سُورَة الْأَعْرَاف هِيَ مَكِّيَّة , إِلَّا ثَمَان آيَات , وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : " وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَة " [ الْأَعْرَاف : 163 ] إِلَى قَوْله : " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَل فَوْقهمْ " [ الْأَعْرَاف : 171 ] . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صَلَاة الْمَغْرِب بِسُورَةِ الْأَعْرَاف , فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ . صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ .
اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْحُرُوف الَّتِي فِي أَوَائِل السُّورَة ; فَقَالَ عَامِر الشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْمُحَدِّثِينَ : هِيَ سِرّ اللَّه فِي الْقُرْآن , وَلِلَّهِ فِي كُلّ كِتَاب مِنْ كُتُبه سِرّ . فَهِيَ مِنْ الْمُتَشَابِه الَّذِي اِنْفَرَدَ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِهِ , وَلَا يَجِب أَنْ يُتَكَلَّم فِيهَا , وَلَكِنْ نُؤْمِن بِهَا وَنَقْرَأ كَمَا جَاءَتْ . وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق وَعَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمْ قَالُوا : الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة مِنْ الْمَكْتُوم الَّذِي لَا يُفَسَّر . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : لَمْ نَجِد الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي أَوَائِل السُّوَر , وَلَا نَدْرِي مَا أَرَادَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِهَا . قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الْحُبَاب حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي طَالِب حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِر الْوَاسِطِيّ عَنْ مَالِك بْن مِغْوَل عَنْ سَعِيد بْن مَسْرُوق عَنْ الرَّبِيع بْن خُثَيْم قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآن فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ , وَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا شَاءَ , فَأَمَّا مَا اِسْتَأْثَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَسْتُمْ بِنَائِلِيهِ فَلَا تُسْأَلُوا عَنْهُ , وَأَمَّا الَّذِي أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ وَتُخْبِرُونَ بِهِ , وَمَا بِكُلِّ الْقُرْآن تَعْلَمُونَ , وَلَا بِكُلِّ مَا تَعْلَمُونَ تَعْمَلُونَ . قَالَ أَبُو بَكْر : فَهَذَا يُوَضِّح أَنَّ حُرُوفًا مِنْ الْقُرْآن سُتِرَتْ مَعَانِيهَا عَنْ جَمِيع الْعَالَم , اِخْتِبَارًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَامْتِحَانًا ; فَمَنْ آمَنَ بِهَا أُثِيبَ وَسَعِدَ , وَمَنْ كَفَرَ وَشَكَّ أَثِمَ وَبَعُدَ . حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف بْن يَعْقُوب الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ عَنْ سُفْيَان عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عُمَارَة عَنْ حُرَيْث بْن ظَهِير عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : مَا آمَنَ مُؤْمِن أَفْضَل مِنْ إِيمَان بِغَيْبٍ , ثُمَّ قَرَأَ : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " [ الْبَقَرَة : 3 ] .
قُلْت : هَذَا الْقَوْل فِي الْمُتَشَابِه وَحُكْمه , وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي ( آل عِمْرَان ) إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ جَمْع مِنْ الْعُلَمَاء كَبِير : بَلْ يَجِب أَنْ نَتَكَلَّم فِيهَا , وَيُلْتَمَس الْفَوَائِد الَّتِي تَحْتهَا , وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَخَرَّج عَلَيْهَا ; وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَلِيّ أَيْضًا : أَنَّ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي الْقُرْآن اِسْم اللَّه الْأَعْظَم , إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِف تَأْلِيفه مِنْهَا . وَقَالَ قُطْرُب وَالْفَرَّاء وَغَيْرهمَا : هِيَ إِشَارَة إِلَى حُرُوف الْهِجَاء أَعْلَمَ اللَّه بِهَا الْعَرَب حِين تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُؤْتَلِف مِنْ حُرُوف هِيَ الَّتِي مِنْهَا بِنَاء كَلَامهمْ ; لِيَكُونَ عَجْزهمْ عَنْهُ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّة عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَخْرُج عَنْ كَلَامهمْ . قَالَ قُطْرُب : كَانُوا يَنْفِرُونَ عِنْد اِسْتِمَاع الْقُرْآن , فَلَمَّا سَمِعُوا : " الم " وَ " المص " اِسْتَنْكَرُوا هَذَا اللَّفْظ , فَلَمَّا أَنْصَتُوا لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُؤْتَلِف لِيُثَبِّتهُ فِي أَسْمَاعهمْ وَآذَانهمْ وَيُقِيم الْحُجَّة عَلَيْهِمْ . وَقَالَ قَوْم : رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاع الْقُرْآن بِمَكَّة وَقَالُوا : " لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فِيهِ " [ فُصِّلَتْ : 26 ] نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعهمْ فَيَسْمَعُونَ الْقُرْآن بَعْدهَا فَتَجِب عَلَيْهِمْ الْحُجَّة . وَقَالَ جَمَاعَة : هِيَ حُرُوف دَالَّة عَلَى أَسْمَاء أُخِذَتْ مِنْهَا وَحُذِفَتْ بَقِيَّتهَا ; كَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْأَلِف مِنْ اللَّه , وَاللَّام مِنْ جِبْرِيل , وَالْمِيم مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْأَلِف مِفْتَاح اِسْمه اللَّه , وَاللَّام مِفْتَاح اِسْمه لَطِيف , وَالْمِيم مِفْتَاح اِسْمه مَجِيد . وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " الم " قَالَ : أَنَا اللَّه أَعْلَم , " الر " أَنَا اللَّه أَرَى , " المص " أَنَا اللَّه أَفْصِل . فَالْأَلِف تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَنَا , وَاللَّام تُؤَدِّي عَنْ اِسْم اللَّه , وَالْمِيم تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَعْلَم . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل الزَّجَّاج وَقَالَ : أَذْهَب إِلَى أَنَّ كُلّ حَرْف مِنْهَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى ; وَقَدْ تَكَلَّمَتْ الْعَرَب بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَة نَظْمًا لَهَا وَوَضْعًا بَدَل الْكَلِمَات الَّتِي الْحُرُوف مِنْهَا , كَقَوْلِهِ : فَقُلْت لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَاف أَرَادَ : قَالَتْ وَقَفْت . وَقَالَ زُهَيْر : بِالْخَيْرِ خَيْرَات وَإِنْ شَرًّا فَا وَلَا أُرِيد الشَّرّ إِلَّا أَنْ تَا أَرَادَ : وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ . وَأَرَادَ : إِلَّا أَنْ تَشَاء . وَقَالَ آخَر : نَادَوْهُمْ أَلَا الْجُمُوا أَلَا تَا قَالُوا جَمِيعًا كُلّهمْ أَلَا فَا أَرَادَ : أَلَا تَرْكَبُونَ , قَالُوا : أَلَا فَارْكَبُوا . وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُسْلِم بِشَطْرِ كَلِمَة ) قَالَ شَقِيق : هُوَ أَنْ يَقُول فِي اُقْتُلْ : اُقْ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ( كَفَى بِالسَّيْفِ شَا ) مَعْنَاهُ : شَافِيًا . وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : هِيَ أَسْمَاء لِلسُّوَرِ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : هِيَ أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه تَعَالَى بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا , وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا , وَرَدَّ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل فَقَالَ : لَا يَصِحّ أَنْ يَكُون قَسَمًا لِأَنَّ الْقَسَم مَعْقُود عَلَى حُرُوف مِثْل : إِنَّ وَقَدْ وَلَقَدْ وَمَا ; وَلَمْ يُوجَد هَهُنَا حَرْف مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون يَمِينًا . وَالْجَوَاب أَنْ يُقَال : مَوْضِع الْقَسَم قَوْله تَعَالَى : " لَا رَيْب فِيهِ " فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا حَلَفَ فَقَالَ : وَاَللَّه هَذَا الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ ; لَكَانَ الْكَلَام سَدِيدًا , وَتَكُون " لَا " جَوَاب الْقَسَم . فَثَبَتَ أَنَّ قَوْل الْكَلْبِيّ وَمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس سَدِيد صَحِيح . فَإِنْ قِيلَ : مَا الْحِكْمَة فِي الْقَسَم مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَكَانَ الْقَوْم فِي ذَلِكَ الزَّمَان عَلَى صِنْفَيْنِ : مُصَدِّق , وَمُكَذِّب ; فَالْمُصَدِّق يُصَدِّق بِغَيْرِ قَسَم , وَالْمُكَذِّب لَا يُصَدِّق مَعَ الْقَسَم ؟ . قِيلَ لَهُ : الْقُرْآن نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَب ; وَالْعَرَب إِذَا أَرَادَ بَعْضهمْ أَنْ يُؤَكِّد كَلَامه أَقْسَمَ عَلَى كَلَامه ; وَاَللَّه تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّد عَلَيْهِمْ الْحُجَّة فَأَقْسَمَ أَنَّ الْقُرْآن مِنْ عِنْده . وَقَالَ بَعْضهمْ : " الم " أَيْ أَنْزَلْت عَلَيْك هَذَا الْكِتَاب مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقَالَ قَتَادَة فِي قَوْله : " الم " قَالَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْدَعَ جَمِيع مَا فِي تِلْكَ السُّورَة مِنْ الْأَحْكَام وَالْقَصَص فِي الْحُرُوف الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّل السُّورَة , وَلَا يَعْرِف ذَلِكَ إِلَّا نَبِيّ أَوْ وَلِيّ , ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَمِيع السُّورَة لِيَفْقَهَ النَّاس . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِنْ الْأَقْوَال ; فَاَللَّه أَعْلَم . وَالْوَقْف عَلَى هَذِهِ الْحُرُوف عَلَى السُّكُون لِنُقْصَانِهَا إِلَّا إِذَا أَخْبَرْت عَنْهَا أَوْ عَطَفْتهَا فَإِنَّك تُعْرِبُهَا . وَاخْتُلِفَ : هَلْ لَهَا مَحَلٌّ مِنْ الْإِعْرَاب ؟ فَقِيلَ : لَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْمَاء مُتَمَكِّنَة , وَلَا أَفْعَالًا مُضَارِعَة ; وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ حُرُوف التَّهَجِّي فَهِيَ مَحْكِيَّة . هَذَا مَذْهَب الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ . وَمَنْ قَالَ : إِنَّهَا أَسْمَاء السُّوَر فَمَوْضِعهَا عِنْده الرَّفْع عَلَى أَنَّهَا عِنْده خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر ; أَيْ هَذِهِ " الم " ; كَمَا تَقُول : هَذِهِ سُورَة الْبَقَرَة . أَوْ تَكُون رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر ذَلِكَ ; كَمَا تَقُول : زَيْد ذَلِكَ الرَّجُل . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان النَّحْوِيّ : " الم " فِي مَوْضِع نَصْب ; كَمَا تَقُول : اِقْرَأْ " الم " أَوْ عَلَيْك " الم " . وَقِيلَ : فِي مَوْضِع خَفْض بِالْقَسَمِ ; لِقَوْلِ اِبْن عَبَّاس : إِنَّهَا أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه بِهَا .
اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْحُرُوف الَّتِي فِي أَوَائِل السُّورَة ; فَقَالَ عَامِر الشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْمُحَدِّثِينَ : هِيَ سِرّ اللَّه فِي الْقُرْآن , وَلِلَّهِ فِي كُلّ كِتَاب مِنْ كُتُبه سِرّ . فَهِيَ مِنْ الْمُتَشَابِه الَّذِي اِنْفَرَدَ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِهِ , وَلَا يَجِب أَنْ يُتَكَلَّم فِيهَا , وَلَكِنْ نُؤْمِن بِهَا وَنَقْرَأ كَمَا جَاءَتْ . وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق وَعَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمْ قَالُوا : الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة مِنْ الْمَكْتُوم الَّذِي لَا يُفَسَّر . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : لَمْ نَجِد الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي أَوَائِل السُّوَر , وَلَا نَدْرِي مَا أَرَادَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِهَا . قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الْحُبَاب حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي طَالِب حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِر الْوَاسِطِيّ عَنْ مَالِك بْن مِغْوَل عَنْ سَعِيد بْن مَسْرُوق عَنْ الرَّبِيع بْن خُثَيْم قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآن فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ , وَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا شَاءَ , فَأَمَّا مَا اِسْتَأْثَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَسْتُمْ بِنَائِلِيهِ فَلَا تُسْأَلُوا عَنْهُ , وَأَمَّا الَّذِي أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ وَتُخْبِرُونَ بِهِ , وَمَا بِكُلِّ الْقُرْآن تَعْلَمُونَ , وَلَا بِكُلِّ مَا تَعْلَمُونَ تَعْمَلُونَ . قَالَ أَبُو بَكْر : فَهَذَا يُوَضِّح أَنَّ حُرُوفًا مِنْ الْقُرْآن سُتِرَتْ مَعَانِيهَا عَنْ جَمِيع الْعَالَم , اِخْتِبَارًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَامْتِحَانًا ; فَمَنْ آمَنَ بِهَا أُثِيبَ وَسَعِدَ , وَمَنْ كَفَرَ وَشَكَّ أَثِمَ وَبَعُدَ . حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف بْن يَعْقُوب الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ عَنْ سُفْيَان عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عُمَارَة عَنْ حُرَيْث بْن ظَهِير عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : مَا آمَنَ مُؤْمِن أَفْضَل مِنْ إِيمَان بِغَيْبٍ , ثُمَّ قَرَأَ : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " [ الْبَقَرَة : 3 ] .
قُلْت : هَذَا الْقَوْل فِي الْمُتَشَابِه وَحُكْمه , وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي ( آل عِمْرَان ) إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ جَمْع مِنْ الْعُلَمَاء كَبِير : بَلْ يَجِب أَنْ نَتَكَلَّم فِيهَا , وَيُلْتَمَس الْفَوَائِد الَّتِي تَحْتهَا , وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَخَرَّج عَلَيْهَا ; وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَلِيّ أَيْضًا : أَنَّ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي الْقُرْآن اِسْم اللَّه الْأَعْظَم , إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِف تَأْلِيفه مِنْهَا . وَقَالَ قُطْرُب وَالْفَرَّاء وَغَيْرهمَا : هِيَ إِشَارَة إِلَى حُرُوف الْهِجَاء أَعْلَمَ اللَّه بِهَا الْعَرَب حِين تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُؤْتَلِف مِنْ حُرُوف هِيَ الَّتِي مِنْهَا بِنَاء كَلَامهمْ ; لِيَكُونَ عَجْزهمْ عَنْهُ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّة عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَخْرُج عَنْ كَلَامهمْ . قَالَ قُطْرُب : كَانُوا يَنْفِرُونَ عِنْد اِسْتِمَاع الْقُرْآن , فَلَمَّا سَمِعُوا : " الم " وَ " المص " اِسْتَنْكَرُوا هَذَا اللَّفْظ , فَلَمَّا أَنْصَتُوا لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُؤْتَلِف لِيُثَبِّتهُ فِي أَسْمَاعهمْ وَآذَانهمْ وَيُقِيم الْحُجَّة عَلَيْهِمْ . وَقَالَ قَوْم : رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاع الْقُرْآن بِمَكَّة وَقَالُوا : " لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فِيهِ " [ فُصِّلَتْ : 26 ] نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعهمْ فَيَسْمَعُونَ الْقُرْآن بَعْدهَا فَتَجِب عَلَيْهِمْ الْحُجَّة . وَقَالَ جَمَاعَة : هِيَ حُرُوف دَالَّة عَلَى أَسْمَاء أُخِذَتْ مِنْهَا وَحُذِفَتْ بَقِيَّتهَا ; كَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْأَلِف مِنْ اللَّه , وَاللَّام مِنْ جِبْرِيل , وَالْمِيم مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْأَلِف مِفْتَاح اِسْمه اللَّه , وَاللَّام مِفْتَاح اِسْمه لَطِيف , وَالْمِيم مِفْتَاح اِسْمه مَجِيد . وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " الم " قَالَ : أَنَا اللَّه أَعْلَم , " الر " أَنَا اللَّه أَرَى , " المص " أَنَا اللَّه أَفْصِل . فَالْأَلِف تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَنَا , وَاللَّام تُؤَدِّي عَنْ اِسْم اللَّه , وَالْمِيم تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَعْلَم . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل الزَّجَّاج وَقَالَ : أَذْهَب إِلَى أَنَّ كُلّ حَرْف مِنْهَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى ; وَقَدْ تَكَلَّمَتْ الْعَرَب بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَة نَظْمًا لَهَا وَوَضْعًا بَدَل الْكَلِمَات الَّتِي الْحُرُوف مِنْهَا , كَقَوْلِهِ : فَقُلْت لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَاف أَرَادَ : قَالَتْ وَقَفْت . وَقَالَ زُهَيْر : بِالْخَيْرِ خَيْرَات وَإِنْ شَرًّا فَا وَلَا أُرِيد الشَّرّ إِلَّا أَنْ تَا أَرَادَ : وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ . وَأَرَادَ : إِلَّا أَنْ تَشَاء . وَقَالَ آخَر : نَادَوْهُمْ أَلَا الْجُمُوا أَلَا تَا قَالُوا جَمِيعًا كُلّهمْ أَلَا فَا أَرَادَ : أَلَا تَرْكَبُونَ , قَالُوا : أَلَا فَارْكَبُوا . وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُسْلِم بِشَطْرِ كَلِمَة ) قَالَ شَقِيق : هُوَ أَنْ يَقُول فِي اُقْتُلْ : اُقْ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ( كَفَى بِالسَّيْفِ شَا ) مَعْنَاهُ : شَافِيًا . وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : هِيَ أَسْمَاء لِلسُّوَرِ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : هِيَ أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه تَعَالَى بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا , وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا , وَرَدَّ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل فَقَالَ : لَا يَصِحّ أَنْ يَكُون قَسَمًا لِأَنَّ الْقَسَم مَعْقُود عَلَى حُرُوف مِثْل : إِنَّ وَقَدْ وَلَقَدْ وَمَا ; وَلَمْ يُوجَد هَهُنَا حَرْف مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون يَمِينًا . وَالْجَوَاب أَنْ يُقَال : مَوْضِع الْقَسَم قَوْله تَعَالَى : " لَا رَيْب فِيهِ " فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا حَلَفَ فَقَالَ : وَاَللَّه هَذَا الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ ; لَكَانَ الْكَلَام سَدِيدًا , وَتَكُون " لَا " جَوَاب الْقَسَم . فَثَبَتَ أَنَّ قَوْل الْكَلْبِيّ وَمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس سَدِيد صَحِيح . فَإِنْ قِيلَ : مَا الْحِكْمَة فِي الْقَسَم مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَكَانَ الْقَوْم فِي ذَلِكَ الزَّمَان عَلَى صِنْفَيْنِ : مُصَدِّق , وَمُكَذِّب ; فَالْمُصَدِّق يُصَدِّق بِغَيْرِ قَسَم , وَالْمُكَذِّب لَا يُصَدِّق مَعَ الْقَسَم ؟ . قِيلَ لَهُ : الْقُرْآن نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَب ; وَالْعَرَب إِذَا أَرَادَ بَعْضهمْ أَنْ يُؤَكِّد كَلَامه أَقْسَمَ عَلَى كَلَامه ; وَاَللَّه تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّد عَلَيْهِمْ الْحُجَّة فَأَقْسَمَ أَنَّ الْقُرْآن مِنْ عِنْده . وَقَالَ بَعْضهمْ : " الم " أَيْ أَنْزَلْت عَلَيْك هَذَا الْكِتَاب مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقَالَ قَتَادَة فِي قَوْله : " الم " قَالَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْدَعَ جَمِيع مَا فِي تِلْكَ السُّورَة مِنْ الْأَحْكَام وَالْقَصَص فِي الْحُرُوف الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّل السُّورَة , وَلَا يَعْرِف ذَلِكَ إِلَّا نَبِيّ أَوْ وَلِيّ , ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَمِيع السُّورَة لِيَفْقَهَ النَّاس . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِنْ الْأَقْوَال ; فَاَللَّه أَعْلَم . وَالْوَقْف عَلَى هَذِهِ الْحُرُوف عَلَى السُّكُون لِنُقْصَانِهَا إِلَّا إِذَا أَخْبَرْت عَنْهَا أَوْ عَطَفْتهَا فَإِنَّك تُعْرِبُهَا . وَاخْتُلِفَ : هَلْ لَهَا مَحَلٌّ مِنْ الْإِعْرَاب ؟ فَقِيلَ : لَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْمَاء مُتَمَكِّنَة , وَلَا أَفْعَالًا مُضَارِعَة ; وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ حُرُوف التَّهَجِّي فَهِيَ مَحْكِيَّة . هَذَا مَذْهَب الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ . وَمَنْ قَالَ : إِنَّهَا أَسْمَاء السُّوَر فَمَوْضِعهَا عِنْده الرَّفْع عَلَى أَنَّهَا عِنْده خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر ; أَيْ هَذِهِ " الم " ; كَمَا تَقُول : هَذِهِ سُورَة الْبَقَرَة . أَوْ تَكُون رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر ذَلِكَ ; كَمَا تَقُول : زَيْد ذَلِكَ الرَّجُل . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان النَّحْوِيّ : " الم " فِي مَوْضِع نَصْب ; كَمَا تَقُول : اِقْرَأْ " الم " أَوْ عَلَيْك " الم " . وَقِيلَ : فِي مَوْضِع خَفْض بِالْقَسَمِ ; لِقَوْلِ اِبْن عَبَّاس : إِنَّهَا أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه بِهَا .
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ↓
و " كِتَاب " خَبَره . كَأَنَّهُ قَالَ : " المص " حُرُوف " كِتَاب أُنْزِلَ إِلَيْك " وَقَالَ الْكِسَائِيّ : أَيْ هَذَا كِتَاب .
