وَلَمْ يَحْتَجْ الشَّرْط إِلَى جَوَاب عِنْد سِيبَوَيْهِ ; لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ يَكْفِي مِنْهُ .
مِنْ يَده فَكَانَ مَا أَخْبَرَ اللَّه مِنْ قِصَّته . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان ذَلِكَ وَشَرْحه فِي " الْأَعْرَاف " إِلَى آخِر الْقِصَّة .
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ↓
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ↓
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ↓
وَقَالَ السَّحَرَة لَمَّا تَوَعَّدَهُمْ فِرْعَوْن بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل " قَالُو لَا ضَيْر " أَيْ لَا ضَرَر عَلَيْنَا فِيمَا يَلْحَقنَا مِنْ عَذَاب الدُّنْيَا ; أَيْ إِنَّمَا عَذَابك سَاعَة فَنَصْبِر لَهَا وَقَدْ لَقِينَا اللَّه مُؤْمِنِينَ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى شِدَّة اِسْتِبْصَارهمْ وَقُوَّة إِيمَانهمْ . قَالَ مَالِك : دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِرْعَوْن أَرْبَعِينَ سَنَة إِلَى الْإِسْلَام , وَأَنَّ السَّحَرَة آمَنُوا بِهِ فِي يَوْم وَاحِد . يُقَال : لَا ضَيْر وَلَا ضَوْر وَلَا ضَرّ وَلَا ضَرَر وَلَا ضَارُورَة بِمَعْنًى وَاحِد ; قَالَهُ الْهَرَوِيّ . وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة : فَإِنَّك لَا يَضُورك بَعْد حَوْل أَظَبْي كَانَ أُمّك أَمْ حِمَار وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : ضَارَهُ يَضُورهُ وَيَضِيرهُ ضَيْرًا وَضَوْرًا أَيْ ضَرَّهُ . قَالَ الْكِسَائِيّ : سَمِعْت بَعْضهمْ يَقُول لَا يَنْفَعنِي ذَلِكَ وَلَا يَضُورنِي . وَالتَّضَوُّر الصِّيَاح وَالتَّلَوِّي عِنْد الضَّرْب أَوْ الْجُوع . وَالضُّورَة بِالضَّمِّ الرَّجُل الْحَقِير الصَّغِير الشَّأْن .
يُرِيد نَتَقَلَّب إِلَى رَبّ كَرِيم رَحِيم
يُرِيد نَتَقَلَّب إِلَى رَبّ كَرِيم رَحِيم
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ لِأَنْ كُنَّا . وَأَجَازَ الْفَرَّاء كَسْرهَا عَلَى أَنْ تَكُون مُجَازَاة . وَمَعْنَى " أَوَّل الْمُؤْمِنِينَ " أَيْ عِنْد ظُهُور الْآيَة مِمَّنْ كَانَ فِي جَانِب فِرْعَوْن . الْفَرَّاء : أَوَّل مُؤْمِنِي زَمَاننَا . وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاج وَقَالَ : قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ آمَنَ مَعَهُ سِتّمِائَةِ أَلْف وَسَبْعُونَ أَلْفًا , وَهُمْ الشِّرْذِمَة الْقَلِيلُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ فِرْعَوْن : " إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَة قَلِيلُونَ " رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره .
لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّته تَعَالَى فِي عِبَاده إِنْجَاء الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ , الْمُعْتَرِفِينَ بِرِسَالَةِ رُسُله وَأَنْبِيَائِهِ , وَإِهْلَاك الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِ , أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْرُج بِبَنِي إِسْرَائِيل لَيْلًا وَسَمَّاهُمْ عِبَاده ; لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى . وَمَعْنَى " إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ " أَيْ يَتَّبِعكُمْ فِرْعَوْن وَقَوْمه لِيَرُدُّوكُمْ . وَفِي ضِمْن هَذَا الْكَلَام تَعْرِيفهمْ أَنَّ اللَّه يُنْجِيهِمْ مِنْهُمْ ; فَخَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِبَنِي إِسْرَائِيل سَحَرًا , فَتَرَكَ الطَّرِيق إِلَى الشَّام عَلَى يَسَاره وَتَوَجَّهَ نَحْو الْبَحْر , فَكَانَ الرَّجُل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل يَقُول لَهُ فِي تَرْك الطَّرِيق فَيَقُول : هَكَذَا أُمِرْت .
فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْن وَعَلِمَ بِسُرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيل , خَرَجَ فِي أَثَرهمْ , وَبَعَثَ إِلَى مَدَائِن مِصْر لِتَلْحَقهُ الْعَسَاكِر , فَرُوِيَ أَنَّهُ لَحِقَهُ وَمَعَهُ مِائَة أَلْف أَدْهَم مِنْ الْخَيْل سِوَى سَائِر الْأَلْوَان . وَرُوِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيل كَانُوا سِتّمِائَةِ أَلْف وَسَبْعِينَ أَلْفًا . وَاَللَّه أَعْلَم بِصِحَّتِهِ . وَإِنَّمَا اللَّازِم مِنْ الْآيَة الَّذِي يُقْطَع بِهِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ بِجَمْعٍ عَظِيم مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل وَأَنَّ فِرْعَوْن تَبِعَهُ بِأَضْعَافِ ذَلِكَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ مَعَ فِرْعَوْن أَلْف جَبَّار كُلّهمْ عَلَيْهِ تَاج وَكُلّهمْ أَمِير خَيْل .
وَالشِّرْذِمَة الْجَمْع الْقَلِيل الْمُحْتَقَر وَالْجَمْع الشَّرَاذِم . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الشِّرْذِمَة الطَّائِفَة مِنْ النَّاس وَالْقِطْعَة مِنْ الشَّيْء . وَثَوْب شَرَاذِم أَيْ قِطَع . وَأَنْشَدَ الثَّعْلَبِيّ قَوْل الرَّاجِز : جَاءَ الشِّتَاء وَثِيَابِي أَخْلَاق شَرَاذِم يَضْحَك مِنْهَا النَّوَّاق النَّوَّاق مِنْ الرِّجَال الَّذِي يُرَوِّض الْأُمُور وَيُصْلِحهَا ; قَالَهُ فِي الصِّحَاح . وَاللَّام فِي قَوْله " لَشِرْذِمَة " لَام تَوْكِيد وَكَثِيرًا مَا تَدْخُل فِي خَبَر إِنَّ , إِلَّا أَنَّ الْكُوفِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ إِنَّ زَيْدًا لَسَوْفَ يَقُوم . وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ جَائِز قَوْله تَعَالَى : " فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ " وَهَذِهِ لَام التَّوْكِيد بِعَيْنِهَا وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى سَوْفَ ; قَالَهُ النَّحَّاس .
أَيْ أَعْدَاء لَنَا لِمُخَالَفَتِهِمْ دِيننَا وَذَهَابهمْ بِأَمْوَالِنَا الَّتِي اِسْتَعَارُوهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَمَاتَتْ أَبْكَارهمْ تِلْكَ اللَّيْلَة . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي " الْأَعْرَاف " وَ " طه " مُسْتَوْفًى . يُقَال : غَاظَنِي كَذَا وَأَغَاظَنِي . وَالْغَيْظ الْغَضَب وَمِنْهُ التَّغَيُّظ وَالِاغْتِيَاظ . أَيْ غَاظُونَا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ غَيْر إِذْن .
