وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ↓
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ يَبْسُط لِسَانه بِالْوَقِيعَةِ فِي أَذِيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُول : إِنْ عَاتَبَنِي حَلَفْت لَهُ بِأَنِّي مَا قُلْت هَذَا فَيَقْبَلهُ , فَإِنَّهُ أُذُن سَامِعَة . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : يُقَال رَجُل أُذُن إِذَا كَانَ يَسْمَع مَقَال كُلّ أَحَد , يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجَمْع . وَرَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " هُوَ أُذُن " قَالَ : مُسْتَمِع وَقَابِل . وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي عَتَّاب بْن قُشَيْر , قَالَ : إِنَّمَا مُحَمَّد أُذُن يَقْبَل كُلّ مَا قِيلَ لَهُ . وَقِيلَ : هُوَ نَبْتَل بْن الْحَارِث , قَالَهُ اِبْن إِسْحَاق . وَكَانَ نَبْتَل رَجُلًا جَسِيمًا ثَائِر شَعْر الرَّأْس وَاللِّحْيَة , آدَم أَحْمَر الْعَيْنَيْنِ أَسَفْع الْخَدَّيْنِ مُشَوَّه الْخِلْقَة , وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُر إِلَى الشَّيْطَان فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَل بْن الْحَارِث ) . السُّفْعَة بِالضَّمِّ : سَوَاد مُشْرَب بِحُمْرَةٍ . وَالرَّجُل أَسَفْع , عِنْد الْجَوْهَرِيّ . وَقُرِئَ " أُذُن " بِضَمِّ الذَّال وَسُكُونهَا .
أَيْ هُوَ أُذُن خَيْر لَا أُذُن شَرّ , أَيْ يَسْمَع الْخَيْر وَلَا يَسْمَع الشَّرّ . وَقَرَأَ " قُلْ أُذُن خَيْر لَكُمْ " بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِين , الْحَسَن وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر . وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ , وَقَرَأَ حَمْزَة " وَرَحْمَة " بِالْخَفْضِ . وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَطْف عَلَى " أُذُن " , وَالتَّقْدِير : قُلْ هُوَ أُذُن خَيْر وَهُوَ رَحْمَة , أَيْ هُوَ مُسْتَمِع خَيْر لَا مُسْتَمِع شَرّ , أَيْ هُوَ مُسْتَمِع مَا يُحِبّ اِسْتِمَاعه , وَهُوَ رَحْمَة . وَمَنْ خَفَضَ فَعَلَى الْعَطْف عَلَى " خَيْر " . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة بَعِيد , لِأَنَّهُ قَدْ تَبَاعَدَ مَا بَيْن الِاسْمَيْنِ , وَهَذَا يُقَبَّح فِي الْمَخْفُوض . الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ جَرّ الرَّحْمَة فَعَلَى الْعَطْف عَلَى " خَيْر " وَالْمَعْنَى مُسْتَمِع خَيْر وَمُسْتَمِع رَحْمَة , لِأَنَّ الرَّحْمَة مِنْ الْخَيْر . وَلَا يَصِحّ عَطْف الرَّحْمَة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , لِأَنَّ الْمَعْنَى يُصَدِّق بِاَللَّهِ وَيُصَدِّق الْمُؤْمِنِينَ ; فَاللَّام زَائِدَة فِي قَوْل الْكُوفِيِّينَ . وَمِثْله " لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ " [ الْأَعْرَاف : 154 ] أَيْ يَرْهَبُونَ رَبّهمْ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : كَقَوْلِهِ " رَدِفَ لَكُمْ " [ النَّمْل : 72 ] وَهِيَ عِنْد الْمُبَرِّد مُتَعَلِّقَة بِمَصْدَرِ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْل , التَّقْدِير : إِيمَانه لِلْمُؤْمِنِينَ , أَيْ تَصْدِيقه لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلْكُفَّارِ . أَوْ يَكُون مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى , فَإِنَّ مَعْنَى يُؤْمِن يُصَدِّق , فَعُدِّيَ بِاللَّامِ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْله تَعَالَى : " مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ " [ الْمَائِدَة : 46 ] .
أَيْ هُوَ أُذُن خَيْر لَا أُذُن شَرّ , أَيْ يَسْمَع الْخَيْر وَلَا يَسْمَع الشَّرّ . وَقَرَأَ " قُلْ أُذُن خَيْر لَكُمْ " بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِين , الْحَسَن وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر . وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ , وَقَرَأَ حَمْزَة " وَرَحْمَة " بِالْخَفْضِ . وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَطْف عَلَى " أُذُن " , وَالتَّقْدِير : قُلْ هُوَ أُذُن خَيْر وَهُوَ رَحْمَة , أَيْ هُوَ مُسْتَمِع خَيْر لَا مُسْتَمِع شَرّ , أَيْ هُوَ مُسْتَمِع مَا يُحِبّ اِسْتِمَاعه , وَهُوَ رَحْمَة . وَمَنْ خَفَضَ فَعَلَى الْعَطْف عَلَى " خَيْر " . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة بَعِيد , لِأَنَّهُ قَدْ تَبَاعَدَ مَا بَيْن الِاسْمَيْنِ , وَهَذَا يُقَبَّح فِي الْمَخْفُوض . الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ جَرّ الرَّحْمَة فَعَلَى الْعَطْف عَلَى " خَيْر " وَالْمَعْنَى مُسْتَمِع خَيْر وَمُسْتَمِع رَحْمَة , لِأَنَّ الرَّحْمَة مِنْ الْخَيْر . وَلَا يَصِحّ عَطْف الرَّحْمَة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , لِأَنَّ الْمَعْنَى يُصَدِّق بِاَللَّهِ وَيُصَدِّق الْمُؤْمِنِينَ ; فَاللَّام زَائِدَة فِي قَوْل الْكُوفِيِّينَ . وَمِثْله " لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ " [ الْأَعْرَاف : 154 ] أَيْ يَرْهَبُونَ رَبّهمْ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : كَقَوْلِهِ " رَدِفَ لَكُمْ " [ النَّمْل : 72 ] وَهِيَ عِنْد الْمُبَرِّد مُتَعَلِّقَة بِمَصْدَرِ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْل , التَّقْدِير : إِيمَانه لِلْمُؤْمِنِينَ , أَيْ تَصْدِيقه لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلْكُفَّارِ . أَوْ يَكُون مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى , فَإِنَّ مَعْنَى يُؤْمِن يُصَدِّق , فَعُدِّيَ بِاللَّامِ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْله تَعَالَى : " مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ " [ الْمَائِدَة : 46 ] .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ↓
رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ اِجْتَمَعُوا , فِيهِمْ الْجُلَاس بْن سُوَيْد وَوَدِيعَة بْن ثَابِت , وَفِيهِمْ غُلَام مِنْ الْأَنْصَار يُدْعَى عَامِر بْن قَيْس , فَحَقَّرُوهُ فَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا : إِنْ كَانَ مَا يَقُول مُحَمَّد حَقًّا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِير . فَغَضِبَ الْغُلَام وَقَالَ : وَاَللَّه إِنَّ مَا يَقُول حَقّ وَأَنْتُمْ شَرّ مِنْ الْحَمِير , فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِمْ , فَحَلَفُوا أَنَّ عَامِرًا كَاذِب , فَقَالَ عَامِر : هُمْ الْكَذَبَة , وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ : اللَّهُمَّ لَا تُفَرِّق بَيْننَا حَتَّى يَتَبَيَّن صِدْق الصَّادِق وَكَذِب الْكَاذِب . فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة وَفِيهَا " يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ " .
اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّ التَّقْدِير : وَاَللَّه أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُوله أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ , ثُمَّ حَذَفَ , كَمَا قَالَ بَعْضهمْ : نَحْنُ بِمَا عِنْدنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدك رَاضٍ وَالرَّأْي مُخْتَلِف وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : لَيْسَ فِي الْكَلَام مَحْذُوف , وَالتَّقْدِير , وَاَللَّه أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُوله , عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى وَرَسُوله أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ , وَاَللَّه اِفْتِتَاح كَلَام , كَمَا تَقُول : مَا شَاءَ اللَّه وَشِئْت . قَالَ النَّحَّاس : قَوْل سِيبَوَيْهِ أَوْلَاهَا , لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْي عَنْ أَنْ يُقَال : مَا شَاءَ اللَّه وَشِئْت , وَلَا يُقَدَّر فِي شَيْء تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير , وَمَعْنَاهُ صَحِيح .
قُلْت : وَقِيلَ إِنَّ اللَّه سُبْحَانه جَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَاهُ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ يُطِعْ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه " [ النِّسَاء 80 ] . وَكَانَ الرَّبِيع بْن خَيْثَم إِذَا مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَة وَقَفَ , ثُمَّ يَقُول : حَرْف وَأَيّمَا حَرْف فُوِّضَ إِلَيْهِ فَلَا يَأْمُرنَا إِلَّا بِخَيْرٍ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة قَبُول يَمِين الْحَالِف وَإِنْ لَمْ يَلْزَم الْمَحْلُوف لَهُ الرِّضَا . وَالْيَمِين حَقّ لِلْمُدَّعِي . وَتَضَمَّنَتْ أَنْ يَكُون الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسْب مَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت وَمَنْ حُلِفَ لَهُ فَلْيُصَدِّقْ ) . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْأَيْمَان وَالِاسْتِثْنَاء فِيهَا مُسْتَوْفًى فِي الْمَائِدَة .
اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّ التَّقْدِير : وَاَللَّه أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُوله أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ , ثُمَّ حَذَفَ , كَمَا قَالَ بَعْضهمْ : نَحْنُ بِمَا عِنْدنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدك رَاضٍ وَالرَّأْي مُخْتَلِف وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : لَيْسَ فِي الْكَلَام مَحْذُوف , وَالتَّقْدِير , وَاَللَّه أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُوله , عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى وَرَسُوله أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ , وَاَللَّه اِفْتِتَاح كَلَام , كَمَا تَقُول : مَا شَاءَ اللَّه وَشِئْت . قَالَ النَّحَّاس : قَوْل سِيبَوَيْهِ أَوْلَاهَا , لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْي عَنْ أَنْ يُقَال : مَا شَاءَ اللَّه وَشِئْت , وَلَا يُقَدَّر فِي شَيْء تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير , وَمَعْنَاهُ صَحِيح .
قُلْت : وَقِيلَ إِنَّ اللَّه سُبْحَانه جَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَاهُ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ يُطِعْ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه " [ النِّسَاء 80 ] . وَكَانَ الرَّبِيع بْن خَيْثَم إِذَا مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَة وَقَفَ , ثُمَّ يَقُول : حَرْف وَأَيّمَا حَرْف فُوِّضَ إِلَيْهِ فَلَا يَأْمُرنَا إِلَّا بِخَيْرٍ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة قَبُول يَمِين الْحَالِف وَإِنْ لَمْ يَلْزَم الْمَحْلُوف لَهُ الرِّضَا . وَالْيَمِين حَقّ لِلْمُدَّعِي . وَتَضَمَّنَتْ أَنْ يَكُون الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسْب مَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت وَمَنْ حُلِفَ لَهُ فَلْيُصَدِّقْ ) . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْأَيْمَان وَالِاسْتِثْنَاء فِيهَا مُسْتَوْفًى فِي الْمَائِدَة .
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ↓
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ . وَقَرَأَ اِبْن هُرْمُز وَالْحَسَن " تَعْلَمُوا " بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب .
فِي مَوْضِع نَصْب ب " يَعْلَمُوا " , وَالْهَاء كِنَايَة عَنْ الْحَدِيث .
فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . وَالْمُحَادَّة : وُقُوع هَذَا فِي حَدّ وَذَاكَ فِي حَدّ , كَالْمُشَاقَّةِ . يُقَال : حَادّ فُلَان فُلَانًا أَيْ صَارَ فِي حَدّ غَيْر حَدّه .
يُقَال : مَا بَعْد الْفَاء فِي الشَّرْط مُبْتَدَأ , فَكَانَ يَجِب أَنْ يَكُون " فَإِنَّ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة . وَقَدْ أَجَازَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ " فَإِنَّ لَهُ نَار جَهَنَّم " بِالْكَسْرِ . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَهُوَ جَيِّد وَأَنْشَدَ : وَعِلْمِي بِأَسْدَامِ الْمِيَاه فَلَمْ تَزَلْ قَلَائِص تَخْدِي فِي طَرِيق طَلَائِح وَأَنِّي إِذَا مَلَّتْ رِكَابِي مُنَاخهَا فَإِنِّي عَلَى حَظِّي مِنْ الْأَمْر جَامِح إِلَّا أَنَّ قِرَاءَة الْعَامَّة " فَأَنَّ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة . فَقَالَ الْخَلِيل أَيْضًا وَسِيبَوَيْهِ : إِنَّ " أَنَّ " الثَّانِيَة مُبْدَلَة مِنْ الْأُولَى . وَزَعَمَ الْمُبَرِّد أَنَّ هَذَا الْقَوْل مَرْدُود , وَأَنَّ الصَّحِيح مَا قَالَهُ الْجَرْمِيّ , قَالَ : إِنَّ الثَّانِيَة مُكَرَّرَة لِلتَّوْكِيدِ لَمَّا طَالَ الْكَلَام , وَنَظِيره " وَهُمْ فِي الْآخِرَة هُمْ الْأَخْسَرُونَ " [ النَّمْل : 5 ] . وَكَذَا " فَكَانَ عَاقِبَتهمَا أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدَيْنِ فِيهَا " [ الْحَشْر : 17 ] . وَقَالَ الْأَخْفَش : الْمَعْنَى فَوُجُوب النَّار لَهُ . وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّد وَقَالَ : هَذَا خَطَأ مِنْ أَجْل أَنَّ " أَنَّ " الْمَفْتُوحَة الْمُشَدَّدَة لَا يُبْتَدَأ بِهَا وَيُضْمَر الْخَبَر . وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : الْمَعْنَى فَالْوَاجِب أَنَّ لَهُ نَار جَهَنَّم , فَإِنَّ الثَّانِيَة خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف . وَقِيلَ : التَّقْدِير فَلَهُ أَنَّ لَهُ نَار جَهَنَّم . فَإِنَّ مَرْفُوعَة بِالِاسْتِقْرَارِ عَلَى إِضْمَار الْمَجْرُور بَيْن الْفَاء وَأَنَّ .
فِي مَوْضِع نَصْب ب " يَعْلَمُوا " , وَالْهَاء كِنَايَة عَنْ الْحَدِيث .
فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . وَالْمُحَادَّة : وُقُوع هَذَا فِي حَدّ وَذَاكَ فِي حَدّ , كَالْمُشَاقَّةِ . يُقَال : حَادّ فُلَان فُلَانًا أَيْ صَارَ فِي حَدّ غَيْر حَدّه .
يُقَال : مَا بَعْد الْفَاء فِي الشَّرْط مُبْتَدَأ , فَكَانَ يَجِب أَنْ يَكُون " فَإِنَّ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة . وَقَدْ أَجَازَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ " فَإِنَّ لَهُ نَار جَهَنَّم " بِالْكَسْرِ . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَهُوَ جَيِّد وَأَنْشَدَ : وَعِلْمِي بِأَسْدَامِ الْمِيَاه فَلَمْ تَزَلْ قَلَائِص تَخْدِي فِي طَرِيق طَلَائِح وَأَنِّي إِذَا مَلَّتْ رِكَابِي مُنَاخهَا فَإِنِّي عَلَى حَظِّي مِنْ الْأَمْر جَامِح إِلَّا أَنَّ قِرَاءَة الْعَامَّة " فَأَنَّ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة . فَقَالَ الْخَلِيل أَيْضًا وَسِيبَوَيْهِ : إِنَّ " أَنَّ " الثَّانِيَة مُبْدَلَة مِنْ الْأُولَى . وَزَعَمَ الْمُبَرِّد أَنَّ هَذَا الْقَوْل مَرْدُود , وَأَنَّ الصَّحِيح مَا قَالَهُ الْجَرْمِيّ , قَالَ : إِنَّ الثَّانِيَة مُكَرَّرَة لِلتَّوْكِيدِ لَمَّا طَالَ الْكَلَام , وَنَظِيره " وَهُمْ فِي الْآخِرَة هُمْ الْأَخْسَرُونَ " [ النَّمْل : 5 ] . وَكَذَا " فَكَانَ عَاقِبَتهمَا أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدَيْنِ فِيهَا " [ الْحَشْر : 17 ] . وَقَالَ الْأَخْفَش : الْمَعْنَى فَوُجُوب النَّار لَهُ . وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّد وَقَالَ : هَذَا خَطَأ مِنْ أَجْل أَنَّ " أَنَّ " الْمَفْتُوحَة الْمُشَدَّدَة لَا يُبْتَدَأ بِهَا وَيُضْمَر الْخَبَر . وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : الْمَعْنَى فَالْوَاجِب أَنَّ لَهُ نَار جَهَنَّم , فَإِنَّ الثَّانِيَة خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف . وَقِيلَ : التَّقْدِير فَلَهُ أَنَّ لَهُ نَار جَهَنَّم . فَإِنَّ مَرْفُوعَة بِالِاسْتِقْرَارِ عَلَى إِضْمَار الْمَجْرُور بَيْن الْفَاء وَأَنَّ .
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ↓
خَبَر وَلَيْسَ بِأَمْرٍ . وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ خَبَر أَنَّ مَا بَعْده " إِنَّ اللَّه مُخْرِج مَا تَحْذَرُونَ " لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا . وَقَالَ السُّدِّيّ : قَالَ بَعْض الْمُنَافِقِينَ وَاَللَّه وَدِدْت لَوْ أَنِّي قُدِّمْت فَجُلِدْت مِائَة وَلَا يَنْزِل فِينَا شَيْء يَفْضَحنَا , فَنَزَلَتْ الْآيَة . " يَحْذَر " أَيْ يَتَحَرَّز . وَقَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَاهُ لِيَحْذَر , فَهُوَ أَمْر , كَمَا يُقَال : يَفْعَل ذَلِكَ .
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ مِنْ أَنْ تُنَزَّل . وَيَجُوز عَلَى قَوْل سِيبَوَيْهِ أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى حَذْف مِنْ . وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب مَفْعُولَة لِيَحْذَر , لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ أَجَازَ : حَذِرْت زَيْدًا , وَأَنْشَدَ : حَذِر أُمُورًا لَا تَضِير وَآمِن مَا لَيْسَ مُنْجِيه مِنْ الْأَقْدَار وَلَمْ يُجِزْهُ الْمُبَرِّد , لِأَنَّ الْحَذَر شَيْء فِي الْهَيْئَة . وَمَعْنَى " عَلَيْهِمْ " أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
فِي شَأْن الْمُنَافِقِينَ تُخْبِرهُمْ بِمَخَازِيهِمْ وَمَسَاوِيهِمْ وَمَثَالِبهمْ , وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْفَاضِحَة وَالْمُثِيرَة وَالْمُبَعْثِرَة , كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة . وَقَالَ الْحَسَن : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ هَذِهِ السُّورَة الْحَفَّارَة لِأَنَّهَا حَفَرَتْ مَا فِي قُلُوب الْمُنَافِقِينَ فَأَظْهَرَتْهُ .
هَذَا أَمْر وَعِيد وَتَهْدِيد .
أَيْ مُظْهِر " مَا تَحْذَرُونَ " ظُهُوره . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَنْزَلَ اللَّه أَسْمَاء الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا , ثُمَّ نَسَخَ تِلْكَ الْأَسْمَاء مِنْ الْقُرْآن رَأْفَة مِنْهُ وَرَحْمَة , لِأَنَّ أَوْلَادهمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَالنَّاس يُعَيِّر بَعْضهمْ بَعْضًا . فَعَلَى هَذَا قَدْ أَنْجَزَ اللَّه وَعْده بِإِظْهَارِهِ ذَلِكَ إِذْ قَالَ : " إِنَّ اللَّه مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ " . وَقِيلَ : إِخْرَاج اللَّه أَنَّهُ عَرَّفَ نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَحْوَالهمْ وَأَسْمَاءَهُمْ لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقُرْآن , وَلَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَتَعْرِفَنَّهُم فِي لَحْن الْقَوْل " [ مُحَمَّد : 30 ] وَهُوَ نَوْع إِلْهَام . وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَتَرَدَّد وَلَا يَقْطَع بِتَكْذِيبِ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا بِصِدْقِهِ . وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِف صِدْقه وَيُعَانِد .