" حَرَج " أَيْ ضِيق ; أَيْ لَا يَضِيق صَدْرك بِالْإِبْلَاغِ ; لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : ( إِنِّي أَخَاف أَنْ يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَة ) الْحَدِيث . خَرَّجَهُ مُسْلِم . قَالَ إِلْكِيَا : فَظَاهِره النَّهْي , وَمَعْنَاهُ نَفْي الْحَرَج عَنْهُ ; أَيْ لَا يَضِيق صَدْرك أَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ , فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ , وَلَيْسَ عَلَيْك سِوَى الْإِنْذَار بِهِ مِنْ شَيْء مِنْ إِيمَانهمْ أَوْ كُفْرهمْ , وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " فَلَعَلَّك بَاخِع نَفْسك " [ الْكَهْف : 6 ] الْآيَة . وَقَالَ : " لَعَلَّك بَاخِع نَفْسك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " [ الشُّعَرَاء : 3 ] . وَمَذْهَب مُجَاهِد وَقَتَادَة أَنَّ الْحَرَج هُنَا الشَّكّ , وَلَيْسَ هَذَا شَكّ الْكُفْر إِنَّمَا هُوَ شَكُّ الضِّيق . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَقَدْ نَعْلَم أَنَّك يَضِيقُ صَدْرك بِمَا يَقُولُونَ " [ الْحِجْر : 97 ] . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّتُهُ . وَفِيهِ بُعْد . وَالْهَاء فِي " مِنْهُ " لِلْقُرْآنِ . وَقِيلَ : لِلْإِنْذَارِ ; أَيْ أُنْزِلَ إِلَيْك الْكِتَاب لِتُنْذِر بِهِ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرك حَرَج مِنْهُ . فَالْكَلَام فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير . وَقِيلَ لِلتَّكْذِيبِ الَّذِي يُعْطِيه قُوَّة الْكَلَام . أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرك ضِيق مِنْ تَكْذِيب الْمُكَذِّبِينَ لَهُ . " وَذِكْرَى " يَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع وَنَصْب وَخَفْض . فَالرَّفْع مِنْ وَجْهَيْنِ ; قَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هِيَ رَفْع عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : عَطْف عَلَى " كِتَاب " وَالنَّصْب مِنْ وَجْهَيْنِ ; عَلَى الْمَصْدَر ; أَيْ وَذَكِّرْ بِهِ ذِكْرَى ; قَالَ الْبَصْرِيُّونَ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : عَطْف عَلَى الْهَاء فِي " أَنْزَلْنَاهُ " . وَالْخَفْض حَمْلًا عَلَى مَوْضِع " لِتُنْذِر بِهِ " وَالْإِنْذَار لِلْكَافِرِينَ , وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ .
" حَرَج " أَيْ ضِيق ; أَيْ لَا يَضِيق صَدْرك بِالْإِبْلَاغِ ; لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : ( إِنِّي أَخَاف أَنْ يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَة ) الْحَدِيث . خَرَّجَهُ مُسْلِم . قَالَ إِلْكِيَا : فَظَاهِره النَّهْي , وَمَعْنَاهُ نَفْي الْحَرَج عَنْهُ ; أَيْ لَا يَضِيق صَدْرك أَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ , فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ , وَلَيْسَ عَلَيْك سِوَى الْإِنْذَار بِهِ مِنْ شَيْء مِنْ إِيمَانهمْ أَوْ كُفْرهمْ , وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " فَلَعَلَّك بَاخِع نَفْسك " [ الْكَهْف : 6 ] الْآيَة . وَقَالَ : " لَعَلَّك بَاخِع نَفْسك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " [ الشُّعَرَاء : 3 ] . وَمَذْهَب مُجَاهِد وَقَتَادَة أَنَّ الْحَرَج هُنَا الشَّكّ , وَلَيْسَ هَذَا شَكّ الْكُفْر إِنَّمَا هُوَ شَكُّ الضِّيق . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَقَدْ نَعْلَم أَنَّك يَضِيقُ صَدْرك بِمَا يَقُولُونَ " [ الْحِجْر : 97 ] . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّتُهُ . وَفِيهِ بُعْد . وَالْهَاء فِي " مِنْهُ " لِلْقُرْآنِ . وَقِيلَ : لِلْإِنْذَارِ ; أَيْ أُنْزِلَ إِلَيْك الْكِتَاب لِتُنْذِر بِهِ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرك حَرَج مِنْهُ . فَالْكَلَام فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير . وَقِيلَ لِلتَّكْذِيبِ الَّذِي يُعْطِيه قُوَّة الْكَلَام . أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرك ضِيق مِنْ تَكْذِيب الْمُكَذِّبِينَ لَهُ . " وَذِكْرَى " يَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع وَنَصْب وَخَفْض . فَالرَّفْع مِنْ وَجْهَيْنِ ; قَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هِيَ رَفْع عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : عَطْف عَلَى " كِتَاب " وَالنَّصْب مِنْ وَجْهَيْنِ ; عَلَى الْمَصْدَر ; أَيْ وَذَكِّرْ بِهِ ذِكْرَى ; قَالَ الْبَصْرِيُّونَ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : عَطْف عَلَى الْهَاء فِي " أَنْزَلْنَاهُ " . وَالْخَفْض حَمْلًا عَلَى مَوْضِع " لِتُنْذِر بِهِ " وَالْإِنْذَار لِلْكَافِرِينَ , وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ .
اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ↓
يَعْنِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " [ الْحَشْر : 7 ] . وَقَالَتْ فِرْقَة : هَذَا أَمْر يَعُمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّته . وَالظَّاهِر أَنَّهُ أَمْر لِجَمِيعِ النَّاس دُونه . أَيْ اِتَّبِعُوا مِلَّة الْإِسْلَام وَالْقُرْآن , وَأَحِلُّوا حَلَاله وَحَرِّمُوا حَرَامه , وَامْتَثِلُوا أَمْره , وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى تَرْك اِتِّبَاع الْآرَاء مَعَ وُجُود النَّصِّ .
" مِنْ دُونِهِ " مِنْ غَيْره . وَالْهَاء تَعُود عَلَى الرَّبّ سُبْحَانه , وَالْمَعْنَى : لَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْره , وَلَا تَتَّخِذُوا مَنْ عَدَلَ عَنْ دِين اللَّه وَلِيًّا . وَكُلّ مَنْ رَضِيَ مَذْهَبًا فَأَهْل ذَلِكَ الْمَذْهَب أَوْلِيَاؤُهُ . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك بْن دِينَار أَنَّهُ قَرَأَ " وَلَا تَبْتَغُوا مِنْ دُونه أَوْلِيَاء " أَيْ وَلَا تَطْلُبُوا . وَلَمْ يَنْصَرِف " أَوْلِيَاء " لِأَنَّ فِيهِ أَلِف التَّأْنِيث . وَقِيلَ : تَعُود عَلَى " مَا " مِنْ قَوْله : " اِتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ " .
" مَا " زَائِدَة . وَقِيلَ : تَكُون مَعَ الْفِعْل مَصْدَرًا .
" مِنْ دُونِهِ " مِنْ غَيْره . وَالْهَاء تَعُود عَلَى الرَّبّ سُبْحَانه , وَالْمَعْنَى : لَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْره , وَلَا تَتَّخِذُوا مَنْ عَدَلَ عَنْ دِين اللَّه وَلِيًّا . وَكُلّ مَنْ رَضِيَ مَذْهَبًا فَأَهْل ذَلِكَ الْمَذْهَب أَوْلِيَاؤُهُ . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك بْن دِينَار أَنَّهُ قَرَأَ " وَلَا تَبْتَغُوا مِنْ دُونه أَوْلِيَاء " أَيْ وَلَا تَطْلُبُوا . وَلَمْ يَنْصَرِف " أَوْلِيَاء " لِأَنَّ فِيهِ أَلِف التَّأْنِيث . وَقِيلَ : تَعُود عَلَى " مَا " مِنْ قَوْله : " اِتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ " .
" مَا " زَائِدَة . وَقِيلَ : تَكُون مَعَ الْفِعْل مَصْدَرًا .
" كَمْ " لِلتَّكْثِيرِ ; كَمَا أَنَّ " رُبَّ " لِلتَّقْلِيلِ . وَهِيَ فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَ " أَهْلَكْنَا " الْخَبَر . أَيْ وَكَثِير مِنْ الْقُرَى - وَهِيَ مَوَاضِع اِجْتِمَاع النَّاس - أَهْلَكْنَاهَا . وَيَجُوز النَّصْب بِإِضْمَارِ فِعْل بَعْدهَا , وَلَا يُقَدَّر قَبْلهَا ; لِأَنَّ الِاسْتِفْهَام لَا يَعْمَل فِيهِ مَا قَبْله . وَيُقَوِّي الْأَوَّل قَوْله : " وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُون مِنْ بَعْد نُوح " وَلَوْلَا اِشْتِغَال " أَهْلَكْنَا " بِالضَّمِيرِ لَانْتَصَبَ بِهِ مَوْضِع " كَمْ " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " أَهْلَكْنَا " صِفَة لِلْقَرْيَةِ , وَ " كَمْ " فِي الْمَعْنَى هِيَ الْقَرْيَة ; فَإِذَا وَصَفْت الْقَرْيَة فَكَأَنَّك قَدْ وَصَفْت كَمْ . يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَكَمْ مِنْ مَلَك فِي السَّمَاوَات لَا تُغْنِي شَفَاعَتهمْ شَيْئًا " [ النَّجْم : 26 ] فَعَادَ الضَّمِير عَلَى " كَمْ " . عَلَى الْمَعْنَى ; إِذْ كَانَتْ الْمَلَائِكَة فِي الْمَعْنَى . فَلَا يَصِحّ عَلَى هَذَا التَّقْدِير أَنْ يَكُون " كَمْ " فِي مَوْضِع نَصْب بِإِضْمَارِ فِعْل بَعْدهَا . " فَجَاءَهَا بَأْسنَا " فِيهِ إِشْكَال لِلْعَطْفِ بِالْفَاءِ . فَقَالَ الْفَرَّاء : الْفَاء بِمَعْنَى الْوَاو , فَلَا يَلْزَم التَّرْتِيب . وَقِيلَ : أَيْ وَكَمْ مِنْ قَرْيَة أَرَدْنَا إِهْلَاكهَا فَجَاءَهَا بَأْسنَا ; كَقَوْلِهِ : " فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآن فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم " [ النَّحْل : 98 ] . وَقِيلَ : إِنَّ الْهَلَاك . وَاقِع بِبَعْضِ الْقَوْم ; فَيَكُون التَّقْدِير : وَكَمْ مِنْ قَرْيَة أَهْلَكْنَا بَعْضهَا فَجَاءَهَا بَأْسنَا فَأَهْلَكْنَا الْجَمِيع . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَكَمْ مِنْ قَرْيَة أَهْلَكْنَاهَا فِي حُكْمنَا فَجَاءَهَا بَأْسنَا . وَقِيلَ : أَهْلَكْنَاهَا بِإِرْسَالِنَا مَلَائِكَة الْعَذَاب إِلَيْهَا , فَجَاءَهَا بَأْسنَا وَهُوَ الِاسْتِئْصَال . وَالْبَأْس , الْعَذَاب الْآتِي عَلَى النَّفْس . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَهْلَكْنَاهَا فَكَانَ إِهْلَاكنَا إِيَّاهُمْ فِي وَقْت كَذَا ; فَمَجِيء الْبَأْس عَلَى هَذَا هُوَ الْإِهْلَاك . وَقِيلَ : الْبَأْس غَيْر الْإِهْلَاك ; كَمَا ذَكَرْنَا . وَحَكَى الْفَرَّاء أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْت أَيّهمَا شِئْت ; فَيَكُون الْمَعْنَى وَكَمْ مِنْ قَرْيَة جَاءَهَا بَأْسنَا فَأَهْلَكْنَاهَا ; مِثْل دَنَا فَقَرُبَ , وَقَرُبَ فَدَنَا , وَشَتَمَنِي فَأَسَاءَ , وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي ; لِأَنَّ الْإِسَاءَة وَالشَّتْم شَيْء وَاحِد . وَكَذَلِكَ قَوْله : " اِقْتَرَبَتْ السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر " [ الْقَمَر : 1 ] . الْمَعْنَى - وَاَللَّه أَعْلَم - اِنْشَقَّ الْقَمَر فَاقْتَرَبَتْ السَّاعَة . وَالْمَعْنَى وَاحِد . " بَيَاتًا " أَيْ لَيْلًا ; وَمِنْهُ الْبَيْت , لِأَنَّهُ يُبَات فِيهِ . يُقَال : بَاتَ يَبِيت بَيْتًا وَبَيَاتًا .
" أَوْ هُمْ قَائِلُونَ " أَيْ أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ , فَاسْتَثْقَلُوا فَحَذَفُوا الْوَاو ; قَالَهُ الْفَرَّاء . وَقَالَ الزَّجَّاج : هَذَا خَطَأ , إِذَا عَادَ الذِّكْر اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْوَاو , تَقُول : جَاءَنِي زَيْد رَاكِبًا أَوْ هُوَ مَاشٍ , وَلَا يُحْتَاج إِلَى الْوَاو . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَلَمْ يَقُلْ بَيَاتًا أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ لِأَنَّ فِي الْجُمْلَة ضَمِيرًا يَرْجِع إِلَى الْأَوَّل فَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْوَاو . وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الزَّجَّاج سَوَاء , وَلَيْسَ أَوْ لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّفْصِيلِ ; كَقَوْلِك : لَأُكْرِمَنَّك مُنْصِفًا لِي أَوْ ظَالِمًا . وَهَذِهِ الْوَاو تُسَمَّى عِنْد النَّحْوِيِّينَ وَاو الْوَقْت . وَ " قَائِلُونَ " مِنْ الْقَائِلَة وَهِيَ الْقَيْلُولَة ; وَهِيَ نَوْم نِصْف النَّهَار . وَقِيلَ : الِاسْتِرَاحَة نِصْف النَّهَار إِذَا اِشْتَدَّ الْحَرّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَوْم . وَالْمَعْنَى جَاءَهُمْ عَذَابُنَا وَهُمْ غَافِلُونَ إِمَّا لَيْلًا وَإِمَّا نَهَارًا . وَالدَّعْوَى الدُّعَاء ; وَمِنْهُ قَوْل : " وَآخِر دَعْوَاهُمْ " [ يُونُس : 10 ] . وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ : اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِح دَعْوَى مَنْ دَعَاك . وَقَدْ تَكُون الدَّعْوَى بِمَعْنَى الِادِّعَاء . وَالْمَعْنَى : أَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُصُوا عِنْد الْإِهْلَاك إِلَّا عَلَى الْإِقْرَار بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ
" أَوْ هُمْ قَائِلُونَ " أَيْ أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ , فَاسْتَثْقَلُوا فَحَذَفُوا الْوَاو ; قَالَهُ الْفَرَّاء . وَقَالَ الزَّجَّاج : هَذَا خَطَأ , إِذَا عَادَ الذِّكْر اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْوَاو , تَقُول : جَاءَنِي زَيْد رَاكِبًا أَوْ هُوَ مَاشٍ , وَلَا يُحْتَاج إِلَى الْوَاو . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَلَمْ يَقُلْ بَيَاتًا أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ لِأَنَّ فِي الْجُمْلَة ضَمِيرًا يَرْجِع إِلَى الْأَوَّل فَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْوَاو . وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الزَّجَّاج سَوَاء , وَلَيْسَ أَوْ لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّفْصِيلِ ; كَقَوْلِك : لَأُكْرِمَنَّك مُنْصِفًا لِي أَوْ ظَالِمًا . وَهَذِهِ الْوَاو تُسَمَّى عِنْد النَّحْوِيِّينَ وَاو الْوَقْت . وَ " قَائِلُونَ " مِنْ الْقَائِلَة وَهِيَ الْقَيْلُولَة ; وَهِيَ نَوْم نِصْف النَّهَار . وَقِيلَ : الِاسْتِرَاحَة نِصْف النَّهَار إِذَا اِشْتَدَّ الْحَرّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَوْم . وَالْمَعْنَى جَاءَهُمْ عَذَابُنَا وَهُمْ غَافِلُونَ إِمَّا لَيْلًا وَإِمَّا نَهَارًا . وَالدَّعْوَى الدُّعَاء ; وَمِنْهُ قَوْل : " وَآخِر دَعْوَاهُمْ " [ يُونُس : 10 ] . وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ : اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِح دَعْوَى مَنْ دَعَاك . وَقَدْ تَكُون الدَّعْوَى بِمَعْنَى الِادِّعَاء . وَالْمَعْنَى : أَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُصُوا عِنْد الْإِهْلَاك إِلَّا عَلَى الْإِقْرَار بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ
و " دَعْوَاهُمْ " فِي مَوْضِع نَصْب خَبَر كَانَ , وَاسْمهَا " إِلَّا أَنْ قَالُوا " .
" إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ " الْمَعْنَى : أَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُصُوا عِنْد الْإِهْلَاك إِلَّا عَلَى الْإِقْرَار بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ . نَظِيره " فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا " [ النَّمْل : 56 ] وَيَجُوز أَنْ تَكُون الدَّعْوَى رَفْعًا , وَ " أَنْ قَالُوا " نَصْبًا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا " [ الْبَقَرَة : 177 ] بِرَفْعِ " الْبِرّ " وَقَوْله : " ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَ أَنْ كَذَّبُوا " [ الرُّوم : 10 ] بِرَفْعِ " عَاقِبَة "
" إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ " الْمَعْنَى : أَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُصُوا عِنْد الْإِهْلَاك إِلَّا عَلَى الْإِقْرَار بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ . نَظِيره " فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا " [ النَّمْل : 56 ] وَيَجُوز أَنْ تَكُون الدَّعْوَى رَفْعًا , وَ " أَنْ قَالُوا " نَصْبًا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا " [ الْبَقَرَة : 177 ] بِرَفْعِ " الْبِرّ " وَقَوْله : " ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَ أَنْ كَذَّبُوا " [ الرُّوم : 10 ] بِرَفْعِ " عَاقِبَة "
دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكُفَّار يُحَاسَبُونَ . وَفِي التَّنْزِيل " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ " [ الْغَاشِيَة : 26 ] . وَفِي سُورَة الْقَصَص " وَلَا يُسْأَل عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ " [ الْقَصَص : 78 ] يَعْنِي إِذَا اِسْتَقَرُّوا فِي الْعَذَاب . وَالْآخِرَة مَوَاطِن : مَوْطِن يُسْأَلُونَ فِيهِ لِلْحِسَابِ . وَمَوْطِن لَا يُسْأَلُونَ فِيهِ . وَسُؤَالُهُمْ تَقْرِير وَتَوْبِيخ وَإِفْضَاح . وَسُؤَال الرُّسُل سُؤَال اِسْتِشْهَاد بِهِمْ وَإِفْصَاح ; أَيْ عَنْ جَوَاب الْقَوْم لَهُمْ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْله : " لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ " [ الْأَحْزَاب : 8 ] عَلَى مَا يَأْتِي .
وَقِيلَ : الْمَعْنَى " فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ " أَيْ الْأَنْبِيَاء " وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ " أَيْ الْمَلَائِكَة الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ . وَاللَّام فِي " فَلَنَسْأَلَنَّ " لَام الْقَسَم وَحَقِيقَتهَا التَّوْكِيد .
وَقِيلَ : الْمَعْنَى " فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ " أَيْ الْأَنْبِيَاء " وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ " أَيْ الْمَلَائِكَة الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ . وَاللَّام فِي " فَلَنَسْأَلَنَّ " لَام الْقَسَم وَحَقِيقَتهَا التَّوْكِيد .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَنْطِق عَلَيْهِمْ .
أَيْ كُنَّا شَاهِدِينَ لِأَعْمَالِهِمْ . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَالِمٌ بِعِلْمٍ .
أَيْ كُنَّا شَاهِدِينَ لِأَعْمَالِهِمْ . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَالِمٌ بِعِلْمٍ .
اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " الْحَقّ " نَعْته , وَالْخَبَر " يَوْمئِذٍ " . وَيَجُوز نَصْب " الْحَقّ " عَلَى الْمَصْدَر . وَالْمُرَاد بِالْوَزْنِ وَزْن أَعْمَال الْعِبَاد بِالْمِيزَانِ . قَالَ اِبْن عُمَر : تُوزَن صَحَائِف أَعْمَال الْعِبَاد . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْخَبَر عَلَى مَا يَأْتِي . وَقِيلَ : الْمِيزَان الْكِتَاب الَّذِي فِيهِ أَعْمَال الْخَلْق . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمِيزَان الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَات بِأَعْيَانِهَا . وَعَنْهُ أَيْضًا وَالضَّحَّاك وَالْأَعْمَش : الْوَزْن وَالْمِيزَان بِمَعْنَى الْعَدْل وَالْقَضَاء , وَذِكْر الْوَزْن ضَرْب مَثَل ; كَمَا تَقُول : هَذَا الْكَلَام فِي وَزْن هَذَا وَفِي وِزَانِهِ , أَيْ يُعَادِلهُ وَيُسَاوِيه وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَزْن . قَالَ الزَّجَّاج : هَذَا سَائِغ مِنْ جِهَة اللِّسَان , وَالْأَوْلَى أَنْ يُتَّبَع مَا جَاءَ فِي الْأَسَانِيد الصِّحَاح مِنْ ذِكْر الْمِيزَان . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقَدْ أَحْسَنَ فِيمَا قَالَ , إِذْ لَوْ حُمِلَ الْمِيزَان عَلَى هَذَا فَلْيُحْمَلْ الصِّرَاط عَلَى الدِّين الْحَقّ , وَالْجَنَّة وَالنَّار عَلَى مَا يَرِد عَلَى الْأَرْوَاح دُون الْأَجْسَاد , وَالشَّيَاطِين وَالْجِنّ عَلَى الْأَخْلَاق الْمَذْمُومَة , وَالْمَلَائِكَة عَلَى الْقُوَى الْمَحْمُودَة . وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة فِي الصَّدْر الْأَوَّل عَلَى الْأَخْذ بِهَذِهِ الظَّوَاهِر مِنْ غَيْر تَأْوِيل . وَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى مَنْع التَّأْوِيل وَجَبَ الْأَخْذ بِالظَّاهِرِ , وَصَارَتْ هَذِهِ الظَّوَاهِر نُصُوصًا . قَالَ اِبْن فُورك : وَقَدْ أَنْكَرَتْ الْمُعْتَزِلَة الْمِيزَان بِنَاء مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَاض يَسْتَحِيل وَزْنهَا , إِذْ لَا تَقُوم بِأَنْفُسِهَا . وَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ يَقُول : إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُقَلِّب الْأَعْرَاض أَجْسَامًا فَيَزِنهَا يَوْم الْقِيَامَة . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا , وَالصَّحِيح أَنَّ الْمَوَازِين تَثْقُل بِالْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا الْأَعْمَال مَكْتُوبَة , وَبِهَا تَخِفُّ . وَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَر مَا يُحَقِّق ذَلِكَ , وَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ ( أَنَّ مِيزَان بَعْض بَنِي آدَم كَادَ يَخِفُّ بِالْحَسَنَاتِ فَيُوضَع فِيهِ رَقٌّ مَكْتُوب فِيهِ " لَا إِلَه إِلَّا اللَّه " فَيَثْقُل ) . فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يَرْجِع إِلَى وَزْن مَا كُتِبَ فِيهِ الْأَعْمَال لَا نَفْس الْأَعْمَال , وَأَنَّ اللَّه سُبْحَانه يُخَفِّف الْمِيزَان إِذَا أَرَادَ , وَيُثْقِلهُ إِذَا أَرَادَ بِمَا يُوضَع فِي كِفَّتَيْهِ مِنْ الصُّحُف الَّتِي فِيهَا الْأَعْمَال . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ صَفْوَان بْن مُحْرِز قَالَ قَالَ رَجُل لِابْنِ عُمَر : كَيْفَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْوَى ؟ قَالَ سَمِعْته يَقُول : ( يُدْنَى الْمُؤْمِن مِنْ رَبّه يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يَضَع عَلَيْهِ كَنَفه فَيُقَرِّرهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُول هَلْ تَعْرِف فَيَقُول أَيْ رَبّ أَعْرِف قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرهَا لَك الْيَوْم فَيُعْطَى صَحِيفَة حَسَنَاته وَأَمَّا الْكُفَّار وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوس الْخَلَائِق هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّه ) . فَقَوْله : ( فَيُعْطَى صَحِيفَة حَسَنَاته ) دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَعْمَال تُكْتَب فِي الصُّحُف وَتُوزَن . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُصَاح بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رُءُوس الْخَلَائِق فَيُنْشَر عَلَيْهِ تِسْعَة وَتِسْعُونَ سِجِلًّا كُلّ سِجِلّ مَدّ الْبَصَر ثُمَّ يَقُول اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَلْ تُنْكِر مِنْ هَذَا شَيْئًا فَيَقُول لَا يَا رَبّ فَيَقُول أَظْلَمَتْك كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ فَيَقُول لَا ثُمَّ يَقُول أَلَك عُذْر أَلَك حَسَنَة فَيَهَاب الرَّجُل فَيَقُول لَا فَيَقُول بَلَى إِنَّ لَك عِنْدنَا حَسَنَات وَإِنَّهُ لَا ظُلْم عَلَيْك الْيَوْم فَتُخْرَج لَهُ بِطَاقَة فِيهَا أَشْهَد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُول يَا رَبّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَة مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّات فَيَقُول إِنَّك لَا تُظْلَمُ فَتُوضَع السِّجِلَّات فِي كِفَّة وَالْبِطَاقَة فِي كِفَّة فَطَاشَتْ السِّجِلَّات وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَة ) . زَادَ التِّرْمِذِيّ ( فَلَا يَثْقُل مَعَ اِسْم اللَّه شَيْء ) وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَاب مَزِيد بَيَان فِي " الْكَهْف وَالْأَنْبِيَاء " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَوْله تَعَالَى : " فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسهمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ " جَمْع مِيزَان , وَأَصْله مِوْزَان , قُلِبَتْ الْوَاو يَاء لِكَسْرَةِ مَا قَبْلهَا . وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون هُنَاكَ مَوَازِين لِلْعَامِلِ الْوَاحِد يُوزَن بِكُلِّ مِيزَان مِنْهَا صِنْف مِنْ أَعْمَالِهِ . وَيُمْكِن أَنْ يَكُون ذَلِكَ مِيزَانًا وَاحِدًا عُبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْع ; كَمَا تَقُول : خَرَجَ فُلَان إِلَى مَكَّة عَلَى الْبِغَال , وَخَرَجَ إِلَى الْبَصْرَة فِي السُّفُن . وَفِي التَّنْزِيل : " كَذَّبَتْ قَوْم نُوح الْمُرْسَلِينَ " [ الشُّعَرَاء : 105 ] . " كَذَّبَتْ عَاد الْمُرْسَلِينَ " [ الشُّعَرَاء : 123 ] . وَإِنَّمَا هُوَ رَسُول وَاحِد فِي أَحَد التَّأْوِيلَيْنِ . وَقِيلَ : الْمَوَازِين جَمْع مَوْزُون , لَا جَمْع مِيزَان . أَرَادَ بِالْمَوَازِينِ الْأَعْمَال الْمَوْزُونَة . " وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينه " مِثْله .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : تُوزَن الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَات فِي مِيزَان لَهُ لِسَان وَكِفَّتَانِ ; فَأَمَّا الْمُؤْمِن فَيُؤْتَى بِعَمَلِهِ فِي أَحْسَن صُورَة فَيُوضَع فِي كِفَّة الْمِيزَان فَتَثْقُل حَسَنَاته عَلَى سَيِّئَاته ; فَذَلِكَ قَوْله : " فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ "
قَالَ اِبْن عَبَّاس : تُوزَن الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَات فِي مِيزَان لَهُ لِسَان وَكِفَّتَانِ ; فَأَمَّا الْمُؤْمِن فَيُؤْتَى بِعَمَلِهِ فِي أَحْسَن صُورَة فَيُوضَع فِي كِفَّة الْمِيزَان فَتَثْقُل حَسَنَاته عَلَى سَيِّئَاته ; فَذَلِكَ قَوْله : " فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ "
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ↓
يُؤْتَى بِعَمَلِ الْكَافِر فِي أَقْبَح صُورَة فَيُوضَع فِي كِفَّة الْمِيزَان فَيَخِفّ وَزْنه حَتَّى يَقَع فِي النَّار . وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ اِبْن عَبَّاس قَرِيب مِمَّا قِيلَ : يَخْلُق اللَّه تَعَالَى كُلّ جُزْء مِنْ أَعْمَال الْعِبَاد جَوْهَرًا فَيَقَع الْوَزْن عَلَى تِلْكَ الْجَوَاهِر . وَرَدَّهُ اِبْن فُورك وَغَيْره . وَفِي الْخَبَر ( إِذَا خَفَّتْ حَسَنَات الْمُؤْمِن أَخْرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاقَة كَالْأُنْمُلَةِ فَيُلْقِيهَا فِي كِفَّة الْمِيزَان الْيُمْنَى الَّتِي فِيهَا حَسَنَاته فَتَرْجَح الْحَسَنَات فَيَقُول ذَلِكَ الْعَبْد الْمُؤْمِن لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! مَا أَحْسَنَ وَجْهَك وَمَا أَحْسَنَ خَلْقَك فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُول أَنَا مُحَمَّد نَبِيُّك وَهَذِهِ صَلَوَاتك الَّتِي كُنْت تُصَلِّي عَلَيَّ قَدْ وَفَّيْتُك أَحْوَج مَا تَكُون إِلَيْهَا ) . ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ فِي تَفْسِيره . وَذَكَرَ أَنَّ الْبِطَاقَة ( بِكَسْرِ الْبَاء ) رُقْعَة فِيهَا رَقْم الْمَتَاع بِلُغَةِ أَهْل مِصْر . وَقَالَ اِبْن مَاجَهْ : قَالَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى : الْبِطَاقَة الرُّقْعَة , وَأَهْل مِصْر يَقُولُونَ لِلرُّقْعَةِ بِطَاقَة . وَقَالَ حُذَيْفَة : صَاحِب الْمَوَازِين يَوْم الْقِيَامَة جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام , يَقُول اللَّه تَعَالَى : ( يَا جِبْرِيل زِنْ بَيْنهمْ فَرُدَّ مِنْ بَعْض عَلَى بَعْض ) . قَالَ : وَلَيْسَ ثَمَّ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّة ; فَإِنْ كَانَ لِلظَّالِمِ حَسَنَات أُخِذَ مِنْ حَسَنَاته فَرُدَّ عَلَى الْمَظْلُوم , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَات أُخِذَ مِنْ سَيِّئَات الْمَظْلُوم فَتُحْمَل عَلَى الظَّالِم ; فَيَرْجِع الرَّجُل وَعَلَيْهِ مِثْل الْجِبَال . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة يَا آدَم اُبْرُزْ إِلَى جَانِب الْكُرْسِيّ عِنْد الْمِيزَان وَانْظُرْ مَا يُرْفَع إِلَيْك مِنْ أَعْمَال بَنِيك فَمَنْ رَجَحَ خَيْره عَلَى شَرّه مِثْقَال حَبَّة فَلَهُ الْجَنَّة وَمَنْ رَجَحَ شَرّه عَلَى خَيْره مِثْقَال حَبَّة فَلَهُ النَّار حَتَّى تَعْلَم أَنِّي لَا أُعَذِّب إِلَّا ظَالِمًا ) .
أَيْ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ قَرَارًا وَمِهَادًا , وَهَيَّأْنَا لَكُمْ فِيهَا أَسْبَاب الْمَعِيشَة . وَالْمَعَايِش جَمْع مَعِيشَة , أَيْ مَا يُتَعَيَّش بِهِ مِنْ الْمَطْعَم وَالْمَشْرَب وَمَا تَكُون بِهِ الْحَيَاة . يُقَال : عَاشَ يَعِيش عَيْشًا وَمَعَاشًا وَمَعِيشًا وَمَعِيشَة وَعِيشَة . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعِيشَة مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْعَيْش . وَمَعِيشَة فِي قَوْل الْأَخْفَش وَكَثِير مِنْ النَّحْوِيِّينَ مَفْعَلَة . وَقَرَأَ الْأَعْرَج : " مَعَائِش " بِالْهَمْزِ . وَكَذَا رَوَى خَارِجَة بْن مُصْعَب عَنْ نَافِع . قَالَ النَّحَّاس : وَالْهَمْز لَحْن لَا يَجُوز ; لِأَنَّ الْوَاحِدَة مَعِيشَة , أَصْلهَا مَعِيشَة , فَزِيدَتْ أَلِف الْوَصْل وَهِيَ سَاكِنَة وَالْيَاء سَاكِنَة , فَلَا بُدّ مِنْ تَحْرِيك إِذْ لَا سَبِيل إِلَى الْحَذْف , وَالْأَلِف لَا تُحَرَّك فَحُرِّكَتْ الْيَاء بِمَا كَانَ يَجِب لَهَا فِي الْوَاحِد . وَنَظِيره مِنْ الْوَاو مَنَارَة وَمَنَاوِر , وَمَقَام وَمَقَاوِم ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَإِنِّي لَقَوَّام مَقَاوِم لَمْ يَكُنْ جَرِير وَلَا مَوْلَى جَرِير يَقُومهَا وَكَذَا مُصِيبَة وَمَصَاوِب . هَذَا الْجَيِّد , وَلُغَة شَاذَّة مَصَائِب . قَالَ الْأَخْفَش : إِنَّمَا جَازَ مَصَائِب ; لِأَنَّ الْوَاحِدَة مُعْتَلَّة . قَالَ الزَّجَّاج : هَذَا خَطَأ يَلْزَمهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُول مَقَائِم . وَلَكِنَّ الْقَوْل أَنَّهُ مِثْل وِسَادَة وَإِسَادَة . وَقِيلَ : لَمْ يَجُزْ الْهَمْز فِي مَعَايِش لِأَنَّ الْمَعِيشَة مَفْعَلَة ; فَالْيَاء أَصْلِيَّة , وَإِنَّمَا يُهْمَز إِذَا كَانَتْ الْيَاء زَائِدَة مِثْل مَدِينَة وَمَدَائِن , وَصَحِيفَة وَصَحَائِف , وَكَرِيمَة وَكَرَائِم , وَوَظِيفَة وَوَظَائِف , وَشَبَهه .
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ↓
لَمَّا ذَكَرَ نِعَمَهُ ذَكَرَ اِبْتِدَاء خَلْقه . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْخَلْق فِي غَيْر مَوْضِع " ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ " أَيْ خَلَقْنَاكُمْ نُطَفًا ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ , ثُمَّ إِنَّا نُخْبِركُمْ أَنَّا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَم . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَغَيْرهمَا : الْمَعْنَى خَلَقْنَا آدَم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي ظَهْره . وَقَالَ الْأَخْفَش : " ثُمَّ " بِمَعْنَى الْوَاو . وَقِيلَ : الْمَعْنَى " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ " يَعْنِي آدَم عَلَيْهِ السَّلَام , ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَم , ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ; عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير . وَقِيلَ : " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ " يَعْنِي آدَم ; ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْع لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَر . " ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ " رَاجِع إِلَيْهِ أَيْضًا . كَمَا يُقَال : نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ ; أَيْ قَتَلْنَا سَيِّدَكُمْ .
" ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَم " وَعَلَى هَذَا لَا تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ , يُرِيد آدَم وَحَوَّاء ; فَآدَم مِنْ التُّرَاب وَحَوَّاء مِنْ ضِلَع مِنْ أَضْلَاعه , ثُمَّ وَقَعَ التَّصْوِير بَعْد ذَلِكَ . فَالْمَعْنَى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَبَوَيْكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُمَا ; قَالَهُ الْحَسَن . وَقِيلَ : الْمَعْنَى خَلَقْنَاكُمْ فِي ظَهْر آدَم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ حِين أَخَذْنَا عَلَيْكُمْ الْمِيثَاق . هَذَا قَوْل مُجَاهِد , رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن جُرَيْج وَابْن أَبِي نَجِيح . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا أَحْسَن الْأَقْوَال . يَذْهَب مُجَاهِد إِلَى أَنَّهُ خَلَقَهُمْ فِي ظَهْر آدَم , ثُمَّ صَوَّرَهُمْ حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ , ثُمَّ كَانَ السُّجُود بَعْد . وَيُقَوِّي هَذَا " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّتهمْ " [ الْأَعْرَاف : 172 ] . وَالْحَدِيث ( أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ أَمْثَال الذَّرّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاق ) . وَقِيلَ : " ثُمَّ " لِلْإِخْبَارِ , أَيْ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ يَعْنِي فِي ظَهْر آدَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أَيْ فِي الْأَرْحَام . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا صَحِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس . قُلْت : كُلّ هَذِهِ الْأَقْوَال مُحْتَمَل , وَالصَّحِيح مِنْهَا مَا يُعَضِّدُهُ التَّنْزِيل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين " [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 ] يَعْنِي آدَم . وَقَالَ : " وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا " [ النِّسَاء : 1 ] . ثُمَّ قَالَ : " جَعَلْنَاهُ " أَيْ جَعَلْنَا نَسْلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ " نُطْفَة فِي قَرَار مَكِين " [ الْمُؤْمِنُونَ : 13 ] الْآيَة . فَآدَم خُلِقَ مِنْ طِينٍ ثُمَّ صُوِّرَ وَأُكْرِمَ بِالسُّجُودِ , وَذُرِّيَّته صُوِّرُوا فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات بَعْد أَنْ خُلِقُوا فِيهَا وَفِي أَصْلَاب الْآبَاء . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل سُورَة " الْأَنْعَام " أَنَّ كُلّ إِنْسَان مَخْلُوق مِنْ نُطْفَة وَتُرْبَة ; فَتَأَمَّلْهُ وَقَالَ هُنَا : " خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ " وَقَالَ فِي آخِر الْحَشْر : " هُوَ اللَّه الْخَالِق الْبَارِئ الْمُصَوِّر " [ الْحَشْر : 24 ] . فَذَكَرَ التَّصْوِير بَعْد الْبَرْء . وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : مَعْنَى " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ " أَيْ خَلْقنَا الْأَرْوَاح أَوَّلًا ثُمَّ صَوَّرْنَا الْأَشْبَاح آخِرًا .
اِسْتِثْنَاء مِنْ غَيْر الْجِنْس . وَقِيلَ : مِنْ الْجِنْس . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء : هَلْ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَة أَمْ لَا . كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي " الْبَقَرَة "
" ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَم " وَعَلَى هَذَا لَا تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ , يُرِيد آدَم وَحَوَّاء ; فَآدَم مِنْ التُّرَاب وَحَوَّاء مِنْ ضِلَع مِنْ أَضْلَاعه , ثُمَّ وَقَعَ التَّصْوِير بَعْد ذَلِكَ . فَالْمَعْنَى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَبَوَيْكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُمَا ; قَالَهُ الْحَسَن . وَقِيلَ : الْمَعْنَى خَلَقْنَاكُمْ فِي ظَهْر آدَم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ حِين أَخَذْنَا عَلَيْكُمْ الْمِيثَاق . هَذَا قَوْل مُجَاهِد , رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن جُرَيْج وَابْن أَبِي نَجِيح . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا أَحْسَن الْأَقْوَال . يَذْهَب مُجَاهِد إِلَى أَنَّهُ خَلَقَهُمْ فِي ظَهْر آدَم , ثُمَّ صَوَّرَهُمْ حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ , ثُمَّ كَانَ السُّجُود بَعْد . وَيُقَوِّي هَذَا " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّتهمْ " [ الْأَعْرَاف : 172 ] . وَالْحَدِيث ( أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ أَمْثَال الذَّرّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاق ) . وَقِيلَ : " ثُمَّ " لِلْإِخْبَارِ , أَيْ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ يَعْنِي فِي ظَهْر آدَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أَيْ فِي الْأَرْحَام . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا صَحِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس . قُلْت : كُلّ هَذِهِ الْأَقْوَال مُحْتَمَل , وَالصَّحِيح مِنْهَا مَا يُعَضِّدُهُ التَّنْزِيل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين " [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 ] يَعْنِي آدَم . وَقَالَ : " وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا " [ النِّسَاء : 1 ] . ثُمَّ قَالَ : " جَعَلْنَاهُ " أَيْ جَعَلْنَا نَسْلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ " نُطْفَة فِي قَرَار مَكِين " [ الْمُؤْمِنُونَ : 13 ] الْآيَة . فَآدَم خُلِقَ مِنْ طِينٍ ثُمَّ صُوِّرَ وَأُكْرِمَ بِالسُّجُودِ , وَذُرِّيَّته صُوِّرُوا فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات بَعْد أَنْ خُلِقُوا فِيهَا وَفِي أَصْلَاب الْآبَاء . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل سُورَة " الْأَنْعَام " أَنَّ كُلّ إِنْسَان مَخْلُوق مِنْ نُطْفَة وَتُرْبَة ; فَتَأَمَّلْهُ وَقَالَ هُنَا : " خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ " وَقَالَ فِي آخِر الْحَشْر : " هُوَ اللَّه الْخَالِق الْبَارِئ الْمُصَوِّر " [ الْحَشْر : 24 ] . فَذَكَرَ التَّصْوِير بَعْد الْبَرْء . وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : مَعْنَى " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ " أَيْ خَلْقنَا الْأَرْوَاح أَوَّلًا ثُمَّ صَوَّرْنَا الْأَشْبَاح آخِرًا .
اِسْتِثْنَاء مِنْ غَيْر الْجِنْس . وَقِيلَ : مِنْ الْجِنْس . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء : هَلْ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَة أَمْ لَا . كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي " الْبَقَرَة "
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ↓
" مَا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ ; أَيْ أَيُّ شَيْء مَنَعَك . وَهَذَا سُؤَال تَوْبِيخ .
فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ مِنْ أَنْ تَسْجُد . وَ " لَا " زَائِدَة . وَفِي ص " مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد " [ ص : 75 ] وَقَالَ الشَّاعِر : أَبَى جُوده لَا الْبُخْل فَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنْ فَتًى لَا يَمْنَع الْجُود نَائِله أَرَادَ أَبَى جُوده الْبُخْل , فَزَادَ " لَا " . وَقِيلَ : لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ ; فَإِنَّ الْمَنْع فِيهِ طَرَف مِنْ الْقَوْل وَالدُّعَاء , فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَالَ لَك أَلَّا تَسْجُد ؟ أَوْ مَنْ دَعَاك إِلَى أَلَّا تَسْجُد ؟ كَمَا تَقُول : قَدْ قُلْت لَك أَلَّا تَفْعَل كَذَا . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , وَالتَّقْدِير : مَا مَنَعَك مِنْ الطَّاعَة وَأَحْوَجَك إِلَى أَلَّا تَسْجُد . قَالَ الْعُلَمَاء : الَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى تَرْك السُّجُود هُوَ الْكِبْر وَالْحَسَد ; وَكَانَ أَضْمَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسه إِذَا أُمِرَ بِذَلِكَ . وَكَانَ أَمْره مِنْ قَبْل خَلْق آدَم ; يَقُول اللَّه تَعَالَى : " إِنِّي خَالِق بَشَرًا مِنْ طِين . فَإِذَا سَوَّيْته وَنَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ " [ ص : 71 - 72 ] . فَكَأَنَّهُ دَخَلَهُ أَمْر عَظِيم مِنْ قَوْله " فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ " . فَإِنَّ فِي الْوُقُوع تَوْضِيع الْوَاقِع وَتَشْرِيفًا لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ; فَأَضْمَرَ فِي نَفْسه أَلَّا يَسْجُد إِذَا أَمَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْت . فَلَمَّا نُفِخَ فِيهِ الرُّوح وَقَعَتْ الْمَلَائِكَة سُجَّدًا , وَبَقِيَ هُوَ قَائِمًا بَيْن أَظْهُرِهِمْ ; فَأَظْهَرَ بِقِيَامِهِ وَتَرَكَ السُّجُود مَا فِي ضَمِيره . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد " أَيْ مَا مَنَعَك مِنْ الِانْقِيَاد لِأَمْرِي ; فَأَخْرَجَ سِرَّ ضَمِيره فَقَالَ : " أَنَا خَيْر مِنْهُ " .
يَدُلّ عَلَى مَا يَقُولهُ الْفُقَهَاء مِنْ أَنَّ الْأَمْر يَقْتَضِي الْوُجُوب بِمُطْلَقِهِ مِنْ غَيْر قَرِينَة ; لِأَنَّ الذَّمّ عُلِّقَ عَلَى تَرْك الْأَمْر الْمُطْلَق الَّذِي هُوَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ : " اُسْجُدُوا لِآدَم " وَهَذَا بَيِّن .
أَيْ مَنَعَنِي مِنْ السُّجُود فَضْلِي عَلَيْهِ ; فَهَذَا مِنْ إِبْلِيس جَوَاب عَلَى الْمَعْنَى . كَمَا تَقُول : لِمَنْ هَذِهِ الدَّار ؟ فَيَقُول الْمُخَاطَب : مَالِكهَا زَيْد . فَلَيْسَ هَذَا عَيْن الْجَوَاب , بَلْ هُوَ كَلَام يَرْجِع إِلَى مَعْنَى الْجَوَاب .