أَيْ مُجْتَمَع مُسْتَعِدّ أَخَذْنَا حَذَرنَا وَأَسْلِحَتنَا . وَقُرِئَ : " حَاذِرُونَ " وَمَعْنَاهُ مَعْنَى " حَذِرُونَ " أَيْ فَرِقُونَ خَائِفُونَ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَقُرِئَ " وَإِنَّا لَجَمِيع حَاذِرُونِ " وَ " حَذِرُونَ " وَ " حَذُرُونَ " بِضَمِّ الذَّال حَكَاهُ الْأَخْفَش ; وَمَعْنَى : " حَاذِرُونَ " مُتَأَهِّبُونَ , وَمَعْنَى : " حَذِرُونَ " خَائِفُونَ . قَالَ النَّحَّاس : " حَذِرُونَ " قِرَاءَة الْمَدَنِيِّينَ وَأَبِي عَمْرو , وَقِرَاءَة أَهْل الْكُوفَة : " حَاذِرُونَ " وَهِيَ مَعْرُوفَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس ; وَ " حَادِرُونَ " بِالدَّالِ غَيْر الْمُعْجَمَة قِرَاءَة أَبِي عَبَّاد وَحَكَاهَا الْمَهْدَوِيّ عَنْ اِبْن أَبِي عَمَّار , وَالْمَاوَرْدِيّ وَالثَّعْلَبِيّ عَنْ سُمَيْط بْن عَجْلَان . قَالَ النَّحَّاس : أَبُو عُبَيْدَة يَذْهَب إِلَى أَنَّ مَعْنَى " حَذِرُونَ " " وَحَاذِرُونَ " وَاحِد . وَهُوَ قَوْل سِيبَوَيْهِ وَأَجَازَ : هُوَ حَذِر زَيْدًا ; كَمَا يُقَال : حَاذِر زَيْدًا , وَأَنْشَدَ : حَذِر أُمُورًا لَا تَضِير وَآمِن مَا لَيْسَ مُنْجِيه مِنْ الْأَقْدَار وَزَعَمَ أَبُو عُمَر الْجِرْمِيّ أَنَّهُ يَجُوز هُوَ حَذِر زَيْدًا عَلَى حَذْف مِنْ . فَأَمَّا أَكْثَر النَّحْوِيِّينَ فَيُفَرَّقُونَ بَيْن حَذِر وَحَاذِر ; مِنْهُمْ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء وَمُحَمَّد بْن يَزِيد ; فَيَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى حَذِر فِي خِلْقَته الْحَذَر , أَيْ مُتَيَقِّظ مُتَنَبِّه , فَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَتَعَدَّ , وَمَعْنَى حَاذِر مُسْتَعِدّ وَبِهَذَا جَاءَ التَّفْسِير عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ . قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِنَّا لَجَمِيع حَاذِرُونَ " قَالَ : مُؤْدُونَ فِي السِّلَاح وَالْكُرَاع مُقْوُونَ , فَهَذَا ذَاكَ بِعَيْنِهِ . وَقَوْله : مُؤْدُونَ مَعَهُمْ أَدَاة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمَعْنَى : مَعَنَا سِلَاح وَلَيْسَ مَعَهُمْ سِلَاح يُحَرِّضهُمْ عَلَى الْقِتَال ; فَأَمَّا " حَادِرُونَ " بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة فَمُشْتَقّ مِنْ قَوْلهمْ عَيْن حَدْرَة أَيْ مُمْتَلِئَة ; أَيْ نَحْنُ مُمْتَلِئُونَ غَيْظًا عَلَيْهِمْ ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : وَعَيْن لَهَا حَدْرَة بَدْرَة شُقَّتْ مَآقِيهمَا مِنْ أُخَر وَحَكَى أَهْل اللُّغَة أَنَّهُ يُقَال : رَجُل حَادِر إِذَا كَانَ مُمْتَلِئ اللَّحْم ; فَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى الِامْتِلَاء مِنْ السِّلَاح . الْمَهْدَوِيّ : الْحَادِر الْقَوِيّ الشَّدِيد .
يَعْنِي مِنْ أَرْض مِصْر . وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : كَانَتْ الْجَنَّات بِحَافَّتَيْ النِّيل فِي الشُّقَّتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ أُسْوَان إِلَى رَشِيد , وَبَيْن الْجَنَّات زُرُوع . وَالنِّيل سَبْعَة خِلْجَان : خَلِيج الْإِسْكَنْدَرِيَّة , وَخَلِيج سَخَا , وَخَلِيج دِمْيَاط , وَخَلِيج سَرْدُوس , وَخَلِيج مَنْف , وَخَلِيج الْفَيَّوم , وَخَلِيج الْمَنْهَى مُتَّصِلَة لَا يَنْقَطِع مِنْهَا شَيْء عَنْ شَيْء , وَالزُّرُوع مَا بَيْن الْخِلْجَان كُلّهَا . وَكَانَتْ أَرْض مِصْر كُلّهَا تُرْوَى مِنْ سِتَّة عَشَر ذِرَاعًا بِمَا دَبَّرُوا وَقَدَّرُوا مِنْ قَنَاطِرهَا وَجُسُورهَا وَخُلْجَانهَا ; وَلِذُلِّك سُمِّيَ النِّيل إِذَا غَلَّقَ سِتَّة عَشْر ذِرَاعًا نِيل السُّلْطَان , وَيُخْلَع عَلَى اِبْن أَبِي