الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَسورة الأعراف الآية رقم 151
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَسورة الأعراف الآية رقم 152
الْغَضَب مِنْ اللَّه الْعُقُوبَة .


لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِقَتْلِ بَعْضهمْ بَعْضًا . وَقِيلَ : الذِّلَّة الْجِزْيَة . وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ الْجِزْيَة لَمْ تُؤْخَذ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ ذُرِّيَّاتهمْ . ثُمَّ قِيلَ : هَذَا مِنْ تَمَام كَلَام مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ; أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَنْهُ , وَتَمَّ الْكَلَام .


وَكَانَ هَذَا الْقَوْل مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَبْل أَنْ يَتُوب الْقَوْم بِقَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ , فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَابُوا وَعَفَا اللَّه عَنْهُمْ بَعْد أَنْ جَرَى الْقَتْل الْعَظِيم كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " الْبَقَرَة " أَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَتِيلًا فَهُوَ شَهِيد , وَمَنْ بَقِيَ حَيًّا فَهُوَ مَغْفُور لَهُ . وَقِيلَ : كَانَ ثَمَّ طَائِفَة أُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل , أَيْ حُبّه , فَلَمْ يَتُوبُوا ; فَهُمْ الْمَعْنِيُّونَ . وَقِيلَ : أَرَادَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْل رُجُوع مُوسَى مِنْ الْمِيقَات . وَقِيلَ : أَرَادَ أَوْلَادهمْ . وَهُوَ مَا جَرَى عَلَى قُرَيْظَة وَالنُّضَيْر ; أَيْ سَيَنَالُ أَوْلَادَهُمْ . وَاَللَّه أَعْلَم . " وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " أَيْ مِثْل مَا فَعَلْنَا بِهَؤُلَاءِ نَفْعَل بِالْمُفْتَرِينَ . وَقَالَ مَالِك بْن أَنَس رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِ : مَا مِنْ مُبْتَدِع إِلَّا وَتَجِدُ فَوْق رَأْسه ذِلَّة , ثُمَّ قَرَأَ " إِنَّ الَّذِينَ اِتَّخَذُوا الْعِجْل سَيَنَالُهُمْ غَضَب مِنْ رَبِّهِمْ - حَتَّى قَالَ - وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " أَيْ الْمُبْتَدِعِينَ . وَقِيلَ : إِنَّ مُوسَى أُمِرَ بِذَبْحِ الْعِجْل , فَجَرَى مِنْهُ دَم وَبَرَده بِالْمِبْرَدِ وَأَلْقَاهُ مَعَ الدَّم فِي الْيَمّ وَأَمَرَهُمْ بِالشُّرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاء ; فَمَنْ عَبَدَ ذَلِكَ الْعِجْل وَأُشْرِبَهُ ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى أَطْرَاف فَمه ; فَبِذَلِكَ عَرَفَ عَبَدَة الْعِجْل . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي " الْبَقَرَة " ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ اللَّه يَقْبَل تَوْبَة التَّائِب مِنْ الشِّرْك وَغَيْره .
وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌسورة الأعراف الآية رقم 153
أَيْ الْكُفْر وَالْمَعَاصِي .


أَيْ مِنْ بَعْد فِعْلِهَا .


أَيْ مِنْ بَعْد التَّوْبَة
وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَسورة الأعراف الآية رقم 154
أَيْ سَكَنَ . وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا مُعَاوِيَة بْن قُرَّة " سَكَنَ " بِالنُّونِ . وَأَصْل السُّكُوت السُّكُون وَالْإِمْسَاك ; يُقَال : جَرَى الْوَادِي ثَلَاثًا ثُمَّ سَكَنَ , أَيْ أَمْسَكَ عَنْ الْجَرْي . وَقَالَ عِكْرِمَة : سَكَتَ مُوسَى عَنْ الْغَضَب ; فَهُوَ مِنْ الْمَقْلُوب . كَقَوْلِك : أَدْخَلْت الْأُصْبُع فِي الْخَاتَم وَأَدْخَلْت الْخَاتَم فِي الْأُصْبُع . وَأَدْخَلْت الْقَلَنْسُوَة فِي رَأْسِي , وَأَدْخَلْت رَأْسِي فِي الْقَلَنْسُوَة .


الَّتِي أَلْقَاهَا .


أَيْ " هُدًى " مِنْ الضَّلَالَة ; " وَرَحْمَةً " أَيْ مِنْ الْعَذَاب . وَالنَّسْخ : نَقْل مَا فِي كِتَاب إِلَى كِتَاب آخَر . وَيُقَال لِلْأَصْلِ الَّذِي كُتِبَتْ مِنْهُ : نُسْخَة , وَلِلْفَرْعِ نُسْخَة . فَقِيلَ : لَمَّا تَكَسَّرَتْ الْأَلْوَاح صَامَ مُوسَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا ; فَرُدَّتْ عَلَيْهِ وَأُعِيدَتْ لَهُ تِلْكَ الْأَلْوَاح فِي لَوْحَيْنِ , وَلَمْ يَفْقِد مِنْهَا شَيْئًا ; ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : فَعَلَى هَذَا " وَفِي نُسْخَتِهَا " أَيْ وَفِيمَا نُسِخَ مِنْ الْأَلْوَاح الْمُتَكَسِّرَة وَنُقِلَ إِلَى الْأَلْوَاح الْجَدِيدَة هُدًى وَرَحْمَة . وَقَالَ عَطَاء : وَفِيمَا بَقِيَ مِنْهَا . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سُبُعُهَا , وَذَهَبَ سِتَّة أَسْبَاعِهَا . وَلَكِنْ لَمْ يَذْهَب مِنْ الْحُدُود وَالْأَحْكَام شَيْء . وَقِيلَ : الْمَعْنَى " وَفِي نُسْخَتِهَا " أَيْ وَفِيمَا نُسِخَ لَهُ مِنْهَا مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ هُدًى . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَفِيمَا كُتِبَ لَهُ فِيهَا هُدًى وَرَحْمَة , فَلَا يَحْتَاج إِلَى أَصْل يَنْقُل عَنْهُ . وَهَذَا كَمَا يُقَال : اِنْسَخْ مَا يَقُول فُلَان , أَيْ أَثْبِتْهُ فِي كِتَابك .


أَيْ يَخَافُونَ . وَفِي اللَّام ثَلَاثَة أَقْوَال : قَوْل الْكُوفِيِّينَ هِيَ زَائِدَة . قَالَ الْكِسَائِيّ : حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الْفَرَزْدَق يَقُول : نَقَدْت لَهَا مِائَة دِرْهَم , بِمَعْنَى نَقَدْتهَا . وَقِيلَ : هِيَ لَام أَجْل ; الْمَعْنَى : وَاَلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْل رَبّهمْ يَرْهَبُونَ لَا رِيَاء وَلَا سُمْعَة ; عَنْ الْأَخْفَش . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِمَصْدَرٍ ; الْمَعْنَى : لِلَّذِينَ هُمْ رَهْبَتُهُمْ لِرَبِّهِمْ . وَقِيلَ : لَمَّا تَقَدَّمَ الْمَفْعُول حَسُنَ دُخُول اللَّام ; كَقَوْلِهِ : " إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ " [ يُوسُف : 43 ] . فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْمَعْمُول وَهُوَ الْمَفْعُول ضَعُفَ عَمَل الْفِعْل فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَتَعَدَّى .
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَسورة الأعراف الآية رقم 155
مَفْعُولَانِ , أَحَدهمَا حُذِفَتْ مِنْهُ مِنْ ; وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : مِنَّا الَّذِي اُخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً وَبِرًّا إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازِعُ وَقَالَ الرَّاعِي يَمْدَح رَجُلًا : اِخْتَرْتُك النَّاسَ إِذْ رَثَّتْ خَلَائِقُهُمْ وَاخْتَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْده السُّولُ يُرِيد : اِخْتَرْتُك مِنْ النَّاس . وَأَصْل اِخْتَارَ اُخْتِيرَ ; فَلَمَّا تَحَرَّكَتْ الْيَاء وَقَبْلهَا فَتْحَة قُلِبَتْ أَلِفًا , نَحْو قَالَ وَبَاعَ .


أَيْ مَاتُوا . وَالرَّجْفَة فِي اللُّغَة الزَّلْزَلَة الشَّدِيدَة . وَيُرْوَى أَنَّهُمْ زُلْزِلُوا حَتَّى مَاتُوا .


أَيْ أَمَتَّهُمْ ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " إِنْ اِمْرُؤٌ هَلَكَ " [ النِّسَاء : 176 ] . " وَإِيَّايَ " عَطْف . وَالْمَعْنَى : لَوْ شِئْت أَمَتَّنَا مِنْ قَبْل أَنْ نَخْرُج إِلَى الْمِيقَات بِمَحْضَرِ بَنِي إِسْرَائِيل حَتَّى لَا يَتَّهِمُونِي . أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيد الْقَطَّان عَنْ سُفْيَان عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عُمَارَة بْن عَبْد عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : اِنْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُون صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمَا وَانْطَلَقَ شَبَّر وَشَبِّير - هُمَا اِبْنَا هَارُون - فَانْتَهَوْا إِلَى جَبَل فِيهِ سَرِير , فَقَامَ عَلَيْهِ هَارُون فَقُبِضَ رُوحه . فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمه , فَقَالُوا : أَنْتَ قَتَلْته , حَسَدْتنَا عَلَى لِينِهِ وَعَلَى خُلُقِهِ , أَوْ كَلِمَة نَحْوهَا , الشَّكّ مِنْ سُفْيَان , فَقَالَ : كَيْفَ أَقْتُلهُ وَمَعِيَ اِبْنَاهُ ! قَالَ : فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ ; فَاخْتَارُوا مِنْ كُلّ سِبْط عَشَرَة . قَالَ : فَذَلِكَ قَوْله : " وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا " فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ ; فَقَالُوا : مَنْ قَتَلَك يَا هَارُون ؟ قَالَ : مَا قَتَلَنِي أَحَد وَلَكِنَّ اللَّه تَوَفَّانِي . قَالُوا : يَا مُوسَى , مَا تُعْصَى .


فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَة , فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا , وَيَقُول : " أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُك " قَالَ : فَدَعَا اللَّه فَأَحْيَاهُمْ وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاء كُلَّهُمْ . وَقِيلَ : أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَة لِقَوْلِهِمْ : أَرِنَا اللَّه جَهْرَة كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِن لَك حَتَّى نَرَى اللَّه جَهْرَة فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَة " [ الْبَقَرَة : 55 ] . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّمَا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَة ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْهَوْا مَنْ عَبَدَ الْعِجْل , وَلَمْ يَرْضَوْا عِبَادَته . وَقِيلَ : هَؤُلَاءِ السَّبْعُونَ غَيْر مَنْ قَالُوا أَرِنَا اللَّه جَهْرَة . وَقَالَ وَهْب : مَا مَاتُوا , وَلَكِنْ أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَة مِنْ الْهَيْبَة حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَبِينَ مَفَاصِلهمْ , وَخَافَ مُوسَى عَلَيْهِمْ الْمَوْت . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " عَنْ وَهْب أَنَّهُمْ مَاتُوا يَوْمًا وَلَيْلَة . وَقِيلَ غَيْر هَذَا فِي مَعْنَى سَبَب أَخْذِهِمْ بِالرَّجْفَةِ . وَاَللَّه أَعْلَم بِصِحَّةِ ذَلِكَ . وَمَقْصُود الِاسْتِفْهَام فِي قَوْله : " أَتُهْلِكُنَا " الْجَحْد ; أَيْ لَسْت تَفْعَل ذَلِكَ . وَهُوَ كَثِير فِي كَلَام الْعَرَب . وَإِذَا كَانَ نَفْيًا كَانَ بِمَعْنَى الْإِيجَاب ; كَمَا قَالَ : أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاح وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الدُّعَاء وَالطَّلَب , أَيْ لَا تُهْلِكنَا ; وَأَضَافَ إِلَى نَفْسه . وَالْمُرَاد الْقَوْم الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ الرَّجْفَة . وَقَالَ الْمُبَرِّد : الْمُرَاد بِالِاسْتِفْهَامِ اِسْتِفْهَام اِسْتِعْظَام ; كَأَنَّهُ يَقُول : لَا تُهْلِكْنَا , وَقَدْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ اللَّه لَا يُهْلِك أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْره ; وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِ عِيسَى : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك " [ الْمَائِدَة : 118 ] . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالسُّفَهَاءِ السَّبْعُونَ . وَالْمَعْنَى : أَتُهْلِكُ بَنِي إِسْرَائِيل بِمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاء فِي قَوْلِهِمْ " أَرِنَا اللَّه جَهْرَة " .



أَيْ مَا هَذَا إِلَّا اِخْتِبَارُك وَامْتِحَانُك . وَأَضَافَ الْفِتْنَة إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى نَفْسِهِ ; كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم : " وَإِذَا مَرِضْت فَهُوَ يَشْفِينِ " [ الشُّعَرَاء : 80 ] فَأَضَافَ الْمَرَض إِلَى نَفْسه وَالشِّفَاء إِلَى اللَّه تَعَالَى : وَقَالَ يُوشَع : " وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَان " [ الْكَهْف : 63 ] . وَإِنَّمَا اِسْتَفَادَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ : " فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَك مِنْ بَعْدِك " [ طَه : 85 ] . فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمه وَرَأَى الْعِجْل مَنْصُوبًا لِلْعِبَادَةِ وَلَهُ خُوَار قَالَ " إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا " أَيْ بِالْفِتْنَةِ .


وَهَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة .
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَسورة الأعراف الآية رقم 156
أَيْ وَفِّقْنَا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَة الَّتِي تُكْتَب لَنَا بِهَا الْحَسَنَات .


أَيْ جَزَاء عَلَيْهَا .


أَيْ تُبْنَا ; قَالَهُ مُجَاهِد وَأَبُو الْعَالِيَة وَقَتَادَة . وَالْهُود : التَّوْبَة ;


أَيْ الْمُسْتَحَقِّينَ لَهُ , أَيْ هَذِهِ الرَّجْفَة وَالصَّاعِقَة عَذَاب مِنِّي أُصِيب بِهِ مَنْ أَشَاء . وَقِيلَ : الْمَعْنَى " مَنْ أَشَاء " أَيْ مَنْ أَشَاء أَنْ أُضِلَّهُ .


