أَيْ نُبْقِي عَلَيْهِمْ الثَّنَاء الْحَسَن . وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ جَزَاء كَذَلِكَ . أَوْ نَجْزِيهِمْ بِالْخَلَاصِ مِنْ الشَّدَائِد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
أَيْ مِنْ الَّذِينَ أَعْطَوْا الْعُبُودِيَّة حَقّهَا حَتَّى اِسْتَحَقُّوا الْإِضَافَة إِلَى اللَّه تَعَالَى .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إِلْيَاس نَبِيّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : إِسْرَائِيل هُوَ يَعْقُوب وَإِلْيَاس هُوَ إِدْرِيس . وَقَرَأَ : " وَإِنَّ إِدْرِيس " وَقَالَهُ عِكْرِمَة . وَقَالَ : هُوَ فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه : " وَإِنَّ إِدْرِيس لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ " وَانْفَرَدَ بِهَذَا الْقَوْل . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ عَمّ الْيَسَع . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره : كَانَ الْقَيِّمَ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيل بَعْد يُوشَع كَالِب بْن يوقنا ثُمَّ حِزْقِيل , ثُمَّ لَمَّا قَبَضَ اللَّه حِزْقِيل النَّبِيّ عَظُمَتْ الْأَحْدَاث فِي بَنِي إِسْرَائِيل , وَنَسُوا عَهْد اللَّه وَعَبَدُوا الْأَوْثَان مِنْ دُونه , فَبَعَثَ اللَّه إِلَيْهِمْ إِلْيَاس نَبِيًّا وَتَبِعَهُ الْيَسَع وَآمَنَ بِهِ , فَلَمَّا عَتَا عَلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيل دَعَا رَبّه أَنْ يُرِيحَهُ مِنْهُمْ فَقِيلَ لَهُ : اُخْرُجْ يَوْم كَذَا وَكَذَا إِلَى مَوْضِع كَذَا وَكَذَا فَمَا اِسْتَقْبَلَك مِنْ شَيْء فَارْكَبْهُ وَلَا تَهَبْهُ . فَخَرَجَ وَمَعَهُ الْيَسَع فَقَالَ : يَا إِلْيَاس مَا تَأْمُرنِي . فَقَذَفَ إِلَيْهِ بِكِسَائِهِ مِنْ الْجَوّ الْأَعْلَى , فَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَة اِسْتِخْلَافه إِيَّاهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل , وَكَانَ ذَلِكَ آخِر الْعَهْد بِهِ . وَقَطَعَ اللَّه عَلَى إِلْيَاس لَذَّة الْمَطْعَم وَالْمَشْرَب , وَكَسَاهُ الرِّيش وَأَلْبَسهُ النُّور , فَطَارَ مَعَ الْمَلَائِكَة , فَكَانَ إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا . قَالَ اِبْن قُتَيْبَة : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِإِلْيَاس : " سَلْنِي أُعْطِك " . قَالَ : تَرْفَعنِي إِلَيْك وَتُؤَخِّر عَنِّي مَذَاقَة الْمَوْت . فَصَارَ يَطِير مَعَ الْمَلَائِكَة . وَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَ قَدْ مَرِضَ وَأَحَسَّ الْمَوْت فَبَكَى , فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : لَمْ تَبْكِ ؟ حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا , أَوْ جَزَعًا مِنْ الْمَوْت , أَوْ خَوْفًا مِنْ النَّار ؟ قَالَ : لَا , وَلَا شَيْء مِنْ هَذَا وَعِزَّتِك , إِنَّمَا جَزَعِي كَيْف يَحْمَدُك الْحَامِدُونَ بَعْدِي وَلَا أَحْمَدك ! وَيَذْكُرُك الذَّاكِرُونَ بَعْدِي وَلَا أَذْكُرُك ! وَيَصُومُ الصَّائِمُونَ بَعْدِي وَلَا أَصُومُ ! وَيُصَلِّي الْمُصَلُّونَ وَلَا أُصَلِّي ! ! فَقِيلَ لَهُ : " يَا إِلْيَاس وَعِزَّتِي لَأُؤَخِّرَنَّكَ إِلَى وَقْت لَا يَذْكُرنِي فِيهِ ذَاكِر " . يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة . وَقَالَ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي رُوَّاد : إِنَّ إِلْيَاس وَالْخَضِر عَلَيْهِمَا السَّلَام يَصُومَانِ شَهْر رَمَضَان فِي كُلّ عَام بِبَيْتِ الْمَقْدِس يُوَافِيَانِ الْمَوْسِم فِي كُلّ عَام . وَذَكَرَ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا ; إِنَّهُمَا يَقُولَانِ عِنْد اِفْتِرَاقهمَا عَنْ الْمَوْسِم : مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه , لَا يَسُوق الْخَيْر إِلَّا اللَّه , مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه , لَا يَصْرِف السُّوء إِلَّا اللَّه ; مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه , مَا يَكُون مِنْ نِعْمَة فَمِنْ اللَّه ; مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه ; تَوَكَّلْت عَلَى اللَّه حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْكَهْف ] . وَذُكِرَ مِنْ طَرِيق مَكْحُول عَنْ أَنَس قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِفَجِّ النَّاقَة عِنْد الْحِجْر , إِذَا نَحْنُ بِصَوْتٍ يَقُول : اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِنْ أُمَّة مُحَمَّد الْمَرْحُومَة , الْمَغْفُور لَهَا , الْمَتُوب عَلَيْهَا , الْمُسْتَجَاب لَهَا , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَنَس , اُنْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْت ) . فَدَخَلْت الْجَبَل , فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ أَبْيَض اللِّحْيَة وَالرَّأْس , عَلَيْهِ ثِيَاب بِيض , طُوله أَكْثَر مِنْ ثَلَاثمِائَةِ ذِرَاع , فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ قَالَ : أَنْتَ رَسُول النَّبِيّ ؟ قُلْت : نَعَمْ ; قَالَ : اِرْجِعْ إِلَيْهِ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَام وَقُلْ لَهُ : هَذَا أَخُوك إِلْيَاس يُرِيد لِقَاءَك . فَجَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ , حَتَّى إِذَا كُنَّا قَرِيبًا مِنْهُ , تَقَدَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأَخَّرْت , فَتَحَدَّثَا طَوِيلًا , فَنَزَلَ عَلَيْهِمَا شَيْء مِنْ السَّمَاء شِبْهُ السُّفْرَة فَدَعَوَانِي فَأَكَلْت مَعَهُمَا , فَإِذَا فِيهَا كَمْأَة وَرُمَّان وَكَرَفْس , فَلَمَّا أَكَلْت قُمْت فَتَنَحَّيْت , وَجَاءَتْ سَحَابَة فَاحْتَمَلَتْهُ فَإِذَا أَنَا أَنْظُر إِلَى بَيَاض ثِيَابه فِيهَا تَهْوِي بِهِ ; فَقُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! هَذَا الطَّعَام الَّذِي أَكَلْنَا أَمِنْ السَّمَاء نَزَلَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَأَلْته عَنْهُ فَقَالَ يَأْتِينِي بِهِ جِبْرِيل فِي كُلّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَكْلَة , وَفِي كُلّ حَوْل شَرْبَة مِنْ مَاء زَمْزَم , وَرُبَّمَا رَأَيْته عَلَى الْجُبّ يَمْلَأ بِالدَّلْوِ فَيَشْرَب وَرُبَّمَا سَقَانِي ) .
قَالَ ثَعْلَب : اِخْتَلَفَ النَّاس فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ هَاهُنَا " بَعْلًا " فَقَالَتْ طَائِفَة : الْبَعْل هَاهُنَا الصَّنَم . وَقَالَ طَائِفَة : الْبَعْل هَاهُنَا مَلَك . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : اِمْرَأَة كَانُوا يَعْبُدُونَهَا . وَالْأَوَّل أَكْثَر . وَرَوَى الْحَكَم بْن أَبَان عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : " أَتَدْعُونَ بَعْلًا " قَالَ : صَنَمًا . وَرَوَى عَطَاء بْن السَّائِب عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : " أَتَدْعُونَ بَعْلًا " قَالَ : رَبًّا . النَّحَّاس : وَالْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ ; أَيْ أَتَدْعُونَ صَنَمًا عَمِلْتُمُوهُ رَبًّا . يُقَال : هَذَا بَعْل الدَّار أَيْ رَبّهَا . فَالْمَعْنَى أَتَدْعُونَ رَبًّا اِخْتَلَقْتُمُوهُ , وَ " أَتَدْعُونَ " بِمَعْنَى أَتُسَمُّونَ . حَكَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ . وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ : الْبَعْل الرَّبّ بِلُغَةِ الْيَمَن . وَسَمِعَ اِبْن عَبَّاس رَجُلًا مِنْ أَهْل الْيُمْن يَسُوم نَاقَة بِمِنًى فَقَالَ : مَنْ بَعْل هَذِهِ ؟ . أَيْ مَنْ رَبّهَا ; وَمِنْهُ سُمِّيَ الزَّوْج بَعْلًا . قَالَ أَبُو دُؤَاد : وَرَأَيْت بَعْلَك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا مُقَاتِل : صَنَم كَسَّرَهُ إِلْيَاس وَهَرَبَ مِنْهُمْ . وَقِيلَ : كَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ طُوله عِشْرِينَ ذِرَاعًا , وَلَهُ أَرْبَعَة أَوْجُه , فُتِنُوا بِهِ وَعَظَّمُوهُ حَتَّى أَخْدَمُوهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَادِن وَجَعَلُوهُمْ أَنْبِيَاءَهُ , فَكَانَ الشَّيْطَان يَدْخُل فِي جَوْف بَعْل وَيَتَكَلَّم بِشَرِيعَةِ الضَّلَالَة , وَالسَّدَنَة يَحْفَظُونَهَا وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاس , وَهُمْ أَهْل بَعْلَبَكّ مِنْ بِلَاد الشَّام . وَبِهِ سُمِّيَتْ مَدِينَتهمْ بَعْلَبَكّ كَمَا ذَكَرْنَا .