الرَّدَّاد ; وَهَذِهِ الْحَال مُسْتَمِرَّة إِلَى الْآن . وَإِنَّمَا قِيلَ نِيل السُّلْطَان لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِب الْخَرَاج عَلَى النَّاس . وَكَانَتْ أَرْض مِصْر جَمِيعهَا تُرْوَى مِنْ إِصْبَع وَاحِدَة مِنْ سَبْعَة عَشْر ذِرَاعًا , وَكَانَتْ إِذَا غُلِقَ النِّيل سَبْعَة عَشَر ذِرَاعًا وَنُودِيَ عَلَيْهِ إِصْبَع وَاحِد مِنْ ثَمَانِيَة عَشَر ذِرَاعًا , اِزْدَادَ فِي خَرَاجهَا أَلْف أَلْف دِينَار . فَإِذَا خَرَجَ . عَنْ ذَلِكَ وَنُودِيَ عَلَيْهِ إِصْبَعًا وَاحِدًا مِنْ تِسْعَة عَشَر ذِرَاعًا نَقَصَ خَرَاجهَا أَلْف أَلْف دِينَار . وَسَبَب هَذَا مَا كَانَ يَنْصَرِف فِي الْمَصَالِح وَالْخِلْجَان وَالْجُسُور وَالِاهْتِمَام بِعِمَارَتِهَا . فَأَمَّا الْآن فَإِنَّ أَكْثَرهَا لَا يُرْوَى حَتَّى يُنَادَى إِصْبَع مِنْ تِسْعَة عَشَر ذِرَاعًا بِمِقْيَاسِ مِصْر . وَأَمَّا أَعْمَال الصَّعِيد الْأَعْلَى , فَإِنَّ بِهَا مَا لَا يَتَكَامَل رَيّه إِلَّا بَعْد دُخُول الْمَاء فِي الذِّرَاع الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ بِالصَّعِيدِ الْأَعْلَى . قُلْت : أَمَّا أَرْض مِصْر فَلَا تُرْوَى جَمِيعهَا الْآن إِلَّا مِنْ عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَأَصَابِع ; لِعُلُوِّ الْأَرْض وَعَدَم الِاهْتِمَام بِعِمَارَةِ جُسُورهَا , وَهُوَ مِنْ عَجَائِب الدُّنْيَا ; وَذَلِكَ أَنَّهُ يَزِيد إِذَا اِنْصَبَّتْ الْمِيَاه فِي جَمِيع الْأَرْض حَتَّى يَسِيح عَلَى جَمِيع أَرْض مِصْر , وَتَبْقَى الْبِلَاد كَالْأَعْلَامِ لَا يُوصَل إِلَيْهَا إِلَّا بِالْمَرَاكِبِ وَالْقِيَاسَات . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص أَنَّهُ قَالَ : نِيل مِصْر سَيِّد الْأَنْهَار , سَخَّرَ اللَّه لَهُ كُلّ نَهْر بَيْن الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب , وَذَلَّلَ اللَّه لَهُ الْأَنْهَار ; فَإِذَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يُجْرِي نِيل مِصْر أَمَرَ كُلّ نَهْر أَنْ يَمُدّهُ , فَأَمَدَّتْهُ الْأَنْهَار بِمَائِهَا , وَفَجَّرَ اللَّه لَهُ عُيُونًا , فَإِذَا اِنْتَهَى إِلَى مَا أَرَادَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , أَوْحَى اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى كُلّ مَاء أَنْ يَرْجِع إِلَى عُنْصُره . وَقَالَ قَيْس بْن الْحَجَّاج : لَمَّا اُفْتُتِحَتْ مِصْر أَتَى أَهْلهَا إِلَى عَمْرو بْن الْعَاص حِين دَخَلَ بَئُونَة مِنْ أَشْهُر الْقِبْط فَقَالُوا لَهُ : أَيّهَا الْأَمِير إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّة لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا , فَقَالَ لَهُمْ : وَمَا ذَاكَ ؟ فَقَالُوا : إِذَا كَانَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَة لَيْلَة تَخْلُو مِنْ هَذَا الشَّهْر عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَة بِكْر بَيْن أَبَوَيْهَا ; أَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا , وَحَمَلْنَا عَلَيْهَا مِنْ الْحُلِيّ وَالثِّيَاب أَفْضَل مَا يَكُون , ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيل ; فَقَالَ لَهُمْ عَمْرو : هَذَا لَا يَكُون فِي الْإِسْلَام ; وَإِنَّ الْإِسْلَام لَيَهْدِم مَا قَبْله . فَأَقَامُوا أَبِيب وَمِسْرَى لَا يَجْرِي قَلِيل وَلَا كَثِير , وَهَمُّوا بِالْجَلَاءِ . فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمْرو بْن الْعَاص كَتَبَ إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا , فَأَعْلَمَهُ بِالْقِصَّةِ , فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر بْن الْخَطَّاب : إِنَّك قَدْ أَصَبْت بِاَلَّذِي فَعَلْت , وَأَنَّ الْإِسْلَام يَهْدِم مَا قَبْله وَلَا يَكُون هَذَا . وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِبِطَاقَةٍ فِي دَاخِل كِتَابه . وَكَتَبَ إِلَى عَمْرو : إِنِّي قَدْ بَعَثْت إِلَيْك بِبِطَاقَةٍ دَاخِل كِتَابِي , فَأَلْقِهَا فِي النِّيل إِذَا أَتَاك كِتَابِي . فَلَمَّا قَدِمَ كِتَاب عُمَر إِلَى عَمْرو بْن الْعَاص أَخَذَ الْبِطَاقَة فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا : مِنْ عَبْد اللَّه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُمَر إِلَى نِيل مِصْر - أَمَّا بَعْد - فَإِنْ كُنْت إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلك فَلَا تَجْرِ وَإِنْ كَانَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار هُوَ الَّذِي يُجْرِيك فَنَسْأَل اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار أَنْ يُجْرِيك . قَالَ : فَأَلْقَى الْبِطَاقَة فِي النِّيل قَبْل الصَّلِيب بِيَوْمٍ وَقَدْ تَهَيَّأَ أَهْل مِصْر لِلْجَلَاءِ وَالْخُرُوج مِنْهَا ; لِأَنَّهُ لَا تَقُوم مَصْلَحَتهمْ فِيهَا إِلَّا بِالنِّيلِ . فَلَمَّا أَلْقَى الْبِطَاقَة فِي النِّيل , أَصْبَحُوا يَوْم الصَّلِيب وَقَدْ أَجْرَاهُ اللَّه فِي لَيْلَة وَاحِدَة سِتَّة عَشَر ذِرَاعًا , وَقَطَعَ اللَّه تِلْكَ السِّيرَة عَنْ أَهْل مِصْر مِنْ تِلْكَ السَّنَة . قَالَ كَعْب الْأَحْبَار : أَرْبَعَة أَنْهَار مِنْ الْجَنَّة وَضَعَهَا اللَّه فِي الدُّنْيَا سَيْحَان وَجَيْحَان وَالنِّيل وَالْفُرَات , فَسَيْحَان نَهْر الْمَاء فِي الْجَنَّة , وَجَيْحَان نَهَر اللَّبَن فِي الْجَنَّة , وَالنِّيل نَهْر الْعَسَل فِي الْجَنَّة , وَالْفُرَات نَهْر الْخَمْر فِي الْجَنَّة . وَقَالَ اِبْن لَهِيعَة : الدِّجْلَة نَهْر اللَّبَن فِي الْجَنَّة . قُلْت : الَّذِي فِي الصَّحِيح مِنْ هَذَا حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَيْحَان وَجَيْحَان وَالنِّيل وَالْفُرَات كُلّ مِنْ أَنْهَار الْجَنَّة ) لَفْظ مُسْلِم وَفِي حَدِيث الْإِسْرَاء مِنْ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك عَنْ مَالِك بْن صَعْصَعَة رَجُل مِنْ قَوْمه قَالَ : ( وَحَدَّثَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَة أَنْهَار يَخْرُج مِنْ أَصْلهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ فَقُلْت يَا جِبْرِيل مَا هَذِهِ الْأَنْهَار قَالَ أَمَّا النَّهَرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّة وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيل وَالْفُرَات ) لَفْظ مُسْلِم . وَقَالَ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيق شَرِيك عَنْ أَنَس ( فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ فَقَالَ مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيل قَالَ هَذَا النِّيل وَالْفُرَات عُنْصُرهمَا ثُمَّ مَضَى فِي السَّمَاء فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَر عَلَيْهِ قَصْر مِنْ اللُّؤْلُؤ وَالزَّبَرْجَد فَضَرَبَ بِيَدِهِ فَإِذَا هُوَ مِسْك أَذْفَر فَقَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيل فَقَالَ هَذَا هُوَ الْكَوْثَر الَّذِي خَبَّأَ لَك رَبّك . ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْعُيُونِ عُيُون الْمَاء . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْمُرَاد عُيُون الذَّهَب . وَفِي الدُّخَان " كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّات وَعُيُون . وَزُرُوع " [ الدُّخَان : 26 - 27 ] . قِيلَ : إِنَّهُمْ كَانُوا يَزْرَعُونَ مَا بَيْن الْجَبَلَيْنِ مِنْ أَوَّل مِصْر إِلَى آخِرهَا . وَلَيْسَ فِي الدُّخَان " وَكُنُوز " .