عُمُوم , أَيْ لَا نِهَايَة لَهَا , أَيْ مَنْ دَخَلَ فِيهَا لَمْ تَعْجِز عَنْهُ . وَقِيلَ : وَسِعَتْ كُلّ شَيْء مِنْ الْخَلْق حَتَّى إِنَّ الْبَهِيمَة لَهَا رَحْمَة وَعَطْف عَلَى وَلَدهَا . قَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : طَمِعَ فِي هَذِهِ الْآيَة كُلّ شَيْء حَتَّى إِبْلِيس , فَقَالَ : أَنَا شَيْء ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة وَاَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ " فَقَالَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى : نَحْنُ مُتَّقُونَ ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُول النَّبِيّ الْأُمِّيّ " [ الْأَعْرَاف : 157 ] الْآيَة . فَخَرَجَتْ الْآيَة عَنْ الْعُمُوم , وَالْحَمْد لِلَّهِ . رَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَتَبَهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّة . رَوَى يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ نَوْف الْبِكَالِيّ الْحِمْيَرِيّ : لَمَّا اِخْتَارَ مُوسَى قَوْمه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِ رَبّه قَالَ اللَّه تَعَالَى لِمُوسَى : أَنْ أَجْعَل لَكُمْ الْأَرْض مَسْجِدًا وَطَهُورًا تُصَلُّونَ حَيْثُ أَدْرَكَتْكُمْ الصَّلَاة إِلَّا عِنْد مِرْحَاض أَوْ حَمَّام أَوْ قَبْر , وَأَجْعَل السَّكِينَة فِي قُلُوبكُمْ , وَأَجْعَلكُمْ تَقْرَءُونَ التَّوْرَاة عَنْ ظَهْر قُلُوبكُمْ , يَقْرَأهَا الرَّجُل مِنْكُمْ وَالْمَرْأَة وَالْحُرّ وَالْعَبْد وَالصَّغِير وَالْكَبِير . فَقَالَ ذَلِكَ مُوسَى لِقَوْمِهِ , فَقَالُوا : لَا نُرِيد أَنْ نُصَلِّي إِلَّا فِي الْكَنَائِس , وَلَا نَسْتَطِيع حَمْل السَّكِينَة فِي قُلُوبنَا , وَنُرِيد أَنْ تَكُون كَمَا كَانَتْ فِي التَّابُوت , وَلَا نَسْتَطِيع أَنْ نَقْرَأ التَّوْرَاة عَنْ ظَهْر قُلُوبنَا , وَلَا نُرِيد أَنْ نَقْرَأهَا إِلَّا نَظَرًا . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ - إِلَى قَوْله - الْمُفْلِحُونَ " . فَجَعَلَهَا لِهَذِهِ الْأُمَّة . فَقَالَ مُوسَى : يَا رَبّ , اِجْعَلْنِي نَبِيَّهُمْ . فَقَالَ : نَبِيُّهُمْ مِنْهُمْ . قَالَ : رَبّ اِجْعَلْنِي مِنْهُمْ . قَالَ : إِنَّك لَنْ تُدْرِكَهُمْ . فَقَالَ مُوسَى : يَا رَبّ , أَتَيْتُك بِوَفْدِ بَنِي إِسْرَائِيل , فَجَعَلْت وِفَادَتَنَا لِغَيْرِنَا . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَمِنْ قَوْم مُوسَى أُمَّة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ " [ الْأَعْرَاف : 159 ] . فَرَضِيَ مُوسَى . قَالَ نَوْف : فَاحْمَدُوا اللَّه الَّذِي جَعَلَ وِفَادَة بَنِي إِسْرَائِيل لَكُمْ . وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْم أَيْضًا هَذِهِ الْقِصَّة مِنْ حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن أَبِي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ قَالَ حَدَّثَنِي نَوْف الْبِكَالِيّ إِذَا اِفْتَتَحَ مَوْعِظَة قَالَ : أَلَا تَحْمَدُونَ رَبّكُمْ الَّذِي حَفِظَ غَيْبَتكُمْ وَأَخَذَ لَكُمْ بَعْد سَهْمكُمْ وَجَعَلَ وِفَادَة الْقَوْم لَكُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفَدَ بِبَنِي إِسْرَائِيل فَقَالَ اللَّه لَهُمْ : إِنِّي قَدْ جَعَلْت لَكُمْ الْأَرْض مَسْجِدًا حَيْثُمَا صَلَّيْتُمْ فِيهَا تَقَبَّلْت صَلَاتكُمْ إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن مَنْ صَلَّى فِيهِنَّ لَمْ أَقْبَلْ صَلَاته الْمَقْبَرَة وَالْحَمَّام وَالْمِرْحَاض . قَالُوا : لَا , إِلَّا فِي الْكَنِيسَة . قَالَ : وَجَعَلْت لَكُمْ التُّرَاب طَهُورًا إِذَا لَمْ تَجِدُوا الْمَاء . قَالُوا : لَا , إِلَّا بِالْمَاءِ . قَالَ : وَجَعَلْت لَكُمْ حَيْثُمَا صَلَّى الرَّجُل فَكَانَ وَحْده تَقَبَّلْت صَلَاته . قَالُوا : لَا , إِلَّا فِي جَمَاعَة .
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَسورة الأعراف الآية رقم 157
هَذِهِ الْأَلْفَاظ كَمَا ذَكَرْنَا أَخْرَجَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِنْ الِاشْتِرَاك الَّذِي يَظْهَر فِي قَوْله : " فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ " وَخَلَصَتْ هَذِهِ الْعِدَة لِأُمَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَغَيْرهمَا . وَ " يَتَّبِعُونَ " يَعْنِي فِي شَرْعه وَدِينه وَمَا جَاءَ بِهِ . وَالرَّسُول وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ ; فَإِنَّ الرَّسُول أَخَصُّ مِنْ النَّبِيّ . وَقُدِّمَ الرَّسُول اِهْتِمَامًا بِمَعْنَى الرِّسَالَة , وَإِلَّا فَمَعْنَى النُّبُوَّة هُوَ الْمُتَقَدِّم ; وَلِذَلِكَ رَدَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَرَاء حِين قَالَ : وَبِرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْت . فَقَالَ لَهُ : ( قُلْ آمَنْت بِنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت ) خَرَّجَهُ فِي الصَّحِيح . وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي قَوْله : " وَبِرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْت " تَكْرِير الرِّسَالَة ; وَهُوَ مَعْنًى وَاحِد فَيَكُون كَالْحَشْوِ الَّذِي لَا فَائِدَة فِيهِ . بِخِلَافِ قَوْله : " وَنَبِيّك الَّذِي أَرْسَلْت " فَإِنَّهُمَا لَا تَكْرَار فِيهِمَا . وَعَلَى هَذَا فَكُلّ رَسُول نَبِيّ , وَلَيْسَ كُلّ نَبِيّ رَسُولًا ; لِأَنَّ الرَّسُول وَالنَّبِيّ قَدْ اِشْتَرَكَا فِي أَمْر عَامّ وَهُوَ النَّبَأ , وَافْتَرَقَا فِي أَمْر خَاصّ وَهِيَ الرِّسَالَة . فَإِذَا قُلْت : مُحَمَّد رَسُول مِنْ عِنْد اللَّه تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ نَبِيّ وَرَسُول اللَّه . وَكَذَلِكَ غَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ . قَوْله تَعَالَى : " الْأُمِّيّ " هُوَ مَنْسُوب إِلَى الْأُمَّة الْأُمِّيَّة , الَّتِي هِيَ عَلَى أَصْل وِلَادَتِهَا , لَمْ تَتَعَلَّمْ الْكِتَابَة وَلَا قِرَاءَتهَا ; قَالَهُ اِبْن عَزِيز . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَانَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُب وَلَا يَقْرَأ وَلَا يَحْسِب ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك " [ الْعَنْكَبُوت : 48 ] . وَرُوِيَ فِي الصَّحِيح عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّا أُمَّةٌ أُمَيَّة لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسِب ) . الْحَدِيث . وَقِيلَ : نُسِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّة أُمّ الْقُرَى ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس .



رَوَى الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سِنَان قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْح قَالَ حَدَّثَنَا هِلَال عَنْ عَطَاء بْن يَسَار لَقِيت عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص قُلْت : أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاة . فَقَالَ : أَجَلْ , وَاَللَّه إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاة بِبَعْضِ صِفَته فِي الْقُرْآن : يَا أَيُّهَا النَّبِيّ إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا , ( الْأَحْزَاب : 25 ) وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ , أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي , سَمَّيْتُك الْمُتَوَكِّل , لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظ وَلَا صَخَّاب فِي الْأَسْوَاق , وَلَا يَدْفَع بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَة وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِر , وَلَنْ يَقْبِضهُ اللَّه تَعَالَى حَتَّى يُقِيم بِهِ الْمِلَّة الْعَوْجَاء بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَيَفْتَح بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا , وَآذَانًا صُمًّا , وَقُلُوبًا غُلْفًا . فِي غَيْر الْبُخَارِيّ قَالَ عَطَاء : ثُمَّ لَقِيت كَعْبًا فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَمَا اِخْتَلَفَا حَرْفًا ; إِلَّا أَنَّ كَعْبًا قَالَ بُلِّغْته : قُلُوبًا غُلُوفِيًا وَآذَانًا صُمُومِيًا وَأَعْيُنًا عُمُومِيًا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَأَظُنّ هَذَا وَهْمًا أَوْ عُجْمَة . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْب أَنَّهُ قَالَهَا : قُلُوبًا غُلُوفًا وَآذَانَا صُمُومًا وَأَعْيُنًا عُمُومِيًا . قَالَ الطَّبَرِيّ : هِيَ لُغَة حِمْيَرِيَّة . وَزَادَ كَعْب فِي صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَوْلِده بِمَكَّة , وَهِجْرَته بِطَابَةَ , وَمُلْكه بِالشَّأْمِ , وَأُمَّته الْحَامِدُونَ , يَحْمَدُونَ اللَّه عَلَى كُلّ حَال وَفِي كُلّ مَنْزِل , يُوَضِّئُونَ أَطْرَافهمْ وَيَأْتَزِرُونَ إِلَى أَنْصَاف سَاقِهِمْ , رُعَاة الشَّمْس , يُصَلُّونَ الصَّلَوَات حَيْثُمَا أَدْرَكَتْهُمْ وَلَوْ عَلَى ظَهْر الْكُنَاسَة , صَفُّهُمْ فِي الْقِتَال مِثْل صَفِّهِمْ فِي الصَّلَاة . ثُمَّ قَرَأَ " إِنَّ اللَّه يُحِبّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيله صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوص " [ الصَّفّ : 4 ] .


قَالَ عَطَاء : " يَأْمُرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ " بِخَلْعِ الْأَنْدَاد , وَمَكَارِم الْأَخْلَاق , وَصِلَة الْأَرْحَام . " وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَر " عِبَادَة الْأَصْنَام , وَقَطْع الْأَرْحَام .


مَذْهَب مَالِك أَنَّ الطَّيِّبَات هِيَ الْمُحَلَّلَات ; فَكَأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّيِّبِ ; إِذْ هِيَ لَفْظَة تَتَضَمَّن مَدْحًا وَتَشْرِيفًا . وَبِحَسَبِ هَذَا نَقُول فِي الْخَبَائِث : إِنَّهَا الْمُحَرَّمَات ; وَلِذَلِكَ قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْخَبَائِث هِيَ لَحْم الْخِنْزِير وَالرِّبَا وَغَيْره . وَعَلَى هَذَا حَلَّلَ مَالِك الْمُتَقَذَّرَات كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِب وَالْخَنَافِس وَنَحْوهَا . وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الطَّيِّبَات هِيَ مِنْ جِهَة الطَّعْم ; إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَة عِنْده لَيْسَتْ عَلَى عُمُومهَا ; لِأَنَّ عُمُومهَا بِهَذَا الْوَجْه مِنْ الطَّعْم يَقْتَضِي تَحْلِيل الْخَمْر وَالْخِنْزِير , بَلْ يَرَاهَا مُخْتَصَّة فِيمَا حَلَّلَهُ الشَّرْع . وَيَرَى الْخَبَائِث لَفْظًا عَامًّا فِي الْمُحَرَّمَات بِالشَّرْعِ وَفِي الْمُتَقَذَّرَات ; فَيُحَرِّم الْعَقَارِب وَالْخَنَافِس وَالْوَزَغ وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى . وَالنَّاس عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ .


الْإِصْر : الثِّقْل ; قَالَهُ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَابْن جُبَيْر . وَالْإِصْر أَيْضًا : الْعَهْد ; قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن . وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَة الْمَعْنَيَيْنِ , فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل قَدْ كَانَ أُخِذَ عَلَيْهِمْ عَهْد أَنْ يَقُومُوا بِأَعْمَالٍ ثِقَال ; فَوُضِعَ عَنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْعَهْد وَثِقَل تِلْكَ الْأَعْمَال ; كَغَسْلِ الْبَوْل , وَتَحْلِيل الْغَنَائِم , وَمُجَالَسَة الْحَائِض وَمُؤَاكَلَتهَا وَمُضَاجَعَتهَا ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدهمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ . وَرُوِيَ : جِلْد أَحَدهمْ . وَإِذَا جَمَعُوا الْغَنَائِم نَزَلَتْ نَار مِنْ السَّمَاء فَأَكَلَتْهَا , وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَة لَمْ يَقْرَبُوهَا , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح وَغَيْره .


فَالْأَغْلَال عِبَارَة مُسْتَعَارَة لِتِلْكَ الْأَثْقَال . وَمِنْ الْأَثْقَال تَرْك الِاشْتِغَال يَوْم السَّبْت ; فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام رَأَى يَوْم السَّبْت رَجُلًا يَحْمِل قَصَبًا فَضَرَبَ عُنُقَهُ . هَذَا قَوْل جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ . وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَة , وَإِنَّمَا كَانَ الْقِصَاص . وَأُمِرُوا بِقَتْلِ أَنْفُسهمْ عَلَامَة لِتَوْبَتِهِمْ , إِلَى غَيْر ذَلِكَ . فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِالْأَغْلَالِ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّار يَا أُمَّ مَالِك وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ سِوَى الْعَدْل شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ فَشَبَّهَ حُدُود الْإِسْلَام وَمَوَانِعه عَنْ التَّخَطِّي إِلَى الْمَحْظُورَات بِالسَّلَاسِلِ الْمُحِيطَات بِالرِّقَابِ . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل أَبِي أَحْمَد بْن جَحْش لِأَبِي سُفْيَان : اِذْهَبْ بِهَا اِذْهَبْ بِهَا طُوِّقْتَهَا طَوْق الْحَمَامَه أَيْ لَزِمَك عَارهَا . يُقَال : طُوِّقَ فُلَان كَذَا إِذَا لَزِمَهُ . إِنْ قِيلَ : كَيْفَ عَطَفَ الْأَغْلَال وَهُوَ جَمْع عَلَى الْإِصْر وَهُوَ مُفْرَد ; فَالْجَوَاب أَنَّ الْإِصْر مَصْدَر يَقَع عَلَى الْكَثْرَة . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر " آصَارَهُمْ " بِالْجَمْعِ ; مِثْل أَعْمَالهمْ . فَجَمَعَهُ لِاخْتِلَافِ ضُرُوب الْمَآثِم . وَالْبَاقُونَ بِالتَّوْحِيدِ ; لِأَنَّهُ مَصْدَر يَقَع عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِير مِنْ جِنْسه مَعَ إِفْرَاد لَفْظه . وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّوْحِيد فِي قَوْله : " وَلَا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا " [ الْبَقَرَة : 286 ] . وَهَكَذَا كُلَّمَا يَرِد عَلَيْك مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ; مِثْل " وَعَلَى سَمْعِهِمْ " [ الْبَقَرَة : 7 ] . " لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ " [ إِبْرَاهِيم : 43 ] . و " مِنْ طَرْف خَفِيّ " [ الشُّورَى : 45 ] . كُلّه بِمَعْنَى الْجَمْع .


أَيْ وَقَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ . قَالَ الْأَخْفَش : وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ وَعِيسَى " وَعَزَرُوهُ " بِالتَّخْفِيفِ . وَكَذَا " وَعَزَرْتُمُوهُمْ " [ الْمَائِدَة : 12 ] . يُقَال : عَزَرَهُ يَعْزِرهُ وَيُعَزِّرهُ .



الْقُرْآن


الْفَلَاح " الظَّفَر بِالْمَطْلُوبِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَسورة الأعراف الآية رقم 158
ذَكَرَ أَنَّ مُوسَى بَشَّرَ بِهِ , وَأَنَّ عِيسَى بَشَّرَ بِهِ . ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُول بِنَفْسِهِ " إِنِّي رَسُول اللَّه إِلَيْكُمْ جَمِيعًا " . وَ " كَلِمَاته " كَلِمَات اللَّه تَعَالَى كُتُبُهُ مِنْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن .
وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَسورة الأعراف الآية رقم 159
أَيْ يَدْعُونَ النَّاس إِلَى الْهِدَايَة . و " يَعْدِلُونَ " مَعْنَاهُ فِي الْحُكْم . وَفِي التَّفْسِير : إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ وَرَاء الصِّين , مِنْ وَرَاء نَهَر الرَّمْل , يَعْبُدُونَ اللَّه بِالْحَقِّ وَالْعَدْل , آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَتَرَكُوا السَّبْت , يَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَتَنَا , لَا يَصِل إِلَيْنَا مِنْهُمْ أَحَد , وَلَا مِنَّا إِلَيْهِمْ أَحَد . فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَاف بَعْد مُوسَى كَانَتْ مِنْهُمْ أُمَّة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ , وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَكُونُوا بَيْن ظَهَرَانَيْ بَنِي إِسْرَائِيل حَتَّى أَخْرَجَهُمْ اللَّه إِلَى نَاحِيَة مِنْ أَرْضه فِي عُزْلَة مِنْ الْخَلْق , فَصَارَ لَهُمْ سَرَب فِي الْأَرْض , فَمَشَوْا فِيهِ سَنَة وَنِصْف سَنَة حَتَّى خَرَجُوا وَرَاء الصِّين ; فَهُمْ عَلَى الْحَقّ إِلَى الْآن . وَبَيْن النَّاس وَبَيْنَهُمْ بَحْرٌ لَا يُوصَل إِلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ . ذَهَبَ جِبْرِيل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ لَيْلَة الْمِعْرَاج فَآمَنُوا بِهِ وَعَلَّمَهُمْ سُوَرًا مِنْ الْقُرْآن وَقَالَ لَهُمْ : هَلْ لَكُمْ مِكْيَال وَمِيزَان ؟ قَالُوا : لَا , قَالَ : فَمِنْ أَيْنَ مَعَاشُكُمْ ؟ قَالُوا : نَخْرُج إِلَى الْبَرِيَّة فَنَزْرَع , فَإِذَا حَصَدْنَا وَضَعْنَاهُ هُنَاكَ , فَإِذَا اِحْتَاجَ أَحَدنَا إِلَيْهِ يَأْخُذ حَاجَته . قَالَ : فَأَيْنَ نِسَاؤُكُمْ ؟ قَالُوا : فِي نَاحِيَة مِنَّا , فَإِذَا اِحْتَاجَ أَحَدُنَا لِزَوْجَتِهِ صَارَ إِلَيْهَا فِي وَقْت الْحَاجَة . قَالَ : فَيَكْذِب أَحَدكُمْ فِي حَدِيثه ؟ قَالُوا : لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدنَا أَخَذَتْهُ لَظًى , إِنَّ النَّار تَنْزِل فَتُحَرِّقهُ . قَالَ : فَمَا بَالُ بُيُوتِكُمْ مُسْتَوِيَة ؟ قَالُوا لِئَلَّا يَعْلُو بَعْضنَا عَلَى بَعْض . قَالَ : فَمَا بَال قُبُوركُمْ عَلَى أَبْوَابِكُمْ ؟ قَالُوا : لِئَلَّا نَغْفُل عَنْ ذِكْرِ الْمَوْت . ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الدُّنْيَا لَيْلَة الْإِسْرَاء أُنْزِلَ عَلَيْهِ : " وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ " [ الْأَعْرَاف : 181 ] يَعْنِي أُمَّة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام . يُعْلِمُهُ أَنَّ الَّذِي أَعْطَيْت مُوسَى فِي قَوْمه أَعْطَيْتُك فِي أُمَّتك . وَقِيلَ : هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ أَهْل الْكِتَاب . وَقِيلَ : هُمْ قَوْم مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ مُوسَى قَبْل نَسْخِهِ , وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاء .
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَسورة الأعراف الآية رقم 160
" وَقَطَّعْنَاهُمْ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا "

عَدَّدَ نِعَمه عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل , وَجَعَلَهُمْ أَسْبَاطًا لِيَكُونَ أَمْر كُلّ سِبْط مَعْرُوفًا مِنْ جِهَة رَئِيسِهِمْ ; فَيَخِفّ الْأَمْر عَلَى مُوسَى . وَفِي التَّنْزِيل : " وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا " [ الْمَائِدَة : 12 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَقَوْله : " اِثْنَتَيْ عَشْرَة " وَالسِّبْط مُذَكَّر لِأَنَّ بَعْده " أُمَمًا " فَذَهَبَ التَّأْنِيث إِلَى الْأُمَم . وَلَوْ قَالَ : اِثْنَيْ عَشَر لِتَذْكِيرِ السِّبْط جَازَ ; عَنْ الْفَرَّاء . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْأَسْبَاطِ الْقَبَائِل وَالْفِرَق ; فَلِذَلِكَ أَنَّثَ الْعَدَد . قَالَ الشَّاعِر : وَإِنَّ قُرَيْشًا كُلّهَا عَشْر أَبْطُن وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلهَا الْعَشْر فَذَهَبَ بِالْبَطْنِ إِلَى الْقَبِيلَة وَالْفَصِيلَة ; فَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا . وَالْبَطْن مُذَكَّر ; كَمَا أَنَّ الْأَسْبَاط جَمْع مُذَكَّر . الزَّجَّاج : الْمَعْنَى قَطَّعْنَاهُمْ اِثْنَتَيْ عَشْرَة فِرْقَة . " أَسْبَاطًا " بَدَل مِنْ اِثْنَتَيْ عَشْرَة " أُمَمًا " نَعْت لِلْأَسْبَاطِ . وَرَوَى الْمُفَضَّل عَنْ عَاصِم " وَقَطَعْنَاهُمْ " مُخَفَّفًا . " أَسْبَاطًا " الْأَسْبَاط فِي وَلَد إِسْحَاق بِمَنْزِلَةِ الْقَبَائِل فِي وَلَد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام . وَالْأَسْبَاط مَأْخُوذ مِنْ السَّبَط وَهُوَ شَجَر تَعْلِفُهُ الْإِبِل .
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَسورة الأعراف الآية رقم 161
" هَذِهِ الْقَرْيَة " أَيْ الْمَدِينَة سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقَرَّتْ أَيْ اِجْتَمَعَتْ وَمِنْهُ قَرَيْت الْمَاء فِي الْحَوْض أَيْ جَمَعْته وَاسْم ذَلِكَ الْمَاء قِرًى ( بِكَسْرِ الْقَاف ) مَقْصُور وَكَذَلِكَ مَا قُرِيَ بِهِ الضَّيْف قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ وَالْمِقْرَاة لِلْحَوْضِ وَالْقَرِيّ لِمَسِيلِ الْمَاء وَالْقَرَا لِلظَّهْرِ وَمِنْهُ قَوْله لَاحِقُ بَطْنٍ بِقَرًا سَمِين وَالْمَقَارِي الْجِفَان الْكِبَار قَالَ عِظَام الْمَقَارِي ضَيْفهمْ لَا يُفَزَّع وَوَاحِد الْمَقَارِي مِقْرَاة وَكُلّه بِمَعْنَى الْجَمْع غَيْر مَهْمُوز وَالْقِرْيَة ( بِكَسْرِ الْقَاف ) لُغَة الْيَمَن وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينهَا , فَقَالَ الْجُمْهُور : هِيَ بَيْت الْمَقْدِس وَقِيلَ أَرِيحَاء مِنْ بَيْت الْمَقْدِس قَالَ عُمَر بْن شَبَّة كَانَتْ قَاعِدَة وَمَسْكَن مُلُوك اِبْن كَيْسَان الشَّام الضَّحَّاك الرَّمْلَة وَالْأُرْدُنّ وَفِلَسْطِين وَتَدْمُر وَهَذِهِ نِعْمَة أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ دُخُول الْبَلْدَة وَأَزَالَ عَنْهُمْ التِّيه " وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ " إِبَاحَة .


" حِطَّة " بِالرَّفْعِ قِرَاءَة الْجُمْهُور عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ أَيْ مَسْأَلَتنَا حِطَّة أَوْ يَكُون حِكَايَة قَالَ الْأَخْفَش وَقُرِئَتْ " حِطَّة " بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى أَحْطِطْ عَنَّا ذُنُوبنَا حِطَّة قَالَ النَّحَّاس الْحَدِيث عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَفِي حَدِيث آخَر عَنْهُ قِيلَ لَهُمْ قُولُوا مَغْفِرَة تَفْسِير لِلنَّصْبِ أَيْ قُولُوا شَيْئًا يَحُطّ ذُنُوبكُمْ كَمَا يُقَال قُلْ خَيْرًا وَالْأَئِمَّة مِنْ الْقُرَّاء عَلَى الرَّفْع وَهُوَ أَوْلَى فِي اللُّغَة لِمَا حُكِيَ عَنْ الْعَرَب فِي مَعْنَى بَدَّلَ قَالَ أَحْمَد بْن يَحْيَى يُقَال بَدَّلْته أَيْ غَيَّرْته وَلَمْ أُزِلْ عَيْنه وَأَبْدَلْته أَزَلْت عَيْنه وَشَخْصه كَمَا قَالَ عَزْل الْأَمِير لِلْأَمِيرِ الْمُبْدَل وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْر هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ " [ يُونُس : 15 ] وَحَدِيث اِبْن مَسْعُود قَالُوا " حِطَّة " تَفْسِير عَلَى الرَّفْع هَذَا كُلّه قَوْل النَّحَّاس وَقَالَ الْحَسَن وَعِكْرِمَة " حِطَّةً " بِمَعْنَى حُطَّ ذُنُوبنَا أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه لِيَحُطّ بِهَا ذُنُوبهمْ وَقَالَ اِبْن جُبَيْر مَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَار أَبَان بْن تَغْلِب التَّوْبَة قَالَ الشَّاعِر فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّـ ـهُ بِهَا ذَنْب عَبْده مَغْفُورَا وَقَالَ ابْن فَارِس فِي الْمُجْمَل " حِطَّة " كَلِمَة أُمِرَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيل لَوْ قَالُوهَا لَحُطَّتْ أَوْزَارُهُمْ وَقَالَهُ الْجَوْهَرِيّ أَيْضًا فِي الصَّحَاح قُلْت : يَحْتَمِل أَنْ يَكُونُوا تَعَبَّدُوا بِهَذَا اللَّفْظ بِعَيْنِهِ , وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ الْحَدِيث رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيل اُدْخُلُوا الْبَاب سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّة يُغْفَر لَكُمْ خَطَايَاكُمْ فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا الْبَاب يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا حَبَّة فِي شَعَرَةٍ ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَقَالَ ( فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حِطَّة حَبَّة فِي شَعَرَة ) فِي غَيْر الصَّحِيحَيْنِ " حِنْطَة فِي شَعَر " وَقِيلَ قَالُوا هِطًّا سُمْهَاثًا وَهِيَ لَفْظَة عِبْرَانِيَّة تَفْسِيرهَا حِنْطَة حَمْرَاء حَكَاهَا اِبْن قُتَيْبَة وَحَكَاهُ الْهَرَوِيّ عَنْ السُّدِّيّ وَمُجَاهِد وَكَانَ قَصْدهمْ خِلَاف مَا أَمَرَهُمْ اللَّه بِهِ فَعَصَوْا وَتَمَرَّدُوا وَاسْتَهْزَءُوا فَعَاقَبَهُمْ اللَّه بِالرِّجْزِ وَهُوَ الْعَذَاب وَقَالَ اِبْن زَيْد كَانَ طَاعُونًا أَهْلَكَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا وَرُوِيَ أَنَّ الْبَاب جُعِلَ قَصِيرًا لِيَدْخُلُوهُ رُكَّعًا فَدَخَلُوهُ مُتَوَرِّكِينَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَاَللَّه أَعْلَم اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ تَبْدِيل الْأَقْوَال الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَة لَا يَخْلُو أَنْ يَقَع التَّعَدُّد بِلَفْظِهَا أَوْ بِمَعْنَاهَا فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّد وَقَعَ بِلَفْظِهَا فَلَا يَجُوز تَبْدِيلهَا لِذَمِّ اللَّه تَعَالَى مَنْ بَدَّلَ مَا أَمَرَهُ بِقَوْلٍ وَإِنْ وَقَعَ بِمَعْنَاهَا جَازَ تَبْدِيلهَا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا يَجُوز تَبْدِيلهَا بِمَا يُخْرِج عَنْهُ وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْمَعْنَى فَحُكِيَ عَنْ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ أَنَّهُ يَجُوز لِلْعَالِمِ بِمَوَاقِع الْخِطَاب الْبَصِير بِآحَادِ كَلِمَاته نَقْل الْحَدِيث بِالْمَعْنَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْمُطَابَقَة لِلْمَعْنَى بِكَمَالٍ وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور وَمَنَعَ ذَلِكَ جَمْع كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ اِبْن سِيرِينَ وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَرَجَاء بْن حَيْوَة وَقَالَ مُجَاهِد اُنْقُصْ مِنْ الْحَدِيث إِنْ شِئْت وَلَا تَزِدْ فِيهِ وَكَانَ مَالِك بْن أَنَس يُشَدِّد فِي حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّاء وَالْيَاء وَنَحْو هَذَا وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة مِنْ أَئِمَّة الْحَدِيث لَا يَرَوْنَ إِبْدَال اللَّفْظ وَلَا تَغْيِيره حَتَّى إِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مَلْحُونًا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ وَرَوَى أَبُو مِجْلَز عَنْ قَيْس بْن عُبَاد قَالَ قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب مَنْ سَمِعَ حَدِيثًا فَحَدَّثَ بِهِ كَمَا سَمِعَ فَقَدْ سَلِمَ وَرَوَى نَحْوه عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَزَيْد بْن أَرَقْم وَكَذَا الْخِلَاف فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَدّ بِالْمَعْنَى وَلَا يَعْتَدّ بِاللَّفْظِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَدِّد فِي ذَلِكَ وَلَا يُفَارِق اللَّفْظ , وَذَلِكَ هُوَ الْأَحْوَط فِي الدِّين وَالْأَتْقَى وَالْأَوْلَى وَلَكِنَّ أَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى خِلَافه وَالْقَوْل بِالْجَوَازِ هُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْلُوم مِنْ سِيرَة الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْوُونَ الْوَقَائِع الْمُتَّحِدَة بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَة وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَ عِنَايَتهمْ لِلْمَعَانِي وَلَمْ يَلْتَزِمُوا التَّكْرَار عَلَى الْأَحَادِيث وَلَا كُتُبهَا وَرُوِيَ عَنْ وَاثِلَة بْن الْأَسْقَع أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ كُلّ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقَلْنَاهُ إِلَيْكُمْ حَسْبكُمْ الْمَعْنَى وَقَالَ قَتَادَة عَنْ زُرَارَة بْن أَوْفَى لَقِيت عِدَّة مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي اللَّفْظ وَاجْتَمَعُوا فِي الْمَعْنَى , وَكَانَ النَّخَعِيّ وَالْحَسَن وَالشَّعْبِيّ رَحِمَهُمْ اللَّه يَأْتُونَ بِالْحَدِيثِ عَلَى الْمَعَانِي , وَقَالَ الْحَسَن : إِذَا أَصَبْت الْمَعْنَى أَجْزَأَك وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - إِذَا قُلْت لَكُمْ إِنِّي أُحَدِّثكُمْ كَمَا سَمِعْت فَلَا تُصَدِّقُونِي إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى , وَقَالَ وَكِيع - رَحِمَهُ اللَّه - إِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى وَاسِعًا فَقَدْ هَلَكَ النَّاس وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز نَقْل الشَّرْع لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ وَتَرْجَمَته لَهُمْ وَذَلِكَ هُوَ النَّقْل بِالْمَعْنَى وَقَدْ فَعَلَ اللَّه ذَلِكَ فِي كِتَابه فِيمَا قَصَّ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَلَفَ فَقَصَّ قَصَصًا ذَكَرَ بَعْضهَا فِي مَوَاضِع بِأَلْفَاظ مُخْتَلِقَة وَالْمَعْنَى وَاحِد وَنَقَلَهَا مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ إِلَى اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَهُوَ مُخَالِف لَهَا فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَالْحَذْف وَالْإِلْغَاء وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَإِذَا جَازَ إِبْدَال الْعَرَبِيَّة بِالْعَجَمِيَّةِ فَأَنْ يَجُوزَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى اِحْتَجَّ بِهَذَا الْمَعْنَى الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيّ وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( نَضَّرَ اللَّه اِمْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَهَا ) وَذَكَرَ الْحَدِيث وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقُول عِنْد مَضْجَعه فِي دُعَاء عِلْمه ( آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت ) فَقَالَ الرَّجُل وَرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْت فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت ) قَالُوا أَفَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُسَوِّغ لِمَنْ عَلَّمَهُ الدُّعَاء مُخَالَفَة اللَّفْظ وَقَالَ ( فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ) قِيلَ لَهُمْ أَمَّا قَوْله ( فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ) فَالْمُرَاد حُكْمهَا لَا لَفْظهَا غَيْر مُعْتَدٍ بِهِ وَيَدُلّك عَلَى أَنَّ الْمُرَاد مِنْ الْخِطَاب حُكْمه قَوْله ( فَرُبَّ حَامِل فِقْه غَيْر فَقِيهِ وَرَبّ حَامِل فِقْه إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ) ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيث بِعَيْنِهِ قَدْ نُقِلَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَة , وَالْمَعْنَى وَاحِد وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُون جَمِيع الْأَلْفَاظ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْقَات مُخْتَلِفَة لَكِنَّ الْأَغْلَب أَنَّهُ حَدِيث وَاحِد نُقِلَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَة وَذَلِكَ أَدَلّ عَلَى الْجَوَاز , وَأَمَّا رَدُّهُ عَلَيْهِ السَّلَام الرَّجُل مِنْ قَوْله ( وَرَسُولك إِلَى قَوْله وَنَبِيّك ) لِأَنَّ لَفْظ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْدَح وَلِكُلِّ نَعْت مِنْ هَذَيْنِ النَّعْتَيْنِ مَوْضِع أَلَا تَرَى أَنَّ اِسْم الرَّسُول يَقَع عَلَى الْكَافَّة وَاسْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَحِقّهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام , وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْمُرْسَلُونَ مِنْ الْأَنْبِيَاء ; لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا النُّبُوَّة وَالرِّسَالَة فَلَمَّا قَالَ ( وَنَبِيّك ) جَاءَ بِالنَّعْتِ الْأَمْدَح ثُمَّ قَيَّدَهُ بِالرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ ( الَّذِي أَرْسَلْت ) وَأَيْضًا فَإِنَّ نَقْله مِنْ قَوْله ( وَرَسُولِك إِلَى قَوْله وَنَبِيِّك ) لِيَجْمَع بَيْن النُّبُوَّة وَالرِّسَالَة , وَمُسْتَقْبَحٌ فِي الْكَلَام أَنْ تَقُول : هَذَا رَسُول فُلَان الَّذِي أَرْسَلَهُ وَهَذَا قَتِيل زَيْد الَّذِي قَتَلَهُ ; لِأَنَّك تَجْتَزِئ بِقَوْلِك رَسُول فُلَان وَقَتِيل فُلَان عَنْ إِعَادَة الْمُرْسَل وَالْقَاتِل إِذْ كُنْت لَا تُقَيِّد بِهِ إِلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّل , وَإِنَّمَا يَحْسُن أَنْ تَقُول هَذَا رَسُول عَبْد اللَّه الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى عَمْرو وَهَذَا قَتِيل زَيْد الَّذِي قَتَلَهُ بِالْأَمْسِ أَوْ فِي وَقْعَة كَذَا , وَاَللَّه وَلِيّ التَّوْفِيق فَإِنْ قِيلَ : إِذَا جَازَ لِلرَّاوِي الْأَوَّل تَغْيِير أَلْفَاظ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام جَازَ لِلثَّانِي تَغْيِير أَلْفَاظ الْأَوَّل , وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى طَمْس الْحَدِيث بِالْكُلِّيَّةِ لِدِقَّةِ الْفُرُوق وَخَفَائِهَا قِيلَ لَهُ الْجَوَاز مَشْرُوط بِالْمُطَابَقَةِ وَالْمُسَاوَاة كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ عُدِمَتْ لَمْ يَجُزْ قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ الْخِلَاف فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة إِنَّمَا يُتَصَوَّر بِالنَّظَرِ إِلَى عَصْر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لِتَسَاوِيهِمْ فِي مَعْرِفَة اللُّغَة الْجِبِلِّيَّة الذَّوْقِيَّة بَعْدَهُمْ فَلَا نَشُكّ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوز ; إِذْ الطِّبَاع قَدْ تَغَيَّرَتْ وَالْفُهُوم قَدْ تَبَايَنَتْ وَالْعَوَائِد قَدْ اِخْتَلَفَتْ , وَهَذَا هُوَ الْحَقّ وَاَللَّه أَعْلَم قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : لَقَدْ تَعَاجَمَ ابْن الْعَرَبِيّ رَحِمَهُ اللَّه فَإِنَّ الْجَوَاز إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا بِالْمُطَابَقَةِ فَلَا فَرْق بَيْن زَمَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَزَمَن غَيْرهمْ وَلِهَذَا لَمْ يُفَصِّل أَحَد مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَلَا أَهْل الْحَدِيث هَذَا التَّفْصِيل نَعَمْ لَوْ قَالَ الْمُطَابَقَة فِي زَمَنه أَبْعَد كَانَ أَقْرَب وَاَللَّه أَعْلَم



