الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5
اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَسورة التوبة الآية رقم 31
الْأَحْبَار جَمْع حَبْر , وَهُوَ الَّذِي يُحَسِّن الْقَوْل وَيُنَظِّمهُ وَيُتْقِنهُ بِحُسْنِ الْبَيَان عَنْهُ . وَمِنْهُ ثَوْب مُحَبَّر أَيْ جَمَعَ الزِّينَة . وَقَدْ قِيلَ فِي وَاحِد الْأَحْبَار : حِبْر بِكَسْرِ الْحَاء , وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : مِدَاد حِبْر يُرِيدُونَ مِدَاد عَالِم , ثُمَّ كَثُرَ الِاسْتِعْمَال حَتَّى قَالُوا لِلْمِدَادِ حِبْر . قَالَ الْفَرَّاء : الْكَسْر وَالْفَتْح لُغَتَانِ . وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : الْحِبْر بِالْكَسْرِ الْمِدَاد , وَالْحَبْر بِالْفَتْحِ الْعَالِم . وَالرُّهْبَان جَمْع رَاهِب مَأْخُوذ مِنْ الرَّهْبَة , وَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُ خَوْف اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنْ يُخْلِص لَهُ النِّيَّة دُون النَّاس , وَيَجْعَل زَمَانه لَهُ وَعَمَله مَعَهُ وَأُنْسه بِهِ .


قَالَ أَهْل الْمَعَانِي : جَعَلُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ كَالْأَرْبَابِ حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِي كُلّ شَيْء وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " قَالَ اُنْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا " [ الْكَهْف : 96 ] أَيْ كَالنَّارِ . قَالَ عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك : وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّين إِلَّا الْمُلُوك وَأَحْبَار سُوء وَرُهْبَانهَا رَوَى الْأَعْمَش وَسُفْيَان عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت عَنْ أَبَى الْبَخْتَرِيّ قَالَ : سُئِلَ حُذَيْفَة عَنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه " هَلْ عَبَدُوهُمْ ؟ فَقَالَ لَا , وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَام فَاسْتَحَلُّوهُ , وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَال فَحَرَّمُوهُ . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ : أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيب مِنْ ذَهَب . فَقَالَ : ( مَا هَذَا يَا عَدِيّ اِطْرَحْ عَنْك هَذَا الْوَثَن ) وَسَمِعْته يَقْرَأ فِي سُورَة [ بَرَاءَة ] " اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه وَالْمَسِيح اِبْن مَرْيَم " ثُمَّ قَالَ : ( أَمَّا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اِسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ ) . قَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا يُعْرَف إِلَّا مِنْ حَدِيث عَبْد السَّلَام بْن حَرْب . وَغُطَيْف بْن أَعْيَن لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي الْحَدِيث .


مَضَى الْكَلَام فِي اِشْتِقَاقه فِي [ آل عِمْرَان ] وَالْمَسِيح : الْعَرَق يَسِيل مِنْ الْجَبِين . وَلَقَدْ أَحْسَن بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ : اِفْرَحْ فَسَوْفَ تَأْلَف الْأَحْزَانَا إِذَا شَهِدْت الْحَشْر وَالْمِيزَانَا وَسَالَ مِنْ جَبِينك الْمَسِيح كَأَنَّهُ جَدَاوِل تَسِيح وَمَضَى فِي [ النِّسَاء ] مَعْنَى إِضَافَته إِلَى مَرْيَم أُمّه .
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَسورة التوبة الآية رقم 32
أَيْ دَلَالَته وَحُجَجه عَلَى تَوْحِيده . جَعَلَ الْبَرَاهِين بِمَنْزِلَةِ النُّور لِمَا فِيهَا مِنْ الْبَيَان . وَقِيلَ : الْمَعْنَى نُور الْإِسْلَام , أَيْ أَنْ يُخْمِدُوا دِين اللَّه بِتَكْذِيبِهِمْ .


جَمْع فَوْه عَلَى الْأَصْل , لِأَنَّ الْأَصْل فِي فَم فَوْه , مِثْل حَوْض وَأَحْوَاض .


يُقَال : كَيْفَ دَخَلَتْ " إِلَّا " وَلَيْسَ فِي الْكَلَام حَرْف نَفْي , وَلَا يَجُوز ضَرَبْت إِلَّا زَيْدًا . فَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ " إِلَّا " إِنَّمَا دَخَلَتْ لِأَنَّ فِي الْكَلَام طَرَفًا مِنْ الْجَحْد . قَالَ الزَّجَّاج : الْجَحْد وَالتَّحْقِيق لَيْسَا بِذَوِي أَطْرَاف . وَأَدَوَات الْجَحْد : مَا , وَلَا , وَإِنْ , وَلَيْسَ : وَهَذِهِ لَا أَطْرَاف لَهَا يَنْطِق بِهَا وَلَوْ كَانَ الْأَمْر كَمَا أَرَادَ لَجَازَ كَرِهْت إِلَّا زَيْدًا , وَلَكِنَّ الْجَوَاب أَنَّ الْعَرَب تَحْذِف مَعَ أَبَى . وَالتَّقْدِير : وَيَأْبَى اللَّه كُلّ شَيْء إِلَّا أَنْ يُتِمّ نُوره . وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : إِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي " أَبَى " لِأَنَّهَا مَنْع أَوْ اِمْتِنَاع فَضَارَعَتْ النَّفْي . قَالَ النَّحَّاس : فَهَذَا حَسَن , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَهَلْ لِي أُمّ غَيْرهَا إِنْ تَرَكْتهَا أَبَى اللَّه إِلَّا أَنْ أَكُون لَهَا ابْنَمَا
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَسورة التوبة الآية رقم 33
يُرِيد مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .



أَيْ بِالْفُرْقَانِ .


أَيْ بِالْحُجَّةِ وَالْبَرَاهِين . وَقَدْ أَظْهَرَهُ عَلَى شَرَائِع الدِّين حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْهَا , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقِيلَ : " لِيُظْهِرهُ " أَيْ لِيُظْهِر الدِّين دِين الْإِسْلَام عَلَى كُلّ دِين . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَالضَّحَّاك : هَذَا عِنْد نُزُول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ السُّدِّيّ : ذَاكَ عِنْد خُرُوج الْمَهْدِيّ , لَا يَبْقَى أَحَد إِلَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَام أَوْ أَدَّى الْجِزْيَة . وَقِيلَ : الْمَهْدِيّ هُوَ عِيسَى فَقَطْ وَهُوَ غَيْر صَحِيح لِأَنَّ الْأَخْبَار الصِّحَاح قَدْ تَوَاتَرَتْ عَلَى أَنَّ الْمَهْدِيّ مِنْ عِتْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَا يَجُوز حَمْله عَلَى عِيسَى . وَالْحَدِيث الَّذِي وَرَدَ فِي أَنَّهُ ( لَا مَهْدِيّ إِلَّا عِيسَى ) غَيْر صَحِيح . قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَاب الْبَعْث وَالنُّشُور : لِأَنَّ رَاوِيه مُحَمَّد بْن خَالِد الْجُنْدِيّ وَهُوَ مَجْهُول , يَرْوِي عَنْ أَبَان بْن أَبِي عَيَّاش - وَهُوَ مَتْرُوك - عَنْ الْحَسَن عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ مُنْقَطِع . وَالْأَحَادِيث الَّتِي قَبْله فِي التَّنْصِيص عَلَى خُرُوج الْمَهْدِيّ , وَفِيهَا بَيَان كَوْن الْمَهْدِيّ مِنْ عِتْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحّ إِسْنَادًا .

قُلْت : قَدْ ذَكَرْنَا هَذَا وَزِدْنَاهُ بَيَانًا فِي كِتَابنَا ( كِتَاب التَّذْكِرَة ) وَذَكَرْنَا أَخْبَار الْمَهْدِيّ مُسْتَوْفَاة وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقِيلَ : أَرَادَ " لِيُظْهِرهُ عَلَى الدِّين كُلّه " فِي جَزِيرَة الْعَرَب , وَقَدْ فَعَلَ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍسورة التوبة الآية رقم 34
" لَيَأْكُلُونَ أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ " دَخَلَتْ اللَّام عَلَى يَفْعَل , وَلَا تَدْخُل عَلَى فَعَلَ لِمُضَارَعَةِ يَفْعَل الْأَسْمَاء . وَالْأَحْبَار عُلَمَاء الْيَهُود . وَالرُّهْبَان مُجْتَهِدُو النَّصَارَى فِي الْعِبَادَة . " بِالْبَاطِلِ " قِيلَ : إِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَمْوَال أَتْبَاعهمْ ضَرَائِب وَفُرُوضًا بِاسْمِ الْكَنَائِس وَالْبِيَع وَغَيْر ذَلِكَ , مِمَّا يُوهِمُونَهُمْ أَنَّ النَّفَقَة فِيهِ مِنْ الشَّرْع وَالتَّزَلُّف إِلَى اللَّه تَعَالَى , وَهُمْ خِلَال ذَلِكَ يَحْجُبُونَ تِلْكَ الْأَمْوَال , كَاَلَّذِي ذَكَرَهُ سَلْمَان الْفَارِسِيّ عَنْ الرَّاهِب الَّذِي اِسْتَخْرَجَ كَنْزه , ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق فِي السِّيَر . وَقِيلَ : كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ غَلَّاتهمْ وَأَمْوَالهمْ ضَرَائِب بِاسْمِ حِمَايَة الدِّين وَالْقِيَام بِالشَّرْعِ . وَقِيلَ : كَانُوا يَرْتَشُونَ فِي الْأَحْكَام , كَمَا يَفْعَلهُ الْيَوْم كَثِير مِنْ الْوُلَاة وَالْحُكَّام . وَقَوْله : " بِالْبَاطِلِ " يَجْمَع ذَلِكَ كُلّه .



أَيْ يَمْنَعُونَ أَهْل دِينهمْ عَنْ الدُّخُول فِي دِين الْإِسْلَام , وَاتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .



الْكَنْز أَصْله فِي اللُّغَة الضَّمّ وَالْجَمْع وَلَا يَخْتَصّ ذَلِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة . أَلَا تَرَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَلَا أُخْبِركُمْ بِخَيْرِ مَا يَكْنِز الْمَرْءُ الْمَرْأَة الصَّالِحَة ) . أَيْ يَضُمّهُ لِنَفْسِهِ وَيَجْمَعهُ . قَالَ : وَلَمْ تَزَوَّدْ مِنْ جَمِيع الْكَنْز غَيْر خُيُوط وَرَثِيث بَزّ وَقَالَ آخَر : لَا دَرَّ دَرِّي إِنْ أَطْعَمْت جَائِعهمْ قِرْف الْحَتِيّ وَعِنْدِي الْبُرّ مَكْنُوز قِرْف الْحَتِيّ هُوَ سَوِيق الْمُقِلّ . يَقُول : إِنَّهُ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَكَانَ قِرَاهُ عِنْدهمْ سَوِيق الْمُقِلّ , وَهُوَ الْحَتِيّ , فَلَمَّا نَزَلُوا بِهِ قَالَ هُوَ : لَا دَرَّ دَرِّي ... الْبَيْت . وَخَصَّ الذَّهَب وَالْفِضَّة بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُطَّلَع عَلَيْهِ , بِخِلَافِ سَائِر الْأَمْوَال . قَالَ الطَّبَرِيّ : الْكَنْز كُلّ شَيْء مَجْمُوع بَعْضه إِلَى بَعْض , فِي بَطْن الْأَرْض كَانَ أَوْ عَلَى ظَهْرهَا . وَسُمِّيَ الذَّهَب ذَهَبًا لِأَنَّهُ يَذْهَب , وَالْفِضَّة لِأَنَّهَا تَنْفَضّ فَتَتَفَرَّق , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا " [ الْجُمُعَة : 11 ] - " لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلك " [ آل عِمْرَان : 159 ] وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [ آل عِمْرَان ]

وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَة فِي الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة , فَذَهَبَ مُعَاوِيَة إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهَا أَهْل الْكِتَاب وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَصَمّ لِأَنَّ قَوْله : " وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ " مَذْكُور بَعْد قَوْله : " إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَار وَالرُّهْبَان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ " . وَقَالَ أَبُو ذَرّ وَغَيْره : الْمُرَاد بِهَا أَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ الصَّحِيح , لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَهْل الْكِتَاب خَاصَّة لَقَالَ : وَيَكْنِزُونَ , بِغَيْرِ وَاَلَّذِينَ . فَلَمَّا قَالَ : " وَاَلَّذِينَ " فَقَدْ اِسْتَأْنَفَ مَعْنًى آخَر يُبَيِّن أَنَّهُ عَطَفَ جُمْلَة عَلَى جُمْلَة . فَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ كَلَام مُسْتَأْنَف , وَهُوَ رَفْع عَلَى الِابْتِدَاء . قَالَ السُّدِّيّ : عَنَى أَهْل الْقِبْلَة . فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَقْوَال . وَعَلَى قَوْل الصَّحَابَة فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكُفَّار عِنْدهمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَة . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ زَيْد بْن وَهْب قَالَ : مَرَرْت بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرّ فَقُلْت لَهُ : مَا أَنْزَلَك مَنْزِلك هَذَا ؟ قَالَ : كُنْت بِالشَّامِ فَاخْتَلَفْت أَنَا وَمُعَاوِيَة فِي " الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّه " , فَقَالَ مُعَاوِيَة : نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب . فَقُلْت : نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ , وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنه فِي ذَلِكَ . فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَان يَشْكُونِي , فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَان أَنْ اُقْدُمْ الْمَدِينَة , فَقَدِمْتهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاس حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْل ذَلِكَ , فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُثْمَان فَقَالَ : إِنْ شِئْت تَنَحَّيْت فَكُنْت قَرِيبًا , فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِل وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْت وَأَطَعْت .

قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة زَكَاة الْعَيْن , وَهِيَ تَجِب بِأَرْبَعَةِ شُرُوط : حُرِّيَّة , وَإِسْلَام , وَحَوْل , وَنِصَاب سَلِيم مِنْ الدَّيْن . وَالنِّصَاب مِائَتَا دِرْهَم أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا . أَوْ يُكَمِّل نِصَاب أَحَدهمَا مِنْ الْآخَر وَأَخْرَجَ رُبْع الْعُشْر مِنْ هَذَا وَرُبْع الْعُشْر مِنْ هَذَا . وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْحُرِّيَّة شَرْط , فَلِأَنَّ الْعَبْد نَاقِص الْمِلْك . وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْإِسْلَام شَرْط , فَلِأَنَّ الزَّكَاة طُهْرَة وَالْكَافِر لَا تَلْحَقهُ طُهْرَة , وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة " [ الْبَقَرَة : 43 ] فَخُوطِبَ بِالزَّكَاةِ مَنْ خُوطِبَ بِالصَّلَاةِ . وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْحَوْل شَرْط , فَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ فِي مَال زَكَاة حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل ) . وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ النِّصَاب شَرْط , فَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ فِي أَقَلّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَم زَكَاة وَلَيْسَ فِي أَقَلّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا زَكَاة ) . وَلَا يُرَاعَى كَمَال النِّصَاب فِي أَوَّل الْحَوْل , وَإِنَّمَا يُرَاعَى عِنْد آخِر الْحَوْل , لِاتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الرِّبْح فِي حُكْم الْأَصْل . يَدُلّ عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَم فَتَجَرَ فِيهَا فَصَارَتْ آخِر الْحَوْل أَلْفًا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاة الْأَلْف , وَلَا يَسْتَأْنِف لِلرِّبْحِ حَوْلًا . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِف حُكْم الرِّبْح , كَانَ صَادِرًا عَنْ نِصَاب أَوْ دُونه . وَكَذَلِكَ اِتَّفَقُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَم , فَتَوَالَدَتْ لَهُ رَأْس الْحَوْل ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَات إِلَّا وَاحِدَة مِنْهَا , وَكَانَتْ السِّخَال تَتِمَّة النِّصَاب فَإِنَّ الزَّكَاة تُخْرَج عَنْهَا .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَال الَّذِي أُدِّيَتْ زَكَاته هَلْ يُسَمَّى كَنْزًا أَمْ لَا ؟ فَقَالَ قَوْم : نَعَمْ . وَرَوَاهُ أَبُو الضَّحَّاك عَنْ جَعْدَة بْن هُبَيْرَة عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , قَالَ عَلِيّ : أَرْبَعَة آلَاف فَمَا دُونهَا نَفَقَة , وَمَا كَثُرَ فَهُوَ كَنْز وَإِنْ أَدَّيْت زَكَاته , وَلَا يَصِحّ . وَقَالَ قَوْم : مَا أَدَّيْت زَكَاته مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْره عَنْهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ . قَالَ اِبْن عُمَر : مَا أُدِّيَ زَكَاته فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْت سَبْع أَرَضِينَ , وَكُلّ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاته فَهُوَ كَنْز وَإِنْ كَانَ فَوْق الْأَرْض . وَمِثْله عَنْ جَابِر , وَهُوَ الصَّحِيح . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ آتَاهُ اللَّه مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاته مُثِّلَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاعًا أَقْرَع لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقهُ يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ يَأْخُذ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي شِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُول أَنَا مَالَك أَنَا كَنْزك - ثُمَّ تَلَا - " وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ " [ آل عِمْرَان : 180 ] الْآيَة . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي ذَرّ , قَالَ : اِنْتَهَيْت إِلَيْهِ - يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - أَوْ وَاَلَّذِي لَا إِلَه غَيْره أَوْ كَمَا حَلَفَ - مَا مِنْ رَجُل تَكُون لَهُ إِبِل أَوْ بَقَر أَوْ غَنَم لَا يُؤَدِّي حَقّهَا إِلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْم الْقِيَامَة أَعْظَم مَا تَكُون وَأَسْمَنه تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحهُ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْن النَّاس ) . فَدَلَّ دَلِيل خِطَاب هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى صِحَّة مَا ذَكَرْنَا . وَقَدْ بَيَّنَ اِبْن عُمَر فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ هَذَا الْمَعْنَى , قَالَ لَهُ أَعْرَابِيّ : أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَالْفِضَّة " قَالَ اِبْن عُمَر : مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتهَا فَوَيْل لَهُ , إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تَنْزِل الزَّكَاة , فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّه طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ . وَقِيلَ : الْكَنْز مَا فَضَلَ عَنْ الْحَاجَة . رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ , وَهُوَ مِمَّا نُقِلَ مِنْ مَذْهَبه , وَهُوَ مِنْ شَدَائِده وَمِمَّا اِنْفَرَدَ بِهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .

قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُجْمَل مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ فِي هَذَا , مَا رُوِيَ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي وَقْت شِدَّة الْحَاجَة وَضَعْف الْمُهَاجِرِينَ وَقِصَر يَد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِفَايَتهمْ , وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْت الْمَال مَا يَسَعُهُمْ , وَكَانَتْ السُّنُونَ الْجَوَائِح هَاجِمَة عَلَيْهِمْ , فَنُهُوا عَنْ إِمْسَاك شَيْء مِنْ الْمَال إِلَّا عَلَى قَدْر الْحَاجَة وَلَا يَجُوز اِدِّخَار الذَّهَب وَالْفِضَّة فِي مِثْل ذَلِكَ الْوَقْت . فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ أَوْجَبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم وَفِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْف دِينَار وَلَمْ يُوجِب الْكُلّ وَاعْتَبَرَ مُدَّة الِاسْتِنْمَاء , فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَيَانًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْكَنْز مَا لَمْ تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوق الْعَارِضَة , كَفَكّ الْأَسِير وَإِطْعَام الْجَائِع وَغَيْر ذَلِكَ . وَقِيلَ : الْكَنْز لُغَة : الْمَجْمُوع مِنْ النَّقْدَيْنِ , وَغَيْرهمَا مِنْ الْمَال مَحْمُول عَلَيْهِمَا بِالْقِيَاسِ . وَقِيلَ : الْمَجْمُوع مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حُلِيًّا , لِأَنَّ الْحُلِيّ مَأْذُون فِي اِتِّخَاذه وَلَا حَقّ فِيهِ . وَالصَّحِيح مَا بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ , وَأَنَّ ذَلِكَ كُلّه يُسَمَّى كَنْزًا لُغَة وَشَرْعًا . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي زَكَاة الْحُلِيّ , فَذَهَبَ مَالِك وَأَصْحَابه وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد إِلَى أَنْ لَا زَكَاة فِيهِ . وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ بِالْعِرَاقِ , وَوَقَفَ فِيهِ بَعْد ذَلِكَ بِمِصْرَ وَقَالَ : أَسْتَخِير اللَّه فِيهِ . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ : فِي ذَلِكَ كُلّه الزَّكَاة . اِحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : قَصْد النَّمَاء يُوجِب الزَّكَاة فِي الْعُرُوض وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الزَّكَاة , كَذَلِكَ قَطْع النَّمَاء فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة بِاِتِّخَاذِهِمَا حُلِيًّا لِلْقِنْيَةِ يُسْقِط الزَّكَاة . اِحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة بِعُمُومِ الْأَلْفَاظ فِي إِيجَاب الزَّكَاة فِي النَّقْدَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّق بَيْن حُلِيّ وَغَيْره . وَفَرَّقَ اللَّيْث بْن سَعْد فَأَوْجَبَ الزَّكَاة فِيمَا صَنَعَ حُلِيًّا لِيَفِرّ بِهِ مِنْ الزَّكَاة وَأَسْقَطَهَا فِيمَا كَانَ مِنْهُ يُلْبَس وَيُعَار وَفِي الْمَذْهَب فِي الْحُلِيّ تَفْصِيل بَيَانه فِي كُتُب الْفُرُوع .

رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَالْفِضَّة " قَالَ : كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فَقَالَ عُمَر : أَنَا أُفَرِّج عَنْكُمْ فَانْطَلَقَ فَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه إِنَّهُ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابك هَذِهِ الْآيَة . فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّه لَمْ يَفْرِض الزَّكَاة إِلَّا لِيُطَيِّب مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالكُمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيث - وَذَكَرَ كَلِمَة - لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدكُمْ ) قَالَ : فَكَبَّرَ عُمَر . ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَا أُخْبِرك بِخَيْرِ مَا يَكْنِز الْمَرْء الْمَرْأَة الصَّالِحَة إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَغَيْره عَنْ ثَوْبَان أَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : قَدْ ذَمّ اللَّه سُبْحَانه الذَّهَب وَالْفِضَّة , فَلَوْ عَلِمْنَا أَيّ الْمَال خَيْر حَتَّى نَكْسِبهُ . فَقَالَ عُمَر : أَنَا أَسْأَل لَكُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَسَأَلَهُ فَقَالَ : ( لِسَان ذَاكِر وَقَلْب شَاكِر وَزَوْجَة تُعِين الْمَرْء عَلَى دِينه ) . قَالَ حَدِيث حَسَن .



وَلَمْ يَقُلْ يُنْفِقُونَهُمَا , فَفِيهِ أَجْوِبَة سِتَّة : [ الْأَوَّل ] قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : قَصَدَ الْأَغْلَب وَالْأَعَمّ وَهِيَ الْفِضَّة , وَمِثْله قَوْله : " وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة " [ الْبَقَرَة : 45 ] رَدَّ الْكِنَايَة إِلَى الصَّلَاة لِأَنَّهَا أَعَمّ . وَمِثْله " وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَة أَوْ لَهْوًا اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا " [ الْجُمُعَة : 11 ] فَأَعَادَ الْهَاء إِلَى التِّجَارَة لِأَنَّهَا الْأَهَمّ وَتَرَكَ اللَّهْو قَالَهُ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . وَأَبَاهُ بَعْضهمْ وَقَالَ : لَا يُشْبِههَا , لِأَنَّ " أَوْ " قَدْ فَصَلَتْ التِّجَارَة مِنْ اللَّهْو فَحَسُنَ عَوْد الضَّمِير عَلَى أَحَدهمَا . [ الثَّانِي ] الْعَكْس وَهُوَ أَنْ يَكُون " يُنْفِقُونَهَا " لِلذَّهَبِ وَالثَّانِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ . وَالذَّهَب تُؤَنِّثهُ الْعَرَب تَقُول : هِيَ الذَّهَب الْحَمْرَاء . وَقَدْ تُذَكِّر وَالتَّأْنِيث أَشْهَر . [ الثَّالِث ] أَنْ يَكُون الضَّمِير لِلْكُنُوزِ . [ الرَّابِع ] لِلْأَمْوَالِ الْمَكْنُوزَة . [ الْخَامِس ] لِلزَّكَاةِ التَّقْدِير وَلَا يُنْفِقُونَ زَكَاة الْأَمْوَال الْمَكْنُوزَة . [ السَّادِس ] الِاكْتِفَاء بِضَمِيرِ الْوَاحِد عَنْ ضَمِير الْآخَر إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى , وَهَذَا كَثِير فِي كَلَام الْعَرَب . أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : نَحْنُ بِمَا عِنْدنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدك رَاضٍ وَالرَّأْي مُخْتَلِف وَلَمْ يَقُلْ رَاضُونَ . وَقَالَ آخَر : رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْت مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْل الطَّوِيّ رَمَانِي وَلَمْ يَقُلْ بَرِيئَيْنِ . وَنَحْوه قَوْل حَسَّان بْن ثَابِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ شَرْخ الشَّبَاب وَالشَّعْر الْأَسْوَد مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونًا وَلَمْ يَقُلْ يُعَاصَيَا .