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ مِنْ أَنْ تُنَزَّل . وَيَجُوز عَلَى قَوْل سِيبَوَيْهِ أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى حَذْف مِنْ . وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب مَفْعُولَة لِيَحْذَر , لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ أَجَازَ : حَذِرْت زَيْدًا , وَأَنْشَدَ : حَذِر أُمُورًا لَا تَضِير وَآمِن مَا لَيْسَ مُنْجِيه مِنْ الْأَقْدَار وَلَمْ يُجِزْهُ الْمُبَرِّد , لِأَنَّ الْحَذَر شَيْء فِي الْهَيْئَة . وَمَعْنَى " عَلَيْهِمْ " أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
فِي شَأْن الْمُنَافِقِينَ تُخْبِرهُمْ بِمَخَازِيهِمْ وَمَسَاوِيهِمْ وَمَثَالِبهمْ , وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْفَاضِحَة وَالْمُثِيرَة وَالْمُبَعْثِرَة , كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة . وَقَالَ الْحَسَن : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ هَذِهِ السُّورَة الْحَفَّارَة لِأَنَّهَا حَفَرَتْ مَا فِي قُلُوب الْمُنَافِقِينَ فَأَظْهَرَتْهُ .
هَذَا أَمْر وَعِيد وَتَهْدِيد .
أَيْ مُظْهِر " مَا تَحْذَرُونَ " ظُهُوره . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَنْزَلَ اللَّه أَسْمَاء الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا , ثُمَّ نَسَخَ تِلْكَ الْأَسْمَاء مِنْ الْقُرْآن رَأْفَة مِنْهُ وَرَحْمَة , لِأَنَّ أَوْلَادهمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَالنَّاس يُعَيِّر بَعْضهمْ بَعْضًا . فَعَلَى هَذَا قَدْ أَنْجَزَ اللَّه وَعْده بِإِظْهَارِهِ ذَلِكَ إِذْ قَالَ : " إِنَّ اللَّه مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ " . وَقِيلَ : إِخْرَاج اللَّه أَنَّهُ عَرَّفَ نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَحْوَالهمْ وَأَسْمَاءَهُمْ لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقُرْآن , وَلَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَتَعْرِفَنَّهُم فِي لَحْن الْقَوْل " [ مُحَمَّد : 30 ] وَهُوَ نَوْع إِلْهَام . وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَتَرَدَّد وَلَا يَقْطَع بِتَكْذِيبِ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا بِصِدْقِهِ . وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِف صِدْقه وَيُعَانِد .
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ ↓
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي غَزْوَة تَبُوك . قَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره عَنْ قَتَادَة : بَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِير فِي غَزْوَة تَبُوك وَرَكْب مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْن يَدَيْهِ فَقَالُوا : اُنْظُرُوا , هَذَا يَفْتَح قُصُور الشَّام وَيَأْخُذ حُصُون بَنِي الْأَصْفَر ! فَأَطْلَعَهُ اللَّه سُبْحَانه عَلَى مَا فِي قُلُوبهمْ وَمَا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ , فَقَالَ : ( اِحْبِسُوا عَلَيَّ الرَّكْب - ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ - قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ) فَحَلَفُوا : مَا كُنَّا إِلَّا نَخُوض وَنَلْعَب , يُرِيدُونَ كُنَّا غَيْر مُجِدِّينَ . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : رَأَيْت قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة وَدِيعَة بْن ثَابِت مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَاشِيهَا وَالْحِجَارَة تُنَكِّبهُ وَهُوَ يَقُول : إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض وَنَلْعَب . وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " أَبِاَللَّهِ وَآيَاته وَرَسُوله كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ " . وَذَكَرَ النَّقَّاش أَنَّ هَذَا الْمُتَعَلِّق كَانَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ابْن سَلُول . وَكَذَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ عَنْ اِبْن عُمَر . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَلِكَ خَطَأ , لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَد تَبُوك . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا لِوَدِيعَة بْن ثَابِت وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك . وَالْخَوْض : الدُّخُول فِي الْمَاء , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي كُلّ دُخُول فِيهِ تَلْوِيث وَأَذًى .
الثَّانِيَة : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُون مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا أَوْ هَزْلًا , وَهُوَ كَيْفَمَا كَانَ كُفْر , فَإِنَّ الْهَزْل بِالْكُفْرِ كُفْر لَا خِلَاف فِيهِ بَيْن الْأُمَّة . فَإِنَّ التَّحْقِيق أَخُو الْعِلْم وَالْحَقّ , وَالْهَزْل أَخُو الْبَاطِل وَالْجَهْل . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : اُنْظُرْ إِلَى قَوْله : " أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُون مِنْ الْجَاهِلِينَ " [ الْبَقَرَة : 67 ] .
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْهَزْل فِي سَائِر الْأَحْكَام كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : لَا يَلْزَم مُطْلَقًا . يَلْزَم مُطْلَقًا . التَّفْرِقَة بَيْن الْبَيْع وَغَيْره . فَيَلْزَم فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الطَّلَاق قَوْلًا وَاحِدًا . وَلَا يَلْزَم فِي الْبَيْع . قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : يَلْزَم نِكَاح الْهَازِل . وَقَالَ أَبُو زَيْد عَنْ اِبْن الْقَاسِم فِي الْعُتْبِيَّة : لَا يَلْزَم . وَقَالَ عَلِيّ بْن زِيَاد : يُفْسَخ قَبْل وَبَعْد . وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْع الْهَازِل قَوْلَانِ . وَكَذَلِكَ يَخْرُج مِنْ قَوْل عُلَمَائِنَا الْقَوْلَانِ . وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر الْإِجْمَاع فِي أَنَّ جِدّ الطَّلَاق وَهَزْله سَوَاء . وَقَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابنَا : إِنْ اِتَّفَقَا عَلَى الْهَزْل فِي النِّكَاح وَالْبَيْع لَمْ يَلْزَم , وَإِنْ اِخْتَلَفَا غَلَبَ الْجِدّ الْهَزْل . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاث جِدّهنَّ جِدّ وَهَزْلهنَّ جِدّ النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة ) . قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث حَسَن غَرِيب , وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهمْ .
قُلْت : كَذَا فِي الْحَدِيث ( وَالرَّجْعَة ) وَفِي مُوَطَّإِ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : ثَلَاث لَيْسَ فِيهِمْ لَعِب النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِتْق . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَأَبِي الدَّرْدَاء , كُلّهمْ قَالَ : ( ثَلَاث لَا لَعِب فِيهِنَّ وَلَا رُجُوع فِيهِنَّ وَاللَّاعِب فِيهِنَّ جَادّ النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِتْق ) وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ عُمَر قَالَ : ( أَرْبَع جَائِزَات عَلَى كُلّ أَحَد الْعِتْق وَالطَّلَاق وَالنِّكَاح وَالنُّذُور ) وَعَنْ الضَّحَّاك قَالَ : ثَلَاث لَا لَعِب فِيهِنَّ , النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالنُّذُور .
الثَّانِيَة : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُون مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا أَوْ هَزْلًا , وَهُوَ كَيْفَمَا كَانَ كُفْر , فَإِنَّ الْهَزْل بِالْكُفْرِ كُفْر لَا خِلَاف فِيهِ بَيْن الْأُمَّة . فَإِنَّ التَّحْقِيق أَخُو الْعِلْم وَالْحَقّ , وَالْهَزْل أَخُو الْبَاطِل وَالْجَهْل . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : اُنْظُرْ إِلَى قَوْله : " أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُون مِنْ الْجَاهِلِينَ " [ الْبَقَرَة : 67 ] .
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْهَزْل فِي سَائِر الْأَحْكَام كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : لَا يَلْزَم مُطْلَقًا . يَلْزَم مُطْلَقًا . التَّفْرِقَة بَيْن الْبَيْع وَغَيْره . فَيَلْزَم فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الطَّلَاق قَوْلًا وَاحِدًا . وَلَا يَلْزَم فِي الْبَيْع . قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : يَلْزَم نِكَاح الْهَازِل . وَقَالَ أَبُو زَيْد عَنْ اِبْن الْقَاسِم فِي الْعُتْبِيَّة : لَا يَلْزَم . وَقَالَ عَلِيّ بْن زِيَاد : يُفْسَخ قَبْل وَبَعْد . وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْع الْهَازِل قَوْلَانِ . وَكَذَلِكَ يَخْرُج مِنْ قَوْل عُلَمَائِنَا الْقَوْلَانِ . وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر الْإِجْمَاع فِي أَنَّ جِدّ الطَّلَاق وَهَزْله سَوَاء . وَقَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابنَا : إِنْ اِتَّفَقَا عَلَى الْهَزْل فِي النِّكَاح وَالْبَيْع لَمْ يَلْزَم , وَإِنْ اِخْتَلَفَا غَلَبَ الْجِدّ الْهَزْل . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاث جِدّهنَّ جِدّ وَهَزْلهنَّ جِدّ النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة ) . قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث حَسَن غَرِيب , وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهمْ .
قُلْت : كَذَا فِي الْحَدِيث ( وَالرَّجْعَة ) وَفِي مُوَطَّإِ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : ثَلَاث لَيْسَ فِيهِمْ لَعِب النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِتْق . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَأَبِي الدَّرْدَاء , كُلّهمْ قَالَ : ( ثَلَاث لَا لَعِب فِيهِنَّ وَلَا رُجُوع فِيهِنَّ وَاللَّاعِب فِيهِنَّ جَادّ النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِتْق ) وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ عُمَر قَالَ : ( أَرْبَع جَائِزَات عَلَى كُلّ أَحَد الْعِتْق وَالطَّلَاق وَالنِّكَاح وَالنُّذُور ) وَعَنْ الضَّحَّاك قَالَ : ثَلَاث لَا لَعِب فِيهِنَّ , النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالنُّذُور .
لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ↓
عَلَى جِهَة التَّوْبِيخ , كَأَنَّهُ يَقُول : لَا تَفْعَلُوا مَا لَا يَنْفَع , ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَعَدَم الِاعْتِذَار مِنْ الذَّنْب . وَاعْتَذَرَ بِمَعْنَى أَعْذَرَ , أَيْ صَارَ ذَا عُذْر . قَالَ لَبِيد : وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اِعْتَذَرَ وَالِاعْتِذَار : مَحْو أَثَر الْمَوْجِدَة , يُقَال : اِعْتَذَرَتْ الْمَنَازِل دَرَسَتْ . وَالِاعْتِذَار الدُّرُوس . قَالَ الشَّاعِر : أَمْ كُنْت تَعْرِف آيَات فَقَدْ جَعَلَتْ أَطْلَال إِلْفك بِالْوَدْكَاءِ تَعْتَذِر وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : أَصْله الْقَطْع . وَاعْتَذَرْت إِلَيْهِ قَطَعْت مَا فِي قَلْبه مِنْ الْمَوْجِدَة . وَمِنْهُ عُذْرَة الْغُلَام وَهُوَ مَا يُقْطَع مِنْهُ عِنْد الْخِتَان . وَمِنْهُ عُذْرَة الْجَارِيَة لِأَنَّهُ يَقْطَع خَاتَم عُذْرَتهَا .
قِيلَ : كَانُوا ثَلَاثَة نَفَر , هَزِئَ اِثْنَانِ وَضَحِكَ وَاحِد , فَالْمَعْفُوّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي ضَحِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّم . وَالطَّائِفَة الْجَمَاعَة , وَيُقَال لِلْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَى نَفْس طَائِفَة . وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : يُطْلَق لَفْظ الْجَمْع عَلَى الْوَاحِد , كَقَوْلِك : خَرَجَ فُلَان عَلَى الْبِغَال . قَالَ : وَيَجُوز أَنْ تَكُون الطَّائِفَة إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْوَاحِد طَائِفًا , وَالْهَاء لِلْمُبَالَغَةِ . وَاخْتُلِفَ فِي اِسْم هَذَا الرَّجُل الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ عَلَى أَقْوَال . فَقِيلَ : مَخْشِيّ بْن حُمَيِّر , قَالَهُ اِبْن إِسْحَاق . وَقَالَ اِبْن هِشَام : وَيُقَال فِيهِ اِبْن مَخْشِيّ . وَقَالَ خَلِيفَة بْن خَيَّاط فِي تَارِيخه : اِسْمه مُخَاشِن بْن حُمَيِّر . وَذَكَرَ اِبْن عَبْد الْبَرّ مُخَاشِن الْحِمْيَرِيّ وَذَكَرَ السُّهَيْلِيّ مُخَشِّن بْن خُمَيِّر . وَذَكَرَ جَمِيعهمْ أَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ , وَكَانَ تَابَ وَسُمِّيَ عَبْد الرَّحْمَن , فَدَعَا اللَّه أَنْ يُقْتَل شَهِيدًا وَلَا يُعْلَم بِقَبْرِهِ . وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ مُسْلِمًا . فَقِيلَ : كَانَ مُنَافِقًا ثُمَّ تَابَ تَوْبَة نَصُوحًا . وَقِيلَ : كَانَ مُسْلِمًا , إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ الْمُنَافِقِينَ فَضَحِكَ لَهُمْ وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِمْ .
قِيلَ : كَانُوا ثَلَاثَة نَفَر , هَزِئَ اِثْنَانِ وَضَحِكَ وَاحِد , فَالْمَعْفُوّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي ضَحِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّم . وَالطَّائِفَة الْجَمَاعَة , وَيُقَال لِلْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَى نَفْس طَائِفَة . وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : يُطْلَق لَفْظ الْجَمْع عَلَى الْوَاحِد , كَقَوْلِك : خَرَجَ فُلَان عَلَى الْبِغَال . قَالَ : وَيَجُوز أَنْ تَكُون الطَّائِفَة إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْوَاحِد طَائِفًا , وَالْهَاء لِلْمُبَالَغَةِ . وَاخْتُلِفَ فِي اِسْم هَذَا الرَّجُل الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ عَلَى أَقْوَال . فَقِيلَ : مَخْشِيّ بْن حُمَيِّر , قَالَهُ اِبْن إِسْحَاق . وَقَالَ اِبْن هِشَام : وَيُقَال فِيهِ اِبْن مَخْشِيّ . وَقَالَ خَلِيفَة بْن خَيَّاط فِي تَارِيخه : اِسْمه مُخَاشِن بْن حُمَيِّر . وَذَكَرَ اِبْن عَبْد الْبَرّ مُخَاشِن الْحِمْيَرِيّ وَذَكَرَ السُّهَيْلِيّ مُخَشِّن بْن خُمَيِّر . وَذَكَرَ جَمِيعهمْ أَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ , وَكَانَ تَابَ وَسُمِّيَ عَبْد الرَّحْمَن , فَدَعَا اللَّه أَنْ يُقْتَل شَهِيدًا وَلَا يُعْلَم بِقَبْرِهِ . وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ مُسْلِمًا . فَقِيلَ : كَانَ مُنَافِقًا ثُمَّ تَابَ تَوْبَة نَصُوحًا . وَقِيلَ : كَانَ مُسْلِمًا , إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ الْمُنَافِقِينَ فَضَحِكَ لَهُمْ وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِمْ .
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ↓
" الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات " اِبْتِدَاء . " بَعْضهمْ " اِبْتِدَاء ثَانٍ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون بَدَلًا , وَيَكُون الْخَبَر " مِنْ بَعْض " . وَمَعْنَى " بَعْضهمْ مِنْ بَعْض " أَيْ هُمْ كَالشَّيْءِ الْوَاحِد فِي الْخُرُوج عَنْ الدِّين . وَقَالَ الزَّجَّاج , هَذَا مُتَّصِل بِقَوْلِهِ : " يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ " [ التَّوْبَة : 56 ] أَيْ لَيْسُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَكِنَّ بَعْضهمْ مِنْ بَعْض ,
أَيْ مُتَشَابِهُونَ فِي الْأَمْر بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْي عَنْ الْمَعْرُوف . وَقَبْض أَيْدِيهمْ عِبَارَة عَنْ تَرْك الْجِهَاد , وَفِيمَا يَجِب عَلَيْهِمْ مِنْ حَقّ . وَالنِّسْيَان : التَّرْك هُنَا , أَيْ تَرَكُوا مَا أَمَرَهُمْ اللَّه بِهِ فَتَرَكَهُمْ فِي الشَّكّ . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْره حَتَّى صَارَ كَالْمَنْسِيِّ فَصَيَّرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسِيّ مِنْ ثَوَابه . وَقَالَ قَتَادَة : " نَسِيَهُمْ " أَيْ مِنْ الْخَيْر , فَأَمَّا مِنْ الشَّرّ فَلَمْ يَنْسَهُمْ . وَالْفِسْق : الْخُرُوج عَنْ الطَّاعَة وَالدِّين . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ مُتَشَابِهُونَ فِي الْأَمْر بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْي عَنْ الْمَعْرُوف . وَقَبْض أَيْدِيهمْ عِبَارَة عَنْ تَرْك الْجِهَاد , وَفِيمَا يَجِب عَلَيْهِمْ مِنْ حَقّ . وَالنِّسْيَان : التَّرْك هُنَا , أَيْ تَرَكُوا مَا أَمَرَهُمْ اللَّه بِهِ فَتَرَكَهُمْ فِي الشَّكّ . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْره حَتَّى صَارَ كَالْمَنْسِيِّ فَصَيَّرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسِيّ مِنْ ثَوَابه . وَقَالَ قَتَادَة : " نَسِيَهُمْ " أَيْ مِنْ الْخَيْر , فَأَمَّا مِنْ الشَّرّ فَلَمْ يَنْسَهُمْ . وَالْفِسْق : الْخُرُوج عَنْ الطَّاعَة وَالدِّين . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَعَدَ اللَّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ↓
يُقَال : وَعَدَ اللَّه بِالْخَيْرِ وَعْدًا . وَوَعَدَ بِالشَّرِّ وَعِيدًا " خَالِدِينَ " نُصِبَ عَلَى الْحَال وَالْعَامِل مَحْذُوف , أَيْ يَصْلَوْنَهَا خَالِدِينَ .
اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ هِيَ كِفَايَة وَوَفَاء لِجَزَاءِ أَعْمَالهمْ . وَاللَّعْن : الْبُعْد , أَيْ مِنْ رَحْمَة اللَّه , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ وَاصِب دَائِم .
اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ هِيَ كِفَايَة وَوَفَاء لِجَزَاءِ أَعْمَالهمْ . وَاللَّعْن : الْبُعْد , أَيْ مِنْ رَحْمَة اللَّه , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ وَاصِب دَائِم .
كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ↓
" كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ " قَالَ الزَّجَّاج : الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ وَعَدَ اللَّه الْكُفَّار نَار جَهَنَّم وَعْدًا كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَعَلْتُمْ كَأَفْعَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ فِي الْأَمْر بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْي عَنْ الْمَعْرُوف , فَحَذَفَ الْمُضَاف . وَقِيلَ : أَيْ أَنْتُمْ كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ , فَالْكَاف فِي مَحَلّ رَفْع لِأَنَّهُ خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف . وَلَمْ يَنْصَرِف " أَشَدّ " لِأَنَّهُ أَفْعَل صِفَة . وَالْأَصْل فِيهِ أَشْدَد , أَيْ كَانُوا أَشَدّ مِنْكُمْ قُوَّة فَلَمْ يَتَهَيَّأ لَهُمْ وَلَا أَمْكَنَهُمْ رَفْع عَذَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .
رَوَى سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( تَأْخُذُونَ كَمَا أَخَذَتْ الْأُمَم قَبْلكُمْ ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَشِبْرًا بِشِبْرٍ وَبَاعًا بِبَاعٍ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ دَخَلَ جُحْر ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ ) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : وَإِنْ شِئْتُمْ فَاقْرَءُوا الْقُرْآن : " كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ كَانُوا أَشَدّ مِنْكُمْ قُوَّة وَأَكْثَر أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : وَالْخَلَاق , الدِّين " فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ بِخَلَاقِهِمْ " حَتَّى فَرَغَ مِنْ الْآيَة . قَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه , فَمَا صَنَعَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : ( وَمَا النَّاس إِلَّا هُمْ ) . وَفِي الصَّحِيح عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَن مَنْ قَبْلكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْر ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , الْيَهُود وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : ( فَمَنْ ) ؟ وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَة بِالْبَارِحَةِ , هَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيل شُبِّهْنَا بِهِمْ . وَنَحْوه عَنْ اِبْن مَسْعُود .
" فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ " أَيْ اِنْتَفَعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنْ الدِّين كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ .
" وَخُضْتُمْ " خُرُوج مِنْ الْغَيْبَة إِلَى الْخِطَاب . " كَاَلَّذِي خَاضُوا " أَيْ كَخَوْضِهِمْ . فَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف , أَيْ وَخُضْتُمْ خَوْضًا كَاَلَّذِينَ خَاضُوا . و " الَّذِي " اِسْم نَاقِص مِثْل مَنْ , يُعَبَّر بِهِ عَنْ الْوَاحِد وَالْجَمْع . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] وَيُقَال : خُضْت الْمَاء أَخُوضهُ خَوْضًا وَخِيَاضًا . وَالْمَوْضِع مَخَاضَة , وَهُوَ مَا جَازَ النَّاس فِيهَا مُشَاة وَرُكْبَانًا . وَجَمْعهَا الْمَخَاض وَالْمَخَاوِض أَيْضًا , عَنْ أَبِي زَيْد . وَأَخَضْت دَابَّتِي فِي الْمَاء . وَأَخَاضَ الْقَوْم , أَيْ خَاضَتْ خَيْلهمْ . وَخُضْت الْغَمَرَات : اِقْتَحَمْتهَا . وَيُقَال : خَاضَهُ بِالسَّيْفِ , أَيْ حَرَّكَ سَيْفه فِي الْمَضْرُوب . وَخَوَّضَ فِي نَجِيعه شَدَّدَ لِلْمُبَالَغَةِ . وَالْمِخْوَض لِلشَّرَابِ كَالْمِجْدَعِ لِلسَّوِيقِ , يُقَال مِنْهُ : خُضْت الشَّرَاب . وَخَاضَ الْقَوْم فِي الْحَدِيث وَتَخَاوَضُوا أَيْ تَفَاوَضُوا فِيهِ , فَالْمَعْنَى : خُضْتُمْ فِي أَسْبَاب الدُّنْيَا بِاللَّهْوِ وَاللَّعِب . وَقِيلَ : فِي أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ .
بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ وَمِنْهُ الْحَبَط وَهُوَ فَسَاد يَلْحَق الْمَوَاشِي فِي بُطُونهَا مِنْ كَثْرَة أَكْلهَا الْكَلَأ فَتَنْتَفِخ .
حَسَنَاتهمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا .
رَوَى سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( تَأْخُذُونَ كَمَا أَخَذَتْ الْأُمَم قَبْلكُمْ ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَشِبْرًا بِشِبْرٍ وَبَاعًا بِبَاعٍ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ دَخَلَ جُحْر ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ ) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : وَإِنْ شِئْتُمْ فَاقْرَءُوا الْقُرْآن : " كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ كَانُوا أَشَدّ مِنْكُمْ قُوَّة وَأَكْثَر أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : وَالْخَلَاق , الدِّين " فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ بِخَلَاقِهِمْ " حَتَّى فَرَغَ مِنْ الْآيَة . قَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه , فَمَا صَنَعَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : ( وَمَا النَّاس إِلَّا هُمْ ) . وَفِي الصَّحِيح عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَن مَنْ قَبْلكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْر ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , الْيَهُود وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : ( فَمَنْ ) ؟ وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَة بِالْبَارِحَةِ , هَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيل شُبِّهْنَا بِهِمْ . وَنَحْوه عَنْ اِبْن مَسْعُود .
" فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ " أَيْ اِنْتَفَعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنْ الدِّين كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ .
" وَخُضْتُمْ " خُرُوج مِنْ الْغَيْبَة إِلَى الْخِطَاب . " كَاَلَّذِي خَاضُوا " أَيْ كَخَوْضِهِمْ . فَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف , أَيْ وَخُضْتُمْ خَوْضًا كَاَلَّذِينَ خَاضُوا . و " الَّذِي " اِسْم نَاقِص مِثْل مَنْ , يُعَبَّر بِهِ عَنْ الْوَاحِد وَالْجَمْع . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] وَيُقَال : خُضْت الْمَاء أَخُوضهُ خَوْضًا وَخِيَاضًا . وَالْمَوْضِع مَخَاضَة , وَهُوَ مَا جَازَ النَّاس فِيهَا مُشَاة وَرُكْبَانًا . وَجَمْعهَا الْمَخَاض وَالْمَخَاوِض أَيْضًا , عَنْ أَبِي زَيْد . وَأَخَضْت دَابَّتِي فِي الْمَاء . وَأَخَاضَ الْقَوْم , أَيْ خَاضَتْ خَيْلهمْ . وَخُضْت الْغَمَرَات : اِقْتَحَمْتهَا . وَيُقَال : خَاضَهُ بِالسَّيْفِ , أَيْ حَرَّكَ سَيْفه فِي الْمَضْرُوب . وَخَوَّضَ فِي نَجِيعه شَدَّدَ لِلْمُبَالَغَةِ . وَالْمِخْوَض لِلشَّرَابِ كَالْمِجْدَعِ لِلسَّوِيقِ , يُقَال مِنْهُ : خُضْت الشَّرَاب . وَخَاضَ الْقَوْم فِي الْحَدِيث وَتَخَاوَضُوا أَيْ تَفَاوَضُوا فِيهِ , فَالْمَعْنَى : خُضْتُمْ فِي أَسْبَاب الدُّنْيَا بِاللَّهْوِ وَاللَّعِب . وَقِيلَ : فِي أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ .
بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ وَمِنْهُ الْحَبَط وَهُوَ فَسَاد يَلْحَق الْمَوَاشِي فِي بُطُونهَا مِنْ كَثْرَة أَكْلهَا الْكَلَأ فَتَنْتَفِخ .
حَسَنَاتهمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا .
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ↓
أَيْ خَبَر
الْأَلِف لِمَعْنَى التَّقْرِير وَالتَّحْذِير , أَيْ أَلَمْ يَسْمَعُوا إِهْلَاكنَا الْكُفَّار مِنْ قَبْل .
بَدَل مِنْ الَّذِينَ .
أَيْ نُمْرُود بْن كَنْعَان وَقَوْمه .
مَدْيَن اِسْم لِلْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ شُعَيْب , أُهْلِكُوا بِعَذَابِ يَوْم الظُّلَّة .
قِيلَ : يُرَاد بِهِ قَوْم لُوط , لِأَنَّ أَرْضهمْ اِئْتَفَكَتْ بِهِمْ , أَيْ اِنْقَلَبَتْ , قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : الْمُؤْتَفِكَات كُلّ مَنْ أُهْلِكَ , كَمَا يُقَال : اِنْقَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الدُّنْيَا .
يَعْنِي جَمِيع الْأَنْبِيَاء . وَقِيلَ : أَتَتْ أَصْحَاب الْمُؤْتَفِكَات رُسُلهمْ , فَعَلَى هَذَا رَسُولهمْ لُوط وَحْده , وَلَكِنَّهُ بَعَثَ فِي كُلّ قَرْيَة رَسُولًا , وَكَانَتْ ثَلَاث قَرَيَات , وَقِيلَ أَرْبَع . وَقَوْله تَعَالَى فِي مَوْضِع آخَر : " وَالْمُؤْتَفِكَة " [ النَّجْم : 53 ] عَلَى طَرِيق الْجِنْس . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالرُّسُلِ الْوَاحِد , كَقَوْلِهِ " يَا أَيّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَات " [ الْمُؤْمِنُونَ : 51 ] وَلَمْ يَكُنْ فِي عَصْره غَيْره .
قُلْت : وَهَذَا فِيهِ نَظَر , لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ) الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . وَالْمُرَاد جَمِيع الرُّسُل , وَاَللَّه أَعْلَم . قَوْله تَعَالَى :
أَيْ لِيُهْلِكهُمْ حَتَّى يَبْعَث إِلَيْهِمْ الْأَنْبِيَاء .
وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ بَعْد قِيَام الْحُجَّة عَلَيْهِمْ .
الْأَلِف لِمَعْنَى التَّقْرِير وَالتَّحْذِير , أَيْ أَلَمْ يَسْمَعُوا إِهْلَاكنَا الْكُفَّار مِنْ قَبْل .
بَدَل مِنْ الَّذِينَ .
أَيْ نُمْرُود بْن كَنْعَان وَقَوْمه .
مَدْيَن اِسْم لِلْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ شُعَيْب , أُهْلِكُوا بِعَذَابِ يَوْم الظُّلَّة .
قِيلَ : يُرَاد بِهِ قَوْم لُوط , لِأَنَّ أَرْضهمْ اِئْتَفَكَتْ بِهِمْ , أَيْ اِنْقَلَبَتْ , قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : الْمُؤْتَفِكَات كُلّ مَنْ أُهْلِكَ , كَمَا يُقَال : اِنْقَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الدُّنْيَا .
يَعْنِي جَمِيع الْأَنْبِيَاء . وَقِيلَ : أَتَتْ أَصْحَاب الْمُؤْتَفِكَات رُسُلهمْ , فَعَلَى هَذَا رَسُولهمْ لُوط وَحْده , وَلَكِنَّهُ بَعَثَ فِي كُلّ قَرْيَة رَسُولًا , وَكَانَتْ ثَلَاث قَرَيَات , وَقِيلَ أَرْبَع . وَقَوْله تَعَالَى فِي مَوْضِع آخَر : " وَالْمُؤْتَفِكَة " [ النَّجْم : 53 ] عَلَى طَرِيق الْجِنْس . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالرُّسُلِ الْوَاحِد , كَقَوْلِهِ " يَا أَيّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَات " [ الْمُؤْمِنُونَ : 51 ] وَلَمْ يَكُنْ فِي عَصْره غَيْره .
قُلْت : وَهَذَا فِيهِ نَظَر , لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ) الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . وَالْمُرَاد جَمِيع الرُّسُل , وَاَللَّه أَعْلَم . قَوْله تَعَالَى :
أَيْ لِيُهْلِكهُمْ حَتَّى يَبْعَث إِلَيْهِمْ الْأَنْبِيَاء .
وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ بَعْد قِيَام الْحُجَّة عَلَيْهِمْ .
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ↓
أَيْ قُلُوبهمْ مُتَّحِدَة فِي التَّوَادّ وَالتَّحَابّ وَالتَّعَاطُف . وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ " بَعْضهمْ مِنْ بَعْض " لِأَنَّ قُلُوبهمْ مُخْتَلِفَة وَلَكِنْ يَضُمّ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض فِي الْحُكْم .
أَيْ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَوْحِيده , وَكُلّ مَا أَتْبَع ذَلِكَ .
عَنْ عِبَادَة الْأَوْثَان وَكُلّ مَا أَتْبَع ذَلِكَ . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَة أَنَّهُ قَالَ : كُلّ مَا ذَكَرَ اللَّه فِي الْقُرْآن مِنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَهُوَ النَّهْي عَنْ عِبَادَة الْأَوْثَان وَالشَّيَاطِين . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فِي سُورَة [ الْمَائِدَة ] و [ آل عِمْرَان ] وَالْحَمْد لِلَّهِ .
تَقَدَّمَ فِي أَوَّل " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هِيَ الصَّلَوَات الْخَمْس , وَبِحَسَبِ هَذَا تَكُون الزَّكَاة هُنَا الْمَفْرُوضَة . اِبْن عَطِيَّة : وَالْمَدْح عِنْدِي بِالنَّوَافِلِ أَبْلَغ ; إِذْ مَنْ يُقِيم النَّوَافِل أَحْرَى بِإِقَامَةِ الْفَرَائِض .
فِي الْفَرَائِض
فِيمَا سَنَّ لَهُمْ .
وَالسِّين فِي قَوْله : " سَيَرْحَمُهُمْ اللَّه " مُدْخِلَة فِي الْوَعْد مُهْلَةً لِتَكُونَ النُّفُوس تَتَنَعَّم بِرَجَائِهِ ; وَفَضْله تَعَالَى زَعِيم بِالْإِنْجَازِ .
" وَالْعَزِيز " مَعْنَاهُ الْمَنِيع الَّذِي لَا يُنَال وَلَا يُغَالَب . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء ; دَلِيله : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْجِزهُ مِنْ شَيْء فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الْأَرْض " . [ فَاطِر : 44 ] . الْكِسَائِيّ : " الْعَزِيز " الْغَالِب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] وَفِي الْمَثَل : " مَنْ عَزَّ بَزَّ " أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ . وَقِيلَ : " الْعَزِيز " الَّذِي لَا مِثْل لَهُ ; بَيَانه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء " [ الشُّورَى : 11 ] . وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا فِي اِسْمه الْعَزِيز فِي كِتَاب " الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى " ,
مُحْكَم لِمَا يُرِيدهُ مِنْ أُمُور عِبَاده
أَيْ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَوْحِيده , وَكُلّ مَا أَتْبَع ذَلِكَ .
عَنْ عِبَادَة الْأَوْثَان وَكُلّ مَا أَتْبَع ذَلِكَ . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَة أَنَّهُ قَالَ : كُلّ مَا ذَكَرَ اللَّه فِي الْقُرْآن مِنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَهُوَ النَّهْي عَنْ عِبَادَة الْأَوْثَان وَالشَّيَاطِين . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فِي سُورَة [ الْمَائِدَة ] و [ آل عِمْرَان ] وَالْحَمْد لِلَّهِ .
تَقَدَّمَ فِي أَوَّل " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هِيَ الصَّلَوَات الْخَمْس , وَبِحَسَبِ هَذَا تَكُون الزَّكَاة هُنَا الْمَفْرُوضَة . اِبْن عَطِيَّة : وَالْمَدْح عِنْدِي بِالنَّوَافِلِ أَبْلَغ ; إِذْ مَنْ يُقِيم النَّوَافِل أَحْرَى بِإِقَامَةِ الْفَرَائِض .
فِي الْفَرَائِض
فِيمَا سَنَّ لَهُمْ .
وَالسِّين فِي قَوْله : " سَيَرْحَمُهُمْ اللَّه " مُدْخِلَة فِي الْوَعْد مُهْلَةً لِتَكُونَ النُّفُوس تَتَنَعَّم بِرَجَائِهِ ; وَفَضْله تَعَالَى زَعِيم بِالْإِنْجَازِ .
" وَالْعَزِيز " مَعْنَاهُ الْمَنِيع الَّذِي لَا يُنَال وَلَا يُغَالَب . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء ; دَلِيله : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْجِزهُ مِنْ شَيْء فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الْأَرْض " . [ فَاطِر : 44 ] . الْكِسَائِيّ : " الْعَزِيز " الْغَالِب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] وَفِي الْمَثَل : " مَنْ عَزَّ بَزَّ " أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ . وَقِيلَ : " الْعَزِيز " الَّذِي لَا مِثْل لَهُ ; بَيَانه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء " [ الشُّورَى : 11 ] . وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا فِي اِسْمه الْعَزِيز فِي كِتَاب " الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى " ,
مُحْكَم لِمَا يُرِيدهُ مِنْ أُمُور عِبَاده
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ↓
أَيْ بَسَاتِين
أَيْ مِنْ تَحْت أَشْجَارهَا وَغُرَفهَا الْأَنْهَار . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " أَنَّهَا تَجْرِي مُنْضَبِطَة بِالْقُدْرَةِ فِي غَيْر أُخْدُود .
قُصُور مِنْ الزَّبَرْجَد وَالدُّرّ وَالْيَاقُوت يَفُوح طِيبهَا مِنْ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام .
أَيْ فِي دَار إِقَامَة . يُقَال : عَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ ; وَمِنْهُ الْمَعْدِن . وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ : " جَنَّات عَدْن " هِيَ قَصَبَة الْجَنَّة , وَسَقْفهَا عَرْش الرَّحْمَن جَلَّ وَعَزَّ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : هِيَ بَطْنَانِ الْجَنَّة , أَيْ وَسَطهَا . وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ قَصْر مِنْ ذَهَب لَا يَدْخُلهَا إِلَّا نَبِيّ أَوْ صِدِّيق أَوْ شَهِيد أَوْ حَكَم عَدْل ; وَنَحْوه عَنْ الضَّحَّاك . وَقَالَ مُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : عَدْن أَعْلَى دَرَجَة فِي الْجَنَّة , وَفِيهَا عَيْن التَّسْنِيم , وَالْجِنَان حَوْلهَا مَحْفُوفَة بِهَا , وَهِيَ مُغَطَّاة مِنْ يَوْم خَلَقَهَا اللَّه حَتَّى يَنْزِلهَا الْأَنْبِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحُونَ وَمَنْ يَشَاء اللَّه .
أَيْ أَكْبَر مِنْ ذَلِكَ .
أَيْ مِنْ تَحْت أَشْجَارهَا وَغُرَفهَا الْأَنْهَار . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " أَنَّهَا تَجْرِي مُنْضَبِطَة بِالْقُدْرَةِ فِي غَيْر أُخْدُود .
قُصُور مِنْ الزَّبَرْجَد وَالدُّرّ وَالْيَاقُوت يَفُوح طِيبهَا مِنْ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام .
أَيْ فِي دَار إِقَامَة . يُقَال : عَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ ; وَمِنْهُ الْمَعْدِن . وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ : " جَنَّات عَدْن " هِيَ قَصَبَة الْجَنَّة , وَسَقْفهَا عَرْش الرَّحْمَن جَلَّ وَعَزَّ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : هِيَ بَطْنَانِ الْجَنَّة , أَيْ وَسَطهَا . وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ قَصْر مِنْ ذَهَب لَا يَدْخُلهَا إِلَّا نَبِيّ أَوْ صِدِّيق أَوْ شَهِيد أَوْ حَكَم عَدْل ; وَنَحْوه عَنْ الضَّحَّاك . وَقَالَ مُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : عَدْن أَعْلَى دَرَجَة فِي الْجَنَّة , وَفِيهَا عَيْن التَّسْنِيم , وَالْجِنَان حَوْلهَا مَحْفُوفَة بِهَا , وَهِيَ مُغَطَّاة مِنْ يَوْم خَلَقَهَا اللَّه حَتَّى يَنْزِلهَا الْأَنْبِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحُونَ وَمَنْ يَشَاء اللَّه .
أَيْ أَكْبَر مِنْ ذَلِكَ .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ↓
الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَدْخُل فِيهِ أُمَّته مِنْ بَعْده . قِيلَ : الْمُرَاد جَاهِدْ بِالْمُؤْمِنِينَ الْكُفَّار . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أُمِرَ بِالْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّار بِالسَّيْفِ , وَمَعَ الْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ وَشِدَّة الزَّجْر وَالتَّغْلِيظ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : جَاهِدْ الْمُنَافِقِينَ بِيَدِك , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِك , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاكْفَهِرَّ فِي وُجُوههمْ . وَقَالَ الْحَسَن : جَاهِدْ الْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُود عَلَيْهِمْ وَبِاللِّسَانِ - وَاخْتَارَ قَتَادَة - وَكَانُوا أَكْثَر مَنْ يُصِيب الْحُدُود . اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا إِقَامَة الْحُجَّة بِاللِّسَانِ فَكَانَتْ دَائِمَة وَأَمَّا بِالْحُدُودِ لِأَنَّ أَكْثَر إِصَابَة الْحُدُود كَانَتْ عِنْدهمْ فَدَعْوَى لَا بُرْهَان عَلَيْهَا وَلَيْسَ الْعَاصِي بِمُنَافِقٍ إِنَّمَا الْمُنَافِق بِمَا يَكُون فِي قَلْبه مِنْ النِّفَاق كَامِنًا لَا بِمَا تَتَلَبَّس بِهِ الْجَوَارِح ظَاهِرًا وَأَخْبَار الْمَحْدُودِينَ يَشْهَد سِيَاقهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ .
الْغِلَظ : نَقِيض الرَّأْفَة , وَهِيَ شِدَّة الْقَلْب عَلَى إِحْلَال الْأَمْر بِصَاحِبِهِ . وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي اللِّسَان ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرِّب عَلَيْهَا ) . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظ الْقَلْب لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلك " [ آل عِمْرَان : 159 ] . وَمِنْهُ قَوْل النِّسْوَة لِعُمَر : أَنْتَ أَفَظّ وَأَغْلَظ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى الْغِلَظ خُشُونَة الْجَانِب . فَهِيَ ضِدّ قَوْله تَعَالَى : " وَاخْفِضْ جَنَاحك لِمَنْ اِتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " [ الشُّعَرَاء : 215 ] . " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاح الذُّلّ مِنْ الرَّحْمَة " [ الْإِسْرَاء : 24 ] . وَهَذِهِ الْآيَة نَسَخَتْ كُلّ شَيْء مِنْ الْعَفْو وَالصُّلْح وَالصَّفْح .
الْغِلَظ : نَقِيض الرَّأْفَة , وَهِيَ شِدَّة الْقَلْب عَلَى إِحْلَال الْأَمْر بِصَاحِبِهِ . وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي اللِّسَان ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرِّب عَلَيْهَا ) . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظ الْقَلْب لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلك " [ آل عِمْرَان : 159 ] . وَمِنْهُ قَوْل النِّسْوَة لِعُمَر : أَنْتَ أَفَظّ وَأَغْلَظ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى الْغِلَظ خُشُونَة الْجَانِب . فَهِيَ ضِدّ قَوْله تَعَالَى : " وَاخْفِضْ جَنَاحك لِمَنْ اِتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " [ الشُّعَرَاء : 215 ] . " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاح الذُّلّ مِنْ الرَّحْمَة " [ الْإِسْرَاء : 24 ] . وَهَذِهِ الْآيَة نَسَخَتْ كُلّ شَيْء مِنْ الْعَفْو وَالصُّلْح وَالصَّفْح .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ↓
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْجُلَاس بْن سُوَيْد بْن الصَّامِت , وَوَدِيعَة بْن ثَابِت ; وَقَعُوا فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : وَاَللَّه لَئِنْ كَانَ مُحَمَّد صَادِقًا عَلَى إِخْوَاننَا الَّذِينَ هُمْ سَادَاتنَا وَخِيَارنَا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِير . فَقَالَ لَهُ عَامِر بْن قَيْس : أَجَل وَاَللَّه إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِق مُصَدَّق ; وَإِنَّك لَشَرّ مِنْ حِمَار . وَأَخْبَرَ عَامِر بِذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَجَاءَ الْجُلَاس فَحَلَفَ بِاَللَّهِ عِنْد مِنْبَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَامِرًا لَكَاذِب . وَحَلَفَ عَامِر لَقَدْ قَالَ , وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيّك الصَّادِق شَيْئًا , فَنَزَلَتْ . وَقِيلَ : إِنَّ الَّذِي سَمِعَهُ عَاصِم بْن عَدِيّ . وَقِيلَ حُذَيْفَة . وَقِيلَ : بَلْ سَمِعَهُ وَلَد اِمْرَأَته وَاسْمه عُمَيْر بْن سَعْد ; فِيمَا قَالَ اِبْن إِسْحَاق . وَقَالَ غَيْره : اِسْمه مُصْعَب . فَهَمَّ الْجُلَاس بِقَتْلِهِ لِئَلَّا يُخْبِر بِخَبَرِهِ ; فَفِيهِ نَزَلَ : " وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا " . قَالَ مُجَاهِد : وَكَانَ الْجُلَاس لَمَّا قَالَ لَهُ صَاحِبه إِنِّي سَأُخْبِرُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِك هَمَّ بِقَتْلِهِ , ثُمَّ لَمْ يَفْعَل , عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ . قَالَ , ذَلِكَ هِيَ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ " وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا " . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ , رَأَى رَجُلًا مِنْ غِفَار يَتَقَاتَل مَعَ رَجُل مِنْ جُهَيْنَة , وَكَانَتْ جُهَيْنَة حُلَفَاء الْأَنْصَار , فَعَلَا الْغِفَارِيّ الْجُهَنِيّ . فَقَالَ اِبْن أُبَيّ : يَا بَنِي الْأَوْس وَالْخَزْرَج , اُنْصُرُوا أَخَاكُمْ فَوَاَللَّهِ مَا مَثَلنَا وَمَثَل مُحَمَّد إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِل : سَمِّنْ كَلْبَك يَأْكُلك , وَلَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ . فَأُخْبِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , فَجَاءَهُ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقَوْل ثَالِث أَنَّهُ قَوْل جَمِيع الْمُنَافِقِينَ ; قَالَهُ الْحَسَن . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح ; لِعُمُومِ الْقَوْل وَوُجُود الْمَعْنَى فِيهِ وَفِيهِمْ , وَجُمْلَة ذَلِكَ اِعْتِقَادهمْ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ .
قَالَ النَّقَّاش : تَكْذِيبهمْ بِمَا وَعَدَ اللَّه مِنْ الْفَتْح . وَقِيلَ : " كَلِمَة الْكُفْر " قَوْل الْجُلَاس : إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد حَقًّا لَنَحْنُ أَشَرّ مِنْ الْحَمِير . وَقَوْل عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : كَلِمَة الْكُفْر سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالطَّعْن فِي الْإِسْلَام .
أَيْ بَعْد الْحُكْم بِإِسْلَامِهِمْ . فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كُفَّار , وَفِي قَوْله تَعَالَى : " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا " [ الْمُنَافِقُونَ : 3 ] دَلِيل قَاطِع . وَدَلَّتْ الْآيَة أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكُفْر يَكُون بِكُلِّ مَا يُنَاقِض التَّصْدِيق وَالْمَعْرِفَة ; وَإِنْ كَانَ الْإِيمَان لَا يَكُون إِلَّا بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه دُون غَيْره مِنْ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال إِلَّا فِي الصَّلَاة . قَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ : وَلَقَدْ أَجْمَعُوا فِي الصَّلَاة عَلَى شَيْء لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ فِي سَائِر الشَّرَائِع ; لِأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا : مَنْ عُرِفَ بِالْكُفْرِ ثُمَّ رَأَوْهُ يُصَلِّي الصَّلَاة فِي وَقْتهَا حَتَّى صَلَّى صَلَوَات كَثِيرَة . وَلَمْ يَعْلَمُوا مِنْهُ إِقْرَارًا بِاللِّسَانِ أَنَّهُ يُحْكَم لَهُ بِالْإِيمَانِ , وَلَمْ يَحْكُمُوا لَهُ فِي الصَّوْم وَالزَّكَاة بِمِثْلِ ذَلِكَ .
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَتْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْعَقَبَة فِي غَزْوَة تَبُوك , وَكَانُوا اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا . قَالَ حُذَيْفَة : سَمَّاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَدَّهُمْ كُلّهمْ . فَقُلْت : أَلَا تَبْعَث إِلَيْهِمْ فَتَقْتُلهُمْ ؟ فَقَالَ : ( أَكْرَه أَنْ تَقُول الْعَرَب لَمَّا ظَفِرَ بِأَصْحَابِهِ أَقْبَلَ يَقْتُلهُمْ بَلْ يَكْفِيهِمْ اللَّه بِالدُّبَيْلَةِ ) . قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَا الدُّبَيْلَة ؟ قَالَ : ( شِهَاب مِنْ جَهَنَّم يَجْعَلهُ عَلَى نِيَاط فُؤَاد أَحَدهمْ حَتَّى تَزْهَق نَفْسه ) . فَكَانَ كَذَلِكَ . خَرَّجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ . وَقِيلَ هَمُّوا بِعَقْدِ التَّاج عَلَى رَأْس اِبْن أُبَيّ لِيَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل مُجَاهِد فِي هَذَا .
أَيْ لَيْسَ يَنْقِمُونَ شَيْئًا ; كَمَا قَالَ النَّابِغَة : وَلَا عَيْب فِيهِمْ غَيْر أَنَّ سُيُوفهمْ بِهِنَّ فُلُول مِنْ قِرَاع الْكَتَائِب وَيُقَال : نَقَمَ يَنْقِم , وَنَقِمَ يَنْقَم ; قَالَ الشَّاعِر فِي الْكَسْر : مَا نَقِمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّة إِلَّا أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا وَقَالَ زُهَيْر : يُؤَخَّر فَيُوضَع فِي كِتَاب فَيُدَّخَر لِيَوْمِ الْحِسَاب أَوْ يُعَجَّل فَيَنْقِمَ يُنْشَد بِكَسْرِ الْقَاف وَفَتْحهَا . قَالَ الشَّعْبِيّ : كَانُوا يَطْلُبُونَ دِيَة فَيَقْضِي لَهُمْ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَغْنَوْا . ذَكَرَ عِكْرِمَة أَنَّهَا كَانَتْ اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا . وَيُقَال : إِنَّ الْقَتِيل كَانَ مَوْلَى الْجُلَاس . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : كَانُوا قَبْل قُدُوم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَنْك مِنْ الْعَيْش , لَا يَرْكَبُونَ الْخَيْل وَلَا يَحُوزُونَ الْغَنِيمَة , فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَغْنَوْا بِالْغَنَائِمِ . وَهَذَا الْمَثَل مَشْهُور : اِتَّقِ شَرّ مَنْ أَحْسَنْت إِلَيْهِ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر : قِيلَ لِلْبَجَلِيِّ أَتَجِدُ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى اِتَّقِ شَرّ مَنْ أَحْسَنْت إِلَيْهِ ؟ قَالَ نَعَمْ , " وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّه وَرَسُوله مِنْ فَضْله " .
رُوِيَ أَنَّ الْجُلَاس قَامَ حِين نَزَلَتْ الْآيَة فَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ . فَدَلَّ هَذَا عَلَى تَوْبَة الْكَافِر الَّذِي يُسِرّ الْكُفْر وَيُظْهِر الْإِيمَان ; وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه الْفُقَهَاء الزِّنْدِيق . وَقَدْ اِخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاء ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُقْبَل تَوْبَته . وَقَالَ مَالِك : تَوْبَة الزِّنْدِيق لَا تُعْرَف ; لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِر الْإِيمَان وَيُسِرّ الْكُفْر , وَلَا يَعْلَم إِيمَانه إِلَّا بِقَوْلِهِ . وَكَذَلِكَ يَفْعَل الْآن فِي كُلّ حِين , يَقُول : أَنَا مُؤْمِن وَهُوَ يُضْمِر خِلَاف مَا يُظْهِر ; فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ وَقَالَ : تُبْتُ , لَمْ يَتَغَيَّر حَاله عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ . فَإِذَا جَاءَنَا تَائِبًا مِنْ قِبَل نَفْسه قَبْل أَنْ يُعْثَر عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَته ; وَهُوَ الْمُرَاد بِالْآيَةِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ يُعْرِضُوا عَنْ الْإِيمَان وَالتَّوْبَة
فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ , وَفِي الْآخِرَة بِالنَّارِ .
أَيْ مَانِع يَمْنَعهُمْ
أَيْ مُعِين . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
قَالَ النَّقَّاش : تَكْذِيبهمْ بِمَا وَعَدَ اللَّه مِنْ الْفَتْح . وَقِيلَ : " كَلِمَة الْكُفْر " قَوْل الْجُلَاس : إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد حَقًّا لَنَحْنُ أَشَرّ مِنْ الْحَمِير . وَقَوْل عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : كَلِمَة الْكُفْر سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالطَّعْن فِي الْإِسْلَام .
أَيْ بَعْد الْحُكْم بِإِسْلَامِهِمْ . فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كُفَّار , وَفِي قَوْله تَعَالَى : " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا " [ الْمُنَافِقُونَ : 3 ] دَلِيل قَاطِع . وَدَلَّتْ الْآيَة أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكُفْر يَكُون بِكُلِّ مَا يُنَاقِض التَّصْدِيق وَالْمَعْرِفَة ; وَإِنْ كَانَ الْإِيمَان لَا يَكُون إِلَّا بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه دُون غَيْره مِنْ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال إِلَّا فِي الصَّلَاة . قَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ : وَلَقَدْ أَجْمَعُوا فِي الصَّلَاة عَلَى شَيْء لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ فِي سَائِر الشَّرَائِع ; لِأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا : مَنْ عُرِفَ بِالْكُفْرِ ثُمَّ رَأَوْهُ يُصَلِّي الصَّلَاة فِي وَقْتهَا حَتَّى صَلَّى صَلَوَات كَثِيرَة . وَلَمْ يَعْلَمُوا مِنْهُ إِقْرَارًا بِاللِّسَانِ أَنَّهُ يُحْكَم لَهُ بِالْإِيمَانِ , وَلَمْ يَحْكُمُوا لَهُ فِي الصَّوْم وَالزَّكَاة بِمِثْلِ ذَلِكَ .
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَتْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْعَقَبَة فِي غَزْوَة تَبُوك , وَكَانُوا اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا . قَالَ حُذَيْفَة : سَمَّاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَدَّهُمْ كُلّهمْ . فَقُلْت : أَلَا تَبْعَث إِلَيْهِمْ فَتَقْتُلهُمْ ؟ فَقَالَ : ( أَكْرَه أَنْ تَقُول الْعَرَب لَمَّا ظَفِرَ بِأَصْحَابِهِ أَقْبَلَ يَقْتُلهُمْ بَلْ يَكْفِيهِمْ اللَّه بِالدُّبَيْلَةِ ) . قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَا الدُّبَيْلَة ؟ قَالَ : ( شِهَاب مِنْ جَهَنَّم يَجْعَلهُ عَلَى نِيَاط فُؤَاد أَحَدهمْ حَتَّى تَزْهَق نَفْسه ) . فَكَانَ كَذَلِكَ . خَرَّجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ . وَقِيلَ هَمُّوا بِعَقْدِ التَّاج عَلَى رَأْس اِبْن أُبَيّ لِيَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل مُجَاهِد فِي هَذَا .
أَيْ لَيْسَ يَنْقِمُونَ شَيْئًا ; كَمَا قَالَ النَّابِغَة : وَلَا عَيْب فِيهِمْ غَيْر أَنَّ سُيُوفهمْ بِهِنَّ فُلُول مِنْ قِرَاع الْكَتَائِب وَيُقَال : نَقَمَ يَنْقِم , وَنَقِمَ يَنْقَم ; قَالَ الشَّاعِر فِي الْكَسْر : مَا نَقِمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّة إِلَّا أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا وَقَالَ زُهَيْر : يُؤَخَّر فَيُوضَع فِي كِتَاب فَيُدَّخَر لِيَوْمِ الْحِسَاب أَوْ يُعَجَّل فَيَنْقِمَ يُنْشَد بِكَسْرِ الْقَاف وَفَتْحهَا . قَالَ الشَّعْبِيّ : كَانُوا يَطْلُبُونَ دِيَة فَيَقْضِي لَهُمْ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَغْنَوْا . ذَكَرَ عِكْرِمَة أَنَّهَا كَانَتْ اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا . وَيُقَال : إِنَّ الْقَتِيل كَانَ مَوْلَى الْجُلَاس . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : كَانُوا قَبْل قُدُوم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَنْك مِنْ الْعَيْش , لَا يَرْكَبُونَ الْخَيْل وَلَا يَحُوزُونَ الْغَنِيمَة , فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَغْنَوْا بِالْغَنَائِمِ . وَهَذَا الْمَثَل مَشْهُور : اِتَّقِ شَرّ مَنْ أَحْسَنْت إِلَيْهِ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر : قِيلَ لِلْبَجَلِيِّ أَتَجِدُ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى اِتَّقِ شَرّ مَنْ أَحْسَنْت إِلَيْهِ ؟ قَالَ نَعَمْ , " وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّه وَرَسُوله مِنْ فَضْله " .
رُوِيَ أَنَّ الْجُلَاس قَامَ حِين نَزَلَتْ الْآيَة فَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ . فَدَلَّ هَذَا عَلَى تَوْبَة الْكَافِر الَّذِي يُسِرّ الْكُفْر وَيُظْهِر الْإِيمَان ; وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه الْفُقَهَاء الزِّنْدِيق . وَقَدْ اِخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاء ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُقْبَل تَوْبَته . وَقَالَ مَالِك : تَوْبَة الزِّنْدِيق لَا تُعْرَف ; لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِر الْإِيمَان وَيُسِرّ الْكُفْر , وَلَا يَعْلَم إِيمَانه إِلَّا بِقَوْلِهِ . وَكَذَلِكَ يَفْعَل الْآن فِي كُلّ حِين , يَقُول : أَنَا مُؤْمِن وَهُوَ يُضْمِر خِلَاف مَا يُظْهِر ; فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ وَقَالَ : تُبْتُ , لَمْ يَتَغَيَّر حَاله عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ . فَإِذَا جَاءَنَا تَائِبًا مِنْ قِبَل نَفْسه قَبْل أَنْ يُعْثَر عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَته ; وَهُوَ الْمُرَاد بِالْآيَةِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ يُعْرِضُوا عَنْ الْإِيمَان وَالتَّوْبَة
فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ , وَفِي الْآخِرَة بِالنَّارِ .
أَيْ مَانِع يَمْنَعهُمْ
أَيْ مُعِين . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ↓
قَالَ قَتَادَة : هَذَا رَجُل مِنْ الْأَنْصَار قَالَ : لَئِنْ رَزَقَنِي اللَّه شَيْئًا لَأُؤَدِّيَنَّ فِيهِ حَقّه وَلَأَتَصَدَّقَنَّ ; فَلَمَّا آتَاهُ اللَّه ذَلِكَ فَعَلَ مَا نَصَّ عَلَيْكُمْ , فَاحْذَرُوا الْكَذِب فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْفُجُور . وَرَوَى عَلِيّ بْن يَزِيد عَنْ الْقَاسِم عَنْ أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ أَنَّ ثَعْلَبَة بْن حَاطِب الْأَنْصَارِيّ - فَسَمَّاهُ - قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُ اللَّه أَنْ يَرْزُقنِي مَالًا . فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ( وَيْحك يَا ثَعْلَبَة قَلِيل تُؤَدِّي شُكْره خَيْر مِنْ كَثِير لَا تُطِيقهُ ) ثُمَّ عَاوَدَ ثَانِيًا فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُون مِثْل نَبِيّ اللَّه لَوْ شِئْت أَنْ تَسِير مَعِي الْجِبَال ذَهَبًا لَسَارَتْ ) فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْت اللَّه فَرَزَقَنِي مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلّ ذِي حَقّ حَقّه . فَدَعَا لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا تَنْمِي الدُّود , فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَة فَتَنَحَّى عَنْهَا وَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتهَا حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْر وَالْعَصْر فِي جَمَاعَة , وَتَرَك مَا سِوَاهُمَا . ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَات إِلَّا الْجُمُعَة , وَهِيَ تَنْمِي حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَة أَيْضًا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا وَيْح ثَعْلَبَة ) ثَلَاثًا . ثُمَّ نَزَلَ " خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة " [ التَّوْبَة : 103 ] . فَبَعَثَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَة , وَقَالَ لَهُمَا : ( مُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِفُلَانٍ - رَجُل مِنْ بَنِي سُلَيْم - فَخُذَا صَدَقَاتهمَا ) فَأَتَيَا ثَعْلَبَة وَأَقْرَآهُ كِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْت الْجِزْيَة اِنْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا ثُمَّ تَعُودَا . الْحَدِيث , وَهُوَ مَشْهُور . وَقِيلَ : سَبَب غَنَاء ثَعْلَبَة أَنَّهُ وَرِثَ اِبْن عَمّ لَهُ . قَالَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ : قِيلَ إِنَّ ثَعْلَبَة بْن حَاطِب هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ " وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه ... " الْآيَة ; إِذْ مَنَعَ الزَّكَاة , فَاَللَّه أَعْلَم . وَمَا جَاءَ فِيمَنْ شَاهَدَ بَدْرًا يُعَارِضهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة : " فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبهمْ ... " الْآيَة .