قِرَاءَة نَافِع بِالْيَاءِ مَعَ ضَمِّهَا وَابْن عَامِر بِالتَّاءِ مَعَ ضَمِّهَا وَهِيَ قِرَاءَة مُجَاهِد وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالنُّونِ مَعَ نَصْبِهَا وَهِيَ أَبْيَنُهَا لِأَنَّ قَبْلهَا " وَإِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا " فَجَرَى " نَغْفِر " عَلَى الْإِخْبَار فِي اللَّه تَعَالَى وَالتَّقْدِير وَقُلْنَا اُدْخُلُوا الْبَاب سُجَّدًا نَغْفِر وَلِأَنَّ بَعْده " وَسَنَزِيدُ " بِالنُّونِ وَاخْتُلِفَ فِي أَصْل خَطَايَا جَمْع خَطِيئَة بِالْهَمْزَةِ فَقَالَ الْخَلِيل الْأَصْل فِي خَطَايَا أَنْ يَقُول خَطَايِئ ثُمَّ قُلِبَ فَقِيلَ خَطَائِي بِهَمْزَةٍ بَعْدهَا يَاء ثُمَّ تُبْدِل مِنْ الْيَاء أَلِفًا بَدَلًا لَازِمًا فَتَقُول خَطَاءَا فَلَمَّا اِجْتَمَعَتْ أَلِفَانِ بَيْنهمَا هَمْزَة وَالْهَمْزَة مِنْ جِنْس الْأَلِف صِرْت كَأَنَّك جَمَعْت بَيْن ثَلَاث أَلِفَات فَأَبْدَلْت مِنْ الْهَمْزَة يَاء فَقُلْت خَطَايَا , وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْأَصْل مِثْل الْأَوَّل خَطَايِئ ثُمَّ وَجَبَ بِهَذِهِ أَنْ تَهْمِزَ الْيَاء كَمَا هَمَزْتهَا فِي مَدَائِن فَتَقُول خَطَائِئ وَلَا تَجْتَمِع هَمْزَتَانِ فِي كَلِمَة فَأَبْدَلْت مِنْ الثَّانِيَة يَاء فَقُلْت خَطَائِي ثُمَّ عَمِلْت كَمَا عَمِلْت فِي الْأَوَّل وَقَالَ الْفَرَّاء خَطَايَا جَمْع خَطِيَّة بِلَا هَمْزَة كَمَا تَقُول هَدِيَّة وَهَدَايَا قَالَ الْفَرَّاء : وَلَوْ جَمَعْت خَطِيئَة مَهْمُوزَة لَقُلْت خَطَاءَا وَقَالَ الْكِسَائِيّ لَوْ جَمَعْتَهَا مَهْمُوزَة أَدْغَمْت الْهَمْزَة فِي الْهَمْزَة كَمَا قُلْت دَوَابّ .



أَيْ فِي إِحْسَان مَنْ لَمْ يَعْبُد الْعِجْل , وَيُقَال : يَغْفِر خَطَايَا مَنْ رَفَعَ الْمَنّ وَالسَّلْوَى لِلْغَدِ وَسَنَزِيدُ فِي إِحْسَان مَنْ لَمْ يَرْفَع لِلْغَدِ وَيُقَال يَغْفِر خَطَايَا مَنْ هُوَ عَاصٍ وَسَيَزِيدُ فِي إِحْسَان مَنْ هُوَ مُحْسِن أَيْ نَزِيدهُمْ إِحْسَانًا عَلَى الْإِحْسَان الْمُتَقَدِّم عِنْدهمْ , وَهُوَ اِسْم فَاعِل مِنْ أَحْسَن وَالْمُحْسِن مَنْ صَحَّحَ عَقْد تَوْحِيده وَأَحْسَنَ سِيَاسَة نَفْسه وَأَقْبَلَ عَلَى أَدَاء فَرَائِضه وَكَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرّه وَفِي حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ( مَا الْإِحْسَان قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك قَالَ صَدَقْت . . . ) وَذَكَرَ الْحَدِيث خَرَّجَهُ مُسْلِم .
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَسورة الأعراف الآية رقم 162
" فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْر الَّذِي قِيلَ لَهُمْ " قَالُوا : حَبَّة فِي شَعَرَة . وَقِيلَ لَهُمْ : " اُدْخُلُوا الْبَاب سُجَّدًا " فَدَخَلُوا مُتَوَرِّكِينَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ . " بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ " مَرْفُوع ; لِأَنَّهُ فِعْل مُسْتَقْبَل وَمَوْضِعه نَصْب . وَ " مَا " بِمَعْنَى الْمَصْدَر , أَيْ بِظُلْمِهِمْ . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَسورة الأعراف الآية رقم 163
أَيْ عَنْ أَهْل الْقَرْيَة ; فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِهَا لَمَّا كَانَتْ مُسْتَقَرًّا لَهُمْ أَوْ سَبَب اِجْتِمَاعهمْ . نَظِيره " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا " [ يُوسُف : 82 ] . وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِهْتَزَّ الْعَرْش لِمَوْتِ سَعْد بْن مُعَاذ ) يَعْنِي أَهْل الْعَرْش مِنْ الْمَلَائِكَة , فَرَحًا وَاسْتِبْشَارًا بِقُدُومِهِ , رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . أَيْ وَاسْأَلْ الْيَهُود الَّذِينَ هُمْ جِيرَانُك عَنْ أَخْبَار أَسْلَافِهِمْ وَمَا مَسَخَ اللَّه مِنْهُمْ قِرَدَة وَخَنَازِير . وَهَذَا سُؤَال تَقْرِير وَتَوْبِيخ . وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَة لِصِدْقِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; إِذْ أَطْلَعَهُ اللَّه عَلَى تِلْكَ الْأُمُور مِنْ غَيْر تَعَلُّم . وَكَانُوا يَقُولُونَ : نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ , لِأَنَّا مِنْ سِبْط خَلِيله إِبْرَاهِيم , وَمِنْ سِبْط إِسْرَائِيل وَهُمْ بَكْر اللَّه , وَمِنْ سِبْط مُوسَى كَلِيم اللَّه ; وَمِنْ سِبْط وَلَده عُزَيْر , فَنَحْنُ مِنْ أَوْلَادهمْ . فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ : سَلْهُمْ يَا مُحَمَّد عَنْ الْقَرْيَة , أَمَا عَذَّبْتهمْ بِذُنُوبِهِمْ ; وَذَلِكَ بِتَغْيِيرِ فَرْع مِنْ فُرُوع الشَّرِيعَة . وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِين هَذِهِ الْقَرْيَة ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَالسُّدِّيّ : هِيَ أَيْلَة . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّهَا مَدْيَن بَيْن أَيْلَة وَالطُّور . الزُّهْرِيّ : طَبَرِيَّة . قَتَادَة وَزَيْد بْن أَسْلَم : هِيَ سَاحِل مِنْ سَوَاحِل الشَّأْم , بَيْن مَدْيَن وَعَيْنُون , يُقَال لَهَا : مَقْنَاة . وَكَانَ الْيَهُود يَكْتُمُونَ هَذِهِ الْقِصَّة لِمَا فِيهَا مِنْ السُّبَّة عَلَيْهِمْ .


أَيْ كَانَتْ بِقُرْبِ الْبَحْر ; تَقُول : كُنْت بِحَضْرَةِ الدَّار أَيْ بِقُرْبِهَا .


أَيْ يَصِيدُونَ الْحِيتَان , وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ; يُقَال : سَبَتَ الْيَهُود ; تَرَكُوا الْعَمَل فِي سَبْتِهِمْ . وَسَبَتَ الرَّجُل لِلْمَفْعُولِ سُبَاتًا أَخَذَهُ ذَلِكَ , مِثْل الْخَرَس . وَأَسْبَتَ سَكَنَ فَلَمْ يَتَحَرَّك . وَالْقَوْم صَارُوا فِي السَّبْت . وَالْيَهُود دَخَلُوا فِي السَّبْت , وَهُوَ الْيَوْم الْمَعْرُوف . وَهُوَ مِنْ الرَّاحَة وَالْقَطْع . وَيُجْمَع أَسْبُت وَسُبُوت وَأَسْبَات . وَفِي الْخَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ اِحْتَجَمَ يَوْم السَّبْت فَأَصَابَهُ بَرَص فَلَا يَلُومَن إِلَّا نَفْسه ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّم يَجْمُد يَوْم السَّبْت , فَإِذَا مَدَدْته لِتَسْتَخْرِجَهُ لَمْ يَجْرِ وَعَادَ بَرَصًا . وَقِرَاءَة الْجَمَاعَة " يَعْدُونَ " . وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك " يُعِدُّونَ " بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْعَيْن وَشَدّ الدَّال . الْأُولَى مِنْ الِاعْتِدَاء وَالثَّانِيَة مِنْ الْإِعْدَاد ; أَيْ يُهَيِّئُونَ الْآلَة لِأَخْذِهَا . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع " فِي الْأَسْبَات " عَلَى جَمْع السَّبْت .


وَقُرِئَ " أَسْبَاتِهِمْ " .



أَيْ شَوَارِع ظَاهِرَة عَلَى الْمَاء كَثِيرَة . وَقَالَ اللَّيْث : حِيتَان شُرَّع رَافِعَة رُءُوسهَا . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ حِيتَان الْبَحْر كَانَتْ تَرِد يَوْم السَّبْت عُنُقًا مِنْ الْبَحْر فَتُزَاحِم أَيْلَة . أَلْهَمَهَا اللَّه تَعَالَى أَنَّهَا لَا تُصَاد يَوْم السَّبْت ; لِنَهْيِهِ تَعَالَى الْيَهُود عَنْ صَيْدِهَا . وَقِيلَ : إِنَّهَا كَانَتْ تَشْرَع عَلَى أَبْوَابِهِمْ ; كَالْكِبَاشِ الْبِيض رَافِعَة رُءُوسَهَا . حَكَاهُ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ ; فَتَعْدُو فَأَخَذُوهَا فِي السَّبْت ; قَالَهُ الْحَسَن . وَقِيلَ : يَوْم الْأَحَد , وَهُوَ الْأَصَحّ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه .


أَيْ لَا يَفْعَلُونَ السَّبْت ; يُقَال : سَبَتَ يَسْبِت إِذَا عَظَّمَ السَّبْت . وَقَرَأَ الْحَسَن " يُسْبِتُونَ " بِضَمِّ الْيَاء , أَيْ يَدْخُلُونَ فِي السَّبْت ; كَمَا يُقَال : أَجْمَعْنَا وَأَظْهَرْنَا وَأَشْهَرْنَا , أَيْ دَخَلْنَا فِي الْجُمُعَة وَالظُّهْر وَالشَّهْر .


أَيْ حِيتَانهمْ .



أَيْ نُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ فِي الْعِبَادَة وَنَخْتَبِرهُمْ . وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب .


أَيْ بِفِسْقِهِمْ . وَسُئِلَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : هَلْ تَجِد فِي كِتَاب اللَّه الْحَلَال لَا يَأْتِيك إِلَّا قُوتًا , وَالْحَرَام يَأْتِيك جَزْفًا جَزْفًا ؟ قَالَ : نَعَمْ , فِي قِصَّة دَاوُد وَأَيْلَة " إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانهمْ يَوْم سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْم لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ " . وَرُوِيَ فِي قَصَص هَذِهِ الْآيَة أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام , وَأَنَّ إِبْلِيس أَوْحَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ : إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَخْذِهَا يَوْم السَّبْت , فَاتَّخِذُوا الْحِيَاض ; فَكَانُوا يَسُوقُونَ الْحِيتَان إِلَيْهَا يَوْم الْجُمْعَة فَتَبْقَى فِيهَا , فَلَا يُمْكِنهَا الْخُرُوج مِنْهَا لِقِلَّةِ الْمَاء , فَيَأْخُذُونَهَا يَوْم الْأَحَد . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك قَالَ : زَعَمَ اِبْن رُومَان أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذ الرَّجُل خَيْطًا وَيَضَع فِيهِ وَهَقَة , وَأَلْقَاهَا فِي ذَنَب الْحُوت , وَفِي الطَّرَف الْآخَر مِنْ الْخَيْط وَتِد وَتَرَكَهُ كَذَلِكَ إِلَى الْأَحَد , ثُمَّ تَطَرَّقَ النَّاس حِين رَأَوْا مَنْ صَنَعَ هَذَا لَا يُبْتَلَى حَتَّى كَثُرَ صَيْد الْحُوت , وَمُشِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاق , وَأَعْلَنَ الْفَسَقَة بِصَيْدِهِ ; فَقَامَتْ فِرْقَة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل وَنَهَتْ , وَجَاهَرَتْ بِالنَّهْيِ وَاعْتَزَلَتْ . وَقِيلَ : إِنَّ النَّاهِينَ قَالُوا : لَا نُسَاكِنُكُمْ ; فَقَسَمُوا الْقَرْيَة بِجِدَارٍ . فَأَصْبَحَ النَّاهُونَ ذَات يَوْم فِي مَجَالِسِهِمْ وَلَمْ يَخْرُج مِنْ الْمُعْتَدِينَ أَحَد , فَقَالُوا : إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا ; فَعَلَوْا عَلَى الْجِدَار فَنَظَرُوا فَإِذَا هُمْ قِرَدَة ; فَفَتَحُوا الْبَاب وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ , فَعَرَفَتْ الْقِرَدَة أَنْسَابهَا مِنْ الْإِنْس , وَلَمْ تَعْرِف الْإِنْس أَنْسَابَهُمْ مِنْ الْقِرَدَة ; فَجَعَلَتْ الْقِرَدَة تَأْتِي نَسِيبَهَا مِنْ الْإِنْس فَتَشُمُّ ثِيَابَهُ وَتَبْكِي ; فَيَقُول : أَلَمْ نَنْهَكُمْ ! فَتَقُول بِرَأْسِهَا نَعَمْ . قَالَ قَتَادَة : صَارَ الشُّبَّان قِرَدَة وَالشُّيُوخ خَنَازِير , فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سَائِرهمْ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْل إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل لَمْ تَفْتَرِق إِلَّا فِرْقَتَيْنِ . وَيَكُون الْمَعْنَى فِي قَوْله تَعَالَى
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَسورة الأعراف الآية رقم 164
أَيْ قَالَ الْفَاعِلُونَ لِلْوَاعِظِينَ حِين وَعَظُوهُمْ : إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّه مُهْلِكُنَا فَلِمَ تَعِظُونَنَا ؟ فَمَسَخَهُمْ اللَّه قِرَدَة .