فَرَأَى أَنَّ النَّار أَشْرَف مِنْ الطِّين ; لِعُلُوِّهَا وَصُعُودهَا وَخِفَّتِهَا , وَلِأَنَّهَا جَوْهَر مُضِيء . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ : أَوَّل مَنْ قَاسَ إِبْلِيس فَأَخْطَأَ الْقِيَاس . فَمَنْ قَاسَ الدِّين بِرَأْيِهِ قَرَنَهُ مَعَ إِبْلِيس . قَالَ اِبْن سِيرِينَ : وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ . وَقَالَتْ الْحُكَمَاء : أَخْطَأَ عَدُوّ اللَّه مِنْ حَيْثُ فَضَّلَ النَّار عَلَى الطِّين , وَإِنْ كَانَا فِي دَرَجَة وَاحِدَة مِنْ حَيْثُ هِيَ جَمَاد مَخْلُوق . فَإِنَّ الطِّين أَفْضَل مِنْ النَّار مِنْ وُجُوه أَرْبَعَة : أَحَدهَا : أَنَّ مِنْ جَوْهَر الطِّين الرَّزَانَة وَالسُّكُون , وَالْوَقَار وَالْأَنَاة , وَالْحِلْم , وَالْحَيَاء , وَالصَّبْر . وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِآدَم عَلَيْهِ السَّلَام بَعْد السَّعَادَة الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى التَّوْبَة وَالتَّوَاضُع وَالتَّضَرُّع , فَأَوْرَثَهُ الْمَغْفِرَة وَالِاجْتِبَاء وَالْهِدَايَة . وَمِنْ جَوْهَر النَّار الْخِفَّة , وَالطَّيْش , وَالْحِدَّة , وَالِارْتِفَاع , وَالِاضْطِرَاب . وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِإِبْلِيس بَعْد الشَّقَاوَة الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى الِاسْتِكْبَار وَالْإِصْرَار ; فَأَوْرَثَهُ الْهَلَاك وَالْعَذَاب وَاللَّعْنَة وَالشَّقَاء ; قَالَهُ الْقَفَّال . الثَّانِي : أَنَّ الْخَبَر نَاطِق بِأَنَّ تُرَاب الْجَنَّة مِسْك أَذْفَر , وَلَمْ يَنْطِق الْخَبَر بِأَنَّ فِي الْجَنَّة نَارًا وَأَنَّ فِي النَّار تُرَابًا . الثَّالِث : أَنَّ النَّار سَبَب الْعَذَاب , وَهِيَ عَذَاب اللَّه لِأَعْدَائِهِ ; وَلَيْسَ التُّرَاب سَبَبًا لِلْعَذَابِ . الرَّابِع : أَنَّ الطِّين مُسْتَغْنٍ عَنْ النَّار , وَالنَّار مُحْتَاجَة إِلَى الْمَكَان وَمَكَانهَا التُّرَاب . قُلْت : وَيَحْتَمِل قَوْلًا خَامِسًا , وَهُوَ أَنَّ التُّرَاب مَسْجِد وَطَهُور ; كَمَا جَاءَ فِي صَحِيح الْحَدِيث . وَالنَّار تَخْوِيف وَعَذَاب ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " ذَلِكَ يُخَوِّف اللَّه بِهِ عِبَاده " [ الزُّمَر : 16 ] . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ الطَّاعَة أَوْلَى بِإِبْلِيسَ مِنْ الْقِيَاس فَعَصَى رَبّه , وَهُوَ أَوَّل مَنْ قَاسَ بِرَأْيِهِ . وَالْقِيَاس فِي مُخَالَفَة النَّصّ مَرْدُود . الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الْقِيَاس إِلَى قَائِلٍ بِهِ , وَرَادٍّ لَهُ ; فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِهِ فَهُمْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ , وَجُمْهُور مَنْ بَعْدَهُمْ , وَأَنَّ التَّعَبُّد بِهِ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ شَرْعًا , وَهُوَ الصَّحِيح . وَذَهَبَ الْقَفَّال مِنْ الشَّافِعِيَّة وَأَبُو الْحَسَن الْبَصْرِيّ إِلَى وُجُوب التَّعَبُّد بِهِ عَقْلًا . وَذَهَبَ النَّظَّام إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيل التَّعَبُّد بِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا ; وَرَدَّهُ بَعْض أَهْل الظَّاهِر . وَالْأَوَّل الصَّحِيح . قَالَ الْبُخَارِيّ فِي ( كِتَاب الِاعْتِصَام بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة ) : الْمَعْنَى لَا عِصْمَة لِأَحَدٍ إِلَّا فِي كِتَاب اللَّه أَوْ سُنَّة نَبِيّه أَوْ فِي إِجْمَاع الْعُلَمَاء إِذَا وُجِدَ فِيهَا الْحُكْم فَإِنْ لَمْ يُوجَد فَالْقِيَاس . وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَى هَذَا ( بَاب مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهَا لِيَفْهَمَ السَّائِلُ ) . وَتَرْجَمَ بَعْد هَذَا ( بَاب الْأَحْكَام الَّتِي تُعْرَف بِالدَّلَائِلِ وَكَيْفَ مَعْنَى الدَّلَالَة وَتَفْسِيرهَا ) . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِنْبَاط مِنْ كِتَاب اللَّه وَسُنَّة نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاع الْأُمَّة هُوَ الْحَقّ الْوَاجِب , وَالْفَرْض اللَّازِم لِأَهْلِ الْعِلْم . وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الْأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعَنْ جَمَاعَة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ . وَقَالَ أَبُو تَمَّام الْمَالِكِيّ : أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى الْقِيَاس ; فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى قِيَاس الذَّهَب وَالْوَرِق فِي الزَّكَاة . وَقَالَ أَبُو بَكْر : أَقِيلُونِي بَيْعَتِي . فَقَالَ عَلِيّ : وَاَللَّه لَا نُقِيلُك وَلَا نَسْتَقِيلُك , رَضِيَك رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاك لِدُنْيَانَا ؟ فَقَاسَ الْإِمَامَة عَلَى الصَّلَاة . وَقَاسَ الصِّدِّيق الزَّكَاة عَلَى الصَّلَاة وَقَالَ : وَاَللَّه لَا أُفَرِّق بَيْن مَا جَمَعَ اللَّه . وَصَرَّحَ عَلِيّ بِالْقِيَاسِ فِي شَارِب الْخَمْر بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَة وَقَالَ : إِنَّهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى , وَإِذَا هَذَى اِفْتَرَى ; فَحَدُّهُ حَدُّ الْقَاذِف . وَكَتَبَ عُمَر إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ كِتَابًا فِيهِ : الْفَهْم الْفَهْم فِيمَا يَخْتَلِج فِي صَدْرك مِمَّا لَمْ يَبْلُغْك فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة , اعْرِف الْأَمْثَال وَالْأَشْبَاه , ثُمَّ قِسْ الْأُمُور عِنْد ذَلِكَ , فَاعْمِدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّه تَعَالَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى . الْحَدِيث بِطُولِهِ ذَكَرَهُ الدَّار قُطْنِيّ . وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي حَدِيث الْوَبَاء , حِين رَجَعَ عُمَر مِنْ سَرْغ : نَفِرُّ مِنْ قَدَر اللَّه ؟ فَقَالَ عُمَر : نَعَمْ ! نَفِرُّ مِنْ قَدَر اللَّه إِلَى قَدَر اللَّه . ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَر : أَرَأَيْت . . . فَقَايَسَهُ وَنَاظَرَهُ بِمَا يُشْبِه مِنْ مَسْأَلَته بِمَحْضَرٍ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار , وَحَسْبُك . وَأَمَّا الْآثَار وَآي الْقُرْآن فِي هَذَا الْمَعْنَى فَكَثِير . وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاس أَصْل مِنْ أُصُول الدِّين , وَعِصْمَة مِنْ عِصَم الْمُسْلِمِينَ , يَرْجِع إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ , وَيَفْزَع إِلَيْهِ الْعُلَمَاء الْعَامِلُونَ , فَيَسْتَنْبِطُونَ بِهِ الْأَحْكَام . وَهَذَا قَوْل الْجَمَاعَة الَّذِينَ هُمْ الْحُجَّة , وَلَا يُلْتَفَت إِلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا . وَأَمَّا الرَّأْي الْمَذْمُوم وَالْقِيَاس الْمُتَكَلَّف الْمَنْهِيّ عَنْهُ فَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الْأُصُول الْمَذْكُورَة ; لِأَنَّ ذَلِكَ ظَنٌّ وَنَزْغٌ مِنْ الشَّيْطَان ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم " [ الْإِسْرَاء : 36 ] . وَكُلّ مَا يُورِدهُ الْمُخَالِف مِنْ الْأَحَادِيث الضَّعِيفَة وَالْأَخْبَار الْوَاهِيَة فِي ذَمّ الْقِيَاس فَهِيَ مَحْمُولَة عَلَى هَذَا النَّوْع مِنْ الْقِيَاس الْمَذْمُوم , الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْع أَصْل مَعْلُوم . وَتَتْمِيم هَذَا الْبَاب فِي كُتُب الْأُصُول .
فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ مِنْ أَنْ تَسْجُد . وَ " لَا " زَائِدَة . وَفِي ص " مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد " [ ص : 75 ] وَقَالَ الشَّاعِر : أَبَى جُوده لَا الْبُخْل فَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنْ فَتًى لَا يَمْنَع الْجُود نَائِله أَرَادَ أَبَى جُوده الْبُخْل , فَزَادَ " لَا " . وَقِيلَ : لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ ; فَإِنَّ الْمَنْع فِيهِ طَرَف مِنْ الْقَوْل وَالدُّعَاء , فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَالَ لَك أَلَّا تَسْجُد ؟ أَوْ مَنْ دَعَاك إِلَى أَلَّا تَسْجُد ؟ كَمَا تَقُول : قَدْ قُلْت لَك أَلَّا تَفْعَل كَذَا . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , وَالتَّقْدِير : مَا مَنَعَك مِنْ الطَّاعَة وَأَحْوَجَك إِلَى أَلَّا تَسْجُد . قَالَ الْعُلَمَاء : الَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى تَرْك السُّجُود هُوَ الْكِبْر وَالْحَسَد ; وَكَانَ أَضْمَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسه إِذَا أُمِرَ بِذَلِكَ . وَكَانَ أَمْره مِنْ قَبْل خَلْق آدَم ; يَقُول اللَّه تَعَالَى : " إِنِّي خَالِق بَشَرًا مِنْ طِين . فَإِذَا سَوَّيْته وَنَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ " [ ص : 71 - 72 ] . فَكَأَنَّهُ دَخَلَهُ أَمْر عَظِيم مِنْ قَوْله " فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ " . فَإِنَّ فِي الْوُقُوع تَوْضِيع الْوَاقِع وَتَشْرِيفًا لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ; فَأَضْمَرَ فِي نَفْسه أَلَّا يَسْجُد إِذَا أَمَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْت . فَلَمَّا نُفِخَ فِيهِ الرُّوح وَقَعَتْ الْمَلَائِكَة سُجَّدًا , وَبَقِيَ هُوَ قَائِمًا بَيْن أَظْهُرِهِمْ ; فَأَظْهَرَ بِقِيَامِهِ وَتَرَكَ السُّجُود مَا فِي ضَمِيره . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد " أَيْ مَا مَنَعَك مِنْ الِانْقِيَاد لِأَمْرِي ; فَأَخْرَجَ سِرَّ ضَمِيره فَقَالَ : " أَنَا خَيْر مِنْهُ " .
يَدُلّ عَلَى مَا يَقُولهُ الْفُقَهَاء مِنْ أَنَّ الْأَمْر يَقْتَضِي الْوُجُوب بِمُطْلَقِهِ مِنْ غَيْر قَرِينَة ; لِأَنَّ الذَّمّ عُلِّقَ عَلَى تَرْك الْأَمْر الْمُطْلَق الَّذِي هُوَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ : " اُسْجُدُوا لِآدَم " وَهَذَا بَيِّن .
أَيْ مَنَعَنِي مِنْ السُّجُود فَضْلِي عَلَيْهِ ; فَهَذَا مِنْ إِبْلِيس جَوَاب عَلَى الْمَعْنَى . كَمَا تَقُول : لِمَنْ هَذِهِ الدَّار ؟ فَيَقُول الْمُخَاطَب : مَالِكهَا زَيْد . فَلَيْسَ هَذَا عَيْن الْجَوَاب , بَلْ هُوَ كَلَام يَرْجِع إِلَى مَعْنَى الْجَوَاب .
فَرَأَى أَنَّ النَّار أَشْرَف مِنْ الطِّين ; لِعُلُوِّهَا وَصُعُودهَا وَخِفَّتِهَا , وَلِأَنَّهَا جَوْهَر مُضِيء . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ : أَوَّل مَنْ قَاسَ إِبْلِيس فَأَخْطَأَ الْقِيَاس . فَمَنْ قَاسَ الدِّين بِرَأْيِهِ قَرَنَهُ مَعَ إِبْلِيس . قَالَ اِبْن سِيرِينَ : وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ . وَقَالَتْ الْحُكَمَاء : أَخْطَأَ عَدُوّ اللَّه مِنْ حَيْثُ فَضَّلَ النَّار عَلَى الطِّين , وَإِنْ كَانَا فِي دَرَجَة وَاحِدَة مِنْ حَيْثُ هِيَ جَمَاد مَخْلُوق . فَإِنَّ الطِّين أَفْضَل مِنْ النَّار مِنْ وُجُوه أَرْبَعَة : أَحَدهَا : أَنَّ مِنْ جَوْهَر الطِّين الرَّزَانَة وَالسُّكُون , وَالْوَقَار وَالْأَنَاة , وَالْحِلْم , وَالْحَيَاء , وَالصَّبْر . وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِآدَم عَلَيْهِ السَّلَام بَعْد السَّعَادَة الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى التَّوْبَة وَالتَّوَاضُع وَالتَّضَرُّع , فَأَوْرَثَهُ الْمَغْفِرَة وَالِاجْتِبَاء وَالْهِدَايَة . وَمِنْ جَوْهَر النَّار الْخِفَّة , وَالطَّيْش , وَالْحِدَّة , وَالِارْتِفَاع , وَالِاضْطِرَاب . وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِإِبْلِيس بَعْد الشَّقَاوَة الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى الِاسْتِكْبَار وَالْإِصْرَار ; فَأَوْرَثَهُ الْهَلَاك وَالْعَذَاب وَاللَّعْنَة وَالشَّقَاء ; قَالَهُ الْقَفَّال . الثَّانِي : أَنَّ الْخَبَر نَاطِق بِأَنَّ تُرَاب الْجَنَّة مِسْك أَذْفَر , وَلَمْ يَنْطِق الْخَبَر بِأَنَّ فِي الْجَنَّة نَارًا وَأَنَّ فِي النَّار تُرَابًا . الثَّالِث : أَنَّ النَّار سَبَب الْعَذَاب , وَهِيَ عَذَاب اللَّه لِأَعْدَائِهِ ; وَلَيْسَ التُّرَاب سَبَبًا لِلْعَذَابِ . الرَّابِع : أَنَّ الطِّين مُسْتَغْنٍ عَنْ النَّار , وَالنَّار مُحْتَاجَة إِلَى الْمَكَان وَمَكَانهَا التُّرَاب . قُلْت : وَيَحْتَمِل قَوْلًا خَامِسًا , وَهُوَ أَنَّ التُّرَاب مَسْجِد وَطَهُور ; كَمَا جَاءَ فِي صَحِيح الْحَدِيث . وَالنَّار تَخْوِيف وَعَذَاب ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " ذَلِكَ يُخَوِّف اللَّه بِهِ عِبَاده " [ الزُّمَر : 16 ] . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ الطَّاعَة أَوْلَى بِإِبْلِيسَ مِنْ الْقِيَاس فَعَصَى رَبّه , وَهُوَ أَوَّل مَنْ قَاسَ بِرَأْيِهِ . وَالْقِيَاس فِي مُخَالَفَة النَّصّ مَرْدُود . الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الْقِيَاس إِلَى قَائِلٍ بِهِ , وَرَادٍّ لَهُ ; فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِهِ فَهُمْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ , وَجُمْهُور مَنْ بَعْدَهُمْ , وَأَنَّ التَّعَبُّد بِهِ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ شَرْعًا , وَهُوَ الصَّحِيح . وَذَهَبَ الْقَفَّال مِنْ الشَّافِعِيَّة وَأَبُو الْحَسَن الْبَصْرِيّ إِلَى وُجُوب التَّعَبُّد بِهِ عَقْلًا . وَذَهَبَ النَّظَّام إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيل التَّعَبُّد بِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا ; وَرَدَّهُ بَعْض أَهْل الظَّاهِر . وَالْأَوَّل الصَّحِيح . قَالَ الْبُخَارِيّ فِي ( كِتَاب الِاعْتِصَام بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة ) : الْمَعْنَى لَا عِصْمَة لِأَحَدٍ إِلَّا فِي كِتَاب اللَّه أَوْ سُنَّة نَبِيّه أَوْ فِي إِجْمَاع الْعُلَمَاء إِذَا وُجِدَ فِيهَا الْحُكْم فَإِنْ لَمْ يُوجَد فَالْقِيَاس . وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَى هَذَا ( بَاب مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهَا لِيَفْهَمَ السَّائِلُ ) . وَتَرْجَمَ بَعْد هَذَا ( بَاب الْأَحْكَام الَّتِي تُعْرَف بِالدَّلَائِلِ وَكَيْفَ مَعْنَى الدَّلَالَة وَتَفْسِيرهَا ) . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِنْبَاط مِنْ كِتَاب اللَّه وَسُنَّة نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاع الْأُمَّة هُوَ الْحَقّ الْوَاجِب , وَالْفَرْض اللَّازِم لِأَهْلِ الْعِلْم . وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الْأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعَنْ جَمَاعَة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ . وَقَالَ أَبُو تَمَّام الْمَالِكِيّ : أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى الْقِيَاس ; فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى قِيَاس الذَّهَب وَالْوَرِق فِي الزَّكَاة . وَقَالَ أَبُو بَكْر : أَقِيلُونِي بَيْعَتِي . فَقَالَ عَلِيّ : وَاَللَّه لَا نُقِيلُك وَلَا نَسْتَقِيلُك , رَضِيَك رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاك لِدُنْيَانَا ؟ فَقَاسَ الْإِمَامَة عَلَى الصَّلَاة . وَقَاسَ الصِّدِّيق الزَّكَاة عَلَى الصَّلَاة وَقَالَ : وَاَللَّه لَا أُفَرِّق بَيْن مَا جَمَعَ اللَّه . وَصَرَّحَ عَلِيّ بِالْقِيَاسِ فِي شَارِب الْخَمْر بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَة وَقَالَ : إِنَّهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى , وَإِذَا هَذَى اِفْتَرَى ; فَحَدُّهُ حَدُّ الْقَاذِف . وَكَتَبَ عُمَر إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ كِتَابًا فِيهِ : الْفَهْم الْفَهْم فِيمَا يَخْتَلِج فِي صَدْرك مِمَّا لَمْ يَبْلُغْك فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة , اعْرِف الْأَمْثَال وَالْأَشْبَاه , ثُمَّ قِسْ الْأُمُور عِنْد ذَلِكَ , فَاعْمِدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّه تَعَالَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى . الْحَدِيث بِطُولِهِ ذَكَرَهُ الدَّار قُطْنِيّ . وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي حَدِيث الْوَبَاء , حِين رَجَعَ عُمَر مِنْ سَرْغ : نَفِرُّ مِنْ قَدَر اللَّه ؟ فَقَالَ عُمَر : نَعَمْ ! نَفِرُّ مِنْ قَدَر اللَّه إِلَى قَدَر اللَّه . ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَر : أَرَأَيْت . . . فَقَايَسَهُ وَنَاظَرَهُ بِمَا يُشْبِه مِنْ مَسْأَلَته بِمَحْضَرٍ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار , وَحَسْبُك . وَأَمَّا الْآثَار وَآي الْقُرْآن فِي هَذَا الْمَعْنَى فَكَثِير . وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاس أَصْل مِنْ أُصُول الدِّين , وَعِصْمَة مِنْ عِصَم الْمُسْلِمِينَ , يَرْجِع إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ , وَيَفْزَع إِلَيْهِ الْعُلَمَاء الْعَامِلُونَ , فَيَسْتَنْبِطُونَ بِهِ الْأَحْكَام . وَهَذَا قَوْل الْجَمَاعَة الَّذِينَ هُمْ الْحُجَّة , وَلَا يُلْتَفَت إِلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا . وَأَمَّا الرَّأْي الْمَذْمُوم وَالْقِيَاس الْمُتَكَلَّف الْمَنْهِيّ عَنْهُ فَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الْأُصُول الْمَذْكُورَة ; لِأَنَّ ذَلِكَ ظَنٌّ وَنَزْغٌ مِنْ الشَّيْطَان ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم " [ الْإِسْرَاء : 36 ] . وَكُلّ مَا يُورِدهُ الْمُخَالِف مِنْ الْأَحَادِيث الضَّعِيفَة وَالْأَخْبَار الْوَاهِيَة فِي ذَمّ الْقِيَاس فَهِيَ مَحْمُولَة عَلَى هَذَا النَّوْع مِنْ الْقِيَاس الْمَذْمُوم , الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْع أَصْل مَعْلُوم . وَتَتْمِيم هَذَا الْبَاب فِي كُتُب الْأُصُول .
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ↓
أَيْ مِنْ السَّمَاء .
لِأَنَّ أَهْلَهَا الْمَلَائِكَة الْمُتَوَاضِعُونَ .
أَيْ مِنْ الْأَذَلِّينَ . وَدَلَّ هَذَا أَنَّ مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ فَهُوَ ذَلِيل . وَقَالَ أَبُو رَوْق وَالْبَجَلِيّ : " فَاهْبِطْ مِنْهَا " أَيْ مِنْ صُورَتك الَّتِي أَنْتَ فِيهَا ; لِأَنَّهُ اِفْتَخَرَ بِأَنَّهُ مِنْ النَّار فَشُوِّهَتْ صُورَته بِالْإِظْلَامِ وَزَوَال إِشْرَاقه . وَقِيلَ : " فَاهْبِطْ مِنْهَا " أَيْ اِنْتَقِلْ مِنْ الْأَرْض إِلَى جَزَائِر الْبِحَار ; كَمَا يُقَال : هَبَطْنَا أَرْض كَذَا أَيْ اِنْتَقَلْنَا إِلَيْهَا مِنْ مَكَان آخَر , فَكَأَنَّهُ أُخْرِجَ مِنْ الْأَرْض إِلَى جَزَائِر الْبِحَار فَسُلْطَانه فِيهَا , فَلَا يَدْخُل الْأَرْض إِلَّا كَهَيْئَةِ السَّارِق يَخَاف فِيهَا حَتَّى يَخْرُج مِنْهَا . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَظْهَر . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة "
لِأَنَّ أَهْلَهَا الْمَلَائِكَة الْمُتَوَاضِعُونَ .
