتهمْ رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ بَعْدهَا فَقَالَ : ( هَذِهِ صَلَاة الْبُيُوت ) .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْبَاب فِي قِيَام رَمَضَان , هَلْ إِيقَاعه فِي الْبَيْت أَفْضَل أَوْ فِي الْمَسْجِد ؟ فَذَهَبَ مَالِك إِلَى أَنَّهُ فِي الْبَيْت أَفْضَل لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ , وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُف وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ . وَذَهَبَ اِبْن عَبْد الْحَكَم وَأَحْمَد وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّ حُضُورهَا فِي الْجَمَاعَة أَفْضَل . وَقَالَ اللَّيْث : لَوْ قَامَ النَّاس فِي بُيُوتهمْ وَلَمْ يَقُمْ أَحَد فِي الْمَسْجِد لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهِ . وَالْحُجَّة لِمَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث زَيْد بْن ثَابِت : ( فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتكُمْ فَإِنَّ خَيْر صَلَاة الْمَرْء فِي بَيْته إِلَّا الْمَكْتُوبَة ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ . اِحْتَجَّ الْمُخَالِف بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّاهَا فِي الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد , ثُمَّ أَخْبَرَ بِالْمَانِعِ الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ عَلَى الدَّوَام عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ خَشْيَة أَنْ تُفْرَض عَلَيْهِمْ فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ : ( فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتكُمْ ) . ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَة كَانُوا يُصَلُّونَهَا فِي الْمَسْجِد أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ , إِلَى أَنْ جَمَعَهُمْ عُمَر عَلَى قَارِئ وَاحِد فَاسْتَقَرَّ الْأَمْر عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ سُنَّة .

وَإِذَا تَنَزَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ أُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتهمْ إِذَا خَافُوا عَلَى أَنْفُسهمْ فَيُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْذُور بِالْخَوْفِ وَغَيْره يَجُوز لَهُ تَرْك الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة . وَالْعُذْر الَّذِي يُبِيح لَهُ ذَلِكَ كَالْمَرَضِ الْحَابِس , أَوْ خَوْف زِيَادَته , أَوْ خَوْف جَوْر السُّلْطَان فِي مَال أَوْ دُون الْقَضَاء عَلَيْهِ بِحَقٍّ . وَالْمَطَر الْوَابِل مَعَ الْوَحْل عُذْر إِنْ لَمْ يَنْقَطِع , وَمَنْ لَهُ وَلِيّ حَمِيم قَدْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاة وَلَمْ يَكُنْ عِنْده مَنْ يُمَرِّضهُ ; وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ اِبْن عُمَر .



قِيلَ : الْخِطَاب لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , وَهُوَ أَظْهَر , أَيْ بَشِّرْ بَنِي إِسْرَائِيل بِأَنَّ اللَّه سَيُظْهِرُهُمْ عَلَى عَدُوّهُمْ .
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَسورة يونس الآية رقم 88
" آتَيْت " أَيْ أَعْطَيْت .


أَيْ مَال الدُّنْيَا , وَكَانَ لَهُمْ مِنْ فُسْطَاط مِصْر إِلَى أَرْض الْحَبَشَة جِبَال فِيهَا مَعَادِن الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالزَّبَرْجَد وَالزُّمُرُّد وَالْيَاقُوت .


اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ اللَّام , وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِيهَا - وَهُوَ قَوْل الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ - أَنَّهَا لَام الْعَاقِبَة وَالصَّيْرُورَة ; وَفِي الْخَبَر ( إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكًا يُنَادِي كُلّ يَوْم لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ ) . أَيْ لَمَّا كَانَ عَاقِبَة أَمْرهمْ إِلَى الضَّلَال صَارَ كَأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ لِيُضِلُّوا . وَقِيلَ : هِيَ لَام كَيْ أَيْ أَعْطَيْتهمْ لِكَيْ يَضِلُّوا وَيَبْطَرُوا وَيَتَكَبَّرُوا . وَقِيلَ : هِيَ لَام أَجْل , أَيْ أَعْطَيْتهمْ لِأَجْلِ إِعْرَاضهمْ عَنْك فَلَمْ يَخَافُوا أَنْ تُعْرِض عَنْهُمْ . وَزَعَمَ قَوْم أَنَّ الْمَعْنَى : أَعْطَيْتهمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَضِلُّوا , فَحُذِفَتْ لَا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : ( يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) . وَالْمَعْنَى : لِأَنْ لَا تَضِلُّوا . قَالَ النَّحَّاس : ظَاهِر هَذَا الْجَوَاب حَسَن , إِلَّا أَنَّ الْعَرَب لَا تَحْذِف " لَا " إِلَّا مَعَ أَنْ ; فَمَوَّهَ صَاحِب هَذَا الْجَوَاب بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " أَنْ تَضِلُّوا " . وَقِيلَ : اللَّام لِلدُّعَاءِ , أَيْ اِبْتَلِهِمْ بِالضَّلَالِ عَنْ سَبِيلك ; لِأَنَّ بَعْده : " اِطْمِسْ عَلَى أَمْوَالهمْ وَاشْدُدْ " . وَقِيلَ : الْفِعْل مَعْنَى الْمَصْدَر أَيْ إِضْلَالهمْ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ " لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ " قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ : " لِيُضِلُّوا " بِضَمِّ الْيَاء مِنْ الْإِضْلَال , وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ .


أَيْ عَاقِبْهُمْ عَلَى كُفْرهمْ بِإِهْلَاكِ أَمْوَالهمْ . قَالَ الزَّجَّاج : طَمْس الشَّيْء إِذْهَابه عَنْ صُورَته . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُحَمَّد بْن كَعْب : صَارَتْ أَمْوَالهمْ وَدَرَاهِمهمْ حِجَارَة مَنْقُوشَة كَهَيْئَتِهَا صِحَاحًا وَأَثْلَاثًا وَأَنْصَافًا , وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعْدِن إِلَّا طَمَسَ اللَّه عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَفِع بِهِ أَحَد بَعْد . وَقَالَ قَتَادَة : بَلَغَنَا أَنَّ أَمْوَالهمْ وَزُرُوعهمْ صَارَتْ حِجَارَة . وَقَالَ مُجَاهِد وَعَطِيَّة : أَهْلَكَهَا حَتَّى لَا تُرَى ; يُقَال : عَيْن مَطْمُوسَة , وَطُمِسَ الْمَوْضِع إِذَا عَفَا وَدَرَسَ . وَقَالَ اِبْن زَيْد : صَارَتْ دَنَانِيرهمْ وَدَرَاهِمهمْ وَفُرُشهمْ وَكُلّ شَيْء لَهُمْ حِجَارَة . مُحَمَّد بْن كَعْب : وَكَانَ الرَّجُل مِنْهُمْ يَكُون مَعَ أَهْله فِي فِرَاشه وَقَدْ صَارَا حَجَرَيْنِ ; قَالَ : وَسَأَلَنِي عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَدَعَا بِخَرِيطَةٍ أُصِيبَتْ بِمِصْرَ فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْفَوَاكِه وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَإِنَّهَا لَحِجَارَة . وَقَالَ السُّدِّيّ : وَكَانَتْ إِحْدَى الْآيَات التِّسْع .


قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ اِمْنَعْهُمْ الْإِيمَان . وَقِيلَ : قَسِّهَا وَاطْبَعْ عَلَيْهَا حَتَّى لَا تَنْشَرِج لِلْإِيمَانِ ; وَالْمَعْنَى وَاحِد . " فَلَا يُؤْمِنُوا " قِيلَ : هُوَ عَطْف عَلَى قَوْله : " لِيَضِلُّوا " أَيْ آتَيْتهمْ النِّعَم لِيَضِلُّوا وَلَا يُؤْمِنُوا ; قَالَهُ الزَّجَّاج وَالْمُبَرِّد . وَعَلَى هَذَا لَا يَكُون فِيهِ مِنْ مَعْنَى الدُّعَاء شَيْء . وَقَوْله : ( رَبّنَا اِطْمِسْ , وَاشْدُدْ ) كَلَام مُعْتَرِض . وَقَالَ الْفَرَّاء وَالْكِسَائِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة : هُوَ دُعَاء , فَهُوَ فِي مَوْضِع جَزْم عِنْدهمْ ; أَيْ اللَّهُمَّ فَلَا يُؤْمِنُوا , أَيْ فَلَا آمَنُوا . وَمِنْهُ قَوْل الْأَعْشَى : فَلَا يَنْبَسِط مِنْ بَيْن عَيْنَيْك مَا اِنْزَوَى وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا وَأَنْفك رَاغِم أَيْ لَا اِنْبَسَطَ . وَمَنْ قَالَ " لِيَضِلُّوا " دُعَاء - أَيْ اِبْتَلِهِمْ بِالضَّلَالِ - قَالَ : عَطَفَ عَلَيْهِ " فَلَا يُؤْمِنُوا " . وَقِيلَ : هُوَ فِي مَوْضِع نَصْب لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمْر ; أَيْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبهمْ فَلَا يُؤْمِنُوا . وَهَذَا قَوْل الْأَخْفَش وَالْفَرَّاء أَيْضًا , وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : يَا نَاقَ ! سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا إِلَى سُلَيْمَان فَنَسْتَرِيحَا فَعَلَى هَذَا حُذِفَتْ النُّون لِأَنَّهُ مَنْصُوب .



قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الْغَرَق . وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ بَعْض النَّاس هَذِهِ الْآيَة فَقَالَ : كَيْفَ دَعَا عَلَيْهِمْ وَحُكْم الرُّسُل اِسْتِدْعَاء إِيمَان قَوْمهمْ ; فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَدْعُو نَبِيّ عَلَى قَوْمه إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْ اللَّه , وَإِعْلَام أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِن وَلَا يَخْرُج مِنْ أَصْلَابهمْ مَنْ يُؤْمِن ; دَلِيله قَوْله لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَام : " إِنَّهُ لَنْ يُؤْمِن مِنْ قَوْمك إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ " [ هُود : 36 ] وَعِنْد ذَلِكَ قَالَ : " رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْض مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا " الْآيَة [ نُوح : 26 ] . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَسورة يونس الآية رقم 89
قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : دَعَا مُوسَى وَأَمَّنَ هَارُون ; فَسُمِّيَ هَارُون وَقَدْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاء دَاعِيًا . وَالتَّأْمِين عَلَى الدُّعَاء أَنْ يَقُول آمِينَ ; فَقَوْلك آمِينَ دُعَاء , أَيْ يَا رَبِّ اِسْتَجِبْ لِي . وَقِيلَ : دَعَا هَارُون مَعَ مُوسَى أَيْضًا . وَقَالَ أَهْل الْمَعَانِي : رُبَّمَا خَاطَبَتْ الْعَرَب الْوَاحِد بِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ ; قَالَ الشَّاعِر : فَقُلْت لِصَاحِبِي لَا تُعَجِّلَانَا بِنَزْعِ أُصُوله فَاجْتَزَّ شِيحَا وَهَذَا عَلَى أَنَّ آمِينَ لَيْسَ بِدُعَاءٍ , وَأَنَّ هَارُون لَمْ يَدْعُ . قَالَ النَّحَّاس : سَمِعْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَقُول : الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الدُّعَاء لَهُمَا قَوْل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام " رَبّنَا " وَلَمْ يَقُلْ رَبِّ . وَقَرَأَ عَلِيّ وَالسُّلَمِيّ " دَعَوَاتكُمَا " بِالْجَمْعِ . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع " أَجَبْت دَعْوَتكُمَا " خَبَرًا عَنْ اللَّه تَعَالَى , وَنَصَبَ دَعْوَة بَعْده . وَتَقَدَّمَ الْقَوْل فِي " آمِينَ " فِي آخِر الْفَاتِحَة مُسْتَوْفًى . وَهُوَ مِمَّا خُصَّ بِهِ نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَارُون وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام . رَوَى أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه قَدْ أَعْطَى أُمَّتِي ثَلَاثًا لَمْ تُعْطَ أَحَدًا قَبْلهمْ السَّلَام وَهِيَ تَحِيَّة أَهْل الْجَنَّة وَصُفُوف الْمَلَائِكَة وَآمِينَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مُوسَى وَهَارُون ) ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَة .


قَالَ الْفَرَّاء وَغَيْره : أَمَرَ بِالِاسْتِقَامَةِ . عَلَى أَمْرهمَا وَالثَّبَات عَلَيْهِ مِنْ دُعَاء فِرْعَوْن وَقَوْمه إِلَى الْإِيمَان , إِلَى أَنْ يَأْتِيهِمَا تَأْوِيل الْإِجَابَة . قَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ وَابْن جُرَيْح : مَكَثَ فِرْعَوْن وَقَوْمه بِهِ هَذِهِ الْإِجَابَة أَرْبَعِينَ سَنَة ثُمَّ أُهْلِكُوا . وَقِيلَ : " اِسْتَقِيمَا " أَيْ عَلَى الدُّعَاء ; وَالِاسْتِقَامَة فِي الدُّعَاء تَرْك الِاسْتِعْجَال فِي حُصُول الْمَقْصُود , وَلَا يَسْقُط الِاسْتِعْجَال مِنْ الْقَلْب إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ السَّكِينَة فِيهِ , وَلَا تَكُون تِلْكَ السَّكِينَة إِلَّا بِالرِّضَا الْحَسَن لِجَمِيعِ مَا يَبْدُو مِنْ الْغَيْب .