أَيْ أَحْسَن مَنْ يُقَال لَهُ خَالِق . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَحْسَن الصَّانِعِينَ ; لِأَنَّ النَّاس يَصْنَعُونَ وَلَا يَخْلُقُونَ .
أَيْ أَحْسَن مَنْ يُقَال لَهُ خَالِق . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَحْسَن الصَّانِعِينَ ; لِأَنَّ النَّاس يَصْنَعُونَ وَلَا يَخْلُقُونَ .
بِالنَّصْبِ فِي الْأَسْمَاء الثَّلَاثَة قَرَأَ الرَّبِيع بْن خَيْثَم وَالْحَسَن وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَابْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ . وَإِلَيْهَا يَذْهَب أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم . وَحَكَى أَبُو عُبَيْد أَنَّهَا عَلَى النَّعْت . النَّحَّاس : وَهُوَ غَلَط وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْبَدَل وَلَا يَجُوز النَّعْت هَاهُنَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَخْلِيَةٍ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَأَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة وَنَافِع بِالرَّفْعِ . قَالَ أَبُو حَاتِم : بِمَعْنَى هُوَ اللَّه رَبّكُمْ . قَالَ النَّحَّاس : وَأَوْلَى مِمَّا قَالَ - أَنَّهُ مُبْتَدَأ وَخَبَر بِغَيْرِ إِضْمَار وَلَا حَذْف . وَرَأَيْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَذْهَب إِلَى أَنَّ الرَّفْع أَوْلَى وَأَحْسَن ; لِأَنَّ قَبْلَهُ رَأْس آيَة فَالِاسْتِئْنَاف أَوْلَى . اِبْن الْأَنْبَارِيّ : مَنْ نَصَبَ أَوْ رَفَعَ لَمْ يَقِف عَلَى " أَحْسَن الْخَالِقِينَ " عَلَى جِهَة التَّمَام ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُتَرْجِم عَنْ " أَحْسَن الْخَالِقِينَ " مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا .
أَخْبَرَ عَنْ قَوْم إِلْيَاس أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ .
أَيْ فِي الْعَذَاب .
أَيْ فِي الْعَذَاب .
أَيْ مِنْ قَوْمه فَإِنَّهُمْ نَجَوْا مِنْ الْعَذَاب . وَقُرِئَ " الْمُخْلِصِينَ " بِكَسْرِ اللَّام وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ ثَنَاء حَسَنًا فِي كُلّ أُمَّة ,
قِرَاءَة الْأَعْرَج وَشَيْبَة وَنَافِع . وَقَرَأَ عِكْرِمَة وَأَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ : " سَلَام عَلَى الْيَاسِينَ " . وَقَرَأَ الْحَسَن : " سَلَام عَلَى الياسين " بِوَصْلِ الْأَلْف كَأَنَّهَا يَاسِين دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْأَلِف وَاللَّام الَّتِي لِلتَّعْرِيفِ . وَالْمُرَاد إِلْيَاس عَلَيْهِ السَّلَام , وَعَلَيْهِ وَقَعَ التَّسْلِيم وَلَكِنَّهُ اِسْم أَعْجَمِيّ . وَالْعَرَب تَضْطَرِب فِي هَذِهِ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة وَيَكْثُر تَغْيِيرهمْ لَهَا . قَالَ اِبْن جِنِّي : الْعَرَب تَتَلَاعَب بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّة تَلَاعُبًا ; فَيَاسِين وَإِلْيَاس وَالْيَاسِين شَيْء وَاحِد . الزَّمَخْشَرِيّ : وَكَانَ حَمْزَة إِذَا وَصَلَ نَصَبَ وَإِذَا وَقَفَ رَفَعَ . وَقُرِئَ : " عَلَى إِلْيَاسِينَ " و " إِدْرِيسِينَ وَإِدْرَسِينَ وَإِدْرَاسِينَ " عَلَى أَنَّهَا لُغَات فِي إِلْيَاس وَإِدْرِيس . وَلَعَلَّ لِزِيَادَةِ الْيَاء وَالنُّون فِي السُّرْيَانِيَّة مَعْنًى . النَّحَّاس : وَمَنْ قَرَأَ : " سَلَام عَلَى آلِ يَاسِين " فَكَأَنَّهُ وَاَللَّه أَعْلَم جَعَلَ اِسْمه إِلْيَاس وَيَاسِين ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى آلِهِ ; أَيْ أَهْل دِينه وَمَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبه , وَعُلِمَ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ عَلَى آلِهِ مِنْ أَجْلِهِ فَهُوَ دَاخِل فِي السَّلَام ; كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى ) وَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَاب " [ غَافِر : 46 ] . وَمَنْ قَرَأَ " إِلْيَاسِينَ " فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ غَيْر قَوْل . فَرَوَى هَارُون عَنْ اِبْن أَبِي إِسْحَاق قَالَ : إِلْيَاسِينَ مِثْل إِبْرَاهِيم يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ اِسْم لَهُ . وَأَبُو عُبَيْدَة يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ جَمْع جَمْع التَّسْلِيم عَلَى أَنَّهُ وَأَهْل بَيْته سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ; وَأَنْشَدَ : قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الْخُبَيْبِينَ قَدِي يُقَال : قَدْنِي وَقَدِي لُغَتَانِ بِمَعْنَى حَسْب . وَإِنَّمَا يُرِيد أَبَا خُبَيْبٍ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر فَجَمَعَهُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبه دَاخِل مَعَهُ . وَغَيْر أَبِي عُبَيْدَة يَرْوِيهِ : الْخُبَيْبَيْنِ عَلَى التَّثْنِيَة , يُرِيد عَبْد اللَّه وَمُصْعَبًا . وَرَأَيْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَشْرَحهُ بِأَكْثَر مِنْ هَذَا ; قَالَ : فَإِنَّ الْعَرَب تُسَمِّي قَوْم الرَّجُل بِاسْمِ الرَّجُل الْجَلِيل مِنْهُمْ , فَيَقُولُونَ : الْمَهَالِبَة عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا كُلّ رَجُل مِنْهُمْ بِالْمُهَلَّبِ . قَالَ : فَعَلَى هَذَا " سَلَام عَلَى إِلْيَاسِينَ " سُمِّيَ كُلّ رَجُل مِنْهُمْ بِإِلْيَاس . وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابه شَيْئًا مِنْ هَذَا , إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْعَرَب تَفْعَل هَذَا عَلَى جِهَة النِّسْبَة ; فَيَقُولُونَ : الْأَشْعَرُونَ يُرِيدُونَ بِهِ النَّسَب . الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ " إِلْيَاسِينَ " فَهُوَ جَمْع يَدْخُل فِيهِ إِلْيَاس فَهُوَ جَمْع إِلْيَاسِيّ فَحُذِفَتْ يَاء النِّسْبَة ; كَمَا حُذِفَتْ يَاء النِّسْبَة فِي جَمْع الْمُكَسَّر فِي نَحْو الْمَهَالِبَة فِي جَمْع مُهَلَّبِيّ , كَذَلِكَ حُذِفَتْ فِي الْمُسَلَّم فَقِيلَ الْمُهَلَّبُونَ . وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ : الْأَشْعَرُونَ وَالنُّمَيْرُونَ يُرِيدُونَ الْأَشْعَرِيِّينَ وَالنُّمَيْرِيِّين . السُّهَيْلِيّ : وَهَذَا لَا يَصِحّ بَلْ هِيَ لُغَة فِي إِلْيَاس , وَلَوْ أَرَادَ مَا قَالُوهُ لَأَدْخَلَ الْأَلِف وَاللَّام كَمَا تَدْخُل فِي الْمَهَالِبَة وَالْأَشْعَرِيِّينَ ; فَكَانَ يَقُول : " سَلَام عَلَى الْإِلْيَاسِينَ " لِأَنَّ الْعَلَم إِذَا جُمِعَ يُنَكَّر حَتَّى يُعَرَّف بِالْأَلِفِ وَاللَّام ; لَا تَقُول : سَلَام عَلَى زَيْدِينَ , بَلْ عَلَى الزَّيْدِينَ بِالْأَلِفِ وَاللَّام . فَإِلْيَاس عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ ثَلَاث لُغَات . النَّحَّاس : وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْد فِي قِرَاءَته " سَلَام عَلَى إِلْيَاسِينَ " وَأَنَّهُ اِسْمه كَمَا أَنَّ اِسْمه إِلْيَاس لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّورَة سَلَام عَلَى " آل " لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ , فَكَمَا سُمِّيَ الْأَنْبِيَاء كَذَا سُمِّيَ هُوَ . وَهَذَا الِاحْتِجَاج أَصْله لِأَبِي عَمْرو وَهُوَ غَيْر لَازِم ; لِأَنَّا بَيَّنَّا قَوْل أَهْل اللُّغَة أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ عَلَى آله مِنْ أَجْله فَهُوَ سَلَام عَلَيْهِ . وَالْقَوْل بِأَنَّ اِسْمه " إِلْيَاسِينَ " يَحْتَاج إِلَى دَلِيل وَرِوَايَة ; فَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَمْر إِشْكَال . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَقَرَأَ الْحَسَن " سَلَام عَلَى يَاسِين " بِإِسْقَاطِ الْأَلِف وَاللَّام وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُمْ آلُ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَالثَّانِي أَنَّهُمْ آل يَاسِين ; فَعَلَى هَذَا فِي دُخُول الزِّيَادَة فِي يَاسِين وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا زِيدَتْ لِتَسَاوِي الْآي , كَمَا قَالَ فِي مَوْضِع : " طُور سَيْنَاء " [ الْمُؤْمِنُونَ : 20 ] وَفِي مَوْضِع آخَر " طُور سِينِينَ " [ التِّين : 2 ] فَعَلَى هَذَا يَكُون السَّلَام عَلَى أَهْله دُونه , وَتَكُون الْإِضَافَة إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهُ . الثَّانِي : أَنَّهَا دَخَلَتْ لِلْجَمْعِ فَيَكُون دَاخِلًا فِي جُمْلَتهمْ فَيَكُون السَّلَام عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ . قَالَ السُّهَيْلِيّ : قَالَ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَعَانِي الْقُرْآن : آل يَاسِين آل مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام , وَنَزَعَ إِلَى قَوْل مَنْ قَالَ فِي تَفْسِير " يس " يَا مُحَمَّد . وَهَذَا الْقَوْل يَبْطُل مِنْ وُجُوه كَثِيرَة : أَحَدهَا : أَنَّ سِيَاقَة الْكَلَام فِي قِصَّة إِلْيَاسِينَ يَلْزَم أَنْ تَكُون كَمَا هِيَ فِي قِصَّة إِبْرَاهِيم وَنُوح وَمُوسَى وَهَارُون وَأَنَّ التَّسْلِيم رَاجِع عَلَيْهِمْ , وَلَا مَعْنَى لِلْخُرُوجِ عَنْ مَقْصُود الْكَلَام لِقَوْلٍ قِيلَ فِي تِلْكَ الْآيَة الْأُخْرَى مَعَ ضَعْف ذَلِكَ الْقَوْل أَيْضًا ; فَإِنَّ " يس " وَ " حم " وَ " الم " وَنَحْو ذَلِكَ الْقَوْل فِيهَا وَاحِد , إِنَّمَا هِيَ حُرُوف مُقَطَّعَة , إِمَّا مَأْخُوذَة مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس , وَإِمَّا مِنْ صِفَات الْقُرْآن , وَإِمَّا كَمَا قَالَ الشَّعْبِيّ : لِلَّهِ فِي كُلّ كِتَاب سِرّ , وَسِرُّهُ فِي الْقُرْآن فَوَاتِح الْقُرْآن . وَأَيْضًا فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لِي خَمْسَة أَسْمَاء ) وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا " يس " . وَأَيْضًا فَإِنَّ " يس " جَاءَتْ التِّلَاوَة فِيهَا بِالسُّكُونِ وَالْوَقْف , وَلَوْ كَانَ اِسْمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَالَ : " يَاسِينُ " بِالضَّمِّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ " [ يُوسُف : 46 ] وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقَوْل لِمَا ذَكَرْنَاهُ ; فَـ " إِلْيَاسِينَ " هُوَ إِلْيَاس الْمَذْكُور وَعَلَيْهِ وَقَعَ التَّسْلِيم . وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : هُوَ مِثْل إِدْرِيس وَإِدْرَاسِينَ , كَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود . " وَإِنَّ إِدْرِيس لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ " ثُمَّ قَالَ : " سَلَام عَلَى إِدْرَاسِينَ " .
أَيْ نُبْقِي عَلَيْهِمْ الثَّنَاء الْحَسَن . وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ جَزَاء كَذَلِكَ . أَوْ نَجْزِيهِمْ بِالْخَلَاصِ مِنْ الشَّدَائِد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
أَيْ مِنْ الَّذِينَ أَعْطَوْا الْعُبُودِيَّة حَقّهَا حَتَّى اِسْتَحَقُّوا الْإِضَافَة إِلَى اللَّه تَعَالَى .
قَالَ الْفَرَّاء : لُوط مُشْتَقّ مِنْ قَوْلهمْ : هَذَا أَلْيَط بِقَلْبِي , أَيْ أَلْصَق . وَقَالَ النَّحَّاس : قَالَ الزَّجَّاج زَعَمَ بَعْض النَّحْوِيِّينَ - يَعْنِي الْفَرَّاء - أَنَّ لُوطًا يَجُوز أَنْ يَكُون مُشْتَقًّا مِنْ لُطْت إِذَا مَلَّسْته بِالطِّينِ . قَالَ : وَهَذَا غَلَط ; لِأَنَّ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة لَا تُشْتَقّ كَإِسْحَاق , فَلَا يُقَال : إِنَّهُ مِنْ السُّحْق وَهُوَ الْبُعْد . وَإِنَّمَا صُرِفَ لُوط لِخِفَّتِهِ لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَة أَحْرُف وَهُوَ سَاكِن الْوَسَط . قَالَ النَّقَّاش : لُوط مِنْ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة وَلَيْسَ مِنْ الْعَرَبِيَّة . فَأَمَّا لُطْت الْحَوْض , وَهَذَا أَلْيَط بِقَلْبِي مِنْ هَذَا , فَصَحِيح . وَلَكِنَّ الِاسْم أَعْجَمِيّ كَإِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق . قَالَ سِيبَوَيْهِ : نُوح وَلُوط أَسْمَاء أَعْجَمِيَّة , إِلَّا أَنَّهَا خَفِيفَة فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ . بَعَثَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى أُمَّة تُسَمَّى سَدُوم , وَكَانَ اِبْن أَخِي إِبْرَاهِيم .
سَرَى لُوط بِأَهْلِهِ كَمَا وَصَفَ اللَّه " بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْل " [ هُود : 81 ] ثُمَّ أُمِرَ جِبْرِيل , عَلَيْهِ السَّلَام فَأَدْخَلَ جَنَاحه تَحْت مَدَائِنهمْ فَاقْتَلَعَهَا وَرَفَعَهَا حَتَّى سَمِعَ أَهْل السَّمَاء صِيَاح الدِّيَكَة وَنُبَاح الْكِلَاب , ثُمَّ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا , وَأُمْطِرَتْ عَلَيْهِمْ حِجَارَة مِنْ سِجِّيل , قِيلَ : عَلَى مَنْ غَابَ مِنْهُمْ . وَأَدْرَكَ اِمْرَأَةَ لُوط - وَكَانَتْ مَعَهُ - حَجَرٌ فَقَتَلَهَا . وَكَانَتْ - فِيمَا ذُكِرَ - أَرْبَع قُرًى . وَقِيلَ : خَمْس فِيهَا أَرْبَعمِائَةِ أَلْف .
" " الْغَابِرِينَ " أَيْ الْبَاقِينَ فِي عَذَاب اللَّه ; قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . غَبَرَ الشَّيْء إِذَا مَضَى , وَغَبَرَ إِذَا بَقِيَ . وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد . وَقَالَ قَوْم : الْمَاضِي عَابِر بِالْعَيْنِ غَيْر مُعْجَمَة . وَالْبَاقِي غَابِر بِالْغَيْنِ مُعْجَمَةً . حَكَاهُ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل . وَقَالَ الزَّجَّاج : " مِنْ الْغَابِرِينَ " أَيْ مِنْ الْغَائِبِينَ عَنْ النَّجَاة وَقِيلَ : لِطُولِ عُمُرِهَا . قَالَ النَّحَّاس : وَأَبُو عُبَيْدَة يَذْهَب إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى مِنْ الْمُعَمَّرِينَ ; أَيْ إِنَّهَا قَدْ هَرِمَتْ . وَالْأَكْثَر فِي اللُّغَة أَنْ يَكُون الْغَابِر الْبَاقِي ; قَالَ الرَّاجِز : فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ لَهُ الْإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَرْ
أَيْ بِالْعُقُوبَةِ .
خَاطَبَ الْعَرَب : أَيْ تَمُرُّونَ عَلَى مَنَازِلهمْ وَآثَارهمْ " مُصْبِحِينَ " وَقْت الصَّبَاح
تَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا وَتَمَّ الْكَلَام .
أَيْ تَعْتَبِرُونَ وَتَتَدَبَّرُونَ .
أَيْ تَعْتَبِرُونَ وَتَتَدَبَّرُونَ .