أَيْ مِنْ الْأَذَلِّينَ . وَدَلَّ هَذَا أَنَّ مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ فَهُوَ ذَلِيل . وَقَالَ أَبُو رَوْق وَالْبَجَلِيّ : " فَاهْبِطْ مِنْهَا " أَيْ مِنْ صُورَتك الَّتِي أَنْتَ فِيهَا ; لِأَنَّهُ اِفْتَخَرَ بِأَنَّهُ مِنْ النَّار فَشُوِّهَتْ صُورَته بِالْإِظْلَامِ وَزَوَال إِشْرَاقه . وَقِيلَ : " فَاهْبِطْ مِنْهَا " أَيْ اِنْتَقِلْ مِنْ الْأَرْض إِلَى جَزَائِر الْبِحَار ; كَمَا يُقَال : هَبَطْنَا أَرْض كَذَا أَيْ اِنْتَقَلْنَا إِلَيْهَا مِنْ مَكَان آخَر , فَكَأَنَّهُ أُخْرِجَ مِنْ الْأَرْض إِلَى جَزَائِر الْبِحَار فَسُلْطَانه فِيهَا , فَلَا يَدْخُل الْأَرْض إِلَّا كَهَيْئَةِ السَّارِق يَخَاف فِيهَا حَتَّى يَخْرُج مِنْهَا . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَظْهَر . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة "
سَأَلَ النَّظِرَة وَالْإِمْهَال إِلَى يَوْم الْبَعْث وَالْحِسَاب . طَلَبَ أَلَّا يَمُوت لِأَنَّ يَوْم الْبَعْث لَا مَوْت بَعْده ;
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَغَيْرهُمَا : أَنْظَرَهُ إِلَى النَّفْخَة الْأُولَى حَيْثُ يَمُوت الْخَلْق كُلّهمْ . وَكَانَ طَلَبَ الْإِنْظَارَ إِلَى النَّفْخَة الثَّانِيَة حَيْثُ يَقُوم النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ; فَأَبَى اللَّه ذَلِكَ عَلَيْهِ . وَقَالَ : " إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ " وَلَمْ يَتَقَدَّم ذِكْر مَنْ يُبْعَث ; لِأَنَّ الْقِصَّة فِي آدَم وَذُرِّيَّته , فَدَلَّتْ الْقَرِينَة عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ الْمَبْعُوثُونَ .
الْإِغْوَاء إِيقَاع الْغَيّ فِي الْقَلْب ; أَيْ فَبِمَا أَوْقَعْت فِي قَلْبِي مِنْ الْغَيّ وَالْعِنَاد وَالِاسْتِكْبَار . وَهَذَا لِأَنَّ كُفْر إِبْلِيس لَيْسَ كُفْر جَهْل ; بَلْ هُوَ كُفْر عِنَاد وَاسْتِكْبَار . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . قِيلَ : مَعْنَى الْكَلَام الْقَسَم , أَيْ فَبِإِغْوَائِك إِيَّايَ لَأَقْعُدَن لَهُمْ عَلَى صِرَاطِك , أَوْ فِي صِرَاطِك ; فَحُذِفَ . دَلِيل عَلَى هَذَا الْقَوْل قَوْله فِي ( ص ) : " فَبِعِزَّتِك لَأُغْوِيَنهمْ أَجْمَعِينَ " [ ص : 82 ] فَكَأَنَّ إِبْلِيس أَعْظَمَ قَدْرَ إِغْوَاء اللَّه إِيَّاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْلِيط عَلَى الْعِبَاد , فَأَقْسَمَ بِهِ إِعْظَامًا لِقَدْرِهِ عِنْده . وَقِيلَ : الْبَاء بِمَعْنَى اللَّام , كَأَنَّهُ قَالَ : فَلِإِغْوَائِك إِيَّايَ . وَقِيلَ : هِيَ بِمَعْنَى مَعَ , وَالْمَعْنَى فَمَعَ إِغْوَائِك إِيَّايَ . وَقِيلَ : هُوَ اِسْتِفْهَام , كَأَنَّهُ سَأَلَ بِأَيِّ شَيْء أَغْوَاهُ ؟ . وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَكُون : فَبِمَ أَغْوَيْتنِي ؟ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَبِمَا أَهْلَكْتنِي بِلَعْنِك إِيَّايَ . وَالْإِغْوَاء الْإِهْلَاك , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا " [ مَرْيَم : 59 ] أَيْ هَلَاكًا . وَقِيلَ : فَبِمَا أَضْلَلْتنِي . وَالْإِغْوَاء : الْإِضْلَال وَالْإِبْعَاد ; قَالَ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : خَيَّبْتنِي مِنْ رَحْمَتك ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَم عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا أَيْ مَنْ يَخِبْ . وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : يُقَال غَوَى الرَّجُل يَغْوِي غَيًّا إِذَا فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْره , أَوْ فَسَدَ هُوَ فِي نَفْسه . وَهُوَ أَحَد مَعَانِي قَوْله تَعَالَى : " وَعَصَى آدَم رَبّه فَغَوَى " [ طَه : 121 ] أَيْ فَسَدَ عَيْشه فِي الْجَنَّة . وَيُقَال : غَوَى الْفَصِيل إِذَا لَمْ يَدْرِ لَبَن أُمّه . مَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَضَلَّهُ وَخَلَقَ فِيهِ الْكُفْر ; وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْإِغْوَاء فِي هَذَا إِلَى اللَّه تَعَالَى . وَهُوَ الْحَقِيقَة , فَلَا شَيْء فِي الْوُجُود إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوق لَهُ , صَادِر عَنْ إِرَادَته تَعَالَى . وَخَالَفَ الْإِمَامِيَّة وَالْقَدَرِيَّة وَغَيْرهمَا شَيْخَهُمْ إِبْلِيس الَّذِي طَاوَعُوهُ فِي كُلّ مَا زَيَّنَهُ لَهُمْ , وَلَمْ يُطَاوِعُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَيَقُولُونَ : أَخْطَأَ إِبْلِيس , وَهُوَ أَهْل لِلْخَطَأِ حَيْثُ نَسَبَ الْغَوَايَة إِلَى رَبّه , تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ . فَيُقَال لَهُمْ : وَإِبْلِيس وَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْخَطَأِ فَمَا تَصْنَعُونَ فِي نَبِيّ مُكَرَّم مَعْصُوم , وَهُوَ وَنُوح عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ قَالَ لِقَوْمِهِ : " وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْت أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّه يُرِيد أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " [ هُود : 34 ] وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ طَاوُسًا جَاءَهُ رَجُل فِي الْمَسْجِد الْحَرَام , وَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْقَدَرِ , وَكَانَ مِنْ الْفُقَهَاء الْكِبَار ; فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ طَاوُس : تَقُوم أَوْ تُقَام ؟ فَقِيلَ لِطَاوُس : تَقُول هَذَا لِرَجُلٍ فَقِيه ! فَقَالَ : إِبْلِيس أَفْقَه مِنْهُ , يَقُول إِبْلِيس : رَبّ بِمَا أَغْوَيْتنِي . وَيَقُول هَذَا : أَنَا أَغْوِي نَفْسِي .
أَيْ بِالصَّدِّ عَنْهُ , وَتَزْيِين الْبَاطِل حَتَّى يَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ , أَوْ يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ , أَوْ يَخِيبُوا كَمَا خُيِّبَ ; حَسَب مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعَانِي الثَّلَاثَة فِي " أَغْوَيْتنِي " . وَالصِّرَاط الْمُسْتَقِيم هُوَ الطَّرِيق الْمُوَصِّل إِلَى الْجَنَّة . وَ " صِرَاطك " مَنْصُوب عَلَى حَذْف " عَلَى " أَوْ " فِي " مِنْ قَوْله : " صِرَاطك الْمُسْتَقِيم " ; كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ " ضَرَبَ زَيْد الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ " . وَأَنْشَدَ : لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
أَيْ بِالصَّدِّ عَنْهُ , وَتَزْيِين الْبَاطِل حَتَّى يَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ , أَوْ يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ , أَوْ يَخِيبُوا كَمَا خُيِّبَ ; حَسَب مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعَانِي الثَّلَاثَة فِي " أَغْوَيْتنِي " . وَالصِّرَاط الْمُسْتَقِيم هُوَ الطَّرِيق الْمُوَصِّل إِلَى الْجَنَّة . وَ " صِرَاطك " مَنْصُوب عَلَى حَذْف " عَلَى " أَوْ " فِي " مِنْ قَوْله : " صِرَاطك الْمُسْتَقِيم " ; كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ " ضَرَبَ زَيْد الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ " . وَأَنْشَدَ : لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ↓
أَيْ لَأَصُدَّنهُمْ عَنْ الْحَقّ , وَأُرَغِّبَنهُمْ فِي الدُّنْيَا , وَأُشَكِّكهُمْ فِي الْآخِرَة . وَهَذَا غَايَة فِي الضَّلَالَة . كَمَا قَالَ : " وَلْأُضِلَّنهُمْ " [ النِّسَاء : 119 ] حَسَب مَا تَقَدَّمَ . وَرَوَى سُفْيَان عَنْ مَنْصُور عَنْ الْحَكَم بْن عُتَيْبَة : " مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ " مِنْ دُنْيَاهُمْ . " وَمِنْ خَلْفهمْ " مِنْ آخِرَتهمْ . " وَعَنْ أَيْمَانهمْ " يَعْنِي حَسَنَاتهمْ . " وَعَنْ شَمَائِلهمْ " يَعْنِي سَيِّئَاتهمْ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل حَسَن وَشَرْحه : أَنَّ مَعْنَى " ثُمَّ لَآتِيَنهمْ مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ " مِنْ دُنْيَاهُمْ , حَتَّى يُكَذِّبُوا بِمَا فِيهَا مِنْ الْآيَات وَأَخْبَار الْأُمَم السَّالِفَة " وَمِنْ خَلْفهمْ " مِنْ آخِرَتهمْ حَتَّى يُكَذِّبُوا بِهَا . " وَعَنْ أَيْمَانهمْ " مِنْ حَسَنَاتهمْ وَأُمُور دِينهمْ . وَيَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْله : " إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين " [ الصَّافَّات : 28 ] " وَعَنْ شَمَائِلهمْ " يَعْنِي سَيِّئَاتهمْ , أَيْ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَات ; لِأَنَّهُ يُزَيِّنهَا لَهُمْ .
أَيْ مُوَحِّدِينَ طَائِعِينَ مُظْهِرِينَ الشُّكْر .
أَيْ مُوَحِّدِينَ طَائِعِينَ مُظْهِرِينَ الشُّكْر .
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ↓
أَيْ مِنْ الْجَنَّة .
" مَذْءُومًا " أَيْ مَذْمُومًا . وَالذَّأْم : الْعَيْب , بِتَخْفِيفِ الْمِيم . قَالَ اِبْن زَيْد : مَذْءُومًا وَمَذْمُومًا سَوَاء ; يُقَال : ذَأَمْته وَذَمَمْته وَذِمْته بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " مَذُومًا " . وَالْمَعْنَى وَاحِد ; إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَة . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَذْءُوم الْمَنْفِيّ . وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ . وَالْمَدْحُور : الْمُبْعَد الْمَطْرُود ; عَنْ مُجَاهِد وَغَيْره . وَأَصْله الدَّفْع .
اللَّام لَام الْقَسَم , وَالْجَوَاب " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم " . وَقِيلَ : " لَمَنْ تَبِعَك " لَام تَوْكِيد . " لَأَمْلَأَنَّ " لَام قَسَم . وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوز فِي غَيْر الْقِرَاءَة حَذْف اللَّام الْأُولَى , وَلَا يَجُوز حَذْف الثَّانِيَة . وَفِي الْكَلَام مَعْنَى الشَّرْط وَالْمُجَازَاة ; أَيْ مَنْ تَبِعَك عَذَّبْته . وَلَوْ قُلْت : مَنْ تَبِعَك أُعَذِّبهُ لَمْ يَجُزْ ; إِلَّا أَنْ تُرِيد لَأُعَذِّبهُ . وَقَرَأَ عَاصِم مِنْ رِوَايَة أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش " لِمَنْ تَبِعَك مِنْهُمْ " بِكَسْرِ اللَّام . وَأَنْكَرَهُ بَعْض النَّحْوِيِّينَ . قَالَ النَّحَّاس : وَتَقْدِيره - وَاَللَّه أَعْلَم - مِنْ أَجْل مَنْ تَبِعَك . كَمَا يُقَال : أَكْرَمْت فُلَانًا لَك . وَقَدْ يَكُون الْمَعْنَى : الدَّحْر لِمَنْ تَبِعَك . وَمَعْنَى " مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ " أَيْ مِنْكُمْ وَمِنْ بَنِي آدَم ; لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ قَدْ جَرَى إِذْ قَالَ : " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ " [ الْأَعْرَاف : 11 ] . خَاطَبَ وَلَد آدَم .
" مَذْءُومًا " أَيْ مَذْمُومًا . وَالذَّأْم : الْعَيْب , بِتَخْفِيفِ الْمِيم . قَالَ اِبْن زَيْد : مَذْءُومًا وَمَذْمُومًا سَوَاء ; يُقَال : ذَأَمْته وَذَمَمْته وَذِمْته بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " مَذُومًا " . وَالْمَعْنَى وَاحِد ; إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَة . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَذْءُوم الْمَنْفِيّ . وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ . وَالْمَدْحُور : الْمُبْعَد الْمَطْرُود ; عَنْ مُجَاهِد وَغَيْره . وَأَصْله الدَّفْع .
اللَّام لَام الْقَسَم , وَالْجَوَاب " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم " . وَقِيلَ : " لَمَنْ تَبِعَك " لَام تَوْكِيد . " لَأَمْلَأَنَّ " لَام قَسَم . وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوز فِي غَيْر الْقِرَاءَة حَذْف اللَّام الْأُولَى , وَلَا يَجُوز حَذْف الثَّانِيَة . وَفِي الْكَلَام مَعْنَى الشَّرْط وَالْمُجَازَاة ; أَيْ مَنْ تَبِعَك عَذَّبْته . وَلَوْ قُلْت : مَنْ تَبِعَك أُعَذِّبهُ لَمْ يَجُزْ ; إِلَّا أَنْ تُرِيد لَأُعَذِّبهُ . وَقَرَأَ عَاصِم مِنْ رِوَايَة أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش " لِمَنْ تَبِعَك مِنْهُمْ " بِكَسْرِ اللَّام . وَأَنْكَرَهُ بَعْض النَّحْوِيِّينَ . قَالَ النَّحَّاس : وَتَقْدِيره - وَاَللَّه أَعْلَم - مِنْ أَجْل مَنْ تَبِعَك . كَمَا يُقَال : أَكْرَمْت فُلَانًا لَك . وَقَدْ يَكُون الْمَعْنَى : الدَّحْر لِمَنْ تَبِعَك . وَمَعْنَى " مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ " أَيْ مِنْكُمْ وَمِنْ بَنِي آدَم ; لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ قَدْ جَرَى إِذْ قَالَ : " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ " [ الْأَعْرَاف : 11 ] . خَاطَبَ وَلَد آدَم .
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ↓
قَالَ لِآدَم بَعْد إِخْرَاج إِبْلِيس مِنْ مَوْضِعه مِنْ السَّمَاء : اُسْكُنْ أَنْتَ وَحَوَّاء الْجَنَّة . لَا خِلَاف أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْرَجَ إِبْلِيس عِنْد كُفْره وَأَبْعَدَهُ عَنْ الْجَنَّة , وَبَعْد إِخْرَاجه قَالَ لِآدَم : اُسْكُنْ , أَيْ لَازِمْ الْإِقَامَة وَاِتَّخِذْهَا مَسْكَنًا , وَهُوَ مَحَلّ السُّكُون . وَسَكَنَ إِلَيْهِ يَسْكُن سُكُونًا . وَالسَّكَن : النَّار , قَالَ الشَّاعِر : قَدْ قُوِّمَتْ بِسَكَنٍ وَأَدْهَان وَالسَّكَن : كُلّ مَا سُكِنَ إِلَيْهِ . وَالسِّكِّين مَعْرُوف سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَكِّن حَرَكَة الْمَذْبُوح , وَمِنْهُ الْمِسْكِين لِقِلَّةِ تَصَرُّفه وَحَرَكَته . وَسُكَّان السَّفِينَة عَرَبِيّ , لِأَنَّهُ يُسْكِنهَا عَنْ الِاضْطِرَاب . " اُسْكُنْ " تَنْبِيه عَلَى الْخُرُوج ; لِأَنَّ السُّكْنَى لَا تَكُون مِلْكًا , وَلِهَذَا قَالَ بَعْض الْعَارِفِينَ : السُّكْنَى تَكُون إِلَى مُدَّة ثُمَّ تَنْقَطِع , فَدُخُولهمَا فِي الْجَنَّة كَانَ دُخُول سُكْنًى لَا دُخُول إِقَامَة . قُلْت : وَإِذَا كَانَ هَذَا فَيَكُون فِيهِ دَلَالَة عَلَى مَا يَقُول الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّ مَنْ أَسْكَنَ رَجُلًا مَسْكَنًا لَهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكهُ بِالسُّكْنَى , وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إِذَا اِنْقَضَتْ مُدَّة الْإِسْكَان . وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُول : إِذَا قَالَ الرَّجُل دَارِي لَك سُكْنًى حَتَّى تَمُوت فَهِيَ لَهُ حَيَاته وَمَوْته , وَإِذَا قَالَ : دَارِي هَذِهِ اُسْكُنْهَا حَتَّى تَمُوت فَإِنَّهَا تَرْجِع إِلَى صَاحِبهَا إِذَا مَاتَ . وَنَحْو مِنْ السُّكْنَى الْعُمْرَى , إِلَّا أَنَّ الْخِلَاف فِي الْعُمْرَى أَقْوَى مِنْهُ فِي السُّكْنَى . وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي الْعُمْرَى فِي " هُود " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَالَ الْحَرْبِيّ : سَمِعْت اِبْن الْإِعْرَابِيّ يَقُول : لَمْ يَخْتَلِف الْعَرَب فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاء عَلَى مِلْك أَرْبَابهَا وَمَنَافِعهَا لِمَنْ جُعِلَتْ لَهُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى وَالْإِفْقَار وَالْإِخْبَال وَالْمِنْحَة وَالْعَرِيَّة وَالسُّكْنَى وَالْإِطْرَاق . وَهَذَا حُجَّة مَالِك وَأَصْحَابه فِي أَنَّهُ لَا يُمْلَك شَيْء مِنْ الْعَطَايَا إِلَّا الْمَنَافِع دُون الرِّقَاب , وَهُوَ قَوْل اللَّيْث بْن سَعْد وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد , وَيَزِيد بْن قُسَيْط . وَالْعُمْرَى : هُوَ إِسْكَانك الرَّجُل فِي دَار لَك مُدَّة عُمْرك أَوْ عُمْره . وَمِثْله الرُّقْبَى : وَهُوَ أَنْ يَقُول : إِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ وَإِنْ مِتُّ قَبْلك فَهِيَ لَك , وَهِيَ مِنْ الْمُرَاقَبَة . وَالْمُرَاقَبَة : أَنْ يَرْقُب كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مَوْت صَاحِبه , وَلِذَلِكَ اِخْتَلَفُوا فِي إِجَازَتهَا وَمَنْعهَا , فَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ , وَكَأَنَّهَا وَصِيَّة عِنْدهمْ . وَمَنَعَهَا مَالِكٌ وَالْكُوفِيُّونَ , لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ يَقْصِد إِلَى عِوَض لَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُل لَهُ , وَيَتَمَنَّى كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مَوْت صَاحِبه . وَفِي الْبَاب حَدِيثَانِ أَيْضًا بِالْإِجَازَةِ وَالْمَنْع ذَكَرَهُمَا اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه , الْأَوَّل رَوَاهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْعُمْرَى جَائِزَة لِمَنْ أُعْمِرَهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَة لِمَنْ أُرْقِبَهَا ) فَفِي هَذَا الْحَدِيث التَّسْوِيَة بَيْن الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى فِي الْحُكْم . الثَّانِي رَوَاهُ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا رُقْبَى فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ حَيَاته وَمَمَاته ) . قَالَ : وَالرُّقْبَى أَنْ يَقُول هُوَ لِلْآخَرِ : مِنِّي وَمِنْك مَوْتًا . فَقَوْله : ( لَا رُقْبَى ) نَهْي يَدُلّ عَلَى الْمَنْع , وَقَوْله : ( مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ) يَدُلّ عَلَى الْجَوَاز , وَأَخْرَجَهُمَا أَيْضًا النَّسَائِيّ . وَذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاء . وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْعُمْرَى جَائِزَة لِمَنْ أُعْمِرَهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَة لِمَنْ أُرْقِبَهَا ) . فَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيث اِبْن الْمُنْذِر , وَهُوَ حُجَّة لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاء . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد , وَأَنَّهَا لَا تَرْجِع إِلَى الْأَوَّل أَبَدًا , وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق . وَقَالَ طَاوُس : مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ سَبِيل الْمِيرَاث . وَالْإِفْقَار مَأْخُوذ مِنْ فَقَار الظَّهْر . أَفْقَرْتُك نَاقَتِي : أَعَرْتُك فَقَارهَا لِتَرْكَبَهَا . وَأَفْقَرَك الصَّيْد إِذَا أَمْكَنَك مِنْ فَقَاره حَتَّى تَرْمِيه . وَمِثْله الْإِخْبَال , يُقَال : أَخْبَلْت فُلَانًا إِذَا أَعَرْته نَاقَة يَرْكَبهَا أَوْ فَرَسًا يَغْزُو عَلَيْهِ , قَالَ زُهَيْر : هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَال يُخْبِلُوا وَإِنْ يُسْأَلُوا يُعْطُوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يَغْلُوا وَالْمِنْحَة : الْعَطِيَّة . وَالْمِنْحَة : مِنْحَة اللَّبَن . وَالْمَنِيحَة : النَّاقَة أَوْ الشَّاة يُعْطِيهَا الرَّجُل آخَر يَحْتَلِبهَا ثُمَّ يَرُدّهَا , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْعَارِيَة مُؤَدَّاة وَالْمِنْحَة مَرْدُودَة وَالدَّيْن مَقْضِيّ وَالزَّعِيم غَارِم ) . رَوَاهُ أَبُو أُمَامَة , أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَالدَّار قُطْنِيّ وَغَيْرهمَا , وَهُوَ صَحِيح . وَالْإِطْرَاق : إِعَارَة الْفَحْل , اِسْتَطْرَقَ فُلَان فُلَانًا فَحْلَهُ : إِذَا طَلَبَهُ لِيَضْرِب فِي إِبِله , فَأَطْرَقَهُ إِيَّاهُ , وَيُقَال : أَطْرِقْنِي فَحْلَك أَيْ أَعِرْنِي فَحْلَك لِيَضْرِب فِي إِبِلِي . وَطَرَقَ الْفَحْل النَّاقَة يَطْرُق طُرُوقًا أَيْ قَعَا عَلَيْهَا . وَطَرُوقَة الْفَحْل : أُنْثَاهُ ; يُقَال : نَاقَة طَرُوقَة الْفَحْل لِلَّتِي بَلَغَتْ أَنْ يَضْرِبهَا الْفَحْل . " أَنْتَ وَزَوْجُك " " أَنْتَ " تَأْكِيد لِلْمُضْمَرِ الَّذِي فِي الْفِعْل , وَمِثْله " فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك " . وَلَا يَجُوز اُسْكُنْ وَزَوْجك , وَلَا اِذْهَبْ وَرَبّك , إِلَّا فِي ضَرُورَة الشِّعْر , كَمَا قَالَ : قُلْت إِذْ أَقْبَلَتْ وَزُهْر تَهَادَى كَنِعَاجِ الْمَلَا تَعَسَّفْنَ رَمْلَا ف " زُهْر " مَعْطُوف عَلَى الْمُضْمَر فِي " أَقْبَلَتْ " وَلَمْ يُؤَكَّد ذَلِكَ الْمُضْمَر . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن عَلَى بُعْد : قُمْ وَزَيْد . قَوْله تَعَالَى : " وَزَوْجُك " لُغَة الْقُرْآن " زَوْج " بِغَيْرِ هَاء , وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم : " زَوْجَة " حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَسْلَمَة بْن قَعْنَب قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت الْبُنَانِيّ عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِهِ فَمَرَّ بِهِ رَجُل فَدَعَاهُ فَجَاءَ فَقَالَ : ( يَا فُلَان هَذِهِ زَوْجَتِي فُلَانَة ) : فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه , مَنْ كُنْت أَظُنّ بِهِ فَلَمْ أَكُنْ أَظُنّ بِك , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَان مَجْرَى الدَّم ) . وَزَوْج آدَم عَلَيْهِ السَّلَام هِيَ حَوَّاء عَلَيْهَا السَّلَام , وَهُوَ أَوَّل مَنْ سَمَّاهَا بِذَلِكَ حِين خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِه مِنْ غَيْر أَنْ يَحُسّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام بِذَلِكَ , وَلَوْ أَلِمَ بِذَلِكَ لَمْ يَعْطِف رَجُل عَلَى اِمْرَأَته , فَلَمَّا اِنْتَبَهَ قِيلَ لَهُ : مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ : اِمْرَأَة قِيلَ : وَمَا اِسْمهَا ؟ قَالَ : حَوَّاء , قِيلَ : وَلِمَ سُمِّيَتْ اِمْرَأَة ؟ قَالَ : لِأَنَّهَا مِنْ الْمَرْء أُخِذَتْ , قِيلَ : وَلِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاء ؟ قَالَ : لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ حَيٍّ . رُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَة سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ لِتُجَرِّب عِلْمه , وَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ : أَتُحِبُّهَا يَا آدَم ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالُوا لِحَوَّاء : أَتُحِبِّينَهُ يَا حَوَّاء ؟ قَالَتْ : لَا , وَفِي قَلْبِهَا أَضْعَافُ مَا فِي قَلْبه مِنْ حُبِّهِ . قَالُوا : فَلَوْ صَدَقَتْ اِمْرَأَة فِي حُبّهَا لِزَوْجِهَا لَصَدَقَتْ حَوَّاء . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس : لَمَّا أُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّة مَشَى فِيهَا مُسْتَوْحِشًا , فَلَمَّا نَامَ خُلِقَتْ حَوَّاء مِنْ ضِلَعِهِ الْقُصْرَى مِنْ شِقّه الْأَيْسَر لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وَيَأْنَسَ بِهَا , فَلَمَّا اِنْتَبَهَ رَآهَا فَقَالَ : مَنْ أَنْتِ ؟ قَالَتْ : اِمْرَأَة خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِك لِتَسْكُن إِلَيَّ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجهَا لِيَسْكُن إِلَيْهَا " [ الْأَعْرَاف : 189 ] . قَالَ الْعُلَمَاء : وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَرْأَة عَوْجَاء , لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ أَعْوَج وَهُوَ الضِّلْع . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْمَرْأَة خُلِقَتْ مِنْ ضِلَع - فِي رِوَايَة : وَإِنَّ أَعْوَج شَيْء فِي الضِّلَع أَعْلَاهُ - لَنْ تَسْتَقِيم لَك عَلَى طَرِيقَة وَاحِدَة فَإِنْ اِسْتَمْتَعْت بِهَا اِسْتَمْتَعْت بِهَا وَبِهَا عِوَج وَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا ) . وَقَالَ الشَّاعِر : هِيَ الضِّلَعُ الْعَوْجَاء لَيْسَتْ تُقِيمُهَا أَلَا إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ اِنْكِسَارُهَا أَتَجْمَعُ ضَعْفًا وَاقْتِدَارًا عَلَى الْفَتَى أَلَيْسَ عَجِيبًا ضَعْفهَا وَاقْتِدَارهَا وَمِنْ هَذَا الْبَاب اِسْتَدَلَّ الْعُلَمَاء عَلَى مِيرَاث الْخُنْثَى الْمُشْكِل إِذَا تَسَاوَتْ فِيهِ عَلَامَات النِّسَاء وَالرِّجَال فِي اللِّحْيَة وَالثَّدْي وَالْمَبَال بِنَقْصِ الْأَعْضَاء . فَإِنْ نَقَصَتْ أَضْلَاعه عَنْ أَضْلَاع الْمَرْأَة أُعْطِيَ نَصِيب رَجُل - رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - لِخَلْقِ حَوَّاء مِنْ أَحَد أَضْلَاعه , وَسَيَأْتِي فِي الْمَوَارِيث بَيَان هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . " الْجَنَّة " الْبُسْتَان , وَلَا اِلْتِفَات لِمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَة وَالْقَدَرِيَّة مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جَنَّة الْخُلْد وَإِنَّمَا كَانَ فِي جَنَّة بِأَرْضِ عَدَن . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَنَّة الْخُلْد لَمَا وَصَلَ إِلَيْهِ إِبْلِيس , فَإِنَّ اللَّه يَقُول : " لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تَأْثِيم " [ الطُّور : 23 ] وَقَالَ " لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا " [ النَّبَأ : 35 ] وَقَالَ : " لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا " [ الْوَاقِعَة : 25 - 26 ] . وَأَنَّهُ لَا يَخْرُج مِنْهَا أَهْلهَا لِقَوْلِهِ : " وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ " [ الْحِجْر : 48 ] . وَأَيْضًا فَإِنَّ جَنَّة الْخُلْد هِيَ دَار الْقُدْس , قُدِّسَتْ عَنْ الْخَطَايَا وَالْمَعَاصِي تَطْهِيرًا لَهَا . وَقَدْ لَغَا فِيهَا إِبْلِيس وَكَذَبَ , وَأُخْرِجَ مِنْهَا آدَم وَحَوَّاء بِمَعْصِيَتِهِمَا . قَالُوا : وَكَيْفَ يَجُوز عَلَى آدَم مَعَ مَكَانه مِنْ اللَّه وَكَمَال عَقْله أَنْ يَطْلُب شَجَرَة الْخُلْد وَهُوَ فِي دَار الْخُلْد وَالْمُلْك الَّذِي لَا يَبْلَى ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَرَّفَ الْجَنَّة بِالْأَلِفِ وَاللَّام , وَمَنْ قَالَ : أَسْأَل اللَّه الْجَنَّة , لَمْ يُفْهَم مِنْهُ فِي تَعَارُف الْخَلْق إِلَّا طَلَب جَنَّة الْخُلْد . وَلَا يَسْتَحِيل فِي الْعَقْل دُخُول إِبْلِيس الْجَنَّة لِتَغْرِيرِ آدَم , وَقَدْ لَقِيَ مُوسَى آدَم عَلَيْهِمَا السَّلَام فَقَالَ لَهُ مُوسَى : أَنْتَ أَشْقَيْت ذُرِّيَّتك وَأَخْرَجْتهمْ مِنْ الْجَنَّة , فَأَدْخَلَ الْأَلِف وَاللَّام لِيَدُلّ عَلَى أَنَّهَا جَنَّة الْخُلْد الْمَعْرُوفَة , فَلَمْ يُنْكِر ذَلِكَ آدَم , وَلَوْ كَانَتْ غَيْرهَا لَرَدَّ عَلَى مُوسَى , فَلَمَّا سَكَتَ آدَم عَلَى مَا قَرَّرَهُ مُوسَى صَحَّ أَنَّ الدَّار الَّتِي أَخْرَجَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا بِخِلَافِ الدَّار الَّتِي أُخْرِجُوا إِلَيْهَا . وَأَمَّا مَا اِحْتَجُّوا بِهِ مِنْ الْآيِ فَذَلِكَ إِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّه فِيهَا بَعْد دُخُول أَهْلِهَا فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة , وَلَا يَمْتَنِع أَنْ تَكُون دَار الْخُلْد لِمَنْ أَرَادَ اللَّه تَخْلِيده فِيهَا وَقَدْ يُخْرَج مِنْهَا مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْفَنَاءِ . وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَة يَدْخُلُونَ الْجَنَّة عَلَى أَهْل الْجَنَّة وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا , وَقَدْ كَانَ مَفَاتِيحهَا بِيَدِ إِبْلِيس ثُمَّ اُنْتُزِعَتْ مِنْهُ بَعْد الْمَعْصِيَة , وَقَدْ دَخَلَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْإِسْرَاء ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَأَخْبَرَ بِمَا فِيهَا وَأَنَّهَا هِيَ جَنَّة الْخُلْد حَقًّا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْجَنَّة دَار الْقُدْس وَقَدْ طَهَّرَهَا اللَّه تَعَالَى مِنْ الْخَطَايَا فَجَهْلٌ مِنْهُمْ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وَهِيَ الشَّامُ , وَأَجْمَعَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّسَهَا وَقَدْ شُوهِدَ فِيهَا الْمَعَاصِي وَالْكُفْرُ وَالْكَذِبُ وَلَمْ يَكُنْ تَقْدِيسُهَا مِمَّا يَمْنَع فِيهَا الْمَعَاصِي , وَكَذَلِكَ دَار الْقُدْس . قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن بَطَّال : وَقَدْ حَكَى بَعْض الْمَشَايِخ أَنَّ أَهْل السُّنَّة مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ جَنَّة الْخُلْد هِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَم عَلَيْهِ السَّلَام , فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ خَالَفَهُمْ . وَقَوْلهمْ : كَيْفَ يَجُوز عَلَى آدَم فِي كَمَالِ عَقْله أَنْ يَطْلُب شَجَرَة الْخُلْد وَهُوَ فِي دَار الْخُلْد , فَيُعْكَس عَلَيْهِمْ وَيُقَال : كَيْف يَجُوز عَلَى آدَم وَهُوَ فِي كَمَالِ عَقْله أَنْ يَطْلُب شَجَرَة الْخُلْد فِي دَار الْفَنَاء هَذَا مَا لَا يَجُوز عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَة مِنْ عَقْل , فَكَيْفَ بِآدَم الَّذِي هُوَ أَرْجَح الْخَلْق عَقْلًا , عَلَى مَا قَالَ أَبُو أُمَامَة عَلَى مَا يَأْتِي .
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ↓
أَيْ إِلَيْهِمَا . قِيلَ : دَاخِل الْجَنَّة دبِإِدْخَالِ الْحَيَّة إِيَّاهُ وَقِيلَ : مِنْ خَارِج , بِالسَّلْطَنَةِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهُ . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي " الْبَقَرَة " وَالْوَسْوَسَة : الصَّوْت الْخَفِيُّ . وَالْوَسْوَسَة : حَدِيث النَّفْس ; يُقَال : وَسْوَسَتْ إِلَيْهِ نَفْسه وَسْوَسَة وَوِسْوَاسًا ( بِكَسْرِ الْوَاو ) . وَالْوَسْوَاس ( بِالْفَتْحِ ) : اِسْم , مِثْل الزَّلْزَال . وَيُقَال لِهَمْسِ الصَّائِد وَالْكِلَاب وَأَصْوَات الْحَلْي : وَسْوَاس . قَالَ الْأَعْشَى : تَسْمَع لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا اِنْصَرَفَتْ كَمَا اِسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِق زَجِل وَالْوَسْوَاس : اِسْم الشَّيْطَان ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مِنْ شَرّ الْوَسْوَاس الْخَنَّاس " [ النَّاس : 4 ] .
أَيْ لِيُظْهِرَ لَهُمَا . وَاللَّام لَام الْعَاقِبَة ; كَمَا قَالَ : " لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا " [ الْقَصَص : 8 ] . وَقِيلَ : لَامُ كَيْ .
أَيْ سُتِرَ وَغُطِّيَ عَنْهُمَا . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن أُورِيَ , مِثْل أُقِّتَتْ
مِنْ عَوْرَاتهمَا وَسُمِّيَ الْفَرْج عَوْرَة ; لِأَنَّ إِظْهَاره يَسُوء صَاحِبه . وَدَلَّ هَذَا عَلَى قُبْح كَشْفِهَا فَقِيلَ : إِنَّمَا بَدَتْ سَوْآتُهُمَا لَهُمَا لَا لِغَيْرِهِمَا ; كَانَ عَلَيْهِمَا نُور لَا تُرَى عَوْرَاتهمَا فَزَالَ النُّور . وَقِيلَ : ثَوْب ; فَتَهَافَتَ , وَاَللَّه أَعْلَم .
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب , بِمَعْنَى إِلَّا , كَرَاهِيَة أَنْ ; فَحَذَفَ الْمُضَاف . هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ : لِئَلَّا تَكُونَا . وَقِيلَ : أَيْ إِلَّا أَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ تَعْلَمَانِ الْخَيْر وَالشَّرّ . وَقِيلَ : طَمِعَ آدَم فِي الْخُلُود ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَة لَا يَمُوتُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ النَّحَّاس : وَبَيَّنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَضْل الْمَلَائِكَة عَلَى جَمِيع الْخَلْق فِي غَيْر مَوْضِع مِنْ الْقُرْآن ; فَمِنْهَا هَذَا , وَهُوَ " إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ " . وَمِنْهُ " وَلَا أَقُول إِنِّي مَلَك " [ هُود : 31 ] . وَمِنْهُ " وَلَا الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبُونَ " [ النِّسَاء : 172 ] . وَقَالَ الْحَسَن : فَضَّلَ اللَّه الْمَلَائِكَة بِالصُّوَرِ . وَالْأَجْنِحَة وَالْكَرَامَة . وَقَالَ غَيْره : فَضَّلَهُمْ جَلَّ وَعَزَّ بِالطَّاعَةِ وَتَرْك الْمَعْصِيَة ; فَلِهَذَا يَقَع التَّفْضِيل فِي كُلّ شَيْء . وَقَالَ اِبْن فُورك . لَا حُجَّة فِي هَذِهِ الْآيَة ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد مَلَكَيْنِ فِي أَلَّا يَكُون لَهُمَا شَهْوَة فِي طَعَام . وَاخْتِيَار اِبْن عَبَّاس وَالزَّجَّاج وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء تَفْضِيل الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمَلَائِكَة ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " وَقَالَ الْكَلْبِيّ : فُضِّلُوا عَلَى الْخَلَائِق كُلّهمْ , غَيْر طَائِفَة مِنْ الْمَلَائِكَة : جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت ; لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَة رُسُل اللَّه . وَتَمَسَّكَ كُلّ فَرِيق بِظَوَاهِر مِنْ الشَّرِيعَة , وَالْفَضْل بِيَدِ اللَّه . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس " مَلِكَيْنِ " بِكَسْرِ اللَّام , وَهِيَ قِرَاءَة يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير وَالضَّحَّاك . وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء كَسْر اللَّام وَقَالَ : لَمْ يَكُنْ قَبْل آدَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلِك فَيَصِيرَا مَلِكَيْنِ . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة إِسْكَان اللَّام , وَلَا يَجُوز عَلَى الْقِرَاءَة الْأُولَى لِخِفَّةِ الْفَتْحَة . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَتَاهُمَا الْمَلْعُون مِنْ جِهَة الْمُلْك ; وَلِهَذَا قَالَ : " هَلْ أَدُلُّك عَلَى شَجَرَة الْخُلْد وَمُلْك لَا يَبْلَى " [ طَه : 120 ] . وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْد أَنَّ اِحْتِجَاج يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير بِقَوْلِهِ : " وَمُلْك لَا يَبْلَى " حُجَّة بَيِّنَة , وَلَكِنَّ النَّاس عَلَى تَرْكهَا فَلِهَذَا تَرَكْنَاهَا . قَالَ النَّحَّاس : " إِلَّا أَنْ تَكُونَا مُلْكَيْنِ " قِرَاءَة شَاذَّة . وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَى أَبِي عُبَيْد هَذَا الْكَلَام , وَجُعِلَ مِنْ الْخَطَأ الْفَاحِش . وَهَلْ يَجُوز أَنْ يَتَوَهَّم آدَم عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ يَصِل إِلَى أَكْثَر مِنْ مُلْك الْجَنَّة ; وَهُوَ غَايَة الطَّالِبِينَ . وَإِنَّمَا مَعْنَى " وَمُلْك لَا يَبْلَى " الْمَقَام فِي مُلْك الْجَنَّة , وَالْخُلُود فِيهِ .
أَيْ لِيُظْهِرَ لَهُمَا . وَاللَّام لَام الْعَاقِبَة ; كَمَا قَالَ : " لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا " [ الْقَصَص : 8 ] . وَقِيلَ : لَامُ كَيْ .
أَيْ سُتِرَ وَغُطِّيَ عَنْهُمَا . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن أُورِيَ , مِثْل أُقِّتَتْ
مِنْ عَوْرَاتهمَا وَسُمِّيَ الْفَرْج عَوْرَة ; لِأَنَّ إِظْهَاره يَسُوء صَاحِبه . وَدَلَّ هَذَا عَلَى قُبْح كَشْفِهَا فَقِيلَ : إِنَّمَا بَدَتْ سَوْآتُهُمَا لَهُمَا لَا لِغَيْرِهِمَا ; كَانَ عَلَيْهِمَا نُور لَا تُرَى عَوْرَاتهمَا فَزَالَ النُّور . وَقِيلَ : ثَوْب ; فَتَهَافَتَ , وَاَللَّه أَعْلَم .
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب , بِمَعْنَى إِلَّا , كَرَاهِيَة أَنْ ; فَحَذَفَ الْمُضَاف . هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ : لِئَلَّا تَكُونَا . وَقِيلَ : أَيْ إِلَّا أَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ تَعْلَمَانِ الْخَيْر وَالشَّرّ . وَقِيلَ : طَمِعَ آدَم فِي الْخُلُود ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَة لَا يَمُوتُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ النَّحَّاس : وَبَيَّنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَضْل الْمَلَائِكَة عَلَى جَمِيع الْخَلْق فِي غَيْر مَوْضِع مِنْ الْقُرْآن ; فَمِنْهَا هَذَا , وَهُوَ " إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ " . وَمِنْهُ " وَلَا أَقُول إِنِّي مَلَك " [ هُود : 31 ] . وَمِنْهُ " وَلَا الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبُونَ " [ النِّسَاء : 172 ] . وَقَالَ الْحَسَن : فَضَّلَ اللَّه الْمَلَائِكَة بِالصُّوَرِ . وَالْأَجْنِحَة وَالْكَرَامَة . وَقَالَ غَيْره : فَضَّلَهُمْ جَلَّ وَعَزَّ بِالطَّاعَةِ وَتَرْك الْمَعْصِيَة ; فَلِهَذَا يَقَع التَّفْضِيل فِي كُلّ شَيْء . وَقَالَ اِبْن فُورك . لَا حُجَّة فِي هَذِهِ الْآيَة ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد مَلَكَيْنِ فِي أَلَّا يَكُون لَهُمَا شَهْوَة فِي طَعَام . وَاخْتِيَار اِبْن عَبَّاس وَالزَّجَّاج وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء تَفْضِيل الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمَلَائِكَة ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " وَقَالَ الْكَلْبِيّ : فُضِّلُوا عَلَى الْخَلَائِق كُلّهمْ , غَيْر طَائِفَة مِنْ الْمَلَائِكَة : جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت ; لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَة رُسُل اللَّه . وَتَمَسَّكَ كُلّ فَرِيق بِظَوَاهِر مِنْ الشَّرِيعَة , وَالْفَضْل بِيَدِ اللَّه . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس " مَلِكَيْنِ " بِكَسْرِ اللَّام , وَهِيَ قِرَاءَة يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير وَالضَّحَّاك . وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء كَسْر اللَّام وَقَالَ : لَمْ يَكُنْ قَبْل آدَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلِك فَيَصِيرَا مَلِكَيْنِ . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة إِسْكَان اللَّام , وَلَا يَجُوز عَلَى الْقِرَاءَة الْأُولَى لِخِفَّةِ الْفَتْحَة . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَتَاهُمَا الْمَلْعُون مِنْ جِهَة الْمُلْك ; وَلِهَذَا قَالَ : " هَلْ أَدُلُّك عَلَى شَجَرَة الْخُلْد وَمُلْك لَا يَبْلَى " [ طَه : 120 ] . وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْد أَنَّ اِحْتِجَاج يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير بِقَوْلِهِ : " وَمُلْك لَا يَبْلَى " حُجَّة بَيِّنَة , وَلَكِنَّ النَّاس عَلَى تَرْكهَا فَلِهَذَا تَرَكْنَاهَا . قَالَ النَّحَّاس : " إِلَّا أَنْ تَكُونَا مُلْكَيْنِ " قِرَاءَة شَاذَّة . وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَى أَبِي عُبَيْد هَذَا الْكَلَام , وَجُعِلَ مِنْ الْخَطَأ الْفَاحِش . وَهَلْ يَجُوز أَنْ يَتَوَهَّم آدَم عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ يَصِل إِلَى أَكْثَر مِنْ مُلْك الْجَنَّة ; وَهُوَ غَايَة الطَّالِبِينَ . وَإِنَّمَا مَعْنَى " وَمُلْك لَا يَبْلَى " الْمَقَام فِي مُلْك الْجَنَّة , وَالْخُلُود فِيهِ .