أَيْ قَالَ الْوَاعِظُونَ : مَوْعِظَتنَا إِيَّاكُمْ مَعْذِرَة إِلَى رَبّكُمْ ; أَيْ إِنَّمَا يَجِب عَلَيْنَا أَنْ نَعِظَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَسْنَدَ هَذَا الْقَوْل الطَّبَرِيّ عَنْ اِبْن الْكَلْبِيّ . وَقَالَ جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل اِفْتَرَقَتْ ثَلَاث فِرَق , وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ الضَّمَائِر فِي الْآيَة . فِرْقَة عَصَتْ وَصَادَتْ , وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا . وَفِرْقَة اِعْتَزَلَتْ وَلَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْصِ , وَأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَة قَالَتْ لِلنَّاهِيَةِ : لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا - تُرِيد الْعَاصِيَة - اللَّه مُهْلِكهمْ أَوْ مُعَذِّبهمْ عَلَى غَلَبَة الظَّنّ , وَمَا عُهِدَ مِنْ فِعْل اللَّه تَعَالَى حِينَئِذٍ بِالْأُمَمِ الْعَاصِيَة . فَقَالَتْ النَّاهِيَة : مَوْعِظَتنَا مَعْذِرَة إِلَى اللَّه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . وَلَوْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ لَقَالَتْ النَّاهِيَة لِلْعَاصِيَةِ : وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ , بِالْكَافِ . ثُمَّ اُخْتُلِفَ بَعْد هَذَا ; فَقَالَتْ فِرْقَة : إِنَّ الطَّائِفَة الَّتِي لَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْصِ هَلَكَتْ مَعَ الْعَاصِيَة عُقُوبَة عَلَى تَرْك النَّهْي ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ أَيْضًا : مَا أَدْرِي مَا فُعِلَ بِهِمْ ; وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ الْآيَة . وَقَالَ عِكْرِمَة : قُلْت لِابْنِ عَبَّاس لَمَّا قَالَ مَا أَدْرِي مَا فُعِلَ بِهِمْ : أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفُوهُمْ فَقَالُوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّه مُهْلِكهمْ ؟ فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَرَّفْته أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا ; فَكَسَانِي حُلَّة . وَهَذَا مَذْهَب الْحَسَن . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَتْ الْفِرْقَة الْعَادِيَة لَا غَيْر قَوْله : " وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا " [ الْأَعْرَاف : 165 ] . وَقَوْله : " وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْت " [ الْبَقَرَة : 65 ] الْآيَة . وَقَرَأَ عِيسَى وَطَلْحَة " مَعْذِرَة " بِالنَّصْبِ . وَنَصْبه عِنْد الْكِسَائِيّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا عَلَى الْمَصْدَر . وَالثَّانِي عَلَى تَقْدِير فَعَلْنَا ذَلِكَ مَعْذِرَة . وَهِيَ قِرَاءَة حَفْص عَنْ عَاصِم . وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ : وَهُوَ الِاخْتِيَار ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَعْتَذِرُوا اِعْتِذَارًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ أَمْر لِيمُوا عَلَيْهِ , وَلَكِنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ : لِمَ تَعِظُونَ ؟ فَقَالُوا : مَوْعِظَتنَا مَعْذِرَة . وَلَوْ قَالَ رَجُل لِرَجُلٍ : مَعْذِرَة إِلَى اللَّه وَإِلَيْك مِنْ كَذَا , يُرِيد اِعْتِذَارًا ; لِنَصْبٍ . هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى الْقَوْل بِسَدِّ الذَّرَائِع . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " وَمَضَى فِيهَا الْكَلَام فِي الْمَمْسُوخ هَلْ يَنْسُل أَمْ لَا , مُبَيَّنًا . وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَمَضَى فِي " آل عِمْرَان " وَ " الْمَائِدَة " الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر . وَمَضَى فِي " النِّسَاء " اِعْتِزَال أَهْل الْفَسَاد وَمُجَانَبَتُهُمْ , وَأَنَّ مَنْ جَالَسَهُمْ كَانَ مِثْلهمْ , فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ .
فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَسورة الأعراف الآية رقم 165
والنِّسْيَان يُطْلَق عَلَى السَّاهِي . وَالْعَامِد : التَّارِك ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ " أَيْ تَرَكُوهُ عَنْ قَصْد ; وَمِنْهُ " نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ " [ التَّوْبَة : 67 ] . وَمَعْنَى " بِعَذَابٍ بَئِيس " أَيْ شَدِيد . وَفِيهِ إِحْدَى عَشْرَة قِرَاءَة : الْأُولَى : قِرَاءَة أَبِي عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " بَئِيس " عَلَى وَزْن فَعِيل . الثَّانِيَة : قِرَاءَة أَهْل مَكَّة " بِئِيس " بِكَسْرِ الْبَاء وَالْوَزْن وَاحِد . وَالثَّالِثَة : قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة " بِيْسٍ " الْبَاء مَكْسُورَة بَعْدهَا يَاء سَاكِنَة بَعْدهَا سِين مَكْسُورَة مُنَوَّنَة , وَفِيهَا قَوْلَانِ . قَالَ الْكِسَائِيّ : الْأَصْل فِيهِ " بَيِيس " خَفِيفَة الْهَمْزَة , فَالْتَقَتْ يَاءَانِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا وَكُسِرَ أَوَّله : كَمَا يُقَال : رَغِيف وَشَهِيد . وَقِيلَ : أَرَادَ " بَئِسَ " عَلَى وَزْن فَعِلَ ; فَكَسَرَ أَوَّله وَخَفَّفَ الْهَمْزَة وَحَذَفَ الْكَسْرَة ; كَمَا يُقَال : رَحِم وَرِحْم . الرَّابِعَة : قِرَاءَة الْحَسَن , الْبَاء مَكْسُورَة بَعْدهَا هَمْزَة سَاكِنَة بَعْدهَا سِين مَفْتُوحَة . الْخَامِسَة : قَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن الْمُقْرِئ " بَئِسٍ " الْبَاء مَفْتُوحَة وَالْهَمْزَة مَكْسُورَة وَالسِّين مَكْسُورَة مُنَوَّنَة . السَّادِسَة : قَالَ يَعْقُوب الْقَارِئ : وَجَاءَ عَنْ بَعْض الْقُرَّاء " بِعَذَابٍ بَئِسَ " الْبَاء مَفْتُوحَة وَالْهَمْزَة مَكْسُورَة وَالسِّين مَفْتُوحَة . السَّابِعَة : قِرَاءَة الْأَعْمَش " بِيْئِسٍ " عَلَى وَزْن فَيْعِل . وَرُوِيَ عَنْهُ " بَيْأَسٍ " عَلَى وَزْن فَيْعَل . وَرُوِيَ عَنْهُ " بَئِّسٍ " بِبَاءٍ مَفْتُوحَة وَهَمْزَة مُشَدَّدَة مَكْسُورَة , وَالسِّين فِي كُلّه مَكْسُورَة مُنَوَّنَة , أَعْنِي قِرَاءَة الْأَعْمَش . الْعَاشِرَة : قِرَاءَة نَصْر بْن عَاصِم " بِعَذَابٍ بَيِّس " الْبَاء مَفْتُوحَة وَالْيَاء مُشَدَّدَة بِغَيْرِ هَمْز . قَالَ يَعْقُوب الْقَارِئ : وَجَاءَ عَنْ بَعْض الْقُرَّاء " بِئْيَس " الْبَاء مَكْسُورَة بَعْدهَا هَمْزَة سَاكِنَة بَعْدهَا يَاء مَفْتُوحَة . فَهَذِهِ إِحْدَى عَشْرَة قِرَاءَة ذَكَرَهَا النَّحَّاس . قَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : الْعَرَب تَقُول جَاءَ بِبَنَاتٍ بِيس أَيْ بِشَيْءٍ رَدِيء . فَمَعْنَى " بِعَذَاب بِيس " بِعَذَابٍ رَدِيء . وَأَمَّا قِرَاءَة الْحَسَن فَزَعَمَ أَبُو حَاتِم أَنَّهُ لَا وَجْه لَهَا , قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُقَال مَرَرْت بِرَجُل بِئْسَ , حَتَّى يُقَال : بِئْسَ الرَّجُل , أَوْ بِئْسَ رَجُلًا . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مَرْدُود مِنْ كَلَام أَبِي حَاتِم ; حَكَى النَّحْوِيُّونَ : إِنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا فَبِهَا وَنِعْمَتْ . يُرِيدُونَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ الْخَصْلَة . وَالتَّقْدِير عَلَى قِرَاءَة الْحَسَن : بِعِذَابٍ بِئْسَ الْعَذَاب .
فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَسورة الأعراف الآية رقم 166
أَيْ فَلَمَّا تَجَاوَزُوا فِي مَعْصِيَة اللَّه .


يُقَال : خَسَأْته فَخَسَأَ ; أَيْ بَاعَدْته وَطَرَدْته . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِي سَبَب النِّقْمَة : وَهَذَا لَا خَفَاء بِهِ . فَقِيلَ : قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ بِكَلَامٍ يُسْمَع , فَكَانُوا كَذَلِكَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى كَوَّنَّاهُمْ قِرَدَة .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌسورة الأعراف الآية رقم 167
أَيْ أَعْلَمَ أَسْلَافهمْ أَنَّهُمْ إِنْ غَيَّرُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيّ بَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ مَنْ يُعَذِّبُهُمْ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : " آذَنَ " بِالْمَدِّ , أَعْلَم . وَ " أَذَّنَ " بِالتَّشْدِيدِ , نَادَى . وَقَالَ قَوْم : آذَنَ وَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ ; كَمَا يُقَال : أَيْقَنَ وَتَيَقَّنَ . قَالَ زُهَيْر : فَقُلْت تَعَلَّمْ إِنَّ لِلصَّيْدِ غُرَّة فَإِلَّا تُضَيِّعهَا فَإِنَّك قَاتِله وَقَالَ آخَر : تَعَلَّمْ إِنَّ شَرّ النَّاس حَيّ يُنَادَى فِي شِعَارهمْ يَسَار أَيْ اِعْلَمْ . وَمَعْنَى " يَسُومهُمْ " يُذِيقهُمْ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " قِيلَ : الْمُرَاد بَخْتُنَصَّرَ . وَقِيلَ : الْعَرَب . وَقِيلَ : أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَظْهَر ; فَإِنَّهُمْ الْبَاقُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ اِبْن عَبَّاس : " سُوء الْعَذَاب " هُنَا أَخْذ الْجِزْيَة . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ مُسِخُوا , فَكَيْفَ تُؤْخَذ مِنْهُمْ الْجِزْيَة ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهَا تُؤْخَذ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَوْلَادهمْ , وَهُمْ أَذَلّ قَوْم , وَهُمْ الْيَهُود . وَعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " سُوء الْعَذَاب " قَالَ : الْخَرَاج , وَلَمْ يَجْبُ نَبِيّ قَطُّ الْخَرَاج , إِلَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ أَوَّل مَنْ وَضَعَ الْخَرَاج , فَجَبَاهُ ثَلَاث عَشْرَة سَنَة , ثُمَّ أَمْسَكَ , وَنَبِيّنَا عَلَيْهِ السَّلَام .
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَسورة الأعراف الآية رقم 168
أَيْ فَرَّقْنَاهُمْ فِي الْبِلَاد . أَرَادَ بِهِ تَشْتِيت أَمْرِهِمْ , فَلَمْ تُجْمَع لَهُمْ كَلِمَة .


رَفْع عَلَى الِابْتِدَاء . وَالْمُرَاد مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام . وَمَنْ لَمْ يُبَدِّل مِنْهُمْ وَمَاتَ قَبْل نَسْخ شَرْع مُوسَى . أَوْ هُمْ الَّذِينَ وَرَاء الصِّين ; كَمَا سَبَقَ .


مَنْصُوب عَلَى الظَّرْف . قَالَ النَّحَّاس : وَلَا نَعْلَم أَحَدًا رَفَعَهُ . وَالْمُرَاد الْكُفَّار مِنْهُمْ .


أَيْ اخْتَبَرْنَاهُمْ .


أَيْ بِالْخِصْبِ وَالْعَافِيَة .


أَيْ الْجَدْب وَالشَّدَائِد .


لِيَرْجِعُوا عَنْ كُفْرهمْ .
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَسورة الأعراف الآية رقم 169
يَعْنِي أَوْلَاد الَّذِينَ فَرَّقَهُمْ فِي الْأَرْض . قَالَ أَبُو حَاتِم : " الْخَلْف " بِسُكُونِ اللَّام : الْأَوْلَاد , الْوَاحِد وَالْجَمِيع فِيهِ سَوَاء . وَ " الْخَلَف " بِفَتْحِ اللَّام الْبَدَل , وَلَدًا كَانَ أَوْ غَرِيبًا . وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : " الْخَلَف " بِالْفَتْحِ الصَّالِح , وَبِالْجَزْمِ الطَّالِح . قَالَ لَبِيد : ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ وَبَقِيت فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّدِيءِ مِنْ الْكَلَام : خَلْف . وَمِنْهُ الْمَثَل السَّائِر " سَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا " . فَخَلْف فِي الذَّمّ بِالْإِسْكَانِ , وَخَلَف بِالْفَتْحِ فِي الْمَدْح . هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَل الْمَشْهُور . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ " . وَقَدْ يُسْتَعْمَل كُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا مَوْضِع الْآخَر . قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت : لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إِلَيْك وَخَلْفُنَا لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ وَقَالَ آخَر . إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ لَا يُدْخِل الْبَوَّاب إِلَّا مَنْ عَرَفْ عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحَمْلِ وَقَفْ وَيُرْوَى : خَضَف ; أَيْ رَدَم . وَالْمَقْصُود مِنْ الْآيَة الذَّمّ .


قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هُمْ الْيَهُود , وَرِثُوا كِتَاب اللَّه فَقَرَءُوهُ وَعَلِمُوهُ , وَخَالَفُوا حُكْمه وَأَتَوْا مَحَارِمه مَعَ دِرَاسَتهمْ لَهُ . فَكَانَ هَذَا تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا .

ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا يَعْرِض لَهُمْ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا لِشِدَّةِ حِرْصهمْ وَنَهَمِهِمْ .


وَهُمْ لَا يَتُوبُونَ . وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ .


وَالْعَرَض : مَتَاع الدُّنْيَا ; بِفَتْحِ الرَّاء . وَبِإِسْكَانِهَا مَا كَانَ مِنْ الْمَال سِوَى الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير . وَالْإِشَارَة فِي هَذِهِ الْآيَة إِلَى الرِّشَا وَالْمَكَاسِب الْخَبِيثَة . ثُمَّ ذَمَّهُمْ بِاغْتِرَارِهِمْ فِي قَوْلهمْ " سَيُغْفَرُ لَهُمْ " وَأَنَّهُمْ بِحَالٍ إِذَا أَمْكَنَتْهُمْ ثَانِيَة اِرْتَكَبُوهَا , فَقَطَعُوا بِاغْتِرَارِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَهُمْ مُصِرُّونَ , وَإِنَّمَا يَقُول سَيُغْفَرُ لَنَا مَنْ أَقْلَعَ وَنَدِمَ . قُلْت : وَهَذَا الْوَصْف الَّذِي ذَمَّ اللَّه تَعَالَى بِهِ هَؤُلَاءِ مَوْجُود فِينَا . أَسْنَدَ الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُبَارَك حَدَّثَنَا صَدَقَة بْن خَالِد عَنْ اِبْن جَابِر عَنْ شَيْخ يُكَنَّى أَبَا عَمْرو عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : سَيَبْلَى الْقُرْآن فِي صُدُور أَقْوَام كَمَا يَبْلَى الثَّوْب فَيَتَهَافَت , يَقْرَءُونَهُ لَا يَجِدُونَ لَهُ شَهْوَة وَلَا لَذَّة , يَلْبَسُونَ جُلُود الضَّأْن عَلَى قُلُوب الذِّئَاب , أَعْمَالهمْ طَمَع لَا يُخَالِطهُ خَوْف , إِنْ قَصَّرُوا قَالُوا سَنَبْلُغُ , وَإِنْ أَسَاءُوا قَالُوا سَيُغْفَرُ لَنَا , إِنَّا لَا نُشْرِك بِاَللَّهِ شَيْئًا . وَقِيلَ : إِنَّ الضَّمِير فِي " يَأْتِهِمْ " لِيَهُود الْمَدِينَة ; أَيْ وَإِنْ يَأْتِ يَهُود يَثْرِب الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَض مِثْله يَأْخُذُوهُ كَمَا أَخَذَهُ أَسْلَافُهُمْ .


" أَلَمْ يُؤْخَذ عَلَيْهِمْ مِيثَاق الْكِتَاب " يُرِيد التَّوْرَاة . وَهَذَا تَشْدِيد فِي لُزُوم قَوْل الْحَقّ فِي الشَّرْع وَالْأَحْكَام , وَأَلَّا يَمِيل الْحُكَّام بِالرِّشَا إِلَى الْبَاطِل . قُلْت : وَهَذَا الَّذِي لَزِمَ هَؤُلَاءِ وَأُخِذَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْمِيثَاق فِي قَوْل الْحَقّ لَازِم لَنَا عَلَى لِسَان نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَاب رَبّنَا , عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " النِّسَاء " . وَلَا خِلَاف فِيهِ فِي جَمِيع الشَّرَائِع , وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " أَلَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّه إِلَّا الْحَقَّ " وَقَدْ قَالُوا الْبَاطِل فِي غُفْرَان ذُنُوبهمْ الَّذِي يُوجِبُونَهُ وَيَقْطَعُونَ بِهِ . وَقَالَ اِبْن زَيْد : يَعْنِي فِي الْأَحْكَام الَّتِي يَحْكُمُونَ بِهَا ; كَمَا ذَكَرْنَا .


" وَدَرَسُوا مَا فِيهِ " أَيْ قَرَءُوهُ , وَهُمْ قَرِيبُو عَهْد بِهِ . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن " وَادَّارَسُوا مَا فِيهِ " فَأُدْغِمَ التَّاء فِي الدَّال . قَالَ اِبْن زَيْد : كَانَ يَأْتِيهِمْ الْمُحِقّ بِرِشْوَةٍ فَيُخْرِجُونَ لَهُ كِتَاب اللَّه فَيَحْكُمُونَ لَهُ بِهِ , فَإِذَا جَاءَ الْمُبْطِل أَخَذُوا مِنْهُ الرِّشْوَة وَأَخْرَجُوا لَهُ كِتَابَهُمْ الَّذِي كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ وَحَكَمُوا لَهُ . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ مَعْنَى " وَدَرَسُوا مَا فِيهِ " أَيْ مَحَوْهُ بِتَرْكِ الْعَمَل بِهِ وَالْفَهْم لَهُ ; مِنْ قَوْلِك : دَرَسَتْ الرِّيح الْآثَار , إِذَا مَحَتْهَا . وَخَطّ دَارِس وَرَبْع دَارِس , إِذَا اِمَّحَى وَعَفَا أَثَره . وَهَذَا الْمَعْنَى مُوَاطِئٌ - أَيْ مُوَافِق - لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ " [ الْبَقَرَة : 101 ] الْآيَة . وَقَوْله : " فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورهمْ " [ آل عِمْرَان : 187 ] . حَسَب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " الْبَقَرَة "
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَسورة الأعراف الآية رقم 170
قَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ " أَيْ بِالتَّوْرَاةِ , أَيْ بِالْعَمَلِ بِهَا ; يُقَال : مَسَّكَ بِهِ وَتَمَسَّكَ بِهِ أَيْ اِسْتَمْسَكَ بِهِ . وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَة وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر " يُمْسِكُونَ " بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَمْسَكَ يُمْسِك . وَالْقِرَاءَة الْأُولَى أَوْلَى ; لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّكْرِير وَالتَّكْثِير لِلتَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى وَبِدِينِهِ فَبِذَلِكَ يُمْدَحُونَ . فَالتَّمَسُّك بِكِتَابِ اللَّه وَالدِّين يَحْتَاج إِلَى الْمُلَازَمَة وَالتَّكْرِير لِفِعْلِ ذَلِكَ . وَقَالَ كَعْب بْن زُهَيْر : فَمَا تَمَسَّكَ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ إِلَّا كَمَا تُمَسِّكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ فَجَاءَ بِهِ عَلَى طَبْعه يَذُمّ بِكَثْرَةِ نَقْضِ الْعَهْد .
وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَسورة الأعراف الآية رقم 171
" نَتَقْنَا " مَعْنَاهُ رَفَعْنَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " الْبَقَرَة " " كَأَنَّهُ ظُلَّة " أَيْ كَأَنَّهُ لِارْتِفَاعِهِ سَحَابَة تُظِلّ .


" خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ " أَيْ بِجِدٍّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . إِلَى آخِر الْآيَة .
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَسورة الأعراف الآية رقم 172
أَيْ وَاذْكُرْ لَهُمْ مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ تَذْكِير الْمَوَاثِيق فِي كِتَابهمْ مَا أَخَذْت مِنْ الْمَوَاثِيق مِنْ الْعِبَاد يَوْم الذَّرّ . وَهَذِهِ آيَة مُشْكِلَة , وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيلهَا وَأَحْكَامهَا , فَنَذْكُر مَا ذَكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ حَسَب مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ قَوْم : مَعْنَى الْآيَة أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْرَجَ مِنْ ظُهُور بَنِي آدَم بَعْضهمْ مِنْ بَعْض " أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسهمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ " دَلَّهُمْ بِخَلْقِهِ عَلَى تَوْحِيده ; لِأَنَّ كُلّ بَالِغ يَعْلَم ضَرُورَة أَنَّ لَهُ رَبًّا وَاحِدًا . " أَلَسْت بِرَبِّكُمْ " أَيْ قَالَ . فَقَامَ ذَلِكَ مَقَام الْإِشْهَاد عَلَيْهِمْ , وَالْإِقْرَار مِنْهُمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض : " قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ " [ فُصِّلَتْ : 11 ] . ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَفَّال وَأَطْنَبَ . وَقِيلَ : إِنَّهُ سُبْحَانه أَخْرَجَ الْأَرْوَاح قَبْل خَلْق الْأَجْسَاد , وَأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْمَعْرِفَة مَا عَلِمَتْ بِهِ مَا خَاطَبَهَا . قُلْت : وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ , وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الْأَشْبَاح فِيهَا الْأَرْوَاح مِنْ ظَهْر آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَرَوَى مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَة " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسهمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ " فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَل عَنْهَا , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ آدَم ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْل الْجَنَّة يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْل النَّار يَعْمَلُونَ " . فَقَالَ رَجُل : فَفِيمَ الْعَمَل ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّه إِذَا خَلَقَ الْعَبْد لِلْجَنَّةِ اِسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْل الْجَنَّة حَتَّى يَمُوت عَلَى عَمَل مِنْ أَعْمَال أَهْل الْجَنَّة فَيُدْخِلهُ الْجَنَّة وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْد لِلنَّارِ اِسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْل النَّار حَتَّى يَمُوت عَلَى عَمَل مِنْ أَعْمَال أَهْل النَّار فَيُدْخِلهُ اللَّه النَّار " . قَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا حَدِيث مُنْقَطِع الْإِسْنَاد ; لِأَنَّ مُسْلِم بْن يَسَار لَمْ يَلْقَ عُمَر . وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْن مَعِين : مُسْلِم بْن يَسَار لَا يُعْرَف , بَيْنه وَبَيْن عُمَر نُعَيْم بْن رَبِيعَة , ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ , وَنُعَيْم غَيْر مَعْرُوف بِحَمْلِ الْعِلْم . لَكِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوه ثَابِتَة كَثِيرَة مِنْ حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَأَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرهمْ . رَوَى التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَمَّا خَلَقَ اللَّه آدَم مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلّ نَسَمَة هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَجَعَلَ بَيْن عَيْنَيْ كُلّ رَجُل مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُور ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَم فَقَالَ يَا رَبّ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتك فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيص مَا بَيْن عَيْنَيْهِ فَقَالَ أَيْ رَبّ مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ هَذَا رَجُل مِنْ آخِر الْأُمَم مِنْ ذُرِّيَّتك يُقَال لَهُ دَاوُد فَقَالَ رَبِّ كَمْ جَعَلْت عُمْره قَالَ سِتِّينَ سَنَة قَالَ أَيْ رَبّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَة فَلَمَّا اِنْقَضَى عُمْر آدَم عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَهُ مَلَك الْمَوْت فَقَالَ أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَة قَالَ أَوَلَمْ تُعْطِهَا اِبْنك دَاوُد قَالَ فَجَحَدَ آدَم فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّته وَنَسِيَ آدَم فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّته " . فِي غَيْر التِّرْمِذِيّ : فَحِينَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُود . فِي رِوَايَة : فَرَأَى فِيهِمْ الضَّعِيف وَالْغَنِيّ وَالْفَقِير وَالذَّلِيل وَالْمُبْتَلَى وَالصَّحِيح . فَقَالَ لَهُ آدَم : يَا رَبّ , مَا هَذَا ؟ أَلَا سَوَّيْت بَيْنهمْ ! قَالَ : أَرَدْت أَنْ أُشْكَرَ . وَرَوَى عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أُخِذُوا مِنْ ظَهْره كَمَا يُؤْخَذ بِالْمُشْطِ مِنْ الرَّأْس " . وَجَعَلَ اللَّه لَهُمْ عُقُولًا كَنَمْلَةِ سُلَيْمَان , وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الْعَهْد بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَأَنْ لَا إِلَه غَيْره . فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ وَالْتَزَمُوهُ , وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ الرُّسُل ; فَشَهِدَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض . قَالَ أُبَيّ بْن كَعْب : وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمْ السَّمَاوَات السَّبْع , فَلَيْسَ مِنْ أَحَد يُولَد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْد . وَاخْتُلِفَ فِي الْمَوْضِع الَّذِي أُخِذَ فِيهِ الْمِيثَاق حِين أُخْرِجُوا عَلَى أَرْبَعَة أَقْوَال ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بِبَطْنِ نَعْمَان , وَادٍ إِلَى جَنْب عَرَفَة . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ بِرَهْبَا - أَرْض بِالْهِنْدِ - الَّذِي هَبَطَ فِيهِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة : أَهَبَطَ اللَّه آدَم بِالْهِنْدِ , ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلّ نَسَمَة هُوَ خَالِقهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , ثُمَّ قَالَ : " أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا " قَالَ يَحْيَى قَالَ الْحَسَن : ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْب آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : بَيْن مَكَّة وَالطَّائِف . وَقَالَ السُّدِّيّ : فِي السَّمَاء الدُّنْيَا حِين أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّة إِلَيْهَا مَسَحَ عَلَى ظَهْره فَأَخْرَجَ مِنْ صَفْحَة ظَهْرِهِ الْيُمْنَى ذُرِّيَّة بَيْضَاء مِثْل اللُّؤْلُؤِ , فَقَالَ لَهُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّة بِرَحْمَتِي . وَأَخْرَجَ مِنْ صَفْحَة ظَهْرِهِ الْيُسْرَى ذُرِّيَّة سَوْدَاء وَقَالَ لَهُمْ اُدْخُلُوا النَّار وَلَا أُبَالِي . قَالَ اِبْن جُرَيْج : خَرَجَتْ كُلُّ نَفْس مَخْلُوقَة لِلْجَنَّةِ بَيْضَاء , وَكُلّ نَفْس مَخْلُوقَة لِلنَّارِ سَوْدَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ رَحِمَهُ اللَّه : " فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يُعَذِّب الْخَلْق وَهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا , أَوْ يُعَاقِبهُمْ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْهُمْ وَكَتَبَهُ عَلَيْهِمْ وَسَاقَهُمْ إِلَيْهِ , قُلْنَا : وَمِنْ أَيْنَ يَمْتَنِع ذَلِكَ , أَعَقْلًا أَمْ شَرْعًا ؟ فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّ الرَّحِيم الْحَكِيم مِنَّا لَا يَجُوز أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ . قُلْنَا : لِأَنَّ فَوْقه آمِرًا يَأْمُرهُ وَنَاهِيًا يَنْهَاهُ , وَرَبّنَا تَعَالَى لَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَلَا يَجُوز أَنْ يُقَاسَ الْخَلْق بِالْخَالِقِ , وَلَا تُحْمَل أَفْعَال الْعِبَاد عَلَى أَفْعَال الْإِلَهِ , وَبِالْحَقِيقَةِ الْأَفْعَال كُلُّهَا لِلَّهِ جَلَّ جَلَاله , وَالْخَلْق بِأَجْمَعِهِمْ لَهُ , صَرَفَهُمْ كَيْفَ شَاءَ , وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَرَادَ , وَهَذَا الَّذِي يَجِدُهُ الْآدَمِيّ إِنَّمَا تَبْعَث عَلَيْهِ رِقَّة الْجِبِلَّة وَشَفَقَة الْجِنْسِيَّة وَحُبّ الثَّنَاء وَالْمَدْح ; لِمَا يُتَوَقَّع فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْتِفَاع , وَالْبَارِي تَعَالَى مُتَقَدِّس عَنْ ذَلِكَ كُلّه , فَلَا يَجُوز أَنْ يُعْتَبَر بِهِ " . وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَة , هَلْ هِيَ خَاصَّة أَوْ عَامَّة . فَقِيلَ : الْآيَة خَاصَّة ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : " مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورِهِمْ " فَخَرَجَ مِنْ هَذَا الْحَدِيث مَنْ كَانَ مِنْ وَلَد آدَم لِصُلْبِهِ .
أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَسورة الأعراف الآية رقم 173
فَخَرَجَ مِنْهَا كُلّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آبَاء مُشْرِكُونَ . وَقِيلَ : هِيَ مَخْصُوصَة فِيمَنْ أُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْد عَلَى أَلْسِنَة الْأَنْبِيَاء . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ عَامَّة لِجَمِيعِ النَّاس ; لِأَنَّ كُلّ أَحَد يَعْلَم أَنَّهُ كَانَ طِفْلًا فَغُذِّيَ وَرُبِّيَ , وَأَنَّ لَهُ مُدَبِّرًا وَخَالِقًا . فَهَذَا مَعْنَى " وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ " . وَمَعْنَى " قَالُوا بَلَى " أَيْ إِنَّ ذَلِكَ وَاجِب عَلَيْهِمْ . فَلَمَّا اِعْتَرَفَ الْخَلْق لِلَّهِ سُبْحَانه بِأَنَّهُ الرَّبّ ثُمَّ ذَهَلُوا عَنْهُ ذَكَّرَهُمْ بِأَنْبِيَائِهِ وَخَتَمَ الذِّكْر بِأَفْضَل أَصْفِيَائِهِ لِتَقُومَ حُجَّته عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ : " فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر . لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ " [ الْغَاشِيَة : 22 ] . ثُمَّ مَكَّنَهُ مِنْ السَّيْطَرَة , وَأَتَاهُ السَّلْطَنَة , وَمَكَّنَ لَهُ دِينَهُ فِي الْأَرْض . قَالَ الطُّرْطُوشِيّ : إِنَّ هَذَا الْعَهْد يَلْزَم الْبَشَر وَإِنْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاة , كَمَا يَلْزَم الطَّلَاق مَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ وَقَدْ نَسِيَهُ " . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة مَنْ قَالَ : إِنَّ مَنْ مَاتَ صَغِيرًا دَخَلَ الْجَنَّة لِإِقْرَارِهِ فِي الْمِيثَاق الْأَوَّل . وَمَنْ بَلَغَ الْعَقْل لَمْ يُغْنِهِ الْمِيثَاق الْأَوَّل . وَهَذَا الْقَائِل يَقُول : أَطْفَال الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّة , وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَة اُخْتُلِفَ فِيهَا لِاخْتِلَافِ الْآثَار , وَالصَّحِيح مَا ذَكَرْنَاهُ . وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي هَذَا فِي " الرُّوم " إِنْ شَاءَ اللَّه . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ . قَوْله تَعَالَى : " مِنْ ظُهُورِهِمْ " بَدَلُ اِشْتِمَال مِنْ قَوْله " مِنْ بَنِي آدَم " . وَأَلْفَاظ الْآيَة تَقْتَضِي أَنَّ الْأَخْذ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَنِي آدَم , وَلَيْسَ لِآدَم فِي الْآيَة ذِكْر بِحَسَبِ اللَّفْظ . وَوَجْه النَّظْم عَلَى هَذَا : وَإِذْ أَخَذَ رَبّك مِنْ ظُهُور بَنِي آدَم ذُرِّيَّتَهُمْ . وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُر ظَهْر آدَم لِأَنَّ الْمَعْلُوم أَنَّهُمْ كُلّهمْ بَنُوهُ . وَأَنَّهُمْ أُخْرِجُوا يَوْم الْمِيثَاق مِنْ ظَهْرِهِ . فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْره لِقَوْلِهِ : " مِنْ بَنِي آدَم " . " ذُرِّيَّتَهُمْ " قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْن كَثِير بِالتَّوْحِيدِ وَفَتْح التَّاء , وَهِيَ تَقَع لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْع ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " هَبْ لِي مِنْ لَدُنْك ذُرِّيَّة طَيِّبَة " [ آل عِمْرَان : 38 ] فَهَذَا لِلْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ هِبَة وَلَد فَبُشِّرَ بِيَحْيَى . وَأَجْمَعَ الْقُرَّاء عَلَى التَّوْحِيد فِي قَوْله : " مِنْ ذُرِّيَّة آدَم " [ مَرْيَم : 58 ] وَلَا شَيْء أَكْثَر مِنْ ذُرِّيَّة آدَم . وَقَالَ : " وَكُنَّا ذُرِّيَّة مِنْ بَعْدهمْ " فَهَذَا لِلْجَمْعِ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " ذُرِّيَّاتهمْ " بِالْجَمْعِ , لِأَنَّ الذُّرِّيَّة لَمَّا كَانَتْ تَقَع لِلْوَاحِدِ أَتَى بِلَفْظٍ لَا يَقَع لِلْوَاحِدِ فَجَمَعَ لِتَخْلُص الْكَلِمَة إِلَى مَعْنَاهَا الْمَقْصُود إِلَيْهِ لَا يُشْرِكهَا فِيهِ شَيْء وَهُوَ الْجَمْع ; لِأَنَّ ظُهُور بَنِي آدَم اُسْتُخْرِجَ مِنْهَا ذُرِّيَّات كَثِيرَة مُتَنَاسِبَة , أَعْقَاب بَعْد أَعْقَاب , لَا يَعْلَم عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّه ; فَجَمَعَ لِهَذَا الْمَعْنَى . " أَنْ يَقُولُوا " " أَوْ يَقُولُوا " قَرَأَ أَبُو عَمْرو بِالْيَاءِ فِيهِمَا . رَدَّهُمَا عَلَى لَفْظ الْغَيْبَة الْمُتَكَرِّر قَبْله , وَهُوَ قَوْله : " مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّاتهمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسهمْ " .



وَقَوْله : " قَالُوا بَلَى " أَيْضًا لَفْظ غَيْبَة . وَكَذَا " وَكُنَّا ذُرِّيَّة مِنْ بَعْدهمْ " " وَلَعَلَّهُمْ " فَحَمَلَهُ عَلَى مَا قَبْله وَمَا بَعْده مِنْ لَفْظ الْغَيْبَة . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا ; رَدُّوهُ عَلَى لَفْظ الْخِطَاب الْمُتَقَدِّم فِي قَوْله : " أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى " . وَيَكُون " شَهِدْنَا " مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة . لَمَّا قَالُوا " بَلَى " قَالَتْ الْمَلَائِكَة : " شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا " " أَوْ تَقُولُوا " أَيْ لِئَلَّا تَقُولُوا . وَقِيلَ : مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا بَلَى , فَأَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ , قَالَ اللَّه تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ : اِشْهَدُوا قَالُوا شَهِدْنَا بِإِقْرَارِكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا أَوْ تَقُولُوا . وَهَذَا قَوْل مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَأُبَيّ بْن كَعْب : قَوْله " شَهِدْنَا " هُوَ مِنْ قَوْل بَنِي آدَم , وَالْمَعْنَى : شَهِدْنَا أَنَّك رَبُّنَا وَإِلَهُنَا , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَشْهَدَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض ; فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا قَالُوا بَلَى شَهِدَ بَعْضنَا عَلَى بَعْض ; فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة فَيُوقَف عَلَى " بَلَى " وَلَا يَحْسُن الْوَقْف عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ قَوْل بَنِي آدَم ; لِأَنَّ " أَنْ " مُتَعَلِّقَة بِمَا قَبْل بَلَى , مِنْ قَوْله : " وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ " لِئَلَّا يَقُولُوا . وَقَدْ رَوَى مُجَاهِد عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّاتهمْ كَمَا يُؤْخَذ بِالْمُشْطِ مِنْ الرَّأْس فَقَالَ لَهُمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى قَالَتْ الْمَلَائِكَة شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا " . أَيْ شَهِدْنَا عَلَيْكُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِئَلَّا تَقُولُوا . فَهَذَا يَدُلّ عَلَى التَّاء . قَالَ مَكِّيّ : وَهُوَ الِاخْتِيَار لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ , وَلِأَنَّ الْجَمَاعَة عَلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْلَهُ " شَهِدْنَا " مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى وَالْمَلَائِكَة . وَالْمَعْنَى : فَشَهِدْنَا عَلَى إِقْرَاركُمْ ; قَالَهُ أَبُو مَالِك , وَرُوِيَ عَنْ السُّدِّيّ أَيْضًا . " وَكُنَّا ذُرِّيَّة مِنْ بَعْدهمْ " أَيْ اِقْتَدَيْنَا بِهِمْ .