بِتَشْدِيدِ النُّون فِي مَوْضِع جَزْم عَلَى النَّهْي , وَالنُّون لِلتَّوْكِيدِ وَحُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَاخْتِيرَ لَهَا الْكَسْر لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ نُون الِاثْنَيْنِ . وَقَرَأَ اِبْن ذَكْوَان بِتَخْفِيفِ النُّون عَلَى النَّفْي . وَقِيلَ : هُوَ حَال مِنْ اِسْتَقِيمَا ; أَيْ اِسْتَقِيمَا غَيْر مُتَّبِعَيْنِ , وَالْمَعْنَى : لَا تَسْلُكَا طَرِيق مَنْ لَا يَعْلَم حَقِيقَة وَعْدِي وَوَعِيدِي .
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَسورة يونس الآية رقم 90
تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ فِي " الْبَقَرَة " فِي قَوْله : " وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْر " . وَقَرَأَ الْحَسَن " وَجَوَّزْنَا " وَهُمَا لُغَتَانِ .


يُقَال : تَبِعَ وَأَتْبَعَ بِمَعْنًى وَاحِد , إِذَا لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ . وَاتَّبَعَ ( بِالتَّشْدِيدِ ) إِذَا سَارَ خَلْفه . وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : أَتْبَعَهُ ( بِقَطْعِ الْأَلِف ) إِذَا لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ , وَاتَّبَعَهُ ( بِوَصْلِ الْأَلِف ) إِذَا اِتَّبَعَ أَثَره , أَدْرَكَهُ أَوْ لَمْ يُدْرِكهُ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو زَيْد . وَقَرَأَ قَتَادَة " فَاتَّبَعَهُمْ " بِوَصْلِ الْأَلِف . وَقِيلَ : " اِتَّبَعَهُ " ( بِوَصْلِ الْأَلِف ) فِي الْأَمْر اِقْتَدَى بِهِ . وَأَتْبَعَهُ ( بِقَطْعِ الْأَلِف ) خَيْرًا أَوَشَرًّا ; هَذَا قَوْل أَبِي عَمْرو . وَقَدْ قِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد . فَخَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيل وَهُمْ سِتّمِائَةِ أَلْف وَعِشْرُونَ أَلْفًا , وَتَبِعَهُ فِرْعَوْن مُصْبِحًا فِي أَلْفَيْ أَلْف وَسِتّمِائَةِ أَلْف . وَقَدْ تَقَدَّمَ .



نُصِبَ عَلَى الْحَال .



مَعْطُوف عَلَيْهِ ; أَيْ فِي حَال بَغْي وَاعْتِدَاء وَظُلْم ; يُقَال : عَدَا يَعْدُو عَدْوًا ; مِثْل غَزَا يَغْزُو غَزْوًا . وَقَرَأَ الْحَسَن " وَعُدُوًّا " بِضَمِّ الْعَيْن وَالدَّال وَتَشْدِيد الْوَاو ; مِثْل عَلَا يَعْلُو عُلُوًّا . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : " بَغْيًا " طَلَبًا لِلِاسْتِعْلَاءِ بِغَيْرِ حَقّ فِي الْقَوْل , " وَعَدْوًا " فِي الْفِعْل ; فَهُمَا نَصْب عَلَى الْمَفْعُول لَهُ .


أَيْ نَالَهُ وَوَصَلَهُ .


أَيْ صَدَّقْت .


أَيْ بِأَنَّهُ .