جَمْع كَنْز ; وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَة " بَرَاءَة " . وَالْمُرَاد بِهَا هَاهُنَا الْخَزَائِن . وَقِيلَ : الدَّفَائِن . وَقَالَ الضَّحَّاك : الْأَنْهَار ; وَفِيهِ نَظَر ; لِأَنَّ الْعُيُون تَشْمَلهَا .
قَالَ اِبْن عُمَر وَاِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : الْمَقَام الْكَرِيم الْمَنَابِر ; وَكَانَتْ أَلْف مِنْبَر لِأَلْفِ جَبَّار يُعَظِّمُونَ عَلَيْهَا فِرْعَوْن وَمُلْكه . وَقِيلَ : مَجَالِس الرُّؤَسَاء وَالْأُمَرَاء ; حَكَاهُ اِبْن عِيسَى وَهُوَ قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْمَسَاكِن الْحِسَان . وَقَالَ اِبْن لَهِيعَة : سَمِعْت أَنَّ الْمَقَام الْكَرِيم الْفَيُّوم . وَقِيلَ : كَانَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ كَتَبَ عَلَى مَجْلِس مِنْ مَجَالِسه ( لَا إِلَه إِلَّا اللَّه إِبْرَاهِيم خَلِيل اللَّه ) فَسَمَّاهَا اللَّه كَرِيمَة بِهَذَا . وَقِيلَ : مَرَابِط الْخَيْل لِتَفَرُّدِ الزُّعَمَاء بِارْتِبَاطِهَا عُدَّة وَزِينَة ; فَصَارَ مَقَامهَا أَكْرَم مَنْزِل بِهَذَا ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَالْأَظْهَر أَنَّهَا الْمَسَاكِن الْحِسَان كَانَتْ تُكَرَّم عَلَيْهِمْ . وَالْمَقَام فِي اللُّغَة يَكُون الْمَوْضِع وَيَكُون مَصْدَرًا . قَالَ النَّحَّاس : الْمَقَام فِي اللُّغَة الْمَوْضِع ; مِنْ قَوْلك قَامَ يَقُوم , وَكَذَا الْمَقَامَات وَاحِدهَا مُقَامَة ; كَمَا قَالَ : وَفِيهِمْ مَقَامَات حِسَان وُجُوههمْ وَأَنْدِيَة يَنْتَابهَا الْقَوْل وَالْفِعْل وَالْمَقَام أَيْضًا الْمَصْدَر مِنْ قَامَ يَقُوم . وَالْمُقَام ( بِالضَّمِّ ) الْمَوْضِع مِنْ أَقَامَ . وَالْمَصْدَر أَيْضًا مِنْ أَقَامَ يُقِيم .