بِمَعْنَى : لَسْت تَفْعَل هَذَا . وَلَا عُذْر لِلْمُقَلِّدِ فِي التَّوْحِيد .
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَسورة الأعراف الآية رقم 174
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَسورة الأعراف الآية رقم 175
ذَكَّرَ أَهْل الْكِتَاب قِصَّة عَرَفُوهَا فِي التَّوْرَاة . وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِين الَّذِي أُوتِيَ الْآيَات . فَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس : هُوَ بَلْعَام بْن بَاعُورَاء , وَيُقَال نَاعِم , مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فِي زَمَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , وَكَانَ بِحَيْثُ إِذَا نَظَرَ رَأَى الْعَرْش . وَهُوَ الْمَعْنِيّ بِقَوْلِهِ " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا " وَلَمْ يَقُلْ آيَة , وَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ اِثْنَتَا عَشْرَة أَلْف مِحْبَرَة لِلْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ عَنْهُ . ثُمَّ صَارَ بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ أَوَّل مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي أَنْ " لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِع " . قَالَ مَالِك بْن دِينَار : بُعِثَ بَلْعَام بْن بَاعُورَاء إِلَى مَلِك مَدْيَن لِيَدْعُوَهُ إِلَى الْإِيمَان ; فَأَعْطَاهُ وَأَقْطَعَهُ فَاتَّبَعَ دِينَهُ وَتَرَكَ دِين مُوسَى ; فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَات . رَوَى الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ بَلْعَام قَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّة , وَكَانَ مُجَاب الدَّعْوَة , فَلَمَّا أَقْبَلَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيل يُرِيد قِتَال الْجَبَّارِينَ , سَأَلَ الْجَبَّارُونَ بَلْعَام بْن بَاعُورَاء أَنْ يَدْعُو عَلَى مُوسَى فَقَامَ لِيَدْعُوَ فَتَحَوَّلَ لِسَانه بِالدُّعَاءِ عَلَى أَصْحَابه . فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ; فَقَالَ : لَا أَقْدِر عَلَى أَكْثَر مِمَّا تَسْمَعُونَ ; وَانْدَلَعَ لِسَانه عَلَى صَدْره . فَقَالَ : قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْآن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْر وَالْخَدِيعَة وَالْحِيلَة , وَسَأَمْكُرُ لَكُمْ , فَإِنِّي أَرَى أَنْ تُخْرِجُوا إِلَيْهِمْ فَتَيَاتكُمْ فَإِنَّ اللَّه يَبْغَض الزِّنَى , فَإِنْ وَقَعُوا فِيهِ هَلَكُوا ; فَفَعَلُوا فَوَقَعَ بَنُو إِسْرَائِيل فِي الزِّنَى , فَأَرْسَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ الطَّاعُون فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا . وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَر بِكَمَالِهِ الثَّعْلَبِيّ وَغَيْره . وَرُوِيَ أَنَّ بَلْعَام بْن بَاعُورَاء دَعَا أَلَّا يَدْخُل مُوسَى مَدِينَة الْجَبَّارِينَ , فَاسْتُجِيبَ لَهُ وَبَقِيَ فِي التِّيه . فَقَالَ مُوسَى : يَا رَبِّ , بِأَيِّ ذَنْب بَقِينَا فِي التِّيه . فَقَالَ : بِدُعَاءِ بَلْعَام . قَالَ : فَكَمَا سَمِعْت دُعَاءَهُ عَلَيَّ فَاسْمَعْ دُعَائِي عَلَيْهِ . فَدَعَا مُوسَى أَنْ يَنْزِع اللَّه عَنْهُ الِاسْم الْأَعْظَم ; فَسَلَخَهُ اللَّه مَا كَانَ عَلَيْهِ , وَقَالَ أَبُو حَامِد فِي آخِر كِتَاب مِنْهَاج الْعَارِفِينَ لَهُ : وَسَمِعْت بَعْض الْعَارِفِينَ يَقُول إِنَّ بَعْض الْأَنْبِيَاء سَأَلَ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَمْر بَلْعَام وَطَرْده بَعْد تِلْكَ الْآيَات وَالْكَرَامَات , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : لَمْ يَشْكُرنِي يَوْمًا مِنْ الْأَيَّام عَلَى مَا أَعْطَيْته , وَلَوْ شَكَرَنِي عَلَى ذَلِكَ مَرَّة لَمَا سَلَبْته . وَقَالَ عِكْرِمَة : كَانَ بَلْعَام نَبِيًّا وَأُوتِيَ كِتَابًا . وَقَالَ مُجَاهِد : إِنَّهُ أُوتِيَ النُّبُوَّة ; فَرَشَاهُ قَوْمه عَلَى أَنْ يَسْكُت فَفَعَلَ وَتَرَكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَهَذَا غَيْر صَحِيح ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَصْطَفِي لِنُبُوَّتِهِ إِلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْرُج عَنْ طَاعَته إِلَى مَعْصِيَته . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص وَزَيْد بْن أَسْلَم : نَزَلَتْ فِي أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت الثَّقَفِيّ , وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُب وَعَلِمَ أَنَّ اللَّه مُرْسِلٌ رَسُولًا فِي ذَلِكَ الْوَقْت , وَتَمَنَّى أَنْ يَكُون هُوَ ذَلِكَ الرَّسُول , فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدَهُ وَكَفَرَ بِهِ . وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " آمَنَ شِعْره وَكَفَرَ قَلْبه " . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : نَزَلَتْ فِي أَبِي عَامِر بْن صَيْفِيّ , وَكَانَ يَلْبَس الْمُسُوح فِي الْجَاهِلِيَّة ; فَكَفَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة فَقَالَ : يَا مُحَمَّد , مَا هَذَا الَّذِي جِئْت بِهِ ؟ قَالَ : " جِئْت بِالْحَنِيفِيَّةِ دِين إِبْرَاهِيم " . قَالَ : فَإِنِّي عَلَيْهَا . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَسْت عَلَيْهَا لِأَنَّك أَدْخَلْت فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا " . فَقَالَ أَبُو عَامِر : أَمَاتَ اللَّه الْكَاذِب مِنَّا طَرِيدًا وَحِيدًا . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَعَمْ أَمَاتَ اللَّه الْكَاذِب مِنَّا كَذَلِكَ " وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا يُعَرِّض بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ خَرَجَ مِنْ مَكَّة . فَخَرَجَ أَبُو عَامِر إِلَى الشَّأْم وَمَرَّ إِلَى قَيْصَر وَكَتَبَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ : اِسْتَعِدُّوا فَإِنِّي آتِيكُمْ مِنْ عِنْد قَيْصَر بِجُنْدٍ لِنُخْرِجَ مُحَمَّدًا مِنْ الْمَدِينَة ; فَمَاتَ بِالشَّامِ وَحِيدًا . وَفِيهِ نَزَلَ : " وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّه وَرَسُوله مِنْ قَبْل " [ التَّوْبَة : 107 ] وَسَيَأْتِي فِي بَرَاءَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة : نَزَلَتْ فِي رَجُل كَانَ لَهُ ثَلَاث دَعَوَات يُسْتَجَاب لَهُ فِيهَا , وَكَانَتْ لَهُ اِمْرَأَة يُقَال لَهَا " الْبَسُوس " فَكَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَد ; فَقَالَتْ : اِجْعَلْ لِي مِنْهَا دَعْوَة وَاحِدَة . فَقَالَ : لَك وَاحِدَة , فَمَا تَأْمُرِينَ ؟ قَالَتْ : اُدْعُ اللَّه أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَل اِمْرَأَة فِي بَنِي إِسْرَائِيل . فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلهَا رَغِبَتْ عَنْهُ ; فَدَعَا اللَّه عَلَيْهَا أَنْ يَجْعَلهَا كَلْبَة نَبَّاحَة . فَذَهَبَ فِيهَا دَعْوَتَانِ ; فَجَاءَ بَنُوهَا وَقَالُوا : لَا صَبْر لَنَا عَنْ هَذَا , وَقَدْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَة يُعَيِّرنَا النَّاس بِهَا , فَادْعُ اللَّه أَنْ يَرُدّهَا كَمَا كَانَتْ ; فَدَعَا فَعَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ , وَذَهَبَتْ الدَّعَوَات فِيهَا . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَشْهَر , وَعَلَيْهِ الْأَكْثَر . قَالَ عُبَادَة بْن الصَّامِت : نَزَلَتْ فِي قُرَيْش , آتَاهُمْ اللَّه آيَاته الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّه - تَعَالَى - عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْسَلَخُوا مِنْهَا , وَلَمْ يَقْبَلُوهَا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ بَلْعَام مِنْ مَدِينَة الْجَبَّارِينَ . وَقِيلَ : كَانَ مِنْ الْيَمَن . " فَانْسَلَخَ مِنْهَا " أَيْ مِنْ مَعْرِفَة اللَّه تَعَالَى , أَيْ نُزِعَ مِنْهُ الْعِلْم الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ . وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْعِلْم عِلْمَانِ عِلْم فِي الْقَلْب فَذَلِكَ الْعِلْم النَّافِع وَعِلْم عَلَى اللِّسَان فَذَلِكَ حُجَّة اللَّه تَعَالَى عَلَى اِبْن آدَم ) . فَهَذَا مِثْل عِلْم بَلْعَام وَأَشْبَاهه , نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْهُ ; وَنَسْأَل التَّوْفِيق وَالْمَمَات عَلَى التَّحْقِيق . وَالِانْسِلَاخ : الْخُرُوج ; يُقَال : اِنْسَلَخَتْ الْحَيَّة مِنْ جِلْدِهَا أَيْ خَرَجَتْ مِنْهُ . وَقِيلَ : هَذَا مِنْ الْمَقْلُوب , أَيْ اِنْسَلَخَتْ الْآيَات مِنْهُ . " فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان " أَيْ لَحِقَ بِهِ ; يُقَال : أَتْبَعْت الْقَوْم أَيْ لَحِقْتهمْ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى , اِنْتَظَرُوا خُرُوج مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهِ .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَسورة الأعراف الآية رقم 176
يُرِيد بَلْعَام . أَيْ لَوْ شِئْنَا لَأَمَتْنَاهُ قَبْل أَنْ يَعْصِي فَرَفَعْنَاهُ إِلَى الْجَنَّة . " بِهَا " أَيْ بِالْعَمَلِ بِهَا .



أَيْ رَكَنَ إِلَيْهَا ; عَنْ اِبْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ . مُجَاهِد : سَكَنَ إِلَيْهَا ; أَيْ سَكَنَ إِلَى لَذَّاتِهَا . وَأَصْل الْإِخْلَاد اللُّزُوم . يُقَال : أَخْلَدَ فُلَان بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ وَلَزِمَهُ . قَالَ زُهَيْر : لِمَنْ الدِّيَارُ غَشِيتهَا بِالْغَرْقَدِ كَالْوَحْيِ فِي حَجَر الْمَسِيل الْمُخْلَد يَعْنِي الْمُقِيم ; فَكَأَنَّ الْمَعْنَى لَزِمَ لِذَاتِ الْأَرْض فَعُبِّرَ عَنْهَا بِالْأَرْضِ ; لِأَنَّ مَتَاع الدُّنْيَا عَلَى وَجْه الْأَرْض .


أَيْ مَا زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَان . وَقِيلَ : كَانَ هَوَاهُ مَعَ الْكُفَّار . وَقِيلَ : اِتَّبَعَ رِضَا زَوْجَته , وَكَانَتْ رَغِبَتْ فِي أَمْوَال حَتَّى حَمَلَتْهُ عَلَى الدُّعَاء عَلَى مُوسَى .


اِبْتِدَاء وَخَبَر .



شَرْط وَجَوَابه . وَهُوَ فِي مَوْضِع الْحَال , أَيْ فَمَثَله كَمَثَلِ الْكَلْب لَاهِثًا . وَالْمَعْنَى : أَنَّهُ عَلَى شَيْء وَاحِد لَا يَرْعَوِي عَنْ الْمَعْصِيَة ; كَمَثَلِ الْكَلْب الَّذِي هَذِهِ حَالَته . فَالْمَعْنَى : أَنَّهُ لَاهِث عَلَى كُلّ حَال , طَرَدْته أَوْ لَمْ تَطْرُدهُ . قَالَ اِبْن جُرَيْج : الْكَلْب مُنْقَطِع الْفُؤَاد , لَا فُؤَاد لَهُ , إِنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَث أَوْ تَتْرُكهُ يَلْهَث ; كَذَلِكَ الَّذِي يَتْرُك الْهُدَى لَا فُؤَاد لَهُ , وَإِنَّمَا فُؤَادُهُ مُنْقَطِع . قَالَ الْقُتَيْبِيّ : كُلّ شَيْء يَلْهَث فَإِنَّمَا يَلْهَث مِنْ إِعْيَاء أَوْ عَطَش , إِلَّا الْكَلْب فَإِنَّهُ يَلْهَث فِي حَال الْكَلَال وَحَال الرَّاحَة وَحَال الْمَرَض وَحَال الصِّحَّة وَحَال الرِّيّ وَحَال الْعَطَش . فَضَرَبَهُ اللَّه مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ فَقَالَ : إِنْ وَعَظْته ضَلَّ وَإِنْ تَرَكْته ضَلَّ ; فَهُوَ كَالْكَلْبِ إِنْ تَرَكْته لَهَثَ وَإِنْ طَرَدْته لَهَثَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ " [ الْأَعْرَاف : 193 ] . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : لَهَثَ الْكَلْب " بِالْفَتْحِ " يَلْهَث لَهْثًا وَلُهَاثًا " بِالضَّمِّ " إِذَا أَخْرَجَ لِسَانه مِنْ التَّعَب أَوْ الْعَطَش ; وَكَذَلِكَ الرَّجُل إِذَا أُعْيِيَ . وَقَوْله تَعَالَى " إِنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَث " لِأَنَّك إِذَا حَمَلْت عَلَى الْكَلْب نَبَحَ وَوَلَّى هَارِبًا , وَإِذَا تَرَكْته شَدَّ عَلَيْك وَنَبَحَ ; فَيُتْعِب نَفْسه مُقْبِلًا عَلَيْك وَمُدْبِرًا عَنْك فَيَعْتَرِيه عِنْد ذَلِكَ مَا يَعْتَرِيه عِنْد الْعَطَش مِنْ إِخْرَاج اللِّسَان . قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول : إِنَّمَا شَبَّهَهُ بِالْكَلْبِ مِنْ بَيْن السِّبَاع ; لِأَنَّ الْكَلْب مَيِّت الْفُؤَاد , وَإِنَّمَا لُهَاثه لِمَوْتِ فُؤَاده . وَسَائِر السِّبَاع لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ لَا يَلْهَثْنَ . وَإِنَّمَا صَارَ الْكَلْب كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ آدَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَرْض شَمِتَ بِهِ الْعَدُوّ , فَذَهَبَ إِلَى السِّبَاع فَأَشْلَاهُمْ عَلَى آدَم , فَكَانَ الْكَلْب مِنْ أَشَدّهمْ طَلَبًا . فَنَزَلَ جِبْرِيل بِالْعَصَا الَّتِي صُرِفَتْ إِلَى مُوسَى بِمَدْيَن وَجَعَلَهَا آيَة لَهُ إِلَى فِرْعَوْن وَمَلَئِهِ , وَجَعَلَ فِيهَا سُلْطَانًا عَظِيمًا وَكَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّة ; فَأَعْطَاهَا آدَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ لِيَطْرُد بِهَا السِّبَاع عَنْ نَفْسه , وَأَمَرَهُ فِيمَا رُوِيَ أَنْ يَدْنُو مِنْ الْكَلْب وَيَضَع يَده عَلَى رَأْسه , فَمِنْ ذَلِكَ أَلِفَهُ الْكَلْب وَمَاتَ الْفُؤَاد مِنْهُ لِسُلْطَانِ الْعَصَا , وَأَلِفَ بِهِ وَبِوَلَدِهِ إِلَى يَوْمنَا هَذَا , لِوَضْعِ يَده عَلَى رَأْسه , وَصَارَ حَارِسًا مِنْ حُرَّاس وَلَده . وَإِذَا أُدِّبَ وَعُلِّمَ الِاصْطِيَاد تَأَدَّبَ وَقَبِلَ التَّعْلِيم ; وَذَلِكَ قَوْله : " تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّه " [ الْمَائِدَة : 4 ] . السُّدِّيّ : كَانَ بَلْعَام بَعْد ذَلِكَ يَلْهَث كَمَا يَلْهَث الْكَلْب . وَهَذَا الْمَثَل فِي قَوْل كَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم بِالتَّأْوِيلِ عَامّ فِي كُلّ مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآن فَلَمْ يَعْمَل بِهِ . وَقِيلَ : هُوَ فِي كُلّ مُنَافِق . وَالْأَوَّل أَصَحّ . قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى : " فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْب إِنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَث أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث " أَيْ إِنْ تَحْمِل عَلَيْهِ بِدَابَّتِك أَوْ بِرَجْلِك يَلْهَث أَوْ تَتْرُكهُ يَلْهَث . وَكَذَلِكَ مَنْ يَقْرَأ الْكِتَاب وَلَا يَعْمَل بِمَا فِيهِ . وَقَالَ غَيْره : هَذَا شَرّ تَمْثِيل ; لِأَنَّهُ مِثْله فِي أَنَّهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ حَتَّى صَارَ لَا يَمْلِك لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا بِكَلْبٍ لَاهِث أَبَدًا , حَمَلَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَحْمِل عَلَيْهِ ; فَهُوَ لَا يَمْلِك لِنَفْسِهِ تَرْك اللَّهَثَان . وَقِيلَ : مِنْ أَخْلَاق الْكَلْب الْوُقُوع بِمَنْ لَمْ يُخِفْهُ عَلَى جِهَة الِابْتِدَاء بِالْجَفَاءِ , ثُمَّ تَهْدَأ طَائِشَته بِنَيْلِ كُلّ عِوَض خَسِيس . ضَرَبَهُ اللَّه مَثَلًا لِلَّذِي قَبِلَ الرِّشْوَة فِي الدِّين حَتَّى اِنْسَلَخَ مِنْ آيَات رَبّه . فَدَلَّتْ الْآيَة لِمَنْ تَدَبَّرَهَا عَلَى أَلَّا يَغْتَرّ أَحَد بِعَمَلِهِ وَلَا بِعِلْمِهِ ; إِذْ لَا يَدْرِي بِمَا يُخْتَم لَهُ . وَدَلَّتْ عَلَى مَنْع أَخْذ الرِّشْوَة لِإِبْطَالِ حَقّ أَوْ تَغْيِيره . وَقَدْ مَضَى بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " . وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى مَنْع التَّقْلِيد لِعَالِمٍ إِلَّا بِحُجَّةٍ يُبَيِّنُهَا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَعْطَى هَذَا آيَاته فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يَخَاف مِثْل هَذَا عَلَى غَيْره وَأَلَّا يَقْبَل مِنْهُ إِلَّا بِحُجَّةٍ .