قُلْت : وَذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي سَبَب نُزُول الْآيَة أَنَّ حَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَة أَبْطَأَ عَنْهُ مَاله بِالشَّامِ فَحَلَفَ فِي مَجْلِس مِنْ مَجَالِس الْأَنْصَار : إِنْ سَلِمَ ذَلِكَ لَأَتَصَدَّقَنَّ مِنْهُ وَلَأَصِلَنَّ مِنْهُ . فَلَمَّا سَلَّمَ بَخِلَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ .
قُلْت : وَثَعْلَبَة بَدْرِيّ أَنْصَارِيّ وَمِمَّنْ شَهِدَ اللَّه لَهُ وَرَسُوله بِالْإِيمَانِ ; حَسَب مَا يَأْتِي بَيَانه فِي أَوَّل الْمُمْتَحَنَة فَمَا رُوِيَ عَنْهُ غَيْر صَحِيح . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَعَلَّ قَوْل مَنْ قَالَ فِي ثَعْلَبَة أَنَّهُ مَانِع الزَّكَاة الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَة غَيْر صَحِيح , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ الضَّحَّاك : إِنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي رِجَال مِنْ الْمُنَافِقِينَ نَبْتَل بْن الْحَارِث وَجَدّ بْن قَيْس وَمُعَتِّب بْن قُشَيْر .
قُلْت : وَهَذَا أَشْبَهُ بِنُزُولِ الْآيَة فِيهِمْ ; إِلَّا أَنَّ قَوْله " فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَاهَدَ اللَّه لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا مِنْ قَبْل , إِلَّا أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : زَادَهُمْ نِفَاقًا ثَبَتُوا عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَات , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " إِلَى يَوْم يَلْقَوْنَهُ " عَلَى مَا يَأْتِي .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه " اِحْتَمَلَ أَنْ يَكُون عَاهَدَ اللَّه بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدهُ بِقَلْبِهِ . وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون عَاهَدَ اللَّه بِهِمَا ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ سُوء الْخَاتِمَة ; فَإِنَّ الْأَعْمَال بِخَوَاتِيمِهَا وَالْأَيَّام بِعَوَاقِبِهَا . و " مَنْ " رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر فِي الْمَجْرُور . وَلَفْظ الْيَمِين وَرَدَ فِي الْحَدِيث وَلَيْسَ فِي ظَاهِر الْقُرْآن يَمِين إِلَّا بِمُجَرَّدِ الِارْتِبَاط وَالِالْتِزَام , أَمَّا إِنَّهُ فِي صِيغَة الْقَسَم فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّام تَدُلّ عَلَيْهِ , وَقَدْ أَتَى بِلَامَيْنِ الْأُولَى لِلْقَسَمِ وَالثَّانِيَة لَام الْجَوَاب , وَكِلَاهُمَا لِلتَّأْكِيدِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُمَا لَامَا الْقَسَم ; وَالْأَوَّل أَظْهَر , وَاَللَّه أَعْلَم .
الْعَهْد وَالطَّلَاق وَكُلّ حُكْم يَنْفَرِد بِهِ الْمَرْء وَلَا يَفْتَقِر إِلَى غَيْره فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ مِنْهُ مَا يَلْتَزِمهُ بِقَصْدِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْفِظ بِهِ ; قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : لَا يَلْزَم أَحَدًا حُكْم إِلَّا بَعْد أَنْ يَلْفِظ بِهِ وَهُوَ الْقَوْل الْآخَر لِعُلَمَائِنَا . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَشْهَب عَنْ مَالِك , وَقَدْ سُئِلَ : إِذَا نَوَى الرَّجُل الطَّلَاق بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظ بِهِ بِلِسَانِهِ فَقَالَ : يَلْزَمهُ ; كَمَا يَكُون مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ , وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا أَصْل بَدِيع , وَتَحْرِيره أَنْ يُقَال : عَقْد لَا يَفْتَقِر فِيهِ الْمَرْء إِلَى غَيْره فِي اِلْتِزَامه فَانْعَقَدَ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ . أَصْله الْإِيمَان وَالْكُفْر .
قُلْت : وَحُجَّة الْقَوْل الثَّانِي مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا مَا لَمْ تَعْمَل أَوْ تَتَكَلَّم بِهِ ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح , وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم إِذَا حَدَّثَ نَفْسه بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا حَتَّى يَتَكَلَّم بِهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَمَنْ اِعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ الطَّلَاق وَلَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَانه فَلَيْسَ بِشَيْءٍ . هَذَا هُوَ الْأَشْهَر عَنْ مَالِك . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمهُ الطَّلَاق إِذَا نَوَاهُ بِقَلْبِهِ ; كَمَا يَكْفُر بِقَلْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَانه . وَالْأَوَّل أَصَحّ فِي النَّظَر وَطَرِيق الْأَثَر ; لِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَجَاوَزَ اللَّه لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ بِهِ نُفُوسهَا مَا لَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَان أَوْ تَعْمَلهُ يَد ) .
إِنْ كَانَ نَذْرًا فَالْوَفَاء بِالنَّذْرِ وَاجِب مِنْ غَيْر خِلَاف وَتَرْكه مَعْصِيَة . وَإِنْ كَانَتْ يَمِينًا فَلَيْسَ الْوَفَاء بِالْيَمِينِ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ . بَيْد أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ إِنْ كَانَ الرَّجُل فَقِيرًا لَا يَتَعَيَّن عَلَيْهِ فَرْض الزَّكَاة ; فَسَأَلَ اللَّه مَالًا تَلْزَمهُ فِيهِ الزَّكَاة وَيُؤَدِّي مَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضه , فَلَمَّا آتَاهُ اللَّه مَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ تَرَكَ مَا اِلْتَزَمَ مِمَّا كَانَ يَلْزَمهُ فِي أَصْل الدِّين لَوْ لَمْ يَلْتَزِمهُ , لَكِنَّ التَّعَاطِي بِطَلَبِ الْمَال لِأَدَاءِ الْحُقُوق هُوَ الَّذِي أَوْرَطَهُ إِذْ كَانَ طَلَبه مِنْ اللَّه تَعَالَى بِغَيْرِ نِيَّة خَالِصَة , أَوْ نِيَّة لَكِنْ سَبَقَتْ فِيهِ الْبِدَايَة الْمَكْتُوب عَلَيْهِ فِيهَا الشَّقَاوَة . نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا تَمَنَّى أَحَدكُمْ فَلْيَنْظُرْ مَا يَتَمَنَّى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا كُتِبَ لَهُ فِي غَيْب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُمْنِيَته ) أَيْ مِنْ عَاقِبَتهَا , فَرُبَّ أُمْنِيَة يَفْتَتِن بِهَا أَوْ يَطْغَى فَتَكُون سَبَبًا لِلْهَلَاكِ دُنْيَا وَأُخْرَى , لِأَنَّ أُمُور الدُّنْيَا مُبْهَمَة عَوَاقِبهَا خَطِرَة غَائِلَتهَا . وَأَمَّا تَمَّنِي أُمُور الدِّين وَالْأُخْرَى فَتَمَنِّيهَا مَحْمُود الْعَاقِبَة مَحْضُوض عَلَيْهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا .
دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : إِنْ مَلَكْت كَذَا وَكَذَا فَهُوَ صَدَقَة فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة : وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَلْزَمهُ . وَالْخِلَاف فِي الطَّلَاق مِثْله , وَكَذَلِكَ فِي الْعِتْق . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : يَلْزَمهُ ذَلِكَ فِي الْعِتْق وَلَا يَلْزَمهُ فِي الطَّلَاق ; لِأَنَّ الْعِتْق قُرْبَة وَهِيَ تَثْبُت فِي الذِّمَّة بِالنَّذْرِ ; بِخِلَافِ الطَّلَاق فَإِنَّهُ تَصَرُّف فِي مَحَلّ , وَهُوَ لَا يَثْبُت فِي الذِّمَّة . اِحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا نَذْر لِابْنِ آدَم فِيمَا لَا يَمْلِك وَلَا عِتْق لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِك وَلَا طَلَاق لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِك ) لَفْظ التِّرْمِذِيّ . وَقَالَ : وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيّ وَمُعَاذ وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو حَدِيث حَسَن , وَهُوَ أَحْسَن شَيْء رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب . وَهُوَ قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهمْ . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَسَرَدَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة لَمْ يَصِحّ مِنْهَا شَيْء فَلَا يُعَوَّل عَلَيْهَا , وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ظَاهِر الْآيَة .
قُلْت : وَذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي سَبَب نُزُول الْآيَة أَنَّ حَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَة أَبْطَأَ عَنْهُ مَاله بِالشَّامِ فَحَلَفَ فِي مَجْلِس مِنْ مَجَالِس الْأَنْصَار : إِنْ سَلِمَ ذَلِكَ لَأَتَصَدَّقَنَّ مِنْهُ وَلَأَصِلَنَّ مِنْهُ . فَلَمَّا سَلَّمَ بَخِلَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ .
قُلْت : وَثَعْلَبَة بَدْرِيّ أَنْصَارِيّ وَمِمَّنْ شَهِدَ اللَّه لَهُ وَرَسُوله بِالْإِيمَانِ ; حَسَب مَا يَأْتِي بَيَانه فِي أَوَّل الْمُمْتَحَنَة فَمَا رُوِيَ عَنْهُ غَيْر صَحِيح . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَعَلَّ قَوْل مَنْ قَالَ فِي ثَعْلَبَة أَنَّهُ مَانِع الزَّكَاة الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَة غَيْر صَحِيح , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ الضَّحَّاك : إِنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي رِجَال مِنْ الْمُنَافِقِينَ نَبْتَل بْن الْحَارِث وَجَدّ بْن قَيْس وَمُعَتِّب بْن قُشَيْر .
قُلْت : وَهَذَا أَشْبَهُ بِنُزُولِ الْآيَة فِيهِمْ ; إِلَّا أَنَّ قَوْله " فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَاهَدَ اللَّه لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا مِنْ قَبْل , إِلَّا أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : زَادَهُمْ نِفَاقًا ثَبَتُوا عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَات , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " إِلَى يَوْم يَلْقَوْنَهُ " عَلَى مَا يَأْتِي .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه " اِحْتَمَلَ أَنْ يَكُون عَاهَدَ اللَّه بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدهُ بِقَلْبِهِ . وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون عَاهَدَ اللَّه بِهِمَا ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ سُوء الْخَاتِمَة ; فَإِنَّ الْأَعْمَال بِخَوَاتِيمِهَا وَالْأَيَّام بِعَوَاقِبِهَا . و " مَنْ " رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر فِي الْمَجْرُور . وَلَفْظ الْيَمِين وَرَدَ فِي الْحَدِيث وَلَيْسَ فِي ظَاهِر الْقُرْآن يَمِين إِلَّا بِمُجَرَّدِ الِارْتِبَاط وَالِالْتِزَام , أَمَّا إِنَّهُ فِي صِيغَة الْقَسَم فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّام تَدُلّ عَلَيْهِ , وَقَدْ أَتَى بِلَامَيْنِ الْأُولَى لِلْقَسَمِ وَالثَّانِيَة لَام الْجَوَاب , وَكِلَاهُمَا لِلتَّأْكِيدِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُمَا لَامَا الْقَسَم ; وَالْأَوَّل أَظْهَر , وَاَللَّه أَعْلَم .
الْعَهْد وَالطَّلَاق وَكُلّ حُكْم يَنْفَرِد بِهِ الْمَرْء وَلَا يَفْتَقِر إِلَى غَيْره فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ مِنْهُ مَا يَلْتَزِمهُ بِقَصْدِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْفِظ بِهِ ; قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : لَا يَلْزَم أَحَدًا حُكْم إِلَّا بَعْد أَنْ يَلْفِظ بِهِ وَهُوَ الْقَوْل الْآخَر لِعُلَمَائِنَا . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَشْهَب عَنْ مَالِك , وَقَدْ سُئِلَ : إِذَا نَوَى الرَّجُل الطَّلَاق بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظ بِهِ بِلِسَانِهِ فَقَالَ : يَلْزَمهُ ; كَمَا يَكُون مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ , وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا أَصْل بَدِيع , وَتَحْرِيره أَنْ يُقَال : عَقْد لَا يَفْتَقِر فِيهِ الْمَرْء إِلَى غَيْره فِي اِلْتِزَامه فَانْعَقَدَ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ . أَصْله الْإِيمَان وَالْكُفْر .
قُلْت : وَحُجَّة الْقَوْل الثَّانِي مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا مَا لَمْ تَعْمَل أَوْ تَتَكَلَّم بِهِ ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح , وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم إِذَا حَدَّثَ نَفْسه بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا حَتَّى يَتَكَلَّم بِهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَمَنْ اِعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ الطَّلَاق وَلَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَانه فَلَيْسَ بِشَيْءٍ . هَذَا هُوَ الْأَشْهَر عَنْ مَالِك . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمهُ الطَّلَاق إِذَا نَوَاهُ بِقَلْبِهِ ; كَمَا يَكْفُر بِقَلْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَانه . وَالْأَوَّل أَصَحّ فِي النَّظَر وَطَرِيق الْأَثَر ; لِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَجَاوَزَ اللَّه لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ بِهِ نُفُوسهَا مَا لَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَان أَوْ تَعْمَلهُ يَد ) .
إِنْ كَانَ نَذْرًا فَالْوَفَاء بِالنَّذْرِ وَاجِب مِنْ غَيْر خِلَاف وَتَرْكه مَعْصِيَة . وَإِنْ كَانَتْ يَمِينًا فَلَيْسَ الْوَفَاء بِالْيَمِينِ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ . بَيْد أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ إِنْ كَانَ الرَّجُل فَقِيرًا لَا يَتَعَيَّن عَلَيْهِ فَرْض الزَّكَاة ; فَسَأَلَ اللَّه مَالًا تَلْزَمهُ فِيهِ الزَّكَاة وَيُؤَدِّي مَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضه , فَلَمَّا آتَاهُ اللَّه مَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ تَرَكَ مَا اِلْتَزَمَ مِمَّا كَانَ يَلْزَمهُ فِي أَصْل الدِّين لَوْ لَمْ يَلْتَزِمهُ , لَكِنَّ التَّعَاطِي بِطَلَبِ الْمَال لِأَدَاءِ الْحُقُوق هُوَ الَّذِي أَوْرَطَهُ إِذْ كَانَ طَلَبه مِنْ اللَّه تَعَالَى بِغَيْرِ نِيَّة خَالِصَة , أَوْ نِيَّة لَكِنْ سَبَقَتْ فِيهِ الْبِدَايَة الْمَكْتُوب عَلَيْهِ فِيهَا الشَّقَاوَة . نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا تَمَنَّى أَحَدكُمْ فَلْيَنْظُرْ مَا يَتَمَنَّى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا كُتِبَ لَهُ فِي غَيْب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُمْنِيَته ) أَيْ مِنْ عَاقِبَتهَا , فَرُبَّ أُمْنِيَة يَفْتَتِن بِهَا أَوْ يَطْغَى فَتَكُون سَبَبًا لِلْهَلَاكِ دُنْيَا وَأُخْرَى , لِأَنَّ أُمُور الدُّنْيَا مُبْهَمَة عَوَاقِبهَا خَطِرَة غَائِلَتهَا . وَأَمَّا تَمَّنِي أُمُور الدِّين وَالْأُخْرَى فَتَمَنِّيهَا مَحْمُود الْعَاقِبَة مَحْضُوض عَلَيْهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا .
دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : إِنْ مَلَكْت كَذَا وَكَذَا فَهُوَ صَدَقَة فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة : وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَلْزَمهُ . وَالْخِلَاف فِي الطَّلَاق مِثْله , وَكَذَلِكَ فِي الْعِتْق . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : يَلْزَمهُ ذَلِكَ فِي الْعِتْق وَلَا يَلْزَمهُ فِي الطَّلَاق ; لِأَنَّ الْعِتْق قُرْبَة وَهِيَ تَثْبُت فِي الذِّمَّة بِالنَّذْرِ ; بِخِلَافِ الطَّلَاق فَإِنَّهُ تَصَرُّف فِي مَحَلّ , وَهُوَ لَا يَثْبُت فِي الذِّمَّة . اِحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا نَذْر لِابْنِ آدَم فِيمَا لَا يَمْلِك وَلَا عِتْق لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِك وَلَا طَلَاق لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِك ) لَفْظ التِّرْمِذِيّ . وَقَالَ : وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيّ وَمُعَاذ وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو حَدِيث حَسَن , وَهُوَ أَحْسَن شَيْء رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب . وَهُوَ قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهمْ . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَسَرَدَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة لَمْ يَصِحّ مِنْهَا شَيْء فَلَا يُعَوَّل عَلَيْهَا , وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ظَاهِر الْآيَة .
أَيْ أَعْطَاهُمْ .
أَيْ بِإِعْطَاءِ الصَّدَقَة وَبِإِنْفَاقِ الْمَال فِي الْخَيْر , وَبِالْوَفَاءِ بِمَا ضَمِنُوا وَالْتَزَمُوا . وَقَدْ مَضَى الْبُخْل فِي [ آل عِمْرَان ]
أَيْ عَنْ طَاعَة اللَّه .
أَيْ عَنْ الْإِسْلَام , أَيْ مُظْهِرُونَ لِلْإِعْرَاضِ عَنْهُ .
أَيْ بِإِعْطَاءِ الصَّدَقَة وَبِإِنْفَاقِ الْمَال فِي الْخَيْر , وَبِالْوَفَاءِ بِمَا ضَمِنُوا وَالْتَزَمُوا . وَقَدْ مَضَى الْبُخْل فِي [ آل عِمْرَان ]
أَيْ عَنْ طَاعَة اللَّه .
أَيْ عَنْ الْإِسْلَام , أَيْ مُظْهِرُونَ لِلْإِعْرَاضِ عَنْهُ .
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ↓
مَفْعُولَانِ أَيْ أَعْقَبَهُمْ اللَّه تَعَالَى نِفَاقًا فِي قُلُوبهمْ . وَقِيلَ : أَيْ أَعْقَبَهُمْ الْبُخْل نِفَاقًا ; وَلِهَذَا قَالَ : " بَخِلُوا بِهِ " .