أَيْ حَلَفَ لَهُمَا . يُقَال : أَقْسَمَ إِقْسَامًا ; أَيْ حَلَفَ . قَالَ الشَّاعِر : وَقَاسَمَهَا بِاَللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذّ مِنْ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورهَا وَجَاءَ " فَاعَلْت " مِنْ وَاحِد . وَهُوَ يَرِد عَلَى مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُفَاعَلَة لَا تَكُون إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْمَائِدَة "
لَيْسَ " لَكُمَا " دَاخِلًا فِي الصِّلَة . وَالتَّقْدِير : إِنِّي نَاصِح لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ ; قَالَهُ هِشَام النَّحْوِيّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْله فِي " الْبَقَرَة " وَمَعْنَى الْكَلَام : اِتَّبِعَانِي أُرْشِدْكُمَا ; ذَكَرَهُ قَتَادَة .
لَيْسَ " لَكُمَا " دَاخِلًا فِي الصِّلَة . وَالتَّقْدِير : إِنِّي نَاصِح لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ ; قَالَهُ هِشَام النَّحْوِيّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْله فِي " الْبَقَرَة " وَمَعْنَى الْكَلَام : اِتَّبِعَانِي أُرْشِدْكُمَا ; ذَكَرَهُ قَتَادَة .
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ↑
أَوْ قَعْهُمَا فِي الْهَلَاك . قَالَ اِبْن عَبَّاس : غَرَّهُمَا بِالْيَمِينِ . وَكَانَ يَظُنّ آدَم أَنَّهُ لَا يَحْلِف أَحَد بِاَللَّهِ كَاذِبًا , فَغَرَّهُمَا بِوَسْوَسَتِهِ وَقَسَمه لَهُمَا . وَقَالَ قَتَادَة : حَلَفَ بِاَللَّهِ لَهُمَا حَتَّى خَدَعَهُمَا . وَقَدْ يُخْدَع الْمُؤْمِن بِاَللَّهِ . كَانَ بَعْض الْعُلَمَاء يَقُول : مَنْ خَادَعَنَا بِاَللَّهِ خُدِعْنَا . وَفِي الْحَدِيث عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ ) . وَأَنْشَدَ نِفْطَوَيْهِ : إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَشَاءُ خَدَعْته وَتَرَى اللَّئِيم مُجَرِّبًا لَا يُخْدَعُ " فَدَلَّاهُمَا " يُقَال : أَدْلَى دَلْوه : أَرْسَلَهَا . وَدَلَّاهَا : أَخْرَجَهَا . وَقِيلَ : " دَلَّاهُمَا " أَيْ دَلَّلَهُمَا ; مِنْ الدَّالَّة , وَهِيَ الْجُرْأَة . أَيْ جَرَّأَهُمَا عَلَى الْمَعْصِيَة فَخَرَجَا مِنْ الْجَنَّة .
" فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة " أَيْ أَكَلَا مِنْهَا . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " الْخِلَاف فِي هَذِهِ الشَّجَرَة , وَكَيْفَ أَكَلَ آدَم مِنْهَا : " بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتهمَا " أَكَلَتْ حَوَّاء أَوَّلًا فَلَمْ يُصِبْهَا شَيْءٌ ; فَلَمَّا أَكَلَ آدَم حَلَّتْ الْعُقُوبَة ; لِأَنَّ النَّهْي وَرَدَ عَلَيْهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَقَلَّصَ النُّور الَّذِي كَانَ لِبَاسهمَا فَصَارَ أَظْفَارًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل . " وَطَفِقَا " وَيَجُوز إِسْكَان الْفَاء . وَحَكَى الْأَخْفَش طَفِقَ يَطْفِق ; مِثْل ضَرَبَ يَضْرِب . يُقَال : طَفِقَ , أَيْ أَخَذَ فِي الْفِعْل . " يَخْصِفَانِ " وَقَرَأَ الْحَسَن بِكَسْرِ الْخَاء وَشَدّ الصَّاد . وَالْأَصْل " يَخْتَصِفَانِ " فَأَدْغَمَ , وَكَسَرَ الْخَاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . وَقَرَأَ اِبْن بُرَيْدَة وَيَعْقُوب بِفَتْحِ الْخَاء , أَلْقَيَا حَرَكَة التَّاء عَلَيْهَا . وَيَجُوز " يُخَصِّفَانِ " بِضَمِّ الْيَاء , مِنْ خَصَّفَ يُخَصِّف . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ " يُخْصِفَانِ " مِنْ أَخْصَفَ . وَكِلَاهُمَا مَنْقُول بِالْهَمْزَةِ أَوْ التَّضْعِيف وَالْمَعْنَى : يَقْطَعَانِ الْوَرَق وَيَلْزَقَانِهِ لِيَسْتَتِرَا بِهِ , وَمِنْهُ خَصْف النَّعْل . وَالْخَصَّاف الَّذِي يُرَقِّعهَا . وَالْمِخْصَف الْمِثْقَب . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ وَرَق التِّين . وَيُرْوَى أَنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا بَدَتْ سَوْأَته وَظَهَرَتْ عَوْرَته طَافَ عَلَى أَشْجَار الْجَنَّة يَسُلّ مِنْهَا وَرَقَة يُغَطِّي بِهَا عَوْرَته ; فَزَجَرَتْهُ أَشْجَار الْجَنَّة حَتَّى رَحِمَتْهُ شَجَرَة التِّين فَأَعْطَتْهُ وَرَقَة . فَـ " طَفِقَا " يَعْنِي آدَم وَحَوَّاء " يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَق الْجَنَّة " فَكَافَأَ اللَّه التِّين بِأَنْ سَوَّى ظَاهِره وَبَاطِنَهُ فِي الْحَلَاوَة وَالْمَنْفَعَة وَأَعْطَاهُ ثَمَرَتَيْنِ فِي عَام وَاحِد مَرَّتَيْنِ . وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى قُبْح كَشْف الْعَوْرَة , وَأَنَّ اللَّه أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا السَّتْر ; وَلِذَلِكَ اِبْتَدَرَا إِلَى سَتْرهَا , وَلَا يَمْتَنِع أَنْ يُؤْمَرَا بِذَلِكَ فِي الْجَنَّة ; كَمَا قِيلَ لَهُمَا : " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة " . وَقَدْ حَكَى صَاحِب الْبَيَان عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِد مَا يَسْتُر بِهِ عَوْرَته إِلَّا وَرَق الشَّجَر لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَتِر بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ سُتْرَة ظَاهِرَة يُمْكِنُهُ التَّسَتُّرُ بِهَا ; كَمَا فَعَلَ آدَم فِي الْجَنَّة . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الشَّيْطَان عَدُوٌّ , وَخَبَره حَقّ وَصِدْق . فَالْوَاجِب عَلَى الْعَاقِل أَنْ يَأْخُذ حِذْرَهُ مِنْ هَذَا الْعَدُوّ الَّذِي قَدْ أَبَانَ عَدَاوَته مِنْ زَمَن آدَم , وَبَذَلَ نَفْسه وَعُمْره فِي إِفْسَاد أَحْوَال بَنِي آدَم ; وَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْحَذَرِ مِنْهُ فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِل : " وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَات الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين " , " إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ " [ الْبَقَرَة : 169 ] وَقَالَ : " الشَّيْطَان يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ " [ الْبَقَرَة : 268 ] وَقَالَ : " وَيُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا " [ النِّسَاء : 60 ] وَقَالَ : " إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : 91 ] وَقَالَ : " إِنَّهُ عَدُوّ مُضِلّ مُبِين " [ الْقَصَص : 15 ] وَقَالَ : " إِنَّ الشَّيْطَان لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَاب السَّعِير " [ فَاطِر : 6 ] . وَهَذَا غَايَة فِي التَّحْذِير , وَمِثْله فِي الْقُرْآن كَثِير . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : إِنَّ إِبْلِيس مُوثَق فِي الْأَرْض السُّفْلَى , فَإِذَا تَحَرَّكَ فَإِنَّ كُلّ شَرّ الْأَرْض بَيْن اِثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ تَحَرُّكه . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيّ وَفِيهِ : ( وَآمُركُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّه فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُل خَرَجَ الْعَدُوّ فِي أَثَره سِرَاعًا حَتَّى أَتَى عَلَى حِصْن حَصِين فَأَحْرَزَ نَفْسه مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْد لَا يُحْرِز نَفْسه مِنْ الشَّيْطَان إِلَّا بِذِكْرِ اللَّه ) الْحَدِيث . وَقَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب .
" فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة " أَيْ أَكَلَا مِنْهَا . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " الْخِلَاف فِي هَذِهِ الشَّجَرَة , وَكَيْفَ أَكَلَ آدَم مِنْهَا : " بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتهمَا " أَكَلَتْ حَوَّاء أَوَّلًا فَلَمْ يُصِبْهَا شَيْءٌ ; فَلَمَّا أَكَلَ آدَم حَلَّتْ الْعُقُوبَة ; لِأَنَّ النَّهْي وَرَدَ عَلَيْهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَقَلَّصَ النُّور الَّذِي كَانَ لِبَاسهمَا فَصَارَ أَظْفَارًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل . " وَطَفِقَا " وَيَجُوز إِسْكَان الْفَاء . وَحَكَى الْأَخْفَش طَفِقَ يَطْفِق ; مِثْل ضَرَبَ يَضْرِب . يُقَال : طَفِقَ , أَيْ أَخَذَ فِي الْفِعْل . " يَخْصِفَانِ " وَقَرَأَ الْحَسَن بِكَسْرِ الْخَاء وَشَدّ الصَّاد . وَالْأَصْل " يَخْتَصِفَانِ " فَأَدْغَمَ , وَكَسَرَ الْخَاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . وَقَرَأَ اِبْن بُرَيْدَة وَيَعْقُوب بِفَتْحِ الْخَاء , أَلْقَيَا حَرَكَة التَّاء عَلَيْهَا . وَيَجُوز " يُخَصِّفَانِ " بِضَمِّ الْيَاء , مِنْ خَصَّفَ يُخَصِّف . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ " يُخْصِفَانِ " مِنْ أَخْصَفَ . وَكِلَاهُمَا مَنْقُول بِالْهَمْزَةِ أَوْ التَّضْعِيف وَالْمَعْنَى : يَقْطَعَانِ الْوَرَق وَيَلْزَقَانِهِ لِيَسْتَتِرَا بِهِ , وَمِنْهُ خَصْف النَّعْل . وَالْخَصَّاف الَّذِي يُرَقِّعهَا . وَالْمِخْصَف الْمِثْقَب . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ وَرَق التِّين . وَيُرْوَى أَنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا بَدَتْ سَوْأَته وَظَهَرَتْ عَوْرَته طَافَ عَلَى أَشْجَار الْجَنَّة يَسُلّ مِنْهَا وَرَقَة يُغَطِّي بِهَا عَوْرَته ; فَزَجَرَتْهُ أَشْجَار الْجَنَّة حَتَّى رَحِمَتْهُ شَجَرَة التِّين فَأَعْطَتْهُ وَرَقَة . فَـ " طَفِقَا " يَعْنِي آدَم وَحَوَّاء " يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَق الْجَنَّة " فَكَافَأَ اللَّه التِّين بِأَنْ سَوَّى ظَاهِره وَبَاطِنَهُ فِي الْحَلَاوَة وَالْمَنْفَعَة وَأَعْطَاهُ ثَمَرَتَيْنِ فِي عَام وَاحِد مَرَّتَيْنِ . وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى قُبْح كَشْف الْعَوْرَة , وَأَنَّ اللَّه أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا السَّتْر ; وَلِذَلِكَ اِبْتَدَرَا إِلَى سَتْرهَا , وَلَا يَمْتَنِع أَنْ يُؤْمَرَا بِذَلِكَ فِي الْجَنَّة ; كَمَا قِيلَ لَهُمَا : " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة " . وَقَدْ حَكَى صَاحِب الْبَيَان عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِد مَا يَسْتُر بِهِ عَوْرَته إِلَّا وَرَق الشَّجَر لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَتِر بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ سُتْرَة ظَاهِرَة يُمْكِنُهُ التَّسَتُّرُ بِهَا ; كَمَا فَعَلَ آدَم فِي الْجَنَّة . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الشَّيْطَان عَدُوٌّ , وَخَبَره حَقّ وَصِدْق . فَالْوَاجِب عَلَى الْعَاقِل أَنْ يَأْخُذ حِذْرَهُ مِنْ هَذَا الْعَدُوّ الَّذِي قَدْ أَبَانَ عَدَاوَته مِنْ زَمَن آدَم , وَبَذَلَ نَفْسه وَعُمْره فِي إِفْسَاد أَحْوَال بَنِي آدَم ; وَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْحَذَرِ مِنْهُ فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِل : " وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَات الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين " , " إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ " [ الْبَقَرَة : 169 ] وَقَالَ : " الشَّيْطَان يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ " [ الْبَقَرَة : 268 ] وَقَالَ : " وَيُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا " [ النِّسَاء : 60 ] وَقَالَ : " إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : 91 ] وَقَالَ : " إِنَّهُ عَدُوّ مُضِلّ مُبِين " [ الْقَصَص : 15 ] وَقَالَ : " إِنَّ الشَّيْطَان لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَاب السَّعِير " [ فَاطِر : 6 ] . وَهَذَا غَايَة فِي التَّحْذِير , وَمِثْله فِي الْقُرْآن كَثِير . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : إِنَّ إِبْلِيس مُوثَق فِي الْأَرْض السُّفْلَى , فَإِذَا تَحَرَّكَ فَإِنَّ كُلّ شَرّ الْأَرْض بَيْن اِثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ تَحَرُّكه . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيّ وَفِيهِ : ( وَآمُركُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّه فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُل خَرَجَ الْعَدُوّ فِي أَثَره سِرَاعًا حَتَّى أَتَى عَلَى حِصْن حَصِين فَأَحْرَزَ نَفْسه مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْد لَا يُحْرِز نَفْسه مِنْ الشَّيْطَان إِلَّا بِذِكْرِ اللَّه ) الْحَدِيث . وَقَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب .
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ↓
أَيْ قَالَ لَهُمَا : أَلَمْ أَنْهَكُمَا . قَالَا رَبَّنَا نِدَاء مُضَاف . وَالْأَصْل يَا رَبَّنَا . وَقِيلَ . إِنَّ فِي حَذْف " يَا " مَعْنَى التَّعْظِيم . فَاعْتَرَفَا بِالْخَطِيئَةِ وَتَابَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ .
قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ↓
الضَّمَائِر كُلُّهَا لِلْأَرْضِ . وَلَمْ يَذْكُر الْوَاو فِي " قَالَ " , وَلَوْ ذَكَرَهَا لَجَازَ أَيْضًا . وَهُوَ كَقَوْلِك : قَالَ زَيْد لِعَمْرٍو كَذَا قَالَ لَهُ كَذَا .
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ↓
قَالَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء : هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب سَتْر الْعَوْرَة ; لِأَنَّهُ قَالَ : " يُوَارِي سَوْآتكُمْ " . وَقَالَ قَوْم : إِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا دَلِيل عَلَى مَا ذَكَرُوهُ , بَلْ فِيهَا دَلَالَة عَلَى الْإِنْعَام فَقَطْ . قُلْت : الْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ . وَمِنْ جُمْلَة الْإِنْعَام سَتْر الْعَوْرَة ; فَبَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى جَعَلَ لِذُرِّيَّتِهِ مَا يَسْتُرُونَ بِهِ عَوْرَاتهمْ , وَدَلَّ عَلَى الْأَمْر بِالسَّتْرِ . وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِي وُجُوب سَتْر الْعَوْرَة عَنْ أَعْيُن النَّاس . وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَوْرَة مَا هِيَ ؟ فَقَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب : هِيَ مِنْ الرَّجُل الْفَرْج نَفْسه , الْقُبُل وَالدُّبُر دُون غَيْرهمَا . وَهُوَ قَوْل دَاوُد وَأَهْل الظَّاهِر وَابْن أَبِي عَبْلَة وَالطَّبَرِيّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتكُمْ " , " بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتهمَا " [ الْأَعْرَاف : 22 ] , " لِيُرِيَهُمَا سَوْآتهمَا " [ الْأَعْرَاف : 27 ] . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس : " فَأَجْرَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زُقَاق خَيْبَر - وَفِيهِ - ثُمَّ حَسِرَ الْإِزَار عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أَنْظُر إِلَى بَيَاض فَخِذ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . وَقَالَ مَالِك : السُّرَّة لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ , وَأَكْرَه لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْشِف فَخِذَهُ بِحَضْرَةِ زَوْجَته . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الرُّكْبَة عَوْرَة . وَهُوَ قَوْل عَطَاء . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَيْسَتْ السُّرَّة وَلَا الرُّكْبَتَانِ مِنْ الْعَوْرَة عَلَى الصَّحِيح . وَحَكَى أَبُو حَامِد التِّرْمِذِيّ أَنَّ لِلشَّافِعِيّ فِي السُّرَّة قَوْلَيْنِ . وَحُجَّة مَالِك قَوْلُه عَلَيْهِ السَّلَام لِجَرْهَد : ( غَطِّ فَخِذك فَإِنَّ الْفَخِذ عَوْرَة ) . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ تَعْلِيقًا وَقَالَ : حَدِيث أَنَس أَسْنَد , وَحَدِيث جَرْهَد أَحْوَط حَتَّى يَخْرُج مِنْ اِخْتِلَافهمْ . وَحَدِيث جَرْهَد هَذَا يَدُلّ عَلَى خِلَاف مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَبَّلَ سُرَّة الْحَسَن بْن عَلِيّ وَقَالَ : أُقَبِّل مِنْك مَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ مِنْك . فَلَوْ كَانَتْ السُّرَّة عَوْرَة مَا قَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَة , وَلَا مَكَّنَهُ الْحَسَن مِنْهَا . وَأَمَّا الْمَرْأَة الْحُرَّة فَعَوْرَة كُلّهَا إِلَّا الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ . عَلَى هَذَا أَكْثَر أَهْل الْعِلْم . وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّج اِمْرَأَة فَلْيَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا ) . وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِب كَشْفه فِي الْإِحْرَام . وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام : كُلّ شَيْء مِنْ الْمَرْأَة عَوْرَة حَتَّى ظُفْرهَا . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل نَحْوه . وَأَمَّا أُمّ الْوَلَد فَقَالَ الْأَثْرَم : سَمِعْته - يَعْنِي أَحْمَد بْن حَنْبَل - يُسْأَل عَنْ أُمّ الْوَلَد كَيْفَ تُصَلِّي ؟ فَقَالَ : تُغَطِّي رَأْسَهَا وَقَدَمَيْهَا ; لِأَنَّهَا لَا تُبَاع , وَتُصَلِّي كَمَا تُصَلِّي الْحُرَّة . وَأَمَّا الْأَمَة فَالْعَوْرَة مِنْهَا مَا تَحْت ثَدْيهَا , وَلَهَا أَنْ تُبْدِيَ رَأْسَهَا وَمِعْصَمَيْهَا . وَقِيلَ : حُكْمهَا حُكْم الرَّجُل . وَقِيلَ : يُكْرَه لَهَا كَشْف رَأْسِهَا وَصَدْرهَا . وَكَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَضْرِب الْإِمَاء عَلَى تَغْطِيَتِهِنَّ رُءُوسَهُنَّ وَيَقُول : لَا تَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ . وَقَالَ أَصْبُغ : إِنْ اِنْكَشَفَ فَخِذُهَا أَعَادَتْ الصَّلَاة فِي الْوَقْت . وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام : كُلّ شَيْء مِنْ الْأَمَة عَوْرَة حَتَّى ظُفْرهَا . وَهَذَا خَارِج عَنْ أَقْوَال الْفُقَهَاء ; لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَة الْحُرَّة لَهَا أَنْ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَة وَيَدَاهَا وَوَجْهُهَا مَكْشُوف ذَلِكَ كُلّه , تُبَاشِر الْأَرْض بِهِ . فَالْأَمَة أَوْلَى , وَأُمّ الْوَلَد أَغْلَظ حَالًا مِنْ الْأَمَة . وَالصَّبِيّ الصَّغِير لَا حُرْمَة لِعَوْرَتِهِ . فَإِذَا بَلَغَتْ الْجَارِيَة إِلَى حَدّ تَأْخُذهَا الْعَيْن وَتُشْتَهَى سَتَرَتْ عَوْرَتهَا . وَحُجَّة أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن قَوْله تَعَالَى : " يَأَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ " [ الْأَحْزَاب : 59 ] . وَحَدِيث أُمّ سَلَمَة أَنَّهَا سُئِلَتْ : مَاذَا تُصَلِّي فِيهِ الْمَرْأَة مِنْ الثِّيَاب ؟ فَقَالَتْ : تُصَلِّي فِي الدِّرْع وَالْخِمَار السَّابِغ الَّذِي يُغَيِّب ظُهُور قَدَمَيْهَا . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا . وَاَلَّذِينَ أَوْقَفُوهُ عَلَى أُمّ سَلَمَة أَكْثَر وَأَحْفَظ ; مِنْهُمْ مَالِك وَابْن إِسْحَاق وَغَيْرهمَا . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَرَفَعَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن دِينَار عَنْ مُحَمَّد بْن زَيْد عَنْ أُمّه عَنْ أُمّ سَلَمَة أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ أَبُو عُمَر : عَبْد الرَّحْمَن هَذَا ضَعِيف عِنْدهمْ ; إِلَّا أَنَّهُ قَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيّ بَعْض حَدِيثه . وَالْإِجْمَاع فِي هَذَا الْبَاب أَقْوَى مِنْ الْخَبَر . قَوْله تَعَالَى : " أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا " يَعْنِي الْمَطَر الَّذِي يُنْبِت الْقُطْن وَالْكَتَّان , وَيُقِيم الْبَهَائِم الَّذِي مِنْهَا الْأَصْوَاف وَالْأَوْبَار وَالْأَشْعَار ; فَهُوَ مَجَاز مِثْل " وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزْوَاج " [ الزُّمَر : 6 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَقِيلَ : هَذَا الْإِنْزَال إِنْزَال شَيْء مِنْ اللِّبَاس مَعَ آدَم وَحَوَّاء , لِيَكُونَ مِثَالًا لِغَيْرِهِ . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : " أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ " أَيْ خَلَقْنَا لَكُمْ ; كَقَوْلِهِ : " وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزْوَاج " أَيْ خَلَقَ . عَلَى مَا يَأْتِي . وَقِيلَ : أَلْهَمْنَاكُمْ كَيْفِيَّة صَنْعَته . " وَرِيشًا " قَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن وَالْحَسَن وَعَاصِم مِنْ رِوَايَة الْمُفَضَّل الضَّبِّيّ , وَأَبُو عَمْرو مِنْ رِوَايَة الْحُسَيْن بْن عَلِيّ الْجُعْفِيّ " وَرِيَاشًا " . وَلَمْ يَحْكِهِ أَبُو عُبَيْد إِلَّا عَنْ الْحَسَن , وَلَمْ يُفَسِّر مَعْنَاهُ . وَهُوَ جَمْع رِيشٍ . وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ الْمَال وَاللِّبَاس . وَقَالَ الْفَرَّاء : رِيشٌ وَرِيَاش , كَمَا يُقَال : لِبْس وَلِبَاس . وَرِيشُ الطَّائِر مَا سَتَرَهُ اللَّه بِهِ . وَقِيلَ : هُوَ الْخِصْب وَرَفَاهِيَة الْعَيْش . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَر أَهْل اللُّغَة أَنَّ الرِّيش مَا سَتَرَ مِنْ لِبَاس أَوْ مَعِيشَة . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : فَرِيشِي مِنْكُمْ وَهَوَايَ مَعْكُمْ وَإِنْ كَانَتْ زِيَارَتُكُمْ لِمَامًا وَحَكَى أَبُو حَاتِم عَنْ أَبِي عُبَيْدَة : وَهَبْت لَهُ دَابَّة بِرِيشِهَا ; أَيْ بِكِسْوَتِهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ اللِّبَاس .