أَيْ هُوَ مَثَل جَمِيع الْكُفَّار
سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَسورة الأعراف الآية رقم 177
يُقَال : سَاءَ الشَّيْء قَبُحَ , فَهُوَ لَازِم , وَسَاءَ يَسُوء مَسَاءَة , فَهُوَ مُتَعَدٍّ , أَيْ قَبُحَ مَثَلُهُمْ . وَتَقْدِيره : سَاءَ مَثَلًا مَثَل الْقَوْم ; فَحُذِفَ الْمُضَاف , وَنُصِبَ " مَثَلًا " عَلَى التَّمْيِيز . قَالَ الْأَخْفَش : فَجُعِلَ الْمَثَل الْقَوْم مَجَازًا . وَالْقَوْم مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ أَوْ عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ . التَّقْدِير : سَاءَ الْمَثَل مَثَلًا هُوَ مَثَل الْقَوْم . وَقَدَّرَهُ أَبُو عَلِيّ : سَاءَ مَثَلًا مَثَل الْقَوْم . وَقَرَأَ عَاصِم الْجَحْدِيّ وَالْأَعْمَش " سَاءَ مَثَل الْقَوْم " رَفَعَ مَثَلًا بِـ سَاءَ .
مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَسورة الأعراف الآية رقم 178
تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي غَيْر مَوْضِع وَهَذِهِ الْآيَة تَرُدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة كَمَا سَبَقَ , وَتَرُدّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى هَدَى جَمِيع الْمُكَلَّفِينَ وَلَا يَجُوز أَنْ يُضِلَّ أَحَدًا .
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَسورة الأعراف الآية رقم 179
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا بِعَدْلِهِ .


ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ " لَهُمْ قُلُوب لَا يَفْقَهُونَ بِهَا " بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَفْقَه ; لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا , وَلَا يَعْقِلُونَ ثَوَابًا وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا .


الْهُدَى .


الْمَوَاعِظ . وَلَيْسَ الْغَرَض نَفْي الْإِدْرَاكَات عَنْ حَوَاسّهمْ جُمْلَة .


لِأَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى ثَوَاب , فَهُمْ كَالْأَنْعَامِ ; أَيْ هِمَّتُهُمْ الْأَكْل وَالشُّرْب , وَهُمْ أَضَلُّ ; لِأَنَّ الْأَنْعَام تُبْصِر مَنَافِعهَا وَمَضَارّهَا وَتَتْبَع مَالِكهَا , وَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَقَالَ عَطَاء : الْأَنْعَام تَعْرِف اللَّه , وَالْكَافِر لَا يَعْرِفُهُ . وَقِيلَ : الْأَنْعَام مُطِيعَة لِلَّهِ تَعَالَى , وَالْكَافِر غَيْر مُطِيع .


أَيْ تَرَكُوا التَّدَبُّر وَأَعْرَضُوا عَنْ الْجَنَّة وَالنَّار .
وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَسورة الأعراف الآية رقم 180
أَمْر بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَة لِلَّهِ , وَمُجَانَبَة الْمُشْرِكِينَ وَالْمُلْحِدِينَ . قَالَ مُقَاتِل وَغَيْره مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : نَزَلَتْ الْآيَة فِي رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ , كَانَ يَقُول فِي صَلَاته : يَا رَحْمَن يَا رَحِيم . فَقَالَ رَجُل مِنْ مُشْرِكِي مَكَّة : أَلَيْسَ يَزْعُم مُحَمَّد وَأَصْحَابه أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ رَبًّا وَاحِدًا , فَمَا بَال هَذَا يَدْعُو رَبَّيْنِ اِثْنَيْنِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى : " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " . جَاءَ فِي كِتَاب التِّرْمِذِيّ وَسُنَن اِبْن مَاجَهْ وَغَيْرهمَا حَدِيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ فِيهِ " إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَة وَتِسْعِينَ اِسْمًا " الْحَدِيث ; فِي أَحَدهمَا مَا لَيْسَ فِي الْآخَر . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي ( الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى ) . قَالَ اِبْن عَطِيَّة - وَذَكَرَ حَدِيث التِّرْمِذِيّ - وَذَلِكَ الْحَدِيث لَيْسَ بِالْمُتَوَاتِرِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيث صَفْوَان بْن صَالِح , وَهُوَ ثِقَة عِنْد أَهْل الْحَدِيث . وَإِنَّمَا الْمُتَوَاتِر مِنْهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَة وَتِسْعِينَ اِسْمًا مِائَة إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة " . وَمَعْنَى " أَحْصَاهَا " عَدَّهَا وَحَفِظَهَا . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِمَّا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابنَا . وَذَكَرْنَا هُنَاكَ تَصْحِيح حَدِيث التِّرْمِذِيّ , وَذَكَرْنَا مِنْ الْأَسْمَاء مَا اُجْتُمِعَ عَلَيْهِ وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِمَّا وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي كُتُب أَئِمَّتنَا مَا يُنَيِّف عَلَى مِائَتَيْ اِسْم . وَذَكَرْنَا قَبْل تَعْيِينِهَا فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب اِثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَصْلًا فِيمَا يَتَعَلَّق بِأَحْكَامِهَا , فَمَنْ أَرَادَهُ وَقَفَ عَلَيْهِ هُنَاكَ وَفِي غَيْره مِنْ الْكُتُب الْمَوْضُوعَة فِي هَذَا الْبَاب . وَاَللَّه الْمُوَفِّق لِلصَّوَابِ , لَا رَبَّ سِوَاهُ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْبَاب فِي الِاسْم وَالْمُسَمَّى , وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ ذَلِكَ فِي " الْكِتَاب الْأَسْنَى " . قَالَ اِبْن الْحَصَّار : وَفِي هَذِهِ الْآيَة وُقُوع الِاسْم عَلَى الْمُسَمَّى وَوُقُوعه عَلَى التَّسْمِيَة . فَقَوْلُهُ : " وَلِلَّهِ " وَقَعَ عَلَى الْمُسَمَّى . , وَقَوْله : " الْأَسْمَاء " وَهُوَ جَمْع اِسْم وَاقِع عَلَى التَّسْمِيَات . يَدُلّ عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَاهُ قَوْله : " فَادْعُوهُ بِهَا " , وَالْهَاء فِي قَوْله : " فَادْعُوهُ " تَعُود عَلَى الْمُسَمَّى سُبْحَانه وَتَعَالَى , فَهُوَ الْمَدْعُوّ . وَالْهَاء فِي قَوْله " بِهَا " تَعُود عَلَى الْأَسْمَاء , وَهِيَ التَّسْمِيَات الَّتِي يُدْعَى بِهَا لَا بِغَيْرِهَا . هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه لِسَان الْعَرَب . وَمِثْل ذَلِكَ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لِي خَمْسَة أَسْمَاء أَنَا مُحَمَّد وَأَحْمَد " الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " شَيْء مِنْ هَذَا وَاَلَّذِي يَذْهَب إِلَيْهِ أَهْل الْحَقّ أَنَّ الِاسْم هُوَ الْمُسَمَّى , أَوْ صِفَة لَهُ تَتَعَلَّق بِهِ , وَأَنَّهُ غَيْر التَّسْمِيَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ عِنْد كَلَامه عَلَى قَوْله تَعَالَى : " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى " : فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال . قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : فِي ذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَنَّ الِاسْم الْمُسَمَّى ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْره لَوَجَبَ أَنْ تَكُون الْأَسْمَاء لِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى . الثَّانِي : قَالَ آخَرُونَ : الْمُرَاد بِهِ التَّسْمِيَات ; لِأَنَّهُ سُبْحَانه وَاحِد وَالْأَسْمَاء جَمْع . قُلْت : ذَكَرَ اِبْن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره أَنَّ الْأَسْمَاء فِي الْآيَة بِمَعْنَى التَّسْمِيَات إِجْمَاعًا مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ لَا يَجُوز غَيْره . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر فِي كِتَاب التَّمْهِيد : وَتَأْوِيل قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لِلَّهِ تِسْعَة وَتِسْعُونَ اِسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة " أَيْ أَنَّ لَهُ تِسْعَة وَتِسْعِينَ تَسْمِيَة بِلَا خِلَاف , وَهِيَ عِبَارَات عَنْ كَوْن اللَّه تَعَالَى عَلَى أَوْصَاف شَتَّى , مِنْهَا مَا يَسْتَحِقّهُ لِنَفْسِهِ وَمِنْهَا مَا يَسْتَحِقّهُ لِصِفَةٍ تَتَعَلَّق بِهِ , وَأَسْمَاؤُهُ الْعَائِدَة إِلَى نَفْسه هِيَ هُوَ , وَمَا تَعَلَّقَ بِصِفَةٍ لَهُ فَهِيَ أَسْمَاء لَهُ . وَمِنْهَا صِفَات لِذَاتِهِ . وَمِنْهَا صِفَات أَفْعَال . وَهَذَا هُوَ تَأْوِيل قَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " أَيْ التَّسْمِيَات الْحُسْنَى . الثَّالِث : قَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : وَلِلَّهِ الصِّفَات . سَمَّى اللَّه سُبْحَانه أَسْمَاءَهُ بِالْحُسْنَى ; لِأَنَّهَا حَسَنَة فِي الْأَسْمَاع وَالْقُلُوب ; فَإِنَّهَا تَدُلّ عَلَى تَوْحِيده وَكَرَمِهِ وَجُوده وَرَحْمَته وَإِفْضَاله . وَالْحُسْنَى مَصْدَر وُصِفَ بِهِ . وَيَجُوز أَنْ يُقَدَّرَ " الْحُسْنَى " فُعْلَى , مُؤَنَّث الْأَحْسَن ; كَالْكُبْرَى تَأْنِيث الْأَكْبَر , وَالْجَمْع الْكُبَر وَالْحُسَن . وَعَلَى الْأَوَّل أُفْرِدَ كَمَا أُفْرِدَ وَصْف مَا لَا يَعْقِل ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " مَآرِب أُخْرَى " [ طَه : 18 ] وَ " يَا جِبَال أَوِّبِي مَعَهُ " [ سَبَأ : 10 ] . قَوْله تَعَالَى : " فَادْعُوهُ بِهَا " أَيْ اُطْلُبُوا مِنْهُ بِأَسْمَائِهِ ; فَيُطْلَب بِكُلِّ اِسْم مَا يَلِيق بِهِ , تَقُول : يَا رَحِيم اِرْحَمْنِي , يَا حَكِيم اُحْكُمْ لِي , يَا رَازِق اُرْزُقْنِي , يَا هَاد اِهْدِنِي , يَا فَتَّاح اِفْتَحْ لِي , يَا تَوَّاب تُبْ عَلَيَّ ; هَكَذَا . فَإِنْ دَعَوْت بِاسْمٍ عَامّ قُلْت : يَا مَالِك اِرْحَمْنِي , يَا عَزِيز اُحْكُمْ لِي , يَا لَطِيف اُرْزُقْنِي . وَإِنْ دَعَوْت بِالْأَعَمِّ الْأَعْظَم فَقُلْت : يَا اللَّهُ ; فَهُوَ مُتَضَمِّن لِكُلِّ اِسْم . وَلَا تَقُول : يَا رَزَّاق اِهْدِنِي ; إِلَّا أَنْ تُرِيد يَا رَزَّاق اُرْزُقْنِي الْخَيْر . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَكَذَا , رَتِّبْ دُعَاءَك تَكُنْ مِنْ الْمُخْلِصِينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " شَرَائِط الدُّعَاء , وَفِي هَذِهِ السُّورَة أَيْضًا . وَالْحَمْد لِلَّهِ أَدْخَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ عِدَّة مِنْ الْأَسْمَاء فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانه , مِثْل مُتِمّ نُوره , وَخَيْر الْوَارِثِينَ , وَخَيْر الْمَاكِرِينَ , وَرَابِع ثَلَاثَة , وَسَادِس خَمْسَة , وَالطَّيِّب , وَالْمُعَلِّم ; وَأَمْثَال ذَلِكَ . قَالَ اِبْن الْحَصَّار : وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِابْنِ بَرَّجَان , إِذْ ذَكَرَ فِي الْأَسْمَاء " النَّظِيف " وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِي كِتَاب وَلَا سُنَّة . قُلْت : أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْله : " مِمَّا لَمْ يَرِد فِي كِتَاب وَلَا سُنَّة " فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم " الطَّيِّب " . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيّ " النَّظِيف " . وَخَرَّجَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ ( رَبّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُر عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُر عَلَيَّ " الْحَدِيث . وَقَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . فَعَلَى هَذَا جَائِز أَنْ يُقَال : يَا خَيْر الْمَاكِرِينَ اُمْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُر عَلَيَّ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ ذَكَرْنَا " الطَّيِّب , وَالنَّظِيف " فِي كِتَابِنَا وَغَيْره مِمَّا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْأَخْبَار , وَعَنْ السَّلَف الْأَخْيَار , وَمَا يَجُوز أَنْ يُسَمَّى بِهِ وَيُدْعَى , وَمَا يَجُوز أَنْ يُسَمَّى بِهِ وَلَا يُدْعَى , وَمَا لَا يَجُوز أَنْ يُسَمَّى بِهِ وَلَا يُدْعَى . حَسَب مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ . وَهُنَاكَ يَتَبَيَّن لَك ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .



" يُلْحِدُونَ " الْإِلْحَاد : الْمَيْل وَتَرْك الْقَصْد ; يُقَال : أَلْحَدَ الرَّجُل فِي الدِّين . وَأَلْحَدَ إِذَا مَالَ . وَمِنْهُ اللَّحْد فِي الْقَبْر ; لِأَنَّهُ فِي نَاحِيَتِهِ . وَقُرِئَ " يَلْحَدُونَ " لُغَتَانِ وَالْإِلْحَاد يَكُون بِثَلَاثَةِ أَوْجُه أَحَدهَا : بِالتَّغْيِيرِ فِيهَا كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَلُوا بِهَا عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فَسَمَّوْا بِهَا أَوْثَانَهُمْ ; فَاشْتَقُّوا اللَّاتَ مِنْ اللَّه , وَالْعُزَّى مِنْ الْعَزِيز , وَمَنَاة مِنْ الْمَنَّان قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . الثَّانِي : بِالزِّيَادَةِ فِيهَا . الثَّالِث : بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا ; كَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّال الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ أَدْعِيَة يُسَمُّونَ فِيهَا اللَّه تَعَالَى بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ , وَيَذْكُرُونَ بِغَيْرِ مَا يُذْكَر مِنْ أَفْعَاله ; إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " فَحَذَارِ مِنْهَا , وَلَا يَدْعُوَنَّ أَحَدكُمْ إِلَّا بِمَا فِي كِتَاب اللَّه وَالْكُتُب الْخَمْسَة ; وَهِيَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ . فَهَذِهِ الْكُتُب الَّتِي يَدُور الْإِسْلَام عَلَيْهَا , وَقَدْ دَخَلَ فِيهَا مَا فِي الْمُوَطَّأ الَّذِي هُوَ أَصْل التَّصَانِيف , وَذَرُوا مَا سِوَاهَا , وَلَا يَقُولَن أَحَدكُمْ أَخْتَار دُعَاء كَذَا وَكَذَا ; فَإِنَّ اللَّه قَدْ اِخْتَارَ لَهُ وَأَرْسَلَ بِذَلِكَ إِلَى الْخَلْق رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . الثَّانِيَة : مَعْنَى الزِّيَادَة فِي الْأَسْمَاء التَّشْبِيه , وَالنُّقْصَان التَّعْطِيل . فَإِنَّ الْمُشَبِّهَة وَصَفُوهُ بِمَا لَمْ يَأْذَن فِيهِ , وَالْمُعَطِّلَة سَلَبُوهُ مَا اِتَّصَفَ بِهِ , وَلِذَلِكَ قَالَ أَهْل الْحَقّ : إِنَّ دِيننَا طَرِيق بَيْن طَرِيقَيْنِ , لَا بِتَشْبِيهٍ وَلَا بِتَعْطِيلٍ . وَسُئِلَ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن الْبُوشَنْجِيّ عَنْ التَّوْحِيد فَقَالَ : إِثْبَات ذَات غَيْر مُشَبَّهَة بِالذَّوَاتِ , وَلَا مُعَطَّلَة مِنْ الصِّفَات . وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ " مَعْنَاهُ اُتْرُكُوهُمْ وَلَا تُحَاجُّوهُمْ وَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ . فَالْآيَة عَلَى هَذَا مَنْسُوخَة بِالْقِتَالِ ; قَالَهُ اِبْن زَيْد . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْوَعِيد ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْت وَحِيدًا " [ الْمُدَّثِّر : 11 ] وَقَوْله : " ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا " [ الْحِجْر : 3 ] . وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ الْآيَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 0 " . وَاَللَّه أَعْلَم .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7