" نِفَاقًا " النِّفَاق إِذَا كَانَ فِي الْقَلْب فَهُوَ الْكُفْر . فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْأَعْمَال فَهُوَ مَعْصِيَة . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَرْبَع مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْ النِّفَاق حَتَّى يَدَعهَا . إِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] اِشْتِقَاق هَذِهِ الْكَلِمَة , فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي تَأْوِيل هَذَا الْحَدِيث ; فَقَالَتْ طَائِفَة : إِنَّمَا ذَلِكَ لِمَنْ يُحَدِّث بِحَدِيثٍ يَعْلَم أَنَّهُ كَذِب , وَيَعْهَد عَهْدًا لَا يَعْتَقِد الْوَفَاء بِهِ , وَيَنْتَظِر الْأَمَانَة لِلْخِيَانَةِ فِيهَا . وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثٍ ضَعِيف الْإِسْنَاد , وَأَنَّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَقِيَ أَبَا بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا خَارِجَيْنِ مِنْ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا ثَقِيلَانِ فَقَالَ عَلِيّ : مَا لِي أَرَاكُمَا ثَقِيلَيْنِ ؟ قَالَا حَدِيثًا سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خِلَال الْمُنَافِقِينَ ( إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ) فَقَالَ عَلِيّ : أَفَلَا سَأَلْتُمَاهُ ؟ فَقَالَا : هِبْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَكِنِّي سَأَسْأَلُهُ ; فَدَخَلَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , خَرَجَ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَهُمَا ثَقِيلَانِ , ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَاهُ , فَقَالَ : ( قَدْ حَدَّثْتهمَا وَلَمْ أَضَعهُ عَلَى الْوَضْع الَّذِي وَضَعَاهُ وَلَكِنَّ الْمُنَافِق إِذَا حَدَّثَ وَهُوَ يُحَدِّث نَفْسه أَنَّهُ يَكْذِب وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّث نَفْسه أَنَّهُ يُخْلِف وَإِذَا اُؤْتُمِنَ وَهُوَ يُحَدِّث نَفْسه أَنَّهُ يَخُون ) اِبْن الْعَرَبِيّ : قَدْ قَامَ الدَّلِيل الْوَاضِح عَلَى أَنَّ مُتَعَمِّد هَذِهِ الْخِصَال لَا يَكُون كَافِرًا , وَإِنَّمَا يَكُون كَافِرًا بِاعْتِقَادٍ يَعُود إِلَى الْجَهْل بِاَللَّهِ وَصِفَاته أَوْ تَكْذِيب لَهُ تَعَالَى اللَّه وَتَقَدَّسَ عَنْ اِعْتِقَاد الْجَاهِلِينَ وَعَنْ زَيْغ الزَّائِغِينَ . وَقَالَتْ طَائِفَة : ذَلِكَ مَخْصُوص بِالْمُنَافِقِينَ زَمَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَتَعَلَّقُوا بِمَا رَوَاهُ مُقَاتِل بْن حَيَّان عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس قَالَا : أَتَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاس مِنْ أَصْحَابه فَقُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّك قُلْت ( ثَلَاث مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِق وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِن إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْهُنَّ فَفِيهِ ثُلُث النِّفَاق ) فَظَنَنَّا أَنَّا لَمْ نَسْلَم مِنْهُنَّ أَوْ مِنْ بَعْضهنَّ وَلَمْ يَسْلَم مِنْهُنَّ كَثِير مِنْ النَّاس ; قَالَ : فَضَحِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ إِنَّمَا خَصَّصْت بِهِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَمَا خَصَّهُمْ اللَّه فِي كِتَابه أَمَّا قَوْلِي إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ فَذَلِكَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ " إِذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ ... " [ الْمُنَافِقُونَ : 1 ] - الْآيَة - ( أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ) ؟ قُلْنَا : لَا . قَالَ : ( لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآء وَأَمَّا قَوْلِي إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ " وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْله ... " - الْآيَات الثَّلَاث - ( أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ) ؟ قُلْنَا لَا , وَاَللَّه لَوْ عَاهَدْنَا اللَّه عَلَى شَيْء أَوْفَيْنَا بِهِ . قَالَ : ( لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآء وَأَمَّا قَوْلِي وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال ... " [ الْأَحْزَاب : 72 ] - الْآيَة - ( فَكُلّ إِنْسَان مُؤْتَمَن عَلَى دِينه فَالْمُؤْمِن يَغْتَسِل مِنْ الْجَنَابَة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْمُنَافِق لَا يَفْعَل ذَلِكَ إِلَّا فِي الْعَلَانِيَة أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ) ؟ قُلْنَا لَا قَالَ : ( لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآء ) . وَإِلَى هَذَا صَارَ كَثِير مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة . قَالَتْ طَائِفَة : هَذَا فِيمَنْ كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ هَذِهِ الْخِصَال . وَيَظْهَر مِنْ مَذْهَب الْبُخَارِيّ وَغَيْره مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّ هَذِهِ الْخِلَال الذَّمِيمَة مُنَافِق مَنْ اِتَّصَفَ بِهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي مَا كَانَ بِهَا كَافِرًا مَا لَمْ يُؤَثِّر فِي الِاعْتِقَاد . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّ إِخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام عَاهَدُوا أَبَاهُمْ فَأَخْلَفُوهُ , وَحَدَّثُوهُ فَكَذَبُوهُ , وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى يُوسُف فَخَانُوهُ وَمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ . قَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : قَدْ فَعَلَ هَذِهِ الْخِلَال إِخْوَة يُوسُف وَلَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بَلْ كَانُوا أَنْبِيَاء . وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن الْبَصْرِيّ : النِّفَاق نِفَاقَان , نِفَاق الْكَذِب وَنِفَاق الْعَمَل ; فَأَمَّا نِفَاق الْكَذِب فَكَانَ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَمَّا نِفَاق الْعَمَل فَلَا يَنْقَطِع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ حُذَيْفَة أَنَّ النِّفَاق كَانَ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَمَّا الْيَوْم فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْر بَعْد الْإِيمَان .
فِي مَوْضِع خَفْض ; أَيْ يَلْقَوْنَ بُخْلهمْ , أَيْ جَزَاء بُخْلهمْ ; كَمَا يُقَال : أَنْتَ تَلْقَى غَدًا عَمَلك . وَقِيلَ : " إِلَى يَوْم يَلْقَوْنَهُ " أَيْ يَلْقَوْنَ اللَّه . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ مَاتَ مُنَافِقًا . وَهُوَ يَبْعُد أَنْ يَكُون الْمُنَزَّل فِيهِ ثَعْلَبَة أَوْ حَاطِب ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَر : ( وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّه اِطَّلَعَ عَلَى أَهْل بَدْر فَقَالَ اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ) وَثَعْلَبَة وَحَاطِب مِمَّنْ حَضَرَ بَدْرًا وَشَهِدَهَا .
كَذِبهمْ نَقْضهمْ الْعَهْد وَتَرْكهمْ الْوَفَاء بِمَا اِلْتَزَمُوهُ مِنْ ذَلِكَ .
" نِفَاقًا " النِّفَاق إِذَا كَانَ فِي الْقَلْب فَهُوَ الْكُفْر . فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْأَعْمَال فَهُوَ مَعْصِيَة . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَرْبَع مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْ النِّفَاق حَتَّى يَدَعهَا . إِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] اِشْتِقَاق هَذِهِ الْكَلِمَة , فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي تَأْوِيل هَذَا الْحَدِيث ; فَقَالَتْ طَائِفَة : إِنَّمَا ذَلِكَ لِمَنْ يُحَدِّث بِحَدِيثٍ يَعْلَم أَنَّهُ كَذِب , وَيَعْهَد عَهْدًا لَا يَعْتَقِد الْوَفَاء بِهِ , وَيَنْتَظِر الْأَمَانَة لِلْخِيَانَةِ فِيهَا . وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثٍ ضَعِيف الْإِسْنَاد , وَأَنَّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَقِيَ أَبَا بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا خَارِجَيْنِ مِنْ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا ثَقِيلَانِ فَقَالَ عَلِيّ : مَا لِي أَرَاكُمَا ثَقِيلَيْنِ ؟ قَالَا حَدِيثًا سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خِلَال الْمُنَافِقِينَ ( إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ) فَقَالَ عَلِيّ : أَفَلَا سَأَلْتُمَاهُ ؟ فَقَالَا : هِبْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَكِنِّي سَأَسْأَلُهُ ; فَدَخَلَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , خَرَجَ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَهُمَا ثَقِيلَانِ , ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَاهُ , فَقَالَ : ( قَدْ حَدَّثْتهمَا وَلَمْ أَضَعهُ عَلَى الْوَضْع الَّذِي وَضَعَاهُ وَلَكِنَّ الْمُنَافِق إِذَا حَدَّثَ وَهُوَ يُحَدِّث نَفْسه أَنَّهُ يَكْذِب وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّث نَفْسه أَنَّهُ يُخْلِف وَإِذَا اُؤْتُمِنَ وَهُوَ يُحَدِّث نَفْسه أَنَّهُ يَخُون ) اِبْن الْعَرَبِيّ : قَدْ قَامَ الدَّلِيل الْوَاضِح عَلَى أَنَّ مُتَعَمِّد هَذِهِ الْخِصَال لَا يَكُون كَافِرًا , وَإِنَّمَا يَكُون كَافِرًا بِاعْتِقَادٍ يَعُود إِلَى الْجَهْل بِاَللَّهِ وَصِفَاته أَوْ تَكْذِيب لَهُ تَعَالَى اللَّه وَتَقَدَّسَ عَنْ اِعْتِقَاد الْجَاهِلِينَ وَعَنْ زَيْغ الزَّائِغِينَ . وَقَالَتْ طَائِفَة : ذَلِكَ مَخْصُوص بِالْمُنَافِقِينَ زَمَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَتَعَلَّقُوا بِمَا رَوَاهُ مُقَاتِل بْن حَيَّان عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس قَالَا : أَتَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاس مِنْ أَصْحَابه فَقُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّك قُلْت ( ثَلَاث مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِق وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِن إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْهُنَّ فَفِيهِ ثُلُث النِّفَاق ) فَظَنَنَّا أَنَّا لَمْ نَسْلَم مِنْهُنَّ أَوْ مِنْ بَعْضهنَّ وَلَمْ يَسْلَم مِنْهُنَّ كَثِير مِنْ النَّاس ; قَالَ : فَضَحِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ إِنَّمَا خَصَّصْت بِهِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَمَا خَصَّهُمْ اللَّه فِي كِتَابه أَمَّا قَوْلِي إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ فَذَلِكَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ " إِذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ ... " [ الْمُنَافِقُونَ : 1 ] - الْآيَة - ( أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ) ؟ قُلْنَا : لَا . قَالَ : ( لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآء وَأَمَّا قَوْلِي إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ " وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْله ... " - الْآيَات الثَّلَاث - ( أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ) ؟ قُلْنَا لَا , وَاَللَّه لَوْ عَاهَدْنَا اللَّه عَلَى شَيْء أَوْفَيْنَا بِهِ . قَالَ : ( لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآء وَأَمَّا قَوْلِي وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال ... " [ الْأَحْزَاب : 72 ] - الْآيَة - ( فَكُلّ إِنْسَان مُؤْتَمَن عَلَى دِينه فَالْمُؤْمِن يَغْتَسِل مِنْ الْجَنَابَة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْمُنَافِق لَا يَفْعَل ذَلِكَ إِلَّا فِي الْعَلَانِيَة أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ) ؟ قُلْنَا لَا قَالَ : ( لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآء ) . وَإِلَى هَذَا صَارَ كَثِير مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة . قَالَتْ طَائِفَة : هَذَا فِيمَنْ كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ هَذِهِ الْخِصَال . وَيَظْهَر مِنْ مَذْهَب الْبُخَارِيّ وَغَيْره مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّ هَذِهِ الْخِلَال الذَّمِيمَة مُنَافِق مَنْ اِتَّصَفَ بِهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي مَا كَانَ بِهَا كَافِرًا مَا لَمْ يُؤَثِّر فِي الِاعْتِقَاد . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّ إِخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام عَاهَدُوا أَبَاهُمْ فَأَخْلَفُوهُ , وَحَدَّثُوهُ فَكَذَبُوهُ , وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى يُوسُف فَخَانُوهُ وَمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ . قَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : قَدْ فَعَلَ هَذِهِ الْخِلَال إِخْوَة يُوسُف وَلَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بَلْ كَانُوا أَنْبِيَاء . وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن الْبَصْرِيّ : النِّفَاق نِفَاقَان , نِفَاق الْكَذِب وَنِفَاق الْعَمَل ; فَأَمَّا نِفَاق الْكَذِب فَكَانَ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَمَّا نِفَاق الْعَمَل فَلَا يَنْقَطِع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ حُذَيْفَة أَنَّ النِّفَاق كَانَ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَمَّا الْيَوْم فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْر بَعْد الْإِيمَان .
فِي مَوْضِع خَفْض ; أَيْ يَلْقَوْنَ بُخْلهمْ , أَيْ جَزَاء بُخْلهمْ ; كَمَا يُقَال : أَنْتَ تَلْقَى غَدًا عَمَلك . وَقِيلَ : " إِلَى يَوْم يَلْقَوْنَهُ " أَيْ يَلْقَوْنَ اللَّه . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ مَاتَ مُنَافِقًا . وَهُوَ يَبْعُد أَنْ يَكُون الْمُنَزَّل فِيهِ ثَعْلَبَة أَوْ حَاطِب ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَر : ( وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّه اِطَّلَعَ عَلَى أَهْل بَدْر فَقَالَ اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ) وَثَعْلَبَة وَحَاطِب مِمَّنْ حَضَرَ بَدْرًا وَشَهِدَهَا .
كَذِبهمْ نَقْضهمْ الْعَهْد وَتَرْكهمْ الْوَفَاء بِمَا اِلْتَزَمُوهُ مِنْ ذَلِكَ .
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ↓
هَذَا تَوْبِيخ , وَإِذَا كَانَ عَالِمًا فَإِنَّهُ سَيُجَازِيهِمْ .
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ↓
هَذَا أَيْضًا مِنْ صِفَات الْمُنَافِقِينَ . قَالَ قَتَادَة : " يَلْمِزُونَ " يَعِيبُونَ . قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف تَصَدَّقَ بِنِصْفِ مَاله , وَكَانَ مَاله ثَمَانِيَة آلَاف فَتَصَدَّقَ مِنْهَا بِأَرْبَعَةِ آلَاف . فَقَالَ قَوْم : مَا أَعْظَم رِيَاءَهُ ; فَأَنْزَلَ اللَّه : " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَات " . وَجَاءَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار بِنِصْفِ صُبْرَة مِنْ تَمْره فَقَالُوا : مَا أَغْنَى اللَّه عَنْ هَذَا ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدهمْ " الْآيَة . وَخَرَّجَ مُسْلِم عَنْ أَبِي مَسْعُود قَالَ : أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ - قَالَ : كُنَّا نُحَامِل , فِي رِوَايَة : عَلَى ظُهُورنَا - قَالَ : فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيل بِنِصْفِ صَاع . قَالَ : وَجَاءَ إِنْسَان بِشَيْءٍ أَكْثَر مِنْهُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ : إِنَّ اللَّه لَغَنِيّ عَنْ صَدَقَة هَذَا , وَمَا فَعَلَ هَذَا الْآخَر إِلَّا رِيَاء : فَنَزَلَتْ " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَات وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدهمْ " . يَعْنِي أَبَا عَقِيل , وَاسْمه الْحَبْحَاب . وَالْجُهْد : شَيْء قَلِيل يَعِيش بِهِ الْمُقِلّ . وَالْجُهْد وَالْجَهْد بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَدْ تَقَدَّمَ . و " يَلْمِزُونَ " يَعِيبُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ . و " الْمُطَّوِّعِينَ " أَصْله الْمُتَطَوِّعِينَ أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الطَّاء ; وَهُمْ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الشَّيْء تَبَرُّعًا مِنْ غَيْر أَنْ يَجِب عَلَيْهِمْ . " وَاَلَّذِينَ " فِي مَوْضِع خَفْض عَطْف عَلَى " الْمُؤْمِنِينَ " . وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون عَطْفًا عَلَى الِاسْم قَبْل تَمَامه . و " فَيَسْخَرُونَ " عَطْف عَلَى " يَلْمِزُونَ " . " سَخِرَ اللَّه مِنْهُمْ " خَبَر الِابْتِدَاء , وَهُوَ دُعَاء عَلَيْهِمْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ خَبَر ; أَيْ سَخِرَ مِنْهُمْ حَيْثُ صَارُوا إِلَى النَّار . وَمَعْنَى سَخِرَ اللَّه مُجَازَاتهمْ عَلَى سُخْرِيَتهمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " .
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ↓
" اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ " الْآيَة . بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ وَإِنْ اِسْتَغْفَرَ لَهُمْ لَمْ يَنْفَعهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ أَكْثَر مِنْ الِاسْتِغْفَار . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَلَمْ يَثْبُت مَا يُرْوَى أَنَّهُ قَالَ : [ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ ] .
قُلْت : وَهَذَا خِلَاف مَا يَثْبُت فِي حَدِيث اِبْن عُمَر [ وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ ] وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس ( لَوْ أَعْلَم أَنِّي زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَر لَهُمْ لَزِدْت عَلَيْهَا ] . قَالَ : فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل قَوْله : " اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ " هَلْ هُوَ إِيَاس أَوْ تَخْيِير , فَقَالَتْ طَائِفَة : الْمَقْصُود بِهِ الْيَأْس بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " فَلَنْ يَغْفِر اللَّه لَهُمْ " [ التَّوْبَة : 80 ] . وَذِكْر السَّبْعِينَ وِفَاق جَرَى , أَوْ هُوَ عَادَتهمْ فِي الْعِبَارَة عَنْ الْكَثْرَة وَالْإِغْيَاء . فَإِذَا قَالَ قَائِلهمْ : لَا أُكَلِّمهُ سَبْعِينَ سَنَة صَارَ عِنْدهمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْله . لَا أُكَلِّمهُ أَبَدًا . وَمِثْله فِي الْإِغْيَاء قَوْله تَعَالَى : " فِي سِلْسِلَة ذَرْعهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا " [ الْحَاقَّة : 32 ] وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : [ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل اللَّه بَاعَدَ اللَّه وَجْهه عَنْ النَّار سَبْعِينَ خَرِيفًا ] . وَقَالَتْ طَائِفَة : هُوَ تَخْيِير - مِنْهُمْ الْحَسَن وَقَتَادَة وَعُرْوَة - إِنْ شِئْت اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَإِنْ شِئْت لَا تَسْتَغْفِر . وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّي عَلَى اِبْن أُبَيّ قَالَ عُمَر : أَتُصَلِّي عَلَى عَدُوّ اللَّه , الْقَائِل يَوْم كَذَا كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ : [ إِنِّي خُيِّرْت فَاخْتَرْت ] . قَالُوا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا لَمَّا نَزَلَ " سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ " [ الْمُنَافِقُونَ : 6 ] " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا " [ التَّوْبَة : 80 ] أَيْ لَا يَغْفِر اللَّه لَهُمْ لِكُفْرِهِمْ .
قَوْله تَعَالَى : " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : 113 ] الْآيَة . وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بِمَكَّة عِنْد مَوْت أَبِي طَالِب , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَهَذَا يُفْهَم مِنْهُ النَّهْي عَنْ الِاسْتِغْفَار لِمَنْ مَاتَ كَافِرًا . وَهُوَ مُتَقَدِّم عَلَى هَذِهِ الْآيَة الَّتِي فَهِمَ مِنْهَا التَّخْيِير بِقَوْلِهِ : [ إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّه ] وَهَذَا مُشْكِل . فَقِيلَ : إِنَّ اِسْتِغْفَاره لِعَمِّهِ إِنَّمَا كَانَ مَقْصُوده اِسْتِغْفَارًا مَرْجُوّ الْإِجَابَة حَتَّى تَحْصُل لَهُ الْمَغْفِرَة . وَفِي هَذَا الِاسْتِغْفَار اِسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ السَّلَام رَبّه فِي أَنْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ لِأُمِّهِ فَلَمْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ . وَأَمَّا الِاسْتِغْفَار لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِي خُيِّرَ فِيهِ فَهُوَ اِسْتِغْفَار لِسَانِيّ لَا يَنْفَع , وَغَايَته تَطْيِيب قُلُوب بَعْض الْأَحْيَاء مِنْ قَرَابَات الْمُسْتَغْفَر لَهُ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قُلْت : وَهَذَا خِلَاف مَا يَثْبُت فِي حَدِيث اِبْن عُمَر [ وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ ] وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس ( لَوْ أَعْلَم أَنِّي زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَر لَهُمْ لَزِدْت عَلَيْهَا ] . قَالَ : فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل قَوْله : " اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ " هَلْ هُوَ إِيَاس أَوْ تَخْيِير , فَقَالَتْ طَائِفَة : الْمَقْصُود بِهِ الْيَأْس بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " فَلَنْ يَغْفِر اللَّه لَهُمْ " [ التَّوْبَة : 80 ] . وَذِكْر السَّبْعِينَ وِفَاق جَرَى , أَوْ هُوَ عَادَتهمْ فِي الْعِبَارَة عَنْ الْكَثْرَة وَالْإِغْيَاء . فَإِذَا قَالَ قَائِلهمْ : لَا أُكَلِّمهُ سَبْعِينَ سَنَة صَارَ عِنْدهمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْله . لَا أُكَلِّمهُ أَبَدًا . وَمِثْله فِي الْإِغْيَاء قَوْله تَعَالَى : " فِي سِلْسِلَة ذَرْعهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا " [ الْحَاقَّة : 32 ] وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : [ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل اللَّه بَاعَدَ اللَّه وَجْهه عَنْ النَّار سَبْعِينَ خَرِيفًا ] . وَقَالَتْ طَائِفَة : هُوَ تَخْيِير - مِنْهُمْ الْحَسَن وَقَتَادَة وَعُرْوَة - إِنْ شِئْت اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَإِنْ شِئْت لَا تَسْتَغْفِر . وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّي عَلَى اِبْن أُبَيّ قَالَ عُمَر : أَتُصَلِّي عَلَى عَدُوّ اللَّه , الْقَائِل يَوْم كَذَا كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ : [ إِنِّي خُيِّرْت فَاخْتَرْت ] . قَالُوا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا لَمَّا نَزَلَ " سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ " [ الْمُنَافِقُونَ : 6 ] " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا " [ التَّوْبَة : 80 ] أَيْ لَا يَغْفِر اللَّه لَهُمْ لِكُفْرِهِمْ .