بَيَّنَ أَنَّ التَّقْوَى خَيْرُ لِبَاسٍ ; كَمَا قَالَ : إِذَا الْمَرْء لَمْ يَلْبَس ثِيَابًا مِنْ التُّقَى تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا وَخَيْرُ لِبَاسِ الْمَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا وَرَوَى قَاسِم بْن مَالِك عَنْ عَوْف عَنْ مَعْبَد الْجُهَنِيّ قَالَ : " لِبَاس التَّقْوَى " الْحَيَاء . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " لِبَاس التَّقْوَى " هُوَ الْعَمَل الصَّالِح . وَعَنْهُ أَيْضًا : السَّمْت الْحَسَن فِي الْوَجْه . وَقِيلَ : مَا عَلَّمَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُدِيَ بِهِ . وَقِيلَ : " لِبَاس التَّقْوَى " لُبْس الصُّوف وَالْخَشِن مِنْ الثِّيَاب , مِمَّا يُتَوَاضَع بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُتَعَبَّد لَهُ خَيْر مِنْ غَيْره . وَقَالَ زَيْد بْن عَلِيّ : " لِبَاس التَّقْوَى " الدِّرْع وَالْمِغْفَر ; وَالسَّاعِدَانِ , وَالسَّاقَانِ , يُتَّقَى بِهِمَا فِي الْحَرْب . وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر : هُوَ الْخَشْيَة لِلَّهِ . وَقِيلَ : هُوَ اِسْتِشْعَار تَقْوَى اللَّه تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ . قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح , وَإِلَيْهِ يَرْجِع قَوْل اِبْن عَبَّاس وَعُرْوَة . وَقَوْل زَيْد بْن عَلِيّ حَسَن , فَإِنَّهُ حَضّ عَلَى الْجِهَاد . وَقَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ سَتْر الْعَوْرَة . وَهَذَا فِيهِ تَكْرَار , إِذْ قَالَ أَوَّلًا : " قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتكُمْ " . وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَبِسَ الْخَشِن مِنْ الثِّيَاب فَإِنَّهُ أَقْرَب إِلَى التَّوَاضُع وَتَرْك الرَّعُونَات فَدَعْوَى ; فَقَدْ كَانَ الْفُضَلَاء مِنْ الْعُلَمَاء يَلْبَسُونَ الرَّفِيع مِنْ الثِّيَاب مَعَ حُصُول التَّقْوَى , عَلَى مَا يَأْتِي مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة وَالْكِسَائِيّ " لِبَاسَ " بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى " لِبَاسًا " الْأَوَّل . وَقِيلَ : اِنْتَصَبَ بِفِعْلٍ مُضْمَر ; أَيْ وَأَنْزَلْنَا لِبَاسَ التَّقْوَى . وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاء . وَ " ذَلِكَ " نَعْته وَ " خَيْر " خَبَر الِابْتِدَاء . وَالْمَعْنَى : وَلِبَاس التَّقْوَى الْمُشَار إِلَيْهِ , الَّذِي عَلِمْتُمُوهُ , خَيْر لَكُمْ مِنْ لِبَاس الثِّيَاب الَّتِي تُوَارِي سَوْآتكُمْ , وَمِنْ الرِّيَاش الَّذِي أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ; فَالْبَسُوهُ . وَقِيلَ : اِرْتَفَعَ بِإِضْمَارِ هُوَ ; أَيْ وَهُوَ لِبَاس التَّقْوَى ; أَيْ هُوَ سَتْر الْعَوْرَة . وَعَلَيْهِ يُخَرَّج قَوْل اِبْن زَيْد . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَلِبَاس التَّقْوَى هُوَ خَيْر ; فَـ " ذَلِكَ " بِمَعْنَى هُوَ . وَالْإِعْرَاب الْأَوَّل أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " وَلِبَاس التَّقْوَى خَيْر " وَلَمْ يَقْرَأ " ذَلِكَ " . وَهُوَ خِلَاف الْمُصْحَف .
أَيْ مِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا . وَ " ذَلِكَ " رَفْع عَلَى الصِّفَة , أَوْ عَلَى الْبَدَل , أَوْ عَطْف بَيَان .
بَيَّنَ أَنَّ التَّقْوَى خَيْرُ لِبَاسٍ ; كَمَا قَالَ : إِذَا الْمَرْء لَمْ يَلْبَس ثِيَابًا مِنْ التُّقَى تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا وَخَيْرُ لِبَاسِ الْمَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا وَرَوَى قَاسِم بْن مَالِك عَنْ عَوْف عَنْ مَعْبَد الْجُهَنِيّ قَالَ : " لِبَاس التَّقْوَى " الْحَيَاء . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " لِبَاس التَّقْوَى " هُوَ الْعَمَل الصَّالِح . وَعَنْهُ أَيْضًا : السَّمْت الْحَسَن فِي الْوَجْه . وَقِيلَ : مَا عَلَّمَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُدِيَ بِهِ . وَقِيلَ : " لِبَاس التَّقْوَى " لُبْس الصُّوف وَالْخَشِن مِنْ الثِّيَاب , مِمَّا يُتَوَاضَع بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُتَعَبَّد لَهُ خَيْر مِنْ غَيْره . وَقَالَ زَيْد بْن عَلِيّ : " لِبَاس التَّقْوَى " الدِّرْع وَالْمِغْفَر ; وَالسَّاعِدَانِ , وَالسَّاقَانِ , يُتَّقَى بِهِمَا فِي الْحَرْب . وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر : هُوَ الْخَشْيَة لِلَّهِ . وَقِيلَ : هُوَ اِسْتِشْعَار تَقْوَى اللَّه تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ . قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح , وَإِلَيْهِ يَرْجِع قَوْل اِبْن عَبَّاس وَعُرْوَة . وَقَوْل زَيْد بْن عَلِيّ حَسَن , فَإِنَّهُ حَضّ عَلَى الْجِهَاد . وَقَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ سَتْر الْعَوْرَة . وَهَذَا فِيهِ تَكْرَار , إِذْ قَالَ أَوَّلًا : " قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتكُمْ " . وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَبِسَ الْخَشِن مِنْ الثِّيَاب فَإِنَّهُ أَقْرَب إِلَى التَّوَاضُع وَتَرْك الرَّعُونَات فَدَعْوَى ; فَقَدْ كَانَ الْفُضَلَاء مِنْ الْعُلَمَاء يَلْبَسُونَ الرَّفِيع مِنْ الثِّيَاب مَعَ حُصُول التَّقْوَى , عَلَى مَا يَأْتِي مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة وَالْكِسَائِيّ " لِبَاسَ " بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى " لِبَاسًا " الْأَوَّل . وَقِيلَ : اِنْتَصَبَ بِفِعْلٍ مُضْمَر ; أَيْ وَأَنْزَلْنَا لِبَاسَ التَّقْوَى . وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاء . وَ " ذَلِكَ " نَعْته وَ " خَيْر " خَبَر الِابْتِدَاء . وَالْمَعْنَى : وَلِبَاس التَّقْوَى الْمُشَار إِلَيْهِ , الَّذِي عَلِمْتُمُوهُ , خَيْر لَكُمْ مِنْ لِبَاس الثِّيَاب الَّتِي تُوَارِي سَوْآتكُمْ , وَمِنْ الرِّيَاش الَّذِي أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ; فَالْبَسُوهُ . وَقِيلَ : اِرْتَفَعَ بِإِضْمَارِ هُوَ ; أَيْ وَهُوَ لِبَاس التَّقْوَى ; أَيْ هُوَ سَتْر الْعَوْرَة . وَعَلَيْهِ يُخَرَّج قَوْل اِبْن زَيْد . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَلِبَاس التَّقْوَى هُوَ خَيْر ; فَـ " ذَلِكَ " بِمَعْنَى هُوَ . وَالْإِعْرَاب الْأَوَّل أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " وَلِبَاس التَّقْوَى خَيْر " وَلَمْ يَقْرَأ " ذَلِكَ " . وَهُوَ خِلَاف الْمُصْحَف .
أَيْ مِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا . وَ " ذَلِكَ " رَفْع عَلَى الصِّفَة , أَوْ عَلَى الْبَدَل , أَوْ عَطْف بَيَان .
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ↓
أَيْ لَا يَصْرِفَنَّكُمْ الشَّيْطَان عَنْ الدِّين ; كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْكُمْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْجَنَّة . " أَب " لِلْمُذَكَّرِ , وَ " أَبَة " لِلْمُؤَنَّثِ . فَعَلَى هَذَا قِيلَ : أَبَوَانِ
فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال . وَيَكُون مُسْتَأْنَفًا فَيُوقَف عَلَى " مِنْ الْجَنَّة " . " لِيُرِيَهُمَا " نَصْب بِلَامِ كَيْ . وَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيل عَلَى وُجُوب سَتْر الْعَوْرَة ; لِقَوْلِهِ : " يَنْزِع عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا " . قَالَ الْآخَرُونَ : إِنَّمَا فِيهِ التَّحْذِير مِنْ زَوَال النِّعْمَة ; كَمَا نَزَلَ بِآدَم . هَذَا أَنْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ شَرْع آدَم يَلْزَمُنَا , وَالْأَمْر بِخِلَافِ ذَلِكَ .
" إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيله " الْأَصْل " يَرْءَاكُمْ " ثُمَّ خُفِّفَتْ الْهَمْزَة . " وَقَبِيله " عَطْف عَلَى الْمُضْمَر وَهُوَ تَوْكِيد لِيَحْسُنَ الْعَطْف ; كَقَوْلِهِ : " اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجك الْجَنَّة " [ الْبَقَرَة : 35 ] . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَقْبُح رَأَيْتُك وَعَمْرو , وَأَنَّ الْمُضْمَر كَالْمُظْهَرِ . " قَبِيله " جُنُوده . قَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي الْجِنّ وَالشَّيَاطِين . اِبْن زَيْد : " قَبِيله " نَسْله . وَقِيلَ : جِيله .
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : فِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْجِنّ لَا يُرَوْنَ ; لِقَوْلِهِ " مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ " قِيلَ : جَائِز أَنْ يُرَوْا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ كَشَفَ أَجْسَامهمْ حَتَّى تُرَى . قَالَ النَّحَّاس : " مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْجِنّ لَا يُرَوْنَ إِلَّا فِي وَقْت نَبِيّ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلَالَة عَلَى نُبُوَّته ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ خَلَقَهُمْ خَلْقًا لَا يُرَوْنَ فِيهِ , وَإِنَّمَا يُرَوْنَ إِذَا نُقِلُوا عَنْ صُوَرِهِمْ . وَذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَات الَّتِي لَا تَكُون إِلَّا فِي وَقْت الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : أَجْرَى اللَّه الْعَادَة بِأَنَّ بَنِي آدَم لَا يَرَوْنَ الشَّيَاطِين الْيَوْم . وَفِي الْخَبَر ( إِنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ اِبْن آدَم مَجْرَى الدَّم ) . وَقَالَ تَعَالَى : " الَّذِي يُوَسْوِس فِي صُدُور النَّاس " [ النَّاس : 5 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً - أَيْ بِالْقَلْبِ - فَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " وَقَدْ جَاءَ فِي رُؤْيَتِهِمْ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ . وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاة رَمَضَان , وَذَكَرَ قِصَّة طَوِيلَة , ذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ أَخَذَ الْجِنِّيّ الَّذِي كَانَ يَأْخُذ التَّمْر , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : ( مَا فَعَلَ أَسِيرك الْبَارِحَة ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " وَفِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَاَللَّه لَوْلَا دَعْوَة أَخِي سُلَيْمَان لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَب بِهِ وِلْدَانُ أَهْل الْمَدِينَة ) - فِي الْعِفْرِيت الَّذِي تَفَلَّتَ عَلَيْهِ . وَسَيَأْتِي فِي " ص " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
أَيْ زِيَادَة فِي عُقُوبَتهمْ وَسَوَّيْنَا بَيْنهمْ فِي الذَّهَاب عَنْ الْحَقّ .
فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال . وَيَكُون مُسْتَأْنَفًا فَيُوقَف عَلَى " مِنْ الْجَنَّة " . " لِيُرِيَهُمَا " نَصْب بِلَامِ كَيْ . وَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيل عَلَى وُجُوب سَتْر الْعَوْرَة ; لِقَوْلِهِ : " يَنْزِع عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا " . قَالَ الْآخَرُونَ : إِنَّمَا فِيهِ التَّحْذِير مِنْ زَوَال النِّعْمَة ; كَمَا نَزَلَ بِآدَم . هَذَا أَنْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ شَرْع آدَم يَلْزَمُنَا , وَالْأَمْر بِخِلَافِ ذَلِكَ .
" إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيله " الْأَصْل " يَرْءَاكُمْ " ثُمَّ خُفِّفَتْ الْهَمْزَة . " وَقَبِيله " عَطْف عَلَى الْمُضْمَر وَهُوَ تَوْكِيد لِيَحْسُنَ الْعَطْف ; كَقَوْلِهِ : " اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجك الْجَنَّة " [ الْبَقَرَة : 35 ] . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَقْبُح رَأَيْتُك وَعَمْرو , وَأَنَّ الْمُضْمَر كَالْمُظْهَرِ . " قَبِيله " جُنُوده . قَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي الْجِنّ وَالشَّيَاطِين . اِبْن زَيْد : " قَبِيله " نَسْله . وَقِيلَ : جِيله .
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : فِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْجِنّ لَا يُرَوْنَ ; لِقَوْلِهِ " مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ " قِيلَ : جَائِز أَنْ يُرَوْا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ كَشَفَ أَجْسَامهمْ حَتَّى تُرَى . قَالَ النَّحَّاس : " مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْجِنّ لَا يُرَوْنَ إِلَّا فِي وَقْت نَبِيّ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلَالَة عَلَى نُبُوَّته ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ خَلَقَهُمْ خَلْقًا لَا يُرَوْنَ فِيهِ , وَإِنَّمَا يُرَوْنَ إِذَا نُقِلُوا عَنْ صُوَرِهِمْ . وَذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَات الَّتِي لَا تَكُون إِلَّا فِي وَقْت الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : أَجْرَى اللَّه الْعَادَة بِأَنَّ بَنِي آدَم لَا يَرَوْنَ الشَّيَاطِين الْيَوْم . وَفِي الْخَبَر ( إِنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ اِبْن آدَم مَجْرَى الدَّم ) . وَقَالَ تَعَالَى : " الَّذِي يُوَسْوِس فِي صُدُور النَّاس " [ النَّاس : 5 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً - أَيْ بِالْقَلْبِ - فَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " وَقَدْ جَاءَ فِي رُؤْيَتِهِمْ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ . وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاة رَمَضَان , وَذَكَرَ قِصَّة طَوِيلَة , ذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ أَخَذَ الْجِنِّيّ الَّذِي كَانَ يَأْخُذ التَّمْر , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : ( مَا فَعَلَ أَسِيرك الْبَارِحَة ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " وَفِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَاَللَّه لَوْلَا دَعْوَة أَخِي سُلَيْمَان لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَب بِهِ وِلْدَانُ أَهْل الْمَدِينَة ) - فِي الْعِفْرِيت الَّذِي تَفَلَّتَ عَلَيْهِ . وَسَيَأْتِي فِي " ص " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
أَيْ زِيَادَة فِي عُقُوبَتهمْ وَسَوَّيْنَا بَيْنهمْ فِي الذَّهَاب عَنْ الْحَقّ .
وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ↓
الْفَاحِشَة هُنَا فِي قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ طَوَافهمْ بِالْبَيْتِ عُرَاة . وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ الشِّرْك وَالْكُفْر . وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِتَقْلِيدِهِمْ أَسْلَافهمْ , وَبِأَنَّ اللَّه أَمَرَهُمْ بِهَا . وَقَالَ الْحَسَن : " وَاَللَّه أَمَرَنَا بِهَا " قَالُوا : لَوْ كَرِهَ اللَّه مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَنَقَلَنَا عَنْهُ . " قُلْ إِنَّ اللَّه لَا يَأْمُر بِالْفَحْشَاءِ " بَيَّنَ أَنَّهُمْ مُتَحَكِّمُونَ , وَلَا دَلِيل لَهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّه أَمَرَهُمْ بِمَا اِدَّعَوْا . وَقَدْ مَضَى ذَمّ التَّقْلِيد وَذَمّ كَثِير مِنْ جَهَالَاتهمْ . وَهَذَا مِنْهَا .
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ↓
قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَقِيلَ : الْقِسْط الْعَدْل ; أَيْ أَمَرَ : بِالْعَدْلِ فَأَطِيعُوهُ . فَفِي الْكَلَام حَذْف .
أَيْ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فِي كُلّ صَلَاة إِلَى الْقِبْلَة .
أَيْ فِي أَيّ مَسْجِد كُنْتُمْ .
أَيْ وَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ .
نَظِيرُهُ " وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " [ الْأَنْعَام : 94 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ تَعُودُونَ كَمَا بَدَأَكُمْ ; أَيْ كَمَا خَلَقَكُمْ أَوَّل مَرَّة يُعِيدُكُمْ . وَقَالَ الزَّجَّاج : هُوَ مُتَعَلِّق بِمَا قَبْله . أَيْ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ .
أَيْ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فِي كُلّ صَلَاة إِلَى الْقِبْلَة .
أَيْ فِي أَيّ مَسْجِد كُنْتُمْ .
أَيْ وَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ .
نَظِيرُهُ " وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " [ الْأَنْعَام : 94 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ تَعُودُونَ كَمَا بَدَأَكُمْ ; أَيْ كَمَا خَلَقَكُمْ أَوَّل مَرَّة يُعِيدُكُمْ . وَقَالَ الزَّجَّاج : هُوَ مُتَعَلِّق بِمَا قَبْله . أَيْ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ .
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ↓
" فَرِيقًا هَدَى " " فَرِيقًا " نَصْب عَلَى الْحَال مِنْ الْمُضْمَر فِي " تَعُودُونَ " أَيْ تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ : سُعَدَاء , وَأَشْقِيَاء . يُقَوِّي هَذَا قِرَاءَة أُبَيّ " تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَة " ; عَنْ الْكِسَائِيّ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ فِي قَوْله تَعَالَى " فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَة " قَالَ : مَنْ اِبْتَدَأَ اللَّه خَلْقه لِلضَّلَالَةِ صَيَّرَهُ إِلَى الضَّلَالَة , وَإِنْ عَمِلَ بِأَعْمَالِ الْهُدَى . وَمَنْ اِبْتَدَأَ اللَّه خَلْقه عَلَى الْهُدَى صَيَّرَهُ إِلَى الْهُدَى , وَإِنْ عَمِلَ بِأَعْمَالِ الضَّلَالَة . اِبْتَدَأَ اللَّه خَلْق إِبْلِيس عَلَى الضَّلَالَة , وَعَمِلَ بِأَعْمَالِ السَّعَادَة مَعَ الْمَلَائِكَة , ثُمَّ رَدَّهُ اللَّه إِلَى مَا اِبْتَدَأَ عَلَيْهِ خَلْقه . قَالَ : " وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ " [ الْبَقَرَة : 34 ] وَفِي هَذَا رَدٌّ وَاضِح عَلَى الْقَدَرِيَّة وَمَنْ تَابِعهمْ . وَقِيلَ : " فَرِيقًا " نَصْب بِـ " هَدَى " , " وَفَرِيقًا " الثَّانِي نَصْب بِإِضْمَارِ فِعْل ; أَيْ وَأَضَلَّ فَرِيقًا . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : أَصْبَحْت لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا وَالذِّئْبَ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْت بِهِ وَحْدِي وَأَخْشَى الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا قَالَ الْفَرَّاء : وَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا لَجَازَ .
وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر : " أَنَّهُمْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة , يَعْنِي لِأَنَّهُمْ .
وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر : " أَنَّهُمْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة , يَعْنِي لِأَنَّهُمْ .