قَالَ اِبْن عُمَر وَاِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : الْمَقَام الْكَرِيم الْمَنَابِر ; وَكَانَتْ أَلْف مِنْبَر لِأَلْفِ جَبَّار يُعَظِّمُونَ عَلَيْهَا فِرْعَوْن وَمُلْكه . وَقِيلَ : مَجَالِس الرُّؤَسَاء وَالْأُمَرَاء ; حَكَاهُ اِبْن عِيسَى وَهُوَ قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْمَسَاكِن الْحِسَان . وَقَالَ اِبْن لَهِيعَة : سَمِعْت أَنَّ الْمَقَام الْكَرِيم الْفَيُّوم . وَقِيلَ : كَانَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ كَتَبَ عَلَى مَجْلِس مِنْ مَجَالِسه ( لَا إِلَه إِلَّا اللَّه إِبْرَاهِيم خَلِيل اللَّه ) فَسَمَّاهَا اللَّه كَرِيمَة بِهَذَا . وَقِيلَ : مَرَابِط الْخَيْل لِتَفَرُّدِ الزُّعَمَاء بِارْتِبَاطِهَا عُدَّة وَزِينَة ; فَصَارَ مَقَامهَا أَكْرَم مَنْزِل بِهَذَا ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَالْأَظْهَر أَنَّهَا الْمَسَاكِن الْحِسَان كَانَتْ تُكَرَّم عَلَيْهِمْ . وَالْمَقَام فِي اللُّغَة يَكُون الْمَوْضِع وَيَكُون مَصْدَرًا . قَالَ النَّحَّاس : الْمَقَام فِي اللُّغَة الْمَوْضِع ; مِنْ قَوْلك قَامَ يَقُوم , وَكَذَا الْمَقَامَات وَاحِدهَا مُقَامَة ; كَمَا قَالَ : وَفِيهِمْ مَقَامَات حِسَان وُجُوههمْ وَأَنْدِيَة يَنْتَابهَا الْقَوْل وَالْفِعْل وَالْمَقَام أَيْضًا الْمَصْدَر مِنْ قَامَ يَقُوم . وَالْمُقَام ( بِالضَّمِّ ) الْمَوْضِع مِنْ أَقَامَ . وَالْمَصْدَر أَيْضًا مِنْ أَقَامَ يُقِيم .
يُرِيد أَنَّ جَمِيع مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْجَنَّات وَالْعُيُون وَالْكُنُوز وَالْمَقَام الْكَرِيم أَوْرَثَهُ اللَّه بَنِي إِسْرَائِيل . قَالَ الْحَسَن وَغَيْره : رَجَعَ بَنُو إِسْرَائِيل إِلَى مِصْر بَعْد هَلَاك فِرْعَوْن وَقَوْمه . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْوِرَاثَةِ هُنَا مَا اِسْتَعَارُوهُ مِنْ حُلِيّ آلَ فِرْعَوْن بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى . قُلْت : وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حَصَلَ لَهُمْ . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
إِسْرَائِيل . قَالَ السُّدِّيّ : حِين أَشْرَقَتْ الشَّمْس بِالشُّعَاعِ . وَقَالَ قَتَادَة : حِين أَشْرَقَتْ الْأَرْض بِالضِّيَاءِ . قَالَ الزَّجَّاج : يُقَال شَرَقَتْ الشَّمْس إِذَا طَلَعَتْ , وَأَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ . وَاخْتُلِفَ فِي تَأَخُّر فِرْعَوْن وَقَوْمه عَنْ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيل عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : لِاشْتِغَالِهِمْ بِدَفْنِ أَبْكَارهمْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة ; لِأَنَّ الْوَبَاء فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَقَعَ فِيهِمْ ; فَقَوْله : " مُشْرِقِينَ " حَال لِقَوْمِ فِرْعَوْن . الثَّانِي : إِنَّ سَحَابَة أَظَلَّتْهُمْ وَظُلْمَة فَقَالُوا : نَحْنُ بَعْد فِي اللَّيْل فَمَا تَقَشَّعَتْ عَنْهُمْ حَتَّى أَصْبَحُوا . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : مَعْنَى " فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ " نَاحِيَة الْمَشْرِق . وَقَرَأَ الْحَسَن وَعَمْرو بْن مَيْمُون : " فَاتَّبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ " بِالتَّشْدِيدِ وَأَلِف الْوَصْل ; أَيْ نَحْو الْمَشْرِق ; مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : شَرَّقَ وَغَرَّبَ إِذَا سَارَ نَحْو الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب . وَمَعْنَى الْكَلَام قَدَّرْنَا أَنْ يَرِثهَا بَنُو إِسْرَائِيل فَاتَّبَعَ قَوْم فِرْعَوْن بَنِي إِسْرَائِيل مُشْرِقِينَ فَهَلَكُوا , وَوَرِثَ بَنُو إِسْرَائِيل بِلَادهمْ .