إِنْ قِيلَ : مَنْ لَمْ يَكْنِز وَلَمْ يُنْفِق فِي سَبِيل اللَّه وَأَنْفَقَ فِي الْمَعَاصِي , هَلْ يَكُون حُكْمه فِي الْوَعِيد حُكْمَ مَنْ كَنَزَ وَلَمْ يُنْفِق فِي سَبِيل اللَّه . قِيلَ لَهُ : إِنَّ ذَلِكَ أَشَدّ , فَإِنَّ مَنْ بَذَرَ مَاله فِي الْمَعَاصِي عَصَى مِنْ جِهَتَيْنِ : بِالْإِنْفَاقِ وَالتَّنَاوُل , كَشِرَاء الْخَمْر وَشُرْبهَا . بَلْ مِنْ جِهَات إِذَا كَانَتْ الْمَعْصِيَة مِمَّا تَتَعَدَّى , كَمَنْ أَعَانَ عَلَى ظُلْم مُسْلِم مِنْ قَتْله أَوْ أَخْذ مَاله إِلَى غَيْر ذَلِكَ . وَالْكَانِز عَصَى مِنْ جِهَتَيْنِ , وَهُمَا مَنْع الزَّكَاة وَحَبْس الْمَال لَا غَيْر . وَقَدْ لَا يُرَاعَى حَبْس الْمَال , وَاَللَّه أَعْلَم .


قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ . وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْعَذَاب بِقَوْلِهِ : ( بَشِّرْ الْكَنَّازِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورهمْ يَخْرُج مِنْ جُنُوبهمْ وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَل أَقْفَائِهِمْ يَخْرُج مِنْ جِبَاههمْ ) الْحَدِيث . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . رَوَاهُ أَبُو ذَرّ فِي رِوَايَة : ( بَشِّرْ الْكَنَّازِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَار جَهَنَّم فَيُوضَع عَلَى حَلَمَة ثَدْي أَحَدهمْ حَتَّى يَخْرُج مِنْ نُغْض كَتِفَيْهِ وَيُوضَع عَلَى نُغْض كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُج مِنْ حَلَمَة ثَدْيَيْهِ فَيَتَزَلْزَل ) الْحَدِيث . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَخُرُوج الرَّضْف مِنْ حَلَمَة ثَدْيه إِلَى نُغْض كَتِفه لِتَعْذِيبِ قَلْبه وَبَاطِنه حِين اِمْتَلَأَ بِالْفَرَحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الْمَال وَالسُّرُور فِي الدُّنْيَا , فَعُوقِبَ فِي الْآخِرَة بِالْهَمّ وَالْعَذَاب .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : ظَاهِر الْآيَة تَعْلِيق الْوَعِيد عَلَى مَنْ كَنَزَ وَلَا يُنْفِق فِي سَبِيل اللَّه وَيَتَعَرَّض لِلْوَاجِبِ وَغَيْره , غَيْر أَنَّ صِفَة الْكَنْز لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُون مُعْتَبَرَة , فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكْنِز وَمَنَعَ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه فَلَا بُدّ وَأَنْ يَكُون كَذَلِكَ , إِلَّا أَنَّ الَّذِي يُخَبَّأ تَحْت الْأَرْض هُوَ الَّذِي يُمْنَع إِنْفَاقه فِي الْوَاجِبَات عُرْفًا , فَلِذَلِكَ خَصَّ الْوَعِيد بِهِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَسورة التوبة الآية رقم 35
" يَوْم " ظَرْف , وَالتَّقْدِير يُعَذَّبُونَ يَوْم يُحْمَى . وَلَا يَصِحّ أَنْ يَكُون عَلَى تَقْدِير : فَبَشِّرْهُمْ يَوْم يُحْمَى عَلَيْهَا , لِأَنَّ الْبِشَارَة لَا تَكُون حِينَئِذٍ . يُقَال : أُحْمِيَتْ الْحَدِيدَة فِي النَّار , أَيْ أُوقِدَتْ عَلَيْهَا . وَيُقَال : أَحْمَيْته , وَلَا يُقَال : أَحْمَيْت عَلَيْهِ . وَهَاهُنَا قَالَ عَلَيْهَا , لِأَنَّهُ جَعَلَ " عَلَى " مِنْ صِلَة مَعْنَى الْإِحْمَاء , وَمَعْنَى الْإِحْمَاء الْإِيقَاد . أَيْ يُوقَد عَلَيْهَا فَتُكْوَى . الْكَيّ : إِلْصَاق الْحَارّ مِنْ الْحَدِيد وَالنَّار بِالْعُضْوِ حَتَّى يَحْتَرِق الْجِلْد . وَالْجِبَاه جَمْع الْجَبْهَة , وَهُوَ مُسْتَوَى مَا بَيْن الْحَاجِب إِلَى النَّاصِيَة . وَجَبَهْت فُلَانًا بِكَذَا , أَيْ اِسْتَقْبَلْته بِهِ وَضَرَبْت جَبْهَته . وَالْجُنُوب جَمْع الْجَنْب . وَالْكَيّ فِي الْوَجْه أَشْهَر وَأَشْنَع , وَفِي الْجَنْب وَالظَّهْر آلَم وَأَوْجَع , فَلِذَلِكَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْن سَائِر الْأَعْضَاء . وَقَالَ عُلَمَاء الصُّوفِيَّة : لَمَّا طَلَبُوا الْمَال وَالْجَاه شَانَ اللَّه وُجُوههمْ , وَلَمَّا طَوَوْا كَشْحًا عَنْ الْفَقِير إِذَا جَالَسَهُمْ كُوِيَتْ جُنُوبهمْ , وَلَمَّا أَسْنَدُوا ظُهُورهمْ إِلَى أَمْوَالهمْ ثِقَة بِهَا وَاعْتِمَادًا عَلَيْهَا كُوِيَتْ ظُهُورهمْ . وَقَالَ عُلَمَاء الظَّاهِر : إِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَعْضَاء لِأَنَّ الْغَنِيّ إِذَا رَأَى الْفَقِير زَوَى مَا بَيْن عَيْنَيْهِ وَقَبَضَ وَجْهه . كَمَا قَالَ : يَزِيد يَغُضّ الطَّرْف عَنِّي كَأَنَّمَا زَوَى بَيْن عَيْنَيْهِ عَلَيَّ الْمَحَاجِم فَلَا يَنْبَسِط مِنْ بَيْن عَيْنَيْك مَا اِنْزَوَى وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا وَأَنْفك رَاغِم وَإِذَا سَأَلَهُ طَوَى كَشْحه , وَإِذَا زَادَهُ فِي السُّؤَال وَأَكْثَر عَلَيْهِ وَلَّاهُ ظَهْره . فَرَتَّبَ اللَّه الْعُقُوبَة عَلَى حَال الْمَعْصِيَة .

وَاخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي كَيْفِيَّة الْكَيّ بِذَلِكَ , فَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ذِكْر الرَّضْف . وَفِيهِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا مِنْ صَاحِب ذَهَب وَلَا فِضَّة لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِح مِنْ نَار فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فَيُكْوَى بِهَا جَنْبه وَجَبِينه وَظَهْره كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خَمْسِينَ أَلْف سَنَة حَتَّى يُقْضَى بَيْن الْعِبَاد فَيَرَى سَبِيله إِمَّا إِلَى الْجَنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار ... ) . الْحَدِيث . وَفِي الْبُخَارِيّ : أَنَّهُ يُمَثَّل لَهُ كَنْزه شُجَاعًا أَقْرَع . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْر الصَّحِيح عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ كَانَ لَهُ مَال فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاته طُوِّقَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاعًا أَقْرَع يَنْقُر رَأْسه ... )

قُلْت : وَلَعَلَّ هَذَا يَكُون فِي مَوَاطِن : مَوْطِن يُمَثَّل الْمَال فِيهِ ثُعْبَانًا , وَمَوْطِن يَكُون صَفَائِح وَمَوْطِن يَكُون رَضْفًا . فَتَتَغَيَّر الصِّفَات وَالْجِسْمِيَّة وَاحِدَة , فَالشُّجَاع جِسْم وَالْمَال جِسْم . وَهَذَا التَّمْثِيل حَقِيقَة , بِخِلَافِ قَوْله : ( يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْش أَمْلَح ) فَإِنَّ تِلْكَ طَرِيقَة أُخْرَى , وَلِلَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَنْ يَفْعَل مَا يَشَاء . وَخَصَّ الشُّجَاع بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْعَدُوّ الثَّانِي لِلْخَلْقِ . وَالشُّجَاع مِنْ الْحَيَّات هُوَ الْحَيَّة الذَّكَر الَّذِي يُوَاثِب الْفَارِس وَالرَّاجِل , وَيَقُوم عَلَى ذَنَبه وَرُبَّمَا بَلَغَ الْفَارِس , وَيَكُون فِي الصَّحَارِي . وَقِيلَ : هُوَ الثُّعْبَان . قَالَ اللِّحْيَانِيّ : يُقَال لِلْحَيَّةِ شُجَاع , وَثَلَاثَة أَشْجِعَة , ثُمَّ شُجْعَان . وَالْأَقْرَع مِنْ الْحَيَّات هُوَ الَّذِي تَمَعَّطَ رَأْسه وَابْيَضَّ مِنْ السُّمّ . فِي الْمُوَطَّإِ : لَهُ زَبِيبَتَانِ , أَيْ نُقْطَتَانِ مُنْتَفِخَتَانِ فِي شِدْقَيْهِ كَالرَّغْوَتَيْنِ . وَيَكُون ذَلِكَ فِي شِدْقَيْ الْإِنْسَان إِذَا غَضِبَ وَأَكْثَرَ مِنْ الْكَلَام . قَالَتْ أُمّ غَيْلَان بِنْت جَرِير رُبَّمَا أَنْشَدْت أَبِي حَتَّى يَتَزَبَّب شِدْقَايَ . ضُرِبَ مَثَلًا لِلشُّجَاعِ الَّذِي كَثُرَ سُمّه فَيُمَثَّل الْمَال بِهَذَا الْحَيَوَان فَيَلْقَى صَاحِبه غَضْبَان . وَقَالَ اِبْن دُرَيْد : نُقْطَتَانِ سَوْدَاوَانِ فَوْق عَيْنَيْهِ . فِي رِوَايَة : مُثِّلَ لَهُ شُجَاع يَتْبَعهُ فَيَضْطَرّهُ فَيُعْطِيه يَده فَيَقْضِمهَا كَمَا يَقْضِم الْفَحْل . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : ( وَاَللَّه لَا يُعَذِّب اللَّه أَحَدًا بِكَنْزٍ فَيَمَسّ دِرْهَم دِرْهَمًا وَلَا دِينَار دِينَارًا , وَلَكِنْ يُوَسِّع جِلْده حَتَّى يُوضَع كُلّ دِرْهَم وَدِينَار عَلَى حِدَته ) وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحّ فِي الْكَافِر - كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث - لَا فِي الْمُؤْمِن . وَاَللَّه أَعْلَم .

أَسْنَدَ الطَّبَرِيّ إِلَى أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ : مَاتَ رَجُل مِنْ أَهْل الصُّفَّة فَوُجِدَ فِي بُرْدَته دِينَار . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَيَّة ) . ثُمَّ مَاتَ آخَر فَوُجِدَ لَهُ دِينَارَانِ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كَيَّتَانِ ) . وَهَذَا إِمَّا لِأَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ مِنْ الصَّدَقَة وَعِنْدهمَا التِّبْر , وَإِمَّا لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام , ثُمَّ قَرَّرَ الشَّرْع ضَبْط الْمَال وَأَدَاء حَقّه . وَلَوْ كَانَ ضَبْط الْمَال مَمْنُوعًا لَكَانَ حَقّه أَنْ يُخْرَج كُلّه , وَلَيْسَ فِي الْأُمَّة مَنْ يُلْزَم هَذَا . وَحَسْبك حَال الصَّحَابَة وَأَمْوَالهمْ رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي ذَرّ فَهُوَ مَذْهَب لَهُ , رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْن عُبَيْدَة عَنْ عِمْرَان بْن أَبِي أَنَس عَنْ مَالِك بْن أَوْس بْن الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ جَمَعَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّة وَلَا يَعُدّهُ لِغَرِيمٍ وَلَا يُنْفِقهُ فِي سَبِيل اللَّه فَهُوَ كَنْز يُكْوَى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة ) .

قُلْت : هَذَا الَّذِي يَلِيق بِأَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يَقُول بِهِ , وَأَنَّ مَا فَضَلَ عَنْ الْحَاجَة فَلَيْسَ بِكَنْزٍ إِذَا كَانَ مُعَدًّا لِسَبِيلِ اللَّه . وَقَالَ أَبُو أُمَامَة : مَنْ خَلَّفَ بِيضًا أَوْ صُفْرًا كُوِيَ بِهَا مَغْفُورًا لَهُ أَوْ غَيْر مَغْفُور لَهُ , أَلَا إِنَّ حِلْيَة السَّيْف مِنْ ذَلِكَ . وَرَوَى ثَوْبَان أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ رَجُل يَمُوت وَعِنْده أَحْمَر أَوْ أَبْيَض إِلَّا جَعَلَ اللَّه لَهُ بِكُلِّ قِيرَاط صَفِيحَة يُكْوَى بِهَا مِنْ فَرْقه إِلَى قَدَمه مَغْفُورًا لَهُ بَعْد ذَلِكَ أَوْ مُعَذَّبًا ) .

قُلْت : وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاته بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَة قَبْل هَذَا . فَيَكُون التَّقْدِير : وَعِنْده أَحْمَر أَوْ أَبْيَض لَمْ يُؤَدِّ زَكَاته . وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَنْ تَرَكَ عَشَرَة آلَاف جُعِلَتْ صَفَائِح يُعَذَّب بِهَا صَاحِبهَا يَوْم الْقِيَامَة . أَيْ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتهَا , لِئَلَّا تَتَنَاقَض الْأَحَادِيث . وَاَللَّه أَعْلَم .



أَيْ يُقَال لَهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ , فَحَذَفَ .



أَيْ عَذَاب مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ .
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَسورة التوبة الآية رقم 36
جَمْع شَهْر . فَإِذَا قَالَ الرَّجُل لِأَخِيهِ : لَا أُكَلِّمك الشُّهُور , وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّمهُ حَوْلًا , قَالَهُ بَعْض الْعُلَمَاء . وَقِيلَ : لَا يُكَلِّمهُ أَبَدًا . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَرَى إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة أَنْ يَقْتَضِي ذَلِكَ ثَلَاثَة أَشْهُر لِأَنَّهُ أَقَلّ الْجَمْع الَّذِي يَقْتَضِيه صِيغَة فُعُول فِي جَمْع فَعْل .


أَيْ فِي حُكْم اللَّه وَفِيمَا كَتَبَ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ .


أُعْرِبَتْ " اِثْنَا عَشَر شَهْرًا " دُون نَظَائِرهَا , لِأَنَّ فِيهَا حَرْف الْإِعْرَاب وَدَلِيله . وَقَرَأَ الْعَامَّة " عَشَر " بِفَتْحِ الْعَيْن وَالشِّين . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " عَشْر " بِجَزْمِ الشِّين .


يُرِيد اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَأَعَادَهُ بَعْد أَنْ قَالَ " عِنْد اللَّه " لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاء يُوصَف بِأَنَّهُ عِنْد اللَّه , وَلَا يُقَال إِنَّهُ مَكْتُوب فِي كِتَاب اللَّه , كَقَوْلِهِ : " إِنَّ اللَّه عِنْده عِلْم السَّاعَة " [ لُقْمَان : 34 ] .


إِنَّمَا قَالَ " يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض " لِيُبَيِّن أَنَّ قَضَاءَهُ وَقَدَره كَانَ قَبْل ذَلِكَ , وَأَنَّهُ سُبْحَانه وَضَعَ هَذِهِ الشُّهُور وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى مَا رَتَّبَهَا عَلَيْهِ يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض , وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبه الْمُنَزَّلَة . وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ عِدَّة الشُّهُور عِنْد اللَّه اِثْنَا عَشَر شَهْرًا " . وَحُكْمهَا بَاقٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُزِلْهَا عَنْ تَرْتِيبهَا تَغْيِير الْمُشْرِكِينَ لِأَسْمَائِهَا , وَتَقْدِيم الْمُقَدَّم فِي الِاسْم مِنْهَا . وَالْمَقْصُود مِنْ ذَلِكَ اِتِّبَاع أَمْر اللَّه فِيهَا وَرَفْض مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ تَأْخِير أَسْمَاء الشُّهُور وَتَقْدِيمهَا , وَتَعْلِيق الْأَحْكَام عَلَى الْأَسْمَاء الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَيْهِ , وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي خُطْبَته فِي حَجَّة الْوَدَاع : ( أَيّهَا النَّاس إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض . .. ) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ جَعْل الْمُحَرَّم صَفَرًا وَصَفَر مُحَرَّمًا لَيْسَ يَتَغَيَّر بِهِ مَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى . وَالْعَامِل فِي " يَوْم " الْمَصْدَر الَّذِي هُوَ " فِي كِتَاب اللَّه " وَلَيْسَ يَعْنِي بِهِ وَاحِد الْكُتُب , لِأَنَّ الْأَعْيَان لَا تَعْمَل فِي الظُّرُوف . وَالتَّقْدِير : فِيمَا كَتَبَ اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض . و " عِنْد " مُتَعَلِّق بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْعِدَّة , وَهُوَ الْعَامِل فِيهِ . و " فِي " مِنْ قَوْله : " فِي كِتَاب اللَّه " مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ , هُوَ صِفَة لِقَوْلِهِ : " اِثْنَا عَشَر " . وَالتَّقْدِير : اِثْنَا عَشَر شَهْرًا مَعْدُودَة أَوْ مَكْتُوبَة فِي كِتَاب اللَّه . وَلَا يَجُوز أَنْ تَتَعَلَّق بِعِدَّةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْرِقَة بَيْن الصِّلَة وَالْمَوْصُول بِخَبَرِ إِنَّ .

هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِب تَعْلِيق الْأَحْكَام مِنْ الْعِبَادَات وَغَيْرهَا إِنَّمَا يَكُون بِالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي تَعْرِفهَا الْعَرَب , دُون الشُّهُور الَّتِي تَعْتَبِرهَا الْعَجَم وَالرُّوم وَالْقِبْط وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى اِثْنَيْ عَشَر شَهْرًا , لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَة الْأَعْدَاد , مِنْهَا مَا يَزِيد عَلَى ثَلَاثِينَ وَمِنْهَا مَا يَنْقُص , وَشُهُور الْعَرَب لَا تَزِيد عَلَى ثَلَاثِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يَنْقُص , وَاَلَّذِي يَنْقُص لَيْسَ يَتَعَيَّن لَهُ شَهْر , وَإِنَّمَا تَفَاوُتهَا فِي النُّقْصَان وَالتَّمَام عَلَى حَسَب اِخْتِلَاف سَيْر الْقَمَر فِي الْبُرُوج .



الْأَشْهُر الْحُرُم الْمَذْكُورَة فِي هَذِهِ الْآيَة ذُو الْقِعْدَة وَذُو الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَرَجَب الَّذِي بَيْن جُمَادَى الْآخِرَة وَشَعْبَان , وَهُوَ رَجَب مُضَر , وَقِيلَ لَهُ رَجَب مُضَر لِأَنَّ رَبِيعَة بْن نِزَار كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْر رَمَضَان وَيُسَمُّونَهُ رَجَبًا . وَكَانَتْ مُضَر تُحَرِّم رَجَبًا نَفْسه , فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : ( الَّذِي بَيْن جُمَادَى وَشَعْبَان ) وَرَفَعَ مَا وَقَعَ فِي اِسْمه مِنْ الِاخْتِلَال بِالْبَيَانِ . وَكَانَتْ الْعَرَب أَيْضًا تُسَمِّيه مُنْصِل الْأَسِنَّة , رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي رَجَاء الْعُطَارِدِيّ - وَاسْمه عِمْرَان بْن مِلْحَان وَقِيلَ عِمْرَان بْن تَيْم - قَالَ : كُنَّا نَعْبُد الْحَجَر , فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ خَيْر مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَر , فَإِذَا لَمْ نَجِد حَجَرًا جَمَعْنَا حَثْوَة مِنْ تُرَاب ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاءِ فَحَلَبْنَا عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْر رَجَب قُلْنَا مُنْصِل الْأَسِنَّة , فَلَمْ نَدَع رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَة وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَة إِلَّا نَزَعْنَاهَا فَأَلْقَيْنَاهُ .


أَيْ الْحِسَاب الصَّحِيح وَالْعَدَد الْمُسْتَوْفَى . وَرَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : " ذَلِكَ الدِّين " أَيْ ذَلِكَ الْقَضَاء . مُقَاتِل : الْحَقّ . اِبْن عَطِيَّة : وَالْأَصْوَب عِنْدِي أَنْ يَكُون الدِّين هَاهُنَا عَلَى أَشْهَر وُجُوهه , أَيْ ذَلِكَ الشَّرْع وَالطَّاعَة . " الْقَيِّم " أَيْ الْقَائِم الْمُسْتَقِيم , مِنْ قَامَ يَقُوم . بِمَنْزِلَةِ سَيِّد , مَنْ سَادَ يَسُود . أَصْله قَيُّوم .



عَلَى قَوْل اِبْن عَبَّاس رَاجِعٌ إِلَى جَمِيع الشُّهُور . وَعَلَى قَوْل بَعْضهمْ إِلَى الْأَشْهُر الْحُرُم خَاصَّة , لِأَنَّهُ إِلَيْهَا أَقْرَب وَلَهَا مَزِيَّة فِي تَعْظِيم الظُّلْم , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق وَلَا جِدَال فِي الْحَجّ " [ الْبَقَرَة : 197 ] لَا أَنَّ الظُّلْم فِي غَيْر هَذِهِ الْأَيَّام جَائِز عَلَى مَا نُبَيِّنهُ . ثُمَّ قِيلَ : فِي الظُّلْم قَوْلَانِ : أَحَدهمَا لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسكُمْ بِالْقِتَالِ , ثُمَّ نُسِخَ بِإِبَاحَةِ الْقِتَال فِي جَمِيع الشُّهُور , قَالَهُ قَتَادَة وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَالزُّهْرِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : حَلَفَ بِاَللَّهِ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح أَنَّهُ مَا يَحِلّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الْحَرَم وَلَا فِي الْأَشْهُر الْحُرُم إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهَا , وَمَا نُسِخَتْ . وَالصَّحِيح الْأَوَّل , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا هَوَازِن بِحُنَيْنٍ وَثَقِيفًا بِالطَّائِفِ , وَحَاصَرَهُمْ فِي شَوَّال وَبَعْض ذِي الْقِعْدَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَة . الثَّانِي - لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسكُمْ بِارْتِكَابِ الذُّنُوب , لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه إِذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَة وَاحِدَة صَارَتْ لَهُ حُرْمَة وَاحِدَة وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَات صَارَتْ حُرْمَته مُتَعَدِّدَة فَيُضَاعَف فِيهِ الْعِقَاب بِالْعَمَلِ السَّيِّئ كَمَا يُضَاعَف الثَّوَاب بِالْعَمَلِ الصَّالِح . فَإِنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّه فِي الشَّهْر الْحَرَام فِي الْبَلَد الْحَرَام لَيْسَ ثَوَابه ثَوَاب مَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْر الْحَلَال فِي الْبَلَد الْحَرَام . وَمَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْر الْحَلَال فِي الْبَلَد الْحَرَام لَيْسَ ثَوَابه ثَوَاب مَنْ أَطَاعَهُ فِي شَهْر حَلَال فِي بَلَد حَلَال . وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَا نِسَاء النَّبِيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة يُضَاعَف لَهَا الْعَذَاب ضِعْفَيْنِ " [ الْأَحْزَاب : 30 ] .

وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَنْ قَتَلَ فِي الشَّهْر الْحَرَام خَطَأ , هَلْ تُغَلَّظ عَلَيْهِ الدِّيَة أَمْ لَا , فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : الْقَتْل فِي الشَّهْر الْحَرَام تُغَلَّظ فِيهِ الدِّيَة فِيمَا بَلَغَنَا وَفِي الْحَرَم فَتُجْعَل دِيَة وَثُلُثًا . وَيُزَاد فِي شَبَه الْعَمْد فِي أَسْنَان الْإِبِل . قَالَ الشَّافِعِيّ : تُغَلَّظ الدِّيَة فِي النَّفْس وَفِي الْجِرَاح فِي الشَّهْر الْحَرَام وَفِي الْبَلَد الْحَرَام وَذَوِي الرَّحِم . وَرُوِيَ عَنْ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَسَالِم بْن عَبْد اللَّه وَابْن شِهَاب وَأَبَان بْن عُثْمَان : مَنْ قَتَلَ فِي الشَّهْر الْحَرَام أَوْ فِي الْحَرَم زِيدَ عَلَى دِيَته مِثْل ثُلُثهَا . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان أَيْضًا . وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا وَابْن أَبِي لَيْلَى : الْقَتْل فِي الْحِلّ وَالْحَرَم سَوَاء , وَفِي الشَّهْر الْحَرَام وَغَيْره سَوَاء , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ . وَهُوَ الصَّحِيح , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الدِّيَات وَلَمْ يَذْكُر فِيهَا الْحَرَم وَلَا الشَّهْر الْحَرَام . وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْكَفَّارَة عَلَى مَنْ قَتَلَ خَطَأ فِي الشَّهْر الْحَرَام وَغَيْره سَوَاء . فَالْقِيَاس أَنْ تَكُون الدِّيَة كَذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَم .

خَصَّ اللَّه تَعَالَى الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر الْحُرُم بِالذِّكْرِ , وَنَهَى عَنْ الظُّلْم فِيهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلّ الزَّمَان . كَمَا قَالَ : " فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق وَلَا جِدَال فِي الْحَجّ " [ الْبَقَرَة : 197 ] عَلَى هَذَا أَكْثَر أَهْل التَّأْوِيل . أَيْ لَا تَظْلِمُوا فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر أَنْفُسكُمْ . وَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد عَنْ يُوسُف بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : " فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسكُمْ " فِي الِاثْنَيْ عَشَر . وَرَوَى قَيْس بْن مُسْلِم عَنْ الْحَسَن عَنْ مُحَمَّد اِبْن الْحَنَفِيَّة قَالَ : فِيهِنَّ كُلّهنَّ . فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل : لِمَ قَالَ فِيهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَب يَقُولُونَ لِمَا بَيْن الثَّلَاثَة إِلَى الْعَشَرَة : هُنَّ وَهَؤُلَاءِ فَإِذَا جَاوَزُوا الْعَشَرَة قَالُوا : هِيَ وَهَذِهِ , إِرَادَة أَنْ تُعْرَف تَسْمِيَة الْقَلِيل مِنْ الْكَثِير . وَرُوِيَ عَنْ الْكِسَائِيّ أَنَّهُ قَالَ : إِنِّي لَأَتَعَجَّب مِنْ فِعْل الْعَرَب هَذَا . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا دُون الْعَشَرَة مِنْ اللَّيَالِي : خَلَوْنَ . وَفِيمَا فَوْقهَا خَلَتْ . لَا يُقَال : كَيْفَ جَعَلَ بَعْض الْأَزْمِنَة أَعْظَم حُرْمَة مِنْ بَعْض , فَإِنَّا نَقُول : لِلْبَارِئ تَعَالَى أَنْ يَفْعَل مَا يَشَاء , وَيَخُصّ بِالْفَضِيلَةِ مَا يَشَاء , لَيْسَ لِعَمَلِهِ عِلَّة وَلَا عَلَيْهِ حَجْر , بَلْ يَفْعَل مَا يُرِيد بِحِكْمَتِهِ , وَقَدْ تَظْهَر فِيهِ الْحِكْمَة وَقَدْ تَخْفَى .




" قَاتِلُوا " أَمْر بِالْقِتَالِ . و " كَافَّة " مَعْنَاهُ جَمِيعًا , وَهُوَ مَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال . أَيْ مُحِيطِينَ بِهِمْ وَمُجْتَمَعِينَ . قَالَ الزَّجَّاج : مِثْل هَذَا مِنْ الْمَصَادِر عَافَاهُ اللَّه عَافِيَة وَعَاقَبَهُ عَاقِبَة . وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَع , وَكَذَا عَامَّة وَخَاصَّة . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : كَانَ الْغَرَض بِهَذِهِ الْآيَة قَدْ تَوَجَّهَ عَلَى الْأَعْيَان ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَجُعِلَ فَرْض كِفَايَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَمْ يُعْلَم قَطُّ مِنْ شَرْع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَلْزَمَ الْأُمَّة جَمِيعًا النَّفْر , وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة الْحَضّ عَلَى قِتَالهمْ وَالتَّحَزُّب عَلَيْهِمْ وَجَمَعَ الْكَلِمَة ثُمَّ قَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ : " كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة " فَبِحَسَبِ قِتَالهمْ وَاجْتِمَاعهمْ لَنَا يَكُون فَرْض اِجْتِمَاعنَا لَهُمْ . وَاَللَّه أَعْلَم .
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَسورة التوبة الآية رقم 37
هَكَذَا يَقْرَأ أَكْثَر الْأَئِمَّة . قَالَ النَّحَّاس : وَلَمْ يَرْوِ أَحَد عَنْ نَافِع فِيمَا عَلِمْنَاهُ " إِنَّمَا النَّسْي " بِلَا هَمْز إِلَّا وَرْشٌ وَحْده . وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ نَسَأَهُ وَأَنْسَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ , حَكَى اللُّغَتَيْنِ الْكِسَائِيّ . الْجَوْهَرِيّ : النَّسِيء فَعِيل بِمَعْنَى مَفْعُول , مِنْ قَوْلك : نَسَأْت الشَّيْء فَهُوَ مَنْسُوء إِذَا أَخَّرْته . ثُمَّ يُحَوَّل مَنْسُوء إِلَى نَسِيء كَمَا يُحَوَّل مَقْتُول إِلَى قَتِيل . وَرَجُل نَاسِئ وَقَوْم نَسَأَة , مِثْل فَاسِق وَفَسَقَة . قَالَ الطَّبَرِيّ : النَّسِيء بِالْهَمْزَةِ مَعْنَاهُ الزِّيَادَة نَسَأَ يَنْسَأ إِذَا زَادَ . قَالَ : وَلَا يَكُون بِتَرْكِ الْهَمْز إِلَّا مِنْ النِّسْيَان , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ " [ التَّوْبَة : 67 ] , وَرَدَّ عَلَى نَافِع قِرَاءَته , وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرّ يُقَال : نَسَأَ اللَّه فِي أَجَلك كَمَا تَقُول زَادَ اللَّه فِي أَجَلك , وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَط لَهُ فِي رِزْقه وَيُنْسَأ لَهُ فِي أَثَره فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ) . قَالَ الْأَزْهَرِيّ : أَنْسَأْت الشَّيْء إِنْسَاء وَنَسِيئًا اِسْم وُضِعَ مَوْضِع الْمَصْدَر الْحَقِيقِيّ . وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْقِتَال فِي الْمُحَرَّم فَإِذَا اِحْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ حَرَّمُوا صَفَرًا بَدَله وَقَاتَلُوا فِي الْمُحَرَّم . وَسَبَب ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ أَصْحَاب حُرُوب وَغَارَات فَكَانَ يَشُقّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْكُثُوا ثَلَاثَة أَشْهُر مُتَوَالِيَة لَا يُغِيرُونَ فِيهَا , وَقَالُوا : لَئِنْ تَوَالَتْ عَلَيْنَا ثَلَاثَة أَشْهُر لَا نُصِيب فِيهَا شَيْئًا لَنَهْلِكَنَّ . فَكَانُوا إِذَا صَدَرُوا عَنْ مِنًى يَقُوم مِنْ بَنِي كِنَانَة , ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْم مِنْهُمْ رَجُل يُقَال لَهُ الْقَلَمَّس , فَيَقُول أَنَا الَّذِي لَا يُرَدّ لِي قَضَاء . فَيَقُولُونَ : أَنْسِئْنَا شَهْرًا , أَيْ أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَة الْمُحَرَّم وَاجْعَلْهَا فِي صَفَر , فَيُحِلّ لَهُمْ الْمُحَرَّم . فَكَانُوا كَذَلِكَ شَهْرًا فَشَهْرًا حَتَّى اِسْتَدَارَ التَّحْرِيم عَلَى السَّنَة كُلّهَا . فَقَامَ الْإِسْلَام وَقَدْ رَجَعَ الْمُحَرَّم إِلَى مَوْضِعه الَّذِي وَضَعَهُ اللَّه فِيهِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض ) . وَقَالَ مُجَاهِد : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ فِي كُلّ شَهْر عَامَيْنِ , فَحَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّة عَامَيْنِ , ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّم عَامَيْنِ , ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَر عَامَيْنِ , وَكَذَلِكَ فِي الشُّهُور كُلّهَا حَتَّى وَافَقَتْ حَجَّة أَبِي بَكْر الَّتِي حَجَّهَا قَبْل حَجَّة الْوَدَاع ذَا الْقِعْدَة مِنْ السَّنَة التَّاسِعَة . ثُمَّ حَجَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَام الْمُقْبِل حَجَّة الْوَدَاع فَوَافَقَتْ ذَا الْحِجَّة , فَذَلِكَ قَوْله فِي خُطْبَته : ( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ ... ) الْحَدِيث . أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ أَشْهُر الْحَجّ رَجَعَتْ إِلَى مَوَاضِعهَا , وَعَادَ الْحَجّ إِلَى ذِي الْحِجَّة وَبَطَلَ النَّسِيء . وَقَوْل ثَالِث . قَالَ إِيَاس بْن مُعَاوِيَة : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْسِبُونَ السَّنَة اِثْنَيْ عَشَر شَهْرًا وَخَمْسَة عَشَر يَوْمًا , فَكَانَ الْحَجّ يَكُون فِي رَمَضَان وَفِي ذِي الْقِعْدَة , وَفِي كُلّ شَهْر مِنْ السَّنَة بِحُكْمِ اِسْتِدَارَة الشَّهْر بِزِيَادَةِ الْخَمْسَة عَشَر يَوْمًا فَحَجَّ أَبُو بَكْر سَنَة تِسْع فِي ذِي الْقِعْدَة بِحُكْمِ الِاسْتِدَارَة , وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمُقْبِل وَافَقَ الْحَجّ ذَا الْحِجَّة فِي الْعَشْر , وَوَافَقَ ذَلِكَ الْأَهِلَّة . وَهَذَا الْقَوْل أَشْبَه بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ ... ) أَيْ زَمَان الْحَجّ عَادَ إِلَى وَقْته الْأَصْلِيّ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض بِأَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّة الَّتِي سَبَقَ بِهَا عِلْمه , وَنَفَذَ بِهَا حُكْمه . ثُمَّ قَالَ : السَّنَة اِثْنَا عَشَر شَهْرًا . يَنْفِي بِذَلِكَ الزِّيَادَة الَّتِي زَادُوهَا فِي السَّنَة - وَهِيَ الْخَمْسَة عَشَر يَوْمًا - بِتَحَكُّمِهِمْ , فَتَعَيَّنَ الْوَقْت الْأَصْلِيّ وَبَطَلَ التَّحَكُّم الْجَهْلِيّ . وَحَكَى الْإِمَام الْمَازِرِيّ عَنْ الْخَوَارِزِمِيّ أَنَّهُ قَالَ : أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه الشَّمْس أَجْرَاهَا فِي بُرْج الْحَمَل , وَكَانَ الزَّمَان الَّذِي أَشَارَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادَفَ حُلُول الشَّمْس بُرْج الْحَمَل . وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى تَوْقِيف , فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلَّا بِالنَّقْلِ عَنْ الْأَنْبِيَاء , وَلَا نَقْل صَحِيحًا عَنْهُمْ بِذَلِكَ , وَمَنْ اِدَّعَاهُ فَلْيُسْنِدْهُ . ثُمَّ إِنَّ الْعَقْل يُجَوِّز خِلَاف مَا قَالَ , وَهُوَ أَنْ يَخْلُق اللَّه الشَّمْس قَبْل الْبُرُوج , وَيَجُوز أَنْ يَخْلُق ذَلِكَ كُلّه دَفْعَة وَاحِدَة . ثُمَّ إِنَّ عُلَمَاء التَّعْدِيل قَدْ اِخْتَبَرُوا ذَلِكَ فَوَجَدُوا الشَّمْس فِي بُرْج الْحُوت وَقْت قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ ... ) بَيْنهَا وَبَيْن الْحَمَل عِشْرُونَ دَرَجَة . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَشْر دَرَجَات . وَاَللَّه أَعْلَم . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي أَوَّل مَنْ نَسَأَ , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك : بَنُو مَالِك بْن كِنَانَة , وَكَانُوا ثَلَاثَة . وَرَوَى جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ أَوَّل مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْرو بْن لُحَيّ بْن قَمَعَة بْن خِنْدِف . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : أَوَّل مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُل مِنْ بَنِي كِنَانَة يُقَال لَهُ نُعَيْم بْن ثَعْلَبَة , ثُمَّ كَانَ بَعْده رَجُل يُقَال لَهُ : جُنَادَة بْن عَوْف , وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : حَيّ مِنْ بَنِي كِنَانَة ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْم مِنْهُمْ رَجُل يُقَال لَهُ الْقَلَمَّس وَاسْمه حُذَيْفَة بْن عُبَيْد . وَفِي رِوَايَة : مَالِك بْن كِنَانَة . وَكَانَ الَّذِي يَلِي النَّسِيء يَظْفَر بِالرِّيَاسَةِ لِتَرَيُّسِ الْعَرَب إِيَّاهُ . وَفِي ذَلِكَ يَقُول شَاعِرهمْ : وَمِنَّا نَاسِئ الشَّهْر الْقَلَمَّس وَقَالَ الْكُمَيْت : أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ شُهُور الْحِلّ نَجْعَلهَا حَرَامًا


بَيَان لِمَا فَعَلَتْهُ الْعَرَب مِنْ جَمْعهَا مِنْ أَنْوَاع الْكُفْر فَإِنَّهَا أَنْكَرَتْ وُجُود الْبَارِئ تَعَالَى فَقَالَتْ : " وَمَا الرَّحْمَن " [ الْفُرْقَان : 60 ] فِي أَصَحّ الْوُجُوه . وَأَنْكَرَتْ الْبَعْث فَقَالَتْ : " قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَام وَهِيَ رَمِيم " [ يس : 78 ] . وَأَنْكَرَتْ بَعْثَة الرُّسُل فَقَالُوا : " أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعهُ " [ الْقَمَر : 24 ] . وَزَعَمَتْ أَنَّ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم إِلَيْهَا , فَابْتَدَعَتْهُ مِنْ ذَاتهَا مُقْتَفِيَة لِشَهَوَاتِهَا فَأَحَلَّتْ مَا حَرَّمَ اللَّه . وَلَا مُبَدِّل لِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ .


فِيهِ ثَلَاث قِرَاءَات . قَرَأَ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرو " يَضِلّ " وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " يُضَلّ " عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول . وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو رَجَاء " يُضِلّ " وَالْقِرَاءَات الثَّلَاث كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا تُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى , إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَة الثَّالِثَة حُذِفَ مِنْهَا الْمَفْعُول . وَالتَّقْدِير : وَيُضِلّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا مَنْ يَقْبَل مِنْهُمْ . و " الَّذِينَ " فِي مَحَلّ رَفْع . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الضَّمِير رَاجِعًا إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . التَّقْدِير : يُضِلّ اللَّه بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " يُضِلّ مَنْ يَشَاء " [ الرَّعْد : 27 ] , وَكَقَوْلِهِ فِي آخِر الْآيَة : " وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الْكَافِرِينَ " . وَالْقِرَاءَة الثَّانِيَة " يُضَلّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا " يَعْنِي الْمَحْسُوب لَهُمْ , وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَة أَبُو عُبَيْد , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " زُيِّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالهمْ " . وَالْقِرَاءَة الْأُولَى اِخْتَارَهَا أَبُو حَاتِم ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ بِهِ أَيْ بِالنَّسِيءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسِبُونَهُ فَيَضِلُّونَ بِهِ . وَالْهَاء فِي " يُحِلُّونَهُ " تَرْجِع إِلَى النَّسِيء . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَجَاء " يَضَلّ " بِفَتْحِ الْيَاء وَالضَّاد . وَهِيَ لُغَة , يُقَال : ضَلِلْت أَضَلّ , وَضَلَلْت أَضِلّ . " لِيُوَاطِئُوا " نُصِبَ بِلَامِ كَيْ أَيْ لِيُوَافِقُوا . تَوَاطَأَ الْقَوْم عَلَى كَذَا أَيْ اِجْتَمَعُوا عَلَيْهِ , أَيْ لَمْ يُحِلُّوا شَهْرًا إِلَّا حَرَّمُوا شَهْرًا لِتَبْقَى الْأَشْهُر الْحُرُم أَرْبَعَة . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , لَا مَا يُذْكَر أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَشْهُر خَمْسَة . قَالَ قَتَادَة : إِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى صَفَر فَزَادُوهُ فِي الْأَشْهُر الْحُرُم , وَقَرَنُوهُ بِالْمُحَرَّمِ فِي التَّحْرِيم , وَقَالَهُ عَنْهُ قُطْرُب وَالطَّبَرِيّ . وَعَلَيْهِ يَكُون النَّسِيء بِمَعْنَى الزِّيَادَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌسورة التوبة الآية رقم 38
" مَا " حَرْف اِسْتِفْهَام مَعْنَاهُ التَّقْرِير وَالتَّوْبِيخ التَّقْدِير : أَيّ شَيْء يَمْنَعكُمْ عَنْ كَذَا كَمَا تَقُول : مَا لَك عَنْ فُلَان مُعْرِضًا . وَلَا خِلَاف أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ عِتَابًا عَلَى تَخَلُّف مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك , وَكَانَتْ سَنَة تِسْع مِنْ الْهِجْرَة بَعْد الْفَتْح بِعَامٍ , وَسَيَأْتِي ذِكْرهَا فِي آخِر السُّورَة إِنْ شَاءَ اللَّه . وَالنَّفْر : هُوَ التَّنَقُّل بِسُرْعَةٍ مِنْ مَكَان إِلَى مَكَان لِأَمْرٍ يَحْدُث , يُقَال فِي اِبْن آدَم : نَفَرَ إِلَى الْأَمْر يَنْفِر نُفُورًا . وَقَوْم نُفُور , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارهمْ نُفُورًا " [ الْإِسْرَاء : 46 ] . وَيُقَال فِي الدَّابَّة : نَفَرَتْ تَنْفُر - بِضَمِّ الْفَاء وَكَسْرهَا - نِفَارًا وَنُفُورًا . يُقَال : فِي الدَّابَّة نِفَار , وَهُوَ اِسْم مِثْل الْحِرَان . وَنَفَرَ الْحَاجّ مِنْ مِنًى نَفْرًا .



قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : مَعْنَاهُ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى نَعِيم الْأَرْض , أَوْ إِلَى الْإِقَامَة بِالْأَرْضِ . وَهُوَ تَوْبِيخ عَلَى تَرْك الْجِهَاد وَعِتَاب عَلَى التَّقَاعُد عَنْ الْمُبَادَرَة إِلَى الْخُرُوج , وَهُوَ نَحْو مِنْ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْض . وَأَصْله تَثَاقَلْتُمْ , أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الثَّاء لِقُرْبِهَا مِنْهَا , وَاحْتَاجَتْ إِلَى أَلِف الْوَصْل لِتَصِل إِلَى النُّطْق بِالسَّاكِنِ , وَمِثْله " ادَّارَكُوا " [ الْأَعْرَاف : 38 ] و " اِدَّارَأْتُمْ " [ الْبَقَرَة : 72 ] و " اِطَّيَّرْنَا " [ النَّمْل : 47 ] و " اِزَّيَّنَتْ " [ يُونُس : 24 ] . وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيّ : تُولِي الضَّجِيع إِذَا مَا اِسْتَافَهَا خَصِرًا عَذْب الْمَذَاق إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَل وَقَرَأَ الْأَعْمَش " تَثَاقَلْتُمْ " عَلَى الْأَصْل . حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ . وَكَانَتْ تَبُوك - وَدَعَا النَّاس إِلَيْهَا - فِي حَرَارَة الْقَيْظ وَطِيب الثِّمَار وَبَرْد الظِّلَال - كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي - فَاسْتَوْلَى عَلَى النَّاس الْكَسَل فَتَقَاعَدُوا وَتَثَاقَلُوا فَوَبَّخَهُمْ اللَّه بِقَوْلِهِ هَذَا وَعَابَ عَلَيْهِمْ الْإِيثَار لِلدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَة .


أَيْ بَدَلًا , التَّقْدِير : أَرَضِيتُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنْ نَعِيم الْآخِرَة ف " مِنْ " تَتَضَمَّن مَعْنَى الْبَدَل , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَة فِي الْأَرْض يَخْلُفُونَ " [ الزُّخْرُف : 60 ] أَيْ بَدَلًا مِنْكُمْ . وَقَالَ الشَّاعِر : فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاء زَمْزَم شَرْبَة مُبَرَّدَة بَاتَتْ عَلَى طَهَيَان وَيُرْوَى مِنْ مَاء حَمْنَان . أَرَادَ : لَيْتَ لَنَا بَدَلًا مِنْ مَاء زَمْزَم شَرْبَة مُبَرَّدَة . وَالطَّهَيَان : عُود يُنْصَب فِي نَاحِيَة الدَّار لِلْهَوَاءِ , يُعَلَّق عَلَيْهِ الْمَاء حَتَّى يَبْرُد . عَاتَبَهُمْ اللَّه عَلَى إِيثَار الرَّاحَة فِي الدُّنْيَا عَلَى الرَّاحَة فِي الْآخِرَة , إِذْ لَا تُنَال رَاحَة الْآخِرَة إِلَّا بِنَصَبِ الدُّنْيَا . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة وَقَدْ طَافَتْ رَاكِبَة : ( أَجْرك عَلَى قَدْر نَصَبك ) . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ .
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة التوبة الآية رقم 39
" إِلَّا تَنْفِرُوا " شَرْط , فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّون . وَالْجَوَاب " يُعَذِّبكُمْ " , " وَيَسْتَبْدِل قَوْمًا غَيْركُمْ " وَهَذَا تَهْدِيد شَدِيد وَوَعِيد مُؤَكَّد فِي تَرْك النَّفِير . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمِنْ مُحَقَّقَات الْأُصُول أَنَّ الْأَمْر إِذَا وَرَدَ فَلَيْسَ فِي وُرُوده أَكْثَر مِنْ اِقْتِضَاء الْفِعْل . فَأَمَّا الْعِقَاب عِنْد التَّرْك فَلَا يُؤْخَذ مِنْ نَفْس الْأَمْر وَلَا يَقْتَضِيه الِاقْتِضَاء , وَإِنَّمَا يَكُون الْعِقَاب بِالْخَبَرِ عَنْهُ , كَقَوْلِهِ : إِنْ لَمْ تَفْعَل كَذَا عَذَّبْتُك بِكَذَا , كَمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَة . فَوَجَبَ بِمُقْتَضَاهَا النَّفِير لِلْجِهَادِ وَالْخُرُوج إِلَى الْكُفَّار لِمُقَاتَلَتِهِمْ عَلَى أَنْ تَكُون كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا . رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : " إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " و " مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَة - إِلَى قَوْله - يَعْمَلُونَ " [ التَّوْبَة : 120 ] نَسَخَتْهَا الْآيَة الَّتِي تَلِيهَا : " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة " [ التَّوْبَة : 122 ] . وَهُوَ قَوْل الضَّحَّاك وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة . " يُعَذِّبكُمْ " قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ حَبْس الْمَطَر عَنْهُمْ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ فَهُوَ أَعْلَم مِنْ أَيْنَ قَالَهُ , وَإِلَّا فَالْعَذَاب الْأَلِيم هُوَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِيلَاءِ الْعَدُوّ وَبِالنَّارِ فِي الْآخِرَة .

قُلْت : قَوْل اِبْن عَبَّاس خَرَّجَهُ الْإِمَام أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه عَنْ اِبْن نُفَيْع قَالَ : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ هَذِهِ الْآيَة " إِنْ تَنْفِرُوا يُعَذِّبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " قَالَ : فَأَمْسَكَ عَنْهُمْ الْمَطَر فَكَانَ عَذَابهمْ . وَذَكَرَهُ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة مَرْفُوعًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : اِسْتَنْفَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِيلَة مِنْ الْقَبَائِل فَقَعَدَتْ , فَأَمْسَكَ اللَّه عَنْهُمْ الْمَطَر وَعَذَّبَهَا بِهِ .



بِمَعْنَى مُؤْلِم , أَيْ مُوجِع . وَقَدْ تَقَدَّمَ .


تَوَعَّدَ بِأَنْ يُبَدِّل لِرَسُولِهِ قَوْمًا لَا يَقْعُدُونَ عِنْد اِسْتِنْفَاره إِيَّاهُمْ . قِيلَ : أَبْنَاء فَارِس . وَقِيلَ : أَهْل الْيَمَن .