يُونُس هُوَ ذُو النُّون , وَهُوَ اِبْن مَتَّى , وَهُوَ اِبْن الْعَجُوز الَّتِي نَزَلَ عَلَيْهَا إِلْيَاس , فَاسْتَخْفَى عِنْدهَا مِنْ قَوْمه سِتَّة أَشْهُر وَيُونُس صَبِيٌّ يَرْضَع , وَكَانَتْ أُمّ يُونُس تَخْدُمُهُ بِنَفْسِهَا وَتُؤَانِسُهُ , وَلَا تَدَّخِر عَنْهُ كَرَامَة تَقْدِر عَلَيْهَا . ثُمَّ إِنَّ إِلْيَاس سَئِم ضِيقَ الْبُيُوت فَلَحِقَ بِالْجِبَالِ , وَمَاتَ اِبْن الْمَرْأَة يُونُس , فَخَرَجَتْ فِي أَثَر إِلْيَاس تَطُوف وَرَاءَهُ فِي الْجِبَال حَتَّى وَجَدَتْهُ , فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّه لَهَا لَعَلَّهُ يُحْيِي لَهَا وَلَدهَا ; فَجَاءَ إِلْيَاس إِلَى الصَّبِيّ بَعْد أَرْبَعَة عَشَرَ يَوْمًا مِنْ مَوْته , فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَدَعَا اللَّه فَأَحْيَا اللَّه يُونُس بْن مَتَّى بِدَعْوَةِ إِلْيَاس عَلَيْهِ السَّلَام . وَأَرْسَلَ اللَّه يُونُس إِلَى أَهْل نِينَوَى مِنْ أَرْض الْمَوْصِل وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام ثُمَّ تَابُوا , حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة [ يُونُس ] وَمَضَى فِي [ الْأَنْبِيَاء ] قِصَّة يُونُس فِي خُرُوجه مُغَاضِبًا . وَاخْتُلِفَ فِي رِسَالَته هَلْ كَانَتْ قَبْل اِلْتِقَام الْحُوت إِيَّاهُ أَوْ بَعْده . قَالَ الطَّبَرِيّ عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب : إِنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى يُونُس فَقَالَ : اِنْطَلِقْ إِلَى أَهْل نِينَوَى فَأَنْذِرْهُمْ أَنَّ الْعَذَاب قَدْ حَضَرَهُمْ . قَالَ : أَلْتَمِسُ دَابَّة . قَالَ : الْأَمْر أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : أَلْتَمِسُ حِذَاء . قَالَ : الْأَمْر أَعْجَل مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَغَضِبَ فَانْطَلَقَ إِلَى السَّفِينَة فَرَكِبَ , فَلَمَّا رَكِبَ السَّفِينَة اِحْتَبَسَتْ السَّفِينَة لَا تَتَقَدَّم وَلَا تَتَأَخَّر . قَالَ : فَتَسَاهَمُوا , قَالَ : فَسُهِمَ , فَجَاءَ الْحُوت يُبَصْبِصُ بِذَنَبِهِ ; فَنُودِيَ الْحُوت : أَيَا حُوتُ ! إِنَّا لَمْ نَجْعَل لَك يُونُس رِزْقًا ; إِنَّمَا جَعَلْنَاك لَهُ حِرْزًا وَمَسْجِدًا . قَالَ : فَالْتَقَمَهُ الْحُوت مِنْ ذَلِكَ الْمَكَان حَتَّى مَرَّ بِهِ إِلَى الْأُبُلَّة , ثُمَّ اِنْطَلَقَ بِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِ عَلَى دِجْلَة , ثُمَّ اِنْطَلَقَ حَتَّى أَلْقَاهُ فِي نِينَوَى . حَدَّثَنَا الْحَارِث قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَن قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هِلَال قَالَ حَدَّثَنَا شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَة يُونُس بَعْد مَا نَبَذَهُ الْحُوت ; وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الرَّسُول لَا يَخْرُج مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ , فَكَانَ مَا جَرَى مِنْهُ قَبْل النُّبُوَّة . وَقَالَ آخَرُونَ : كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْد دُعَائِهِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّه بِدُعَائِهِمْ إِلَيْهِ , وَتَبْلِيغه إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ رَبّه , وَلَكِنَّهُ وَعَدَهُمْ نُزُول مَا كَانَ حَذَّرَهُمْ مِنْ بَأْس اللَّه فِي وَقْت وَقَّتَهُ لَهُمْ فَفَارَقَهُمْ إِذْ لَمْ يَتُوبُوا وَلَمْ يُرَاجِعُوا طَاعَة اللَّه , فَلَمَّا أَظَلَّ الْقَوْمَ الْعَذَاب وَغَشِيَهُمْ - كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي تَنْزِيله - تَابُوا إِلَى اللَّه , فَرَفَعَ اللَّه الْعَذَاب عَنْهُمْ , وَبَلَغَ يُونُس سَلَامَتهمْ وَارْتِفَاع الْعَذَاب الَّذِي كَانَ وَعَدَهُمُوهُ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : وَعَدْتهمْ وَعْدًا فَكَذَّبَ وَعْدِي . فَذَهَبَ مُغَاضِبًا رَبّه وَكَرِهَ الرُّجُوع إِلَيْهِمْ , وَقَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ ; رَوَاهُ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي [ الْأَنْبِيَاء ] وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَة أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ " [ الصَّافَّات : 147 ] . وَلَمْ يَنْصَرِف يُونُس ; لِأَنَّهُ اِسْم أَعْجَمِيّ وَلَوْ كَانَ عَرَبِيًّا لَانْصَرَفَ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَوَّلِهِ الْيَاء ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَفْعَال يُفْعُل كَمَا أَنَّك إِذَا سَمَّيْت بِيُعْفُر صَرَفْته ; وَإِنْ سَمَّيْت بِيَعْفُر لَمْ تَصْرِفْهُ .
قَالَ الْمُبَرِّد : أَصْل أَبَقَ تَبَاعَدَ ; وَمِنْهُ غُلَام آبِق . وَقَالَ غَيْره : إِنَّمَا قِيلَ لِيُونُس أَبَقَ ; لِأَنَّهُ خَرَجَ بِغَيْرِ أَمْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَتِرًا مِنْ النَّاس . قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم : سَمَّاهُ آبِقًا لِأَنَّهُ أَبَقَ عَنْ الْعُبُودِيَّة , وَإِنَّمَا الْعُبُودِيَّة تَرْك الْهَوَى وَبَذْل النَّفْس عِنْد أُمُور اللَّه ; فَلَمَّا لَمْ يَبْذُل النَّفْس عِنْدَمَا اِشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْعَزْمَة مِنْ الْمُلْك حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي [ الْأَنْبِيَاء ] , وَآثَرَ هَوَاهُ لَزِمَهُ اِسْم الْآبِق , وَكَانَتْ عَزْمَة الْمُلْك فِي أَمْر اللَّه لَا فِي أَمْر نَفْسه , وَبِحَظِّ حَقّ اللَّه لَا بِحَظِّ نَفْسه ; فَتَحَرَّى يُونُس فَلَمْ يُصِبْ الصَّوَاب الَّذِي عِنْد اللَّه فَسَمَّاهُ آبِقًا وَمُلِيمًا .
أَيْ الْمَمْلُوءَة " وَالْفُلْك " يُذَكَّر وَيُؤَنَّث وَيَكُون وَاحِدًا وَجَمْعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ الْمَمْلُوءَة " وَالْفُلْك " يُذَكَّر وَيُؤَنَّث وَيَكُون وَاحِدًا وَجَمْعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ .
قَالَ الْمُبَرِّد : فَقَارَعَ , قَالَ : وَأَصْله مِنْ السِّهَام الَّتِي تُجَالُ . ذَكَرَ الطَّبَرِيّ : أَنَّ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا رَكِبَ فِي السَّفِينَة أَصَابَ أَهْلَهَا عَاصِفٌ مِنْ الرِّيح , فَقَالُوا : هَذِهِ بِخَطِيئَةِ أَحَدِكُمْ . فَقَالَ يُونُس وَعَرَفَ أَنَّهُ هُوَ صَاحِب الذَّنْب : هَذِهِ خَطِيئَتِي فَأَلْقُونِي فِي الْبَحْر , وَأَنَّهُمْ أَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى أَفَاضُوا بِسِهَامِهِمْ . " فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ " فَقَالَ لَهُمْ : قَدْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْر بِذَنْبِي . وَأَنَّهُمْ أَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى أَفَاضُوا بِسِهَامِهِمْ الثَّانِيَة فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ , وَأَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ فِي الْبَحْر حَتَّى أَعَادُوا سِهَامهمْ الثَّالِثَة فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ . فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَلْقَى نَفْسه فِي الْبَحْر , وَذَلِكَ تَحْت اللَّيْل فَابْتَلَعَهُ الْحُوت . وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ فِي السَّفِينَة تَقَنَّعَ وَرَقَدَ فَسَارُوا غَيْر بَعِيد إِذْ جَاءَتْهُمْ رِيح كَادَتْ السَّفِينَة أَنْ تَغْرَق , فَاجْتَمَعَ أَهْل السَّفِينَة فَدَعَوْا فَقَالُوا : أَيْقِظُوا الرَّجُل النَّائِم يَدْعُوا مَعَنَا ; فَدَعَا اللَّه مَعَهُمْ فَرَفَعَ اللَّه عَنْهُمْ تِلْكَ الرِّيح . ثُمَّ اِنْطَلَقَ يُونُس إِلَى مَكَانه فَرَقَدَ , فَجَاءَتْ رِيح كَادَتْ السَّفِينَة أَنْ تَغْرَق , فَأَيْقَظُوهُ وَدَعَوْا اللَّه فَارْتَفَعَتْ الرِّيح . قَالَ : فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ رَفَعَ حُوت عَظِيم رَأْسه إِلَيْهِمْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَلِع السَّفِينَة , فَقَالَ لَهُمْ يُونُس : يَا قَوْم هَذَا مِنْ أَجْلِي فَلَوْ طَرَحْتُمُونِي فِي الْبَحْر لَسِرْتُمْ وَلَذَهَبَ الرِّيح عَنْكُمْ وَالرَّوْع . قَالُوا : لَا نَطْرَحُك حَتَّى نَتَسَاهَمَ , فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ رَمَيْنَاهُ فِي الْبَحْر . قَالَ : فَتَسَاهَمُوا فَوَقَعَ عَلَى يُونُس ; فَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْم اِطْرَحُونِي فَمِنْ أَجَلِي أُوتِيتُمْ ; فَقَالُوا : لَا نَفْعَل حَتَّى نَتَسَاهَمَ مَرَّة أُخْرَى . فَفَعَلُوا فَوَقَعَ عَلَى يُونُس . فَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْم اِطْرَحُونِي فَمِنْ أَجْلِي أُوتِيتُمْ ; فَذَلِكَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ " أَيْ وَقَعَ السَّهْم عَلَيْهِ ; فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى صَدْر السَّفِينَة لِيُلْقُوهُ فِي الْبَحْر , فَإِذَا الْحُوت فَاتِح فَاهُ , ثُمَّ جَاءُوا بِهِ إِلَى جَانِب السَّفِينَة , فَإِذَا بِالْحُوتِ , ثُمَّ رَجَعُوا بِهِ إِلَى الْجَانِب الْآخَر , فَإِذَا بِالْحُوتِ فَاتِح فَاهُ ; فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَلْقَى بِنَفْسِهِ فَالْتَقَمَهُ الْحُوت ; فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى الْحُوت : إِنِّي لَمْ أَجْعَلْهُ لَك رِزْقًا وَلَكِنْ جَعَلْت بَطْنَك لَهُ وِعَاء . فَمَكَثَ فِي بَطْن الْحُوت أَرْبَعِينَ لَيْلَة فَنَادَى فِي الظُّلُمَات : " أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 87 - 88 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي . فَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْه أَنَّ الْقُرْعَة كَانَتْ مَعْمُولًا بِهَا فِي شَرْع مَنْ قَبْلنَا , وَجَاءَتْ فِي شَرْعنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ آل عِمْرَان ] قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ وَرَدَتْ الْقُرْعَة فِي الشَّرْع فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن . الْأَوَّل : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْن نِسَائِهِ , فَأَيَّتهنَّ خَرَجَ سَهْمهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ . الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّة أَعْبُدٍ لَا مَال لَهُ غَيْرهمْ , فَأَقْرَعَ بَيْنهمْ ; فَأَعْتَقَ اِثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَة . الثَّالِث : أَنَّ رَجُلَيْنِ اِخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِي مَوَارِيث قَدْ دَرَسَتْ فَقَالَ : ( اِذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقّ وَاسْتَهِمَا وَلْيَحْلِلْ كُلّ وَاحِد مِنْكُمَا صَاحِبه ) . فَهَذِهِ ثَلَاثَة مَوَاطِن , وَهِيَ الْقَسْمُ فِي النِّكَاح , وَالْعِتْق , وَالْقِسْمَة , وَجَرَيَانُ الْقُرْعَة فِيهَا لِرَفْعِ الْإِشْكَال وَحَسْم دَاء التَّشَهِّي . وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْقُرْعَة بَيْن الزَّوْجَات فِي الْغَزْو عَلَى قَوْلَيْنِ ; الصَّحِيح مِنْهُمَا الْإِقْرَاع ; وَبِهِ قَالَ فُقَهَاء الْأَمْصَار . وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَر بِجَمِيعِهِنَّ لَا يُمْكِن , وَاخْتِيَار وَاحِدَة مِنْهُنَّ إِيثَار فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقُرْعَة . وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَة الْأَعْبُد السِّتَّة ; فَإِنَّ كُلّ اِثْنَيْنِ مِنْهُمَا ثُلُث , وَهُوَ الْقَدْر الَّذِي يَجُوز لَهُ فِيهِ الْعِتْق فِي مَرَض الْمَوْت , وَتَعْيِينهمَا بِالتَّشَهِّي لَا يَجُوز شَرْعًا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقُرْعَة . وَكَذَلِكَ التَّشَاجُر إِذَا وَقَعَ فِي أَعْيَان الْمَوَارِيث لَمْ يُمَيِّز الْحَقَّ إِلَّا الْقُرْعَةُ , فَصَارَتْ أَصْلًا فِي تَعْيِين الْمُسْتَحِقّ إِذَا أَشْكَلَ . قَالَ : وَالْحَقّ عِنْدِي أَنْ تُجْرَى فِي كُلّ مُشْكِل , فَذَلِكَ أَبْيَن لَهَا , وَأَقْوَى لِفَصْلِ الْحُكْم فِيهَا , وَأَجْلَى لِرَفْعِ الْإِشْكَال عَنْهَا ; وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّ الْقُرْعَة بَيْن الزَّوْجَات فِي الطَّلَاق كَالْقُرْعَةِ بَيْن الْإِمَاء فِي الْعِتْق . الِاقْتِرَاع عَلَى إِلْقَاء الْآدَمِيّ فِي الْبَحْر لَا يَجُوز . وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُونُس وَزَمَانه مُقَدِّمَة لِتَحْقِيقِ بُرْهَانه , وَزِيَادَة فِي إِيمَانه ; فَإِنَّهُ لَا يَجُوز لِمَنْ كَانَ عَاصِيًا أَنْ يُقْتَل وَلَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّار أَوْ الْبَحْر , وَإِنَّمَا تُجْرَى عَلَيْهِ الْحُدُود وَالتَّعْزِير عَلَى مِقْدَار جِنَايَته . وَقَدْ ظَنَّ بَعْض النَّاس أَنَّ الْبَحْر إِذَا هَالَ عَلَى الْقَوْم فَاضْطُرُّوا إِلَى تَخْفِيف السَّفِينَة أَنَّ الْقُرْعَة تُضْرَب عَلَيْهِمْ , فَيُطْرَح بَعْضهمْ تَخْفِيفًا ; وَهَذَا فَاسِد ; فَإِنَّهَا لَا تَخِفُّ بِرَمْيِ بَعْض الرِّجَال وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَال , وَلَكِنَّهُمْ يَصْبِرُونَ عَلَى قَضَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .
قَالَ : مِنْ الْمَغْلُوبِينَ . قَالَ الْفَرَّاء : دَحَضَتْ حُجَّته وَأَدْحَضَهَا اللَّه . وَأَصْله مِنْ الزَّلَق ; قَالَ الشَّاعِر : قَتَلْنَا الْمُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ الْعُيُونُ أَيْ الْمَغْلُوبِينَ .
قَالَ : مِنْ الْمَغْلُوبِينَ . قَالَ الْفَرَّاء : دَحَضَتْ حُجَّته وَأَدْحَضَهَا اللَّه . وَأَصْله مِنْ الزَّلَق ; قَالَ الشَّاعِر : قَتَلْنَا الْمُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ الْعُيُونُ أَيْ الْمَغْلُوبِينَ .
أَيْ أَتَى بِمَا يُلَام عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْمَلُوم فَهُوَ الَّذِي يُلَام , اِسْتَحَقَّ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَسْتَحِقّ . وَقِيلَ : الْمُلِيم الْمَعِيب . يُقَال : لَامَ الرَّجُل إِذَا عَمِلَ شَيْئًا فَصَارَ مَعِيبًا بِذَلِكَ الْعَمَل .
قَالَ الْكِسَائِيّ : لَمْ تُكْسَر " أَنَّ " لِدُخُولِ اللَّام ; لِأَنَّ اللَّام لَيْسَتْ لَهَا . النَّحَّاس : وَالْأَمْر كَمَا قَالَ ; إِنَّمَا اللَّام فِي جَوَاب لَوْلَا . " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " أَيْ مِنْ الْمُصَلِّينَ أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ يُونُس كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ , وَأَنَّ تَسْبِيحَهُ كَانَ سَبَبَ نَجَاته ; وَلِذَلِكَ قِيلَ : إِنَّ الْعَمَل الصَّالِح يَرْفَع صَاحِبه إِذَا عَثَرَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : " مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " مِنْ الْمُصَلِّينَ . قَالَ قَتَادَة : كَانَ يُصَلِّي قَبْل ذَلِكَ لِحِفْظِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فَنَجَّاهُ . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ قَبْل ذَلِكَ عَمَل صَالِح " لَلَبِثَ فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ " قَالَ : وَمَكْتُوب فِي الْحِكْمَة - إِنَّ الْعَمَل الصَّالِح يَرْفَع رَبّه إِذَا عَثَرَ . وَقَالَ مُقَاتِل : " مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " مِنْ الْمُصَلِّينَ الْمُطِيعِينَ قَبْل الْمَعْصِيَة . وَقَالَ وَهْب : مِنْ الْعَابِدِينَ . وَقَالَ الْحَسَن : مَا كَانَ لَهُ صَلَاة فِي بَطْن الْحُوت ; وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ عَمَلًا صَالِحًا فِي حَال الرَّخَاء فَذَكَرَهُ اللَّه بِهِ فِي حَال الْبَلَاء , وَإِنَّ الْعَمَل الصَّالِح لَيَرْفَع صَاحِبه , وَإِذَا عَثَرَ وَجَدَ مُتَّكَأ . قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ تَكُون لَهُ خَبِيئَة مِنْ عَمَل صَالِح فَلْيَفْعَلْ ) فَيَجْتَهِد الْعَبْد , وَيَحْرِص عَلَى خَصْلَة مِنْ صَالِح عَمَله , يُخْلِص فِيهَا بَيْنه وَبَيْن رَبّه , وَيَدَّخِرهَا لِيَوْمِ فَاقَته وَفَقْره , وَيُخَبِّئُهَا بِجَهْدِهِ , وَيَسْتُرهَا عَنْ خَلْقه , يَصِل إِلَيْهِ نَفْعهَا أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ . وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( بَيْنَمَا ثَلَاثَة نَفَر - فِي رِوَايَة مِمَّنْ كَانَ قَبْلكُمْ - يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَر فَأَوَوْا إِلَى غَار فِي جَبَل فَانْحَطَّتْ عَلَى فَم الْغَار صَخْرَة مِنْ الْجَبَل فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ اُنْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَة لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّه بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجهَا عَنْكُمْ . .. ) الْحَدِيث بِكَمَالِهِ وَهُوَ مَشْهُور , شُهْرَته أَغْنَتْ عَنْ تَمَامه . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : لَمَّا قَالَ فِي بَطْن الْحُوت : " لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 87 ] قَذَفَهُ الْحُوت . وَقِيلَ : " مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " مِنْ الْمُصَلِّينَ فِي بَطْن الْحُوت . قُلْت : وَالْأَظْهَر أَنَّهُ تَسْبِيح اللِّسَان الْمُوَافِق لِلْجَنَانِ , وَعَلَيْهِ يَدُلّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة الْمَذْكُور قَبْل الَّذِي ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ . قَالَ : فَسَبَّحَ فِي بَطْن الْحُوت . قَالَ : فَسَمِعَتْ الْمَلَائِكَة تَسْبِيحه ; فَقَالُوا : يَا رَبَّنَا إِنَّا نَسْمَع صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَة . وَتَكُون " كَانَ " عَلَى هَذَا الْقَوْل زَائِدَة ; أَيْ فَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُدَ عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( دُعَاء ذِي النُّون فِي بَطْن الْحُوت " لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 87 ] لَمْ يَدْعُ بِهِ رَجُل مُسْلِم فِي شَيْء قَطُّ إِلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ ) وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَة [ الْأَنْبِيَاء ] فَيُونُس عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ قَبْلُ مُصَلِّيًا مُسَبِّحًا , وَفِي بَطْن الْحُوت كَذَلِكَ . وَفِي الْخَبَر : فَنُودِيَ الْحُوت : إِنَّا لَمْ نَجْعَل يُونُس لَك رِزْقًا ; إِنَّمَا جَعَلْنَاك لَهُ حِرْزًا وَمَسْجِدًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ عُقُوبَة لَهُ ; أَيْ يَكُون بَطْن الْحُوت قَبْرًا لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَاخْتُلِفَ كَمْ أَقَامَ فِي بَطْن الْحُوت . فَقَالَ السُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل بْن سُلَيْمَان : أَرْبَعِينَ يَوْمًا . الضَّحَّاك : عِشْرِينَ يَوْمًا . عَطَاء : سَبْعَة أَيَّام . مُقَاتِل بْن حَيَّان : ثَلَاثَة أَيَّام . وَقِيلَ : سَاعَة وَاحِدَة . وَاَللَّه أَعْلَم . رَوَى الطَّبَرِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا أَرَادَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرُهُ - حَبْس يُونُس فِي بَطْن الْحُوت أَوْحَى اللَّه إِلَى الْحُوت أَنْ خُذْهُ وَلَا تَخْدِشْ لَحْمًا وَلَا تَكْسِرْ عَظْمًا فَأَخَذَهُ ثُمَّ هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنِهِ مِنْ الْبَحْر ; فَلَمَّا اِنْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَل الْبَحْر سَمِعَ يُونُس حِسًّا فَقَالَ فِي نَفْسه مَا هَذَا ؟ فَأَوْحَى اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْن الْحُوت : ( إِنَّ هَذَا تَسْبِيح دَوَابّ الْبَحْر ) قَالَ : ( فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْن الْحُوت ) قَالَ : ( فَسَمِعَتْ الْمَلَائِكَة تَسْبِيحه فَقَالُوا : يَا رَبّنَا إِنَّا نَسْمَع صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَة ) قَالَ : ( ذَلِكَ عَبْدِي يُونُس عَصَانِي فَحَبَسْته فِي بَطْن الْحُوت فِي الْبَحْر ) قَالُوا : الْعَبْد الصَّالِح الَّذِي كَانَ يَصْعَد إِلَيْك مِنْهُ فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة عَمَل صَالِح ؟ قَالَ نَعَمْ . فَشَفَعُوا لَهُ عِنْد ذَلِكَ فَأَمَرَ الْحُوت بِقَذْفِهِ فِي السَّاحِل كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَهُوَ سَقِيم " ) . وَكَانَ سَقَمه الَّذِي وَصَفَهُ بِهِ اللَّه - تَعَالَى ذِكْره - أَنَّهُ أَلْقَاهُ الْحُوت عَلَى السَّاحِل كَالصَّبِيّ الْمَنْفُوس قَدْ نُشِرَ اللَّحْم وَالْعَظْم . وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ الْحُوت سَارَ مَعَ السَّفِينَة رَافِعًا رَأْسَهُ يَتَنَفَّس فِيهِ يُونُس وَيُسَبِّح , وَلَمْ يُفَارِقْهُمْ حَتَّى اِنْتَهَوْا إِلَى الْبَرّ , فَلَفَظَهُ سَالِمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْء فَأَسْلَمُوا ; ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي تَفْسِيره . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَخْبَرَنِي غَيْر وَاحِد مِنْ أَصْحَابنَا عَنْ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْد الْمَلِك بْن عَبْد اللَّه بْن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْبَارِي فِي جِهَة ؟ فَقَالَ : لَا , هُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ . قِيلَ لَهُ : مَا الدَّلِيل عَلَيْهِ ؟ قَالَ : الدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُس بْن مَتَّى ) فَقِيلَ لَهُ : مَا وَجْه الدَّلِيل فِي هَذَا الْخَبَر ؟ فَقَالَ : لَا أَقُولهُ حَتَّى يَأْخُذ ضَيْفِي هَذَا أَلْف دِينَار يَقْضِي بِهَا دَيْنًا . فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا : هِيَ عَلَيْنَا . فَقَالَ لَا يَتْبَعُ بِهَا اِثْنَيْنِ ; لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ . فَقَالَ وَاحِد : هِيَ عَلَيَّ . فَقَالَ : إِنَّ يُونُس بْن مَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْر فَالْتَقَمَهُ الْحُوت , فَصَارَ فِي قَعْر الْبَحْر فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاث , وَنَادَى " لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 87 ] كَمَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ , وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين جَلَسَ عَلَى الرَّفْرَف الْأَخْضَر وَارْتَقَى بِهِ صُعُدًا , حَتَّى اِنْتَهَى بِهِ إِلَى مَوْضِع يَسْمَع فِيهِ صَرِيف الْأَقْلَام , وَنَاجَاهُ رَبّه بِمَا نَاجَاهُ بِهِ , وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى بِأَقْرَبَ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ يُونُس فِي بَطْن الْحُوت فِي ظُلْمَة الْبَحْر .
رُوِيَ أَنَّ الْحُوت قَذَفَهُ بِسَاحِلِ قَرْيَة مِنْ الْمَوْصِل . وَقَالَ اِبْن قُسَيْطٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة : طُرِحَ يُونُس بِالْعَرَاءِ وَأَنْبَتَ اللَّه عَلَيْهِ يَقْطِينَةً ; فَقُلْنَا : يَا أَبَا هُرَيْرَة وَمَا الْيَقْطِينَة ؟ قَالَ : شَجَرَة الدُّبَّاء ; هَيَّأَ اللَّه لَهُ أَرْوِيَة وَحْشِيَّة تَأْكُل مِنْ خَشَاش الْأَرْض - أَوْ هَشَاش الْأَرْض - فَتَفْشِج عَلَيْهِ فَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنهَا كُلّ عَشِيَّة وَبُكْرَة حَتَّى نَبَتَ . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : خَرَجَ بِهِ - يَعْنِي الْحُوت - حَتَّى لَفَظَهُ فِي سَاحِل الْبَحْر , فَطَرَحَهُ مِثْل الصَّبِيّ الْمَنْفُوس لَمْ يَنْقُص مِنْ خَلْقه شَيْء . وَقِيلَ : إِنَّ يُونُس لَمَّا أَلْقَاهُ الْحُوت عَلَى سَاحِل الْبَحْر أَنْبَتَ اللَّه عَلَيْهِ شَجَرَة مِنْ يَقْطِين , وَهِيَ فِيمَا ذُكِرَ شَجَرَة الْقَرْع تَتَقَطَّر عَلَيْهِ مِنْ اللَّبَن حَتَّى رَجَعَتْ إِلَيْهِ قُوَّتُهُ . ثُمَّ رَجَعَ ذَات يَوْم إِلَى الشَّجَرَة فَوَجَدَهَا يَبِسَتْ , فَحَزِنَ وَبَكَى عَلَيْهَا فَعُوتِبَ ; فَقِيلَ لَهُ : أَحَزِنْت عَلَى شَجَرَة وَبَكَيْت عَلَيْهَا , وَلَمْ تَحْزَن عَلَى مِائَة أَلْف وَزِيَادَة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , مِنْ أَوْلَاد إِبْرَاهِيم خَلِيلِي , أَسْرَى فِي أَيْدِي الْعَدُوّ , وَأَرَدْت إِهْلَاكهمْ جَمِيعًا . وَقِيلَ : هِيَ شَجَرَة التِّين . وَقِيلَ : شَجَرَة الْمَوْز تَغَطَّى بِوَرَقِهَا , وَاسْتَظَلَّ بِأَغْصَانِهَا , وَأَفْطَرَ عَلَى ثِمَارهَا . وَالْأَكْثَر عَلَى أَنَّهَا شَجَرَة الْيَقْطِين عَلَى مَا يَأْتِي . ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى اِجْتَبَاهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمه وَيُخْبِرهُمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ , فَعَمَدَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَقِيَ رَاعِيًا فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْم يُونُس وَعَنْ حَالهمْ وَكَيْف هُمْ , فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ بِخَيْرٍ , وَأَنَّهُمْ عَلَى رَجَاء أَنْ يَرْجِع إِلَيْهِمْ رَسُولُهُمْ . فَقَالَ لَهُ : فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي قَدْ لَقِيت يُونُس . قَالَ : وَمَاذَا ؟ قَالَ : وَهَذِهِ الْبُقْعَة الَّتِي أَنْتَ فِيهَا تَشْهَد لَك أَنَّك لَقِيت يُونُس , قَالَ : وَمَاذَا ؟ قَالَ وَهَذِهِ الشَّجَرَة تَشْهَد لَك أَنَّك لَقِيت يُونُس . وَأَنَّهُ رَجَعَ الرَّاعِي إِلَى قَوْمه فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَقِيَ يُونُس فَكَذَّبُوهُ وَهَمُّوا بِهِ شَرًّا فَقَالَ : لَا تَعْجَلُوا عَلَيَّ حَتَّى أُصْبِحَ , فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِمْ إِلَى الْبُقْعَة الَّتِي لَقِيَ فِيهَا يُونُس , فَاسْتَنْطَقَهَا فَأَخْبَرَتْهُمْ أَنَّهُ لَقِيَ يُونُس ; وَاسْتَنْطَقَ الشَّاة وَالشَّجَرَة فَأَخْبَرَتَاهُمْ أَنَّهُ لَقِيَ يُونُس , ثُمَّ إِنَّ يُونُس أَتَاهُمْ بَعْد ذَلِكَ . ذَكَرَ هَذَا الْخَبَر وَمَا قَبْله الطَّبَرِيّ رَحِمَهُ اللَّه . " فَنَبَذْنَاهُ " طَرَحْنَاهُ . وَقِيلَ : تَرَكْنَاهُ . " بِالْعَرَاءِ " بِالصَّحْرَاءِ ; قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ . الْأَخْفَش : بِالْفَضَاءِ . أَبُو عُبَيْدَة : الْوَاسِع مِنْ الْأَرْض . الْفَرَّاء : الْعَرَاء الْمَكَان الْخَالِي . قَالَ : وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْعَرَاء وَجْه الْأَرْض ; وَأَنْشَدَ لِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَة : وَرَفَعْت رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا وَنَبَذْت بِالْبَلَدِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي وَحَكَى الْأَخْفَش فِي قَوْله : " وَهُوَ سَقِيم " جَمْع سَقِيم سَقْمَى وَسَقَامَى وَسِقَام . وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَة : " فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ " وَقَالَ فِي " ن وَالْقَلَمِ " [ الْقَلَم : 1 ] : " لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبّه لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُوم " [ الْقَلَم : 49 ] وَالْجَوَاب : أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَبَّرَ هَاهُنَا أَنَّهُ نَبَذَهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ غَيْر مَذْمُوم وَلَوْلَا رَحْمَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُوم ; قَالَهُ النَّحَّاس .