قَوْله تَعَالَى : " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : 113 ] الْآيَة . وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بِمَكَّة عِنْد مَوْت أَبِي طَالِب , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَهَذَا يُفْهَم مِنْهُ النَّهْي عَنْ الِاسْتِغْفَار لِمَنْ مَاتَ كَافِرًا . وَهُوَ مُتَقَدِّم عَلَى هَذِهِ الْآيَة الَّتِي فَهِمَ مِنْهَا التَّخْيِير بِقَوْلِهِ : [ إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّه ] وَهَذَا مُشْكِل . فَقِيلَ : إِنَّ اِسْتِغْفَاره لِعَمِّهِ إِنَّمَا كَانَ مَقْصُوده اِسْتِغْفَارًا مَرْجُوّ الْإِجَابَة حَتَّى تَحْصُل لَهُ الْمَغْفِرَة . وَفِي هَذَا الِاسْتِغْفَار اِسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ السَّلَام رَبّه فِي أَنْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ لِأُمِّهِ فَلَمْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ . وَأَمَّا الِاسْتِغْفَار لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِي خُيِّرَ فِيهِ فَهُوَ اِسْتِغْفَار لِسَانِيّ لَا يَنْفَع , وَغَايَته تَطْيِيب قُلُوب بَعْض الْأَحْيَاء مِنْ قَرَابَات الْمُسْتَغْفَر لَهُ . وَاَللَّه أَعْلَم .
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ↓
أَيْ بِقُعُودِهِمْ . قَعَدَ قُعُودًا وَمَقْعَدًا ; أَيْ جَلَسَ . وَأَقْعَدَهُ غَيْره ; عَنْ الْجَوْهَرِيّ . وَالْمُخَلَّف الْمَتْرُوك ; أَيْ خَلَّفَهُمْ اللَّه وَثَبَّطَهُمْ , أَوْ خَلَّفَهُمْ رَسُول اللَّه وَالْمُؤْمِنُونَ لَمَّا عَلِمُوا تَثَاقُلهمْ عَنْ الْجِهَاد ; قَوْلَانِ , وَكَانَ هَذَا فِي غَزْوَة تَبُوك .
مَفْعُول مِنْ أَجْله , وَإِنْ شِئْت كَانَ مَصْدَرًا . وَالْخِلَاف الْمُخَالَفَة . وَمَنْ قَرَأَ " خَلْف رَسُول اللَّه " أَرَادَ التَّأَخُّر عَنْ الْجِهَاد .
أَيْ قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ذَلِكَ .
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد نَار جَهَنَّم .
اِبْتِدَاء وَخَبَر . " حَرًّا " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان ; أَيْ مَنْ تَرَكَ أَمْر اللَّه تَعَرَّضَ لِتِلْكَ النَّار .
مَفْعُول مِنْ أَجْله , وَإِنْ شِئْت كَانَ مَصْدَرًا . وَالْخِلَاف الْمُخَالَفَة . وَمَنْ قَرَأَ " خَلْف رَسُول اللَّه " أَرَادَ التَّأَخُّر عَنْ الْجِهَاد .
أَيْ قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ذَلِكَ .
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد نَار جَهَنَّم .
اِبْتِدَاء وَخَبَر . " حَرًّا " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان ; أَيْ مَنْ تَرَكَ أَمْر اللَّه تَعَرَّضَ لِتِلْكَ النَّار .
" فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا " أَمْر , مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّهْدِيد وَلَيْسَ أَمْرًا بِالضَّحِكِ . وَالْأَصْل أَنْ تَكُون اللَّام مَكْسُورَة فَحُذِفَتْ الْكَسْرَة لِثِقَلِهَا . قَالَ الْحَسَن : " فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا " فِي الدُّنْيَا " وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا " فِي جَهَنَّم . وَقِيلَ : هُوَ أَمْر بِمَعْنَى الْخَبَر . أَيْ إِنَّهُمْ سَيَضْحَكُونَ قَلِيلًا وَيَبْكُونَ كَثِيرًا . " جَزَاء " مَفْعُول مِنْ أَجْله ; أَيْ لِلْجَزَاءِ .
مِنْ النَّاس مَنْ كَانَ لَا يَضْحَك اِهْتِمَامًا بِنَفْسِهِ وَفَسَاد حَاله فِي اِعْتِقَاده مِنْ شِدَّة الْخَوْف , وَإِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَات تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ . وَكَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِمَّنْ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحُزْن فَكَانَ لَا يَضْحَك . وَكَانَ اِبْن سِيرِينَ يَضْحَك وَيَحْتَجّ عَلَى الْحَسَن وَيَقُول : اللَّه أَضْحَك وَأَبْكَى . وَكَانَ الصَّحَابَة يَضْحَكُونَ ; إِلَّا أَنَّ الْإِكْثَار مِنْهُ وَمُلَازَمَته حَتَّى يَغْلِب عَلَى صَاحِبه مَذْمُوم مَنْهِيّ عَنْهُ , وَهُوَ مِنْ فِعْل السُّفَهَاء وَالْبَطَّالَة . وَفِي الْخَبَر : ( أَنَّ كَثْرَته تُمِيت الْقَلْب ) وَأَمَّا الْبُكَاء مِنْ خَوْف اللَّه وَعَذَابه وَشِدَّة عِقَابه فَمَحْمُود ; قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِبْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا فَإِنَّ أَهْل النَّار يَبْكُونَ حَتَّى تَسِيل دُمُوعهمْ فِي وُجُوههمْ كَأَنَّهَا جَدَاوِل حَتَّى تَنْقَطِع الدُّمُوع فَتَسِيل الدِّمَاء فَتَقَرَّح الْعُيُون فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أُجْرِيَتْ فِيهَا لَجَرَتْ ) خَرَّجَهُ اِبْن الْمُبَارَك مِنْ حَدِيث أَنَس وَابْن مَاجَهْ أَيْضًا .
مِنْ النَّاس مَنْ كَانَ لَا يَضْحَك اِهْتِمَامًا بِنَفْسِهِ وَفَسَاد حَاله فِي اِعْتِقَاده مِنْ شِدَّة الْخَوْف , وَإِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَات تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ . وَكَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِمَّنْ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحُزْن فَكَانَ لَا يَضْحَك . وَكَانَ اِبْن سِيرِينَ يَضْحَك وَيَحْتَجّ عَلَى الْحَسَن وَيَقُول : اللَّه أَضْحَك وَأَبْكَى . وَكَانَ الصَّحَابَة يَضْحَكُونَ ; إِلَّا أَنَّ الْإِكْثَار مِنْهُ وَمُلَازَمَته حَتَّى يَغْلِب عَلَى صَاحِبه مَذْمُوم مَنْهِيّ عَنْهُ , وَهُوَ مِنْ فِعْل السُّفَهَاء وَالْبَطَّالَة . وَفِي الْخَبَر : ( أَنَّ كَثْرَته تُمِيت الْقَلْب ) وَأَمَّا الْبُكَاء مِنْ خَوْف اللَّه وَعَذَابه وَشِدَّة عِقَابه فَمَحْمُود ; قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِبْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا فَإِنَّ أَهْل النَّار يَبْكُونَ حَتَّى تَسِيل دُمُوعهمْ فِي وُجُوههمْ كَأَنَّهَا جَدَاوِل حَتَّى تَنْقَطِع الدُّمُوع فَتَسِيل الدِّمَاء فَتَقَرَّح الْعُيُون فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أُجْرِيَتْ فِيهَا لَجَرَتْ ) خَرَّجَهُ اِبْن الْمُبَارَك مِنْ حَدِيث أَنَس وَابْن مَاجَهْ أَيْضًا .
فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ↓
أَيْ الْمُنَافِقِينَ . وَإِنَّمَا قَالَ : " إِلَى طَائِفَة " لِأَنَّ جَمِيع مَنْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ مَا كَانُوا مُنَافِقِينَ , بَلْ كَانَ فِيهِمْ مَعْذُورُونَ وَمَنْ لَا عُذْر لَهُ , ثُمَّ عَفَا وَتَابَ عَلَيْهِمْ ; كَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا . وَسَيَأْتِي .
أَيْ عَاقَبَهُمْ بِأَلَّا تَصْحَبهُمْ أَبَدًا . وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي " سُورَة الْفَتْح " : " قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا " [ الْفَتْح : 15 ] .
و " الْخَالِفِينَ " جَمْع خَالِف ; كَأَنَّهُمْ خُلِّفُوا الْخَارِجِينَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : " الْخَالِفِينَ " مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَالَ الْحَسَن : مَعَ النِّسَاء وَالضُّعَفَاء مِنْ الرِّجَال , فَغُلِّبَ الْمُذَكَّر . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَاقْعُدُوا مَعَ الْفَاسِدِينَ ; مِنْ قَوْلهمْ فُلَان خَالِفَة أَهْل بَيْته إِذَا كَانَ فَاسِدًا فِيهِمْ ; مِنْ خُلُوف فَم الصَّائِم . وَمِنْ قَوْلك : خَلَفَ اللَّبَن ; أَيْ فَسَدَ بِطُولِ الْمُكْث فِي السِّقَاء ; فَعَلَى هَذَا يَعْنِي فَاقْعُدُوا مَعَ الْفَاسِدِينَ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اِسْتِصْحَاب الْمُخَذِّل فِي الْغَزَوَات لَا يَجُوز .
أَيْ عَاقَبَهُمْ بِأَلَّا تَصْحَبهُمْ أَبَدًا . وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي " سُورَة الْفَتْح " : " قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا " [ الْفَتْح : 15 ] .
و " الْخَالِفِينَ " جَمْع خَالِف ; كَأَنَّهُمْ خُلِّفُوا الْخَارِجِينَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : " الْخَالِفِينَ " مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَالَ الْحَسَن : مَعَ النِّسَاء وَالضُّعَفَاء مِنْ الرِّجَال , فَغُلِّبَ الْمُذَكَّر . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَاقْعُدُوا مَعَ الْفَاسِدِينَ ; مِنْ قَوْلهمْ فُلَان خَالِفَة أَهْل بَيْته إِذَا كَانَ فَاسِدًا فِيهِمْ ; مِنْ خُلُوف فَم الصَّائِم . وَمِنْ قَوْلك : خَلَفَ اللَّبَن ; أَيْ فَسَدَ بِطُولِ الْمُكْث فِي السِّقَاء ; فَعَلَى هَذَا يَعْنِي فَاقْعُدُوا مَعَ الْفَاسِدِينَ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اِسْتِصْحَاب الْمُخَذِّل فِي الْغَزَوَات لَا يَجُوز .
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ↑
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَأْن عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ابْن سَلُول وَصَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ . ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا . وَتَظَاهَرَتْ الرِّوَايَات بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِ , وَأَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ بَعْد ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَاءَهُ جِبْرِيل فَجَبَذَ ثَوْبه وَتَلَا عَلَيْهِ " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا " الْآيَة ; فَانْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ . وَالرِّوَايَات الثَّابِتَة عَلَى خِلَاف هَذَا , فَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اِنْصَرَفَ ; فَلَمْ يَمْكُث إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ [ بَرَاءَة ] " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا " وَنَحْوه عَنْ اِبْن عُمَر ; خَرَّجَهُ مُسْلِم . قَالَ اِبْن عُمَر : لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ابْن سَلُول جَاءَ اِبْنه عَبْد اللَّه إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيه قَمِيصه يُكَفِّن فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ , فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ , فَقَامَ عُمَر وَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاك اللَّه أَنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّه تَعَالَى فَقَالَ : " اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِر لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة " [ التَّوْبَة : 80 ] وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ ) قَالَ : إِنَّهُ مُنَافِق . فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْره " فَتَرَكَ الصَّلَاة عَلَيْهِمْ . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّمَا صَلَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بِنَاء عَلَى الظَّاهِر مِنْ لَفْظ إِسْلَامه . ثُمَّ لَمْ يَكُنْ يَفْعَل ذَلِكَ لَمَّا نُهِيَ عَنْهُ .
إِنْ قَالَ قَائِل فَكَيْفَ قَالَ عُمَر : أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاك اللَّه أَنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ ; وَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ نَهْي عَنْ الصَّلَاة عَلَيْهِمْ . قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي خَاطِره , وَيَكُون مِنْ قَبِيل الْإِلْهَام وَالتَّحَدُّث الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ كَانَ الْقُرْآن يَنْزِل عَلَى مُرَاده , كَمَا قَالَ : وَافَقْت رَبِّي فِي ثَلَاث . وَجَاءَ : فِي أَرْبَع . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة . فَيَكُون هَذَا مِنْ ذَلِكَ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِر لَهُمْ " [ التَّوْبَة : 80 ] الْآيَة . لَا أَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ نَهْي عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيث الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . وَاَللَّه أَعْلَم .
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فَهِمَهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : 113 ] لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّة . وَسَيَأْتِي الْقَوْل فِيهَا .
وَاخْتُلِفَ فِي إِعْطَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصه لِعَبْدِ اللَّه ; فَقِيلَ : إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِأَنَّ عَبْد اللَّه كَانَ قَدْ أَعْطَى الْعَبَّاس عَمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصه يَوْم بَدْر . وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبَّاس لَمَّا أُسِرَ يَوْم بَدْر - عَلَى مَا تَقَدَّمَ - وَسُلِبَ ثَوْبه رَآهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ , فَطَلَبَ لَهُ قَمِيصًا فَمَا وَجَدَ لَهُ قَمِيص يُقَادِرهُ إِلَّا قَمِيص عَبْد اللَّه , لِتَقَارُبِهِمَا فِي طُول الْقَامَة ; فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَاءِ الْقَمِيص أَنْ يَرْفَع الْيَد عَنْهُ فِي الدُّنْيَا , حَتَّى لَا يَلْقَاهُ فِي الْآخِرَة وَلَهُ عَلَيْهِ يَد يُكَافِئهُ بِهَا , وَقِيلَ : إِنَّمَا أَعْطَاهُ الْقَمِيص إِكْرَامًا لِابْنِهِ وَإِسْعَافًا لَهُ فِي طُلْبَته وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم بَدْر أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْب ; فَطَلَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيص عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ يَقْدِر عَلَيْهِ , فَكَسَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ ; فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصه الَّذِي أَلْبَسَهُ . وَفِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ إِنَّ قَمِيصِي لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ اللَّه شَيْئًا وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُسْلِم بِفِعْلِي هَذَا أَلْف رَجُل مِنْ قَوْمِي ] كَذَا فِي بَعْض الرِّوَايَات ( مِنْ قَوْمِي ) يُرِيد مِنْ مُنَافِقِي الْعَرَب . وَالصَّحِيح أَنَّهُ قَالَ : ( رِجَال مِنْ قَوْمه ) . وَوَقَعَ فِي مَغَازِي اِبْن إِسْحَاق وَفِي بَعْض كُتُب التَّفْسِير : فَأَسْلَمَ وَتَابَ لِهَذِهِ الْفَعْلَة مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْف رَجُل مِنْ الْخَزْرَج .
لَمَّا قَالَ تَعَالَى : " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا " قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا نَصّ فِي الِامْتِنَاع مِنْ الصَّلَاة عَلَى الْكُفَّار , وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى الصَّلَاة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . وَاخْتُلِفَ هَلْ يُؤْخَذ مِنْ مَفْهُومه وُجُوب الصَّلَاة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ . يُؤْخَذ لِأَنَّهُ عَلَّلَ الْمَنْع مِنْ الصَّلَاة عَلَى الْكُفَّار لِكُفْرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله " فَإِذَا زَالَ الْكُفْر وَجَبَتْ الصَّلَاة . وَيَكُون هَذَا نَحْو قَوْله تَعَالَى : " كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبّهمْ يَوْمئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 15 ] يَعْنِي الْكُفَّار ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْر الْكُفَّار يَرَوْنَهُ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ ; فَذَلِكَ مِثْله . وَاَللَّه أَعْلَم . أَوْ تُؤْخَذ الصَّلَاة مِنْ دَلِيل خَارِج عَنْ الْآيَة , وَهِيَ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب , وَالْإِجْمَاع . وَمَنْشَأ الْخِلَاف الْقَوْل بِدَلِيلِ الْخِطَاب وَتَرْكه . رَوَى مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ ) قَالَ : فَقُمْنَا فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ ; يَعْنِي النَّجَاشِيّ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيّ فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ , فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَع تَكْبِيرَات . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز تَرْك الصَّلَاة عَلَى جَنَائِز الْمُسْلِمِينَ , مِنْ أَهْل الْكَبَائِر كَانُوا أَوْ صَالِحِينَ , وِرَاثَة عَنْ نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَعَمَلًا . وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى ذَلِكَ إِلَّا فِي الشَّهِيد كَمَا تَقَدَّمَ ; وَإِلَّا فِي أَهْل الْبِدَع وَالْبُغَاة .
وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ التَّكْبِير أَرْبَع . قَالَ اِبْن سِيرِينَ : كَانَ التَّكْبِير ثَلَاثًا فَزَادُوا وَاحِدَة . وَقَالَتْ طَائِفَة : يُكَبِّر خَمْسًا ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَزَيْد بْن أَرْقَم . وَعَنْ عَلِيّ : سِتّ تَكْبِيرَات . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَنَس بْن مَالِك وَجَابِر بْن زَيْد : ثَلَاث تَكْبِيرَات وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ أَرْبَع . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْمَلَائِكَة صَلَّتْ عَلَى آدَم فَكَبَّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَقَالُوا هَذِهِ سُنَّتكُمْ يَا بَنِي آدَم ) .
وَلَا قِرَاءَة فِي هَذِهِ الصَّلَاة فِي الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك , وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّت فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاء ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة . وَذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَأَشْهَب مِنْ عُلَمَائِنَا وَدَاوُد إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأ بِالْفَاتِحَةِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب ) حَمْلًا لَهُ عَلَى عُمُومه . وَبِمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَصَلَّى عَلَى جِنَازَة فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب وَقَالَ : لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّة . وَخَرَّجَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَة قَالَ : السُّنَّة فِي الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز أَنْ يَقْرَأ فِي التَّكْبِيرَة الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآن مُخَافَتَة , ثُمَّ يُكَبِّر ثَلَاثًا , وَالتَّسْلِيم عِنْد الْآخِرَة . وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن نَصْر الْمَرْوَزِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَة أَيْضًا قَالَ : السُّنَّة فِي الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز أَنْ تُكَبِّر , ثُمَّ تَقْرَأ بِأُمِّ الْقُرْآن , ثُمَّ تُصَلِّي عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ تُخْلِص الدُّعَاء لِلْمَيِّتِ . وَلَا يَقْرَأ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة الْأُولَى ثُمَّ يُسَلِّم . قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس : وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ , وَهُمَا مُلْحَقَانِ عِنْد الْأُصُولِيِّينَ بِالْمُسْنَدِ . وَالْعَمَل عَلَى حَدِيث أَبِي أُمَامَة أَوْلَى ; إِذْ فِيهِ جَمْع بَيْن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا صَلَاة ) وَبَيْن إِخْلَاص الدُّعَاء لِلْمَيِّتِ . وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة فِيهَا إِنَّمَا هِيَ اِسْتِفْتَاح لِلدُّعَاءِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَسُنَّة الْإِمَام أَنْ يَقُوم عِنْد رَأْس الرَّجُل وَعَجِيزَة الْمَرْأَة , لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس وَصَلَّى عَلَى جِنَازَة فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بْن زِيَاد : يَا أَبَا حَمْزَة , هَكَذَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِز كَصَلَاتِك يُكَبِّر أَرْبَعًا وَيَقُوم عِنْد رَأْس الرَّجُل وَعَجِيزَة الْمَرْأَة ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب قَالَ : صَلَّيْت خَلْف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى عَلَى أُمّ كَعْب مَاتَتْ وَهِيَ نُفَسَاء , فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَسَطهَا .
" وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْره " كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَفَنَ الْمَيِّت وَقَفَ عَلَى قَبْره وَدَعَا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ [ فِي التَّذْكِرَة ] وَالْحَمْد لِلَّهِ .
إِنْ قَالَ قَائِل فَكَيْفَ قَالَ عُمَر : أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاك اللَّه أَنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ ; وَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ نَهْي عَنْ الصَّلَاة عَلَيْهِمْ . قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي خَاطِره , وَيَكُون مِنْ قَبِيل الْإِلْهَام وَالتَّحَدُّث الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ كَانَ الْقُرْآن يَنْزِل عَلَى مُرَاده , كَمَا قَالَ : وَافَقْت رَبِّي فِي ثَلَاث . وَجَاءَ : فِي أَرْبَع . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة . فَيَكُون هَذَا مِنْ ذَلِكَ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِر لَهُمْ " [ التَّوْبَة : 80 ] الْآيَة . لَا أَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ نَهْي عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيث الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . وَاَللَّه أَعْلَم .
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فَهِمَهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : 113 ] لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّة . وَسَيَأْتِي الْقَوْل فِيهَا .
وَاخْتُلِفَ فِي إِعْطَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصه لِعَبْدِ اللَّه ; فَقِيلَ : إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِأَنَّ عَبْد اللَّه كَانَ قَدْ أَعْطَى الْعَبَّاس عَمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصه يَوْم بَدْر . وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبَّاس لَمَّا أُسِرَ يَوْم بَدْر - عَلَى مَا تَقَدَّمَ - وَسُلِبَ ثَوْبه رَآهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ , فَطَلَبَ لَهُ قَمِيصًا فَمَا وَجَدَ لَهُ قَمِيص يُقَادِرهُ إِلَّا قَمِيص عَبْد اللَّه , لِتَقَارُبِهِمَا فِي طُول الْقَامَة ; فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَاءِ الْقَمِيص أَنْ يَرْفَع الْيَد عَنْهُ فِي الدُّنْيَا , حَتَّى لَا يَلْقَاهُ فِي الْآخِرَة وَلَهُ عَلَيْهِ يَد يُكَافِئهُ بِهَا , وَقِيلَ : إِنَّمَا أَعْطَاهُ الْقَمِيص إِكْرَامًا لِابْنِهِ وَإِسْعَافًا لَهُ فِي طُلْبَته وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم بَدْر أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْب ; فَطَلَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيص عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ يَقْدِر عَلَيْهِ , فَكَسَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ ; فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصه الَّذِي أَلْبَسَهُ . وَفِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ إِنَّ قَمِيصِي لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ اللَّه شَيْئًا وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُسْلِم بِفِعْلِي هَذَا أَلْف رَجُل مِنْ قَوْمِي ] كَذَا فِي بَعْض الرِّوَايَات ( مِنْ قَوْمِي ) يُرِيد مِنْ مُنَافِقِي الْعَرَب . وَالصَّحِيح أَنَّهُ قَالَ : ( رِجَال مِنْ قَوْمه ) . وَوَقَعَ فِي مَغَازِي اِبْن إِسْحَاق وَفِي بَعْض كُتُب التَّفْسِير : فَأَسْلَمَ وَتَابَ لِهَذِهِ الْفَعْلَة مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْف رَجُل مِنْ الْخَزْرَج .
لَمَّا قَالَ تَعَالَى : " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا " قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا نَصّ فِي الِامْتِنَاع مِنْ الصَّلَاة عَلَى الْكُفَّار , وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى الصَّلَاة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . وَاخْتُلِفَ هَلْ يُؤْخَذ مِنْ مَفْهُومه وُجُوب الصَّلَاة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ . يُؤْخَذ لِأَنَّهُ عَلَّلَ الْمَنْع مِنْ الصَّلَاة عَلَى الْكُفَّار لِكُفْرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله " فَإِذَا زَالَ الْكُفْر وَجَبَتْ الصَّلَاة . وَيَكُون هَذَا نَحْو قَوْله تَعَالَى : " كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبّهمْ يَوْمئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 15 ] يَعْنِي الْكُفَّار ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْر الْكُفَّار يَرَوْنَهُ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ ; فَذَلِكَ مِثْله . وَاَللَّه أَعْلَم . أَوْ تُؤْخَذ الصَّلَاة مِنْ دَلِيل خَارِج عَنْ الْآيَة , وَهِيَ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب , وَالْإِجْمَاع . وَمَنْشَأ الْخِلَاف الْقَوْل بِدَلِيلِ الْخِطَاب وَتَرْكه . رَوَى مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ ) قَالَ : فَقُمْنَا فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ ; يَعْنِي النَّجَاشِيّ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيّ فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ , فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَع تَكْبِيرَات . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز تَرْك الصَّلَاة عَلَى جَنَائِز الْمُسْلِمِينَ , مِنْ أَهْل الْكَبَائِر كَانُوا أَوْ صَالِحِينَ , وِرَاثَة عَنْ نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَعَمَلًا . وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى ذَلِكَ إِلَّا فِي الشَّهِيد كَمَا تَقَدَّمَ ; وَإِلَّا فِي أَهْل الْبِدَع وَالْبُغَاة .
وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ التَّكْبِير أَرْبَع . قَالَ اِبْن سِيرِينَ : كَانَ التَّكْبِير ثَلَاثًا فَزَادُوا وَاحِدَة . وَقَالَتْ طَائِفَة : يُكَبِّر خَمْسًا ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَزَيْد بْن أَرْقَم . وَعَنْ عَلِيّ : سِتّ تَكْبِيرَات . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَنَس بْن مَالِك وَجَابِر بْن زَيْد : ثَلَاث تَكْبِيرَات وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ أَرْبَع . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْمَلَائِكَة صَلَّتْ عَلَى آدَم فَكَبَّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَقَالُوا هَذِهِ سُنَّتكُمْ يَا بَنِي آدَم ) .
وَلَا قِرَاءَة فِي هَذِهِ الصَّلَاة فِي الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك , وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّت فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاء ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة . وَذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَأَشْهَب مِنْ عُلَمَائِنَا وَدَاوُد إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأ بِالْفَاتِحَةِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب ) حَمْلًا لَهُ عَلَى عُمُومه . وَبِمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَصَلَّى عَلَى جِنَازَة فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب وَقَالَ : لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّة . وَخَرَّجَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَة قَالَ : السُّنَّة فِي الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز أَنْ يَقْرَأ فِي التَّكْبِيرَة الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآن مُخَافَتَة , ثُمَّ يُكَبِّر ثَلَاثًا , وَالتَّسْلِيم عِنْد الْآخِرَة . وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن نَصْر الْمَرْوَزِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَة أَيْضًا قَالَ : السُّنَّة فِي الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز أَنْ تُكَبِّر , ثُمَّ تَقْرَأ بِأُمِّ الْقُرْآن , ثُمَّ تُصَلِّي عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ تُخْلِص الدُّعَاء لِلْمَيِّتِ . وَلَا يَقْرَأ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة الْأُولَى ثُمَّ يُسَلِّم . قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس : وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ , وَهُمَا مُلْحَقَانِ عِنْد الْأُصُولِيِّينَ بِالْمُسْنَدِ . وَالْعَمَل عَلَى حَدِيث أَبِي أُمَامَة أَوْلَى ; إِذْ فِيهِ جَمْع بَيْن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا صَلَاة ) وَبَيْن إِخْلَاص الدُّعَاء لِلْمَيِّتِ . وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة فِيهَا إِنَّمَا هِيَ اِسْتِفْتَاح لِلدُّعَاءِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَسُنَّة الْإِمَام أَنْ يَقُوم عِنْد رَأْس الرَّجُل وَعَجِيزَة الْمَرْأَة , لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس وَصَلَّى عَلَى جِنَازَة فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بْن زِيَاد : يَا أَبَا حَمْزَة , هَكَذَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِز كَصَلَاتِك يُكَبِّر أَرْبَعًا وَيَقُوم عِنْد رَأْس الرَّجُل وَعَجِيزَة الْمَرْأَة ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب قَالَ : صَلَّيْت خَلْف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى عَلَى أُمّ كَعْب مَاتَتْ وَهِيَ نُفَسَاء , فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَسَطهَا .
" وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْره " كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَفَنَ الْمَيِّت وَقَفَ عَلَى قَبْره وَدَعَا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ [ فِي التَّذْكِرَة ] وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ↓
كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِيهِ .
وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ↓
اِنْتَدَبَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْإِجَابَة وَتَعَلَّلَ الْمُنَافِقُونَ . فَالْأَمْر لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِدَامَةِ الْإِيمَان وَلِلْمُنَافِقِينَ بِابْتِدَاءِ الْإِيمَان . و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ بِأَنْ آمِنُوا . و " الطَّوْل " الْغِنَى ; وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَنْ لَا طَوْل لَهُ لَا يَحْتَاج إِلَى إِذْن لِأَنَّهُ مَعْذُور . " وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ " أَيْ الْعَاجِزِينَ عَنْ الْخُرُوج .
" الْخَوَالِف " جَمْع خَالِفَة ; أَيْ مَعَ النِّسَاء وَالصِّبْيَان وَأَصْحَاب الْأَعْذَار مِنْ الرِّجَال . وَقَدْ يُقَال لِلرَّجُلِ : خَالِفَة وَخَالِف أَيْضًا إِذَا كَانَ غَيْر نَجِيب ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ . يُقَال : فُلَان خَالِفَة أَهْله إِذَا كَانَ دُونهمْ . قَالَ النَّحَّاس : وَأَصْله مِنْ خَلَفَ اللَّبَن يَخْلُف إِذَا حَمُضَ مِنْ طُول مُكْثه . وَخَلَفَ فَم الصَّائِم إِذَا تَغَيَّرَ رِيحه ; وَمِنْهُ فُلَان خَلْف سَوْء ; إِلَّا أَنَّ فَوَاعِل جَمْع فَاعِلَة وَلَا يُجْمَع فَاعِل صِفَة عَلَى فَوَاعِل إِلَّا فِي الشِّعْر ; إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ , وَهُمَا فَارِس وَهَالِك .
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ↓
وَقَوْله تَعَالَى فِي وَصْف الْمُجَاهِدِينَ : " وَأُولَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَات " قِيلَ : النِّسَاء الْحِسَان ; عَنْ الْحَسَن . دَلِيله قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " فِيهِنَّ خَيْرَات حِسَان " [ الرَّحْمَن : 70 ] . وَيُقَال : هِيَ خَيْرَة النِّسَاء . وَالْأَصْل خَيِّرَة فَخُفِّفَ ; مِثْل هَيِّنَة وَهَيْنَة . وَقِيلَ : جَمْع خَيْر . فَالْمَعْنَى لَهُمْ مَنَافِع الدَّارَيْنِ . " وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " " هُمْ " يَجُوز أَنْ يَكُون مُبْتَدَأ ثَانِيًا وَخَبَره " الْمُفْلِحُونَ " , وَالثَّانِي وَخَبَره خَبَر الْأَوَّل , وَيَجُوز أَنْ تَكُون " هُمْ " زَائِدَة يُسَمِّيهَا الْبَصْرِيُّونَ فَاصِلَة وَالْكُوفِيُّونَ عِمَادًا - و " الْمُفْلِحُونَ " خَبَر " أُولَئِكَ " . وَالْفَلْح أَصْله فِي اللُّغَة الشَّقّ وَالْقَطْع ; قَالَ الشَّاعِر : إِنَّ الْحَدِيد بِالْحَدِيدِ يُفْلَح أَيْ يُشَقّ وَمِنْهُ فِلَاحَة الْأَرَضِينَ إِنَّمَا هُوَ شَقّهَا لِلْحَرْثِ , قَالَ أَبُو عُبَيْد . وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْأَكَّار فَلَّاحًا . وَيُقَال لِلَّذِي شُقَّتْ شَفَته السُّفْلَى أَفْلَح , وَهُوَ بَيِّن الْفَلَحَة , فَكَأَنَّ الْمُفْلِح قَدْ قَطَعَ الْمَصَاعِب حَتَّى نَالَ مَطْلُوبه . وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْفَوْز وَالْبَقَاء , وَهُوَ أَصْله أَيْضًا فِي اللُّغَة , وَمِنْهُ قَوْل الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ : اِسْتَفْلِحِي بِأَمْرِك , مَعْنَاهُ فُوزِي بِأَمْرِك , وَقَالَ الشَّاعِر : لَوْ كَانَ حَيّ مُدْرِك الْفَلَاح أَدْرَكَهُ مُلَاعِب الرِّمَاح وَقَالَ الْأَضْبَط بْن قُرَيْع السَّعْدِيّ فِي الْجَاهِلِيَّة الْجُهَلَاء : لِكُلِّ هَمّ مِنْ الْهُمُوم سَعَه وَالْمَسِيّ وَالصُّبْح لَا فَلَاح مَعَهُ يَقُول : لَيْسَ مَعَ كَرّ اللَّيْل وَالنَّهَار بَقَاء . وَقَالَ آخَر : نَحُلّ بِلَادًا كُلّهَا حُلّ قَبْلَنَا وَنَرْجُو الْفَلَاح بَعْد عَاد وَحِمْيَر أَيْ الْبَقَاء : وَقَالَ عُبَيْد : أَفْلِحْ بِمَا شِئْت فَقَدْ يُدْرَك بِالضَّعْفِ وَقَدْ يُخَدَّع الْأَرِيب أَيْ اِبْقَ بِمَا شِئْت مِنْ كَيْس وَحُمْق فَقَدْ يُرْزَق الْأَحْمَق وَيُحْرَم الْعَاقِل .
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ↓
وَالْجَنَّات : الْبَسَاتِين . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ↓
" وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الْأَعْرَاب " قَرَأَ الْأَعْرَج وَالضَّحَّاك " الْمُعْذَرُونَ " مُخَفَّفًا . وَرَوَاهَا أَبُو كُرَيْب عَنْ أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم , وَرَوَاهَا أَصْحَاب الْقِرَاءَات عَنْ اِبْن عَبَّاس . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقْرَأ " وَجَاءَ الْمُعْذَرُونَ " مُخَفَّفَة , مِنْ أَعْذَرَ . وَيَقُول : وَاَللَّه لَهَكَذَا أُنْزِلَتْ . قَالَ النَّحَّاس : إِلَّا أَنَّ مَدَارهَا عَنْ الْكَلْبِيّ , وَهِيَ مِنْ أَعْذَرَ ; وَمِنْهُ قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ ; أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي الْعُذْر مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْك فَأَنْذَرَك . وَأَمَّا " الْمُعَذِّرُونَ " بِالتَّشْدِيدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ يَكُون الْمُحِقّ ; فَهُوَ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَذِر , لِأَنَّ لَهُ عُذْرًا . فَيَكُون " الْمُعَذِّرُونَ " عَلَى هَذِهِ أَصْله الْمُعْتَذِرُونَ , وَلَكِنَّ التَّاء قُلِبَتْ ذَالًا فَأُدْغِمَتْ فِيهَا وَجُعِلَتْ حَرَكَتهَا عَلَى الْعَيْن ; كَمَا قُرِئَ " يَخَصِّمُونَ " [ يس : 49 ] بِفَتْحِ الْخَاء . وَيَجُوز " الْمُعِذِّرُونَ " بِكَسْرِ الْعَيْن لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ . وَيَجُوز ضَمّهَا اِتِّبَاعًا لِلْمِيمِ . ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيّ وَالنَّحَّاس . إِلَّا أَنَّ النَّحَّاس حَكَاهُ عَنْ الْأَخْفَش وَالْفَرَّاء وَأَبِي حَاتِم وَأَبِي عُبَيْد . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْأَصْل الْمُعْتَذِرُونَ , ثُمَّ أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الذَّال ; وَيَكُونُونَ الَّذِينَ لَهُمْ عُذْر . قَالَ لَبِيد : إِلَى الْحَوْل ثُمَّ اِسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اِعْتَذَرَ وَالْقَوْل الْآخَر : أَنَّ الْمُعَذِّر قَدْ يَكُون غَيْر مُحِقّ , وَهُوَ الَّذِي يَعْتَذِر وَلَا عُذْر لَهُ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : فَهُوَ الْمُعَذِّر عَلَى جِهَة الْمُفَعِّل ; لِأَنَّهُ الْمُمَرِّض وَالْمُقَصِّر يَعْتَذِر بِغَيْرِ عُذْر . قَالَ غَيْره : يُقَال عُذِرَ فُلَان فِي أَمْر كَذَا تَعْذِيرًا ; أَيْ قَصَّرَ وَلَمْ يُبَالِغ فِيهِ . وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ اِعْتَذَرُوا بِالْكَذِبِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : لَعَنَ اللَّه الْمُعَذِّرِينَ . كَأَنَّ الْأَمْر عِنْده أَنَّ الْمُعَذِّر بِالتَّشْدِيدِ هُوَ الْمُظْهِر لِلْعُذْرِ , اِعْتِلَالًا مِنْ غَيْر حَقِيقَة لَهُ فِي الْعُذْر . النَّحَّاس : قَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْأَصْل فِيهِ الْمُعْتَذِرِينَ , وَلَا يَجُوز الْإِدْغَام فَيَقَع اللَّبْس . ذَكَرَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق أَنَّ الْإِدْغَام مُجْتَنَب عَلَى قَوْل الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ , بَعْد أَنْ كَانَ سِيَاق الْكَلَام يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ لَا عُذْر لَهُمْ , قَالَ : لِأَنَّهُمْ جَاءُوا لِيُؤْذَن لَهُمْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ الضُّعَفَاء وَالْمَرْضَى وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ لَمْ يَحْتَاجُوا أَنْ يَسْتَأْذِنُوا . قَالَ النَّحَّاس : وَأَصْل الْمَعْذِرَة وَالْإِعْذَار وَالتَّعْذِير مِنْ شَيْء وَاحِد وَهُوَ مِمَّا يَصْعُب وَيَتَعَذَّر . وَقَوْل الْعَرَب : مَنْ عَذِيرِي مِنْ فُلَان , مَعْنَاهُ قَدْ أَتَى أَمْرًا عَظِيمًا يَسْتَحِقّ أَنْ أُعَاقِبهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَم النَّاس بِهِ ; فَمَنْ يَعْذِرنِي إِنْ عَاقَبْته . فَعَلَى قِرَاءَة التَّخْفِيف قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِعُذْرٍ فَأَذِنَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : هُمْ رَهْط عَامِر بْن الطُّفَيْل قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , لَوْ غَزَوْنَا مَعَك أَغَارَتْ أَعْرَاب طَيِّء عَلَى حَلَائِلنَا وَأَوْلَادنَا وَمَوَاشِينَا ; فَعَذَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَعَلَى قِرَاءَة التَّشْدِيد فِي الْقَوْل الثَّانِي , هُمْ قَوْم مِنْ غِفَار اِعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذُرهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ غَيْر مُحِقِّينَ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَعَدَ قَوْم بِغَيْرِ عُذْر أَظْهَرُوهُ جُرْأَة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ : " وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّه وَرَسُوله " وَالْمُرَاد بِكَذِبِهِمْ قَوْلهمْ : إِنَّا مُؤْمِنُونَ . و " لِيُؤْذَن " نُصِبَ بِلَامِ كَيْ .