عَطْف . وَالْهَاء قِيلَ لِلَّهِ تَعَالَى , وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالتَّثَاقُل عَنْ الْجِهَاد مَعَ إِظْهَار الْكَرَاهَة حَرَام عَلَى كُلّ أَحَد . فَأَمَّا مِنْ غَيْر كَرَاهَة فَمَنْ عَيَّنَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّثَاقُل وَإِنْ أَمِنَ مِنْهُمَا فَالْفَرْض فَرْض كِفَايَة , ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة وُجُوب النَّفِير عِنْد الْحَاجَة وَظُهُور الْكَفَرَة وَاشْتِدَاد شَوْكَتهمْ . وَظَاهِر الْآيَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْه الِاسْتِدْعَاء فَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِه الْحَمْل عَلَى وَقْت ظُهُور الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ وُجُوب ذَلِكَ لَا يَخْتَصّ بِالِاسْتِدْعَاءِ , لِأَنَّهُ مُتَعَيِّن . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالِاسْتِدْعَاء وَالِاسْتِنْفَار يَبْعُد أَنْ يَكُون مُوجِبًا شَيْئًا لَمْ يَجِب مِنْ قَبْل إِلَّا أَنَّ الْإِمَام إِذَا عَيَّنَ قَوْمًا وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْجِهَاد لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَتَثَاقَلُوا عِنْد التَّعْيِين وَيَصِير بِتَعْيِينِهِ فَرْضًا عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ لَا لِمَكَانِ الْجِهَاد وَلَكِنْ لِطَاعَةِ الْإِمَام . وَاَللَّه أَعْلَم .
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌسورة التوبة الآية رقم 40
يَقُول : تُعِينُوهُ بِالنَّفْرِ مَعَهُ فِي غَزْوَة تَبُوك . عَاتَبَهُمْ اللَّه بَعْد اِنْصِرَاف نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ تَبُوك . قَالَ النَّقَّاش : هَذِهِ أَوَّل آيَة نَزَلَتْ مِنْ سُورَة [ بَرَاءَة ] وَالْمَعْنَى : إِنْ تَرَكْتُمْ نَصْره فَاَللَّه يَتَكَفَّل بِهِ , إِذْ قَدْ نَصَرَهُ اللَّه فِي مَوَاطِن الْقِلَّة وَأَظْهَرَهُ عَلَى عَدُوّهُ بِالْغَلَبَةِ وَالْعِزَّة . وَقِيلَ : فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّه بِصَاحِبِهِ فِي الْغَار بِتَأْنِيسِهِ لَهُ وَحَمْله عَلَى عُنُقه , وَبِوَفَاتِهِ وَوِقَايَته لَهُ بِنَفْسِهِ وَمُوَاسَاته لَهُ بِمَالِهِ . قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد : مَا صَحِبَ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام مِثْل أَبِي بَكْر الصِّدِّيق . وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة . خَرَجَ أَبُو بَكْر بِهَذِهِ الْآيَة مِنْ الْمُعَاتَبَة الَّتِي فِي قَوْله : " إِلَّا تَنْصُرُوهُ "


وَهُوَ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَارًّا , لَكِنْ بِإِلْجَائِهِمْ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَهُ , فَنَسَبَ الْفِعْل إِلَيْهِمْ وَرَتَّبَ الْحُكْم فِيهِ عَلَيْهِمْ , فَلِهَذَا يُقْتَل الْمُكْرِه عَلَى الْقَتْل وَيَضْمَن الْمَال الْمُتْلَف بِالْإِكْرَاهِ , لِإِلْجَائِهِ الْقَاتِل وَالْمُتْلِف إِلَى الْقَتْل وَالْإِتْلَاف .


أَيْ أَحَد اِثْنَيْنِ . وَهَذَا كَثَالِثِ ثَلَاثَة وَرَابِع أَرْبَعَة . فَإِذَا اِخْتَلَفَ اللَّفْظ فَقُلْت رَابِع ثَلَاثَة وَخَامِس أَرْبَعَة , فَالْمَعْنَى صَيَّرَ الثَّلَاثَة أَرْبَعَة بِنَفْسِهِ وَالْأَرْبَعَة خَمْسَة . وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْحَال , أَيْ أَخْرَجُوهُ مُنْفَرِدًا مِنْ جَمِيع النَّاس إِلَّا مِنْ أَبِي بَكْر . وَالْعَامِل فِيهَا " نَصَرَهُ اللَّه " أَيْ نَصَرَهُ مُنْفَرِدًا وَنَصَرَهُ أَحَد اِثْنَيْنِ . وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : التَّقْدِير فَخَرَجَ ثَانِي اِثْنَيْنِ , مِثْل " وَاَللَّه أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْض نَبَاتًا " [ نُوح : 17 ] . وَقَرَأَ جُمْهُور النَّاس " ثَانِيَ " بِنَصْبِ الْيَاء . قَالَ أَبُو حَاتِم : لَا يُعْرَف غَيْر هَذَا . وَقَرَأَتْ فِرْقَة " ثَانِي " بِسُكُونِ الْيَاء . قَالَ اِبْن جِنِّي : حَكَاهَا أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء وَوَجْهه أَنَّهُ سَكَّنَ الْيَاء تَشْبِيهًا لَهَا بِالْأَلِفِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَهِيَ كَقِرَاءَةِ الْحَسَن " مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا " وَكَقَوْلِ جَرِير : هُوَ الْخَلِيفَة فَارْضَوْا مَا رَضِيَ لَكُمُ مَاضِي الْعَزِيمَة مَا فِي حُكْمه جَنَفَ



الْغَار : ثُقْب فِي الْجَبَل , يَعْنِي غَار ثَوْر . وَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارُوا إِلَى الْمَدِينَة قَالُوا : هَذَا شَرّ شَاغِل لَا يُطَاق , فَأَجْمَعُوا أَمْرهمْ عَلَى قَتْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَبَيَّتُوهُ وَرَصَدُوهُ عَلَى بَاب مَنْزِله طُول لَيْلَتهمْ لِيَقْتُلُوهُ إِذَا خَرَجَ , فَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب أَنْ يَنَام عَلَى فِرَاشه , وَدَعَا اللَّه أَنْ يُعَمِّي عَلَيْهِمْ أَثَره , فَطَمَسَ اللَّه عَلَى أَبْصَارهمْ فَخَرَجَ وَقَدْ غَشِيَهُمْ النَّوْم , فَوَضَعَ عَلَى رُءُوسهمْ تُرَابًا وَنَهَضَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا خَرَجَ عَلَيْهِمْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ لَيْسَ فِي الدَّار أَحَد فَعَلِمُوا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَاتَ وَنَجَا وَتَوَاعَدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق لِلْهِجْرَةِ , فَدَفَعَا رَاحِلَتَيْهِمَا إِلَى عَبْد اللَّه بْن أَرْقَط . وَيُقَال اِبْن أُرَيْقِط , وَكَانَ كَافِرًا لَكِنَّهُمَا وَثِقَا بِهِ , وَكَانَ دَلِيلًا بِالطُّرُقِ فَاسْتَأْجَرَاهُ لِيَدُلّ بِهِمَا إِلَى الْمَدِينَة وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَوْخَة فِي ظَهْر دَار أَبِي بَكْر الَّتِي فِي بَنِي جُمَح وَنَهَضَا نَحْو الْغَار فِي جَبَل ثَوْر , وَأَمَرَ أَبُو بَكْر اِبْنه عَبْد اللَّه أَنْ يَسْتَمِع مَا يَقُول النَّاس , وَأَمَرَ مَوْلَاهُ عَامِر بْن فُهَيْرَة أَنْ يَرْعَى غَنَمه وَيُرِيحهَا عَلَيْهِمَا لَيْلًا فَيَأْخُذ مِنْهَا حَاجَتهمَا . ثُمَّ نَهَضَا فَدَخَلَا الْغَار . وَكَانَتْ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر الصِّدِّيق تَأْتِيهِمَا بِالطَّعَامِ وَيَأْتِيهِمَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بِالْأَخْبَارِ , ثُمَّ يَتْلُوهُمَا عَامِر بْن فُهَيْرَة بِالْغَنَمِ فَيُعَفِّي آثَارهمَا . فَلَمَّا فَقَدَتْهُ قُرَيْش جَعَلَتْ تَطْلُبهُ بِقَائِفٍ مَعْرُوف بِقِفَاءِ الْأَثَر , حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْغَار فَقَالَ : هُنَا اِنْقَطَعَ الْأَثَر . فَنَظَرُوا فَإِذَا بِالْعَنْكَبُوتِ قَدْ نَسَجَ عَلَى فَم الْغَار مِنْ سَاعَته , وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْله فَلَمَّا رَأَوْا نَسْج الْعَنْكَبُوت أَيْقَنُوا أَنْ لَا أَحَد فِيهِ فَرَجَعُوا وَجَعَلُوا فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَة نَاقَة لِمَنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ الْخَبَر مَشْهُور , وَقِصَّة سُرَاقَة بْن مَالِك بْن جُعْشُم فِي ذَلِكَ مَذْكُورَة . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء وَثَوْبَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ حَمَامَة فَبَاضَتْ عَلَى نَسْج الْعَنْكَبُوت , وَجَعَلَتْ تَرْقُد عَلَى بِيضهَا , فَلَمَّا نَظَرَ الْكُفَّار إِلَيْهَا رَدَّهُمْ ذَلِكَ عَنْ الْغَار .

رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : اِسْتَأْجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر رَجُلًا مِنْ بَنِي الدَّيْل هَادِيًا خِرِّيتًا وَهُوَ عَلَى دِين كُفَّار قُرَيْش فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَار ثَوْر بَعْد ثَلَاث لَيَالٍ فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَة ثَلَاث فَارْتَحَلَا وَارْتَحَلَ مَعَهُمَا عَامِر بْن فُهَيْرَة وَالدَّلِيل الدَّيْلِيّ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيق السَّاحِل .

قَالَ الْمُهَلِّب : فِيهِ مِنْ الْفِقْه اِئْتِمَان أَهْل الشِّرْك عَلَى السِّرّ وَالْمَال إِذَا عُلِمَ مِنْهُمْ وَفَاء وَمُرُوءَة كَمَا اِئْتَمَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمُشْرِك عَلَى سِرّه فِي الْخُرُوج مِنْ مَكَّة وَعَلَى النَّاقَتَيْنِ . وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فِيهِ اِسْتِئْجَار الْمُسْلِمِينَ الْكُفَّار عَلَى هِدَايَة الطَّرِيق . وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَرْجَمَته : [ بَاب اِسْتِئْجَار الْمُشْرِكِينَ عِنْد الضَّرُورَة أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَد أَهْل الْإِسْلَام ] قَالَ اِبْن بَطَّال : إِنَّمَا قَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَرْجَمَته [ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَد أَهْل الْإِسْلَام ] مِنْ أَجْل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا عَامَلَ أَهْل خَيْبَر عَلَى الْعَمَل فِي أَرْضهَا إِذْ لَمْ يُوجَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَنُوب مَنَابهمْ فِي عَمَل الْأَرْض , حَتَّى قَوِيَ الْإِسْلَام وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُمْ أَجْلَاهُمْ عُمَر . وَعَامَّة الْفُقَهَاء يُجِيزُونَ اِسْتِئْجَارهمْ عِنْد الضَّرُورَة وَغَيْرهَا . وَفِيهِ : اِسْتِئْجَار الرَّجُلَيْنِ الرَّجُل الْوَاحِد عَلَى عَمَل وَاحِد لَهُمَا . وَفِيهِ : دَلِيل عَلَى جَوَاز الْفِرَار بِالدَّيْنِ خَوْفًا مِنْ الْعَدُوّ , وَالِاسْتِخْفَاء فِي الْغِيرَان وَغَيْرهَا أَلَّا يُلْقِي الْإِنْسَان بِيَدِهِ إِلَى الْعَدُوّ تَوَكُّلًا عَلَى اللَّه وَاسْتِسْلَامًا لَهُ . وَلَوْ شَاءَ رَبّكُمْ لَعَصَمَهُ مَعَ كَوْنه مَعَهُمْ وَلَكِنَّهَا سُنَّة اللَّه فِي الْأَنْبِيَاء وَغَيْرهمْ , وَلَنْ تَجِد لِسُنَّةِ اللَّه تَبْدِيلًا . وَهَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى فَسَاد مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَقَالَ : مَنْ خَافَ مَعَ اللَّه سِوَاهُ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي تَوَكُّله , وَلَمْ يُؤْمِن بِالْقَدَرِ . وَهَذَا كُلّه فِي مَعْنَى الْآيَة , وَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْهِدَايَة




هَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنَتْ فَضَائِل الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . رَوَى أَصْبَغ وَأَبُو زَيْد عَنْ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك " ثَانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار إِذْ يَقُول لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَن إِنَّ اللَّه مَعَنَا " هُوَ الصِّدِّيق . فَحَقَّقَ اللَّه تَعَالَى قَوْله لَهُ بِكَلَامِهِ وَوَصَفَ الصُّحْبَة فِي كِتَابه . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُون عُمَر وَعُثْمَان أَوْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَذَّاب مُبْتَدِع . وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُون أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِر , لِأَنَّهُ رَدَّ نَصَّ الْقُرْآن . وَمَعْنَى " إِنَّ اللَّه مَعَنَا " أَيْ بِالنَّصْرِ وَالرِّعَايَة وَالْحِفْظ وَالْكِلَاءَة . رَوَى التِّرْمِذِيّ وَالْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة قَالَا : حَدَّثَنَا عَفَّان قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّام قَالَ أَخْبَرَنَا ثَابِت عَنْ أَنَس أَنَّ أَبَا بَكْر حَدَّثَهُ قَالَ : قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَار : لَوْ أَنَّ أَحَدهمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْت قَدَمَيْهِ , فَقَالَ : ( يَا أَبَا بَكْر مَا ظَنّك بِاثْنَيْنِ اللَّه ثَالِثهمَا ) . قَالَ الْمُحَاسِبِيّ : يَعْنِي مَعَهُمَا بِالنَّصْرِ وَالدِّفَاع , لَا عَلَى مَعْنَى مَا عَمَّ بِهِ الْخَلَائِق , فَقَالَ : " مَا يَكُون مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رَابِعهمْ " [ الْمُجَادَلَة : 7 ] . فَمَعْنَاهُ الْعُمُوم أَنَّهُ يَسْمَع وَيَرَى مِنْ الْكُفَّار وَالْمُؤْمِنِينَ .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَتْ الْإِمَامِيَّة قَبَّحَهَا اللَّه : حُزْن أَبِي بَكْر فِي الْغَار دَلِيل عَلَى جَهْله وَنَقْصه وَضَعْف قَلْبه وَخَرَقه . وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ إِضَافَة الْحُزْن إِلَيْهِ لَيْسَ بِنَقْصٍ , كَمَا لَمْ يَنْقُص إِبْرَاهِيم حِين قَالَ عَنْهُ : " نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة قَالُوا لَا تَخَفْ " [ هُود : 70 ] . وَلَمْ يَنْقُص مُوسَى قَوْله : " فَأَوْجَسَ فِي نَفْسه خِيفَة مُوسَى . قُلْنَا لَا تَخَفْ " [ طَه 67 , 68 ] . وَفِي لُوط : " وَلَا تَحْزَن إِنَّا مُنَجُّوك وَأَهْلك " [ الْعَنْكَبُوت : 33 ] . فَهَؤُلَاءِ الْعُظَمَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ قَدْ وُجِدَتْ عِنْدهمْ التَّقِيَّة نَصًّا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَعْنًا عَلَيْهِمْ وَوَصْفًا لَهُمْ بِالنَّقْصِ , وَكَذَلِكَ فِي أَبِي بَكْر . ثُمَّ هِيَ عِنْد الصِّدِّيق اِحْتِمَال , فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ أَنَّ أَحَدهمْ نَظَرَ تَحْت قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا . جَوَاب ثَانٍ - إِنَّ حُزْن الصِّدِّيق إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصِل إِلَيْهِ ضَرَر , وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت مَعْصُومًا وَإِنَّمَا نَزَلَ عَلَيْهِ " وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس " [ الْمَائِدَة : 67 ] بِالْمَدِينَةِ .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَ لَنَا أَبُو الْفَضَائِل الْعَدْل قَالَ لَنَا جَمَال الْإِسْلَام أَبُو الْقَاسِم قَالَ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ " [ الشُّعَرَاء : 62 ] وَقَالَ فِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَحْزَن إِنَّ اللَّه مَعَنَا " لَا جَرَمَ لَمَّا كَانَ اللَّه مَعَ مُوسَى وَحْده اِرْتَدَّ أَصْحَابه بَعْده , فَرَجَعَ مِنْ عِنْد رَبّه وَوَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْعِجْل . وَلَمَّا قَالَ فِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَحْزَن إِنَّ اللَّه مَعَنَا " بَقِيَ أَبُو بَكْر مُهْتَدِيًا مُوَحِّدًا عَالِمًا جَازِمًا قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَلَمْ يَتَطَرَّق إِلَيْهِ اِخْتِلَال .

خَرَّجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث نُبَيْط بْن شُرَيْط عَنْ سَالِم بْن عُبَيْد - لَهُ صُحْبَة - قَالَ : أُغْمِيَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... , الْحَدِيث . وَفِيهِ : وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ يَتَشَاوَرُونَ فَقَالُوا : اِنْطَلِقُوا بِنَا إِلَى إِخْوَاننَا مِنْ الْأَنْصَار نُدْخِلهُمْ مَعَنَا فِي هَذَا الْأَمْر . فَقَالَتْ الْأَنْصَار : مِنَّا أَمِير وَمِنْكُمْ أَمِير . فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَنْ لَهُ مِثْل هَذِهِ الثَّلَاث " ثَانِي اِثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار إِذْ يَقُول لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَن إِنَّ اللَّه مَعَنَا " مَنْ هُمَا ؟ قَالَ : ثُمَّ بَسَطَ يَده فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاس بَيْعَة حَسَنَة جَمِيلَة .

قُلْت : وَلِهَذَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : فِي قَوْله تَعَالَى : " ثَانِي اِثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار " مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْخَلِيفَة بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , لِأَنَّ الْخَلِيفَة لَا يَكُون أَبَدًا إِلَّا ثَانِيًا . وَسَمِعْت شَيْخنَا الْإِمَام أَبَا الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عُمَر يَقُول : إِنَّمَا اِسْتَحَقَّ الصِّدِّيق أَنْ يُقَال لَهُ ثَانِي اِثْنَيْنِ لِقِيَامِهِ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ , كَقِيَامِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ اِرْتَدَّتْ الْعَرَب كُلّهَا , وَلَمْ يَبْقَ الْإِسْلَام إِلَّا بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّة وَجُوَاثَا , فَقَامَ أَبُو بَكْر يَدْعُو النَّاس إِلَى الْإِسْلَام وَيُقَاتِلهُمْ عَلَى الدُّخُول فِي الدِّين كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَاسْتَحَقَّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَة أَنْ يُقَال فِي حَقّه ثَانِي اِثْنَيْنِ .

قُلْت : وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّة أَحَادِيث صَحِيحَة , يَدُلّ ظَاهِرهَا عَلَى أَنَّهُ الْخَلِيفَة بَعْده , وَقَدْ اِنْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُخَالِف . وَالْقَادِح فِي خِلَافَته مَقْطُوع بِخَطَئِهِ وَتَفْسِيقه . وَهَلْ يَكْفُر أَمْ لَا , يُخْتَلَفُ فِيهِ , وَالْأَظْهَر تَكْفِيره . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى مَزِيد بَيَان فِي سُورَة [ الْفَتْح ] إِنْ شَاءَ اللَّه . وَاَلَّذِي يُقْطَع بِهِ مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَأَقْوَال عُلَمَاء الْأُمَّة وَيَجِب أَنْ تُؤْمِن بِهِ الْقُلُوب وَالْأَفْئِدَة فَضْل الصِّدِّيق عَلَى جَمِيع الصَّحَابَة . وَلَا مُبَالَاة بِأَقْوَالِ أَهْل الشِّيَع وَلَا أَهْل الْبِدَع , فَإِنَّهُمْ بَيْن مُكَفَّر تُضْرَب رَقَبَته , وَبَيْن مُبْتَدِع مُفَسَّق لَا تُقْبَل كَلِمَته . ثُمَّ بَعْد الصِّدِّيق عُمَر الْفَارُوق , ثُمَّ بَعْده عُثْمَان . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كُنَّا نُخَيِّر بَيْن النَّاس فِي زَمَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّر أَبَا بَكْر ثُمَّ عُمَر ثُمَّ عُثْمَان . وَاخْتَلَفَ أَئِمَّة أَهْل السَّلَف فِي عُثْمَان وَعَلِيّ , فَالْجُمْهُور مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيم عُثْمَان . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور . وَهُوَ الْأَصَحّ إِنْ شَاءَ اللَّه .



فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّانِي : عَلَى أَبِي بَكْر . اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ الْأَقْوَى , لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَوْم فَأَنْزَلَ اللَّه سَكِينَته عَلَيْهِ بِتَأْمِينِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَسَكَنَ جَأْشه وَذَهَبَ رَوْعه وَحَصَلَ الْأَمْن وَأَنْبَتَ اللَّه سُبْحَانه ثُمَامَة , وَأَلْهَمَ الْوَكْر هُنَاكَ حَمَامَة وَأَرْسَلَ الْعَنْكَبُوت فَنَسَجَتْ بَيْتًا عَلَيْهِ . فَمَا أَضْعَف هَذِهِ الْجُنُود فِي ظَاهِر الْحِسّ وَمَا أَقْوَاهَا فِي بَاطِن الْمَعْنَى وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَر حِين تَغَامَرَ مَعَ الصِّدِّيق : ( هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي إِنَّ النَّاس كُلّهمْ قَالُوا كَذَبْت وَقَالَ أَبُو بَكْر صَدَقْت ) رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاء .



أَيْ مِنْ الْمَلَائِكَة . وَالْكِنَايَة فِي قَوْله " وَأَيَّدَهُ " تَرْجِع إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالضَّمِيرَانِ يَخْتَلِفَانِ , وَهَذَا كَثِير فِي الْقُرْآن وَفِي كَلَام الْعَرَب .



أَيْ كَلِمَة الشِّرْك .





قِيلَ : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَقِيلَ : وَعْد النَّصْر . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَعْقُوب " وَكَلِمَة اللَّه " بِالنَّصْبِ حَمْلًا عَلَى " جَعَلَ " وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف . وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ قِرَاءَة النَّصْب بَعِيدَة , قَالَ : لِأَنَّك تَقُول أَعْتَقَ فُلَان غُلَام أَبِيهِ , وَلَا تَقُول غُلَام أَبِي فُلَان . وَقَالَ أَبُو حَاتِم نَحْوًا مِنْ هَذَا . قَالَ : كَانَ يَجِب أَنْ يُقَال وَكَلِمَته هِيَ الْعُلْيَا . قَالَ النَّحَّاس : الَّذِي ذَكَرَهُ الْفَرَّاء لَا يُشْبِه الْآيَة , وَلَكِنْ يُشْبِههَا مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : ش لَا أَرَى الْمَوْت يَسْبِق الْمَوْت شَيْء و نَغَّصَ الْمَوْت ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا ش فَهَذَا حَسَن جَيِّد لَا إِشْكَال فِيهِ , بَلْ يَقُول النَّحْوِيُّونَ الْحُذَّاق : فِي إِعَادَة الذِّكْر فِي مِثْل هَذَا فَائِدَة وَهِيَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيم , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْض زِلْزَالهَا . وَأَخْرَجَتْ الْأَرْض أَثْقَالهَا " [ الزَّلْزَلَة : 2 , 1 ] فَهَذَا لَا إِشْكَال فِيهِ . وَجَمْع الْكَلِمَة كَلِم . وَتَمِيم تَقُول : هِيَ كِلْمَة بِكَسْرِ الْكَاف . وَحَكَى الْفَرَّاء فِيهَا ثَلَاث لُغَات : كَلِمَة وَكِلْمَة وَكَلْمَة مِثْل كَبِد وَكِبْد وَكَبْد , وَوَرِق وَوِرْق وَوَرْق . وَالْكَلِمَة أَيْضًا الْقَصِيدَة بِطُولِهَا , قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ .
انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَسورة التوبة الآية رقم 41
رَوَى سُفْيَان عَنْ حُصَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِي مَالِك الْغِفَارِيّ قَالَ : أَوَّل مَا نَزَلَ مِنْ سُورَة بَرَاءَة " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " . وَقَالَ أَبُو الضَّحَّاك كَذَلِكَ أَيْضًا . قَالَ : ثُمَّ نَزَلَ أَوَّلهَا وَآخِرهَا .

" اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال , وَفِيهِ عَشَرَة أَقْوَال [ الْأَوَّل ] يُذْكَر عَنْ اِبْن عَبَّاس " اِنْفِرُوا ثُبَات " [ النِّسَاء : 71 ] : سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ . [ الثَّانِي ] رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَقَتَادَة : نِشَاطًا وَغَيْر نِشَاط . [ الثَّالِث ] الْخَفِيف : الْغَنِيّ , وَالثَّقِيل : الْفَقِير , قَالَهُ مُجَاهِد . [ الرَّابِع ] الْخَفِيف : الشَّابّ , وَالثَّقِيل : الشَّيْخ , قَالَهُ الْحَسَن . [ الْخَامِس ] مَشَاغِيل وَغَيْر مَشَاغِيل , قَالَهُ زَيْد بْن عَلِيّ وَالْحَكَم بْن عُتَيْبَة . [ السَّادِس ] الثَّقِيل : الَّذِي لَهُ عِيَال , وَالْخَفِيف : الَّذِي لَا عِيَال لَهُ , قَالَهُ زَيْد بْن أَسْلَم . [ السَّابِع ] الثَّقِيل : الَّذِي لَهُ ضَيْعَة يَكْرَه أَنْ يَدَعهَا , وَالْخَفِيف : الَّذِي لَا ضَيْعَة لَهُ , قَالَهُ اِبْن زَيْد . [ الثَّامِن ] الْخِفَاف : الرِّجَال , وَالثِّقَال : الْفُرْسَان , قَالَهُ الْأَوْزَاعِيّ . [ التَّاسِع ] الْخِفَاف : الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى الْحَرْب كَالطَّلِيعَةِ وَهُوَ مُقَدَّم الْجَيْش وَالثِّقَال : الْجَيْش بِأَثَرِهِ [ الْعَاشِر ] الْخَفِيف : الشُّجَاع , وَالثَّقِيل : الْجَبَان , حَكَاهُ النَّقَّاش . وَالصَّحِيح فِي مَعْنَى الْآيَة أَنَّ النَّاس أُمِرُوا جُمْلَة أَيْ اِنْفِرُوا خَفَّتْ عَلَيْكُمْ الْحَرَكَة أَوْ ثَقُلَتْ . وَرُوِيَ أَنَّ اِبْن أُمّ مَكْتُوم جَاءَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ : أَعَلَيَّ أَنْ أَنْفِر ؟ فَقَالَ : ( نَعَمْ ) حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج " [ النُّور : 61 ] . وَهَذِهِ الْأَقْوَال إِنَّمَا هِيَ عَلَى مَعْنَى الْمِثَال فِي الثِّقَل وَالْخِفَّة .

وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَة , فَقِيلَ إِنَّهَا مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلَا عَلَى الْمَرْضَى " [ التَّوْبَة : 91 ] . وَقِيلَ : النَّاسِخ لَهَا قَوْله : " فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَة " [ التَّوْبَة : 122 ] . وَالصَّحِيح أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ . رَوَى اِبْن عَبَّاس عَنْ أَبِي طَلْحَة فِي قَوْله تَعَالَى : " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " قَالَ شُبَّانًا وَكُهُولًا , مَا سَمِعَ اللَّه عُذْر أَحَد . فَخَرَجَ إِلَى الشَّام فَجَاهَدَ حَتَّى مَاتَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَرَوَى حَمَّاد عَنْ ثَابِت وَعَلِيّ بْن زَيْد عَنْ أَنَس أَنَّ أَبَا طَلْحَة قَرَأَ سُورَة [ بَرَاءَة ] فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَة " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " فَقَالَ : أَيْ بَنِيَّ جَهِّزُونِي جَهِّزُونِي فَقَالَ بَنُوهُ : يَرْحَمك اللَّه لَقَدْ غَزَوْت مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ وَمَعَ أَبِي بَكْر حَتَّى مَاتَ وَمَعَ عُمَر حَتَّى مَاتَ فَنَحْنُ نَغْزُو عَنْك . قَالَ : لَا , جَهِّزُونِي . فَغَزَا فِي الْبَحْر فَمَاتَ فِي الْبَحْر , فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ جَزِيرَة يَدْفِنُونَهُ فِيهَا إِلَّا بَعْد سَبْعَة أَيَّام فَدَفَنُوهُ فِيهَا , وَلَمْ يَتَغَيَّر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيّ عَمَّنْ رَأَى الْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَد بِحِمْص عَلَى تَابُوت صَرَّاف , وَقَدْ فَضَلَ عَلَى التَّابُوت مِنْ سِمَنه وَهُوَ يَتَجَهَّز لِلْغَزْوِ . فَقِيلَ لَهُ : لَقَدْ عَذَرَك اللَّه . فَقَالَ : أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَة الْبَعُوث " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : خَرَجَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب إِلَى الْغَزْو وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ . فَقِيلَ لَهُ : إِنَّك عَلِيل . فَقَالَ : اِسْتَنْفَرَ اللَّهُ الْخَفِيف وَالثَّقِيل , فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِّي الْحَرْب كَثَّرْت السَّوَاد وَحَفِظْت الْمَتَاع . وَرُوِيَ أَنَّ بَعْض النَّاس رَأَى فِي غَزَوَات الشَّام رَجُلًا قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَر , فَقَالَ لَهُ : يَا عَمّ إِنَّ اللَّه قَدْ عَذَرَك فَقَالَ : يَا ابْن أَخِي , قَدْ أُمِرْنَا بِالنَّفْرِ خِفَافًا وَثِقَالًا . وَلَقَدْ قَالَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - وَاسْمه عَمْرو - يَوْم أُحُد : أَنَا رَجُل أَعْمَى , فَسَلِّمُوا لِي اللِّوَاء , فَإِنَّهُ إِذَا اِنْهَزَمَ حَامِل اللِّوَاء اِنْهَزَمَ الْجَيْش , وَأَنَا مَا أَدْرِي مَنْ يَقْصِدنِي بِسَيْفِهِ فَمَا أَبْرَح فَأَخَذَ اللِّوَاء يَوْمئِذٍ مُصْعَب بْن عُمَيْر عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ آل عِمْرَان ] بَيَانه . فَلِهَذَا وَمَا كَانَ مِثْله مِمَّا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ,

قُلْنَا : إِنَّ النَّسْخ لَا يَصِحّ . وَقَدْ تَكُون حَالَة يَجِب فِيهَا نَفِير الْكُلّ وَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَاد بِغَلَبَةِ الْعَدُوّ عَلَى قُطْر مِنْ الْأَقْطَار , أَوْ بِحُلُولِهِ بِالْعُقْرِ , فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى جَمِيع أَهْل تِلْكَ الدَّار أَنْ يَنْفِرُوا وَيَخْرُجُوا إِلَيْهِ خِفَافًا وَثِقَالًا , شَبَابًا وَشُيُوخًا , كُلّ عَلَى قَدْر طَاقَته , مَنْ كَانَ لَهُ أَب بِغَيْرِ إِذْنه وَمَنْ لَا أَب لَهُ , وَلَا يَتَخَلَّف أَحَد يَقْدِر عَلَى الْخُرُوج , مِنْ مُقَاتِل أَوْ مُكَثِّر . فَإِنْ عَجَزَ أَهْل تِلْكَ الْبَلْدَة عَنْ الْقِيَام بِعَدُوِّهِمْ كَانَ عَلَى مَنْ قَارَبَهُمْ وَجَاوَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا عَلَى حَسَب مَا لَزِمَ أَهْل تِلْكَ الْبَلْدَة , حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ فِيهِمْ طَاقَة عَلَى الْقِيَام بِهِمْ وَمُدَافَعَتهمْ . وَكَذَلِكَ كُلّ مَنْ عَلِمَ بِضَعْفِهِمْ عَنْ عَدُوّهُمْ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُدْرِكهُمْ وَيُمْكِنهُ غِيَاثهمْ لَزِمَهُ أَيْضًا الْخُرُوج إِلَيْهِمْ , فَالْمُسْلِمُونَ كُلّهمْ يَد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ , حَتَّى إِذَا قَامَ بِدَفْعِ الْعَدُوّ أَهْل النَّاحِيَة الَّتِي نَزَلَ الْعَدُوّ عَلَيْهَا وَاحْتَلَّ بِهَا سَقَطَ الْفَرْض عَنْ الْآخَرِينَ . وَلَوْ قَارَبَ الْعَدُوّ دَار الْإِسْلَام وَلَمْ يَدْخُلُوهَا لَزِمَهُمْ أَيْضًا الْخُرُوج إِلَيْهِ , حَتَّى يَظْهَر دِين اللَّه وَتُحْمَى الْبَيْضَة وَتُحْفَظ الْحَوْزَة وَيُخْزَى الْعَدُوّ , وَلَا خِلَاف فِي هَذَا .

وَقِسْم ثَانٍ مِنْ وَاجِب الْجِهَاد - فَرْض أَيْضًا عَلَى الْإِمَام إِغْزَاء طَائِفَة إِلَى الْعَدُوّ كُلّ سَنَة مَرَّة يَخْرُج مَعَهُمْ بِنَفْسِهِ أَوْ يُخْرِج مَنْ يَثِق بِهِ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَام وَيُرَغِّبهُمْ , وَيَكُفّ أَذَاهُمْ وَيُظْهِر دِين اللَّه عَلَيْهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَام أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد .

وَمِنْ الْجِهَاد أَيْضًا مَا هُوَ نَافِلَة وَهُوَ إِخْرَاج الْإِمَام طَائِفَة بَعْد طَائِفَة وَبَعْث السَّرَايَا فِي أَوْقَات الْغِرَّة وَعِنْد إِمْكَان الْفُرْصَة وَالْإِرْصَاد لَهُمْ بِالرِّبَاطِ فِي مَوْضِع الْخَوْف وَإِظْهَار الْقُوَّة .

فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصْنَع الْوَاحِد إِذَا قَصَّرَ الْجَمِيع ,

قِيلَ لَهُ : يَعْمِد إِلَى أَسِير وَاحِد فَيَفْدِيه , فَإِنَّهُ إِذَا فَدَى الْوَاحِد فَقَدْ أَدَّى فِي الْوَاحِد أَكْثَر مِمَّا كَانَ يَلْزَمهُ فِي الْجَمَاعَة , فَإِنَّ الْأَغْنِيَاء لَوْ اِقْتَسَمُوا فِدَاء الْأُسَارَى مَا أَدَّى كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ إِلَّا أَقَلّ مِنْ دِرْهَم . وَيَغْزُو بِنَفْسِهِ إِنْ قَدَرَ وَإِلَّا جَهَّزَ غَازِيًا . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْله بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا ) أَخْرَجَهُ الصَّحِيح . وَذَلِكَ لِأَنَّ مَكَانه لَا يُغْنِي وَمَاله لَا يَكْفِي .

رُوِيَ أَنَّ بَعْض الْمُلُوك عَاهَدَ كُفَّارًا عَلَى أَلَّا يَحْبِسُوا أَسِيرًا , فَدَخَلَ رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ جِهَة بِلَادهمْ فَمَرَّ عَلَى بَيْت مُغْلَق , فَنَادَتْهُ اِمْرَأَة إِنِّي أَسِيرَة فَأَبْلِغْ صَاحِبك خَبَرِي فَلَمَّا اِجْتَمَعَ بِهِ وَاسْتَطْعَمَهُ عِنْده وَتَجَاذَبَا ذَيْل الْحَدِيث اِنْتَهَى الْخَبَر إِلَى هَذِهِ الْمُعَذَّبَة فَمَا أَكْمَلَ حَدِيثه حَتَّى قَامَ الْأَمِير عَلَى قَدَمَيْهِ وَخَرَجَ غَازِيًا مِنْ فَوْره وَمَشَى إِلَى الثَّغْر حَتَّى أَخْرَجَ الْأَسِيرَة وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَوْضِع رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . ذَكَرَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَالَ : وَلَقَدْ نَزَلَ بِنَا الْعَدُوّ - قَصَمَهُ اللَّه - سَنَة سَبْع وَعِشْرِينَ وَخَمْسمِائَةٍ فَجَاسَ دِيَارنَا وَأَسَرَ خِيرَتنَا وَتَوَسَّطَ بِلَادنَا فِي عَدَد هَالَ النَّاسَ عَدَدُهُ وَكَانَ كَثِيرًا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغ مَا حَدَّدُوهُ . فَقُلْت لِلْوَالِي وَالْمَوْلَى عَلَيْهِ : هَذَا عَدُوّ اللَّه قَدْ حَصَلَ فِي الشَّرَك وَالشَّبْكَة فَلْتَكُنْ عِنْدكُمْ بَرَكَة , وَلِتَظْهَر مِنْكُمْ إِلَى نُصْرَة الدِّين الْمُتَعَيِّنَة عَلَيْكُمْ حَرَكَة فَلْيَخْرُجْ إِلَيْهِ جَمِيع النَّاس حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَد فِي جَمِيع الْأَقْطَار فَيُحَاط بِهِ فَإِنَّهُ هَالِك لَا مَحَالَة إِنْ يَسَّرَكُمْ اللَّه لَهُ فَغَلَبَتْ الذُّنُوب وَرَجَفَتْ الْقُلُوب بِالْمَعَاصِي وَصَارَ كُلّ أَحَد مِنْ النَّاس ثَعْلَبًا يَأْوِي إِلَى وَجَاره وَإِنْ رَأَى الْمَكِيدَة بِجَارِهِ . فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . وَحَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل ) .



أَمْر بِالْجِهَادِ , وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ الْجَهْد


رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسكُمْ وَأَلْسِنَتكُمْ ) . وَهَذَا وَصْف لِأَكْمَل مَا يَكُون مِنْ الْجِهَاد وَأَنْفَعهُ عِنْد اللَّه تَعَالَى . فَحَضَّ عَلَى كَمَالِ الْأَوْصَاف , وَقَدَّمَ الْأَمْوَال فِي الذِّكْر إِذْ هِيَ أَوَّل مَصْرِف وَقْت التَّجْهِيز . فَرَتَّبَ الْأَمْر كَمَا هُوَ نَفْسه .
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَسورة التوبة الآية رقم 42
لَمَّا رَجَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَة تَبُوك أَظْهَرَ اللَّه نِفَاق قَوْم . وَالْعَرَض : مَا يُعْرَض مِنْ مَنَافِع الدُّنْيَا . وَالْمَعْنَى : غَنِيمَة قَرِيبَة . أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ دُعُوا إِلَى غَنِيمَة لَاتَّبَعُوهُ . " عَرَضًا " خَبَر كَانَ . " قَرِيبًا " نَعْته . " وَسَفَرًا قَاصِدًا " عَطْف عَلَيْهِ . وَحُذِفَ اِسْم كَانَ لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ . التَّقْدِير : لَوْ كَانَ الْمَدْعُوّ إِلَيْهِ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا - أَيْ سَهْلًا مَعْلُوم الطُّرُق - لَاتَّبَعُوك . وَهَذِهِ الْكِنَايَة لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا ذَكَرْنَا , لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَة مَنْ خُوطِبَ بِالنَّفِيرِ . وَهَذَا مَوْجُود فِي كَلَام الْعَرَب يَذْكُرُونَ الْجُمْلَة ثُمَّ يَأْتُونَ بِالْإِضْمَارِ عَائِدًا عَلَى بَعْضهَا , كَمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدهَا " [ مَرْيَم : 71 ] أَنَّهَا الْقِيَامَة . ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ : " ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَنَذَر الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا " [ مَرْيَم : 72 ] يَعْنِي جَلَّ وَعَزَّ جَهَنَّم . وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة مِنْ السُّنَّة فِي الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَوْ يَعْلَم أَحَدهمْ أَنَّهُ يَجِد عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاء ) . يَقُول : لَوْ عَلِمَ أَحَدهمْ أَنَّهُ يَجِد شَيْئًا حَاضِرًا مُعَجَّلًا يَأْخُذهُ لَأَتَى الْمَسْجِد مِنْ أَجْله .


حَكَى أَبُو عُبَيْدَة وَغَيْره أَنَّ الشُّقَّة السَّفَر إِلَى أَرْض بَعِيدَة . يُقَال : مِنْهُ شُقَّة شَاقَّة . وَالْمُرَاد بِذَلِكَ كُلّه غَزْوَة تَبُوك . وَحَكَى الْكِسَائِيّ أَنَّهُ يُقَال : شُقَّة وَشِقَّة . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الشُّقَّة بِالضَّمِّ مِنْ الثِّيَاب , وَالشُّقَّة أَيْضًا السَّفَر الْبَعِيد وَرُبَّمَا قَالُوهُ بِالْكَسْرِ . وَالشِّقَّة شَظِيَّة تُشْظَى مِنْ لَوْح أَوْ خَشَبَة . يُقَال لِلْغَضْبَانِ : اِحْتَدَّ فَطَارَتْ مِنْهُ شِقَّة , بِالْكَسْرِ .


أَيْ لَوْ كَانَ لَنَا سَعَة فِي الظَّهْر وَالْمَال .


نَظِيره " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " [ آل عِمْرَان : 97 ] فَسَّرَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( زَاد وَرَاحِلَة ) وَقَدْ تَقَدَّمَ .


أَيْ بِالْكَذِبِ وَالنِّفَاق .


فِي الِاعْتِلَال .
عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَسورة التوبة الآية رقم 43
قِيلَ : هُوَ اِفْتِتَاح كَلَام , كَمَا تَقُول : أَصْلَحَك اللَّه وَأَعَزَّك وَرَحِمَك كَانَ كَذَا وَكَذَا . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَحْسُن الْوَقْف عَلَى قَوْله : " عَفَا اللَّه عَنْك " , حَكَاهُ مَكِّيّ وَالْمَهْدَوِيّ وَالنَّحَّاس . وَأَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْل الذَّنْب لِئَلَّا يَطِير قَلْبه فَرَقًا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى عَفَا اللَّه عَنْك مَا كَانَ مِنْ ذَنْبك فِي أَنْ أَذِنْت لَهُمْ , فَلَا يَحْسُن الْوَقْف عَلَى قَوْله : " عَفَا اللَّه عَنْك " عَلَى هَذَا التَّقْدِير , حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس . ثُمَّ قِيلَ : فِي الْإِذْن قَوْلَانِ : [ الْأَوَّل ] " لِمَ أَذِنْت لَهُمْ " فِي الْخُرُوج مَعَك , وَفِي خُرُوجهمْ بِلَا عِدَّة وَنِيَّة صَادِقَة فَسَاد . [ الثَّانِي ] - " لِمَ أَذِنْت لَهُمْ " فِي الْقُعُود لَمَّا اِعْتَلُّوا بِأَعْذَارٍ , ذَكَرَهَا الْقُشَيْرِيّ قَالَ : وَهَذَا عِتَاب تَلَطُّف إِذْ قَالَ : " عَفَا اللَّه عَنْك " . وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَذِنَ مِنْ غَيْر وَحْي نَزَلَ فِيهِ . قَالَ قَتَادَة وَعَمْرو بْن مَيْمُون : ثِنْتَانِ فَعَلَهُمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُؤْمَر بِهِمَا : إِذْنه لِطَائِفَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّف عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْضِي شَيْئًا إِلَّا بِوَحْيٍ وَأَخْذه مِنْ الْأُسَارَى الْفِدْيَة فَعَاتَبَهُ اللَّه كَمَا تَسْمَعُونَ . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّمَا بَدَرَ مِنْهُ تَرْك الْأَوْلَى فَقَدَّمَ اللَّه الْعَفْو عَلَى الْخِطَاب الَّذِي هُوَ فِي صُورَة الْعِتَاب .



أَيْ لِيَتَبَيَّن لَك مَنْ صَدَقَ مِمَّنْ نَافَقَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَوْمئِذٍ يَعْرِف الْمُنَافِقِينَ وَإِنَّمَا عَرَفَهُمْ بَعْد نُزُول سُورَة [ التَّوْبَة ] . وَقَالَ مُجَاهِد : هَؤُلَاءِ قَوْم قَالُوا : نَسْتَأْذِن فِي الْجُلُوس فَإِنْ أَذِنَ لَنَا جَلَسْنَا وَإِنْ لَمْ يُؤْذَن لَنَا جَلَسْنَا . وَقَالَ قَتَادَة : نَسَخَ هَذِهِ الْآيَة بِقَوْلِهِ فِي سُورَة " النُّور " : " فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنهمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ " [ النُّور : 62 ] . ذَكَرَهُ النَّحَّاس فِي مَعَانِي الْقُرْآن لَهُ .
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَسورة التوبة الآية رقم 44
أَيْ فِي الْقُعُود وَلَا فِي الْخُرُوج , بَلْ إِذَا أَمَرْت بِشَيْءٍ اِبْتَدَرُوهُ , فَكَانَ الِاسْتِئْذَان فِي ذَلِكَ الْوَقْت مِنْ عَلَامَات النِّفَاق لِغَيْرِ عُذْر , " أَنْ يُجَاهِدُوا " فِي مَوْضِع نَصْب بِإِضْمَارِ فِي , عَنْ الزَّجَّاج . وَقِيلَ : التَّقْدِير كَرَاهِيَة أَنْ يُجَاهِدُوا , كَقَوْلِهِ : " يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا " [ النِّسَاء : 176 ] .
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَسورة التوبة الآية رقم 45
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : " لَا يَسْتَأْذِنك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ " نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي [ النُّور ] " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله - إِلَى قَوْله - غَفُور رَحِيم " [ النُّور : 62 ]


شَكَّتْ فِي الدِّين .


أَيْ فِي شَكّهمْ يَذْهَبُونَ وَيَرْجِعُونَ .
وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَسورة التوبة الآية رقم 46
أَيْ لَوْ أَرَادُوا الْجِهَاد لَتَأَهَّبُوا أُهْبَة السَّفَر . فَتَرْكهمْ الِاسْتِعْدَاد دَلِيل عَلَى إِرَادَتهمْ التَّخَلُّف .


أَيْ خُرُوجهمْ مَعَك .


أَيْ حَبَسَهُمْ عَنْك وَخَذَلَهُمْ , لِأَنَّهُمْ قَالُوا : إِنْ لَمْ يُؤْذَن لَنَا فِي الْجُلُوس أَفْسَدْنَا وَحَرَّضْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . وَيَدُلّ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْده " لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا " .


قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل بَعْضهمْ لِبَعْضٍ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيَكُون هَذَا هُوَ الْإِذْن الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْره . قِيلَ : قَالَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا فَأَخَذُوا بِظَاهِرِ لَفْظه وَقَالُوا قَدْ أَذِنَ لَنَا . وَقِيلَ : هُوَ عِبَارَة عَنْ الْخِذْلَان , أَيْ أَوْقَعَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ الْقُعُود .


أَيْ مَعَ أُولِي الضَّرَر وَالْعُمْيَان وَالزَّمْنَى وَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَان .
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَسورة التوبة الآية رقم 47
هُوَ تَسْلِيَة لِلْمُؤْمِنِينَ فِي تَخَلُّف الْمُنَافِقِينَ عَنْهُمْ . وَالْخَبَال : الْفَسَاد وَالنَّمِيمَة وَإِيقَاع الِاخْتِلَاف وَالْأَرَاجِيف . وَهَذَا اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع , أَيْ مَا زَادُوكُمْ قُوَّة وَلَكِنْ طَلَبُوا الْخَبَال . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا يَزِيدُونَكُمْ فِيمَا يَتَرَدَّدُونَ فِيهِ مِنْ الرَّأْي إِلَّا خَبَالًا , فَلَا يَكُون الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا .


الْمَعْنَى لَأَسْرَعُوا فِيمَا بَيْنكُمْ بِالْإِفْسَادِ . وَالْإِيضَاع , سُرْعَة السَّيْر . وَقَالَ الرَّاجِز : يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ يُقَال : وَضَعَ الْبَعِير إِذَا عَدَا , يَضَع وَضْعًا وَوُضُوعًا إِذَا أَسْرَعَ السَّيْر . وَأَوْضَعْته حَمَلْته عَلَى الْعَدْوِ . وَقِيلَ : الْإِيضَاع سَيْر مِثْل الْخَبَب . وَالْخَلَل الْفُرْجَة بَيْن الشَّيْئَيْنِ , وَالْجَمْع الْخِلَال , أَيْ الْفُرَج الَّتِي تَكُون بَيْن الصُّفُوف . أَيْ لَأَوْضَعُوا خِلَالكُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَإِفْسَاد ذَات الْبَيْن .


مَفْعُول ثَانٍ . وَالْمَعْنَى يَطْلُبُونَ لَكُمْ الْفِتْنَة , أَيْ الْإِفْسَاد وَالتَّحْرِيض . وَيُقَال : أَبْغَيْته كَذَا أَعَنْته عَلَى طَلَبه , وَبَغَيْته كَذَا طَلَبْته لَهُ . وَقِيلَ : الْفِتْنَة هُنَا الشِّرْك .


أَيْ عُيُون لَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهِمْ الْأَخْبَار مِنْكُمْ . قَتَادَة : وَفِيكُمْ مَنْ يَقْبَل مِنْهُمْ قَوْلهمْ وَيُطِيعهُمْ . النَّحَّاس : الْقَوْل الْأَوَّل أَوْلَى , لِأَنَّهُ الْأَغْلَب مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَنَّ مَعْنَى سَمَّاع يَسْمَع الْكَلَام , وَمِثْله " سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ " [ الْمَائِدَة : 41 ] . وَالْقَوْل الثَّانِي : لَا يَكَاد يُقَال فِيهِ إِلَّا سَامِع , مِثْل قَائِل .
لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَسورة التوبة الآية رقم 48
أَيْ لَقَدْ طَلَبُوا الْإِفْسَاد وَالْخَبَال مِنْ قَبْل أَنْ يَظْهَر أَمْرهمْ , وَيَنْزِل الْوَحْي بِمَا أَسَرُّوهُ وَبِمَا سَيَفْعَلُونَهُ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : أَرَادَ اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ , وَقَفُوا عَلَى ثَنِيَّة الْوَدَاع لَيْلَة الْعَقَبَة لِيَفْتِكُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .


أَيْ صَرَفُوهَا وَأَجَالُوا الرَّأْي فِي إِبْطَال مَا جِئْت بِهِ


أَيْ دِينه " وَهُمْ كَارِهُونَ "
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَسورة التوبة الآية رقم 49
مِنْ أَذِنَ يَأْذَن . وَإِذَا أَمَرْت زِدْت هَمْزَة مَكْسُورَة وَبَعْدهَا هَمْزَة هِيَ فَاء الْفِعْل , وَلَا يَجْتَمِع هَمْزَتَانِ , فَأُبْدِلَتْ مِنْ الثَّانِيَة يَاء لِكِسْرَةِ مَا قَبْلهَا فَقُلْت إِيذَنْ . فَإِذَا وَصَلْت زَالَتْ الْعِلَّة فِي الْجَمْع بَيْن هَمْزَتَيْنِ , ثُمَّ هَمَزْت فَقُلْت : " وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول اِئْذَنْ لِي " وَرَوَى وَرْش عَنْ نَافِع " وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول اوْذَنْ لِي " خَفَّفَ الْهَمْزَة . قَالَ النَّحَّاس : يُقَال إِيذَنْ لِفُلَانٍ ثُمَّ إِيذَنْ لَهُ هِجَاء الْأُولَى وَالثَّانِيَة وَاحِد بِأَلِفٍ وَيَاء قَبْل الذَّال فِي الْخَطّ . فَإِنْ قُلْت : إِيذَنْ لِفُلَانٍ وَأَذَنْ لِغَيْرِهِ كَانَ الثَّانِي بِغَيْرِ يَاء وَكَذَا الْفَاء . وَالْفَرْق بَيْن ثُمَّ وَالْوَاو أَنَّ ثُمَّ يُوقَف عَلَيْهَا وَتَنْفَصِل , وَالْوَاو وَالْفَاء لَا يُوقَف عَلَيْهِمَا وَلَا يَنْفَصِلَانِ . قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَدِّ بْن قَيْس أَخِي بَنِي سَلِمَة لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى تَبُوك : ( يَا جَدّ , هَلْ لَك فِي جِلَاد بَنِي الْأَصْفَر تَتَّخِذ مِنْهُمْ سَرَارِيّ وَوُصَفَاء ) فَقَالَ الْجَدّ : قَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنِّي مُغَرَم بِالنِّسَاءِ , وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْت بَنِي الْأَصْفَر أَلَّا أَصْبِر عَنْهُنَّ فَلَا تَفْتِنِّي وَأْذَنْ لِي فِي الْقُعُود وَأُعِينك بِمَالِي فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( قَدْ أَذِنْت لَك ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . أَيْ لَا تَفْتِنِّي بِصَبَاحَةِ وُجُوههمْ , وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عِلَّة إِلَّا النِّفَاق . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَالْأَصْفَر رَجُل مِنْ الْحَبَشَة كَانَتْ لَهُ بَنَات لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتهنَّ أَجْمَل مِنْهُنَّ وَكَانَ بِبِلَادِ الرُّوم . وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَشَة غَلَبَتْ عَلَى الرُّوم , وَوَلَدَتْ لَهُمْ بَنَات فَأَخَذْنَ مِنْ بَيَاض الرُّوم وَسَوَاد الْحَبَشَة , فَكُنَّ صُفْرًا لُعْسًا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فِي قَوْل اِبْن أَبِي إِسْحَاق فُتُور . وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اُغْزُوا تَغْنَمُوا بَنَات الْأَصْفَر ) فَقَالَ لَهُ الْجَدّ : إِيذَنْ لَنَا وَلَا تَفْتِنَّا بِالنِّسَاءِ . وَهَذَا مَنْزَع غَيْر الْأَوَّل , وَهُوَ أَشْبَه بِالنِّفَاقِ وَالْمُحَادَّة . وَلَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي سَلِمَة - وَكَانَ الْجَدّ بْن قَيْس مِنْهُمْ : ( مَنْ سَيِّدكُمْ يَا بَنِي سَلِمَة ) ؟ قَالُوا : جَدّ بْن قَيْس , غَيْر أَنَّهُ بَخِيل جَبَان . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَأَيّ دَاء أَدْوَى مِنْ الْبُخْل بَلْ سَيِّدكُمْ الْفَتَى الْأَبْيَض بِشْر بْن الْبَرَاء بْن مَعْرُور ) . فَقَالَ حَسَّان بْن ثَابِت الْأَنْصَارِيّ فِيهِ : وَسُوِّدَ بِشْر بْن الْبَرَاء لِجُودِهِ وَحُقّ لِبِشْرِ بْن الْبَرَا أَنْ يُسَوَّدَا إِذَا مَا أَتَاهُ الْوَفْد أَذْهَبَ مَاله وَقَالَ خُذُوهُ إِنَّنِي عَائِد غَدَا


أَيْ فِي الْإِثْم وَالْمَعْصِيَة وَقَعُوا . وَهِيَ النِّفَاق وَالتَّخَلُّف عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .


أَيْ مَسِيرهمْ إِلَى النَّار , فَهِيَ تُحْدِق بِهِمْ .
إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَسورة التوبة الآية رقم 50
شَرْط وَمُجَازَاة , وَكَذَا " وَإِنْ تُصِبْك مُصِيبَة يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرنَا مِنْ قَبْل " عَطْف عَلَيْهِ . وَالْحَسَنَة : الْغَنِيمَة وَالظَّفَر . وَالْمُصِيبَة الِانْهِزَام .


أَيْ اِحْتَطْنَا لِأَنْفُسِنَا , وَأَخَذْنَا بِالْحَزْمِ فَلَمْ نَخْرُج إِلَى الْقِتَال .


أَيْ عَنْ الْإِيمَان .



أَيْ مُعْجَبُونَ بِذَلِكَ .
قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَسورة التوبة الآية رقم 51
قِيلَ : فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقِيلَ : مَا أَخْبَرَنَا بِهِ فِي كِتَابه مِنْ أَنَّا إِمَّا أَنْ نَظْفَر فَيَكُون الظَّفَر حُسْنَى لَنَا , وَإِمَّا أَنْ نُقْتَل فَتَكُون الشَّهَادَة أَعْظَم حُسْنَى لَنَا . وَالْمَعْنَى كُلّ شَيْء بِقَضَاءٍ وَقَدَر . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ الْأَعْرَاف ] أَنَّ الْعِلْم وَالْقَدَر وَالْكِتَاب سَوَاء وَقِرَاءَة الْجُمْهُور " يُصِيبنَا " نُصِبَ بِلَنْ . وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَة أَنَّ مِنْ الْعَرَب مَنْ يَجْزِم بِهَا . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " هَلْ يُصِيبُنَا " وَحُكِيَ عَنْ أَعْيَن قَاضِي الرَّيّ أَنَّهُ قَرَأَ ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا ) بِنُونٍ مُشَدَّدَة . وَهَذَا لَحْن , لَا يُؤَكَّد بِالنُّونِ مَا كَانَ خَبَرًا , وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي قِرَاءَة طَلْحَة لَجَازَ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْده مَا يَغِيظ " [ الْحَجّ : 15 ] .


أَيْ نَاصِرنَا . وَالتَّوَكُّل تَفْوِيض الْأَمْر إِلَيْهِ .
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَسورة التوبة الآية رقم 52
" قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا " وَالْكُوفِيُّونَ يُدْغِمُونَ اللَّام فِي التَّاء . فَأَمَّا لَام الْمَعْرِفَة فَلَا يَجُوز إِلَّا الْإِدْغَام , كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ : " التَّائِبُونَ " [ التَّوْبَة : 112 ] لِكَثْرَةِ لَام الْمَعْرِفَة فِي كَلَامهمْ وَلَا يَجُوز الْإِدْغَام فِي قَوْله : " قُلْ تَعَالَوْا " [ الْأَنْعَام : 151 ] لِأَنَّ " قُلْ " مُعْتَلّ , فَلَمْ يَجْمَعُوا عَلَيْهِ عِلَّتَيْنِ . وَالتَّرَبُّص الِانْتِظَار . يُقَال : تَرَبَّصَ بِالطَّعَامِ أَيْ اِنْتَظَرَ بِهِ إِلَى حِين الْغَلَاء . وَالْحُسْنَى تَأْنِيث الْأَحْسَن . وَوَاحِد الْحُسْنَيَيْنِ حُسْنَى , وَالْجَمْع الْحُسْنَى . وَلَا يَجُوز أَنْ يَنْطِق بِهِ إِلَّا مُعَرَّفًا . لَا يُقَال : رَأَيْت اِمْرَأَة حُسْنَى . وَالْمُرَاد بِالْحُسْنَيَيْنِ الْغَنِيمَة وَالشَّهَادَة , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . وَاللَّفْظ اِسْتِفْهَام وَالْمَعْنَى تَوْبِيخ .



أَيْ عُقُوبَة تُهْلِككُمْ كَمَا أَصَابَ الْأُمَم الْخَالِيَة مِنْ قَبْلكُمْ .


أَيْ يُؤْذَن لَنَا فِي قِتَالكُمْ .


تَهْدِيد وَوَعِيد . أَيْ اِنْتَظِرُوا مَوَاعِد الشَّيْطَان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ مَوَاعِد اللَّه .
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَسورة التوبة الآية رقم 53
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل [ الْأُولَى ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي الْجَدّ بْن قَيْس إِذْ قَالَ اِئْذَنْ لِي فِي الْقُعُود وَهَذَا مَالِي أُعِينك بِهِ . وَلَفْظ " أَنْفِقُوا " أَمْر , وَمَعْنَاهُ الشَّرْط وَالْجَزَاء . وَهَكَذَا تَسْتَعْمِل الْعَرَب فِي مِثْل هَذَا تَأْتِي بِأَوْ كَمَا قَالَ الشَّاعِر : أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَة لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّة إِنْ تَقَلَّت وَالْمَعْنَى إِنْ أَسَأْت أَوْ أَحْسَنْت فَنَحْنُ عَلَى مَا تَعْرِفِينَ . وَمَعْنَى الْآيَة : إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ فَلَنْ يُقْبَل مِنْكُمْ . [ الثَّانِيَة ] ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ وَعَزَّ لِمَ لَا يُقْبَل مِنْهُمْ فَقَالَ : " وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَل مِنْهُمْ نَفَقَاتهمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ " [ التَّوْبَة : 54 ] فَكَانَ فِي هَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى أَنَّ أَفْعَال الْكَافِر إِذَا كَانَتْ بِرًّا كَصِلَةِ الْقَرَابَة وَجَبْر الْكَسِير وَإِغَاثَة الْمَلْهُوف لَا يُثَاب عَلَيْهَا وَلَا يَنْتَفِع بِهَا فِي الْآخِرَة , بَيْد أَنَّهُ يُطْعَم بِهَا فِي الدُّنْيَا . دَلِيله مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , اِبْن جُدْعَان كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يَصِل الرَّحِم وَيُطْعِم الْمِسْكِين فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعه ؟ قَالَ : ( لَا يَنْفَعهُ , إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين ) . وَرُوِيَ عَنْ أَنَس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مُؤْمِنًا حَسَنَة يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَة وَأَمَّا الْكَافِر فَيُطْعَم بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَة لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَة يُجْزَى بِهَا ) . وَهَذَا نَصّ . ثُمَّ قِيلَ : هَلْ بِحُكْمِ هَذَا الْوَعْد الصَّادِق لَا بُدّ أَنْ يُطْعَم الْكَافِر وَيُعْطَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ ذَلِكَ مُقَيَّد بِمَشِيئَةِ اللَّه الْمَذْكُورَة فِي قَوْله : " عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَنْ نُرِيد " [ الْإِسْرَاء : 18 ] وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ الْقَوْلَيْنِ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَتَسْمِيَة مَا يَصْدُر عَنْ الْكَافِر حَسَنَة إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظَنّ الْكَافِر , وَإِلَّا فَلَا يَصِحّ مِنْهُ قُرْبَة , لِعَدَمِ شَرْطهَا الْمُصَحِّح لَهَا وَهُوَ الْإِيمَان . أَوْ سُمِّيَتْ حَسَنَة لِأَنَّهَا تُشْبِه صُورَة حَسَنَة الْمُؤْمِن ظَاهِرًا . قَوْلَانِ أَيْضًا . [ الثَّالِثَة ] فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مُسْلِم عَنْ حَكِيم بْن حِزَام أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيْ رَسُول اللَّه , أَرَأَيْت أُمُورًا كُنْت أَتَحَنَّث بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ صَدَقَة أَوْ عَتَاقَة أَوْ صِلَة رَحِم أَفِيهَا أَجْر ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْر ) قُلْنَا قَوْله : ( أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْر ) مُخَالِف ظَاهِره لِلْأُصُولِ , لِأَنَّ الْكَافِر لَا يَصِحّ مِنْهُ التَّقَرُّب لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُون مُثَابًا عَلَى طَاعَته , لِأَنَّ مِنْ شَرْط الْمُتَقَرِّب أَنْ يَكُون عَارِفًا بِالْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ , فَإِذَا عَدِمَ الشَّرْط اِنْتَفَى صِحَّة الْمَشْرُوط . فَكَانَ الْمَعْنَى فِي الْحَدِيث : إِنَّك اِكْتَسَبَتْ طِبَاعًا جَمِيلَة فِي الْجَاهِلِيَّة أَكْسَبَتْك عَادَة جَمِيلَة فِي الْإِسْلَام . وَذَلِكَ أَنَّ حَكِيمًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَاشَ مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة , سِتِّينَ فِي الْإِسْلَام وَسِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّة , فَأَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّة مِائَة رَقَبَة وَحَمَلَ عَلَى مِائَة بَعِير ؟ وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي الْإِسْلَام . وَهَذَا وَاضِح . وَقَدْ قِيلَ : لَا يَبْعُد فِي كَرَم اللَّه أَنْ يُثِيبهُ عَلَى فِعْله ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ , كَمَا يُسْقِط عَنْهُ مَا اِرْتَكَبَهُ فِي حَال كُفْره مِنْ الْآثَام . وَإِنَّمَا لَا يُثَاب مَنْ لَمْ يُسْلِم وَلَا تَابَ , وَمَاتَ كَافِرًا . وَهَذَا ظَاهِر الْحَدِيث . وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه . وَلَيْسَ عَدَم شَرْط الْإِيمَان فِي عَدَم ثَوَاب مَا يَفْعَلهُ مِنْ الْخَيْر ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ مُسْلِمًا بِشَرْطٍ عَقْلِيّ لَا يَتَبَدَّل , وَاَللَّه أَكْرَم مِنْ أَنْ يُضِيع عَمَله إِذَا حَسُنَ إِسْلَامه . وَقَدْ تَأَوَّلَ الْحَرْبِيّ الْحَدِيث عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : ( أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت ) , أَيْ مَا تَقَدَّمَ لَك مِنْ خَيْر عَمِلْته فَذَلِكَ لَك . كَمَا تَقُول : أَسْلَمْت عَلَى أَلْف دِرْهَم , أَيْ عَلَى أَنْ أَحْرَزَهَا لِنَفْسِهِ . وَاَللَّه أَعْلَم . [ الرَّابِعَة ] فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مُسْلِم عَنْ الْعَبَّاس قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه إِنَّ أَبَا طَالِب كَانَ يَحُوطك وَيَنْصُرك , فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ وَجَدْته فِي غَمَرَات مِنْ النَّار فَأَخْرَجْته إِلَى ضَحْضَاح ) . قِيلَ لَهُ : لَا يَبْعُد أَنْ يُخَفَّف عَنْ الْكَافِر بَعْض الْعَذَاب بِمَا عَمِلَ مِنْ الْخَيْر , لَكِنْ مَعَ اِنْضِمَام شَفَاعَة , كَمَا جَاءَ فِي أَبِي طَالِب . فَأَمَّا غَيْره فَقَدْ أَخْبَرَ التَّنْزِيل بِقَوْلِهِ : " فَمَا تَنْفَعهُمْ شَفَاعَة الشَّافِعِينَ " [ الْمُدَّثِّر : 48 ] . وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ الْكَافِرِينَ : " فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ . وَلَا صَدِيق حَمِيم " [ الشُّعَرَاء : 100 , 101 ] وَقَدْ رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عِنْده عَمّه أَبُو طَالِب فَقَالَ : ( لَعَلَّهُ تَنْفَعهُ شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة فَيُجْعَل فِي ضَحْضَاح مِنْ النَّار يَبْلُغ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغه ) . مِنْ حَدِيث الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ( وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ النَّار ) .



أَيْ كَافِرِينَ .
وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَسورة التوبة الآية رقم 54
" أَنْ " الْأُولَى فِي مَوْضِع نَصْب , وَالثَّانِيَة فِي مَوْضِع رَفْع . وَالْمَعْنَى : وَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ أَنْ تُقْبَل مِنْهُمْ نَفَقَاتهمْ إِلَّا كُفْرهمْ وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " أَنْ يَقْبَل مِنْهُمْ " بِالْيَاءِ , لِأَنَّ النَّفَقَات وَالْإِنْفَاق وَاحِد .


قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَة صَلَّى وَإِنْ اِنْفَرَدَ لَمْ يُصَلِّ , وَهُوَ الَّذِي لَا يَرْجُو عَلَى الصَّلَاة ثَوَابًا وَلَا يَخْشَى فِي تَرْكهَا عِقَابًا . فَالنِّفَاق يُورِث الْكَسَل فِي الْعِبَادَة لَا مَحَالَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ النِّسَاء ] الْقَوْل فِي هَذَا كُلّه . وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ حَدِيث الْعَلَاء مُوعَبًا . وَالْحَمْد لِلَّهِ .


لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَغْرَمًا وَمَنْعهَا مَغْنَمًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْر كَذَلِكَ فَهِيَ غَيْر مُتَقَبَّلَة وَلَا مُثَاب عَلَيْهَا حَسْب مَا تَقَدَّمَ .
فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَسورة التوبة الآية رقم 55
أَيْ لَا تَسْتَحْسِن مَا أَعْطَيْنَاهُمْ وَلَا تَمِلْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ اِسْتِدْرَاج " إِنَّمَا يُرِيد اللَّه لِيُعَذِّبهُمْ بِهَا " قَالَ الْحَسَن : الْمَعْنَى بِإِخْرَاجِ الزَّكَاة وَالْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه . وَهَذَا اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَالْمَعْنَى فَلَا تُعْجِبك أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا إِنَّمَا يَرِيد اللَّه لِيُعَذِّبهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَة . وَهَذَا قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعَرَبِيَّة , ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَقِيلَ : يُعَذِّبهُمْ بِالتَّعَبِ فِي الْجَمْع . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل وَقَوْل الْحَسَن لَا تَقْدِيم فِيهِ وَلَا تَأْخِير , وَهُوَ حَسَن . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَلَا تُعْجِبك أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ إِنَّمَا يُرِيد اللَّه لِيُعَذِّبهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ , فَهُمْ يُنْفِقُونَ كَارِهِينَ فَيُعَذَّبُونَ بِمَا يُنْفِقُونَ .


نَصّ فِي أَنَّ اللَّه يُرِيد أَنْ يَمُوتُوا كَافِرِينَ , سَبَقَ بِذَلِكَ الْقَضَاء .
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَسورة التوبة الآية رقم 56
بَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَخْلَاق الْمُنَافِقِينَ الْحَلِف بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ . نَظِيره " إِذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَد إِنَّك لَرَسُول اللَّه " [ الْمُنَافِقُونَ : 1 ] الْآيَة . وَالْفَرَق الْخَوْف , أَيْ يَخَافُونَ أَنْ يُظْهِرُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ فَيُقْتَلُوا .
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَسورة التوبة الآية رقم 57
كَذَا الْوَقْف عَلَيْهِ . وَفِي الْخَطّ بِأَلِفَيْنِ : الْأُولَى هَمْزَة , وَالثَّانِيَة عِوَض مِنْ التَّنْوِين , وَكَذَا رَأَيْت جُزْءًا . وَالْمَلْجَأ الْحِصْن , عَنْ قَتَادَة وَغَيْره . اِبْن عَبَّاس : الْحِرْز , وَهُمَا سَوَاء . يُقَال : لَجَأْت إِلَيْهِ لَجَأ ( بِالتَّحْرِيكِ ) وَمَلْجَأ وَالْتَجَأْت إِلَيْهِ بِمَعْنًى . وَالْمَوْضِع أَيْضًا لَجَأَ وَمَلْجَأ . وَالتَّلْجِئَة الْإِكْرَاه . وَأَلْجَأْته إِلَى الشَّيْء اِضْطَرَرْته إِلَيْهِ . وَأَلْجَأْت أَمْرِي إِلَى اللَّه أَسْنَدْته . وَعَمْرو بْن لَجَأَ التَّمِيمِيّ الشَّاعِر عَنْ الْجَوْهَرِيّ .


جَمْع مَغَارَة , مِنْ غَارَ يَغِير . قَالَ الْأَخْفَش : وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ أَغَارَ يُغِير , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : الْحَمْد لِلَّهِ مُمْسَانَا وَمُصْبَحَنَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمَغَارَات الْغِيرَان وَالسَّرَادِيب , وَهِيَ الْمَوَاضِع الَّتِي يَسْتَتِر فِيهَا , وَمِنْهُ غَارَ الْمَاء وَغَارَتْ الْعَيْن .


مُفْتَعَل مِنْ الدُّخُول , أَيْ مَسْلَكًا نَخْتَفِي بِالدُّخُولِ فِيهِ , وَأَعَادَهُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ . قَالَ النَّحَّاس : الْأَصْل فِيهِ مُدْتَخَل , قُلِبَتْ التَّاء دَالًا , لِأَنَّ الدَّال مَجْهُورَة وَالتَّاء مَهْمُوسَة وَهُمَا مِنْ مَخْرَج وَاحِد . وَقِيلَ : الْأَصْل فِيهِ مُتَدَخَّل عَلَى مُتَفَعَّل , كَمَا فِي قِرَاءَة أُبَيّ : " أَوْ مُتَدَخَّلًا " وَمَعْنَاهُ دُخُول بَعْد دُخُول , أَيْ قَوْمًا يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ . الْمَهْدَوِيّ : مُتَدَخِّلًا مِنْ تَدَخَّلَ مِثْل تَفَعَّلَ إِذَا تَكَلَّفَ الدُّخُول . وَعَنْ أُبَيّ أَيْضًا : مُنْدَخَلًا مِنْ انْدَخَلَ , وَهُوَ شَاذّ , لِأَنَّ ثُلَاثِيّه غَيْر مُتَعَدٍّ عِنْد سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابه . وَقَرَأَ الْحَسَن وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَابْن مُحَيْصِن : " أَوْ مَدْخَلًا " بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الدَّال . قَالَ الزَّجَّاج : وَيَقْرَأ " أَوْ مُدْخَلًا " بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الدَّال . الْأَوَّل مِنْ دَخَلَ يَدْخُل . وَالثَّانِي مِنْ أَدْخَلَ يُدْخِل . كَذَا الْمَصْدَر وَالْمَكَان وَالزَّمَان كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : مُغَار اِبْن هَمَّام عَلَى حَيّ خَثْعَمَا

وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَة وَعِيسَى وَالْأَعْمَش " أَوْ مُدَّخَّلًا " بِتَشْدِيدِ الدَّال وَالْخَاء . وَالْجُمْهُور بِتَشْدِيدِ الدَّال وَحْدهَا , أَيْ مَكَانًا يُدْخِلُونَ فِيهِ أَنْفُسهمْ . فَهَذِهِ سِتّ قِرَاءَات .


أَيْ لَرَجَعُوا إِلَيْهِ .


أَيْ يُسْرِعُونَ , لَا يَرُدّ وُجُوههمْ شَيْء . مِنْ جَمَحَ الْفَرَس إِذَا لَمْ يَرُدّهُ اللِّجَام . قَالَ الشَّاعِر : سَبُوحًا جَمُوحًا وَإِحْضَارهَا كَمَعْمَعَةِ السَّعَف الْمُوقَد وَالْمَعْنَى : لَوْ وَجَدُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لَوَلَّوْا إِلَيْهِ مُسْرِعِينَ هَرَبًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَسورة التوبة الآية رقم 58
" وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزمك فِي الصَّدَقَات " أَيْ يَطْعَن عَلَيْك , عَنْ قَتَادَة . الْحَسَن : يَعِيبك . وَقَالَ مُجَاهِد : أَيْ يَرُوزك وَيَسْأَلك . النَّحَّاس : وَالْقَوْل عِنْد أَهْل اللُّغَة قَوْل قَتَادَة وَالْحَسَن . يُقَال : لَمَزَهُ يَلْمِزهُ إِذَا عَابَهُ . وَاللَّمْز فِي اللُّغَة الْعَيْب فِي السِّرّ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : اللَّمْز الْعَيْب , وَأَصْله الْإِشَارَة بِالْعَيْنِ وَنَحْوهَا , وَقَدْ لَمَزَهُ يَلْمِزهُ وَيَلْمُزهُ وَقُرِئَ بِهِمَا " وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزك فِي الصَّدَقَات " . وَرَجُل لَمَّاز وَلُمَزَة أَيْ عَيَّاب . وَيُقَال أَيْضًا : لَمَزَهُ يَلْمِزهُ إِذَا دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ . وَالْهَمْز مِثْل اللَّمْز . وَالْهَامِز وَالْهَمَّاز الْعَيَّاب , وَالْهُمَزَة مِثْله . يُقَال : رَجُل هُمَزَة وَامْرَأَة هُمَزَة أَيْضًا . وَهَمَزَهُ أَيْ دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ . ثُمَّ قِيلَ : اللَّمْز فِي الْوَجْه , وَالْهَمْز بِظَهْرِ الْغَيْب . وَصَفَ اللَّه قَوْمًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ عَابُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْرِيق الصَّدَقَات , وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ فُقَرَاء لِيُعْطِيَهُمْ . قَالَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ : بَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِم مَالًا إِذْ جَاءَهُ حُرْقُوص بْن زُهَيْر أَصْل الْخَوَارِج , وَيُقَال لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَة التَّمِيمِيّ , فَقَالَ : اِعْدِلْ يَا رَسُول اللَّه . فَقَالَ : ( وَيْلك وَمَنْ يَعْدِل إِذَا لَمْ أَعْدِل ) فَنَزَلَتْ الْآيَة . حَدِيث صَحِيح أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ . وَعِنْدهَا قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : دَعْنِي يَا رَسُول اللَّه فَأَقْتُل هَذَا الْمُنَافِق . فَقَالَ : ( مَعَاذ اللَّه أَنْ يَتَحَدَّث النَّاس أَنِّي أَقْتُل أَصْحَابِي إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابه يَقْرَءُونَ الْقُرْآن لَا يُجَاوِز حَنَاجِرهمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُق السَّهْم مِنْ الرَّمِيَّة ) .
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَسورة التوبة الآية رقم 59
" وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّه " جَوَاب " لَوْ " مَحْذُوف , التَّقْدِير لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ .
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة التوبة الآية رقم 60
خَصَّ اللَّه سُبْحَانه بَعْض النَّاس بِالْأَمْوَالِ دُون بَعْض نِعْمَة مِنْهُ عَلَيْهِمْ , وَجَعَلَ شُكْر ذَلِكَ مِنْهُمْ إِخْرَاج سَهْم يُؤَدُّونَهُ إِلَى مَنْ لَا مَال لَهُ , نِيَابَة عَنْهُ سُبْحَانه فِيمَا ضَمِنَهُ بِقَوْلِهِ : " وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الْأَرْض إِلَّا عَلَى اللَّه رِزْقهَا " [ هُود : 6 ] .