يَعْنِي " عَلَيْهِ " أَيْ عِنْده ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْب " [ الشُّعَرَاء : 14 ] أَيْ عِنْدِي . وَقِيلَ : " عَلَيْهِ " بِمَعْنَى لَهُ . " شَجَرَة مِنْ يَقْطِين " الْيَقْطِين : شَجَر الدُّبَّاء : وَقِيلَ غَيْرهَا ; ذَكَرَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ . وَفِي الْخَبَر : ( الدُّبَّاء وَالْبِطِّيخ مِنْ الْجَنَّة ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة . وَقَالَ الْمُبَرِّد : يُقَال لِكُلِّ شَجَرَة لَيْسَ لَهَا سَاق يَفْتَرِش وَرَقهَا عَلَى الْأَرْض يَقْطِينَة نَحْو الدُّبَّاء وَالْبِطِّيخ وَالْحَنْظَل , فَإِنْ كَانَ لَهَا سَاق يُقِلّهَا فَهِيَ شَجَرَة فَقَطْ , وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَة أَيْ بِعُرُوقٍ تَفْتَرِش فَهِيَ نَجْمَة وَجَمْعهَا نَجْم . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَالنَّجْم وَالشَّجَر يَسْجُدَانِ " [ الرَّحْمَن : 6 ] وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَمُقَاتِل . قَالُوا : كُلّ نَبْت يَمْتَدّ وَيُبْسَط عَلَى الْأَرْض وَلَا يَبْقَى عَلَى اِسْتِوَاء وَلَيْسَ لَهُ سَاق نَحْو الْقِثَّاء وَالْبِطِّيخ وَالْقَرْع وَالْحَنْظَل فَهُوَ يَقْطِين . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : هُوَ كُلّ شَيْء يَنْبُت ثُمَّ يَمُوت مِنْ عَامه فَيَدْخُل فِي هَذَا الْمَوْز . قُلْت : وَهُوَ مِمَّا لَهُ سَاق . الْجَوْهَرِيّ : وَالْيَقْطِين مَا لَا سَاق لَهُ كَشَجَرِ الْقَرْع وَنَحْوه . الزَّجَّاج : اِشْتِقَاق الْيَقْطِين مِنْ قَطَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ فَهُوَ يَفْعِيل . وَقِيلَ : هُوَ اِسْم أَعْجَمِيّ . وَقِيلَ : إِنَّمَا خَصَّ الْيَقْطِين بِالذِّكْرِ , لِأَنَّهُ لَا يَنْزِل عَلَيْهِ ذُبَاب . وَقِيلَ : مَا كَانَ ثَمَّ يَقْطِين فَأَنْبَتَهُ اللَّه فِي الْحَال . الْقُشَيْرِيّ : وَفِي الْآيَة مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَفْرُوشًا لِيَكُونَ لَهُ ظِلّ . الثَّعْلَبِيّ : كَانَتْ تُظِلّهُ فَرَأَى خُضْرَتهَا فَأَعْجَبَتْهُ , فَيَبِسَتْ فَجَعَلَ يَتَحَزَّنُ عَلَيْهَا ; فَقِيلَ لَهُ : يَا يُونُس أَنْتَ الَّذِي لَمْ تَخْلُقْ وَلَمْ تَسْقِ وَلَمْ تُنْبِت تَحْزَن عَلَى شُجَيْرَة , فَأَنَا الَّذِي خَلَقْت مِائَة أَلْف مِنْ النَّاس أَوْ يَزِيدُونَ تُرِيد مِنِّي أَنْ أَسْتَأْصِلَهُمْ فِي سَاعَة وَاحِدَة , وَقَدْ تَابُوا وَتُبْت عَلَيْهِمْ فَأَيْنَ رَحْمَتِي يَا يُونُس أَنَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُل الثَّرِيد بِاللَّحْمِ وَالْقَرْع وَكَانَ يُحِبُّ الْقَرْع وَيَقُول : ( إِنَّهَا شَجَرَة أَخِي يُونُس ) وَقَالَ أَنَس : قُدِّمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَق فِيهِ دُبَّاء وَقَدِيد فَجَعَلَ يَتْبَع الدُّبَّاء حَوَالَيْ الْقَصْعَة . قَالَ أَنَس : فَلَمْ أَزَلْ أُحِبّ الدُّبَّاء مِنْ يَوْمِئِذٍ . أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّة .
" أَوْ يَزِيدُونَ " قَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] مَحَامِلُ " أَوْ " فِي قَوْله تَعَالَى : " أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " [ الْبَقَرَة : 74 ] . وَقَالَ الْفَرَّاء : " أَوْ " بِمَعْنَى بَلْ . وَقَالَ غَيْره : إِنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاو , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : فَلَمَّا اِشْتَدَّ أَمْر الْحَرْبِ فِينَا تَأَمَّلْنَا رِيَاحًا أَوْ رِزَامَا أَيْ وَرِزَامًا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا أَمْر السَّاعَة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَر أَوْ هُوَ أَقْرَب " [ النَّحْل : 77 ] . وَقَرَأَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد " إِلَى مِائَة أَلْف وَيَزِيدُونَ " بِغَيْرِ هَمْز ; فَـ " يَزِيدُونَ " فِي مَوْضِع رَفْع بِأَنَّهُ خَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف أَيْ وَهُمْ يَزِيدُونَ . النَّحَّاس : وَلَا يَصِحّ هَذَانِ الْقَوْلَانِ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ , وَأَنْكَرُوا كَوْن " أَوْ " بِمَعْنَى بَلْ وَبِمَعْنَى الْوَاو ; لِأَنَّ بَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنْ الْأَوَّل وَالْإِيجَاب لِمَا بَعْده , وَتَعَالَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ , أَوْ خُرُوج مِنْ شَيْء إِلَى شَيْء وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِع ذَلِكَ ; وَالْوَاو مَعْنَاهُ خِلَاف مَعْنَى " أَوْ " فَلَوْ كَانَ أَحَدهمَا بِمَعْنَى الْآخَر لَبَطَلَتْ الْمَعَانِي ; وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى أَكْثَر مِنْ مِائَتَيْ أَلْف أَخْصَرَ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : الْمَعْنَى وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى جَمَاعَة لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ هُمْ مِائَة أَلْف أَوْ أَكْثَر , وَإِنَّمَا خُوطِبَ الْعِبَاد عَلَى مَا يَعْرِفُونَ . وَقِيلَ : هُوَ كَمَا تَقُول : جَاءَنِي زَيْد أَوْ عَمْرو وَأَنْتَ تَعْرِف مَنْ جَاءَك مِنْهُمَا إِلَّا أَنَّك أَبْهَمْت عَلَى الْمُخَاطَب . وَقَالَ الْأَخْفَش وَالزَّجَّاج : أَيْ أَوْ يَزِيدُونَ فِي تَقْدِيركُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : زَادُوا عَلَى مِائَة أَلْف عِشْرِينَ أَلْفًا . وَرَوَاهُ أَبِي بْن كَعْب مَرْفُوعًا . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : ثَلَاثِينَ أَلْفًا . الْحَسَن وَالرَّبِيع : بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا . وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان : سَبْعِينَ أَلْفًا . الثَّعْلَبِيّ : كَانَتْ الشَّجَرَة تُظِلُّهُ فَرَأَى خُضْرَتهَا فَأَعْجَبَتْهُ , فَيَبِسَتْ فَجَعَلَ يَتَحَزَّن عَلَيْهَا ; فَقِيلَ لَهُ : يَا يُونُس أَنْتَ الَّذِي لَمْ تَخْلُق وَلَمْ تَسْقِ وَلَمْ تُنْبِت تَحْزَن عَلَى شُجَيْرَة , فَأَنَا الَّذِي خَلَقْت مِائَة أَلْف مِنْ النَّاس أَوْ يَزِيدُونَ تُرِيد مِنِّي أَنْ أَسْتَأْصِلهُمْ فِي سَاعَة وَاحِدَة , وَقَدْ تَابُوا وَتُبْت عَلَيْهِمْ فَأَيْنَ رَحْمَتِي يَا يُونُس أَنَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ
أَيْ إِلَى مُنْتَهَى آجَالهمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رِسَالَة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانَتْ بَعْد مَا نَبَذَهُ الْحُوت . وَلَيْسَ لَهُ طَرِيق إِلَّا عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب . النَّحَّاس : وَأَجْوَد مِنْهُ إِسْنَادًا وَأَصَحّ مَا حُدِّثْنَاهُ عَنْ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرو بْن الْعَنْقَزِيّ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فِي بَيْت الْمَال عَنْ يُونُس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ يُونُس وَعَدَ قَوْمه الْعَذَاب وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام , فَفَرَّقُوا بَيْن كُلّ وَالِدَة وَوَلَدهَا , وَخَرَجُوا فَجَأَرُوا إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَغْفَرُوا , فَكَفَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ الْعَذَابَ , وَغَدَا يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام يَنْتَظِر الْعَذَاب فَلَمْ يَرَ شَيْئًا - وَكَانَ مَنْ كَذَبَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَة قُتِلَ - فَخَرَجَ يُونُس مُغَاضِبًا , فَأَتَى قَوْمًا فِي سَفِينَة فَحَمَلُوهُ وَعَرَفُوهُ , فَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَة رَكَدَتْ السَّفِينَة وَالسُّفُن تَسِير يَمِينًا وَشِمَالًا ; فَقَالُوا : مَا لِسَفِينَتِكُمْ ؟ فَقَالُوا : لَا نَدْرِي . فَقَالَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام : إِنَّ فِيهَا عَبْدًا آبِقًا مِنْ رَبّه جَلَّ وَعَزَّ وَإِنَّهَا لَنْ تَسِير حَتَّى تُلْقُوهُ . قَالُوا أَمَّا أَنْتَ يَا نَبِيّ اللَّه فَإِنَّا لَا نُلْقِيك . قَالَ : فَأَقْرِعُوا فَمَنْ قُرِعَ فَلْيَقَعْ , فَاقْتَرَعُوا فَقَرَعَهُمْ يُونُس فَأَبَوْا أَنْ يَدَعُوهُ , قَالَ : فَاقْتَرِعُوا ثَلَاثًا فَمَنْ قُرِعَ فَلْيَقَعْ . فَاقْتَرَعُوا فَقَرَعَهُمْ يُونُس ثَلَاث مَرَّات أَوْ قَالَ ثَلَاثًا فَوَقَعَ . وَقَدْ وَكَّلَ اللَّه بِهِ جَلَّ وَعَزَّ حُوتًا فَابْتَلَعَهُ وَهُوَ يَهْوِي بِهِ إِلَى قَرَار الْأَرْض , فَسَمِعَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام تَسْبِيح الْحَصَى " فَنَادَى فِي الظُّلُمَات أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 87 ] قَالَ : ظُلْمَة اللَّيْل وَظُلْمَة الْبَحْر وَظُلْمَة بَطْن الْحُوت . قَالَ : " فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيم " قَالَ : كَهَيْئَةِ الْفَرْخ الْمَمْعُوط الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيش . قَالَ : وَأَنْبَتَ اللَّه عَلَيْهِ شَجَرَة مِنْ يَقْطِين فَنَبَتَتْ , فَكَانَ يَسْتَظِلّ بِهَا وَيُصِيب مِنْهَا , فَيَبِسَتْ فَبَكَى عَلَيْهَا ; فَأَوْحَى اللَّه جَلَّ وَعَزَّ إِلَيْهِ : أَتَبْكِي عَلَى شَجَرَة يَبِسَتْ , وَلَا تَبْكِي عَلَى مِائَة أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ أَرَدْت أَنْ تُهْلِكَهُمْ قَالَ : وَخَرَجَ رَسُول اللَّه يُونُس فَإِذَا هُوَ بِغُلَامٍ يَرْعَى ; قَالَ : يَا غُلَام مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : مِنْ قَوْم يُونُس . قَالَ : فَإِذَا جِئْت إِلَيْهِمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّك قَدْ لَقِيت يُونُس . قَالَ : إِنْ كُنْت يُونُس فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ مَنْ كَذَبَ قُتِلَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَة فَمَنْ يَشْهَد لِي ؟ قَالَ : هَذِهِ الشَّجَرَة وَهَذِهِ الْبُقْعَة . قَالَ : فَمُرْهُمَا ; فَقَالَ لَهُمَا يُونُس : إِذَا جَاءَكُمَا هَذَا الْغُلَام فَاشْهَدَا لَهُ . قَالَتَا نَعَمْ . قَالَ : فَرَجَعَ الْغُلَام إِلَى قَوْمه وَكَانَ فِي مَنَعَة وَكَانَ لَهُ إِخْوَة , فَأَتَى الْمَلِك فَقَالَ : إِنِّي قَدْ لَقِيت يُونُس وَهُوَ يَقْرَأ عَلَيْك السَّلَام . قَالَ : فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَل ; فَقَالُوا : إِنَّ لَهُ بَيِّنَةً فَأُرْسِلُوا مَعَهُ . فَأَتَى الشَّجَرَة وَالْبُقْعَة فَقَالَ لَهُمَا : نَشَدْتُكُمَا بِاَللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ أَتَشْهَدَانِ أَنِّي لَقِيت يُونُس ؟ قَالَتَا : نَعَمْ قَالَ : فَرَجَعَ الْقَوْم مَذْعُورِينَ يَقُولُونَ لَهُ : شَهِدَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ وَالْأَرْضُ فَأَتَوْا الْمَلِك فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا . قَالَ عَبْد اللَّه : فَتَنَاوَلَ الْمَلِك يَد الْغُلَام فَأَجْلَسَهُ فِي مَجْلِسه , وَقَالَ : أَنْتَ أَحَقّ بِهَذَا الْمَكَان مِنِّي . قَالَ عَبْد اللَّه : فَأَقَامَ لَهُمْ ذَلِكَ الْغُلَام أَمْرَهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَة . قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ يُونُس كَانَ قَدْ أُرْسِلَ قَبْل أَنْ يَلْتَقِمَهُ الْحُوت بِهَذَا الْإِسْنَاد الَّذِي لَا يُؤْخَذ بِالْقِيَاسِ . وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ الْفَائِدَة أَنَّ قَوْم يُونُس آمَنُوا وَنَدِمُوا قَبْل أَنْ يَرَوْا الْعَذَاب ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ الْعَذَاب إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام , فَفَرَّقُوا بَيْن كُلّ وَالِدَة وَوَلَدهَا , وَضَجُّوا ضَجَّة وَاحِدَة إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب , وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُكْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ كَحُكْمِهِ فِي غَيْرهمْ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا " [ غَافِر : 85 ] وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَيْسَتْ التَّوْبَة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدهمْ الْمَوْت " [ النِّسَاء : 18 ] الْآيَة . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّهُمْ رَأَوْا مَخَائِل الْعَذَاب فَتَابُوا . وَهَذَا لَا يُمْنَع , وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي سُورَة [ يُونُس ] فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ .
لَمَّا ذَكَرَ أَخْبَار الْمَاضِينَ تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِحْتَجَّ عَلَى كُفَّار قُرَيْش فِي قَوْلهمْ : إِنَّ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه ; فَقَالَ : " فَاسْتَفْتِهِمْ " . وَهُوَ مَعْطُوف عَلَى مِثْله فِي أَوَّل السُّورَة وَإِنْ تَبَاعَدَتْ بَيْنهمْ الْمَسَافَة ; أَيْ فَسَلْ يَا مُحَمَّد أَهْل مَكَّة
الْبَنَات وَلَهُمْ الْبَنُونَ " وَذَلِكَ أَنَّ جُهَيْنَة وَخُزَاعَة وَبَنِي مَلِيح وَبَنِي سَلِمَة وَعَبْد الدَّار زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه . وَهَذَا سُؤَال تَوْبِيخ .
الْبَنَات وَلَهُمْ الْبَنُونَ " وَذَلِكَ أَنَّ جُهَيْنَة وَخُزَاعَة وَبَنِي مَلِيح وَبَنِي سَلِمَة وَعَبْد الدَّار زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه . وَهَذَا سُؤَال تَوْبِيخ .
أَيْ حَاضِرُونَ لِخَلْقِنَا إِيَّاهُمْ إِنَاثًا ; وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَة الَّذِينَ هُمْ عِبَاد الرَّحْمَن إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ " [ الزُّخْرُف : 19 ] .