فَلَمَّا حَذَفَ الْخَافِض تَعَدَّى الْفِعْل فَنَصَبَ . وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ , أَيْ صِرْت مُؤْمِنًا ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ . وَزَعَمَ أَبُو حَاتِم أَنَّ الْقَوْل مَحْذُوف , أَيْ آمَنْت فَقُلْت إِنَّهُ , وَالْإِيمَان لَا يَنْفَع حِينَئِذٍ ; وَالتَّوْبَة مَقْبُولَة قَبْل رُؤْيَة الْبَأْس , وَأَمَّا بَعْدهَا وَبَعْد الْمُخَالَطَة فَلَا تُقْبَل , حَسَب مَا تَقَدَّمَ فِي " النِّسَاء " بَيَانه . وَيُقَال : إِنَّ فِرْعَوْن هَابَ دُخُول الْبَحْر وَكَانَ عَلَى حِصَان أَدْهَم وَلَمْ يَكُنْ فِي خَيْل فِرْعَوْن فَرَس أُنْثَى ; فَجَاءَ جِبْرِيل عَلَى فَرَس وَدِيق أَيْ شَهِيّ فِي صُورَة هَامَان وَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمَ , ثُمَّ خَاضَ الْبَحْر فَتَبِعَهَا حِصَان فِرْعَوْن , وَمِيكَائِيل يَسُوقهُمْ لَا يَشِذّ مِنْهُمْ أَحَد , فَلَمَّا صَارَ آخِرهمْ فِي الْبَحْر وَهَمَّ أَوَّلهمْ أَنْ يَخْرُج اِنْطَبَقَ عَلَيْهِمْ الْبَحْر , وَأَلْجَمَ فِرْعَوْن الْغَرَق فَقَالَ : آمَنْت بِاَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل ; فَدَسَّ جِبْرِيل فِي فَمه حَال الْبَحْر . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَمَّا أَغْرَقَ اللَّه فِرْعَوْن قَالَ آمَنْت أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل قَالَ جِبْرِيل يَا مُحَمَّد فَلَوْ رَأَيْتنِي وَأَنَا آخُذ مِنْ حَال الْبَحْر فَأَدُسّهُ فِي فِيهِ مَخَافَة أَنْ تُدْرِكهُ الرَّحْمَة ) . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن . حَال الْبَحْر : الطِّين الْأَسْوَد الَّذِي يَكُون فِي أَرْضه ; قَالَهُ أَهْل اللُّغَة . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ : ( أَنَّ جِبْرِيل جَعَلَ يَدُسّ فِي فِي فِرْعَوْن الطِّين خَشْيَة أَنْ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَيَرْحَمهُ اللَّه أَوْ خَشْيَة أَنْ يَرْحَمهُ ) . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب صَحِيح . وَقَالَ عَوْن بْن عَبْد اللَّه : بَلَغَنِي أَنَّ جِبْرِيل قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا وَلَد إِبْلِيس أَبْغَض إِلَيَّ مِنْ فِرْعَوْن , فَإِنَّهُ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَق قَالَ : " آمَنْت " الْآيَة , فَخَشِيت أَنْ يَقُولهَا فَيُرْحَم , فَأَخَذْت تُرْبَة أَوْ طِينَة فَحَشَوْتهَا فِي فِيهِ . وَقِيلَ : إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا بِهِ عُقُوبَة لَهُ عَلَى عَظِيم مَا كَانَ يَأْتِي . وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار : أَمْسَكَ اللَّه نِيل مِصْر عَنْ الْجَرْي فِي زَمَانه . فَقَالَتْ لَهُ الْقِبْط : إِنْ كُنْت رَبّنَا فَأَجْرِ لَنَا الْمَاء ; فَرَكِبَ وَأَمَرَ بِجُنُودِهِ قَائِدًا قَائِدًا وَجَعَلُوا يَقِفُونَ عَلَى دَرَجَاتهمْ وَقَفَزَ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ وَنَزَلَ عَنْ دَابَّته وَلَبِسَ ثِيَابًا لَهُ أُخْرَى وَسَجَدَ وَتَضَرَّعَ لِلَّهِ تَعَالَى فَأَجْرَى اللَّه لَهُ الْمَاء , فَأَتَاهُ جِبْرِيل وَهُوَ وَحْده فِي هَيْئَة مُسْتَفْتٍ وَقَالَ : مَا يَقُول الْأَمِير فِي رَجُل لَهُ عَبْد قَدْ نَشَأَ فِي نِعْمَته لَا سَنَد لَهُ غَيْره , فَكَفَرَ نِعَمه وَجَحَدَ حَقّه وَادَّعَى السِّيَادَة دُونه ; فَكَتَبَ فِرْعَوْن : يَقُول أَبُو الْعَبَّاس الْوَلِيد بْن مُصْعَب بْن الرَّيَّان جَزَاؤُهُ أَنْ يَغْرَق فِي الْبَحْر ; فَأَخَذَهُ جِبْرِيل وَمَرَّ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَق نَاوَلَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام خَطّه . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي " الْبَقَرَة " عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وَابْن عَبَّاس مُسْنَدًا ; وَكَانَ هَذَا فِي يَوْم عَاشُورَاء عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " الْبَقَرَة " أَيْضًا فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ .



أَيْ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ الْمُسْتَسْلِمِينَ بِالِانْقِيَادِ وَالطَّاعَة .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4