" لِلْفُقَرَاءِ " تَبْيِين لِمَصَارِف الصَّدَقَات وَالْمَحَلّ , حَتَّى لَا تَخْرُج عَنْهُمْ . ثُمَّ الِاخْتِيَار إِلَى مَنْ يُقْسَم , هَذَا قَوْل مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا . كَمَا يُقَال : السَّرْج لِلدَّابَّةِ وَالْبَاب لِلدَّارِ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : اللَّام لَام التَّمْلِيك , كَقَوْلِك : الْمَال لِزَيْدٍ وَعَمْرو وَبَكْر , فَلَا بُدّ مِنْ التَّسْوِيَة بَيْن الْمَذْكُورِينَ . قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه : وَهَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَصْنَافٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ . وَاحْتَجُّوا بِلَفْظَةِ " إِنَّمَا " وَأَنَّهَا تَقْتَضِي الْحَصْر فِي وُقُوف الصَّدَقَات عَلَى الثَّمَانِيَة الْأَصْنَاف وَعَضَّدُوا هَذَا بِحَدِيثِ زِيَاد بْن الْحَارِث الصُّدَائِيّ قَالَ : أَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْعَث إِلَى قَوْمِي جَيْشًا فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه اِحْبِسْ جَيْشك فَأَنَا لَك بِإِسْلَامِهِمْ وَطَاعَتهمْ , وَكَتَبْت إِلَى قَوْمِي فَجَاءَ إِسْلَامهمْ وَطَاعَتهمْ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَخَا صُدَاء الْمُطَاع فِي قَوْمه ) . قَالَ : قُلْت بَلْ مَنَّ اللَّه عَلَيْهِمْ وَهَدَاهُمْ , قَالَ : ثُمَّ جَاءَهُ رَجُل يَسْأَلهُ عَنْ الصَّدَقَات , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَات بِحُكْمِ نَبِيّ وَلَا غَيْره حَتَّى جَزَّأَهَا ثَمَانِيَة أَجْزَاء فَإِنْ كُنْت مِنْ أَهْل تِلْكَ الْأَجْزَاء أَعْطَيْتُك ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ . وَاللَّفْظ لِلدَّارَقُطْنِيّ . وَحُكِيَ عَنْ زَيْن الْعَابِدِينَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ قَدْر مَا يُدْفَع مِنْ الزَّكَاة وَمَا تَقَع بِهِ الْكِفَايَة لِهَذِهِ الْأَصْنَاف , وَجَعَلَهُ حَقًّا لِجَمِيعِهِمْ , فَمَنْ مَنَعَهُمْ ذَلِكَ فَهُوَ الظَّالِم لَهُمْ رِزْقهمْ . وَتَمَسَّكَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْر لَكُمْ " [ الْبَقَرَة : 271 ] . وَالصَّدَقَة مَتَى أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآن فَهِيَ صَدَقَة الْفَرْض . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُمِرْتُ أَنْ آخُذ الصَّدَقَة مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ ) . وَهَذَا نَصّ فِي ذِكْر أَحَد الْأَصْنَاف الثَّمَانِيَة قُرْآنًا وَسُنَّة , وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَحُذَيْفَة . وَقَالَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ جَمَاعَة . قَالُوا : جَائِز أَنْ يَدْفَعهَا إِلَى الْأَصْنَاف الثَّمَانِيَة , وَإِلَى أَيّ صِنْف مِنْهَا دُفِعَتْ جَازَ . رَوَى الْمِنْهَال بْن عَمْرو عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش عَنْ حُذَيْفَة فِي قَوْله : " إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين " قَالَ : إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه هَذِهِ الصَّدَقَات لِتَعْرِف وَأَيّ صِنْف مِنْهَا أَعْطَيْت أَجْزَأَك . وَرَوَى سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس " إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين " قَالَ : فِي أَيّهَا وَضَعْت أَجْزَأَ عَنْك . وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم وَغَيْرهمَا . قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : حَتَّى اِدَّعَى مَالِك الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ .

قُلْت : يُرِيد إِجْمَاع الصَّحَابَة , فَإِنَّهُ لَا يُعْلَم لَهُمْ مُخَالِف مِنْهُمْ عَلَى مَا قَالَ أَبُو عُمَر , وَاَللَّه أَعْلَم . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي جَعَلْنَاهُ فَيْصَلًا بَيْننَا وَبَيْنهمْ أَنَّ الْأُمَّة اِتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ كُلّ صِنْف حَظّه لَمْ يَجِب تَعْمِيمه , فَكَذَلِكَ تَعْمِيم الْأَصْنَاف مِثْله . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَاخْتَلَفَ عُلَمَاء اللُّغَة وَأَهْل الْفِقْه فِي الْفَرْق بَيْن الْفَقِير وَالْمِسْكِين عَلَى تِسْعَة أَقْوَال : فَذَهَبَ يَعْقُوب بْن السِّكِّيت وَالْقُتَبِيّ وَيُونُس بْن حَبِيب إِلَى أَنَّ الْفَقِير أَحْسَن حَالًا مِنْ الْمِسْكِين . قَالُوا : الْفَقِير هُوَ الَّذِي لَهُ بَعْض مَا يَكْفِيه وَيُقِيمهُ , وَالْمِسْكِين الَّذِي لَا شَيْء لَهُ , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الرَّاعِي : ش أَمَّا الْفَقِير الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَته و وَفْق الْعِيَال فَلَمْ يُتْرَك لَهُ سَبَد ش وَذَهَبَ إِلَى هَذَا قَوْم مِنْ أَهْل اللُّغَة وَالْحَدِيث مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة وَالْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب , وَالْوَفْق مِنْ الْمُوَافَقَة بَيْن الشَّيْئَيْنِ كَالِالْتِحَامِ , يُقَال : حَلُوبَته وَفْق عِيَاله أَيْ لَهَا لَبَن قَدْر كِفَايَتهمْ لَا فَضْل فِيهِ , عَنْ الْجَوْهَرِيّ . وَقَالَ آخَرُونَ بِالْعَكْسِ , فَجَعَلُوا الْمِسْكِين أَحْسَن حَالًا مِنْ الْفَقِير . وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَمَّا السَّفِينَة فَكَانَتْ لِمَسَاكِين يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْر " [ الْكَهْف : 79 ] . فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَة مِنْ سُفُن الْبَحْر . وَرُبَّمَا سَاوَتْ جُمْلَة مِنْ الْمَال . وَعَضَّدُوهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَعَوَّذَ مِنْ الْفَقْر . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا " . فَلَوْ كَانَ الْمِسْكِين أَسْوَأ حَالًا مِنْ الْفَقِير لَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ , إِذْ يَسْتَحِيل أَنْ يَتَعَوَّذ مِنْ الْفَقْر ثُمَّ يَسْأَل مَا هُوَ أَسْوَأ حَالًا مِنْهُ , وَقَدْ اِسْتَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ وَقَبَضَهُ وَلَهُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِ , وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَمَام الْكِفَايَة , وَلِذَلِكَ رَهَنَ دِرْعه . قَالُوا : وَأَمَّا بَيْت الرَّاعِي فَلَا حُجَّة فِيهِ , لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الْفَقِير كَانَتْ لَهُ حَلُوبَة فِي حَال . قَالُوا : وَالْفَقِير مَعْنَاهُ فِي كَلَام الْعَرَب الْمَفْقُور الَّذِي نُزِعَتْ فِقَره مِنْ ظَهْره مِنْ شِدَّة الْفَقْر فَلَا حَال أَشَدّ مِنْ هَذِهِ . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ " لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْض " [ الْبَقَرَة : 273 ] . وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الشَّاعِر : لَمَّا رَأَى لُبَد النُّسُور تَطَايَرَتْ رَفَعَ الْقَوَادِم كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَل أَيْ لَمْ يُطِقْ الطَّيَرَان فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اِنْقَطَعَ صُلْبه وَلَصِقَ بِالْأَرْضِ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره , وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَنْ الْكُوفِيِّينَ . وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ وَأَكْثَر أَصْحَابه . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْل آخَر : أَنَّ الْفَقِير وَالْمِسْكِين سَوَاء , لَا فَرْق بَيْنهمَا فِي الْمَعْنَى وَإِنْ اِفْتَرَقَا فِي الِاسْم , وَهُوَ الْقَوْل الثَّالِث . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اِبْن الْقَاسِم وَسَائِر أَصْحَاب مَالِك , وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُف .

قُلْت : ظَاهِر اللَّفْظ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِين غَيْر الْفَقِير , وَأَنَّهُمَا صِنْفَانِ , إِلَّا أَنَّ أَحَد الصِّنْفَيْنِ أَشَدّ حَاجَة مِنْ الْآخَر , فَمِنْ هَذَا الْوَجْه يَقْرَب قَوْل مَنْ جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا , وَاَللَّه أَعْلَم . وَلَا حُجَّة فِي قَوْل مَنْ اِحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَمَّا السَّفِينَة فَكَانَتْ لِمَسَاكِين " [ الْكَهْف : 79 ] لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ تَكُون مُسْتَأْجَرَة لَهُمْ , كَمَا يُقَال : هَذِهِ دَار فُلَان إِذَا كَانَ سَاكِنهَا وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْف أَهْل النَّار : " وَلَهُمْ مَقَامِع مِنْ حَدِيد " [ الْحَجّ : 21 ] فَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُمْ " [ النِّسَاء : 5 ] . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَال ... ) وَهُوَ كَثِير جِدًّا يُضَاف الشَّيْء إِلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ . وَمِنْهُ قَوْلهمْ : بَاب الدَّار . وَجُلّ الدَّابَّة , وَسَرْج الْفَرَس , وَشَبَهه . وَيَجُوز أَنْ يُسَمُّوا مَسَاكِين عَلَى جِهَة الرَّحْمَة وَالِاسْتِعْطَاف , كَمَا يُقَال لِمَنْ اُمْتُحِنَ بِنَكْبَةٍ أَوْ دُفِعَ إِلَى بَلِيَّة مِسْكِين . وَفِي الْحَدِيث ( مَسَاكِين أَهْل النَّار ) وَقَالَ الشَّاعِر : مَسَاكِين أَهْل الْحُبّ حَتَّى قُبُورهمْ عَلَيْهَا تُرَاب الذُّلّ بَيْن الْمَقَابِر وَأَمَّا مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ) الْحَدِيث . رَوَاهُ أَنَس , فَلَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا الْمَعْنَى هَاهُنَا : التَّوَاضُع لِلَّهِ الَّذِي لَا جَبَرُوت فِيهِ وَلَا نَخْوَة , وَلَا كِبْر وَلَا بَطَر , وَلَا تَكَبُّر وَلَا أَشَر . وَلَقَدْ أَحْسَن أَبُو الْعَتَاهِيَة حَيْثُ قَالَ : إِذَا أَرَدْت شَرِيف الْقَوْم كُلّهمْ فَانْظُرْ إِلَى مَلِك فِي زِيّ مِسْكِين ذَاكَ الَّذِي عَظُمَتْ فِي اللَّه رَغْبَته وَذَاكَ يَصْلُح لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ وَلَيْسَ بِالسَّائِلِ , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَرِهَ السُّؤَال وَنَهَى عَنْهُ , وَقَالَ فِي اِمْرَأَة سَوْدَاء أَبَتْ أَنْ تَزُول لَهُ عَنْ الطَّرِيق : ( دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَة ) وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : " لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أَحُصِرُوا فِي سَبِيل اللَّه لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْض " [ الْبَقَرَة : 273 ] فَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُون لَهُمْ شَيْء . وَاَللَّه أَعْلَم . وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَاب مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي أَنَّهُمَا سَوَاء حَسَن . وَيَقْرَب مِنْهُ مَا قَالَهُ مَالِك فِي كِتَاب اِبْن سَحْنُون , قَالَ : الْفَقِير الْمُحْتَاج الْمُتَعَفِّف , وَالْمِسْكِين السَّائِل , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَهُ الزُّهْرِيّ , وَاخْتَارَهُ اِبْن شَعْبَان وَهُوَ الْقَوْل الرَّابِع . وَقَوْل خَامِس : قَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة : الْفَقِير الَّذِي لَهُ الْمَسْكَن وَالْخَادِم إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَل مِنْ ذَلِكَ . وَالْمِسْكِين الَّذِي لَا مَال لَهُ .

قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل عَكْس مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو , وَسَأَلَهُ رَجُل فَقَالَ : أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه : أَلَك اِمْرَأَة تَأْوِي إِلَيْهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : أَلَك مَسْكَن تَسْكُنهُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : فَأَنْتَ مِنْ الْأَغْنِيَاء . قَالَ : فَإِنَّ لِي خَادِمًا قَالَ : فَأَنْتَ مِنْ الْمُلُوك . وَقَوْل سَادِس : رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : الْفُقَرَاء مِنْ الْمُهَاجِرِينَ , وَالْمَسَاكِين مِنْ الْأَعْرَاب الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا وَقَالَهُ الضَّحَّاك . وَقَوْل سَابِع : وَهُوَ أَنَّ الْمِسْكِين الَّذِي يَخْشَع وَيَسْتَكِنّ وَإِنْ لَمْ يَسْأَل . وَالْفَقِير الَّذِي يَتَحَمَّل وَيَقْبَل الشَّيْء سِرًّا وَلَا يَخْشَع , قَالَهُ عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن . وَقَوْل ثَامِن قَالَهُ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالزُّهْرِيّ - الْمَسَاكِين الطَّوَّافُونَ , وَالْفُقَرَاء فُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ . وَقَوْل تَاسِع قَالَهُ عِكْرِمَة أَيْضًا - أَنَّ الْفُقَرَاء فُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ , وَالْمَسَاكِين فُقَرَاء أَهْل الْكِتَاب . وَسَيَأْتِي .

وَهِيَ فَائِدَة الْخِلَاف فِي الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين , هَلْ هُمَا صِنْف وَاحِد أَوْ أَكْثَر تَظْهَر فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَاله لِفُلَانٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين , فَمَنْ قَالَ هُمَا صِنْف وَاحِد قَالَ : يَكُون لِفُلَانٍ نِصْف الثُّلُث وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين نِصْف الثُّلُث الثَّانِي . وَمَنْ قَالَ هُمَا صِنْفَانِ يَقْسِم الثُّلُث بَيْنهمْ أَثْلَاثًا .

وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حَدّ الْفَقْر الَّذِي يَجُوز مَعَهُ الْأَخْذ - بَعْد إِجْمَاع أَكْثَر مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم - أَنَّ مَنْ لَهُ دَارًا وَخَادِمًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذ مِنْ الزَّكَاة , وَلِلْمُعْطِي أَنْ يُعْطِيه . وَكَانَ مَالِك يَقُول : إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَن الدَّار وَالْخَادِم فَضْلَة عَمَّا يَحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهُمَا جَازَ لَهُ الْأَخْذ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ , ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَبِقَوْلِ مَالِك قَالَ النَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : مَنْ مَعَهُ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَم فَلَا يَأْخُذ مِنْ الزَّكَاة . فَاعْتَبَرَ النِّصَاب لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أُمِرْت أَنْ آخُذ الصَّدَقَة مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ ) . وَهَذَا وَاضِح , وَرَوَاهُ الْمُغِيرَة عَنْ مَالِك . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَغَيْرهمْ : لَا يَأْخُذ مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قَدْرهَا مِنْ الذَّهَب , وَلَا يُعْطِي مِنْهَا أَكْثَر مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا إِلَّا أَنْ يَكُون غَارِمًا , قَالَهُ أَحْمَد وَإِسْحَاق . وَحُجَّة هَذَا الْقَوْل مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِرَجُلٍ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ) . فِي إِسْنَاده عَبْد الرَّحْمَن بْن إِسْحَاق ضَعِيف , وَعَنْهُ بَكْر بْن خُنَيْس ضَعِيف أَيْضًا . وَرَوَاهُ حَكِيم بْن جُبَيْر عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوه , وَقَالَ : ( خَمْسُونَ دِرْهَمًا ) وَحَكِيم بْن جُبَيْر ضَعِيف تَرَكَهُ شُعْبَة وَغَيْره , قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَحِمَهُ اللَّه . وَقَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا الْحَدِيث يَدُور عَلَى حَكِيم بْن جُبَيْر وَهُوَ مَتْرُوك . وَعَنْ عَلِيّ وَعَبْد اللَّه قَالَا : لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتهَا مِنْ الذَّهَب , ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : لَا يَأْخُذ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا . وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيّ عَنْ مَالِك . وَحُجَّة هَذَا الْقَوْل مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ سَأَلَ النَّاس وَهُوَ غَنِيّ جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَفِي وَجْهه كُدُوح وَخُدُوش ) . فَقِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَا غِنَاؤُهُ ؟ قَالَ : ( أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ) . وَفِي حَدِيث مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ عَطَاء بْن يَسَار عَنْ رَجُل مِنْ بَنِي أَسَد فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّة أَوْ عَدْلهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا وَالْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ) . وَالْمَشْهُور عَنْ مَالِك مَا رَوَاهُ اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ : هَلْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاة مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ أَبُو عُمَر : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْأَوَّل قَوِيًّا عَلَى الِاكْتِسَاب حَسَن التَّصَرُّف . وَالثَّانِي ضَعِيفًا عَنْ الِاكْتِسَاب , أَوْ مَنْ لَهُ عِيَال . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر . مَنْ كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْكَسْب وَالتَّحَرُّف مَعَ قُوَّة الْبَدَن وَحُسْن التَّصَرُّف حَتَّى يُغْنِيه ذَلِكَ عَنْ النَّاس فَالصَّدَقَة عَلَيْهِ حَرَام . وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّة سَوِيّ ) رَوَاهُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر , وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ . وَرَوَى جَابِر قَالَ : جَاءَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَة فَرَكِبَهُ النَّاس , فَقَالَ : ( إِنَّهَا لَا تَصْلُح لِغَنِيٍّ وَلَا لِصَحِيحٍ وَلَا لِعَامِلٍ ) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَدِيّ بْن الْخِيَار قَالَ : أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع وَهُوَ يَقْسِم الصَّدَقَة فَسَأَلَاهُ مِنْهَا , فَرَفَعَ فِينَا النَّظَر وَخَفَضَهُ , فَرَآنَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ : ( إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِب ) . وَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ غَنِيًّا بِكَسْبِهِ كَغِنَى غَيْره بِمَالِهِ فَصَارَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا غَنِيًّا عَنْ الْمَسْأَلَة . وَقَالَهُ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد , وَحَكَاهُ عَنْ الْمَذْهَب . وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّل عَلَيْهِ , فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِيهَا الْفُقَرَاء وَوُقُوفهَا عَلَى الزَّمِن بَاطِل . قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه : إِذَا كَانَ الرَّجُل قَوِيًّا مُحْتَاجًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْده شَيْء فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَجْزَأَ عَنْ الْمُتَصَدِّق عِنْد أَهْل الْعِلْم . وَوَجْه الْحَدِيث عِنْد بَعْض أَهْل الْعِلْم عَلَى الْمَسْأَلَة . وَقَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَالظَّاهِر يَقْتَضِي جَوَاز ذَلِكَ , لِأَنَّهُ فَقِير مَعَ قُوَّته وَصِحَّة بَدَنه . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه . وَقَالَ عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن : مَنْ لَا يَكُون لَهُ مَا يَكْفِيه وَيُقِيمهُ سَنَة فَإِنَّهُ يُعْطَى الزَّكَاة . وَحُجَّته مَا رَوَاهُ اِبْن شِهَاب عَنْ مَالِك بْن أَوْس بْن الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدَّخِر مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِ قُوت سَنَة , ثُمَّ يَجْعَل مَا سِوَى ذَلِكَ فِي الْكُرَاع وَالسِّلَاح مَعَ قَوْله تَعَالَى : " وَوَجَدَك عَائِلًا فَأَغْنَى " [ الضُّحَى : 8 ] . وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : لِكُلِّ وَاحِد أَنْ يَأْخُذ مِنْ الصَّدَقَة فِيمَا لَا بُدّ لَهُ مِنْهُ . وَقَالَ قَوْم : مَنْ عِنْده عَشَاء لَيْلَة فَهُوَ غَنِيّ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَلِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَة عَنْ ظَهْر غِنًى اِسْتَكْثَرَ بِهَا مِنْ رَضْف جَهَنَّم ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , وَمَا ظَهْر الْغِنَى ؟ قَالَ : ( عَشَاء لَيْلَة ) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : فِي إِسْنَاده عَمْرو بْن خَالِد وَهُوَ مَتْرُوك . وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْل بْن الْحَنْظَلِيَّة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ : ( مَنْ سَأَلَ وَعِنْده مَا يُغْنِيه فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِر مِنْ النَّار ) . وَقَالَ النُّفَيْلِيّ فِي مَوْضِع آخَر ( مِنْ جَمْر جَهَنَّم ) . فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه وَمَا يُغْنِيه ؟ وَقَالَ النُّفَيْلِيّ فِي مَوْضِع آخَر : وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا تَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَة ؟ قَالَ : ( قَدْر مَا يُغَدِّيه وَيُعَشِّيه ) . وَقَالَ النُّفَيْلِيّ فِي مَوْضِع آخَر : ( أَنْ يَكُون لَهُ شِبَع يَوْم وَلَيْلَة أَوْ لَيْلَة وَيَوْم ) .

قُلْت : فَهَذَا مَا جَاءَ فِي بَيَان الْفَقْر الَّذِي يَجُوز مَعَهُ الْأَخْذ . وَمُطْلَق لَفْظ الْفُقَرَاء لَا يَقْتَضِي الِاخْتِصَاص بِالْمُسْلِمِينَ دُون أَهْل الذِّمَّة , وَلَكِنْ تَظَاهَرَتْ الْأَخْبَار فِي أَنَّ الصَّدَقَات تُؤْخَذ مِنْ أَغْنِيَاء الْمُسْلِمِينَ فَتُرَدّ فِي فُقَرَائِهِمْ . وَقَالَ عِكْرِمَة : الْفُقَرَاء فُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ , وَالْمَسَاكِين فُقَرَاء أَهْل الْكِتَاب . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْعَبْسِيّ : رَأَى عُمَر بْن الْخَطَّاب ذِمِّيًّا مَكْفُوفًا مَطْرُوحًا عَلَى بَاب الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ عُمَر : مَا لَك ؟ قَالَ : اسْتَكْرُونِي فِي هَذِهِ الْجِزْيَة , حَتَّى إِذَا كُفَّ بَصَرِي تَرَكُونِي وَلَيْسَ لِي أَحَد يَعُود عَلَيَّ بِشَيْءٍ . فَقَالَ عُمَر : مَا أُنْصِفْت إِذًا , فَأَمَرَ لَهُ بِقُوتِهِ وَمَا يُصْلِحهُ . ثُمَّ قَالَ : ( هَذَا مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمْ : " إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين " الْآيَة . وَهُمْ زَمْنَى أَهْل الْكِتَاب ) وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : " إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين " الْآيَة , وَقَابَلَ الْجُمْلَة بِالْجُمْلَةِ وَهِيَ جُمْلَة الصَّدَقَة بِجُمْلَةِ الْمَصْرِف بَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ , فَقَالَ لِمُعَاذٍ حِين أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَن : ( أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّه اِفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَة تُؤْخَذ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدّ فِي فُقَرَائِهِمْ ) . فَاخْتَصَّ أَهْل كُلّ بَلَد بِزَكَاةِ بَلَده . وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ زِيَادًا أَوْ بَعْض الْأُمَرَاء بَعَثَ عِمْرَان بْن حُصَيْن عَلَى الصَّدَقَة , فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لِعِمْرَان : أَيْنَ الْمَال ؟ قَالَ : وَلِلْمَالِ أَرْسَلَتْنِي أَخَذْنَاهَا مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذهَا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعْنَاهَا حَيْثُ كُنَّا نَضَعهَا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ عَوْن بْن أَبِي جُحَيْفَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا مُصَدِّق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ الصَّدَقَة مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَجَعَلَهَا فِي فُقَرَائِنَا فَكُنْت غُلَامًا يَتِيمًا فَأَعْطَانِي مِنْهَا قَلُوصًا . قَالَ التِّرْمِذِيّ : وَفِي الْبَاب عَنْ اِبْن عَبَّاس حَدِيث اِبْن أَبِي جُحَيْفَة حَدِيث حَسَن .

اِعْلَمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " لِلْفُقَرَاءِ " مُطْلَق لَيْسَ فِيهِ شَرْط وَتَقْيِيد , بَلْ فِيهِ دَلَالَة عَلَى جَوَاز الصَّرْف إِلَى جُمْلَة الْفُقَرَاء كَانُوا مِنْ بَنِي هَاشِم أَوْ غَيْرهمْ , إِلَّا أَنَّ السُّنَّة وَرَدَتْ بِاعْتِبَارِ شُرُوط : مِنْهَا أَلَّا يَكُونُوا مِنْ بَنِي هَاشِم وَأَلَّا يَكُونُوا مِمَّنْ تَلْزَم الْمُتَصَدِّقَ نَفَقَتُهُ . وَهَذَا لَا خِلَاف فِيهِ . وَشَرْط ثَالِث أَلَّا يَكُون قَوِيًّا عَلَى الِاكْتِسَاب , لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : ( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّة سَوِيّ ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ . وَلَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لَا تَحِلّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا لِبَنِي هَاشِم وَلَا لِمَوَالِيهِمْ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف جَوَاز صَرْف صَدَقَة الْهَاشِمِيّ لِلْهَاشِمِيِّ , حَكَاهُ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ . وَشَذَّ بَعْض أَهْل الْعِلْم فَقَالَ : إِنَّ مَوَالِي بَنِي هَاشِم لَا يَحْرُم عَلَيْهِمْ شَيْء مِنْ الصَّدَقَات . وَهَذَا خِلَاف الثَّابِت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَالَ لِأَبِي رَافِع مَوْلَاهُ : ( وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْم مِنْهُمْ )

وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاء فِي نَقْل الزَّكَاة عَنْ مَوْضِعهَا عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال [ الْأَوَّل ] لَا تُنْقَل , قَالَهُ سَحْنُون وَابْن الْقَاسِم , وَهُوَ الصَّحِيح لِمَا ذَكَرْنَاهُ . قَالَ اِبْن الْقَاسِم أَيْضًا : وَإِنْ نُقِلَ بَعْضهَا لِضَرُورَةٍ رَأَيْته صَوَابًا . وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُون أَنَّهُ قَالَ : وَلَوْ بَلَغَ الْإِمَام أَنَّ بِبَعْضِ الْبِلَاد حَاجَة شَدِيدَة جَازَ لَهُ نَقْل بَعْض الصَّدَقَة الْمُسْتَحَقَّة لِغَيْرِهِ إِلَيْهِ , فَإِنَّ الْحَاجَة إِذَا نَزَلَتْ وَجَبَ تَقْدِيمهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ ( وَالْمُسْلِم أَخُو الْمُسْلِم لَا يُسْلِمهُ وَلَا يَظْلِمهُ ) . [ وَالْقَوْل الثَّانِي ] تُنْقَل . وَقَالَهُ مَالِك أَيْضًا . وَحُجَّة هَذَا الْقَوْل مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَن : ايتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيس آخُذهُ مِنْكُمْ مَكَان الذُّرَة وَالشَّعِير فِي الصَّدَقَة فَإِنَّهُ أَيْسَر عَلَيْكُمْ وَأَنْفَع لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْره . وَالْخَمِيس لَفْظ مُشْتَرَك , وَهُوَ هُنَا الثَّوْب طُوله خَمْس أَذْرُع . وَيُقَال : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّل مَنْ عَمِلَهُ الْخِمْس مَلِك مِنْ مُلُوك الْيَمَن , ذَكَرَهُ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل وَالْجَوْهَرِيّ أَيْضًا . وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيلَانِ : أَحَدهمَا : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَقْل الزَّكَاة مِنْ الْيَمَن إِلَى الْمَدِينَة , فَيَتَوَلَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَتهَا . وَيَعْضُد هَذَا قَوْله تَعَالَى : " إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ " وَلَمْ يَفْصِل بَيْن فَقِير بَلَد وَفَقِير آخَر . وَاَللَّه أَعْلَم . الثَّانِي : أَخْذ الْقِيمَة فِي الزَّكَاة . وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي إِخْرَاج الْقِيَم فِي الزَّكَاة , فَأَجَازَ ذَلِكَ مَرَّة وَمَنَعَ مِنْهُ أُخْرَى , فَوَجْه الْجَوَاز - وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة - هَذَا الْحَدِيث . وَثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ بَلَغَتْ عِنْده مِنْ الْإِبِل صَدَقَة الْجَذَعَة وَلَيْسَتْ عِنْده جَذَعَة وَعِنْده حِقَّة فَإِنَّهُ تُؤْخَذ مِنْهُ وَمَا اسْتَيْسَرْنَا مِنْ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ... ) . الْحَدِيث . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَال هَذَا الْيَوْم ) يَعْنِي يَوْم الْفِطْر . وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُغْنَوْا بِمَا يَسُدّ حَاجَتهمْ , فَأَيّ شَيْء سَدَّ حَاجَتهمْ جَازَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : " خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة " [ التَّوْبَة : 103 ] وَلَمْ يَخُصّ شَيْئًا مِنْ شَيْء . وَلَا يَدْفَع عِنْد أَبِي حَنِيفَة سُكْنَى دَار بَدَل الزَّكَاة , مِثْل أَنْ يَجِب عَلَيْهِ خَمْسَة دَرَاهِم فَأَسْكَنَ فِيهَا فَقِيرًا شَهْرًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوز . قَالَ : لِأَنَّ السُّكْنَى لَيْسَ بِمَالٍ . وَوَجْه قَوْله : لَا تَجْزِي الْقِيَم - وَهُوَ ظَاهِر الْمَذْهَب - فَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( فِي خَمْس مِنْ الْإِبِل شَاة وَفِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة ) فَنَصَّ عَلَى الشَّاة , فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَمْ يَأْتِ بِمَأْمُورٍ بِهِ , وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَالْأَمْر بَاقٍ عَلَيْهِ . [ الْقَوْل الثَّالِث ] وَهُوَ أَنَّ سَهْم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين يُقْسَم فِي الْمَوْضِع , وَسَائِر السِّهَام تُنْقَل بِاجْتِهَادِ الْإِمَام . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَهَلْ الْمُعْتَبَر مَكَان الْمَال وَقْت تَمَام الْحَوْل فَتُفَرَّق الصَّدَقَة فِيهِ , أَوْ مَكَان الْمَالِك إِذْ هُوَ الْمُخَاطَب , قَوْلَانِ . وَاخْتَارَ الثَّانِي أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن خُوَيْز مِنْدَاد فِي أَحْكَامه قَالَ : لِأَنَّ الْإِنْسَان هُوَ الْمُخَاطَب بِإِخْرَاجِهَا فَصَارَ الْمَال تَبَعًا لَهُ , فَيَجِب أَنْ يَكُون الْحُكْم فِيهِ بِحَيْثُ الْمُخَاطَب . كَابْنِ السَّبِيل فَإِنَّهُ يَكُون غَنِيًّا فِي بَلَده فَقِيرًا فِي بَلَد آخَر , فَيَكُون الْحُكْم لَهُ حَيْثُ هُوَ .

مَسْأَلَة : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِيمَنْ أَعْطَى فَقِيرًا مُسْلِمًا فَانْكَشَفَ فِي ثَانِي حَال أَنَّهُ أَعْطَى عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ غَنِيًّا , فَقَالَ مَرَّة : تَجْزِيه وَمَرَّة لَا تَجْزِيه . وَجْه الْجَوَاز - وَهُوَ الْأَصَحّ - مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( قَالَ رَجُل لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَة بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَد زَانِيَة فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّق اللَّيْلَة عَلَى زَانِيَة قَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْد عَلَى زَانِيَة لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَد غَنِيّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّق عَلَى غَنِيّ قَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْد عَلَى غَنِيّ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَد سَارِق فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّق عَلَى سَارِق فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْد عَلَى زَانِيَة وَعَلَى غَنِيّ وَعَلَى سَارِق فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتك فَقَدْ قُبِلَتْ أَمَّا الزَّانِيَة فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا وَلَعَلَّ الْغَنِيّ يَعْتَبِر فَيُنْفِق مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّه وَلَعَلَّ السَّارِق يَسْتَعِفّ بِهَا عَنْ سَرِقَته ) . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَخْرَجَ زَكَاة مَاله فَأَعْطَاهَا أَبَاهُ , فَلَمَّا أَصْبَحَ عَلِمَ بِذَلِكَ , فَسَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : ( قَدْ كُتِبَ لَك أَجْر زَكَاتك وَأَجْر صِلَة الرَّحِم فَلَك أَجْرَانِ ) . وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّهُ سَوَّغَ لَهُ الِاجْتِهَاد فِي الْمُعْطَى , فَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَعْطَى مَنْ يَظُنّهُ مِنْ أَهْلهَا فَقَدْ أَتَى بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ . وَوَجْه قَوْله : لَا يَجْزِي . أَنَّهُ لَمْ يَضَعهَا فِي مُسْتَحَقّهَا , فَأَشْبَهَ الْعَمْد , وَلِأَنَّ الْعَمْد وَالْخَطَأ فِي ضَمَان الْأَمْوَال وَاحِد فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَن مَا أَتْلَفَ عَلَى الْمَسَاكِين حَتَّى يُوصِلهُ إِلَيْهِمْ .

فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاة عِنْد مَحِلّهَا فَهَلَكَتْ مِنْ غَيْر تَفْرِيط لَمْ يَضْمَن , لِأَنَّهُ وَكِيل لِلْفُقَرَاءِ . فَإِنْ أَخْرَجَهَا بَعْد ذَلِكَ بِمُدَّةٍ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ , لِتَأْخِيرِهَا عَنْ مَحَلّهَا فَتَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ فَلِذَلِكَ ضَمِنَ وَاَللَّه أَعْلَم .

وَإِذَا كَانَ الْإِمَام يَعْدِل فِي الْأَخْذ وَالصَّرْف لَمْ يَسُغْ لِلْمَالِكِ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّرْف بِنَفْسِهِ فِي النَّاضّ وَلَا فِي غَيْره . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ زَكَاة النَّاضّ عَلَى أَرْبَابه . وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : ذَلِكَ إِذَا كَانَ الصَّرْف لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين خَاصَّة , فَإِنْ اُحْتِيجَ إِلَى صَرْفهَا لِغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَصْنَاف فَلَا يُفَرِّق عَلَيْهِمْ إِلَّا الْإِمَام . وَفُرُوع هَذَا الْبَاب كَثِيرَة , هَذِهِ أُمَّهَاتهَا .



يَعْنِي السُّعَاة وَالْجُبَاة الَّذِينَ يَبْعَثهُمْ الْإِمَام لِتَحْصِيلِ الزَّكَاة بِالتَّوْكِيلِ عَلَى ذَلِكَ . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ قَالَ : اِسْتَعْمَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَسْد عَلَى صَدَقَات بَنِي سُلَيْم يُدْعَى اِبْن اللُّتْبِيَّة , فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمِقْدَار الَّذِي يَأْخُذُونَهُ عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : قَالَ مُجَاهِد وَالشَّافِعِيّ : هُوَ الثُّمُن . اِبْن عُمَر وَمَالك : يُعْطَوْنَ قَدْر عَمَلهمْ مِنْ الْأُجْرَة , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه . قَالُوا : لِأَنَّهُ عَطَّلَ نَفْسه لِمَصْلَحَةِ الْفُقَرَاء , فَكَانَتْ كِفَايَته وَكِفَايَة أَعْوَانه فِي مَالهمْ , كَالْمَرْأَةِ لَمَّا عَطَّلَتْ نَفْسهَا لِحَقِّ الزَّوْج كَانَتْ نَفَقَتهَا وَنَفَقَة أَتْبَاعهَا مِنْ خَادِم أَوْ خَادِمَيْنِ عَلَى زَوْجهَا . وَلَا تُقَدَّر بِالثَّمَنِ , بَلْ تُعْتَبَر الْكِفَايَة ثَمَنًا كَانَ أَوْ أَكْثَر , كَرِزْقِ الْقَاضِي . وَلَا تُعْتَبَر كِفَايَة الْأَعْوَان فِي زَمَاننَا لِأَنَّهُ إِسْرَاف مَحْض . الْقَوْل الثَّالِث - يُعْطَوْنَ مِنْ بَيْت الْمَال . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا قَوْل صَحِيح عَنْ مَالِك بْن أَنَس مِنْ رِوَايَة اِبْن أَبِي أُوَيْس وَدَاوُد بْن سَعِيد بْن زنبوعة , وَهُوَ ضَعِيف دَلِيلًا , فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه قَدْ أَخْبَرَ بِسَهْمِهِمْ فِيهَا نَصًّا فَكَيْفَ يُخْلَفُونَ عَنْهُ اِسْتِقْرَاء وَسَبْرًا . وَالصَّحِيح الِاجْتِهَاد فِي قَدْر الْأُجْرَة , لِأَنَّ الْبَيَان فِي تَعْدِيد الْأَصْنَاف إِنَّمَا كَانَ لِلْمَحَلِّ لَا لِلْمُسْتَحَقِّ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ .

وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَامِل إِذَا كَانَ هَاشِمِيًّا , فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَة لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّ الصَّدَقَة لَا تَحِلّ لِآلِ مُحَمَّد إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخ النَّاس ) . وَهَذِهِ صَدَقَة مِنْ وَجْه , لِأَنَّهَا جُزْء مِنْ الصَّدَقَة فَتَلْحَق بِالصَّدَقَةِ مِنْ كُلّ وَجْه كَرَامَة وَتَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسَالَة النَّاس . وَأَجَازَ عَمَله مَالِك وَالشَّافِعِيّ , وَيُعْطَى أَجْر عِمَالَته , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب مُصَدِّقًا , وَبَعَثَهُ عَامِلًا إِلَى الْيَمَن عَلَى الزَّكَاة , وَوَلَّى جَمَاعَة مِنْ بَنِي هَاشِم وَوَلَّى الْخُلَفَاء بَعْده كَذَلِكَ . وَلِأَنَّهُ أَجِير عَلَى عَمَل مُبَاح فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِي فِيهِ الْهَاشِمِيّ وَغَيْره اِعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصِّنَاعَات . قَالَتْ الْحَنَفِيَّة : حَدِيث عَلِيّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ فَرَضَ لَهُ مِنْ الصَّدَقَة , فَإِنْ فَرَضَ لَهُ مِنْ غَيْرهَا جَازَ . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك .

وَدَلَّ قَوْله تَعَالَى : " وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا " عَلَى أَنَّ كُلّ مَا كَانَ مِنْ فُرُوض الْكِفَايَات كَالسَّاعِي وَالْكَاتِب وَالْقَسَّام وَالْعَاشِر وَغَيْرهمْ فَالْقَائِم بِهِ يَجُوز لَهُ أَخْذ الْأُجْرَة عَلَيْهِ . وَمِنْ ذَلِكَ الْإِمَامَة , فَإِنَّ الصَّلَاة وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَجِّهَة عَلَى جَمِيع الْخَلْق فَإِنَّ تَقَدُّم بَعْضهمْ بِهِمْ مِنْ فُرُوض الْكِفَايَات , فَلَا جَرَمَ يَجُوز أَخْذ الْأُجْرَة عَلَيْهَا . وَهَذَا أَصْل الْبَاب , وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : ( مَا تَرَكْت بَعْد نَفَقَة نِسَائِي وَمُؤْنَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة ) قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .




لَا ذِكْر لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبهمْ فِي التَّنْزِيل فِي غَيْر قَسْم الصَّدَقَات , وَهُمْ قَوْم كَانُوا فِي صَدْر الْإِسْلَام مِمَّنْ يُظْهِر الْإِسْلَام , يَتَأَلَّفُونَ بِدَفْعِ سَهْم مِنْ الصَّدَقَة إِلَيْهِمْ لِضَعْفِ يَقِينهمْ . قَالَ الزُّهْرِيّ : الْمُؤَلَّفَة مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا . وَقَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ : اُخْتُلِفَ فِي صِفَتهمْ , فَقِيلَ : هُمْ صِنْف مِنْ الْكُفَّار يُعْطَوْنَ لِيَتَأَلَّفُوا عَلَى الْإِسْلَام , وَكَانُوا لَا يُسْلِمُونَ بِالْقَهْرِ وَالسَّيْف , وَلَكِنْ يُسْلِمُونَ بِالْعَطَاءِ وَالْإِحْسَان . وَقِيلَ : هُمْ قَوْم أَسْلَمُوا فِي الظَّاهِر وَلَمْ تَسْتَيْقِن قُلُوبهمْ , فَيُعْطَوْنَ لِيَتَمَكَّن الْإِسْلَام فِي صُدُورهمْ . وَقِيلَ : هُمْ قَوْم مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ أَتْبَاع يُعْطَوْنَ لِيَتَأَلَّفُوا أَتْبَاعهمْ عَلَى الْإِسْلَام . قَالَ : وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة وَالْقَصْد بِجَمِيعِهَا الْإِعْطَاء لِمَنْ لَا يَتَمَكَّن إِسْلَامه حَقِيقَة إِلَّا بِالْعَطَاءِ , فَكَأَنَّهُ ضَرْب مِنْ الْجِهَاد .

وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَة أَصْنَاف : صِنْف يَرْجِع بِإِقَامَةِ الْبُرْهَان . وَصِنْف بِالْقَهْرِ . وَصِنْف بِالْإِحْسَانِ . وَالْإِمَام النَّاظِر لِلْمُسْلِمِينَ يَسْتَعْمِل مَعَ كُلّ صِنْف مَا يَرَاهُ سَبَبًا لِنَجَاتِهِ وَتَخْلِيصه مِنْ الْكُفْر . وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَنَس , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْنِي لِلْأَنْصَارِ - : ( فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْد بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفهُمْ ... ) الْحَدِيث . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : أَعْطَاهُمْ يَتَأَلَّفهُمْ وَيَتَأَلَّف بِهِمْ قَوْمهمْ . وَكَانُوا أَشْرَافًا , فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب مِائَة بَعِير , وَأَعْطَى اِبْنه مِائَة بَعِير , وَأَعْطَى حَكِيم بْن حِزَام مِائَة بَعِير , وَأَعْطَى الْحَارِث بْن هِشَام مِائَة بَعِير , وَأَعْطَى سُهَيْل بْن عَمْرو مِائَة بَعِير , وَأَعْطَى حُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى مِائَة بَعِير , وَأَعْطَى صَفْوَان بْن أُمَيَّة مِائَة بَعِير . وَكَذَلِكَ أَعْطَى مَالِك بْن عَوْف وَالْعَلَاء بْن جَارِيَة . قَالَ : فَهَؤُلَاءِ أَصْحَاب الْمِئِين . وَأَعْطَى رِجَالًا مِنْ قُرَيْش دُون الْمِائَة مِنْهُمْ مَخْرَمَة بْن نَوْفَل الزُّهْرِيّ وَعُمَيْر بْن وَهْب الْجُمَحِيّ , وَهِشَام بْن عَمْرو الْعَامِرِيّ . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : فَهَؤُلَاءِ لَا أَعْرِف مَا أَعْطَاهُمْ . وَأَعْطَى سَعِيد بْن يَرْبُوع خَمْسِينَ بَعِيرًا , وَأَعْطَى عَبَّاس بْن مِرْدَاس السُّلَمِيّ أَبَاعِر قَلِيلَة فَسَخِطَهَا . فَقَالَ فِي ذَلِكَ : كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتهَا بِكَرِّي عَلَى الْمُهْر فِي الْأَجْرَع وَإِيقَاظِي الْقَوْم أَنْ يَرْقُدُوا إِذَا هَجَعَ النَّاس لَمْ أَهْجَع فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْب الْعُبَيْد بَيْن عُيَيْنَة وَالْأَقْرَع وَقَدْ كُنْت فِي الْحَرْب ذَا تُدْرَإٍ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أَمْنَع إِلَّا أَفَائِل أُعْطِيتهَا عَدِيد قَوَائِمه الْأَرْبَع وَمَا كَانَ حِصْن وَلَا حَابِس يَفُوقَانِ مِرْدَاس فِي الْمَجْمَع وَمَا كُنْت دُون اِمْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَع الْيَوْم لَا يُرْفَع فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانه ) فَأَعْطَوْهُ حَتَّى رَضِيَ , فَكَانَ ذَلِكَ قَطْع لِسَانه . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ النُّضَيْر بْن الْحَارِث بْن عَلْقَمَة بْن كِلْدَة , أَخُو النَّضْر بْن الْحَارِث الْمَقْتُول بِبَدْرٍ صَبْرًا . وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَة , فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَمُحَال أَنْ يَكُون مِنْ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ , وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة فَهُوَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِمَّنْ رَسَخَ الْإِيمَان فِي قَلْبه وَقَاتَلَ دُونه , وَلَيْسَ مِمَّنْ يُؤَلَّف عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاسْتَعْمَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِك بْن عَوْف بْن سَعْد بْن يَرْبُوع النَّصْرِيّ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمه مِنْ قَبَائِل قَيْس , وَأَمَرَهُ بِمُغَاوَرَةِ ثَقِيف فَفَعَلَ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ , وَحَسُنَ إِسْلَامه وَإِسْلَام الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ , حَاشَا عُيَيْنَة بْن حِصْن فَلَمْ يَزَلْ مَغْمُورًا عَلَيْهِ . وَسَائِر الْمُؤَلَّفَة مُتَفَاضِلُونَ , مِنْهُمْ الْخَيِّر الْفَاضِل الْمُجْتَمَع عَلَى فَضْله , كَالْحَارِثِ بْن هِشَام , وَحَكِيم بْن حِزَام , وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل , وَسُهَيْل بْن عَمْرو , وَمِنْهُمْ دُون هَؤُلَاءِ . وَقَدْ فَضَّلَ اللَّه النَّبِيِّينَ وَسَائِر عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض وَهُوَ أَعْلَم بِهِمْ . قَالَ مَالِك : بَلَغَنِي أَنَّ حَكِيم بْن حِزَام أَخْرَجَ مَا كَانَ أَعْطَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ فَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْد ذَلِكَ .

قُلْت : حَكِيم بْن حِزَام وَحُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى عَاشَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة سِتِّينَ فِي الْإِسْلَام وَسِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّة . وَسَمِعْت الْإِمَام شَيْخنَا الْحَافِظ أَبَا مُحَمَّد عَبْد الْعَظِيم يَقُول : شَخْصَانِ مِنْ الصَّحَابَة عَاشَا فِي الْجَاهِلِيَّة سِتِّينَ سَنَة وَفِي الْإِسْلَام سِتِّينَ سَنَة , وَمَاتَا بِالْمَدِينَةِ سَنَة أَرْبَع وَخَمْسِينَ , أَحَدهمَا حَكِيم بْن حِزَام , وَكَانَ مَوْلِده فِي جَوْف الْكَعْبَة قَبْل عَام الْفِيل بِثَلَاث عَشْرَة سَنَة . وَالثَّانِي حَسَّان بْن ثَابِت بْن الْمُنْذِر بْن حَرَام الْأَنْصَارِيّ . وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا أَبُو عُمَر وَعُثْمَان الشَّهْرُزُورِيّ فِي كِتَاب مَعْرِفَة أَنْوَاع عِلْم الْحَدِيث لَهُ , وَلَمْ يَذْكُرَا غَيْرهمَا . وَحُوَيْطِب ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ فِي كِتَاب الْوَفَا فِي شَرَف الْمُصْطَفَى . وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي كِتَاب الصَّحَابَة أَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَام وَهُوَ اِبْن سِتِّينَ سَنَة , وَمَاتَ وَهُوَ اِبْن مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة . وَذَكَرَ أَيْضًا حَمْنَن بْن عَوْف أَخُو عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف , أَنَّهُ عَاشَ فِي الْإِسْلَام سِتِّينَ سَنَة وَفِي الْجَاهِلِيَّة سِتِّينَ سَنَة . وَقَدْ عُدَّ فِي الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ مُعَاوِيَة وَأَبُوهُ أَبُو سُفْيَان بْن حَرْب . أَمَّا مُعَاوِيَة فَبَعِيد أَنْ يَكُون مِنْهُمْ , فَكَيْفَ يَكُون مِنْهُمْ وَقَدْ اِئْتَمَنَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَحْي اللَّه وَقِرَاءَته وَخَلَطَهُ بِنَفْسِهِ . وَأَمَّا حَاله فِي أَيَّام أَبِي بَكْر فَأَشْهَر مِنْ هَذَا وَأَظْهَر . وَأَمَّا أَبُوهُ فَلَا كَلَام فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ . وَفِي عَدَدهمْ اِخْتِلَاف , وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلّهمْ مُؤْمِن وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَافِر عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَاَللَّه أَعْلَم وَأَحْكَم .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي بَقَائِهِمْ , فَقَالَ عُمَر وَالْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَغَيْرهمْ : اِنْقَطَعَ هَذَا الصِّنْف بِعِزِّ الْإِسْلَام وَظُهُوره . وَهَذَا مَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَاب الرَّأْي . قَالَ بَعْض عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة : لَمَّا أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَام وَأَهْله وَقَطَعَ دَابِر الْكَافِرِين
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5